[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
كان نبيا والأكثرون على أنه كان في زمن داؤد عليه السلام ولم يكن نبيا وأختلف فيه أكان حرا أو عبدا والأكثرون على أنه كان عبدا وأختلفوا فقيل : كان حبشيا وروى ذلك عن إبن عباس ومجاهد
وأخرج ذلك إبن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا وذكر مجاهد في وصفه أنه كان غليظ الشفتين مصفح القدمين وقيل : كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر وجاء ذلك في رواية عن إبن عباس وإبن المسيب ومجاهد
وأخرج إبن أبي حاتم عن عبدالله بن الزبير قال : قلت لجابر بن عبدالله ما إنتهى إليكم من شأن لقمان قال : كان قصيرا أفطس من النوبة وأخرج هو وإبن جرير وإبن المنذر عن إبن المسبب أنه قال : إن لقمان كان أسود من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة وأختلف فيما كان يعانيه من الأشغال فقال خالد بن الربيع : كان نجارا بالراء وفي معاني الزجاج كان نجادا بالدال وهو على وزن كتان من يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما
وأخرج إبن أبي شيبة وأحمد في الزهد وإبن المنذر عن إبن المسيب أنه كان خياطا وهو أعم من النجاد وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان راعيا وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة ولا وثوق لي بشيء من هذه الأخبار وإنما نقلتها تأسيا بمن نقلها من المفسرين الأخبار غير أني أختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ولم يكن نبيا و الحكمة على ما أخرج إبن مردويه عن إبن عباس العقل والفهم والفطنة وأخرج الفريابي وأحمد في الزهد وإبن جرير وإبن أبي حاتم عن مجاهد أنها العقل والفقه والإصابة في القول وقال الراغب : هي معرفة الموجودات وفعل الخيرات وقال الإمام : هي عبارة عن توفيق العمل بالعلم ثم قال : وإن أردنا تحديدا بما يدخل فيه حكمة الله تعالى فنقول : حصول العمل على وفق المعلوم وقال أبو حيان : هي المنطق الذي يتعظ به ويتنبه ويتناقله الناس لذلك وقيل : إتقان الشيء علما وعملا وقيل : كمال حاصل بإستكمال النفس الإنسانية بإقتباس العلوم النظرية وإكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها وفسرها كثير من الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية ولهم تفسيرات أخر ومالها وما عليها من الجرح والتعديل مذكوران في كتبهم ومن حكمته قوله لإبنه : أي بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيها ناس كثير فأجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيا وقوله : من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عزوجل حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزا والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية وقوله : ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع وقوله : يابني إياك والدين فإنه ذل النهار هم الليل وقوله يابني أرج الله عزوجل رجاء لا يجريك على معصيته تعالى وخف الله سبحانه خوفا لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه وقوله : من كذب ذهب ماء وجهه ومن ساء خلقه كثر غمه ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم وقوله : يأبني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء وذقت المرار فلم أذق شيئا وأمر من الفقر يابني لا ترسل رسولك جاهلا فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك يابني إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه يابني أحضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا يابني لا تأكل شبعا على شبع فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله يابني لا تكن حلوا فتبلع ولا مرا فتلفظ وقوله لإبنه : لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك العلماء وقوله : لا خير لك في أن تتعلم
(21/83)
ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل رجل أحتطب حطبا فحمل حزمة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى وقوله : يابني إذا أردت أن تواخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فأحذره وقوله : لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسطاتكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء وقوله : يابني أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بد لك منه يابني كن كمن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء والناس منه في راحة وقوله : يابني أمتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكت سالم وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك إلى غير ذلك مما لا يحصى إن أشكر لله أي أي أشكر على أن أن تفسيرية وما بعدها تفسير لأيتاء الحكمة وفيه معنى القول دون حروفه سواء كان بالهام أو وحي أو تعليم
وجوز أن يكون تفسيرا للحكمة بإعتبار ما تضمنه الأمر وجعل الزجاج إن مصدرية بتقدير اللام التعليلية ولا يفوت معنى الأمر كما مر تحقيقه
وحكى سيبويه كتبت إليه بأن قم والجار متعلق بآتينا وجوز كونها مصدرية بلا تقدير على أن المصدر بدل إشتمال من الحكمة وهو بعيد ومن يشكر إلخ إستئناف مقرر لمضمون ما قبله موجب للإمتثال بالأمر أي ومن يشكر له تعالى فإنما يشكر لنفسه لأن نفعه من إرتباط القيد وإستجلاب المزيد والفوز بجنة الخلود مقصورة عليها ومن كفر فإن الله غني عن كل شيء فلا يحتاج إلى الشكر ليتضرر بكفر من كفر حميد 21 حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد أو محمود بالفعل ينطق بحمده تعالى جميع المخلوقات بلسان الحال فحميد فعيل بمعنى محمود على الوجهين وعدم التعرض لكونه سبحانه وتعالى مشكورا لما أن الحمد متضمن للشكر بل هو رأسه كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم : الحمد رأس الشكر لم يشكر الله تعالى عبد لم يحمد فإثباته له تعالى إثبات للشكر له قطعا وفي إختيار صيغة المضي في هذا الشق قيل : إشارة إلى قبح الكفران وأنه لا ينبغي إلا أن يعد في خبر كان وقيل : إشارة إلى أنه كثير متحقق بخلاف الشكر وقليل من عبادي الشكور وجواب الشرط محذوف قام مقامه قوله تعالى : فإن الله إلخ وكان الأصل ومن كفر فإنما يكفر على نفسه لأن الله غني حميد وحاصله ومن كفر فضرر كفره عائد عليه لأنه تعالى غني لا يحتاج إلى الشكر ليتضرر سبحانه بالكفر محمود بحسب الإستحقاق أو بنطق ألسنة الحال فكلا الوصفين متعلقان بالشق الثاني وجوز أن يكون غني تعليلا لقوله سبحانه : فإنما يشكر لنفسه وقوله عزوجل : حميد تعليلا للجواب المقدر للشرط الثاني بقرينة مقابلة وهو فإنما يكفر على نفسه وأن يكون كل منهما متعلقا بكب منهما ولا يخفى ما في ذلك من التكلف الذي لم يدع إليه ولم تقم عليه قرينة فتدبر
وإذ قال لقمان لإبنه تاران على ما قال الطبري والقتبي وقيل : ماثان بالمثلثة وقيل : أنعم وقيل : أشكم وهما بوزن أفعل وقيل : مشكم بالميم بدل الهمزة و إذ معمول لا ذكر محذوفا وقيل : يحتمل أن يكون ظرفا لآتينا والتقدير وآتيناه الحكمة إذ قال وأختصر لدلالة المقدم عليه وقوله تعالى : وهو يعظه جملة حالية والوعظكما قال الراغبزجر مقترن يتخويف وقال الخليل : هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب يابني تصغير إشفاق ومحبة لا تصغير تحقير
(21/84)
ولكن إذا ما حب شيء تولعت به أحرف التصغير من شدة الوجد وقال آخر : ما قلت حبيبي من التحقير بل يعذب أسم الشيء بالتصغير وقرأ البزي هنا يابني بالسكون وفيما بعد يابني إنها بكسر الياء ويابني أقم بفتحها وقيل بالسكون في الأولى والثالثة والكسر في الوسطى وحفص والمفضل عن عاصم بالفتح في الثلاثة على تقدير يابنيا والإجتزاء بالفتحة عن الألف وقرأ باقي السبعة بالكسر فيها لا تشرك بالله قيل : كان إبنه كافرا ولذا نهاه عن الشرك فلم يزل يعظه حتى أسلم وكذا قيل في أمرأته
وأخرج إبن أبي الدنيا في نعت الخائفين عن الفضل الرقاشي قال : ما زال لقمان يعظ إبنه حتى مات
وأخرج عن حفص بن عمر الكندي قال : وضع لقمان جرابا من خردل وجعل يعظ إبنه موعظة ويخرج خردلة فنفد الخردل فقال : يابني لقد وعظتك موعظة لو وعظتها جبلا لتفطر فتفطر إبنه وقيل : كان مسلما والنهي عن الشرك تحذير له عن صدوره منه في المستقبل والظاهر أن الباء متعلق بما عنده ومن وقف على لا تشرك جعل الباء للقسم أي أقسم بالله تعالى إن الشرك لظلم عظيم 31 والظاهر أن هذا من كلام لقمان ويقتضيه كلام مسلم في صحيحه والكلام تعليل للنهي أو الإنتهاء عن الشرك وقيل : هو خير من الله تعالى شأنه منقطع عن كلام لقمان متصل به في تأكيد المعنى وكون الشرك ظلما لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه وكونه عظيما لما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه سبحانه ومن لا نعمة له
ووصينا الإنسان بوالديه إلخ كلام مستأنف إعترض به على نهج الإستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيه من النهي عن الإشراك فهو من كلام الله عزوجل لم يقله سبحانه للقمان وقيل : هو من كلامه تعالى قاله جل وعلا له وكأنه قيل : قلنا له أشكر وقلنا له وصينا الإنسان إلخ وفي البحر لما بين لقمان لإبنه إن الشرك ظلم ونهاه عنه كان ذلك حثا على طاعة الله تعالى ثم بين أن الطاعة أيضا تكون للأبوين وبين السبب في ذلك فهو من كلام لقمان مما وصى به إبنه أخبر الله تعالى عنه بذلك وكلا القولين كما ترى والمعنى وأمرنا الإنسان برعاية والديه حملته أمه وهنا أي ضعفا على وهن أي ضعف والمصدر حال من أمه بتقدير مضاف أي ذات وهن وجوز جعله نفسه حالا مبالغة لكنه مخالف للقياس إذ القياس في الحال كونه مشتقا ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا لفعل مقدر أي تهن وهنا والجملة حال من أمه أيضا
وأياما كان فالمراد تضعف ضعفا متزايدا بإزدياد ثقل الحمل إلى مدة الطلق وقيل : ضعفا متتابعا وهو ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف النفاس وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب في حملته العائد على الإنسان وهو الذي يقتضيه ما أخرجه إبن جرير وإبن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : وهنا الولد على وهن الوالدة وضعفها والمراد أنها حملته كونه ضعيفا على ضعيف مثله وليس المراد أنها حملته حال كونه متزايد الضعف ليقال أن ضعفه لا يتزايد بل ينقص وقرأ عيسى الثقفي وأبو عمرو في رواية وهنا على وهن بفتح الهاء فيهما فأحتمل أن يكون من باب تحريك العين إذا كانت حرف حلق كالشعر والشعر على القياس المطرد عند الكوفي كما ذهب إليه إبن جني وأن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن بفتحها فإن مصدره جاء كذلك وهذا كما يقال تعب يتعب تعبا كما قيل وكلام صاحب القاموس ظاهر في عدم
(21/85)
إختصاص أحد المصدرين بأحد الفعلين قال : الوهن الضعف في العمل ويحرك والفعل كوعد وورث وكرم
وفصاله أي فطامه وترك إرضاعه وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري ويعقوب وفصله وهو أعم من الفصال والفصال ههنا أوقع من الفصل لأنه موقع يختص بالرضاع وإن رجعا إلى أصل واحد على ما قال الطيبي في عامين أي في إنقضاء عامين أي في أول زمان إنقضائهما وظاهر الآية أن مدة الرضاع عامان وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي والأمام أحمد وأبو يوسف ومحمد وهو مختار الطحاوي وروى عن مالك وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا لقوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ووجه الإستدلال به أنه سبحانه وتعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين على شخصين بأن قال : أجلت الدين الذي لي على فلان والدين الذي لي على فلان سنة فإنه يفهم أن السنة بكمالها لكل أو على شخص بأن قال لفلان على ألف درهم وعشرة أقفزة إلى سنة فصدقه المقر له في الأجل فإذا مضت السنة يتم أجلهما جميعا إلا أنه قام النقص في أحدهما أعني مدة الحمل لقول عائشة الذي لا يقال مثله إلا سماعا : الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل فتبقى مدة الفصال على ظاهرها وما ذكر هنا أقل مدته وفيه بحث أن أشكر لي ولوالديك تفسير لوصينا كما أختاره النحاس فإن تفسيرية وجوز أن تكون مصدرية بتقدير لام التعليل قبلها وهو متعلق بوصينا وبلا تقدير على أن يكون المصدر بدلا من والديه بدل الإشتمال وعليه كأنه قيل : وصينا الإنسان بوالديه بشكرهما وذكر شكر الله تعالى لأن صحة شكرهما تتوقف على شكره عزوجل كما قيل في عكسه لا يشكر الله تعالى من لا يشكر الناس ولذا قرن بينهما في الوصية وفي هذا من البعد ما فيه وأما القول بأن الأمر يأبى التفسير والتعليل والبدلية فليس بشيء كما أشرنا إليه قريبا وعلى الأوجه الثلاثة يكون قوله تعالى : حملته أمهإلىعامين إعتراضا مؤكدا للتوصية في حق الأم خصوصا لذكر ما قاسته في تربيته وحمله ولذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في حديث صحيح رواه الترمذي وأبو داؤد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده لمن سأله عمن يبره : أمك وأجابه عن سؤاله به ثلاث مرات وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه : أحمل أمي وهي الحمالة
ترضعني الدرة والعلالة
ولا يجازي والد فعاله ولله تعالى در من قال : لأمك حق لو علمت كبير كثيرك ياهذا لديه يسير فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جراها أنة وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص لها الفؤاد يطير وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك نمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنوا وأشفاقا وأنت صغير فآها لذي عقل ويتبع الهوى وآها لأعمى القلب وهو بصير فدونك فأرغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو به لفقير وأختلف في المراد بالشكر المأمور به فقيل هو الطاعة وفعل ما يرضي كالصلاة والصيام بالنسبة إليه تعالى
(21/86)
وكالصلة والبر بالنسبة إلى الوالدين وعن سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ومن دعا لوالديه في إدبارها فقد شكرهما ولعل هذا بيان لبعض أفراد الشكر إلي المصير 41 تعليل لوجوب الإمتثال بالأمر أي إلى الرجوع لا إلى غيري فأجازيك على ما صدر عنك مما يخالف أمري
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به أي بإستحقاقه الإشراك أو بشركته له تعالى في إستحقاق العبادة والجار متعلق بقوله تعالى : علم وما مفعول تشرك كما أختاره إبن الحاجب ثم قال : ولو جعل اشرك بمعنى تكفر وجعلت ما نكرة أو بمعنى الذي بمعنى كفرا أو الكفر وتكون نصبا على المصدرية لكان وجها حسنا والكلام عليه أيضا بتقدير مضاف أي وإن جاهداك الوالدان على أن تكفر بي كفرا ليس لك أو الكفر الذي ليس لك بصحته أو بحقيته علم فلا تطعهما في ذلك والمراد إستمرار نفي العلم لا نفي إستمراره فلا يكون الإشراك إلا تقليدا وفي الكشاف أراد سبحانه بنفي العلم نفي ما يشرك أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد عزوجل الأصنام كقوله سبحانه ما تدعون من دونه من شيء : وجعله الطيبي على ذلك من باب نفي الشيء بنفي لازمه وذلك أن العلم تابع للمعلوم فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجودا ونقل عن إبن المنير أنه عليه من باب
على لا حب لا يهتدي بمناره
أي ما ليس بإله فيكون لك علم بآلهيته وفي الكشف أن الزمخشري أراد أنه بولغ في نفي الشريك حتى جعل كل شيء ثم بولغ حتى مالا يصح أن يتعلق به علم والمعدوم يصح أن يعلم ويصح أن يقال أنه شيء فأدخل في سلك المجهول مطلقا وليس من قبيل نفي العلم لنفي وجوده وهذا تقرير حسن وفيه مبالغة عظيمة منه يظهر ترجيح هذا المسلك في هذا المقام على أسلوب
ولا ترى الضب بها ينجحر
فأفهم ولا تغفل وصاحبهما في الدنيا معروفا أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم والمروءة كإطعامهما وإكسائهما وعدم جفائهما وإنتهارهما وعيادتهما إذا مرضا ومواراتهما إذا ماتا وذكر في الدنيا لتهوين أمر الصحبة والإشارة إلى أنها في أيام قلائل وشيكة الإنقضاء فلا يضر تحمل مشقتها لقلة أيامها وسرعة إنصرامها وقيل للإشارة إلى أن الرفق بهما في الأمور الدنيوية دون الدينية
وقيل : ذكره لمقابلته بقوله تعالى : ثم إلي مرجعكم وأتبع سبيل من أناب أي رجع إلى بالتوحيد والإخلاص بالطاعة وحاصله أتبع سبيل المخلصين لا سبيلهما ثم إلي مرجعكم أي رجوعك ورجوعهما وزاد بعضهم من أناب وهو خلاف الظاهر وأياما كان ففيه تغليب للخطاب على الغيبة فأنبئكم عند رجوعكم بما كنتم تعملون 51 بأن أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص
أخرج أبو يعلى والطبراني وإبن مردويه وإبن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن أبي وقاص قال : أنزلت في هذه الآية وإن جاهداك الآية كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت : يا سعد وما هذا الذي أراك قد أحدثت لتدعن دينك هذا أولا أكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال ياقاتل أمه قلت : لا تفعلي ياأمه فأني لا أدع ديني هذا لشيء فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد جهدت فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد أشتد جهدها فلما رأيت ذلك قلت : يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا
(21/87)
ما تركت ديني هذا لشيء فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت فنزلت هذه الآية وذكر بعضهم أن هذه وما قبلها أعني قوله تعالى : ووصينا الإنسان الآية نزلتا فيه قيل ولكون النزول فيه قيل : من أناب بتوحيد الضمير حيث أريد بذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه فإن إسلام سعد كان بسبب إسلامه
أخرج الواحدي عن عطاء عن إبن عباس قال أنه يريد بمن أناب أبو بكر وذلك أنه حين أسلم رآه عبدالرحمن إبن عوف وسعيد بن يزيد وعثمان وطلحة والزبير فقالوا لأبي بكر آمنت وصدقت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فقال أبو بكر : نعم فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فآمنوا وصدقوا فأنزل الله تعالى يقول لسعد : وأتبع سبيل من أناب إلي يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه وإبن جريج يقول كما أخرج عنه إبن المنذر من أناب محمد عليه الصلاة و السلام وغير واحد يقول هو صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون والظاهر هو العموم
يابني إلخ رجوع إلى القصة بذكر بقية ما أريد حكايته من وصايا لقمان أثر تقرير ما في مطلعه من النهي عن الشرك وتأكيده بالإعتراض إنها أي الخصلة من الإساءة والإحسان لفهمها من السياق وقيل : وهو كما ترى أنها أي التي سألت عنها فقد روى أن لقمان سأله إبنه أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر أيعلمها الله تعالى فقال يابني إنها أي التي سألت عنها إن تك مثقال حبة من خردل أي إن تكن مثلا في الصغر كحبة الخردل والمثقال ما يقدر به غيره لتساوي ثقلهما وهو في العرف معلوم
وقرأ نافع والأعرج وأبو جعفر مثقال بالرفع على أن الضمير للقصة و تك مضارع كان التامة والتأنيث لإضافة الفاعل إلى المؤنث كما في قول الأعشى : وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم أو لتأويله بالزنة أو الحسنة والسيئة فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض أي فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر والقماءة في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي وقيل : في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو أعلاه كمحدب السموات أو أسفله كمقعر الأرض ولا يخفى أنه لا دلالة في النظم على تخصيص المحدب والمقعر ولعل المقام يقتضيه إذ المقصود المبالغة
وفي قوله تعالى : في السموات لا يأبى ذلك لأنها ذكرت بحسب المكانية أو للمشاكلة أو هي بمعنى على وعبر بها للدلالة على التمكن ومع هذا الظاهر ما تقدم وفي البحر أنه بدأ بما يتعقله السامع أولا وهو كينونة الشيء في صخرة وهو ما صلب من الحجر وعسر الإخراج منه ثم أتبعه بالعالم العلوي وهو أغرب للسامع ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد وهو الأرض وقيل : إن خفاء الشيء وصعوبة نيله بطرق بغاية صغره ويبعده عن الرائي وبكونه في ظلمة وبإحتجاجه فمثقال حبة من خردل إشارة إلى غاية الصغر و في صخرة إشارة إلى الحجاب و في السموات إشارة إلى البعد و في الأرض إشارة إلى الظلمة فإن جوف الأرض أشد الأماكن ظلمة فليس المراد بصخرة صخرة معينة وعن إبن عباس والسدي أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض وأخرج إبن مردويه عن إبن عباس أن الأرض على نون والنون على بحر والبحر على صخرة خضراء خضرة الماء منها والصخرة على قرن ثور وذلك الثور على الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله تعالى
وفسر بعضهم الصخرة بهذه الصخرة وقيل : هي صخرة في الريح قال إبن عطية : وكل ذلك ضعيف
(21/88)
لا يثبت سنده وإنما معنى الكلام المبالغة والإنتهاء في التفهيم أي إن قدرته عزوجل تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وما يكون في الأرض والأقوى عندي وضع هذه الأخبار ونحوها فليست الأرض إلا في حجر الماء وليس الماء إلا في جوف الهواء وينتهي الأمر إلى عرش الرحمن جل وعلا والكل في كف قدرة الله عزوجل
وقرأ عبدالرحيم الجزري فتكن بكسر الكاف وشد النون وفتحها وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي فتكن بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة وقرأ قتادة فتكن بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ورويت هذه القراءة عن الجزري أيضا والفعل في جميع ما ذكر من وكن الطائر إذا أستقر في وكنته أي عشه ففي الكلام إستعارة أو مجاز مرسل كما في المشفر والضمير للمحدث عنه فيما سبق وجوز أن يكون للإبن والمعنى إن تختف أو تخف وقت الحساب يحضرك الله تعالى ولا يخفى أنه غير ملائم للجواب أعني قوله تعالى : يأت بها الله أي يحضرها فيحاسب عليها وهذا أما على ظاهره أو المراد يجعلها كالحاضر المشاهد لذكرها والإعتراف بها إن الله لطيف يصل علمه تعالى إلى كل خفي خبير 61 عالم بكنهه
وعن قتادة لطيف بإستخراجها خبير بمستقرها وقيل : ذو لطف بعباده فيلطف بالإتيان بها بأحد الخصمين خبير عالم بخفايا الأشياء وهو كما ترى والجملة علة مصححة للإتيان بها أخرج إبن أبي حاتم عن علي بن رباح اللخمي أنه لما وعظ لقمان إبنه وقال : إنها إن تك الآية أخذ حبة من خردل فأتى بها إلى اليرموك وهو واد في الشام فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء الله تعالى ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته والله تعالى أعلم وبعد ما أمره بالتوحيد الذي هو أول ما يجب على المكلف في ضمن النهي عن الشرك ونبهه على كمال علمه تعالى وقدرته عزوجل أمره بالصلاة التي هي أكمل العبادات تكميلا من حيث العمل بعد تكميله من حيث الإعتقاد فقال مستميلا له : يابني أقم الصلاة تكميلا لنفسك ويروى أنه قال له : يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء صلها وأسترح منها فإنها دين وصل في جماعة ولو على رأس زج وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر تكميلا لغيرك والظاهر أنه ليس المراد معروفا ونكرا معينين
وأخرج إبن أبي حاتم عن إبن جبير أنه قال : وأمر بالمعروف يعني التوحيد وأنه عن المنكر يعني الشرك وأصبر على ما أصابك من الشدائد والمحن لا سيما فيما أمرت به من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحتياج الأخيرين للصبر على ما ذكر ظاهر والأول لأن إتمام الصلاة والمحافظة عليها قد يشق ولذا قال تعالى : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين وقال إبن جبير : وأصبر على ما أصابك في أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول : إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر وأصابك في ذلك أذى وشدة فأصبر عليه إن ذلك أي الصبر على ما أصابك عند إبن جبير وهو يناسب أفراد أسم الإشارة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته في الفضل أو الإشارة إلى الصبر وإلى سائر ما أمر به والإفراد للتأويل بما ذكر وأمر البعد على ما سمعت من عزم الأمور 71 أي مما عزمه الله تعالى وقطعه قطع إيجاب وروى ذلك عن
(21/89)
إبن جريج والعزم بهذا المعنى مما ينسب إلى الله تعالى ومنه ما ورد من عزمات الله عزوجل والمراد به هنا المعزوم إطلاقا للمصدر على المفعول والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور المعزومة
وجوز أن يكون العزم بمعنى الفاعل أي عازم الأمور من عزم الأمر أي جد فعزم الأمور من باب الإسناد المجازي كمكر الليل لا من باب الإضافة على معنى في وإن صح وقيل : يريد من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة وأستظهر أبو حيان أنه أراد من لازمات الأمور الواجبة ونقل عن بعضهم أن العزم هو الحزم بلغة هذيل والحزم والعزم أصلان وما قاله المبرد من أن العين قلبت جاء ليس بشيء لإطراد تصاريف كل من اللفظين فليس أحدهما أصلا للآخر والجملة تعليل لوجوب الإمتثال بما سبق وفيه إعتناء بشأنه ولا تصعر خدك للناس أي لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون قاله إبن عباس وجماعة وأنشدوا
وكنا إذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقوما فهو من الصعر بمعنى الصيد وهو داء يعتري البعير فيلوي منه عنقه ويستعار للتكبر كالصعر وقال إبن خويزمنداد : نهى أن يذل نفسه من غير حاجة فيلوي عنقه ورجح الأول بأنه أوفق بما بعد ولام للناس تعليلية والمراد ولا تصعر خدك لأجل الإعراض عن الناس أو صلة وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي تصاعر بألف بعد الصاد وقرأ الجحدري تصعر مضارع أصعر والكل واحد مثل علاه وعالاه وأعلاه
ولا تمش في الأرض التي هي أحط الأماكن منزلة مرحا أي فرحا وبطرا مصدر وقع موقع الحال للمبالغة أو لتأويله بالوصف أو تمرح مرحا على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة في موضع الحال أو لأجل المرح على أنه مفعول له وقريء مرحا بكسر الراء على أنه وصف في موضع الحال إن الله لا يحب كل مختال فخور 81 تعليل للنهي أو موجبه والمختال من الخيلاء وهو التبختر في المشي كبرا وقال الراغب : التكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه ومنه تؤول لفظ الخيل لما قيل أنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه نخوة والفخور من الفخر وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ويدخل في ذلك تعداد الشخص ما أعطاه لظهور أنه مباهاة بالمال وعن مجاهد تفسير الفخور بمن يعدد ما أعطى ولا يشكر الله عزوجل وفي الآية عند الزمخشري لف ونشر معكوس حيث قال : المختال مقابل للماشي مرحا وكذلك الفخور للمصعر خده كبرا وذلك لرعاية الفواصل على ما قيل ولا يأبى ذلك كون الوصية لم تكن باللسان العربي كما لا يخفى
وجوز أن يكون هناك لف ونشر مرتب فإن الإختيال يناسب الكبر والعجب وكذا الفخر يناسب المشي مرحا والكلام على رفع الإيجاب الكلي والمراد السلب الكلي وجوز أن يبقى على ظاهره وصيغة فخور للفاصلة ولأن ما يكره من الفخر كثرته فإن القليل منه يكثر وقوعه فلطف الله تعالى بالعفو عنه وهذا كما لطف بإباحة إختيال المجاهد بين الصفين وإباحة الفخر بنحو المال لمقصد حسن وأقصد في مشيك بعد الإجتناب عن المرح فيه أي توسط فيه بين الدبيب والإسراع من القصد وهو الإعتدال وجاء في عدة روايات إلا أن في أكثرها مقالا يخرجها عن صلاحية الإحتجاج بها كما لا يخفى على من راجع شرح الجامع الصغير للمناوي
(21/90)
عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن أي هيبته وجماله أي تورثه حقارة في أعين الناس وكان ذلك لأنها تدل على الخفة وهذا أقرب من قول المناوي لأنها تتعب فتغير البدن والهيئة
وقال إبن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ولكن مشيا بين ذلك وما في النهاية من أن عائشة نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا فقالت : ما لهذا فقيل : إنه من القراء فقالت : كان عمر رضي الله تعالى عنه سيد القراء وكان إذا مشى أسرع وإذا قال أسمع وإذا ضرب أوجع فالمراد بالإسراع فيه ما فوق دبيب المتماوت وهو الذي يخفي صوته ويقل حركاته مما يتزيا بزي العباد كأنه يتكلف في إتصافه بما يقربه من صفات الأموات ليوهم أنه ضعف من كثرة العبادة فلا ينافي الآية وكذا ما ورد في صفته صلى الله تعالى عليه وسلم إذ يمشي كأنما ينحط من صبب وكذا لا ينافيها قوله تعالى وعباد الرحمن الذي يمشون على الأرض هونا إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل وذكر بعض الأفاضل أن المذموم إعتياد الإسراع بالإفراط فيه وقال السخاوي : محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمر ديني لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مثلا مما قالوا إنه مما لا ينبغي فلا تغفل وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه وقيل : جعل البصر موضع القدم والمعول عليه ما تقدم وقريء وأقصد بقطع الهمزة ونسبها إبن خالويه للحجازي من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها أي سدد في مشيك والمراد أمش مشيا حسنا وكأنه أريد التوسط به بين المشيين السريع وابطيء فتتوافق القراءتان وأغضض من صوتك أي أنقص منه وأقصر من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه وحط من درجته وفي البحر الغض رد طموح الشيء كالصوت والنظر ويستعمل متعديا بنفسه كما في قوله : فغض الطرف إنك من نمير
ومتعديا بمن كما هو ظاهر قول الجوهري غض من صوته والظاهر إن ما في الآية من الثاني وتكلف بعضهم جعل من فيها للتبعيض وأدعى آخر كونها زائدة في الإثبات وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به في الجاهلية ومنه قول الشاعر : جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم ويخطو على العم خطو الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم والحكمة في غض الصوت المأمور به أنه أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه إن أنكر الأصوات أي أقبحها يقال وجه منكر أي قبيح قال في البحر : وهو أفعل بني من فعل المفعول كقولهم : أشغل من ذات النحيين وبناؤه من ذلك شاذ وقال بعض : أي أصعبها على السمع وأوحشها من نكر بالضم نكارة ومنه يوم يدعو الداع إلى شيء نكر أي أمر صعب لا يعرف والمراد بالأصوات أصوات الحيوانات أي إن أنكر أصوات الحيوانات لصوت الحمير 91 جمع حمار كما صرح به أهل اللغة ولم يخالف فيه غير السهيلي قال : أنه فعيل أسم جمع كالعبيد وقد يطلق على أسم الجمع الجمع عند اللغويين والجملة تعليل للأمر بالغض على أبلغ وجه وآكده حيث شبه الرافعون أصواتهم بالحمير وهم مثل في الذم البليغ والشتيمة ومثلت أصواتهم بالنهاق الذي أوله زفير
(21/91)
وآخره شهيق ثم أخلى الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الإستعارة وفي ذلك من المبالغة في الذم والتهجين والإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه ما فيه وإفراد الصوت مع جمع ما أضيف هو إليه للإشارة إلى قوة تشابه أصوات الحمير حتى كأنها صوت واحد هو أنكر الأصوات وقال الزمخشري إن ذلك لما أن المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع بل بيان صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس قيل : فعلى هذا كان المناسب لصوت الحمار بتوحيد المضاف إليه وأجيب بأن المقصود من الجمع التتميم والمبالغة في التنفير فإن الصوت إذا توافقت عليه الحمير كان أنكر وأورد عليه أنه يوهم أن الأنكرية في التوافق دون الإنفراد وهو لا يناسب المقام وأجيب بأنه لا يلتفت إلى مثل هذا التوهم وقيل : لم يجمع الصوت المضاف لأنه مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع ما لم تقصد الأنواع كما في أنكر الأصوات فتأمل والظاهر أن قوله تعالى : أن أنكر الأصوات لصوت الحمير من كلام لقمان لإبنه تنفيرا له عن رفع الصوت وقيل : هو من كلام الله تعالى وأنتهت وصية لقمان بقوله : وأغضض من صوتك رد سبحانه به عل ىالمشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ورفعه مع أن ذلك يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة وربما يخرق الغشاء الذي هو داخل الأذن وبين عزوجل أن مثلهم في رفع أصواتهم مثل الحمير وأن مثل أصواتهم التي يرفعونها مثل نهاقها في الشدة مع القبح الموحش وهذا الذي يليق أن يجعل وجه شبه لا الخلو عن ذكر الله تعالى كما يتوهم بناء على ما أخرج إبن أبي حاتم عن سفيان الثوري قال : صياح كل شيء تسبيحه إلا الحمار لما أن وجه الشبه ينبغي أن يكون صفة ظاهرة وخلو صوت الحمار عن الذكر ليس كذلك على أنا لا نسلم صحة هذا الخبر فإن فيه ما فيه ومثله ما شاع بين الجهلة من أن نهيق الحمار لعن للشيعة الذين لا يزالون ينهقون بسب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومثل هذا من الخرافات التي يمجها السمع ما عدا سمع طويل الأذنين والظاهر أن المراد بالغض من الصوت الغض منه عند المتكلم والمحاورة وقيل : الغض من الصوت مطلقا فيشمل الغض منه عند العطاس فلا ينبغي أن يرفع صوته عنده إن أمكنه عدم الرفع وروى عن أبي عبدالله رضي الله تعالى عنه ما يقتضيه ثم أن الغض ممدوح أن لم يدع داع شرعي إلى خلافه وأردف الأمر بالقصد في المشي بالأمر بالغض من الصوت لما أنه كثيرا ما يتوصل إلى المطلوب بالصوت بعد العجز عن التوصل إليه بالمشي كذا قيل هذا وأبعد بعضهم في الكلام على هذين الأمرين فقال : إن الأول إشارة إلى التوسط في الأفعال والثاني إشارة إلى الإحتراز من فضول الكلام والتوسط في الأقوال وجعل قوله تعالى : إن تك مثقال حبة من خردل إلخ إشارة إلى إصلاح الضمير وهو كما ترى
وقرأ إبن أبي عبلة أصوات الحمير بالجمع بغير لام التأكيد ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصة لقمان من خطاب المشركين وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد والتسخير على ما قال الراغب سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا وفي إرشاد العقل السليم المراد به إما جعل المسخر بحيث ينفع المسخر له أعم من أن يكون منقادا له يتصرف فيه كيف يشاء ويستعمله كيف يريد كعامة ما في الأرض من الأشياء المسخرة للإنسان المستعملة له من الجماد والحيوان أولا يكون كذلك بل يكون سببا لحصول مراده من غير أن يكون له دخل في إستعماله كجميع ما في السموات من الأشياء التي نيطت بها مصالح العباد معاشا أو معادا وأما جعله منقادا للأمر مذللا على أن معنى لكم لأجلكم
(21/92)
فإن جميع ما في السموات والأرض من الكائنات مسخرة لله تعالى مستتعبة لمنافع الخلق وما يستعمله الإنسان حسبما يشاء وإن كان مسخرا له بسحب الظاهر فهو في الحقيقة مسخر لله عزوجل وأسبغ أي أتم وأوسع عليكم نعمه جمع نعمة وهي في الأصل الحالة المستلذة فإن بناء الفعلة كالجلسة والركبة للهيئة ثم أستعملت فيما يلائم من الأمور الموجبة لتلك الحالة إطلاقا للمسبب على السبب وفي معنى ذلك قولهم : هي ما ينتفع به ويستلذ ومنهم من زاد ويحمد عاقبته وقال بعضهم : لا حاجة إلى هذه الزيادة لأن اللذة عند المحققين أمر تحمد عاقبته وعليه لا يكون لله عزوجل على كافر نعمة ونقل الطيبي عن ألمام أنه قال : النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا : وإنما زدنا قيد الحسنة لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة الشكر كونه إحسانا وجهة إستحقاق الذم والعقاب الحظر فأي إمتناع في إجتماعهما ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر لأنعامه والذم لمعصية الله تعالى فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك أما قولنا : المنفعة فلأن المضرة المحصنة لا تكون نعمة وقولنا : المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها ويعلم منه حكم زيادة ويحمد عاقبته ظاهرة وباطنة أي محسوسة ومعقولة معروفة لكم وغير معروفة وعن مجاهد النعمة الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء والباطنة الإمداد من الملائكة عليهم السلام وعن الضحاك الظاهرة حسن الصورة وإمتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة وقيل : الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح والباطنة القلب والعقل والفهم وقيل : الظاهرة نعم الدنيا والباطنة نعم الآخرة وقيل : الظاهرة نحو إرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق لقبول الإسلام والإتيان به والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية والباطنة ما أصاب الأرواح في عالم الذر من رشاش نور النور
وأول الغيث قطر ثم ينسكب
ونقل بعض الإمامية عن الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال : الظاهرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به من معرفة الله تعالى وتوحيده والباطنة ولا يتنا أهل البيت وعقد مودتنا والتعميم الذي أشرنا إليه أولا أولى لكن أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عطاء قال : سألت إبن عباس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة قال : هذه من كنوز علمي سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أما الظاهرة فما سوى من خلقك وأما الباطنة فما ستر من عورتك ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم
وفي رواية أخرى رواها إبن مردويه والديلمي والبيهقي وإبن النجار عن إبن عباس أنه قال : سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى : وأسبغ إلخ قال : أما الظاهرة فالإسلام وما سوى من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه وأما الباطنة فما ستر من مساوي عملك فإن صح ما ذكر فلا يعدل عنه إلى التعميم إلا أن يقال : الغرض من تفسير الظاهرة والباطنة بما فسرنا به التمثيل وهو الظاهر لا التخصيص وإلا لتعارض الخبران
ثم إن ظاهر هذين الخبرين يقتضي كون الذنب وهو المعبر عنه في الأول بما ستر من العورة وفي الثاني بما ستر من مساوي العمل نعمة ولم نر في كلامهم التصريح بإطلاقها عليه ويلزمه أن من كثرت ذنوبه كثرت
(21/93)
نعم الله تعالى عليه فكان المراد أن النعمة الباطنة هي ستر ما ستر من العورة ومساوي العمل ولم يقل كذلك إعتمادا على وضوح الأمر وجاء في بعض الآثار ما يقتضي ذلك أخرج إبن أبي حاتم والبيهقي عن مقاتل أنه قال في الآية : ظاهرة الإسلام وباطنة ستره تعالى عليكم المعاصي بل جاء في بعض روايات الخبر الثاني وأما ما بطن فستر مساوي عملك
وجوز أن يكون ما في ما ستر في الخبرين مصدرية ومن صلة ستر لا بيان لما وقرأ يحيى بن عمارة وأصبغ بالصاد وهي لغة بني كلب يبدلون من السين إذا أجتمعت مع أحد الحروف المستعلية الغين والخاء والقاف صادا فيقولون في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سائغ صائغ ولا فرق في ذلك بين أن يفصل بينهما فاصل وأن لا يفصل وظاهر كلام بعضهم أنه لا فرق أيضا بين أن تتقدم السين على أحد تلك الأحرف وأن تتأخر وأشترط آخر تقدم السين وذكر الخفاجي أنه إبدال مطرد
وقرأ بعض السبعة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما نعمة بالإفراد وقريء نعمته بالأفراد والإضافة ووجه الأفراد بإرادة الجنس كما قيل ذلك في قوله تعالى : وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقال الزجاج : من قرأ نعمة فعلى معنى ما أعطاهم من التوحيد ومن قرأ نعمه بالجمع فعلى جميع ما أنعم به عليهم والأول أولى ونصب ظاهرة وباطنة في قراءة التعريف على الحالية وفي قراءة التنكير على الوصفية ومن الناس من يجادل من الجدال وهو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كان المتجادلين يفتل كل منهما صاحبه عن رأيه وقيل : الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة وكأن الجملة في موضع الحال من ضميره تعالى فيما قبل أي ألم تروا أن الله سبحانه فعل ما فعل من الأمور الدالة على وحدته سبحانه وقدرته عزوجل والحال من الناس من ينازع ويخاصم كالنضر بن الحرث وأبي إبن خلف كانا يجادلان النبي في الله أي في توحيده عزوجل وصفاته جل شأنه كالمشركين المنكرين وحدته سبحانه وعموم قدرته جلت ثدرته وشمولها للبعث ولم يقل فيه بدل في الله بإرجاع الضمير للأسم الجليل في قوله تعالى : ألم تروا أن الله سخر لكم تهويلا لأمر الجدال بغير علم مستفاد من دليل عقلي ولا هدى راجع إلى رسول مأخوذ منه وجوز جعل الهدى نفس الرسول مبالغة وفيه بعد ولا كتاب أنزله الله تعالى منير 02 أي ذي نور والمراد به واضح الدلالة على المقصود وقيل : منقذ من ظلمة الجهل والضلال بل يجادلون بمجرد التقليد كما قال سبحانه وإذا قيل لهم أي لمن يجادل والجمع بإعتبار المعنى أتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا يريدون عبادة ما عبدوه من دون الله عزوجل وهذا ظاهر في منع التقليد في أصول الدين والمسئلة خلافية فالذي ذهب إليه الأكثرون ورجحه الإمام الرازي والآمدي أنه لا يجوز التقليد في الأصول بل يجب النظر والذي ذهب إليه عبيدالله بن الحسن العنبري وجماعة الجواز وربما قال بعضهم إنه الواجب على المكلف وإن النظر في ذلك والإجتهاد فيه حرام وعلى كل يصح عقائد المقلد المحق وإن كان آثما بترك النظر على الأول وعن الأشعري أنه لا يصح إيمانه وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : هذا مكذوب عليه لما يلزمه تكفير العوام وهم غالب المؤمنين والتحقيق أنه
(21/94)
إن كان التقليد أخذا لقول الغير بغير حجة مع إحتمال شك ووهم بأن لا يجزم المقلد فلا يكفي إيمانه قطعا لأنه لا إيمان مع أدنى تردد فيه وإن كان لكن جزما فيكفي عند الأشعري وغيره خلافا لأبي هاشم في قوله لا يكفي بل لا بد لصحة الإيمان من النظر وذكر الخفاجي أنه لا خلاف في إمتناع تقليد من لم يعلم أنه مستند إلى دليل حق وظاهر ذم المجادلين بغير علم ولا هدى ولا كتاب أنه يكفي في النظر الدليل النقلي الحق كما يكفي فيه الدليل العقلي
أو لو كان الشيطان يدعوهم أي يدعو آباءهم لا أنفسهم كما قيل : فإن مدار إنكار الإستتباع كون المتبوعين تابعين للشياطين وينادي عليه قوله تعالى : أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون بعد قوله سبحانه : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ويعلم منه حال رجوع الضمير إلى المجموع أي أولئك المجادلين وآباءهم إلى عذاب السعير 12 أي إلى ما يؤل إليه أو يتسبب منه من الإشراك وإنكار شمول قدرته عزوجل للبعث ونحو ذلك من الضلالات وجوز بقاء عذاب السعير على حقيقته والإستفهام للإنكار ويفهم التعجيب من السياق أو للتعجيب ويفهم الإنكار من السياق والواو حالية والمعنى أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب وجوز كون الواو عاطفة على مقدر أي أيتبعونهم لو لم يكن الشيطان يدعوهم إلى العذاب ولو كان يدعوهم إليه وهما قولان مشهوران في الواو الداخلة على لو الوصلية ونحوها وكذا في إحتياجها إلى الجواب قولان قول بالإحتياج وقول بعدمه لإنسلاخها عن معنى الشرط ومن ذهب إلى الأول قدره هنا لا يتبعوهم وهو مما لا غبار عليه على تقدير كون الواو عاطفة وأما على تقدير كونها حالية فزعم بعضهم أنه لا يتسنى وفيه نظر وقد مر الكلام على نحو هذه الآية الكريمة فتذكر
ومن يسلم وجهه إلى الله بأن فوض إليه تعالى جميع أموره وأقبل عليه سبحانه بقلبه وقالبه فألسلام كالتسليم التفويض والوجه الذات والكلام كناية عما أشرنا إليه من تسليم الأمور جميعها إليه تعالى والإقبال التام عليه عزوجل وقد يعدى الإسلام باللام قصدا لمعنى الإخلاص
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وعبدالله بن مسلم بن يسار يسلم بتشديد اللام من التسليم وهو أشهر في معنى التفويض من الإسلام وهو محسن أي في أعماله والجملة في موضع الحال
فقد أستمسك بالعروة الوثقى تعلق أتم تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وهذا تشبيه تمثيلي مركب حيث شبه حال المتوكل على الله عزوجل المفوض إليه أموره كلها الحسن في أعماله بمن ترقى في جبل شاهق أو تدلي منه فتمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون إنقطاعه وجوز أن يكون هناك إستعارة في المفرد وهو العروة الوثقى بأن يشبه التوكل النافع المحمود عاقبته بها فتستعار له وإلى الله عاقبة الأمور 22 أي هي صائرة إليه عزوجل لا إلى غيره جل جلاله فلا يكون لأحد سواه جل وعلا تصرف فيها بأمر ونهي وثواب وعقاب فيجازي سبحانه هذا المتوكل أحسن الجزاء وقيل : فيجازي كلا من هذا المتوكل وذاك المجادل بما يليق به بمقتضى الحكمة وأل في الأمور للإستغراق و قيل : تحتمل العهد على أن المراد الأمور المذكورة من المجادلة وما بعدها وتقديم إلى الله للحصر ردا على الكفرة في زعمهم مرجعية آلهتهم لبعض الأمور
(21/95)
وأختار بعضهم كونه إجلالا للجلالة ورعاية للفاصلة ظنا منه أن الإستغراق مغن عن الحصر وهو ليس كذلك ومن كفر فلا يحزنك كفره أي فلا يهمنك ذلك إلينا لا إلى غيرنا مرجعهم رجوعهم بالبعث يوم القيامة فننبئهم بما عملوا أي بعملهم أو بالذي عملوه في الدنيا من الكفر والمعاصي بالعذاب والعقاب وقيل : إلينا مرجعهم في الدارين فنجازيهم بالإهلاك والتعذيب والأول أظهر وأيا ما كان فالجملة في موضع التعليل كأنه قيل : لا يهمنك كفر من كفر لأنا ننتقم منه ونعاقبه على عمله أو الذي عمله والجمع في الضمائر الثلاثة بإعتبار معنى من كما أن الأفراد في الأول بإعتبار لفظها وقريء في السبع ولا يحزنك مضارع أحزن مزيد حزن اللام وقدر للزوم ليكون للنقل فائدة وحزن وأحزن لغتان قال اليزيدي : حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قريء بهما وذكر الزمخشري أن المستفيض في الإستعمال ماضي الأفعال ومضارع الثلاثي والعهدة في ذلك عليه إن الله عليم بذات الصدور 32 تعليل للتنبئة المعبر بها عن المجازاة أي يجازيهم سبحانه لأنه عزوجل عليم بالضمائر فما ظنك بغيرها
نمتعهم قليلا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ 42 ثقيل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ والمراد بالإضطرار أي الإلجاء إلزامهم ذلك العذاب الشديد إلزام المضطر الذي لا يقدر على الإنفكاك مما ألجيء إليه وفي الإنتصاف تفسير هذا الإضطرار ما في الحديث من أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد فيرسل عليهم الزمهرير فيكون أشد عليهم من اللهب فيتمنون عود اللهب إضطرارا فهو إختيار عن إضطرار وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث قال : يرون الموت قداما وخلقا فيختارون والموت إضطرار وقيل : المعنى نضم إلى الإحراق الضغط والتضييق فلا تغفل ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله أي خلقهن الله تعالى وجوز أن يكون التقدير الله خلقهن والأول أولى كما فصل في محله وقولهم ذلك لغاية وضوح الأمر بحيث أضطروا إلى الإعتراف به قل الحمد لله على إلزامهم وإلجائهم إلى الإعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به جل شأنه في العبادة التي لا يستحقها غير الخالق والمنعم الحقيقي
وجوز جعل المحمود عليه جعل دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها المكابر أيضا بل أكثرهم لا يعلمون 52 أن ذلك يلزمهم قيل : وفيه إيغال حسن كأنه قال سبحانه : وإن جهلهم إنتهى إلى أن لا يعلموا أن الحمد لله ما موقعه في هذا المقام وقد مر تمام الكلام في نظير الآية في العنكبوت فتذكر
لله ما في السموات والأرض خلقا وملكا وتصرفا ليس لأحد سواه عزوجل إستقلالا ولا شركة فلا يستحق العبادة فيهما غيره سبحانه وتعالى بوجه من الوجوه وهذا إبطال لمعتقدهم من وجه آخر لأن المملوك لا يكون شريكا لمالكه فكيف يستحق ما هو حقه من العبادة وغيرها إن الله هو الغني عن كل شيء الحميد 62 المستحق للحمد وإن لم يحمده جل وعلا أحد أو المحمود بالفعل يحمده كل مخلوق بلسان الحال وكأن الجملة جواب عما يوشك أن يخطر ببعض الأذهان السقيمة من أنه هل إختصاص ما في السموات
(21/96)
والأرض به عزوجل لحاجته سبحانه إليه وهو جواب بنفي الحاجة على أبلغ وجه فقد كان يكفي في الجواب إن الله غني إلا أنه جيء بالجملة متضمنة للحصر للمبالغة وجيء بالحميد أيضا تأكيدا لما تفيده من نفي الحاجة بالإشارة إلى أنه تعالى منعم على من سواه سبحانه أو متصف بسائر صفات الكمال فتأمل جدا وقال الطيبي : إن قوله تعالى : لله ما في السموات والأرض تهاون بهم وإبداء أنه تعالى مستغن عنهم وعن حمدهم وعبادتهم ولذلك علل بقوله سبحانه : إن الله هو الغني أي عن حمد الحامدين الحميد أي المستحق للحمد وإن لم يحمدوه عزوجل
ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة إقلامافإنوما بعدها فاعل ثبت مقدر بقرينة كون أن دالة على الثبوت والتحقق وإلى هذا ذهب المبرد وقال سيبويه : إن ذلك مبتدأ مستغن عن الخبر لذكر المسند والمسند إليه بعده وقيل : مبتدأ خبره مقدر قبله وقال إبن عصفور : بعده و ما في الأرض أسم أن و من شجرة بيانلماأو للضمير العائد إليها في الظرف فهو في موضع الحال منها أو منه أي ولو ثبت أن الذي أستقر في الأرض كائنا من شجرة و أقلام خبر أن قال أبو حيان : وفيه دليل دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله : إن خبر أن الجائية بعدلولا يكون أسما جامدا ولا أسما مشتقا بل يجب أن يكون فعلا وهو باطل ولسان العرب طافح بخلافه قال الشاعر : ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنما وقال آخر : ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم إلى غير ذلك وتعقب بأن إشتراط كون خبرها فعلا إنما هو إذا كان مشتقا فلا يرد أقلام هنا ولا ما ذكر في البيتين وأما قوله تعالى : لو أنهم بادون فلو فيه للتمني والكلام في خبر أن الواقعة بعد لو الشرطية والمراد بشجرة كل شجرة والنكرة قد تعم في الإثبات إذا أقتضى المقام ذلك كما في قوله تعالى : علمت نفس ما أحضرت وقول إبن عباس رضي الله عنهما لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها تمرة خير من جرادة على ما أختاره جمع ولا نسلم المنافاة بين هذا العموم وهذه التاء فكأنه قيل : ولو أن كل شجرة في الأرض أقلام إلخ وكون كل شجرة أقلاما بإعتبار الأجزاء أو الأغصان فيؤل المعنى إلى لو أن أجزاء أو أغصان كل شجرة في الأرض أقلاما إلخ ويحسن إرادة العموم في نحو ما نحن فيه كون الكلام الذي وقعت فيه النكرة شرطا بلو وللشرط مطلقا قرب ما من النفي فما ظنك به إذا كان شرطا بها وإن كانت هنا ليست بمعناها المشهور من إنتفاء الجواب لإنتفاء الشرط أو العكس بل هي دالة على ثبوت الجواب أو حرف شرط في المستقبل على ما فصل في المعنى وإختيار شجرة على أشجار أو شجر لأن الكلام عليه أبعد عن إعتبار التوزيع بأن تكون كل شجرة من الأشجار أو الشجر قلما المخل بمقتضى المقام من المبالغة بكثرة كلماته تعالى شأنه وفي البحر أن هذا مما وقع فيه المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة ونظيره ما ننسخ من آية ما يفتح الله للناس من رحمة ولله يسجد ما في السموات والأرض من دابة وقول العرب : هذا أول فارس وهذا أفضل عالم يراد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب وأول الفرسان وأفضل العلماء ذكر المفرد النكرة وأريد به معنى الجمع المعرف باللام وهو مهيع في كلام العرب معروف وكذلك يقدر هنا من الشجرات أو من الأشجار فلا تغفل
وقال الزمخشري : إنه قال سبحانه شجرة على التوحيد دون أسم الجنس الذي هو شجر لأنه أريد تفصيل
(21/97)
الشجر شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاما وتعقب بأن إفادة المفرد التفصيل بدون تكرار غير معهود والمعهود إفادته ذلك بالتكرير نحو جاؤني رجلا رجلا فتأمل وإختيار جمع القلة في أقلام مع أن الأنسب للمقام جمع الكثرة لأنه لم يعهد للقلم جمع سواه وقلام غير متداول فلا يحسن إستعماله والبحر أي المحيط فأل للعهد لأنه المتبادر ولأنه الفرد للكامل إذ قد يطلق على شعبه وعلى الأنهار العظام كدجلة والفرات وجوز إرادة الجنس ولعل الأول أبلغ يمده من بعده اي من بعد نفاذه وقيل من ورائه سبعة أبحر مفروضة كل منها مثله في السعة والإحاطة وكثرة الماء والمراد بالسبعة الكثرة بحيث تشمل المائة والألف مثلا لا خصوص العدد المعروف كما في قوله عليه الصلاة و السلام : المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء وأخاتيرت لها لأنها عدد تام كما عرفت عند الكلام في قوله تعالى : تلك عشرة كاملة وكثير من المعدودات التي لها شأن كالسموات والكواكب السيارة والأقاليم الحقيقية وأيام الأسبوع إلى غير ذلك منحصر في سبع فلعل في ذكرها هنا دون سبعين المتجوز به عن الكثرة أيضا رمزا إلى شأن كون تلك الأبحر عظيمة ذات شأن ولما لم تكن موضوعة في الأصل لذلك بل للعدد المعروف القليل جاء تمييزها أبحر بلفظ القلة دون بحور وإن كان لا يراد به إلا لكثرة ليناسب بين اللفظين فكما تجوز في السبعة وأستعملت للتكثير تجوز في أبحر وأستعمل فيه أيضا وكان الظاهر بعد جعل ما في الأرض من شجرة أقلاما أن يقال : والبحر مداد لكن جيء بما في النظم الجليل لأن يمده يغني عن ذكر المداد لأنه من قولك : مد الدواة وأمدها أي جعلها ذات مداد وزاد في مدادها ففيه دلالة على المداد مع ما يزيد في المبالغة وهو تصوير الإمداد المستمر حالا بعد حال كما تؤذن به صيغة المضارع فأفاد النظم الجليل جعل البحر المحيط بمنزلة الدواة وجعل أبحر سبعة مثله مملوءة مدادا فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع ورفع البحر على ما أستظهره أبو حيان فيه على الإبتداء وجملة يمده خبره والواو للحال والجملة حال من الموصول أو الضمير الذي في صلته أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما في حال كون البحر ممدودا بسبعة أبحر ولا يضر خلو الجملة عن ضمير ذي الحال فإن الواو يحصل بها من الربط ما لا يتقاعد عن الضمير لدلالتها على المقارنة وأشار الزمخشري إلى أن هذه الجملة وما أشبهها كقوله : وقد أغتدى والطير في وكناتها بمنجرد فيد الأوابد هيكل وجئت والجيش مصطف من الأحوال التي حكمها حكم الظروف لأنها في معناها إذ معنى جئت والجيش مصطف مثلا ومعنى جئت وقت إصطفاف الجيش واحد وحيث ان الظرف يربطه بما قبله تعلقه به وإن لم يكن فيه ضمير وهو إذا وقع حالا أستقر فيه الضمير فما يشبهه كأنه فيه ضمير مستقر ولا يرد عليه إعتراض أبي حيان بأن الظرف إذا وقع حالا ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف والجملة الأسمية إذا كانت حالا بالواو فليس فيها ضمير منتقل فكيف يقال إنها في حكم الظرف نعم الحق أن الربط بالواو كاف عن الضمير ولا يحتاج معه إلى تكلف هذه المؤنة وجوز أن تكون الجملة حالا من الأرض والعامل فيه معنى الإستقرار والرابط ما سمعت أو أل التي في البحر بناء على رأي الكوفيين من جواز كون أل عوضا عن الضمير كما في قوله تعالى : جنات عدن مفتحة لهم الأبواب أي ولو ثبت كون الذي أستقر في الأرض من شجرة أقلاما حال كون بحرها ممدودا بسبعة أبحر
(21/98)
قال في الكشف : ولا بد أن يجعل من شجرة بيانا للضمير العائد إلى ما لئلا يلزم الفصل بين أجزاء الصلة بالأجنبي
و البحر على تقدير جعل أل فيه عوضا عن المضاف إليه العائد إلى الأرض يحتمل أن يراد به المعهود وأن يردا به غيره وقال الطيبي : إن البحر على ذلك يعم جميع الأبحر لقرينة الإضافة ويفيد ان السبعة خارجة عن بحر الأرض وعلى ما سواه يحتمل الحصة المعهودة المعلومة عند المخاطب ورد بأنه لا فرق بينهما بل كون بحرها للعهد أظهر لأن العهد أصل الإضافة ولا ينافيه كون الأرض شاملة لجميع الأقطار لأن المعهود البحر المحيط وهو محيط بها كلها وجوز الزمخشري كون رفعه بالعطف على محل أن ومعمولها وجملة يمده حال على تقدير لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر وتعقب بأن الدال على الفعل المحذوف هو أن وخبره على ما قرر في بابه فأذن لا يمكن إفضاء المحذوف إلى المعطوف دون ملاحظة دال وفي هذا العطف إخراج عن الملاحظة وأجيب بأنه يحتمل في التابع ما لا يحتمل في المتبوع ثم لا يخفى أن العطف على هذا من عطف المفرد على المفرد لا المفرد على الجملة كما قيل إذ الظاهر أن المعطوف عليه إنما هو المصدر الواقع فاعلا لثبت وهو مفرد لا جملة وجوز أن يكون العطف على ذلك أيضا بناء على رأي من يجعله مبتدأ وتعقب بأنه يلزم أن يلي لو الأسم الصريح الواقع مبتدأ إذ يصير التقدير ولو البحر وذلك على ما قال أبو حيان لا يجوز إلا في ضرورة شعر نحو قوله : لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء إعتصاري وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع كما في نحو رب رجل وأخيه يقولان ذلك وقال بعضهم : إنه يلزم على العطف السابق أن يلي لو الأسم الصريح وهو أيضا مخصوص بالضرورة وأجاب بما أجيب وفيه عندي تأمل وجوز كون الرفع على الإبتداء وجملة يمده خبر المبتدأ والواو واو المعية وجملة المبتدأ وخبره في موضع المفعول معه بناء على أنه يكون جملة كما نقل عن إبن هشام ولا يخفى بعده وجوز كون الواو على ذلك للإستئناف بياني كأنه قيل : ما المداد حينئذ فقيل : والبحر إلخ وتعقب بأن إقتران الجواب بالواو وإن كانت إستئنافية غير معهود وما قيل إنه يقترن بها إذا كان جوابا للسؤال على وجه المناقشة لا للإستعلام مما لا يعتمد عليه ومن هنا قيل : الظاهر على إرادة الإستئناف أن يكون نحويا وجوز في هذا التركيب غير ما ذكر من أوجه الإعراب أيضا
وقرأ البصريان والبحر بالنصب على أنه معطوف على أسم أن و يمده خبر له أي ولو أن البحر ممدود بسبعة أبحر
قال إبن الحاجب في أماليه : ولا يستقيم أن يكون يمده حالا لأنه يؤدي إلى تقييد المبتدأ الجامد بالحال ولا يجوز لأنها لبيان الفاعل أو المفعول والمبتدأ ليس كذلك ويؤدي أيضا إلى كون المبتدأ لا خبر له ولا يستقيم أن يكون أقلام خبرا له لأنه خبر الأول ولم يذكر إحتمال تقدير الخبر لظهور أنه خلاف الظاهر
وجوز أن يكون منصوبا على شريطة التفسير عطفا على الفعل المحذوف أعني ثبت ودخول لو على المضارع جائز وجملة يمده إلخ حينئذ لا محل لها من الإعراب
وقرأ عبدالله وبحر بالتنكير والرفع وخرج ذلك إبن جني على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي هناك بحر يمده إلخ والواو واو الحال لا محالة ولا يجوز أن يعطف على أقلام لأن البحر وما فيه ليس من حديث الشجر
(21/99)
والأقلام وإنما هو من حديث المداد وفي البحر أن الواو على هذه القراءة للحال أو للعطف على ما تقدم وإذا كانت للحال كان بحر مبتدأ وسوغ الإبتداء به مع كونه نكرة تقدم تلك الواو فقد عد من مسوغات الإبتداء بالنكرة كما في قوله : سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوءه كل شارق ولا يخفى أنه إذا عطف على فاعل ثبت فجملة يمده في موضع الصفة له لا حال منه وجوز ذلك من جوز مجيء الحال من النكرة والظاهر على تقدير كونه مبتدأ جعل الجملة خبره ولا حاجة إلى جعل خبره محذوفا كما فعل إبن جني
وقرأ إبن مسعود وأبي تمده بتاء التأنيث من مد كالذي في قراءة الجمهور وقرأ إبن مسعود أيضا والحسن وإبن مصرف وإبن هرمز يمده بضم الياء التحتية من الإمداد قال إبن الشيخ : يمد بفتح فضم ويمد بضم فكسر لغتان بمعنى وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما والبحر مداده أي ما يكتب به من الحبر وقال إبن عطية : هو مصدر ما نفدت كلمات الله جواب لو وفي الكلام إختصار يسمى حذف إيجاز ويدل على المحذوف السياق والتقدير ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله تعالى ما نفدت لعدم تناهيها ونفد تلك الأقلام والمداد لتناهيها ونظير ذلك في الإشتمال على إيجاز الحذف قوله تعالى : أؤ به أذى من رأسه ففدية أي فحلق رأسه لدفع ما به من الأذى ففدية والمراد بكلماته تعالى كلمات علمه سبحانه وحكمته جل شأنه وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما أخرج إبن جرير عن عكرمة قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الروح فأنزل سبحانه ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أتيتم من العلم فقالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت ولو أن إلخ وظاهر هذا أن اليهود قالوا ذلك له عليه الصلاة و السلام مشافهة وهو ظاهر في أن الآية مدنية وقيل : أنهم أمروا وفد قريش أن يقولوا له صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك وهذا القائل يقول : إنها مكية وحاصل الجواب أنه وإن كان ما أوتيتموه خيرا كثيرا لكونه حكمة إلا أنه قليل بالنسبة إلى حكمته عزوجل وفي رواية أنه نزل بمكة قوله تعالى : ويسألونك إلخ فلما هاجر عليه الصلاة و السلام أتاه أحبار اليهود فقالوا بلغنا أنك تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : كلا عنيت فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك إنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال عليه الصلاة والتحية : هي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن عملتم به نجوتم قالوا : يامحمد كيف تزعم هذا وأنت تقول : ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فكيف يجتمع فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : هذا علم قليل وخير كثير فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا نص في أن الآية مدنية وقيل : المراد بها مقدوراته جل وعلا وعجائبه عزوجل التي إذا أراد سبحانه شيئا منها قال تبارك وتعالى له : كن فيكون ومن ذلك قوله تعالى في عيسى : وكلمته ألقاها إلى مريم وإطلاق الكلمات على ما ذكر من إطلاق السبب على المسبب وعلى هذا وجه ربط الآية بما قبلها أظهر على ما قيل وهو أنه سبحانه لما
(21/100)
قال : ولله ما في السموات والأرض وكان موهما لتناهي ملكه جل جلاله أردف سبحانه ذلك بما هو ظاهر بعدم التناهي وهذا ما أختاره الإمام في المراد بكلماته تعالى إلا أن في إنطباقه على سبب النزول خفاء وعن أبي مسلم المراد بها ما وعد سبحانه به أهل طاعته من الثواب وما أوعد جل شأنه به أهل معصيته من العقاب وكأن الآية عليه بيان لأكثرية ما لم يظهر بعد من ملكه تعالى بعد بيان كثرة ما ظهر وقيل : المراد بها ما هو المتبادر منها بناء على ما أخرج عبدالرزاق وإبن جرير وإبن المنذر وغيرهم عن قتادة قال : قال المشركون إنما هذا كلام يوشك أن ينفد فنزلت ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام الآية وفي وجه ربط الآية عليه بما قبلها وكذا بما بعدها خفاء جدا إلا أنه لا يقتضي كونها مدنية وإيثار الجمع المؤنث السالم بناء على أنه كجمع المذكر جمع قلة لا شعاره وإن إقترن بما قد يفيد معه الإستغراق والعموم من أل أو الإضافة نظرا لأصل وضعه وهو القلة بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير وقرأ الحسن ما نفد بغير تاء كلام الله بدل كلمات الله إن الله عزيز لا يعجزه جل شأنه شيء حكيم 72 لا يخرج عن علمه تعالى وحكمته سبحانه شيء والجملة تعليل لعدم نفاد كلماته تبارك وتعالى
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أي إلا كخلقها وبعثها في سهولة التأتي بالنسبة إليه عزوجل إذ لا يشغله تعالى شأن عن شأن لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته تعالى الواجبة أو قوله جل وعلا : كن مع قدرته سبحانه الذاتية وإمكان المتعلق ولا توقف لذلك على آلة ومباشرة تقتضي التعاقب ليختلف عنده تعالى الواحد والكثير كما يختلف ذلك عند العباد إن الله سميع يسمع كل مسموع بصير 82 يبصر كل مبصر في حالة واحدة لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض فكذا الخلق والبعث وحاصله كما أنه تعالى شأنه ببصر واحد يدرك سبحانه المبصرات وبسمع واحد يسمع جل وعلا المسموعات ولا يشغله بعض ذلك عن بعض كذلك فيما يرجع إلى القدرة والفعل فهو إستشهاد بما سلموه فشبه المقدورات فيما يراد منها بالمدركات فيما يدرك منها كذا في الكشف وأستشكل كون ذلك مسلما بأنه قد كان بعضهم إذا طعنوا في الدين يقول أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فنزل وأسروا قولكم أو أجهروا به إنه عليم بذات الصدور
وأجيب بأنه لا إعتداد بمثله من الحماقة بعد ما رد عليهم ما زعموا وأعلموا بما أسروا وقيل : إن الجملة تعليل لإثبات القدرة الكاملة بالعلم الواسع وأن شيئا من المقدورات لا يشغله سبحانه عن غيره لعلمه تعالى بتفاصيلها وجزئياتها فيتصرف فيها كما يشاء كما يقال : فلان يجيد عمل كذا لمعرفته بدقائقه ومتمماته والمقصود من إيراد الوصفين إثبات الحشر والبشر لأنهما عمدتان فيه ألا ترى كيف عقب ذلك بما يدل على عظيم القدرة وشمول العلم
وأياما كان يندفع توهم أن المناسب لما قبل أن يقال : إن الله قوي قدير أو نحو ذلك دون ما ذكر لأن الخلق والبعث ليسا من المسموعات والمبصرات وعن مقاتل أن كفار قريش قالوا : إن الله تعالى خلقنا أطوارا نطفة علقة مضغة لحما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة فنزلت وذكر النقاش أنها نزلت في أبي بن خلف وأبي الأسود ونبيه ومنبه إبني الحجاج وذكر في سبب نزولها فيهم نحو ما ذكر وعلى كون سبب النزول ذلك قيل : المعنى أنه تعالى سميع بقولهم ذلك بصير بما يضمرونه وهو كما ترى ألم تر قيل : خطاب لسيد المخاطبين وقيل : عام لكل من يصلح للخطاب وهو الأوفق لما سبق وما لحق أي ألم تعلم
(21/101)
أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي يدخل كل واحد منها في الآخر ويضيفه سبحانه إليه فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا وعدل عن يولج أحد الملوين في الآخر مع أنه أخصر للدلالة على إستقلال كل منهما في الدلالة على كمال القدرة وقدم الليل على النهار لمناسبته لعالم الإمكان المظلم من حيث إمكانه الذاتي وفي بعض الآثار كان العالم في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره وهذا الإيلاج إنما هو في هذا العالم ليس عند ربك صباح ولا مساء وقدم الشمس عل ىالقمر في قوله تعالى : وسخر الشمس والقمر مع تقديم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لأنها كالمبدأ للقمر ولأن تسخيرها لغاية عظمها أعظم من تسخير القمر وأيضا آثار ذلك التسخير أعظم من آثار تسخيره وقال الإمام في تعليل تقديم كل على ما قدم عليه : لأن الأنفس تطلب سبب المقدم أكثر مما تطلب سبب المؤخر وبين ذلك بما بين ولعل ما ذكرناه أولى لا سيما إذا صح أن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وعطف قوله سبحانه سخر على قوله تعالى يولج والإختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد في كل حين وأما التسخير فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد وإنما التعدد والتجدد في آثاره كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : كل أي كل واحد من الشمس والقمر يجري يسير سيرا سريعا مستمرا إلى أجل أي منتهى للجري مسمى سماه الله تعالى وقدره لذلك وهو كما قال الحسن يوم القيامة فإنه لا ينقطع جرى النيرين وتبطل حركتهما إلا في ذلك اليوم والظاهر أن هذا الجري هو هذه الحركة التي يشاهدها كل ذي بصر من أهل المعمورة وهي عند الفلاسفة بواسطة الفلك الأعظم فإن حركته كذلك وبها حركة سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب ويسمى حركة الكل والحركة اليومية والحركة السريعة والحركة الأولى والحركة على خلاف التوالي والحركة الشرقية وبعضهم يسميها الحركة الغربية وقيل : ما يعم هذه الحركة وحركتهما الخاصة بهما وهي حركتهما بواسطة فلكيهما على التوالي من المغرب إلى المشرق وهي للقمر أسرع منها للشمس وليس في العقل الصريح والنقل الصحيح ما يأبى إثبات هاتين الحركتين لكل من النيرين كما لا يخفى على المنصف العارف ومنتهى هذا الجري العام لهاتين الحركتين يوم القيامة أيضا والجملة على تقدير عموم الخطاب إعتراض بين المعطوفين لبيان الواقع بطريق الإستطراد وعلى تقدير إختصاصه به صلى الله تعالى عليه وسلم يجوز أن تكون حالا من الشمس والقمر فإن جريهما إلى يوم القيامة من جملة ما في حيز رؤيته عليه الصلاة و السلام وقيل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما والأجل المسمى لجري الشمس آخر السنة المسماة بالسنة الشمسية الحقيقية وهي زمان مفارقة الشمس أية نقطة تفرض من فلك البروج إلى عودها إليها بحركتها الخاصة وجعلوا إبتداءها من حين حلول الشمس رأس الحمل ومدتها عند بعض ثلثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وربع يوم كذلك وعند بطليموس ثلثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وخمس ساعات وخمسة وخمسون دقيقة وإثنتا عشرة ثانية وعند بعض المتأخرين ثلثمائة وخمسة وستون يوما وخمس ساعات وست وأربعون دقيقة وأربع وعشرون ثانية وعند الحكيم محيي الدين الكسر الزائد خمس ساعات ودقيقة وبالرصد الجديد الذي تولاه الطوسي بمراغة خمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة ووجد برصد سمرقند أزيد من هذا بربع دقيقة وأما الإصطلاحية فأعتبرها بعض كالروم والأقدمين من الفرس ثلثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وربع يوم كذلك وأخذ الكسر ربعا تاما إلا أن الروم يجعلون ثلاث سنين
(21/102)
ثلثمائة وخمسة وستين ويكبسون في الرابعة بيوم والفرس كانوا يكبسون في مائة وعشرين سنة بشهر وأعتبرها بعض آخر كالقبط والمستعملين لتريخ الفرس من المحدثين ثلثمائة وستين يوما بليلته وأسقط الكسر رأسا ولجرى القمر آخر الشهر القمري الحقيقي وهو زمان مفارقة القمر أي وضع يعرض له من الشمس إلى عوده إليه وجعلوا إبتداؤه من إجتماع الشمس والقمر وزمان ما بين الإجتماعين المتتاليين كط لا ن من الأيام ودقائقها وثوانيها تقريبا وأما الشهر الغير الحقيقي فالمعتبر فيه الهلال ويختلف زمان ما بين الهلالين كما هو معروف
قيل : وعلى هذا فالجملة بيان لحكم تسخيرهما أو تنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين في الآخر وكون ذلك بحسب إختلاف جريان الشمس على مداراتها اليومية فكلما كان جريانها متوجها إلى سمت الرأس تزداد القوس التي فوق الأرض كبرا فيزداد النهار طولا بإنضمام بعض أجزاء الليل إليه إلى أن يبلغ المدار الذي هو أقرب المدارات إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها إلى رأس السرطان ثم ترجع متوجهة إلى التباعد عن سمت الرأس فلا تزال القسى التي فوق الأرض تزداد صغرا فيزداد النهار قصرا بإنضمام بعض أجزائه إلى الليل إلى أن يبلغ المدار الذي هو أبعد المدارات اليومية عن سمت الرأس وذلك عند بلوغها رأس الجدي
وأنت تعلم أنه لا مدخل لجريان القمر في الإيلاج فالتعرض له في الآية الكريمة يبعد هذا الوجه ولعل الأظهر على تقدير جعل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما أن يجعل المسمى عبارة عن يوم القيامة أو يجعل عبارة عن آخر السنة والشهر المعروفين عند العرب فتأمل وجرى يتعدى بإلى تارة وباللام أخرى وتعديته بالأول بإعتبار كون المجرور غاية وبالثاني بإعتبار كونه غرضا فتكون اللام لام تعليل أو عاقبة وجعلها الزمخشري للإختصاص ولكل وجه ولم يظهر لي وجه إختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام وقال النيسابوري : وجه ذلك أن هذه الآية صدرت بالتعجيب فناسب التطويل وهو كما ترى فتدبر وقوله تعالى : وأن الله بما تعملون خبير 92 عطف على قوله : إن الله يولج الليل إلخ داخل معه في حيز الرؤية على تقديري خصوص الخطاب وعمومه فإن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق والتدبير اللائق لا يكاد يغفل عن كون صانعه عزوجل محيطا بجلائل أعماله ودقائقها وقرأ عياش عن أبي عمرو بما يعملون بياء الغيبة ذلك إشارة إلى ما تضمنته الآيات وأشارت إليه من سعة العلم وكمال القدرة وإختصاص الباري تعالى شأنه بها بأن الله هو الحق أي بسبب أنه سبحانه وحده الثابت المتحقق في ذاته أي الواجب الوجود
وأن ما يدعون من دونه إلها الباطل المعدوم في حد ذاته وهو الممكن الذي لا يوجد إلا بغيره وهو الواجب تعالى شأنه وأن الله هو العلي على الأشياء الكبير 03 عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف جل وعلا بنقص لا بشيء أعلى منه تعالى شأنه شأنا وأكبر سلطانا ووجه سببية الأول لما ذكر أن كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته يستلزم أن يكون هو سبحانه وحده الموجد لسائر المصنوعات البديعة الشأن فيدل على كمال قدرته عزوجل وحده والإيجاب قد أبطل في الأصول ومن صدرت عنه جميع هاتيك المصنوعات لا بد من أن يكون كامل العلم على ما بين في الكلام ووجه سببية الثالث لذلك أن كونه تعالى وحده عليا على جميع الأشياء متسلطا عليها متنزها عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف بنقص عزوجل يستلزم
(21/103)
كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته وقد سمعت الكلام فيه وأما وجه سببية كون ما يدعونه من دونه إلها باطلا ممكنا في ذاته لذلك فهو إن إمكانه على علو شأنه عندهم على ما عداه مما لم يعتقدوا إلهيته يستلزم إمكان غيره مما سوى الله عزوجل لأن ما فيه مما يدل على إمكانه موجود في ذلك حذو القذة بالقذة ومتى كان ما يدعونه إلها من دونه تعالى وغيره مما سوى الله سبحانه وتعالى ممكنا أنحصر وجوب الوجود في الله تعالى فيكون جل وعلا وحده واجب الوجود في ذاته وقد علمت إفادته للمطلوب وكأنه إنما قيل أن ما يدعون من دونه الباطل دون أن ما سواه الباطل مثلا نظير قول لبيد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تنصيصا على فظاعة ما هم عليه وإستلزام ذلك إمكان ما سوى الله تعالى من الموجودات من باب أولى بناء على ما يزعم المشركون في آلهتهم من علو الشأن ولم يكتف في بيان السبب بقوله سبحانه : بأن الله هو الحق بل عطف عليه ما عطف مع أنه مما يعود إليه وتشعر تلك الجملة به إظهارا لكمال العناية بالمطلوب وبما يفيده منطوق المعطوف من بطلان الشريك وكونه تعالى هو العلي الكبير
وقيل : أي ذلك الإتصاف بما تضمنته الآيات من عجائب القدرة والحكمة بسبب أن الله تعالى هو الإله الثابت إلهيته وإن من دونه سبحانه باطل الألهية وإن الله تعالى هو العلي الشأن الكبير السلطان ومدار أمر السببية على كونه سبحانه هو الثابت الإلهية وبين ذلك الطيبي بأنه قد تقرر أن من كان إلها كان قادرا خالقا عالما إلى غير ذلك من صفات الكمال ثم قال إن قوله تعالى ذلك بأن الله هو الحق كالفذلكة لما تقدم من قوله تعالى : ألم تروا أن الله سخر لكم إلى هذا المقام وقول تعالى : وأن الله هو العلي الكبير كالفذلكة لتلك الفواصل المذكورة هنالك كلها
ولعل ما قدمنا أولى بالإعتبار وقال العلامة أبو السعود في الإعتراض على ذلك : أنت خبير بأن حقيته تعالى وعلوه وكبرياءه وإن كانت صالحة لمناطية ما ذكر من الصفات لكن بطلان إليهة الأصنام لا دخل له في المناطية قطعا فلا مساغ لنظمه في سلك الأسباب بل هو تعكيس للأمر ضرورة أن الصفات المذكورة هي المقتضية لبطلانها لا أن بطلانها يقتضيها إنتهى وفيه تأمل والعجب منه أنه ذكر مثل ما أعترض عليه في نظير هذه الآية في سورة الحج ولم يتعقبه بشيء
وجوز أن يكون المعنى ذلك أي ما تلى من الآيات الكريمة بسب بيان أن الله هو الحق إلهيته فقط ولأجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد ولأجل بيان بطلان إليهة ما يدعون من دونه لكونها شاهدة شهادة بينة لا ريب فيها ولأجل بيان أنه تعالى هو المرتفع على كل شيء المتسلط عليه فإن ما في تضاعيف تلك الآيات الكريمة مبين لإختصاص العلو والكبرياء به أي بيان وهو وجه لا تكلف فيه سوى إعتبار حذف مضاف كما لا يخفى وكأنه إنما قيل هنا : وأن ما يدعون من دونه الباطل بدون ضمير الفصل وفي سورة الحج وأن ما يدعون من دونه هو الباطل بتوسيط ضمير الفصل لما أن الحط على المشركين وآلهتهم في هذه السورة دون الحط عليهم في تلك السورة
وقال النيسابوري في ذلك أن آية الحج وقعت بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين فناسب ذلك توسيط الضمير بخلاف ما هنا ويمكن أن يقال تقدم في تلك السورة ذكر الشيطان مرات فلهذا ذكرت تلك المؤكدات بخلاف هذه السورة فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان فيها نحو ذكره هناك وقرأ نافع وإبن كثير
(21/104)
وإبن عامر وأبو بكر تدعون بتاء الخطاب ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله إستشهاد آخر على باهر قدرته جل وعلا وغاية حكمته عزوجل وشمول أنعامه تبارك وتعالى والمراد بنعمة الله تعالى إحسانه سبحانه في تهيئة أسباب الجري من الريح وتسخيرها فالباء للتعدية كما في مررت بزيد أو سببية متعلقة بتجري
وجوز أن يراد بنعمته تعالى ما أنعم جل شأنه به مما تحمله الفلك من الطعام والمتاع ونحوه فالباء للملابسة و المصاحبة متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الفلك أي تجري مصحوبة بنعمته تعالى وقرأ موسى بن الزبير الفلك بضم اللام ومثله معروف في فعل مضموم الفاء
حكى عن عيسى بن عمر أنه قال : ما سمع فعل بضم الفاء وسكون العين إلا وقد سمع فيه فعل بضم العين
وفي الكشاف كل فعل يجوز فيه فعل كما يجوز في كل فعل فعل وجعل ضم العين للإتباع وإسكانها للتخفيف
وقرأ الأعرج والأعمش وإبن يعمر بنعمات الله بكسر النون وسكون العين جمعا بالألف والتاء وهو جمع نعمة بكسر فسكون ويجوز كما قال غير واحد في كل جمع مثله تسكين العين على الأصل وكسرها إتباعا للفاء وفتحها تخفيفا
وقرأ إبن أبي عبلة بنعمات الله بفتح النون وكسر العين جمعا لنعمة بفتح النون وهي أسم للتنعم وقيل : بمعنى النعمة بالكسر ليريكم من آياته أي بعض دلائل ألوهيته تعالى ووحدته سبحانه وقدرته جل شأنه وعلمه عزوجل وقوله تعالى : إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور 13 تعليل لما قبله أي إن فيما ذكر لآيات عظيمة في ذاتها كثيرة في عددها لكل مبالغ في الصبر على بلائه سبحانه ومبالغ في الشكر على نعمائه جل شأنه
و صبار شكور كناية عن المؤمن من باب حي مستوى القامة عريض الأظفار فإنه كناية عن الإنسان لأن هاتين الصفتين عمدتا الإيمان لأنه وجميع ما يتوقف عليه إما ترك للمألوف غالبا وهو بالصبر أو فعل لما يتقرب به وهو شكر لعمومه فعل القلب والجوارح واللسان ولذا ورد الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر وذكر الوصفين بعد الفلك فيه أتم مناسبة لأن الراكب فيه لا يخلو عن الصبر والشكر وقيل : المراد بالصبار كثير الصبر على التعب في كسب الأدلة من الأنفس والآفاق وإلا فلا إختصاص للآيات بمن تعب مطلقا وكلا الوصفين بنيا بناء مبالغة وفعال على ما في البحر أبلغ من فعول لزيادة حروفه قيل : وإنما أختير زيادة المبالغة في الصبر إيماء إلى أن قليله لشدة مرارته وزيادة ثقله على النفس كثير وإذا غشيهم موج أي علاهم وغطاهم من الغشاء بمعنى الغطاء من فوق وهو المناسب هنا وقيل : أي أي أتاهم من الغشيان بمعنى الإتيان وضمير غشيهم أن إتحد بضمير المخاطبين قبله ففي الكلام إلتفات من الخطاب إلى الغيبة وإلا فلا إلتفات والموج ما يعلو من غوارب الماء وهو أسم جنس واحده موجة وتنكيره للتعظيم والتكثير ولذا أفرد مع جمع المشبه به في قوله تعالى : كالظلل وهو جمع ظلة كغرفة وغرف وقربة وقرب والمراد بها ما أظل من سحاب أو جبل أو غيرهما
وقال الراغب : الظلة السحابة تظل وأكثر ما يقال فيما يستوخم ويكره وفسر قتادة الظلل هنا بالسحاب
(21/105)
وبعضهم بالجبال وقرأ محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه كالظلال وهو جمع ظلة أيضا كعلبة وعلاب وجفرة وجفار وإذا ظرف لقوله تعالى : دعوا أي دعوا الله مخلصين له الدين إذا غشيهم موج كالظلل وإنما فعلوا ذلك حينئذ لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد
فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد سالك القصد أي الطريق المستقيم لا يعدل عنه لغيره وأصله إستقامة الطريق ثم أطلق عليه مبالغة والمراد بالطريق المستقيم التوحيد مجازا فكأنه قيل : فمنهم مقيم على التوحيد وقول الحسن : أي مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعمة يرجع إلى هذا وقيل : مقتصد من الإقتصاد بمعنى التوسط والإعتدال
والمراد حينئذ على ما قيل متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء موف بما عاهد عليه الله تعالى في البحر وتفسيره بموف بعهده مروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما ويدخل في هذا البعض على هذا المعنى عكرمة إبن أبي جهل فقد روى السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس أن يكفوا عن قتل أهلها إلا أربعة نفر منهم قال : أقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل وعبدالله بن خطل وقيس بن ضبابة وعبدالله بن أبي سرح فأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة فقال أهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجني في البر غيره اللهم إن لك على عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء وأسلم وقيل : متوسط في الكفر لإنزجاره بما شاهد بعض الإنزجار
وقيل : متوسط في الإخلاص الذي كان عليه في البحر فإن الإخلاص الحادث عند الخوف قلما يبقى لأحد عند زوال الخوف وأياما كان فالظاهر أن المقابل لقسم المقتصد محذوف دل عليه قوله تعالى : وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار والآية دليل إبن مالك ومن وافقه على جواز دخول الفاء في جواب لما ومن لم يجوز قال : الجواب محذوف أي فلما نجاهم إلى البر إنقسموا قسمين فمنهم مقتصد ومنهم جاحد والختار من الختر وهو أشد الغدر ومنه قولهم : إنك لا تمد لنا شبرا من غدر إلا مددنا لك باعا من غدر وبنحو ذلك فسره إبن عباس رضي الله تعالى عنهما لإبن الأزرق وأنشد قول الشاعر : لقد علمت وأستيقنت ذات نفسها
بأن لا تخاف الدهر صرمي ولا ختري ونحوه قول عمرو بن معدي كرب : وإنك لو رأيت أبا عمير
ملأت يديك من غدر وختر وفي مفردات الراغب الختر غدر يبختر فيه الإنسان أي يضعف ويكسر لإجتهاده فيه أي وما يجحد بآياتنا ويكفر بها إلا كل غدار أشد الغدر لأن كفره نقض للعهد الفطري وقيل : لأنه نقض لما عاهد الله تعالى عليه في البحر من الإخلاص له عزوجل كفور 23 مبالغ في كفران نعم الله تعالى و ختار مقابل لصبار
(21/106)
لأن من غدر لم يصبر على العهد وكفور مقابل لشكور ياأيها الناس أتقوا ربكم وأخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده أمر بالتقوى عل ىسبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم بعد ذكر دلائل الوحدانية ويجزي من جزى بمعنى قضى ومنه قيل للمتقاضي المتجازي أي لا يقضي والد عن ولده شيئا
وقرأ أبو السمال وعامر بن عبدالله وأبو السوار لا يجزيء بضم الياء وكسر الزاي مهموزا ومعناه لا يغني والد عن ولده ولا يفيده شيئا من أجزأت عنك مجزأ فلان أي أغنيت
وقرأ عكرمة لا يجزي بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول والجملة على القراءات صفة يوما والراجع إلى الموصوف محذوف أي فيه فأما أن يحذف برمته وأما على التدريج بأن يحذف حرف الجر فيعدى الفعل إلى الضمير ثم يحذف منصوبا وقوله تعالى : ولا مولود أما عطف على والد فهو فاعل يجزي وقوله تعالى : هو جاز عن والده شيئا في موضع الصفة له والمنفي عنه هو الجزاء في الآخرة والمثبت له الجزاء في الدنيا أو معنى هو جاز أي من شأنه الجزاء لعظيم حق الوالد أو المراد بلا يجزي لا يقبل منه ما هو جاز به وأما مبتدأ والمسوغ للإبتداء به مع أنه نكرة تقدم النفي وذهل المهدوي عن ذلك فمنع صحة كونه مبتدأ وجملة هو جاز خبره و شيئا مفعول به أو منصوب عل ىالمصدرية لأنه صفة مصدر محذوف وعلى الوجهين قيل تنازعه يجزي وجاز وإختيار ما لا يفيد التأكيد في الجملة الأولى وما يفيده في الجملة الثانية لأن أكثر المسلمين وأجلتهم حين الخطاب كان آباؤهم قد ماتوا عل ىالكفر وعلى الدين الجاهلي فلما كان غناء الكافر عن المسلم بعيدا لم يحتج نفيه إلى التأكيد ولما كان غناء المسلم عن الكافر مما يقع في الأوهام أكد نفيه قاله الزمخشري
وتعقبه إبن المنير بأنه يتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ والصحيح أنه عام لهم ولكل من ينطلق عليه أسم الناس ورده في الكشف بأن المتقدمتين فاسدتان أما الثانية فلما تقرر في أصول الفقه أن ياأيها الناس يتناول الموجودين وأما لغيرهم فبالأعلام أو بطريقه والمالكية موافقة وأما الأولى فعلى تقدير التسليم لا شك أن أجلة المؤمنين وأكابرهم إلى إنقراض الدنيا هم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ومعلوم أن أكثرهم قبض آباؤهم على الكفر فمن أين التوقيف
وأختار إبن المنير في وجه ذلك أن الله تعالى لما أكد الوصية بالآباء وقرن وجوب شكرهم بوجوب شكره عزوجل وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسوءه بحسب نهاية إمكانه قطع سبحانه ههنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة يجزيه حقه عليه ويكفيه ما يلقاه من أهوال يوم القيامة كما أوجب الله تعالى عليه في الدنيا ذلك في حقه فلما كان جزاء الولد عن الوالد مظنة الوقوع لأنه سبحانه حض عليه في الدنيا كان جديرا بتأكيد النفي لأزالة هذا الوهم ولا كذلك العكس وقريب منه ما قاله الإمام : إن الولد من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق والولد يجزي لما فيه من النفقة وليس ذلك بواجب عليه فلذا قال سبحانه في الوالد : لا يجزي وفي الولد ولا مولود هو جاز عن والده ألا ترى أنه يقال لمن يحيك وليست الحياكة صنعته هو يحيك ولمن يحيك وهي صنعته هو حائك وقيل : إن التأكيد في الجملة الثانية للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي لأنه دون الوالد في الحنو والشفقة فلما كان أولى بهذا الحكم أستحق التأكيد
(21/107)
وفي القلب منه شيء وقد يقال : إن العرب كانوا يدخرون الأولاد لنفعهم ودفع الأذى عنهم وكفاية ما يهمهم ولعل أكثر الناس اليوم كذلك فأريد حسم توهم نفعهم ودفعهم الأذى وكفاية المهم في حق آبائهم يوم القيامة فأكدت الجملة المفيدة لنفي ذلك عنهم وعد من جملة المؤكدات التعبير بالمولود لأنه من ولد بغير واسطة بخلاف الولد فإنه عام يشمل ولد الولد فإذا أفادت الجملة أن الولد الأدنى لا يجزي عن والده علم أن من عداه من ولد الولد لا يجزي عن جده من باب أولى
وأعترض بأن هذه التفرقة بين الولد والمولود لم يثبتها أهل اللغة ورد بأن الزمخشري والمطرزي ذكرا ذلك وكفى بهما حجة ثم إن في عموم الولد لولد الولد أيضا مقالا فقد ذهب جمع أنه خاص بالولد الصلبي حقيقة وقال صاحب المغرب يقال للصغير مولود وإن كان الكبير مولودا أيضا لقرب عهده من الولادة كما يقال لبن حليب ورطب جني للطري منهما ووجه أمر التأكيد عليه بأنه إذا كان الصغير لا يجزي حينئذ مع عدم إشتغاله بنفسه لعدم تكليفه في الدنيا فالكبير المشغول بنفسه من باب أولى وهو كما ترى وخصص بعضهم العموم بغير صبيان المسلمين لثبوت الآحاديث بشفاعتهم لوالديهم
وتعقب بأن الشفاعة ليست بقضاء ولو سلم فلتوقفها على القبول يكون القضاء منه عزوجل حقيقة فتدبره إن وعد الله قيل بالثواب والعقاب على تغليب الوعد على الوعيد أو هو بمعناه اللغوي حق ثابت متحقق لا يخلف وعدم إخلاف الوعد بالثواب مما لا كلام فيه وأما عدم إخلاف الوعد بالعقاب ففيه كلام والحق أنه لا يخلف أيضا وعدم تعذيب من يغفر له من العصاة المتوعدين فليس من إخلاف الوعيد في شيء لما أن الوعيد في حقهم كان معلقا بشرط لم يذكر ترهيبا وتخويفا والجملة على هذا تعليل لنفي الجزاء وقيل : المراد إن وعد الله بذلك اليوم حق والجملة مستأنفة إستئنافا بيانيا كأنه لما قيل : ياأيها الناس أتقوا يوما إلخ سأل سائل أن يكون ذلك اليوم فقيل : إن وعدالله حق أي نعم يكون لا محالة لمكان الوعد به فهو جواب على أبلغ وجه وإليه يشير كلام الإمام فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأن تلهيكم بلذاتها عن الطاعات ولا يغرنكم بالله الغرور 33 اي الشيطان كما روى عن إبن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد والضحاك بأن يحملكم على المعاصي بتزيينها لكم ويرجيكم التوبة والمغفرة منه تعالى أو يذكر لكم أنها لا تضر من سبق في علم الله تعالى موته على الإيمان وأن تركها لا ينفع من سبق في العلم موته على الكفر وعن أبي عبيدة كل شيء غرك حتى تعصي الله تعالى وتترك ما أمرك سبحانه به فهو غرور شيطانا أو غيره وإلى ذلك ذهب الراغب قال : الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان
وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل : الدنيا تغر وتضر وتمر وأصل الغرور من غر فلانا إذا اصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد والمراد به الخداع والظاهر أن بالله صلة يغرنكم أي لا يخدعنكم بذكر شيء من شؤنه تعالى يجسركم على معاصيه سبحانه
وجوز أن يكون قسما وفيه بعد وقرأ إبن أبي إسحاق وإبن أبي عبلة ويعقوب تغرنكم بالنون الخفيفة
(21/108)
وقرأ سمال بن حرب وأبو حيوة الغرور بضم الغين وهو مصدر والكلام من باب جد جده ويمكن تفسيره بالشيطان بجعله نفس الغرور مبالغة إن الله عنده علم الساعة إلخ أخرج إبن المنذر عن عكرمة أن رجلا يقال له الوارث بن عمرو جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يامحمد متى قيام الساعة وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب وقد تركت أمرأتي حبلى فما تلد وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت فنزلت هذه الآية وذكر نحوه محيي السنة البغوي والواحدي والثعلبي فهو نظرا إلى سبب النزول جواب لسؤال محقق ونظرا إلى ما قبلها من الآي جواب لسؤال مقدر كأن قائلا يقول : متى هذا اليوم الذي ذكر من شأنه ما ذكر فقيل إن الله ولم يقل أن علم الساعة عند الله مع أنه أخصر لأن أسم الله سبحانه أحق بالتقديم ولأن تقديمه وبناء الخبر عليه يفيد الحصر كما قرره الطيبي مع ما فيه من مزية تكرر الإسناد وتقديم الظرف يفيد الإختصاص أيضا بل لفظ عند كذلك تفيد حفظه بحيث لا يوصل إليه فيفيد الكلام من أوجه إختصاص علم وقت القيامة بالله عزوجل وقوله تعالى : وينزل الغيث أي في إبانه من غير تقديم ولا تأخير في بلد لا يتجاوزه به وبمقدار تقتضيه الحكمة الظاهر أنه عطف على الجملة الظرفية المبنية على الأسم الجليل على عكس قوله تعالى : ونسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع فيكون خبرا مبنيا على الأسم الجليل مثل المعطوف عليه فيفيد الكلام الإختصاص أيضا والمقصود تقييدات التنزيل الراجعة إلى العلم لا محض القدرة على التنزيل إذ لا شبهة فيه فيرجع الإختصاص إلى العلم بزمانه ومكانه ومقداره كما يشير إلى ذلك كلام الكشسف وقال العلامة الطيبي في شرح الكشاف : دلالة هذه الجملة على علم الغيب من حيث دلالة المقدور المحكم المتقن على العلم الشامل وقوله تعالى ويعلم ما في الأرحام أي أذكر أم أنثى أتام أم ناقص وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال عطف على الجملة الظرفية أيضا نظير ما قبله وخولف بين عنده علم الساعة وبين هذا ليدل في الأول على مزيد الإختصاص إعتناء بأمر الساعة ودلالة عل ىشدة خفائها وفي هذا على إستمرار تجدد التعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الإختصاص ولم يراع هذا الأسلوب فيما قبله بأن يقال : ويعلم الغيث مثلا إشارة بإسناد التنزيل إلى الأسم الجليل صريحا إلى عظم شأنه لما فيه من كثرة المنافع لأجناس الخلائق وشيوع الإستدلال بما يترتب عليه من أحياء الأرض على صحة البعث المشار إليه بالساعة في الكتاب العظيم قال تعالى : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فأنظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وقال سبحانه : ويحيى الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون إلى غير ذلك وربما يقال : إن لتنزيل الغيث وإن لم يكن الغيث المعهود دخلا في المبعث بناء على ما ورد من حديث مطر السماء بعد النفخة الأولى مطرا كمني الرجال وقيل : الإختصاص راجع إلى التنزيل وما ترجع إليه تقييداته التي يقتضيها المقام من العلم وفي ذلك رد على القائلين مطرنا بنوء كذا وللإعتناء برد ذلك لما فيه من الشرك في الربوبية عدل عن يعلم إلى ينزل وهو كما ترى وقوله تعالى : وما تدري نفس أي كل نفس برة كانت أو فاجرة كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي ماذا تكسب غدا أي في الزمان المستقبل من خير أو شر وقوله
(21/109)
سبحانه : وما تدري نفس بأي أرض تموت عطف على ما أستظهره صاحب الكشف على قوله تعالى إن الله عنده علم الساعة وأشار إلى أنه لما كان الكلام مسوقا للإختصاص لا لإفادة أصل العلم له تعالى فإنه غير منكر لزم من النفي على سبيل الإستغراق إختصاصه به عزوجل على سبيل الكناية على الوجه الأبلغ وفي العدول عن لفظ العلم إلى لفظ الدراية لما فيها من معنى الختل والحيلة لأن أصل درى رمى الدرية وهي الحلقة التي يقصد رميها الرماة وما يتعلم عليه الطعن والناقة التي يسيبها الصائد ليأنس بها الصيد فيستتر من ورائها فيرميه وفي كل حيلة ولكونها علما بضرب من الختل والحيلة لا تنسب إليه عزوجل إلا إذا أولت بمطلق العلم كما في خبر خمس لا يدريهن إلا الله تعالى وقيل : قد يقال الممنوع نسبتها إليه سبحانه بإنفراده تعالى أما مع غيره تبارك أسمه تغليبا فلا ويفهم من كلام بعضهم صحة النسبة إليه جل وعلا على سبيل المشاكلة كما في قوله :
لا هم لا أدري وأنت الداري
فلا حاجة إلى ما قيل : إنه كلام إعرابي جلف لا يعرف ما يجوز إطلاقه على الله تعالى وما يمتنع فيكون المعنى لا تعرف كل نفس وإن أعملت حيلها ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد وأبعد وقد روعي في هذا الأسلوب الإدماج المذكور ولذا لم يقل : ويعلم ماذا تكسب كل نفس ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت وجوز أن يكون أصل وينزل الغيث وأن ينزل الغيث فحذف أن وأرتفع الفعل كما في قوله :
أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وكذا قوله سبحانه : ويعلم ما في الأرحام والعطف على علم الساعة فكأنه قيل : إن الله عنده علم الساعة وتنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام ودلالة ذلك على إختصاص علم تنزيل الغيث به سبحانه ظاهر لظهور أن المراد بعنده تنزيل الغيث عنده علم تنزيله وإذا عطف ينزل على الساعة كان الإختصاص أظهر لإنسحاب علم المضاف إلى الساعة إلى الإنزال حينئذ فكأنه قيل : إن الله عنده علم الساعة وعلم تنزيل الغيث وهذا العطف لا يكاد يتسنى في ويعلم إذ يكون التقدير وعدنه علم علم ما في الأرحام وليس ذاك بمراد أصلا
وجعل الطيبي وما تدري نفس إلخ معطوفا على خبر إن من حيث المعنى بأن يجعل المنفي مثبتا بأن يقال : ويعلم ماذا تكسب كل نفس غدا ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت وقال : إن مثل ذلك جائز في الكلام إذا روعي نكتة كما في قوله تعالى : أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا فإن العطف فيه بإعتبار رجوع التحريم إلى ضد الإحسان وهي الإساءة وذكر في بيان نكتة العدول عن المثبت إلى المنفي نحو ما ذكرنا آنفا وتعقب ذلك صاحب الكشف بأن عنه مندوحة أي بما ذكر من عطفه على جملة إن الله عنده علم الساعة وقال الإمام : في وجه نظم الجمل ألحق أنه تعالى لما قال : وأخشوا يوما إلخ وذكر سبحانه أنه كائن بقوله عزوجل قائلا : إن وعد الله حق فكأن قائلا يقول : فمتى هذا اليوم فأجيب بأن هذا العلم مما لم يحصل لغيره تعالى وذلك قوله سبحانه : إن الله عنده علم الساعة ثم ذكر جل وعلأ الدليلين اللذين ذكرا مرارا عل البعث أحدهما إحياء الأرض بعد موتها المشار إليه بقوله تعالى : وينزل الغيث والثاني الخلق إبتداء المشار إليه بقوله سبحانه : ويعلم ما في الأرحام فكأنه قال عزوجل : ياأيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله تعالى قادر عليها كما هو سبحانه قادر على إحياء الأرض وعلى
(21/110)
الخلق في الأرحام ثم بعد جل شأنه له أن يعلم ذلك بقوله عزوجل وما تدري إلخ فكأنه قال تعالى : ياأيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها وإن من الأشياء ما هو أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك ومعادك فمما تعلم ماذا تكسب غدا مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة متى يكون والله تعالى ما علمك كسب غدك ولا علمك أين تموت مع أن لك في ذلك فوائد شتى وإنما لم يعلمك لكي تكون في كل وقت بسبب الرزق راجعا إلى الله تعالى متوكلا عليه سبحانه ولكيلا تأمن الموت إذا كنت في غير الأرض التي أعلمك سبحانه أنك تموت فيها فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه وهو وقت القيامة وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمك جل وعلا بذلك على ألسنة أنبيائه تعالى عليهم الصلاة والسلام إنتهى ولا يخفى أن الظاهر على ما ذكره أن يقال : ويخلق ما في الأرحام كما قال سبحانه : وينزل الغيث ووجه العدول عن ذلك إلى ما في النظم الجليل غير ظاهر على أن كلامه بعد لا يخلو عن شيء وكون المراد إختصاص علم هذه الخمس به عزوجل هو الذي تدل عليه الأحاديث والآثار فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة من حديث طويل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل متى الساعة فقال للسائل : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الآية أي إلى آخر السورة كما في بعض الروايات وما وقع عند البخاري في التفسير من قوله : إلى الأرحام تقصير من بعض الرواة وأخرجا أيضا هما وغيرهما عن إبن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : مفتاحوفي رواية مفاتحالغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى لا يعلم أحد ما يكون في غد ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت وما يدري أحد متى يجيء المطر
وأخرج أحمد والبزار وإبن مردويه والروياني والضياء بسند صحيح عن بريدة قال سمعت رسول الله يقول : خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة الآية وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن ما عدا هذه الخمس من المغيبات قد يعلمه غيره عزوجل وإليه ذهب من ذهب أخرج حميد بن زنجويه عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل الظهور فأنكر عليه فقال : إنما الغيب خمس وتلا هذه الآية وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم وفي بعض الأخبار ما يدل على أن علم هذه الخمس لم يؤت للنبي صل الله تعالى عليه وسلم ويلزمه أنه لم يؤت لغيره عليه الصلاة و السلام من باب أولى
أخرج أحمد والطبراني عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي قال : أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس إن الله عنده علم الساعة الآية وأخرج أحمد وأبو يعلى وإبن جرير وإبن المنذر وإبن مردويه عن إبن مسعود قال : أوتي نبيكم مفاتيح كل شيء غير الخمس إن الله عنده علم الساعة الآية
وأخرج إبن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لم يغم على نبيكم إلا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان إن الله عنده علم الساعة إلى آخر السورة وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والبخاري في الأدب عن ربعي بن حراش قال : حدثني رجل من بني عامر أنه قال : يا رسول الله هل بقي من العلم شيء لا تعلمه فقال عليه الصلاة و السلام : لقد علمني الله تعالى خيرا وإن من العلم مالا يعلمه إلا الله تعالى الخمس إن الله عنده علم الساعة اية وصرح بعضهم بإستئثار الله تعالى بهن أخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية : خمس من الغيب أستأثر الله تعالى بهن فلم يطلع عليهن ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا إن الله عنده علم الساعة
(21/111)
ولا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة ولا في أي شهر أليلا أم نهارا وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث أليلا أم نهارا ويعلم ما في الأرحام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكرا أم أنثى أحمر أو أسود ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا أخيرا أم شرا وما تدري بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في بر في سهل أم في جبل والذي ينبغي أن يعلم أن كل غيب لا يعلمه إلا الله عزوجل وليس المغيبات محصورة بهذه الخمس وإنما خصت بالذكر لوقوع السؤال عنها أو لأنها كثيرا ما تشتاق النفوس إلى العلم بها وقال القسطلاني : ذكر خمسا وإن كان الغيب لا يتناهى لأن العدد لا ينفي زائدا عليه ولأن هذه الخمسة هي التي كانوا يدعون علمها إنتهى وفي التعليل الأخير نظر لا يخفى وأنه يجوز أن يطلع الله تعالى بعض أصفيائه على إحدى هذه الخمس ويرزقه عزوجل العلم بذلك في الجملة وعلمها الخاص به جل وعلا ما كان على وجه الإحاطة والشمول لأحوال كل منها وتفصيله على الوجه الأتم وفي شرح المناوي الكبير للجامع الصغير في الكلام على حديث بريدة السابق خمس لا يعلمهن إلا الله على وجه الإحاطة والشمول كليا وجزئيا فلا ينافيه إطلاع الله تعالى بعض خواصه على بعض المغيبات حتى من هذه الخمس لأنها جزئيات معدودة وإنكار المعتزلة لذلك مكابرة إنتهى ويعلم مما ذكرنا وجه الجمع بين الأخبار الدالة على إستئثار الله تعالى بعلم ذلك وبين ما يدل على خلافه كبعض أخباراته عليه الصلاة و السلام بالمغيبات التي هي من هذا القبيل يعلم ذلك من راجع نحو الشفاء والمواهب اللدنية مما ذكر فيه معجزاته وأخباره عليه الصلاة و السلام بالمغيبات وذكر القسطلاني أنه عزوجل إذا أمر بالغيث وسوقه إلى ما شاء من الأماكن علمته الملائكة الموكلون به ومن شاء سبحانه من خلقه عزوجل وكذا إذا أراد تبارك وتعالى خلق شخص في رحم يعلم سبحانه الملك الموكل بالرحم بما يريد جل وعلا كما يدل عليه ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي قال إن الله تعالى وكل بالرحم ملكا يقول : يارب نطفة يارب علقة يارب مضغة فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه قال : أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق والأجل فيكتب في بطن أمه فحينئذ يعلم بذلك الملك ومن شاء الله تعالى من خلقه عزوجل وهذا لا ينافي الإختصاص والإستئثار بعلم المذكورات بناء على ما سمعت منا من أن المراد بالعلم الذي أستأثر سبحانه به العلم الكامل بأحوال كل على التفصيل فمما يعلم به الملك ويطلع عليه بعض الخواص يجوز أن يكون دون ذلك العلم بل هو كذلك في الواقع بلا شبهة وقد يقال فيما يحصل للأولياء من العلم بشيء مما ذكر إنه ليس بعلم يقيني قال : على القاريءفي شرح الشفا : الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء لكن علمهم لا يكون يقينيا وإلهامهم لا يفيد إلا أمرا ظنيا ومثل هذا عندي بل هو دونه بمراحل النجومي ونحوه بواسطة أمارات عنده بنزول الغيث وذكورة الحمل أو أنوثته أو نحو ذلك ولا أرى كفر من يدعي مثل هذا العلم فإنه ظن عن أمر عادي وقد نقل العسقلاني في فتح الباري عن القرطبي أنه قال : من إدعى علم شيء من الخمس غير مسنده إلى رسول الله كان كاذبا في دعواه وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم وعليه فقول القسطلاني من إدعى علم شيء منها فقد كفر بالقرآن العظيم ينبغي أن يحمل العلم فيه على نحو العلم الذي أستأثر الله تعالى به دون مطلق العلم الشامل للظن وما يشبهه وبعد هذا كله أن أمر الساعة أخفى الأمور المذكورة وأن ما أطلع الله تعال ىعليه نبيه من وقت قيامها في غاية الإجمال وإن كان أتم من علم غيره من البشر
وقوله عليه الصلاة و السلام : بعثت أنا والساعة كهاتين لا يدل على أكثر من العلم الإجمالي بوقتها ولا أظن أن خواص
(21/112)
الملائكة عليهم السلام أعلم منه صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ويؤيد ظني ما رواه الحميدي في نوادره بالسند عن الشعبي قال : سأل عيسى بن مريم جبريل عليهما السلام عن الساعة فأنتفض بأجنحته وقال : ما المسؤول بأعلم من السائل والمراد التساوي في العلم بأن الله تعالى أستأثر بعلمها على الوجه ألأكمل ويرشد إلى العلم الإجمالي بها ذكر أشراطها كما لا يخفى ويجوز أن يكون الله تعالى قد أطلع حبيبه عليه الصلاة و السلام على وقت قيامها على وجه كامل لكن لا على وجه يحاكي علمه تعالى به إلا أنه سبحانه أوجب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم كتمه لحكمة ويكون ذلك من خواصه عليه الصلاة و السلام وليس عندي ما يفيد الجزم بذلك هذا وخص سبحانه المكان في قوله تعالى : وما تدري نفس بأي أرض تموت ليعرف الزمان من باب أولى فإن الأول في وسع النفس في الجملة بخلاف الثاني وأخرج أحمد وجماعة عن أبي غرة الهذلي قال : قال رسول الله : إذا أراد الله تعالى قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ عليه الصلاة و السلام وما تدري نفس بأي أرض تموت وأخرج إبن أبي شيبة في المصنف عن خيثمة أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم ألنطر إليه فقال الرجل : من هذا قال : ملك الموت فقال : كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك : كان دوام نظري إليه تعجبا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك
و تدري في الموضعين معلقة فالجملة من قوله تعالى : ماذا تكسب في موضع المفعول ويجوز أن تكون ماذا كلها موصولا منصوب المحل بتدري كأنه قيل : وما تدري نفس الشيء الذي تكسبه غدا و بأي متعلق بتموت والباء ظرفية والجملة في موضع نصب بتدري
وقرأ غير واحد من السبعة ينزل من الإنزال وقرأموسى الأسواري وإبن أبي عبلة بأية أرض بتاء التأنيث لإضافتها إلى المونث وهي لغة قليلة فيها كما أن كلا إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث نادرا فيقال : كلتهن فعلن ذلك فليعلم والله عزوجل أعلم إن الله عليم مبالغ في العلم فلا يعزب عن علمه سبحانه شيء من الأشياء خبير 43 يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها فالجمع بين الوصفين للإشارة إلى التسوية بين علم الظاهر والباطن عنده عزوجل والجملة على ما قيل في موضع التعليل لعلمه سبحانه بما ذكر وقيل : جواب سؤال نشأ من نفي دراية الأنفس ماذا تكسب غدا وبأي أرض تموت كأنه قيل : فمن يعلم ذلك فقيل : إن الله عليم خبير وهو جواب بأن الله تعالى يعلم ذلك وزيادة ولا يخفى أنه إذا كانت هذه الجملة من تتمة الجملتين اللتين قبلها كانت دلالة الكلام على إنحصار العلم بالأمرين اللذين نفي العلم بهما عن كل نفس ظاهرة جدا فتأمل ذاك والله عزوجل يتولى هداك
ومن باب الإشارة في السورة الكريمة ألم إشارة إلى آلائه تعالى ولطفه جل شأنه ومجده عزوجل الذين يقيمون الصلاة بحضور القلب والإعراض عن السوي وهي صلاة خواص الخواص وأما صلاة الخواص فبنفي الخطرات الردية والإرادات الدنيوية ولا يضر فيها طلب الجنة ونحوه وأما صلاة العوام فما يفعله أكثر الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ويؤتون الزكاة ببذل الوجود للملك المعبود لنيل المقصود وهي زكاة الأخص وزكاة الخاصة ببذل المال كله لصفية قلوبهم عن صدإ محبة الدنيا وزكاة العامة ببذل القدر المعروف من المال المعلوم على الوجه المشروع المشهور لتزكية نفوسهم عن نجاسة البخل ومن
(21/113)
الناس من يشتري لهو الحديث هو ما يشغل عن الله تعالى ذكره ويحجب عنه عزوجل إستماعه وأما الفناء فهو عند كثير منهم أقسام منها ما هو من لهو الحديث ونقل بعضهم عن الجنيد قدس سره أنه قال : السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم وعن أبي بكر الكتاني سماع العوام على متابعة الطبع وسماع المريدين رغبة ورهبة وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعم وسماع العارفين على المشاهدة وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان ولكل من هؤلاء مصدر ومقام وذكروا أن من القوم من يسمع في الله ولله وبالله ومن الله جل وعلا ولا يسمع بالسمع الإنساني بل يسمع بالسمع الرباني كما في الحديث القدسي كنت سمعه الذي يسمع به وقالوا : إنما حرم اللهو لكونه لهوا فمن لا يكون لهوا بالنسبة إليه لا يحرم عليه إذ علة الحرمة في حقه منتفية والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ويلزمهم القول بحل شرب المسكر لمن لا يسكره لا سيما لمن يزيده نشاطا للعبادة مع ذلك ومن زنادقة القلندرية من يقول بحل الخمر والحشيشة ونحوها من المسكرات المحرمة بلا خلاف زاعمين أن إستعمال ذلك يفتح عليهم أبواب الكشوف وبعض الجهلة الذين لعب بهم الشيطان يطلبون منهم المدد في ذلك الحال قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون ولقد آتينا لقمان الحكمة قيل : هي إدراك خطاب الحق بوصف الإلهام وذكروا أن الحكمة موهبة الأولياء كما أن الوحي موهبة الأنبياء عليهم السلام فكل ليس بكسبي إلا أن للكسب مدخلا ما في الحكمة فقد ورد من أخلص لله تعالى أربعين صبا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه والحكمة التي يزعم الفلاسفة أنها حكمة ليست بحكمة إذ هي من نتائج الفكر ويؤتاها المؤمن والكافر وقلما تسلم من شوائب آفات الوهم ولهذا وقع الإختلاف العظيم بين أهلها وعدها بعض الصوفية من لهو الحديث ولم يبعد في ذلك عن الصواب وأشارت قصة لقمان إلى التوحيد ومقام جمع الجمع وعين الجمع وإتباع سبيل الكاملين والإعراض عن السوي وتكميل الغير والصبر على الشدائد والتواضع للناس وحسن المماشاة والمعاملة والسيرة وترك التماوت في المشي وترك رفع الصوت وقيل : الحمير في قوله تعالى : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير هم الصوفية الذين يتكلمون بلسان المعرفة قبل أن يؤذن لهم وطبق بعضهم جميع ما في القصة على ما في الأنفس وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة قال الجنيد : النعم الظاهرة حسن الأخلاق والنعم الباطنة أنواع المعارف وقيل : على قراءة الأفراد النعمة الظاهرة إتباع ظاهر العلم والباطنة طلب الحقيقة في الإتباع وقيل : النعمة الظاهرة نفس بلا زلة والباطنة قلب بلا غفلة
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير يشير إلى أهل الجدل من الفلاسفة فإنهم يجادلون في ذات الله تعالى وصفاته عزوجل كذلك عند التحقيق لأنهم لا يعتبرون كلام الرسل عليهم الصلاة والسلام ولا الكتب المنزلة من السماء وأكثر علومهم مشوب بآفة الوهم ومع هذا فشؤون الله جل وعلا طور ما وراء طور العقل
هيهات أن تصطاد عنقاء البقا بلعابهن عناكب الأفكار وأبعد من محدب الفلك التاسع حصول علم بالله عزوجل وبصفاته جل شأنه يعتد به بدون نور إلهي يستضيء العقل به وعقولهم في ظلمات بعضها فوق بعض وقد سدت أبواب الوصول إلا على متبع للرسول قال بعضهم مخاطبا لحضرة صاحب الرسالة عليه الصلاة و السلام : وأنت باب الله أي أمريء أتاه من غيرك لا يدخل
(21/114)
ذلك بأن الله هو الحق إلى قوله سبحانه وأن الله هو العلي الكبير فيه إشارة إلى أنه سبحانه تمام وفوق التمام والمراد بالأول من حصل له كل ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى : هو الحق والمراد بالثاني من حصل له ذلك وحصل لما عداه ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى : هو العلي الكبير ووراء هذين الشيئين ناقص وهو ما ليس له ما ينبغي كالصبي والمريض والأعمى ومكتف وهو من أعطى ما تندفع به حاجته في وقته كالإنسان الذي له من الآلات ما تندفع به حاجته في وقته لكنها في معرض التحلل والزوال إن الله عنده علم الساعة الآية ذكر غير واحد حكايات عن الأولياء متضمنة لإطلاع الله تعالى إياهم على ما عدا علم الساعة من الخمس وقد علمت الكلام في ذلك وأغرب ما رأيت ما ذكره الشعراني عن بعضهم أنه كان يبيع المطر فيمطر على أرض من يشتري منه متى شاء ومن له عقل مستقيم لا يقبل مثل هذه الحكاية وكم للقصاص أمثالها من رواية نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من إعتقاد خرافات لا أصل لها وهو سبحانه ولي العصمة والتوفيق
سورة السجدة
23 - وتسمى المضاجع أيضا كما في الإتقان وفي مجمع البيان إنها كما تسمى سورة السجدة تسمى سجدة لقمان لئلا تلتبس بحم السجدة وأطلق القول بمكيتها أخرج إبن الضريس وإبن مردويه والبيهقي في الدلائل عن إبن عباس إنها نزلت بمكة وأخرج إبن مردويه عن عبدالله بن الزبير مثله وجاء في رواية أخرى عن الحبر إستثناء أخرج النحاس عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : نزلت سورة السجدة بمكة سوى ثلاث آيات أفمن كان مؤمنا إلى تمام الآيات الثلاث وروى مثله عن مجاهد والكلبي وأستثنى بعضهم أيضا آيتين أخريين وهما قوله تعالى تتجافى جنوبهم إلخ وأستدل عليه ببعض الروايات في سبب النزول وستطلع على ذلك إن شاء الله تعالى وأستبعد إستثناؤهما لشدة إرتباطهما بما قبلهما وهي تسع وعشرون آية في البصرى وثلاثون في الباقية ووجه مناسبتها لما قبلها إشتمال كل على دلائل الألوهية وفي البحر لما ذكر سبحانه فيما قبل دلائل التوحيد وهو الأصل الأول ثم ذكر جل وعلا المعاد وهو الأصل الثاني وختم جل شأنه به السورة ذكر تعالى في بدء هذه السورة الأصل الثالث وهو النبوة وقال الجلال السيوطي في وجه الإتصال بما قبلها : إنها شرح لمفاتح الغيب الخمسة التي ذكرت في خاتمة ما قبل فقوله تعالى ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون شرح قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة ولذلك عقب بقوله سبحانه : عالم الغيب والشهادة وقوله تعالى : أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز شرح قوله سبحانه : وينزل الغيث وقوله تبارك وتعالى : الذي أحسن كل شيء خلقه الآيات شرح قوله جل جلاله : ويعلم ما في الأرحام وقوله عزوجل : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها شرح قوله تعالى : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وقوله جل وعلا : أئذا ضللنا في الأرض إلى قوله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون شرح قوله سبحانه : وما تدري نفس بأي أرض تموت ولا يخلو عن نظر وجاء في فضلها أخبار كثيرة أخرج أبو عبيد وإبن الضريس من مرسل المسيب بن رافع أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : تجيء ألم تنزيلوفي روايةألم السجدة يوم القيامة لها جناحان تظل صاحبها وتقول : لا سبيل عليه لا سبيل عليه
وأخرج الدارمي والترمذي وإبن مردويه عن طاوس قال : ألم السجدة وتبارك الذي بيده الملك تفضلان
(21/115)
على كل سورة في القرآن بستين حسنة وفي رواية عن إبن عمر تفضلان ستين درجة على غيرهما من سور القرآن
وأخرج أبو عبيد في فضائله وأحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وإبن مردويه عن جابر قال : كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك
وأخرج إبن مردويه عن إبن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قرأ تبارك الذي بيده الملك وألم تنزيل السجدة بين المغرب والعشاء الآخرة فكأنما قام ليلة القدر
وروى نحوه هو والثعلبي والواحدي من حديث أبي بن كعب والثعلبي دونهم من حديث إبن عباس وتعقب ذلك الشيخ ولي الدين قائلا : لم أقف عليه وهذه الروايات كلها موضوعة لكن رأيت في الدر المنثور أن الخرائطي أخرج في مكارم الأخلاق من طريق حاتم بن محمد عن طاوس أنه قال ما على الأرض رجل يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك في ليلة إلا كتب له مثل أجر ليلة القدر قال حاتم : فذكرت ذلك لعطاء فقال : صدق طاوس والله ما تركتهن منذ سمعت بهن إلا أن أكون مريضا ولم أقف على ما قيل في هذا الخبر صحة وضعفا ووضعا وفيه أخبار كثيرة في فضلها غير هذا الله تعالى أعلم بحالها وكان عليه الصلاة و السلام يقرؤها وهل أتى في صلاة فجر الجمعة وهو مشعر بفضلها والحديث في ذلك صحيح لا مقال فيه
أخرج إبن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي وإبن ماجه عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان وأخرج أبو داؤد وهؤلاء إلا البخاري نحوه عن إبن عباس
بسم الله الرحمن الرحيم ألم 1 إن جعل أسما للسورة أو القرآن فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا ألم وقوله تعالى : تنزيل الكتاب خبر بعد خبر على أنه مصدر باق على معناه لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أو هو مؤل بأسم المفعول أي منزل وإضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى الموصوف أو بيانية بمعنى من وقوله سبحانه : لا ريب فيه خبر ثالث وقوله تعالى : من رب العالمين 2 خبر رابع وجوز أن يكون ألم مبتدأ وما بعده أخبار له أي المسمى بألم الكتاب المنزل لا ريب فيه كائن من رب العالمين وتعقب بأن ما يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الإنتساب إليه وإذ لا عهد بالنسبة قبل فحقها الإخبار بها
وقال أبو البقاء : ألم يجوز أن يكون مبتدأ و تنزيل بمعنى منزل خبره و لا ريب فيه حال من الكتاب والعامل فيها المضاف وهي حال مؤكدة و من رب متعلق بتنزيل ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف هو حال من الضمير المجرور في فيه والعامل فيها الظرف لا ريب لأنه هنا مبني وفيه ما سمعت وهذا التعلق يجوز أيضا على تقدير أن يكون ألم خبر مبتدأ محذوف وما بعده أخبارا لذلك المحذوف وإن جعل ألم مسرودا على نمط التعديد فلا محل له من الإعراب وفي إعراب ما بعد عدة أوجه قال أبو البقاء : يجوز أن يكون تنزيل مبتدأ و لا ريب فيه الخبر و من رب حال كما تقدم ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل لأن المصدر قد أخبر عنه ويجوز أن يكون الخبر من رب و لا ريب حالا من الكتاب وأن يكون خبرا بعد خبر إنتهى
ووجه منع التعلق بالمصدر بعد ما أخبر عنه أنه عامل ضعيف فلا يتعدى عمله لما بعد الخبر وعن إلتزام حديثالتوسع في الظرف سعة هنا أو أن المتعلق من تمامه والأسم لا يخبر عنه قبل تمامه وجوز إبن عطية
(21/116)
تعلق من رب بريب وفيه أنه بعيد عن المعنى المقصود وجوز الحوفي كون تنزيل خبر مبتدأ محذوف أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب وقال أبو حيان : الذي أختاره أن يكون تنزيل مبتدأ ولا ريب فيه إعتراض لا محل له من الإعراب و من رب العالمين الخبر وضمير فيه راجع لمضمون الجملة أعني كونه منزلا من رب العالمين لا للتنزيل ولا للكتاب كأنه قيل : لا ريب في ذلك أي في كونه منزلا من رب العالمين وهذا ما أعتمد عليه الزمخشري وذكر أنه الوجه ويشهد لوجاهته قوله تعالى : أم يقولون إفتراه فإن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين أي فالأنسب أن يكون نفي الريب عما أنكروه وهو كونه من رب العالمين جل شأنه وقيل : أي فلا بد من أن يكون مورده حكما مقصودا بالإفادة لا قيد للحكم بنفي الريب عنه وفيه بحث وكذا قوله سبحانه : بل هو الحق من ربك فإنه تقرير لما قبله فيكون مثله في الشهادة ثم قال في نظم الكلام على ذلك : إنه أسلوب صحيح محكم أثبت سبحانه أولا أن تنزيله من رب العالمين وإن ذلك مما لا ريب فيه أي لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله تعالى وهو أبعد شيء منه لأن نافي الريب ومميطه معه لا ينفك أصلا عنه وهو كونه معجزا للبشر ثم أضرب جل وعلا عن ذلك إلى قوله تعالى : أم يقولون إفتراه لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة إنكارا لقولهم وتعجيبا منه لظهور عجز بلغائهم عن مثل أقصر سورة منه فهو إما قول متعنت مكابر أو جاهل عميت منه النواظر ثم أضرب سبحانه عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك وفي الكشف أن الزمخشري بين وجاهة كون تنزيل الكتاب مبتدأ و لا ريب فيه إعتراضا و من رب العالمين خبرا بحسن موقع الإعتراض إذ ذاك ثم حسن الإنكار على الزاعم أنه مفترى مع وجود نافي الريب ومميطه ثم إثبات ما هو المقصود وعدم الإلتفات إلى شغب هؤلاء المكابرة بعد التلخيص البليغ بقوله تعالى : بل هو الحق من ربك وما في إيثار لفظ الحق وتعريفه تعريف الجنس من الحسن ويقرب عندي من هذا الوجه جعل تنزيل مبتدأ وجملة لا ريب فيه في موضع الحال من الكتاب و من رب خبر فتدبر ولا تغفل وزعم أبو عبيدة أن أم بمعنى بل الإنتقالية وقال : إن هذا خروج من حديث إلى حديث وليس بشيء
والظاهر أن من ربك في موضع الحال أي كائنا من ربك وقيل : يجوز جعله خبرا ثانيا وإضافة الرب إلى العالمين أولا ثم إلى ضمير سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم ثانيا بعد ما فيه من حسن التخلص إلى إثبات النبوة وتعظيم شأنه علا شأنه فيه إنه عليه الصلاة و السلام العبد الجامع الذي جمع فيه ما فرق في العالم بالأسر ووردوه على أسلوب الترقي دل على أن جمعيته صلى الله تعالى عليه وسلم أتم مما لكل العالم وحق له ذلك صلوات الله تعالى وسلامه عليه لتنذر قوما ما آتاهم من نذير من قبلك بيان للمقصود من تنزيله فقيل هو متعلق بتنزيل وقيل : بمحذوف أي أنزله لتنذر إلخ وقيل : بما تعلق به من ربك وقوما مفعول أول لتنذر والمفعول الثاني محذوف أي العقاب و ما نافية كما هو الظاهر و من الأولى صلة ونذير فاعل أتاهم ويطلق على الرسول وهو المشهور وعلى ما يعمه والعالم الذي ينذر عنه عزوجل قيل : وهو المراد هنا كما في قوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
وجوز أن يكون النذير ههنا مصدرا بمعنى الإنذار و من قبلك أي من قبل إنذارك أو من زمانك متعلق يأتي والجملة في موضع الصفة لقوما والمراد بهم قريش على ما ذهب إليه غير واحد قال في الكشف : الظاهر
(21/117)
أنه لم يبعث إليهم رسول منهم قبل رسول الله وكانوا ملزمين بشرائع الرسل من قبل وإن كانوا مقصرين ف يالبحث عنها لا سيما دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إن قلنا إن دعوتي موسى وعيسى عليهما السلام لم تعما وهو الأظهر وقد تقدم لك القول بإنقطاع حكم نبوة كل نبي ما عدا نبينا بعد موته فلا يكلف أحد مطلقا يجيء بعده بإتباعه والقول بالإنقطاع إلا بالنسبة لمن كان من ذريته والظاهر أن قريشا كانوا ملزمين بملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وأنهم لم يزالوا على ذلك إلى أن فشت في العرب عبادة الأصنام التي أحدثها فيهم عمرو الخزاعي لعنه الله تعالى فلم يبق منهم على الملة الحنيفية إلا قليل بل أقل من القليل فهم داخلون في عموم قوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير فإنه عام للرسول وللعالم الذي ينذر كذا قيل وأستشكل مع ما هنا وأجيب بأن المراد هنا ما أتاهم نذير منهم من قبلك وإليه يشير كلام الكشف وهناك إلا خلا فيها نذير منها أو من غيرها أو يحمل النذير فيه على الرسول وفي تلك الآية على الأعم قال أبو حيان : في تفسير سورة الملائكة إن الدعاء إلى الله تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وأما بنقل إلى وقت بعثة محمد والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم وآباءهم الأقربين وإما أن النذارة أنقطعت فلا نعم لما شرعت آثارها تندرس بعث محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات فإن ذلك على حسب الفرض لا أنه واقع فلا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت وفي القلب منه شيء ومقتضاه أن المنفى ههنا إتيان نذير مباشر أي نبي من الأنبياء عليهم السلام قريشا الذين كانوا في عصره عليه الصلاة و السلام قبله وأنه كان فيهم من ينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده بالنقل أي عن نبي كان يدعو إلى ذلك والأول مما لا ينبغي أن يختلف فيه إثنان بل لا ينبغي أن يتوقف فيه إنسان والثاني مظنون التحقق في زيد بن عمرو بن نفيل العدوي والد سعيد أحد العشرة فإنه عاصر النبي وأجتمع وآمن به قبل بعثته عليه الصلاة و السلام ولم يدركها إذ قد مات وقريش تبني الكعبة وكان ذلك قبل البعثة بخمس سنين وكان على ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فقد صح عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول : يامعشر قريش والذي نفسي بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري وفي بعض طرق الخبر عنه أيضا بزيادة وكان يقول : اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته وذكر موسى بن عقبة في المغازي سمعت من أرضي يحدث أن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبحهم لغير الله تعالى وصح أنه لم يأكل من ذبائح المشركين التي أهل بها لغير الله وأخرج الطيالسي في مسنده عن إبنه سعيد أنه قال : قلت للنبي : إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك أفأستغفر له : قال نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده ولا يبعد ممن كان هذا شأنه الإنذار والدعوة إلى عبادة الله تعالى بل من أنصف يرى تضمن كلامه الذي حكته أسماء وأنكاره على قريش الذبح لغير الله تعالى الذي ذكره الطيالسي الدعوة إلى دين إبراهيم عليه السلام وعبادة الله سبحانه وحده وكذا تضمن كلامه النقل أيضا ويعلم مما نقلناه أن الرجل رضي الله تعالى عنه لم يكن نبيا وهو ظاهر وزعم بعضهم أنه كان نبيا وأستدل على ذلك بأنه كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول : هلموا إلى فإنه لم يبق على دين الخليل غيري وصحة ذلك ممنوعة وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على المقصود كما لا يخفى على من له أدنى ذوق ومثل زيد رضي الله تعالى عنه قس بن ساعدة ابادي فإنه رضي الله تعالى عنه كان مؤمنا بالله عزوجل داعيا إلى عبادته سبحانه وحده
(21/118)
وعاصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومات قبل البعثة على الملة الحنيفية وكان من المعمرين ذكر السجستاني أنه عاش ثلاثمائة وثمانين سنة وقال المرزباني : ذكر كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة وذكروا في شأنه أخبارا كثيرة لكن قال الحافظ إبن حجر في كتابه الإصابة قد أفرد بعض الرواة طريق قس وفيه شعره وخطبته هو في الطوالات للطبراني وغيرها وطرقه كلها ضعيفة وعد منها ما عد فليراجع ثم إن الإشكال إنما يتوهم لو أريد بقريش جميع أولاد قصي أو فهر أو النضر أو اليأس أو مضرا ما إذا أريد من كان منهم حين بعث فلا كما لا يخفى على المتأمل فتأمل وقيل : المراد بهم العرب قريش وغيرهم ولم يأت المعاصرين منهم رسول الله نذير من الأنبياء عليهم السلام غيره وكان فيهم من ينذر ويدعو إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وحده وليس بنبي على ما سمعت آنفا وأما العرب غير المعاصرين فلم يأتهم من عهد إسماعيل عليه السلام نبي منهم بل لم يرسل إليهم نبي مطلقا وموسى وعيسى وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا إليهم على الأظهر وخالد بن سنان العبسي عند الأكثرين ليس بنبي وخبر ورود بنت له عجوز على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لها : مرحبا بإبنة نبي ضيعه قومه ونحوه من الأخبار مما للحفاظ فيه مقال لا يصلح معه للإستدلال وفي شروح الشفاء والإصابة للحافظ إبن حجر بعض الكلام في ذلك وقيل : المراد بهم أهل الفترة من العرب وغيرهم حتى أهل الكتاب والمعنى ما أتاهم نذير من قبلك بعد الضلال الذي حدث فيهم
هذا وكأني بك تحمل النذير هنا على الرسول الذي ينذر عن الله عزوجل وكذا في قوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ليوافق قوله تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله وأظن أنك تجعل التنوين في أمة للتعظيم أي وأن من أمة جليلة معتني بأمرها الإخلاء فيها نذير ولقد بعثنا في كل أمة جليلة معتني بأمرها رسولا أو تعتبر العرب أمة وبني إسرائيل أمة ونحو ذلك أمة دون أهل عصر واحد وتحمل من لم يأتهم نذير على جماعة من أمة لم يأتهم بخصوصهم نذير ومما يستأنس به في ذلك أنه حين ينفي إتيان النذير ينفي عن قوم ونحوه لا عن أمة فليتأمل وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام وجوز كون ما موصولة وقعت مفعولا ثانيا لتنذر و من نذير عليه متعلق بأتاهم أي لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك أي على لسان نذير من قبلك وأختاره أبو حيان وعليه لا مجال لتوهم الإشكال لكن لا يخفى أنه خلاف المتبادر الذي عليه أكثر المفسرين والإقتصار على الإنذار في بيان الحكمة لأنه الذي يقتضيه قولهم : إفتراه دون التبشير لعلهم يهتدون 3 أي لأجل أن يهتدوا بإنذارك إياهم أو راجيا لإهتدائهم وجعل الترجي مستعارا للإرادة منسوبا إليه عزوجل نزغة إعتزالية : الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم أستوى على العرش مر بيانه فيما سلف على مذهبي السلف والخلف ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أي ما لكم مجاوزين الله عزوجل أي رضاه سبحانه وطاعته تعالى ولي ولا شفيع أي لا ينفعكم هذان من الخلق عنده سبحانه دون رضاه جل جلاله فمن دونه حال من مجرور لكم والعامل الجار أو متعلقه وعلى هذا المعنى لا دليل في الخطاب على أنه تعالى شفيع دون غيره ليقال : كيف ذاك وتعالى جل شأنه أن يكون شفيعا وكفى في ذلك رده على الأعرابي حيث قال : أنا نستشفع بالله تعالى إليك وقد يقال : الممتنع إطلاق الشفيع عليه تعالى بمعناه الحقيقي
(21/119)
وأما إطلاقه عليه سبحانه بمعنى الناصر مجازا فليس بممتنع ويجوز أن يعتبر ذلك هنا وحينئذ يجوز أن يكون من دونه حالا مما بعد قدم عليه لأنه نكرة ودون بمعنى غير والمعنى مالكم ولي ولا ناصر غير الله تعالى ويجوز أن يكون حالا من المجرور كما في الوجه السابق والمعنى مالكم إذا جاوزتم ولايته ونصرته جل وعلا ولي ولا ناصر ويظهر لي أن التعبير بالشفيع هنا من قبيل المشاكلة التقديرية لما أن المشركين المنذرين كثيرا ما كانوا يقولون في آلهتهم هؤلاء شفعاؤنا ويزعمون أن كل واحد منها شفيع لهم أفلا تتذكرون 4 أي ألا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها فالإنكار على الأول متوجه إلى عدم السماع وعدم التذكر معا وعلى الثاني إلى عدم التذكر مع تحقق ما يوجبه من السماع
يدبر الأمر قيل : أي أمر الدنيا وشئونها وأصل التدبير النظر في دابر الأمر والتفكر فيه ليجيء محمود العاقبة وهو في حقه عزوجل مجاز عن إرادة الشيء على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة والفعل مضمن معنى الإنزال والجار أن في قوله تعالى : من السماء إلى الأرض متعلقان به ومن إبتدائية وإلى إنتهائية أي يريده تعالى على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة منزلا له من السماء إلى الأرض وإنزاله من السماء بإعتبار أسبابه فإن أسبابه سماوية من الملائكة عليهم السلام وغيرهم ثم يعرج أي يصعد ويرتفع ذلك الأمر يعد تدبيره إليه عزوجل وهذا العروج مجاز عن ثبوته في علمه تعالى أي تعلق علمه سبحانه به تعلقا تنجيزيا بأن يعلمه جل وعلا موجودا بالفعل أو عن كتابته في صحف الملائكة عليهم السلام القائمين بأمره عزوجل موجودا كذلك في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون 5 أي في برهة متطاولة من الزمان فليس المراد حقيقة العدد وعبر عن المدة المتطاولة بالألف لأنها منتهى المراتب وأقصى الغايات وليس مرتبة فوقها إلا ما يتفرع منها من أعداد مراتبها والفعلان متنازعان في الجار والمجرور وقد أعمل الثاني منهما فيه فتفيد الآية طول إمتداد الزمان بين تعلق إرادته سبحانه بوجود الحوادث في أوقاتها متقنة مراعي فيها الحكمة وبين وجودها كذلك وظاهرها يقتضي أن وجودها لا يتوقف على تعلق الإرادة مرة أخرى بل يكفي فيه التعلق السابق وقيل : في يوم متعلق بيعرج وليس الفعلان متنازعين فيه والمراد بعروج الأمر إليه بعد تدبيره سبحانه إياه وصول خبر وجوده بالفعل كما دبر جل وعلا بواسطة الملك وعرضه ذلك في نضرة قد أعدها سبحانه للإختبار بما هو جل جلاله أعلم به إظهارا لكمال عظمته تبارك وتعالى وعظيم سلطنته جلت سلطنته وهذا كعرض الملائكة عليهم السلام أعمال العباد الوارد في الأخبار وألف سنة على حقيقتها وهي مسافة ما بين الأرض ومحدب السماء الدنيا بالسير المعهود للبشر فإن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام وثخن السماء كذلك كما جاء في الأخبار الصحيحة والملك يقطع ذلك في زمان يسير فالكلام على التشبيه فكأنه قيل : يريد تعالى الأمر متقنا مراعي فيه الحكمة بأسباب سماوية نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض فيكون كما أراد سبحانه فيعرج ذلك الأمر مع الملك ويرتفع خبره إلى حضرته سبحانه في زمان هو كألف سنة مما تعدون وقيل : العروج إليه تعالى صعود خبر الأمر مع الملك إليه عزوجل كما هو مروى عن إبن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والضحاك والفعلان متنازعان في يوم والمراد أنه زمان تدبير الأمر لو دبره البشر وزمان العروج لو كان منهم أيضا
(21/120)
وإلا فزمان التدبير والعروج يسير وقيل : المعنى يدبر أمر الدنيا بإظهاره في اللوح المحفوظ فينزل الملك الموكل به من السماء إلى الأرض ثم يرجع الملك أو الأمر مع الملك إليه تعالى في زمان هو نظرا للنزول والعروج كألف سنة مما تعدون وأريد به مقدار ما بين الأرض ومقعر سماء الدنيا ذهبا وإيابا والظاهر أن يدبر عليه مضمن معنى الإنزال والجاران متعلقان به لا بفعل محذوف أي فينزل به الملك من السماء إلى الأرض كما قيل : وزعم بعضهم أن ضمير إليه للسماء وهي قد تذكر كما في قوله تعالى : السماء منفطر به وقيل : المعنى يدبر سبحانه أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام الرب جل شأنه وهو ألف سنة كما قال سبحانه : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ثم يصير إليه تعالى ويثبت عنده عزوجل ويكتب في صحف ملائكته جل وعلا كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ثم يدبر أيضا ليوم آخر وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة ويشير إلى هذا ما روى عن مجاهد قال : إنه تعالى يدبر ويلقى إلى الملائكة أمور ألف سنة من سنيننا وهو اليوم عنده تعالى فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال منه ولا تضمين في يدبر والعروج إليه تعالى مجاز عن ثبوته وكتبه في صحف الملائكة و ألف سنة على ظاهره و في يوم يتعلق بالفعلين وأعمل الثاني كأنه قيل : يدبر الأمر ليوم مقداره كذا ثم يعرج إليه تعالى فيه كما تقول قصدت ونظرت في الكتاب أي قصدت إلى الكتاب ونظرت فيه ولا يمنع إختلاف الصلتين من التنازع وتكرار التدبير إلى يوم القيامة يدل عليه العدول إلى المضارع مع أن الأمر ماض كأنه قيل : يجدد هذا الأمر مستمرا وقيل : المعنى يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ثم يعرج إليه تعالى ذلك الأمر كله أي يصير إليه سبحانه ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال منه كما في سابقه والعروج إليه تعالى الصيرورة إليه سبحانه لا ليثبت في صحف الملائكة بل ليحكم جل وعلا فيه
و في يوم متعلق بالعروج ولا تنازع والمراد بيوم مقداره كذا يوم القيامة ولا ينافي هذا قوله تعالى : كان مقداره خمسين ألف سنة بناء على أحد الوجهين فيه لتفاوت الإستطالة على حسب الشدة أو لأن ثم خمسين موطئا كل موطن ألف سنة وقيل : المعنى ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض ثم يرجع إليه تعالى ما كان من قبوله أو رده مع جبريل عليه السلام في يوم مقدار مسافة السير فيه ألف سنة وهو ما بين السماء والأرض هبوطا وصعودا فالأمر عليه مراد به الوحي كما في قوله تعالى : يلقى الروح من أمره والعروج إليه تعالى عبارة عن خبر القبول والرد مع عروج جبريل عليه السلام والتدبير والعروج في اليوم لكن على التوسع والتوزيع فالفعلان متنازعان في الظرف ولكن لا إختلاف في الصلة ولا تنافي الآية على هذا قوله تعالى شأنه : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة بناء على الوجه الآخر فيه وستعرفهما إن شاء الله تعالى لأن العروج فيه إلى العرش وفيها إلى السماء الدنيا وكلاهما عروج إلى الله تعالى على التجوز
وقيل : المراد بالأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحات والمعنى ينزل سبحانه ذلك مدبرا من السماء إلى الأرض ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه تعالى ذلك المأمور به خالصا كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة الخلص من العباد وعليه يدبر مضمن معنى الإنزال ومن وإلى متعلقان به ومعنى العروج الصعود كما في قوله
(21/121)
تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والغرض من الألف إستطالة المدة والمعنى إستقلال عبادة الخلص وإستطالة مدة ما بين التدبير والوقوع و ثم للإستبعاد وأستدل لهذا المعنى بقوله تعالى إثر ذلك : قليلا ما تشكرون لأن الكلام بعضه مربوط بالبعض وقلة الشكر مع وجود تلك الأنعامات دالة على إستقلال المذكور
وقيل : المعنى يدبر أمر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض وزمان طلوعها إلى أن تغرب وترجع إلى موضعها من الطلوع مقداره في المسافة ألف سنة وهي تقطع ذلك في يوم وليلة هذا ما قالوه في الآية الكريمة في بيان المراد منها ولا يخفى على ذي لب تكلف أكثر هذه الأقوال ومخالفته للظاهر جدا وهي بين يديك فأختر لنفسك ما يحلو ويظهر لي أن المراد بالسماء جهة العلو مثلها في قوله تعالى : أأمنتم من في السماء وبعروج الأمر إليه تعالى صعود خبره كما سمعت عن الجماعة و في يوم متعلق بالعروج بلا تنازع وأقول : إن الآية من المتشابه وأعتقد أن الله تعالى يدبر أمور الدنيا وشؤونها ويريدها متقنة وهو سبحانه مستو على عرشه وذلك هو التدبير من جهة العلو ثم يصعد خير ذلك مع الملك إليه عزوجل إظهارا لمزيد عظمته جلت عظمته وعظيم سلطنته عظمت سلطنته إلى حكم هو جل وعلا أعلم بها وكل ذلك بمعنى لائق به تعالى مجامع للتنزيه مباين للتشبيه حسبما يقوله السلف في أمثاله وقول بعضهم : العرش موضع التدبير وما دونه موضع التفصيل وما دون السموات موضع التصريف فيه رائحة ما مما ذكرنا وأما تقدير يوم العروج هنا بألف سنة وفي آية أخرى بخمسين ألف سنة فقد كثر الكلام في توجيهه وقد تقدم لك بعض منه
وأخرج عبدالرزاق وسعيد بن منصور وإبن المنذر وإبن أبي حاتم وإبن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه عن عبدالله بن أبي مليكة قال : دخلت على إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا وعبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فسأله عن قوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة فكأن إبن عباس أتهمه فقال : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقال : إنما سألتك لتخبرني فقال رضي الله تعالى عنه هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه الله تعالى أعلم بهما وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى أين المسيب فسأله عنهما إنسان فلم يخبر ولم يدر فقلت : ألا أخبرك بما سمعت من إبن عباس قال : بلى فأخبرته فقال للسائل : هذا إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أبي أن يقول فيهما وهو أعلم مني
وبعض المتصوفة يسمون اليوم المقدر بألف سنة باليوم الربوبي واليوم المقدر بخمسين ألف سنة باليوم الألهي ومحيي الدين قدس سره يسمى الأول يوم الرب والثاني يوم المعارج وقد ذكر ذلك وأياما أخر كيوم الشأن ويوم المثل ويوم القمر ويوم الشمس ويوم زحل وأيام سائر السيارة ويوم الحمل وأيام سائر البروج في الفتوحات وقد سألت رئيس الطائفة الكشفية الحادثة في عصرنا في كربلاء عن مسئلة فكتب في جوابها ما كتب وأستطرد بيان إطلاقات اليوم وعد من ذلك أربعة وستين إطلاقا منها إطلاقه على اليوم الربوبي وإطلاقه على اليوم الألهي وأظال الكلام في ذلك المقام ولعلنا إن شاء الله تعالى ننقل لك منه شيئا معتدا به في موضع آخر وسنذكر إن شاء الله تعالى أيضا تمام الكلام فيما يتعلق بالجميع بين هذه الآية وقوله سبحانه : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وقوله تعالى مما تعدون صفة ألف أو صفة سنة
وقرأ إبن أبي عبلة يعرج بالبناء للمفعول والأصل يعرج به فحذف الجار وأستتر الضمير وقرأ جناح بن حبيش ثم يعرج الملائكة إليه بزيادة الملائكة قال أبو حيان : ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف
(21/122)
وقرأ السلمي وإبن وثاب والأعمش والحسن بخلاف عنه يعدون بياء الغيبة ذلك أي الذات الموصوف بتلك الصفات المقتضية للقدرة التامة والحكمة العامة عالم الغيب أي كل ما غاب عن الخلق والشهادة أي كل ما شاهده الخلق فيدبر سبحانه ذلك على وفق الحكمة وقيل : الغيب الآخرة والشهادة الدنيا العزيز الغالب على أمره الرحيم 6 للعباد وفيه إيماء بأنه عزوجل متفضل فيما يفعل جل وعلا وأسم الإشارة مبدأ والأوصاف الثلاثة بعده أخبار له ويجوز أن يكون الأول خبرا والأخيران نعتان للأول
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بخفض الأوصاف الثلاثة على أن ذلك إشارة إلى الأمر مرفوع المحل على أنه فاعل يعرج والأوصاف مجرورة على البداية من ضمير إليه وقرأ أبو زيد النحوي بخفض الوصفين الأخيرين على أن ذلك إشارة إلى الله تعالى مرفوع المحل على الإبتداء و عالم خبره والوصفان مجروران على البدلية من الضمير وقوله تعالى : الذي أحسن كل شيء خلقه خبر رابع أو نعت ثالث أو نصب على المدح وجوز أبو البقاء كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي وكون العزيز مبتدأ و الرحيم صفته وهذا خبره وجملة خلقه في محل جر صفة شيء ويجوز أن تكون في محل نصب صفة كل وإحتمال الإستئناف بعيد أي حسن سبحانه كل مخلوق من مخلوقاته لأنه ما من شيء منها إلا وهو مرتب على ما أقتضته الحكمة وأستدعته المصلحة فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوت في مراتب الحسن كما يشير إليه قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ونفي التفاوت في خلقه تعالى في قوله سبحانه : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت على معنى ستعرفه إن شاء الله تعالى غير مناف لما ذكر وجوز أن يكون المعنى علم كيف يخلقه من قوله قيمة المرء ما يحسن وحقيقته يحسن معرفته أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإيقان ولا يخفى بعده
وقرأ العربيان وإبن كثير خلقه بسكون اللام فقيل : هو بدل إشتمال من كل والضمير المضاف هو إليه له وهو باق على المعنى المصدري وقيل : هو بدل كل من كل أو بدل بعض من كل والضمير لله تعالى وهو بمعنى المخلوق وقيل : هو مفعول ثان لأحسن على تضمينه معنى أعطى أي أعطى سبحانه كل شيء خلقه اللائق به بطريق الإحسان والتفضل وقيل : هو المفعول الأول و كل شيء المفعول الثاني وضميره لله سبحانه على تضمين الإحسان معنى الإلهام كما قال الفراء أو التعريف كما قال أبو البقاء والمعنى ألهم أو عرف خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه فيؤول إلى معنى قوله تعالى : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
وأختار أبو علي في الحجة ما ذكره سيبويه في الكتاب أنه مفعول مطلق لأحسن من معناه والضمير لله تعالى نحو قوله تعالى : صنع الله ووعد الله وبدأ خلق الإنسان أي آدم عليه السلام من طين 7 أو بدأ خلق هذا الجنس المعروف من طين حيث بدأ خلق آدم عليه السلام خلقا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس إنطواء إجماليا منه وقرأ الزهري بدا بالألف بدلا من الهمزة قال في البحر : وليس القياس في هدأ هذا بإبدال المزة ألفا بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين على أن الأخفش حكى في قرأت قريت قيل : وهي لغة الأنصار فهم يقولون في بدأ بدي بكسر عين الكلمة وياء بعدها وطيء يقولون في فعل هذا نحو بقى بقى كرمي فأحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة بأن يكون الأصل بدي ثم صار بدا وعلى
(21/123)
لغة الأنصار قال إبن رواحة : بأسم الأله وبه بدينا ولو عبدنا غيره شقينا ثم جعل نسله أي ذريته سميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه من سلالة أي خلاصة وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية من ماء مهين 8 ممتهن لا يعتني به وهو المني ثم سواه عدله بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي وأصل التسوية جعل الأجزاء متساوية و ثم للترتيب الرتبي أو الذكرى ونفخ فيه من روحه أضاف الروح إليه تعالى تشريفا له كما في بيت الله وناقة الله تعالى وإشعارا بأنه خلق عجيب وصنع بديع وقيل : إضافة لذلك إيماء إلى أن له شأنا له مناسبة ما إلى حضرة الربوبية
ومن هنا قال أبو بكر الرازي : من عرف نفسه فقد عرف ربه ونفخ الروح قيل : مجاز عن جعلها متعلقة بالبدن وهو أوفق بمذهب القائلين بتجرد الروح وأنها غير داخلة في البدن من الفلاسفة وبعض المتكلمين كحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة وقيل : هو على حقيقته والمباشر له الملك الموكل على الرحم وإليه ذهب القائلون بأن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن سريان ماء الورد والنار في الجمر وهو الذي تشهد له ظواهر الأخبار وأقام العلامة إبن القيم عليه نحو مائة دليل
وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة إلتفات إلى الخطاب لا يخفى موقع ذكره بعد نفخ الروح وتشريفه بخلعة الخطاب حين صلح للخطاب والجعل أبداعي واللام متعلقة به والتقديم على المفعول الصريح لما مر مرارا من الإهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم وتقديم السمع لكثرة فوائده فإن أكثر أمور الدين لا تعلم إلا من جهته وأفرد لأنه في الأصل مصدر
وقيل : للأيماء إلى أن مدركه نوع واحد وهو الصوت بخلاف البصر فإنه يدرك الضوء واللون والشكل والحركة والسكون وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك مدركات الحواس بواسطتها وزيادة على ذلك أي خلق لمنفعتكم تلك المشاعر لتعرفوا أنها مع كونها في أنفسها نعما جليلة لا يقادر قدرها وسائل إلى التمتع بسائر النعم الدينية والدنيوية الفائضة عليكم وتشكروها بأن تصرفوا كلا منها إلى ما خلق هو له فتدركوا بسمعكم الآيات التنزيلية الناطقة بالتوحيد والبعث وبأبصاركم الآيات التكوينية الشاهدة بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيتهما وقوله تعالى : قليلا ما تشكرون 9 بيان لكفرهم بتلك النعم بطريق الإعتراض التذييلي والقلة بمعنى النفي كما ينبيء عنه ما بعده
ونصب الوصف على أنه صفة لمحذوف وقع معمولا لتشكرون أي شكرا قليلا تشكرون أو زمانا قليلا تشكرون
وأستظهر الخفاجي عليه الرحمة كون الجملة حالية لا إعتراضية وقالوا كلام مستأنف مسوق لبيان أباطيلهم بطريق الإلتفات إيذانا بأن ما ذكر من عدم شكرهم تلك النعم موجب للإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم بطريق المبائة وروى أن القائل أبي بن خلف فضمير الجمع لرضا الباقين بقوله ماذا ضللنا في الأرض أي ضعنا فيها بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميز منه فهو من ضل المتاع إذا ضاع أو غبنا فيها بالدفن وإن لم نصر ترابا وإليه ذهب قطرب وأنشد قول النابغة يرثي النعمان بن المنذر : وآب مضلوه بعين جلية وغود بالجولان حزم ونائل
(21/124)
وقرأ يحيى بن يعمر وإبن محيصن وأبو رجاء وطلحة وإبن وثاب ضللنا بكسر اللام ويقال : ضل يضل كضرب يضرب وضل يضل كعلم يعلم وهما بمعنى والأول اللغة المشهورة الفصيحة وهي لغة نجد والثاني لغة أهل العالية
وقرأ أبو حيوة ضللنا بضم الضاد المعجمة وكسر اللام ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه
وقرأ الحسن والأعمش وأبان بن سعيد بن العاصي صللنا بالصاد المهلمة وفتح اللام ونسبت إلى علي كرم الله تعالى وجهه وإبن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن الحسن أنه كسر اللام ويقال فيه نحو ما يقال في ضل بالضاد المعجمة وزيادة أصل بالهمزة كأفعل قال الفراء : والمعنى صرنا بين الصلة وهي الأرض اليابسة الصلبة كأنها من الصليل لأن اليابس الصلب إذا أنشق يكون له صليل وقيل : أنتنا من الصلة وهو النتن وقيل للأرض الصلة لأنها أست الدنيا وتقول العرب ضع الصلة على الصلة وقال النحاس لا نعرف في اللغة صللنا ولكن يقال أصل اللحم وصل وأخم وخم إذا نتن وهذا غريب منه وقرأ إبن عامر إذا بترك الإستفهام والمراد الأخبار على سبيل الإستهزاء والتهكم والعامل في إذا ما دل عليه قوله تعالى : ءأنا لفي خلق جديد وهو نبعث أو يجدد خلقنا ولا يصح أن يكون هو العامل لمكان الإستفهام وإن وكل منهما لا يعمل ما بعده فيما قبله ويعتبر ما ذكر من نبعث أو يجدد خلقنا جوابا لاذا إذا أعتبرت شرطية لا ظرفية محضة والهمزة للإنكار والمراد تأكيد الإنكار لا إنكار التأكيد كما هو المتبادر من تقديمها على أداته فإنها مؤخرة عنها في الإعتبار وتقديمها عليها لقوة إقتضائها الصدارة
وقرأ نافع والكسائي ويعقوب أنا بترك الإستفهام على نحو ما ذكر آنفا بل هم بلقاء ربهم كافرون 01 إضراب وإنتقال عن بيان كفرهم بالبعث إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه وهو كفرهم بلقاء ملائكة ربهم عند الموت وما يكون بعده جميعا وقيل : هو إضراب وترق من التردد في البعث وإستبعاده إلى الجزم بجحده بناء على أن لقاء الرب كناية عن البعث ولا يضر فيه على ما قال الخفاجي كون الإستفهام السابق إنكاريا وهو يؤل إلى الجحد فتأمل قل ردا عليهم يتوفاكم ملك الموت يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئا من أجزائها أولا يترك شيئا من جزئياتها ولا يبقى أحدا منكم وأصل التوفي أخذ الشيء بتمامه وفسر بالإستيفاء لأن التفعل والإستفعال يلتقيان كثيرا كتقضيته وأستقضيته وتعجلته وأستعجلته ونسبة التوفي إلى ملك الموت بإعتبار أنه عليه الصلاة و السلام يباشر قبض الأنفس بأمره عزوجل كما يشير إليه قوله سبحانه : الذي وكل بكم أي يقبض أنفسكم ومعرفة إنتهاء آجالكم
وأخرج إبن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما قال : دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عليه السلام عند رأسه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ياملك الموت أرفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال : أبشر يامحمد فإني بكل مؤمن رفيق وأعلم يامحمد إني لأقبض روح إبن آدم فيصرخ أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول والله مالي من ذنب وإن لي لعودة وعودة الحذر الحذر وما خلق الله تعالى من أهل بيت ولا مدر ولا شعر ولا وبر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم فيه كل يوم وليلة خمس مرات حتى إني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم والله يامحمد إني لا أقدر أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك وتعالى الذي يأمر بقبضه وأخرج نحوه
(21/125)
الطبراني وأبو نعيم وإبن منده ونسبته إليه عزوجل في قوله سبحانه : الله يتوفى الأنفس بإعتبار أن أفعال العباد كلها مخلوقة له جل وعلا لا مدخل للعباد فيها بسوي الكسب كما يقوله الإشاعرة أو بإعتبار أن ذلك بإذنه تعالى ومشيئته جل شأنه ونسبته إلى الرسل في قوله تعالى : توفته رسلنا وإلى الملائكة في قوله سبحانه إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم لما أن ملك الموت لا يستقل به بل له أعوان كما جاء في الآثار يعالجون نزع الروح حتى إذا قرب خروجها قبضها ملك الموت وقيل : المراد بملك الموت الجنس وقال بعضهم : إن بعض الناس يتوفاهم ملك الموت وبعضهم يتوفاهم الله عزوجل بنفسه أخرج إبن ماجه عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله يقول إن الله تعالى وكل ملك الموت عليه السلام بقبض الأرواح الأشهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم
وجاء ذلك أيضا في خبر آخر يفيد أن ملك الموت للأنس غير ملك الموت للجن والشياطين وما لا يعقل أخرج إبن جوبير عن الضحاك عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : وكل ملك الموت عليه السلام بقبض أرواح المؤمنين فهو الذي يلي قبض أرواحهم وملك في الجن وملك في الشياطين وملك في الطير والوحش والسباع والحيتان والنمل فهم أربعة أملاك والملائكة يموتون في الصعقة الأولى وأن ملك الموت يلي قبض أرواحهم ثم يموت وأما الشهداء في البحر فإن الله تعالى يلي قبض أرواحهم لا يكل ذلك إلى ملك الموت بكرامتهم عليه سبحانه
والذي ذهب إليه الجمهور أن ملك الموت لمن يعقل وما لا يعقل من الحيوان واحد وهو عزرائيل ومعناه عبدالله فيما قيل نعم له أعوان كما ذكرنا وخبر الضحاك عن إبن عباس الله تعالى أعلم بصحته ثم إلى ربكم ترجعون 11 بالبعث للحساب والجزاء ومناسبة هذه الآية لما قبلها على ما ذكرنا في توجيه الإضراب ظاهرة لأنهم لما جحدوا لقاء ملائكة ربهم عند الموت وما يكون بعده ذكر لهم حديث توفي ملك الموت إياهم إيماء إلى أنهم سيلاقونه وحديث الرجوع إلى الله تعالى بالبعث للحساب والجزاء وأما على ما قيل فوجه المناسبة أنهم أنهم لما أنكروا البعث والمعاد رد عليهم بما ذكر لتضمن قوله تعالى : ثم إلى ربكم ترجعون البعث وزيادة ذكر توفى ملك الموت إياهم وكونه موكلا بهم لتوقف البعث على وفاتهم ولتهديدهم وتخويفهم وللإشارة إلى أن القادر على الأماتة قادر على الأحياء وقيل : إن ذلك لرد ما يشعر به كلامهم من أن الموت بمقتضى الطبيعة حيث أسندوه إلى أنفسهم في قولهم : أئذا ضللنا في الأرض فليس عندهم بفعل الله تعالى ومباشرة ملائكته ولا يخفى بعده وأبعد منه ما قيل في المناسبة : إن عزرائيل وهو عبد من عبيده تعالى إذا قدر على تخليص الروح من البدن مع سريانها فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الجمر فكيف لا يقدر خالق القوى جل شأنه على تمييز أجزائهم المختلطة بالتراب وكيف يستبعد البعث مع القدرة الكاملة له عزوجل لما أن ذلك السريان مما خفى على العقلاء حتى أنكره بعضهم فكيف بجهلة المشركين فتأمل وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ترجعون بالبناء للفاعل ولو ترى إذ المجرمون وهم القائلون : أئذا ضللنا في الأرض أو جنس المجرمين وهم من حملتهم ناكسوا رؤوسهم مطرقوها من الحياء والخزي عند ربهم حين حسابهم لما يظهر من قبائحهم التي أقترفوها في الدنيا وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما نكسوا رؤوسهم فعلا ماضيا ومفعولا ربنا بتقدير القول الواقع حالا والعامل فيه ناكسوا أي يقولون ربنا إلخ وهو أولى من تقدير يستغيثون بقولهم : ربنا
(21/126)
أبصرنا وسمعنا أي صرنا ممن يبصر ويسمع وحصل لنا الإستعداد لإدراك الآيات المبصرة والآيات المسموعة وكنا من قبل عميا صما لا ندرك شيئا فأرجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا حسبما تقتضيه تلك الآيات وهذا على ما قيل إدعاء منهم لصحة مشعري البصر والسمع وقوله تعالى : إنا موقنون 21 إستئناف لتعليل ما قبله وقيل : إستئناف لم يقصد به التعليل وعلى التقديرين هو متضمن لأدعائهم صحة الأفئدة والإقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بما يوجبها وفيه من إظهار الثبات على الإيقان وكمال رغبتهم فيه ما فيه وكأنه لذلك لم يقولوا : أبصرنا وسمعنا وأيقنا فأرجعنا إلخ ولعل تأخير السمع لأن أكثر العمل الصالح الموعود يترتب عليه دون البصر فكان عدم الفصل بينهما بالبصر أولى ويجوز أن يقدر لكل من الفعلين مفعول مناسب له مما يبصرونه ويسمعونه بأن يقال : أبصرنا بالبعث الذي كنا ننكره وما وعدتنا به على إنكاره وسمعنا منك ما يدل على تصديق رسلك عليهم السلام ويراد به نحو قوله تعالى : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا لا الأخبار الصريح بلفظ أن رسلي صادقون مثلا أو يقال أبصرنا البعث وسمعنا قول الرسل أي سمعناه سمع طاعة وإذعان أو يقال : أبصرنا قبح أعمالنا التي كنا نراها في الدنيا حسنة وسمعنا قول الملائكة لنا إن مردكم إلى النار وقيل : أرادوا أبصرنا رسلك وسمعنا كلامهم حين كنا في الدنيا أو أبصرنا آياتك التكوينية وسمعنا آياتك التنزيلية في الدنيا فلك الحجة علينا وليس لنا حجة فأرجعنا إلخ ولا يخفى حال هذا القيل وعلى سائر هذه التقادير وجه تقديم الإبصار على السماع ظاهر و لو هي التي سماها غير واحد إمتناعية وجوابها محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا لا يقادر قدره
والخطاب في : ترى لكل واحد ممن يصح منه الرؤية إذ المراد بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الفظاعة إلى حيث لا يختص إستغرابها بها وإستفظاعها براء دون راء ممن أعتاد مشاهدة الأمور البديعة والدواهي الفظيعة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعته وقيل : لأن القصد إلى بيان أن حالهم قد بلغت من الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها البتة فلا يختص برؤيتها راء دون راء والجواب المقدر أوفق بما ذكر أولا والفعل منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول أي لو تكن منك رؤية في ذلك الوقت لرأيت أمرا فظيعا وجوز أن يكون الخطاب خاصا بسيد المخاطبين و لو للتمني كأنه قيل : ليتك ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم لتشمت بهم وحكم التمني منه تعالى حكم الترجي وقد تقدم ولا جواب لها حينئذ عند الجمهور وقال أبو حيان وإبن مالك : لا بد لها من الجواب إستدلالا بقول مهلهل في حرب البسوس : فلو نبش المقابر عن كليب فيخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعثمين لقر عينا وكيف لقاء من تحت القبور فإن لو فيه للتمني بدليل نصب فيخبر وله جواب وهو قوله لقر ورد بأنها شرطية ويخبر عطف على مصدر متصيد من نبش كأنه قيل : لو حصل نبش فأخبار ولا يخفى ما فيه من التكلف وقال الخفاجي عليه الرحمة : لو قيل : إنها لتقدير التمني معها كثيرا أعطيت حكمه وأستغنى عن تقدير الجواب فيها إذا لم يذكر كما في الوصلية ونصب جوابها كان أسهل مما ذكر وجوز أن يقدر لترى مفعول دل عليه ما بعد أي لو ترى المجرمين أو لو ترى نكسهم رؤسهم والمضي في لو الإمتناعية وإذ لأن أخباره تعالى عما تحقق في علمه الأزلي لتحققه بمنزلة الماضي
(21/127)
فيستعمل فيه ما يدل على المضي مجازا كلو وإذ هذا ومن الغريب قول أبي العباس في الآية : المعنى قل يامحمد للمجرم ولو ترى وقد حكاه عنه أبو حيان ثم قال : رأى أن الجملة معطوفة على يتوفاكم داخلة تحت قل السابق ولذا لم يجعل الخطاب فيه للرسول عليه الصلاة و السلام إنتهى كلامه فلا تغفل
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها مقدر بقول معطوف عل ىمقدر قبل قوله تعالى : ربنا أبصرنا إلخ وهو جواب لقولهم أرجعنا يفيد أنهم لو أرجعوا لعادوا لما نهوا عنه لسوء إختيارهم وأنهم ممن لم يشأ الله تعالى أعطاءهم الهدى أي ونقول : لو شئنا أي لو تعلقت مشيئتنا تعلقا فعليا بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة هداها أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح وفسره بعضهم بنفس الإيمان والعمل الصالح والأول أولى وأما تفسيره بما سأله الكثرة من الرجوع إلى الدنيا أو بالهداية إلى الجنة فليس بشيء لأعطيناها إياه في الدنيا التي هي دار الكسب وما أخرناه إلى دار الجزاء ولكن حق القول مني أي ثبت وتحقق قولي وسبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين : فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وهو المعنى بقوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين 31 كما يلوح به تقديم الجنة على الناس فإنه في الخطاب لإبليس مقدم وتقديمه هناك لأنه الأوفق لمقام تحقير ذلك المخاطب عليه اللعنة وقيل : التقديم في الموضعين لأن الجهنميين من الجنة أكثر
ويعلم مما ذكرنا وجه العدول عن ضمير العظمة في قوله سبحانه : ولو شئنا لآتينا إلى ضمير الوحدة في قوله جل وعلا : ولكن حق القول مني وذلك لأن ما ذكر إشارة إلى ما وقع في الرد على اللعين وقد وقع فيه القول والإملاء مسدين إلى ضمير الوحدة ليكون الكلام على طرز لأغوينهم أجمعين إلا عبادك في توحيد الضمير وقد يقال : ضمير العظمة أوفق بالكثرة الدال عليها كل نفس والضمير الآخر أوفق بما دون تلك الكثرة الدال عليه من الجنة والناس أو يقال إنه وحد الضمير في الوعيد لما أن المعنى به المشركون فكأنه أخرج الكلام على وجه لا يتوهم فيه متوهم نوعا من أنواع الشركة أصلا أو أخرج على وجه يلوح بما عدلوا عنه من التوحيد إلى ما أرتكبوه مما أوجب لهم الوعيد من الشرك أو يقال : وحد الضمير في لأملأن لأن الإملاء لا تعدد فيه فتوحيد الضمير أوفق به ويقال نظير ذلك في حق القول مني والإيتاء يتعدد بتعدد المؤتى فضمير العظمة أوفق به ويقال نظيره في شئنا فتدبر ولا يلزم من قوله تعالى : أجمعين دخول جميع الجن والإنس فيها وأما قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها فالورود فيه غير الدخول وقد مر الكلام في ذلك لأن أجمعين تفيد عموم الأنواع لا الأفراد فالمعنى لأملائنها من ذينك النوعين جميعا كملأت الكيس من الدراهم والدنانير جميعا كذا قيل ورد بأنه لو قصد ما ذكر لكان المناسب التثنية دون الجمع بأن يقال كليهما وأستظهر أنها لعموم الأفراد والتعريف في الجنة والناس للعهد والمراد عصاتهما ويؤيده الآية المتضمنة خطاب إبليس وحاصل الآية لو شئنا إيتاء كل نفس هداها لآتيناها إياه لكن تحق القول مني لأملأن جهنم إلخ فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم بل منعناه من أتباع إبليس الذين أنتم من جملتهم حيث صرفتم إختياركم إلى الغي بإغوائه ومشيئتنا لأفعال العباد منوطة بإختيارهم إياها فلما لم تختاروا الهدى وأخترتم الضلال لم نشأ إعطاءه لكم وإنما أعطيناه الذين أختاروه من البررة وهم المعنيون بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه إنما يؤمن بآياتنا الآية
(21/128)
فيكون مناط عدم مشيئته تعالى إعطاء الهدى في الحقيقة سوء إختيارهم لا تحقق القول وإنما قيدت المشيئة بما مر من التعلق الفعلي بأفعال العباد عند حدوثها لأن المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم إجمالا متقدمة على تحقق كلمة العذاب فلا يكون عدمها منوطا بتحققها وإنما مناطه علمه تعالى أنه لا يصرف إختيارهم فيما سيأتي إلى الغي وإيثارهم له على الهدى فلو أريدت هي من تلك الحيثية لأستدرك بعدمها بأن يقال : ولكن لم نشأ ونيط ذلك بما ذكر من المناط على منهاج قوله تعالى : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم كذا قال بعض الأجلة
وقد يقال : يجوز أن يراد بالمشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم ويراد بالقول علم الله تعالى فإنه وكذا كلمة الله سبحانه يطلق على ذلك كما قال الراغب وذكر منه قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون وقوله سبحانه : الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون وحاصل المعنى لو شئنا في الأزل إيتاء كل نفس هداها في الدنيا لآتيناها إياه ولكن ثبت وتحقق علمي أزلا بتعذيب العصاة فبموجب ذلك لم نشأ إذ لا بد من وقوع المعلوم على طبق العلم لئلا يلزم إنقلاب العلم جهلا ووقوع ذلك يستدعي وجود العصاة إذ تعذيب العصاة فرع وجودهم ومشيئة إيتاء الهدى كل نفس تستلزم طاعة كل نفس ضرورة إستلزام العلة للمعلوم فيلزم أن تكون النفس المعذبة عاصية طائعة وهو محال وهذا المحال جاء من مشيئته إيتاء كل نفس هداها مع علمه تعالى بتعذيب العصاة فأما أن ينتفي العلم المذكور وهو محال لأن تعلق علمه سبحانه بالمعلوم على ما هو عليه ضروري فتعين إنتفاء المشيئة لذلك ويرجح هذا بالآخرة إلى أن إنتفاء مشيئته إيتاء الهدى للعصاة سوء ما هم عليه في أنفسهم لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع للمعلوم في نفسه فعلمه تعالى بتعذيب العصاة يستدعي علمه سبحانه إياهم بعنوان كونهم عصاة فلا يشاؤهم جل جلاله إلا بهذا العنوان الثابت لهم في أنفسهم ولا يشاؤهم سبحانه على خلافه لأن مشيئته تعالى إياهم كذلك تستدعي تعلق العلم بالشيء على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر وليس ذلك علما
ويمكن أن يبقى العلم على ظاهره ويقال : نه تعالى لم يشأ هداهم لأنه جل وعلا قال لإبليس عليه اللعنة : إنه سبحانه يعذب أتباعه ولا بد ولا يقول تعالى خلاف ما يعلم فلا يشاء تبارك وتعالى خلاف ما يقول ويرجع بالآخرة أيضا إلى أنه تعالى لم يشأ هداهم لسوء ما هم عليه في أنفسهم بأدنى تأمل ومآل الجواب على التقريرين لا فائدة لكم في الرجوع لسوء ما أنتم عليه في أنفسكم ولا يخفى أن ما ذكر مبني على القول بالإعيان الثابتة وإن الشقي شقي في نفسه والسعيد سعيد في نفسه وعلم الله تعالى إنما تعلق بهما على ما هما عليه في أنفسهما وإن مشيئته تعالى إنما تعلقت بإيجادهما حسبما علم جل شأنه فوجدا في الخارج بإيجاده تعالى إياهما على ما هما عليه في أنفسهما فإذا تم هذا تم ذاك والإ فلا والفاء في قوله تعالى : فذوقوا لترتيب الأمر بالذوق على ما يعرب عنه ما قبل من نفي الرجع إلى الدنيا أو على قوله تعالى : ولكن حق القول مني إلخ ولعل هذا أسرع تبادرا وجعلها بعضهم واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا يئستم من الرجوع أو إذا حق القول فذوقوا وجوز كونها تفصيلية والأمر للتهديد والتوبيخ والباء في قوله سبحانه : بما نسيتم لقاء يومكم هذا للسببية و ما مصدرية و هذا صفة يوم جيء به للتهويل وجوز كونه مفعول ذووا وهو إشارة إلى ما هم فيه من نكس الرؤس والخزي والغم وعلى الأول يكون مفعول ذوقوا محذوفا والوصفية أظهر أي فذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم الهائل
(21/129)
وترككم التفكر فيه والتزود له بالكلية وهذا تصريح بسبب العذاب من قبلهم فلا ينافي أن يكون له سبب آخر حقيقيا كان أو غيره والتوبيخ به من بين الأسباب لظهوره وكونه صادرا منهم لا يسعهم إنكاره والمراد بنسيانهم ذلك تركهم التفكر فيه والتزود له كما أشرنا إليه وهو بهذا المعنى إختياري يوبخ عليه ولا يكاد يصح إرادة المعنى الحقيقي وإن صح التوبيخ عليه بإعتبار تعمد سببه من الإنهماك في إتباع الشهوات ومثله في كونه مجازا النسيان في قوله تعالى : أنا نسيناكم أي تركناكم في العذاب ترك المنسي بالمرة وجعل بعضهم هذا من باب المشاكلة ولم يعتبر كون الأول مجازا مانعا منها قيل : والقرينة على قصد المشاكلة فيه إنه قصد جزاؤهم من جنس العمل فهو على حد وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله تعالى : وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون 41 تكرير للتأكيد والتشديد وتعيين المفعول المبهم للذوق والأشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان بل له أساب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا ولما كان فيه زيادة على الأول حصلت به مغايرته له أستحق العطف عليه ولم ينظم الكل في سلك واحد للتنبيه على إستقلال كل من النسيان وما ذكر في إستيجاب العذاب وفي إبهام المذوق أولا وبيانه ثانيا بتكرير الأمر وتوسيط الإستئناف المنبيء عن كمال السخط بينهما من الدلالة على غاية التشديد في الإنتقام منهم ما لا يخفى
وقوله تعالى : إنما يؤمن بآياتنا إستئناف مسوق لتقرير عدم إستحقاقهم ليتاء الهدى والأشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل : إنكم لا تؤمنون بآياتنا الدالة على شؤوننا ولا تعملون بموجبها عملا صالحا ولو أرجعناكم إلى الدنيا وإنما يؤمن الذين إذا ذكروا بها أي وعظوا خروا سجدا أثر ذي أثير من غير تردد ولا تلعثم فضلا عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد والوعيد أي سقطوا ساجدين تواضعا لله تعالى وخشوعا وخوفا من عذابه عزوجل قال أبو حيان : هذه السجدة من عزائم سجود القرآن وقال إبن عباس : السجود هنا الركوع
وروى عن إبن جريج ومجاهد أن الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب إبن عباس أن القاريء لآية السجدة يركع وأستدل بقوله تعالى : وخر راكعا وأناب
ولا يخفى ما في الإستدلال من المقال وسبحوا بحمد ربهم أي ونزهوه تعالى عند ذلك عن كل ما لا يليق به سبحانه من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه جل وعلا التي أجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق إلى الإهتداء بها فالحمد في مقابلة النعمة والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الإلتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للأشعار بعلة التسبيح والتحميد بأنهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم وهم لا يستكبرون 51 عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبرا كأن لم يسمع الآيات والجملة عطف على الصلة أو حال من أحد ضميري خروا وسبحوا وجوز عطفها على أحد الفعلين وقوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع جملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم
وجوز أن تكون حالية أو خبرا ثانيا للمبتدأ والتجافي البعد والأرتفاع والجنوب جمع جنب الشقوق وذكر
(21/130)
الراغب أن أصل الجنب الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في إستعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال و المضاجع جمع المضجع أماكن الإتكاء للنوم أي تنتحي وترتفع جنوبهم عن مواضع النوم وهذا كناية عن تركهم النوم ومثله قول عبدالله بن رواحة يصف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم :
نبي تجافى جنبه عن فراشه إذا أستثقلت بالمشركين المضاجع والمشهور أن المراد بذلك التجافي القيام لصلاة النوافل بالليل وهو قول الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وغيرهم وفي الأخبار الصحيحة ما يشهد له أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وإبن ماجه ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وإبن جرير وإبن أبي حاتم والحاكم وصححه وإبن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت : يانبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال : لقد سألت عن عظيم وأنه يسير على من يسره الله تعالى عليه تعبدالله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفيء الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعملون الحديث
وقال أبو الدرداء وقتادة والضحاك هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة وعن الحسن وعطاء هو أن لا ينام الرجل حتى يصلي العشاء أخرج الترمذي وصححه وإبن جرير وغيرهما عن أنس قال : إن هذه الآية تتجافى جنوبهم عن المضاجع نزلت في إنتظار الصلاة التي تدعى العتمة وفي رواية أخرى عنه أنه قال فيها نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رجالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : هو أن يصلي الرجل المغرب ويصلي بعدها إلى العشاء فقد أخرج عبدالله إبن أحمد في زوائد الزهد وإبن عدي وإبن مردويه عن مالك بن دينار قال : سألت أنس بن مالك عن هذه الآية تتجافى جنوبهم عن المضاجع قال : كان قوم من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى عشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم وقال قتادة وعكرمة : هو أن يصلي الرجل ما بين المغرب والعشاء وأستدل له بما أخرجه محمد بن نصر عن عبدالله بن عيسى قال : كان ناس من الأنصار يصلون ما بين المغرب والعشاء فنزلت فيهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع
وأخرج إبن جرير عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : تتجافى جنوبهم لذكر الله تعالى كلما أستيقظوا ذكروا الله عزوجل إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله تعالى وروى نحوه هو ومحمد بن نصر عن الضحاك والجمهور عولوا على ما هو المشهور وفي فضل التهجد ما لا يحصى من الأخبار وأفضله على ما نص عليه غير واحد ما كان في الأسحار
يدعون ربهم حال من ضمير جنوبهم وقد أضيف إليه ما هو جزء وجوز على إحتمال كون جملة تتجافى إلخ حالية أن تكون حالا ثانية مما جعلت تلك حالا منه وعلى إحتمال كونها خبرا ثانيا للمبتدأ أن تكون خبرا ثالثا وجوز كونها مستأنفة والظاهر أن المراد بدعائهم ربهم سبحانه المعنى المتبادر وقيل : المراد به الصلاة خوفا أي خائفين من سخطه تعالى وعذابه عزوجل وعدم قبول عبادتهم وطمعا
(21/131)
في رحمته تبارك وتعالى فالمصدران حالان من ضمير يدعون وجوز أن يكونا مصدرين لمقدر أي يخافون خوفا ويطمعون طمعا وتكون الجملة حينئذ حالا وأن يكونا مفعولا له ولا يخفى أن الآية على الحالية أمدح
ومما رزقناهم إياه من المال ينفقون 61 في وجوه الخير فلا تعلم نفس أي كل نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عمن عداهم فإن النكرة في سياق النفي تعم والفاء سببية أو فصيحة أي أعطوا فوق رجاءهم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم أي لأولئك الذين عددت نعوتهم الجليلة من قرة أعين أي مما تقر به أعين وفي إضافة القرة إلى الأعين على الإطلاق لا إلى أعينهم تنبيه على أن ما أخفي لهم في غاية الحسن والكمال
وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتكم عليه أقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وأخرج الفريابي وإبن أبي شيبة وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن إبن مسعود قال : إنه لمكتوب في التوراة لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنه لفي القرآن فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون 71 أي جوزوا جزاء بسبب ما كانوا يعملونه من الأعمال الصالحة فجزاء مفعول مطلق لفعل مقدر والجملة مستأنفة
وجوز جعلها حالية وقيل : يجوز جعله مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة المتقدمة وقيل : يجوز أن يكون مفعولا له لقوله تعالى : لا تعلم نفس على معنى منعت العلم للجزاء أو لأخفي فإن إخفاءه لعلو شأنه وعن الحسن أنه قال : أخفى القوم أعمالا في الدنيا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت أي أخفى ذلك ليكون الجزاء من جنس العمل
وفي الكشف أن هذا يدل على أن الفاء في قوله تعالى : فلا تعلم رابطة للاحق بالسابق وأصله فلا يعلمون والعدول لتعظيم الجزاء وعدم ذكر الفاعل في أخفى ترشيح له لأن جازيه من هو العظيم وحده فلا يذهب وهل إلى غيره سبحانه فتأمل
وقرأ حمزة ويعقوب والأعمش أخفى بسكون الياء فعلا مضارعا للمتكلم وإبن مسعود نخفي بنون العظمة والأعمش أيضا أخفيت بالإسناد إلى ضمير المتكلم وحده ومحمد بن كعب أخفى فعلا ماضيا مبنيا للفاعل و ما في جميع ذلك أسم موصول مفعول تعلم والعلم بمعنى المعرفة والعائد الضمير المستتر النائب عن الفاعل على قراءة الجمهور وضميره محذوف على غيرها وقال أبو البقاء : يجوز أن تكون ما أستفهامية وموضعها رفع بالإبتداء و أخفى لهم خبره على قراءة من فتح الياء وعلى قراءة من سكنها وجعل أخفى مصارعا يكون ما في موضع نصب بأخفى ويعلم منه حالها على سائر القراءات وإذا كانت إستفهامية يجوز أن يكون العلم بمعنى المعرفة وأن يكون على ظاهره فيتعدى لمفعولين تسد الجملة الإستفهامية مسدهما وعلى كل من إحتمال الموصولية والإستفهامية فالإبهام للتعظيم وقرأ عبدالله وأبو الدرداء وأبو هريرة وعون والعقيلي من قرأت على الجمع بالألف والتاء وهي رواية عن أبي عمرو وأبي جعفر والأعمش وجمع المصدر أو أسمه لإختلاف أنواع القرة والجار والمجرور في موضع الحال
(21/132)
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا أي أبعد ظهور ما بينهما من التباين البين يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه الفاضلة كالفاسق الذي ذكرت أحواله القبيحة العاطلة وأصل الفسق الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها ثم أستعمل في الخروج عن الطاعة وأحكام الشرع مطلقا فهو أعم من الكفر وقد يخص به كما في قوله تعالى : ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وكما هنا لمقابلته بالمؤمن مع ما ستسمعه بعد أن شاء الله تعالى : لا يستوون 81 التصريح به مع إفادة الإنكار لنفي المشابهة بالمرة على أبلغ وجه وآكده لزيادة التأكيد وبناء التفصيل الأتي عليه والجمع بإعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق بإعتبار لفظها وقيل : الضمير لإثنين وهما المؤمن والكافر والتثنية جمع
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى تفصيل لمراتب الفريقين بعد نفي إستوائهما وقيل : بعد ذكر أحوالهما في الدنيا وأضيفت الجنان إلى المأوى لأنها المأوى والمسكن الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة وقيل : المأوى علم لمكان مخصوص من الجنان كعدن وقيل : جنة المأوى لما روى عن إبن عباس أنها تأوى إليها أرواح الشهداء وروى أنها عن يمين العرش ولا يخفى ما في جعله علما من البعد وأياما كان فلا يبعد أن يكون فيه رمز إلى ما ذكر من تجافيهم عن مضاجعهم التي هي مأواهم في الدنيا
وقرأ طلحة جنة المأوى بالأفراد نزلا أي ثوابا وهو في الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب والصلة ثم عم كل عطاء وإنتصابه على أنه حال من جنات والعامل فيه الظرف وجوز أن يكون جمع نازل فيكون حالا من ضمير الذين آمنوا وقرأ أبو حيوة نزلا بإسكان الزاي كما في قوله
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمهرفات له نزلا بما كانوا يعملون 91 أي بسبب الذي كانوا يعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة على أن ما موصولة والعائد محذوف والباء سببية وكون ذلك سببا بمقتضى فضله تعالى ووعده عزوجل فلا ينافي حديث ولا يدخل أحدكم الجنة بعمله ويجوز أن تكون الباء للمقابلة والمعارضة كعلي في نحو بعتك الدار على ألف درهم أي فلهم ذلك على الذي كانوا يعملونه
وأما الذين فسقوا أي خرجوا عن الطاعة فكفروا وأرتكبوا المعاصي فمأواهم أي فمسكنهم ومحلهم النار وذكر بعضهم أن المأوى صار متعارفا فيما يكون ملجا للشخص ومستراحا يستريح إليه من الحر والبرد و وهما فإذا أريد هنا يكون في الكلام إستعارة تهكمية كما في قوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم وجوز أن يكون إستعمال ذلك من باب المشاكلة لأنه لما ذكر في أحد القسمين فلهم جنات المأوى ذكر في الآخر فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا إستئناف لبيان كيفية كون النار مأواهم والكلام على حد قوله تعالى : جدارا يريد أن ينقض على ما قيل والمعنى كلما شارفوا الخروج منها وقربوا منه أعيدوا فيها ودفعوا إلى قعرها فقد روى أنهم بضربهم لهب النار فيرتفعون إلى أعلاها حتى إذا قربوا من بابها وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها وهكذا يفعل بهم أبدا وقيل : الكلام على ظاهره إلا أن فيه حذفا أي
(21/133)
كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا من معظمها أعيدوا فيها ويشير إلى أن الخروج من معظمها قوله تعالى : فيها دون إليها وجوز أن يكون الكلام هنا عبارة عن خلودهم فيها وأياما كان لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى : وما هم بخارجين من النار وقيل لهم تشديدا عليهم وزيادة في غيظهم
ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به أي بعذاب النار تكذبون 02 على الإستمرار في الدنيا وأظهرت النار مع تقدمها قبل لزيادة التهديد والتخويف وتعظيم الأمر وذكر إبن الحاجب في أماليه وجها آخر للإظهار وهو أن الجملة الواقعة بعد القول حكاية لما يقال لهم يوم القيامة عند إرادتهم الخروج من النار فلا يناسب ذلك وضع الضمير إذ ليس القول حينئذ مقدما عليه ذكر النار وإنما ذكرها سبحانه قبل أخبارا عن أحوالهم ونظر فيه اليطبي عليه الرحمة بأن هذا القول داخل أيضا في حيز الأخبار لعطفه على أعيدوا الواقع جوابا لكلما فكما جاز الإضمار في المعطوف عليه جاز فيه أيضا إن لم يقصد زيادة التهديد والتخويف
ورد بأن المانع أنه حكاية لما يقال لهم يوم القيامة والأصل في الحكاية أن تكون على وفق المحكي عنه دون تغيير ولا إضمار في المحكي لعدم تقدم ذكر النار فيه وتعقب بأنه قد يناقش فيه بأن مراده أنه يجوز رعاية المحكي والحكاية وكما أن الأصل رعاية المحكي الأصل الإضمار إذا تقدم الذكر فلا بد من مرجح
وقال بعض المحققين : أراد إبن الحاجب أن الإظهار هو المناسب في هذه الجملة نظرا إلى ذاتها ونظرا إلى سياقها أما الأول فلأنها تقال من غير تقدم ذكر النار وأما الثاني فلأن سياق الآية للتهديد والتخويف وتعظيم الأمر وفي الإظهار من ذلك ما ليس في الإضمار وهذا بعيد من أن يرد عليه نظر الطيبي والإنصاف أن كلا من الإضمار والإظهار جائز وأنه رجح الإظهار إقتضاء السياق لذلك ونقل عن الراغب ما يدل على أن المقام في هذه الآية مقام الضمير حيث ذكر عنه أنه قال في درة التنزيل : إنه تعالى قال ههنا ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون وقال سبحانه في آية أخرى : عذاب النار التي كنتم بها تكذبون فذكر جل وعلا ههنا وأنت سبحانه هناك والسر في ذلك أن النار ههنا وقعت موقع الضمير والضمير لا يوصف فأجرى الوصف على العذاب المضاف إليها وهو مذكر وفي تلك الآية لم يجر ذكر النار في سياقها فلم تقع النار موقع الضمير فأجرى الوصف عليها وهي مؤنثة دون العذاب فتأمل ولنذيقنهم من العذاب الأدنى أي الأقرب وقيل : الأقل وهو عذاب الدنيا فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه وأختلف في المراد به فروى النسائي وجماعة وصححه الحاكم عن إبن مسعود أنه سنون أصابتهم وروى ذلك عن النخعي ومقاتل وروى الطبراني وآخرون وصححه والحاكم عن إبن مسعود أيضا أنه ما أصابهم يوم بدر وروى نحوه عن الحسن بن علي رض يالله تعالى عنهما بلفظ هو القتل بالسيف نحو يوم بدر وعن مجاهد القتل والجوع
وأخرج مسلم وعبدالله بن أحمد في زوائد المسند وأبو عوانة في صحيحه وغيرهم عن أبي بن كعب أنه قال : هو مصائب الدنيا والروم والبطشة والدخان وفي لفظ مسلم أو الدخان
وأخرج إبن المنذر وإبن جرير عن إبن عباس أنه قال : هو مصائب الدنيا وأسقامها وبلاياها وفي رواية عنه وعن الضحاك وإبن زيد بلفظ مصائب الدنيا في الأنفس والأموال وفي معناه ما أخرج إبن مردويه عن أبي إدريس الخولاني قال : سألت عبادة بن الصامت عن قوله تعالى : ولنذيقنهم الآية فقال : سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنها فقال عليه الصلاة و السلام : هي المصائب والأسقام والآصار عذاب للمسرف
(21/134)
في الدنيا دون عذاب الآخرة قلت : يارسول الله فما هي لنا قال : زكاة وطهور وفي رواية عن إبن عباس أنه الحدود وأخرج هنا عن عن أبي عبيدة أنه فسره بعذاب القبر وحكى عن مجاهد أيضا دون العذاب الأكبر هو عذاب يوم القيامة كما روى عن إبن مسعود وغيره وقال : إبن عطية لا خلاف في أنه ذلك وفي التحرير إن أكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار وقيل : هو القتل والسبي والأسر وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أنه خروج المهدي بالسيف إنتهى وعليهما يفسر العذاب الأدنى بالسنين أو الإسقام أو نحو ذلك مما يكون أدنى مما ذكر وعن بعض أهل البيت تفسيره بالدابة والدجال والمعول عليه ما عليه الأكثر
وإنما لم يقل الأصغر في مقابلة الأكبر أو الأبعد في مقابلة الأدنى لأن المقصود هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر وبالكبر لا بالبعد قاله النيسابوري ملخصا له من كلام الإمام وكذا أبو حيان إلا أنه قال : إن الأدنى يتضمن الأصغر لأنه منقض بموت المعذب والأكبر يتضمن الأبعد لأنه واقع في الآخرة فحصلت المقابلة من حيث التضمن وصرح بما هو آكد في التخويف لعلهم يرجعون 12 أي لعل من بقي منهم يتوب قاله إبن مسعود وقال الزمخشري : أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله تعالى : فأرجعنا نعمل صالحا وسميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فأغسلوا وجوهكم ويدل عليه قراءة من قرأ يرجعون على البناء للمفعول إنتهى
وهو على ما حكى عن مجاهد وروى عن أبي عبيدة فيتعلق لعلهم إلخ بقوله تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى كما في الأول إلا أن الرجوع هنالك التوبة وههنا الرجوع إلى الدنيا ويكون من باب فألتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا أو يكون الترجي راجعا إليهم ووجه دلالة القراءة المذكورة عليه أنه لا يصح الحمل فيها على التوبة والظاهر التفسير المأثور والقراءة لا تأباه لجواز أن يكون المعنى عليها لعلهم يرجعهم ذلك العذاب عن الكفر إلى الإيمان و لعل لترجي المخاطبين كما فسرها بذلك سيبويه وعن إبن عباس تفسيرها هنا بكى وكأن المراد كي نعرضهم بذلك للتوبة وجعلها الزمخشري لترجيه سبحانه ولإستحالة حقيقة ذلك منه عزوجل حمله على إرادته تعالى وأورد على ذلك سؤالا أجاب عنه على مذهبه في الإعتزال فلا تلتفت إليه هذا والآيات من قوله تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا إلى هنا نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والوليد بن عقبة بن ابي معيط أخي عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس أخرج أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني والواحدي وإبن عدي وإبن مردويه والخطيب وإبن عساكر من طرق عن إبن عباس قال : قال الوليد بن عقبة لعلي كرم الله تعالى وجهه أنا أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ للكتيبة منك فقال علي رضي الله تعالى عنه : أسكت فإنما أنت فاسق فنزلت أفمن كان مؤمنا إلخ
وأخرج إبن أبي حاتم عن السدي نحو ذلك وأخرج هذا أيضا عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والوليد بن عقبة ولم يذكر ما جرى وفي رواية أخرى عنه إنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه ورجل من قريش ولم يسمه وفي الكشاف روى في نزولها أنه شجر بين علي رضي
(21/135)
الله تعالى عنه والوليد بن عقبة يوم بدر كلام فقال له الوليد : أسكت فإنك صبي أنا أشب منك شبابا وأجلد منك جلدا وأدرب منك لسانا وأحد منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة فقال له علي كرم الله تعالى وجهه : أسكت فإنك فاسق فنزلت ولم نره بهذا اللفظ مسندا وقال الخفاجي : قال إبن حجر إنه غلط فاحش فإن الوليد لم يكن يوم بدر رجلا بل كان طفلا لا يتصور منه حضور بدر وصدور ما ذكر
ونقل الجلال السيوطي عن الشيخ ولي الدين هو غير مستقيم فإن الوليد يصغر عن ذلك وأقول : بعض الأخبار تقتضي أنه لم يكن مولودا يوم بدر أو كان صغيرا جدا أخرج أبو داؤد في السنن من طريق ثابت بن الحجاج عن أبي موسى عبدالله الهمداني عنه أنه قال : لما أفتتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤسهم فأتى بي إليه عليه الصلاة و السلام وأنا مخلق فلم يمسني من أجل الخلوق إلا أن إبن عبدالبر قال : إن أبا موسى مجهول وأيضا ذكر الزبير وغيره من أهل العلم بالسير أن أم كلثوم بنت عقبة لما خرجت مهاجرة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الهدنة سنة سبع خرج أخواها الوليد وعمارة ليرداها وهو ظاهر في أنه لم يكن صبيا يوم الفتح إذ من يكون كذلك كيف يكون ممن خرج ليرد أخته قبل الفتح وبعض الأخبار تقتضي أنه كان رجلا يوم بدر فقد ذكر الحافظ إبن حجر في كتابه الإصابة إنه قدم في فداء إبن عم أبيه الحرث بن أبي وجرة بن أبي عمرو بن أمية وكان أسر يوم بدر فأفتداه بأربعة الآف وقال : حكاه أهل المغازي ولم يتعقبه بشيء وسوق كلامه ظاهر في إرتضائه ووجه إقتضائه ذلك أن ما تعاطاه من أفعال الرجال دون الصبيان وهذا الذي ذكرناه عن إبن حجر يخالف ما ذكره عنه الخفاجي عليه الرحمة مما مر آنفا ولا ينبغي أن يقال : يجوز أن يكون صغيرا ذلك اليوم صغرا يمكن معه عادة الحضور فحضر وجرى لأن وصفه بالفسق بمعنى الكفر والوعيد عليه بما سمعت في الآيات مع كونه دون البلوغ مما لا يكاد يذهب إليه إلا من يلتزم إن التكليف بالإيمان إذ ذاك كان مشروطا بالتمييز ولا أن يقال : يجوز أن تكون هذه القصة بعد إسلامه وقد أطلق عليه فاسق وهو مسلم في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فقد قال إبن عبدالبر : لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن إنها نزلت فيه حيث أنه بعثه مصدقا إلى بني المصطلق فعاد وأخبر أنهم أرتدوا ومنعوا الصدقة ولم يكن الأمر كذلك لأن الفسق ههنا بمعنى الكفر وهناك ليس كذلك ثم أعلم أن القول بأنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والوليد لكلام جرى يوم بدر يقتضي أنها مدنية والمختار عند بعضهم خلافه
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها بيان إجمالي لمن قابل آيات الله تعالى بالإعراض بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد وكلمة ثم لإستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادة الدارين كما في قول جعفر بن علية الحارثي : ولا يكشف الغماء إلا إبن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها والمراد أن ذلك أظلم من كل ظالم أنا من المجرمين قيل : أي من كل أتصف بالإجرام وكسب الأمور المذمومة وإن لم يكن بهذه المنابة منتقمون 22 فكيف ممن هو أظلم من كل ظالم وأشد جرما من كل جارم ففي الجملة إثبات الإنتقام منه بطريق برهاني
(21/136)
وجوز أن يراد بالمجرم المعرض المذكور وقد أقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى من بإعتبار معناها وكان الأصل أنا منهم منتقمون ليؤذن بأن علة الإنتقام إرتكاب هذا المعرض مثل هذا الجرم العظيم : وفسر البغوي المجرمين هنا بالمشركين وقال الطيبي عليه الرحمة بعد حكايته : ولا إرتياب أن الكلام في ذم المعرضين وهذا الأسلوب أذم لآنه يقرر أن الكافر إذا وصف بالظلم والإجرام حمل على نهاية كفره وغاية تمرد ولأن هذه الآية كالخاتمة لأحوال المكذبين القائلين : أم يقولون إفتراه والتخلص إلى قصة الكليم مسلاة لقلب الحبيب عليهما الصلاة والسلام إلى آخر ما ذكره فليراجع
ولقد آتينا موسى الكتاب أي جنس الكتاب فلا تكن في مرية أي شك وقرأ الحسن مرية بضم الميم من لقائه أي لقائك ذلك الجنس على أن لقاء مصدر مضاف إلى المفعول وفاعله محذوف وهو ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والضمير المذكور للكتاب المراد به الجنس وإيتاء ذلك الجنس بإعتبار إيتاء التوراة ولقاؤه بإعتبار لقاء القرآن وهذا كقوله تعالى : وإنك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم وقوله سبحانه : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا وحمل بعضهم الكتاب على العهد أي الكتاب المعهود وهو التوراة ولما لم يصح عود الضمير إليه ظاهرا لأنه عليه الصلاة و السلام لم يلق عين ذلك الكتاب قيل : الكلام على تقدير مضاف أي لقاء مثله أو على الإستخدام أو إن الضمير راجع إلى القرآن المفهوم منه ولا يخفى ما في كل من البعد والمعنى أنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه من الوحي مثل ما لقيناك من الوحي فلا تكن في شك من إنك لقيت مثله ونظيره وخلاضة ما تؤذن به الفاء التفريعية أن معرفتك بأن موسى عليه السلام أوتى التوراة ينبغي أن تكون سببا لإزالة الريب عنك في أمر كتابك ونهيه علي الصلاة والسلام عن أن يكون في شك المقصود منه نهي أمته صلى الله تعالى عليه وسلم والتعريض بمن أتصف بذلك وقيل : المصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف هو ضميره عليه الصلاة و السلام أي من لقائه إياك ووصوله إليك وفي التعبير باللقاء دون الإيتاء من تعظيم شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى على المتدبر وقد يقال : إن التعبير به على الوجه السابق مؤذن بالتعظيم أيضا لكن من حيثية أخرى فتدبر
وقيل : الكتاب التوراة وضمير لقائه عائد إليه من غير تقدير مضاف ولا إرتكاب إستخدام ولقاء مصدر مضاف إلى مفعوله وفاعله موسى أي من لقاء موسى الكتاب أو مضاف إلى فاعله ومفعوله موسى أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه فالفاء مثلها في قوله : ليس الجمال بمئزر فأعلم وإن رديت بردا دخلت عل ىالجملة المعترضة بدل الواو إهتماما بشأنها وعن الحسن أن ضمير لقائه عائد على ما تضمنه الكلام من الشدة والمحنة التي لقى موسى عليه السلام فكأنه قيل : ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله فلا تمتر أنك تلقي ما لقى هو من الشدة والمحنة بالناس والجملة إعتراضية ولا يخفى بعده وأبعد منه بمراحل ما قيل : الضمير لملك الموت الذي تقدم ذكره والجملة إعتراضية أيضا بل ينبغي أن يجل كلام الله تعالى عن مثل هذا التخريج وأخرج الطبراني وإبن مردويه والضياء في المختارة بسند صحيح عن إبن عباس أنه قال في الآية : أي من لقاء موسى وأخرج إبن المنذر وغيره عن مجاهد نحوه وأخرج إبن أبي حاتم
(21/137)
عن أبي العالية أنه قال كذلك فقيل له : أو لقى عليه الصلاة و السلام موسى قال : نعم ألا ترى إلى قوله تعالى : وأسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا وأراد بذلك لقاءه صلى الله تعالى عليه وسلم إياه ليلة الإسراء كما ذكر في الصحيحين وغيرهما وروى نحو ذلك عن قتادة وجماعة من السلف وقاله المبردحين أمتحن الزجاج بهذه الآية وكأن المراد من قوله تعالى : فلا تكن في مرية من لقائه على هذا وعده تعالى نبيه عليه الصلاة و السلام بلقاء موسى وتكون الآية نازلة قبل الإسراء والجملة إعتراضية بالفاء بدل الواو كما سمعت آنفا
وجعلها مفرعة على ما قبلها غير ظاهر وبهذا إعترض بعضهم على هذا التفسير وبالفرار إلى الإعراض سلامة من الإعتراض وكأني بك ترجحه على التفسير الأول من بعض الجهات والله تعالى الموفق وجعلناه أي الكتاب الذي آتيناه موسى وقال قتادة أي وجعلنا موسى عليه السلام هدى أي هاديا من الضلالة لبني إسرائيل 32 خصوا بالذكر لما أنهم أكثر المنتفعين به وقيل : لأنه لم يتعبد بما في كتابه عليه الصلاة و السلام ولد إسماعيل صلى الله تعالى عليه وسلم
وجعلنا منهم أئملآ قال قتادة : رؤساء في الخير سوى الأنبياء عليهم السلام وقيل : هم الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل يهدون بقيتهم بما في تضاعيف الكتاب من الحكم والأحكام إلى طريق الحق أو يهدونهم إلى ما فيه من دين الله تعالى وشرائعه عزوجل بأمرنا إياهم بأن يهدوا على أن الأمر واحد الأوامر وهذا على القول بأنهم أنبياء ظاهر وأما على القول بأنهم ليسوا بأنبياء فيجوز أن يكون أمره تعالى إياهم بذلك على حد أمر علماء هذه الأمة بقوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف الآية
وجوز أن يكون الأمر واحد الأمور والمراد يهدون بتوفيقنا لما صبروا قال قتادة : على ترك الدنيا وجوز غيره أن يكون المراد لما صبروا على مشاق الطاعة ومقاساة الشدائد في نصرة الدين و لما يحتمل أن تكون هي التي فيها معنى الجزاء نحو لما أكرمتني أكرمتك أي لما صبروا جعلنا أئمة ويحتمل أن تكون هي التي بمعنى الحين الخالية عن معنى الجزاء والظاهر أنها حينئذ ظرف لجعلنا أي جعلناهم أئمة حين صبروا وجوز أبو البقاء كونها ظرفا ليهدون
وقرأ عبدالله وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي ورويس لما بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام للتعليل وما مصدرية أي لصبرهم وهو متعلق بجعلنا أو بيهدون وقرأ عبدالله أيضا بما بالباء السببية وما المصدرية أي بسبب صبرهم وكانوا بآياتنا التي في تضاعيف الكتاب وقيل : المراد بها ما يعم الآيات التكوينية والجار متعلق بقوله تعالى : يوقنون 42 أي كانوا يوقنون بها لإمعانهم فيها النظر لا بغيرها من الأمور الباطلة وهو تعريض بكفرة أهل مكة والجملة معطوفة على صبروا فتكون داخلة في حيز لما وجوز أن تون معطوفة على جعلنا وأن تكون في موضع الحال من ضمير صبروا
والمراد كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتينا أو لنجعلنك هدى لأمتك والنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية إن ربك هو يفصل اي يقضي بينهم قيل : بين الأنبياء عليهم السلام وأممهم
(21/138)
وقيل : بين المؤمنين والمشركين يوم القيامة فيميز سبحانه بين المحق والمبطل فيما كانوا فيه يختلفون 52 من أمور الدين
أو لم يهد لهم الهمزة للإنكار والواو للعطف على منوي يقتضيه المقام ويناسب المعطوف معنى على ما أختاره غير واحد وفعل الهداية إما من قبيل فلان يعطي في أن المراد إيقاع نفس الفعل بلا ملاحظة المفعول وأما بمعنى التبيين والمفعول محذوف والفاعل ضمير عائد إلى ما في الذهن ويفسره قوله تعالى : كم أهلكنا من قبلهم من القرون وكم في محل نصب بأهلكنا أي أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم أو ولم يبين لهم مآل أمرهم أو طريق الحق كثرة من أهلكنا أو كثرة إهلاك من أهلكنا من القرون الماضية مثل عاد وثمود وقوم لوط ولا يجوز أن تكون كم فاعلا لصدارتها كما نص على ذلك الزجاج حاكيا له عن البصريين وقال الفراء : كم في موضع رفع بيهد كأنك قلت : أو لم يهد لهم القرون الهالكة فيتعظوا ولا أن يكون محذوفا لأن الفاعل لا يحذف إلا في مواضع مخصوصة ليس هذا منها ولا مضمرا عائدا إلى ما بعد لأنه يلزم عود الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة في غير محل جوازه ولا الجملة نفسها لأنها لا تقع فاعلا على الصحيح إلا إذا قصد لفظها نحو تعصم لا إله إلا الله الدماء والأموال وجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى شأنه لسبق ذكره سبحانه في قوله تعالى : إن ربك إلخ وأيد بقراءة زيد نهد لهم بنون العظمة قال الخفاجي : والفعل بكم عن المفعول وهو مضمون الجملة لتضمنه معنى العلم فلا تغفل
يمشون في مساكنهم أي يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم ويشاهدون آثار هلاكهم والجملة حال من ضمير لهم وقيل : من القرون والمعنى أهلكناهم حال غفلتهم وقيل : مستأنفة بيان لوجه هدايتهم
وقرأ إبن السميقع يمشون بالتشديد على أنه تفعيل من المشي للتكثير إن في ذلك أي فيما ذكر من أهلاكنا للأمم الخالية العاتية أو في مساكنهم لآيات عظيمة في أنفسها كثيرة في عددها أفلا يسمعون 62 هذه الآيات سماع تدبر وإتعاظ أو لم يروا الكلام فيه كالكلام في أو لم يهد أي أعموا ولم يشاهدوا إنا نسوق الماء بسوق السحاب الحامل له وقيل : نسوق نفس الماء بالسيول وقيل : بإجرائه في الأنهار ومن العيون إلى الأرض الجرز أي التي جرز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعى وأزيل كما في الكشاف
وفي مجمع البيان الأرض الجرز اليابسة التي ليس فيها نبات لإنقطاع الأمطار عنها من قولهم : سيف جراز أي قطاع لا يبقى شيئا إلا قطعه وناقة جراز إذا كانت تأكل كل شيء فلا تبقي شيئا إلا قطعته بفيها ورجل جروز أي أكول قال الراجز :
خب جروز وإذا جاع بكى
وقال الراغب : الجرز منقطع النبات من أصله وأرض مجروزة أكل ما عليها وفي مثل لا ترضي شائنة إلا بجروزة أي بالإستئصال والجارز الشديد من السعال تصور منه معنى الجرز وهو القطع بالسيف مما قاله أن الجرز يطلق على ما أنقطع نباته لكونه ليس
(21/139)
من شأنه الإنبات كالسباخ وهو غير مناسب هنا لقوله تعالى : فنخرج به زرعا والظاهر أن المراد الأرض المتصفة بهذه الصفة أي أرض كانت وأخرج إبن أبي حاتم عن الحسن أنها قرى بين اليمن والشام
وأخرج هو وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي شيبة عن إبن عباس أنها أرض باليمن وإلى عدم التعيين ذهب مجاهد أخرج عنه جماعة أنه قال : الأرض الجرز هي التي لا تنبت وهي أبين ونحوها من الأرض وقريء الجرز بسكون الراء وضمير به للماء والكلام على ظاهره عند السلف الصالح وقالت الأشاعرة : المراد فنخرج عنده والزرع في الأصل مصدر وعبر به عن المزروع والمراد به ما يخرج بالمطر مطلقا فيشمل الشجر وغيره ولذا قال سبحانه : تأكل منه أي من ذلك الزرع أنعامهم كالتبن والقصيل والورق وبعض الحبوب المخصوصة بها وأنفسهم كالبقول والحبوب التي يقتاتها الإنسان وفي البحر يجوز أن يراد بالزرع النبات المعروف وخص بالذكر تشريفا له ولأنه اعظم ما يقصد من النبات ويجوز أن يراد به النبات مطلقا وقدم الأنعام لأن إنتفاعها مقصور على ذلك والإنسان قد يتغذى بغيره ولأن أكلها منه مقدم لأنها تأكله قبل أن يثمر ويخرج سنبله وقيل ليترقى من الأدنى إلى الأشرف وهم بنو آدم
وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية يأكل بالياء التحيتة أفلا يبصرون 72 أي ألا يبصرون فلا يبصرون ذلك ليستدلوا به على كمال قدرته تعالى وفضله عزوجل وجعات الفاصلة هنا يبصرون لأن ما قبله مرئي وفيما قبله يسمعون لأن ما قبله مسموع وقيل : ترقيا إلى الأعلى في الإتعاظ مبالغة في التذكير ورفع العذر
وقرأ إبن مسعود تبصرون بالتاء الفوقية ويقولون على وجه التكذيب والإستهزاء متى هذا الفتح أي الفصل للخصومة بينكم وبيننا وكأن هذا متعلق بقوله تعالى : إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون وقيل : أي النصر علينا أخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم عن قتادة قال : قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم إن لنا يوما يوشك أن نستريح فيه وننتقم فيه فقال المشركون : متى هذا الفتح إلخ فنزلت ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين 82 أي في أن الله تعالى هو يفصل بين المحقين والمبطلين وقيل : في أن الله تعالى ينصركم علينا
قل تبكيتا لهم وتحقيقا للحق يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون 92 أخرج الفريابي وإبن أبي شيبة وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن مجاهد قال : يوم الفتح يوم القيامة وهو كما في البحر منصوب بلا ينفع والمراد بالذين كفروا إما أولئك القائلون المستهزئون فالإظهار في مقام الإضمار لتسجيل كفرهم وبيان علة الحكم وإما ما يعمهم وغيرهم وحينئذ يعلم حكم أولئك المستهزئين بطريق برهاني والمراد من قوله تعالى : ولا هم ينظرون إستمرار النفي والظاهر أن الجملة عطف على لا ينفع إلخ والقيد معتبر فيها وظاهر سؤالهم بقولهم متى هذا الفتح يقتضي الجواب بتعيين اليوم المسؤل عنه إلا أنه لما كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح إستعجالا منهم على وجه التكذيب والإستهزاء أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم فكأنه قيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان وأستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا وهذا قريب من الأسلوب الحكيم
(21/140)
هذا وتفسير يوم الفتح بيوم القيامة ظاهر على القول بأن المراد بالفتح الفصل للخصومة فقد قال سبحانه : إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة ولا يكاد يتسنى على القول بأن المراد به النصر على أولئك القائلين إذا كانوا عانين به النصر والغلبة عليهم في الدنيا كما هو ظاهر مما سمعت عن مجاهد وعليه قيل : المراد بيوم الفتح يوم بدر وأخرج ذلك الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : يوم فتح مكة وحكى ذلك عن الحسن ومجاهد وأستشكل كلا القولين بأن قوله تعالى : يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ظاهر في عدم قبول الإيمان من الكافر يومئذ مع أنه آمن ناس يوم بدر فقبل منهم وكذا يوم فتح مكة
وأجيب بأن الموصول على كل منهما عبارة عن المقتولين في ذلك اليوم على الكفر فمعنى لا ينفعهم إيمانهم إنهم لا إيمان لهم حتى ينفعهم فهو على حد قوله :
على لا حب لا يهتدي بمناره
سواء أريد بهم قوم مخصوصون أستهزؤا أم لا وسواء عطف قوله تعالى : ولا هم ينظرون على المقيد أو على المجموع فتأمل
وتعقب بأن ذلك خلاف الظاهر وأيضا كون يوم الفتح يوم بدر بعيد عن كون السورة مكية وكذا كونه يوم فتح مكة ويبعد هذا أيضا قلة المقتولين في ذلك اليوم جدا تدبر
فأعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم وإستهزائهم وعن إبن عباس أن ذلك منسوخ بآية السيف ولا يخفى أنه يحتمل أن المراد الإعراض عن مناظرتهم لعدم نفعها أو تخصيصه بوقت معين فلا يتعين النسخ
وأنتظر النصرة عليهم وهلاكهم إنهم منتظرون 03 قال الجمهور : أي الغلبة عليكم كقوله تعالى : فتربصوا إنا معكم متربصون وقيل : الأظهر أن يقال : إنهم منتظرون هلاكهم كما في قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام الآية ويقرب منه ما قيل : وأنتظر عذابنا لهم إنهم منتظرون أي هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون فإن إستعجالهم المذكور وعكوفهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي في حكم إنتظارهم العذاب المترتب عليه لا محالة وقرأ اليماني منتظرون بفتح الظاء أسم مفعول على معنى أنهم أحقاء أن ينتظر هلاكهم أو أن الملائكة عليهم السلام ينتظرونه والمراد أنهم هالكون لا محالة هذا
ومن باب الإشارة قوله تعالى : ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الإلتفات إلى الأسباب والإعتماد عليها وقوله سبحانه : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض فيه إشارة إلى أن تدبير العباد عند تدبيره عزوجل لا أثر له فطوبى لمن رزق الرضا بتدبير الله تعالى وأستغنى به عن تدبيره الذي أحسن كل شيء خلقه فيه إرشاد إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يستقبح شيئا من المخلوقات وقد حكى أن نوحا عليه السلام بصق على كلب أجرب فأنطق الله تعالى الكلب فقال : يانوح أعبتني أم عبت خالقي فناح عليه السلام لذلك زمانا طويلا فالأشياء كلها حسنة كل في بابه والتفاوت إضافي وفي قوله تعالى : وبدأ خلق الإنسان من طين إلى آخر الآية بعد قوله سبحانه : الذي أحسن إلخ إشارة إلى التنقل في أطوار الحسن والعروج في معارجه فكم بين الطين والإنسان السميع البصير العالم فإن الإنسان مشكاة أنوار الذات والصفات والطين بالنسبة إليه كلا شيء إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم
(21/141)
وهم لا يستكبرون إشارة إلى حال كاملي الإيمان وعلو شأن السجود والتسبيح والتحميد والتواضع لعظمته عزوجل تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا إشارة إلى سهرهم في مناجاة محبوبهم وملاحظة جلاله وجماله وفي قوله : ومما رزقناهم أي من المعارف وأنواع الفيوضات ينفقون إشارة إلى تكميلهم للغير بعد كمالهم في أنفسهم وذكر القوم أن العذاب الأدنى الحرص على الدنيا والعذاب الأكبر العذاب على ذلك
وقال بعضهم : الأول التعب في طلب الدنيا والثاني شتات السر وقيل : الأول حرمان المعرفة والثاني الإحتجاب عن مشاهدة المعروف وقيل : الأول الهوان والثاني الخذلان وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فيه إشارة إلى ما ينبغي أن يكون المرشد عليه من الأوصاف وهو الصبر على مشاق العبادات وأنواع البليات وحبس النفس عن ملاذ الشهوات والإيقان بالآيات فمن يدعى الإرشاد وهو غير متصف بما ذكر فهو ضال مضلل فأعرض عنهم وأنتظر أنهم منتظرون فيه إشارة إلى أنه ينبغي الإعراض عن المنكرين المستهزئين بالعارفين والسالكين إذا لم ينجع فيهم الإرشاد والنصيحة وإلى أنهم هالكون لا محالة فإن الإنكار الذي لا يعذر صاحبه سم قاتل وسهم هدفه المقاتل نوعذ بالله تعالى من الحور بعد الكور بحرمة حبيبه الأكرم صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم
سورة الأحزاب
33 - أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : نزلت سورة الأحزاب بالمدينة وأخرج إبن مردويه عن إبن الزبير مثله وهي ثلاث وسبعون آية قال الطبرسي بالإجماع وقال الداني هذا متفق عليه وأخرج عبدالرزاق في المصنف والطيالسي وسعيد بن منصور وعبدالله بن أحمد في زوائد المسند والنسائي والحاكم وصححه والضياء في المختارة وآخرون عن زر بن حبيش قال : قال لي أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه كائن تقرأ سورة الأحزاب أو كائن تعدها قلت : ثلاثا وسبعين آية فقال : أقط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم فرفع فيما رفع وأراد رضي الله تعالى عنه بذلك النسخ وأما كون الزيادة كانت في صحيفة عند عائشة فأكلها الداجن فمن وضع الملاحدة وكذبهم في أن ذلك ضاع بأكل الداجن من غير نسخ كذا في الكشاف
وأخرج أبو عبيد في الفضائل وإبن الأنباري وإبن مردويه عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان رضي الله تعالى عنه المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن وهو ظاهر في الضياع من القرآن ومقتضى ما سمعت أنه موضوع والحق أن كل خبر ظاهره ضياع شيء من القرآن أما موضوع أو مؤول ووجه إتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي تشابه مطلع هذه ومقطع تلك فإن تلك ختمت بأمر النبي بالإعراض عن الكافرين وإنتظار عذابهم وهذه بدئت بأمره عليه الصلاة و السلام بالتقوى وعدم طاعة الكافرين والمنافقين وإتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه عزوجل حيث قال سبحانه وتعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ياأيها النبي أتق الله ناداه جل وعلا بوصفه عليه الصلاة
(21/142)
والسلام دون أسمه تعظيما له وتفخيما قال في الكشاف إنه تعالى جعل نداءه من بين الأنبياء عليهم السلام بالوصف كرامة له عليه الصلاة و السلام وتشريفا وربا بمحله وتنويها بفضله وأوقع أسمه في الأخبار في قوله تعالى : محمد رسول الله وما محمد إلا رسول لتعليم الناس بأنه رسول وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به فلا تفاوت بين النداء والأخبار ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره تعالى بنحو ما ذكره في النداء كما في قوله تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم وقال الرسول يارب النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم إلى غير ذلك
وتعقبه في الكشف بأن أمر التعليم والتلقين في قوله تعالى محمد رسول الله ظاهر أما في قوله تعالى وما محمد إلا رسول فلا على أن قوله تعالى : وآمنوا بما نزل على محمد ينقض ما بناه نعم النداء يناسب التعظيم وربما يكون نداء سائر الأنبياء عليهم السلام في كتبهم أيضا على نحو منه وحكى في القرآن بأسمائهم دفعا للإلباس والأشبه أنه لما قل ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم بأسمه دل على أنه أعظم شأنا صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعليهم أجمعين وفيه نظر
وأختار الطيبي طيب الله تعالى ثراه أن النداء المذكور هنا للإحتراس وجبر ما يوهمه الأمر والنهي كقوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم وظاهر سياق ما بعد أن المعنى بالأمر بالتقوى هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا أمته كما قيل في نظائره والمقصود الدوام والثبات عليها وقيل : الأزدياد منها فإن لها بابا وأسعار وعرضا عريضا لا ينال مداه ولا تطع الكافرين أي المجاهرين بالكفر والمنافقين المضمرين لذلك فيما يريدون من الباطل أخرج إبن جرير عن الضحاك عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إن أهل مكة منهم الوليد إبن المغيرة وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه فنزلت وذكر الثعلبي والواحدي بغير إسناد أن أبا سفيان إبن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه عليه الصلاة و السلام في زمان الموادعة التي كانت بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبينهم وقام معهم عبدالله بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرفض ذكر آلهتنا وقل : إنها تشفع وتنفع وندعك وربك فشق ذلك على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين وهموا بقتلهم فنزلت وقيل : نزلت في ناس من ثقيف قدموا على رسول الله فطلبوا منه عليه الصلاة و السلام أن يمتعهم باللات والعزى سنة قالوا : لتعلم قريش منزلتنا منك ولا يبعد أن يكون المراد بالنهي الثبات على عدم الإطاعة وذكره بعد الأمر بالتقوى المراد منه الثبات عليها على ما قيل من قبيل التخصيص بعد التعميم لإقتضاء المقام الإهتمام به وقيل : من قبيل التأكيد وقيل : متعلق كل من التقوى والإطاعة مغاير للآخر على ما روى الواحدي والثعلبي والمعنى أتق الله تعالى في نقض العهد ونبذ الموادعة ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا منك من رفض ذكر آلهتهم وقولك : إنها تشفع وتنفع وكأنه إنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى في نقض العهد لما أن المؤمنين قد هموا بما يقتضيه بخلاف الإطاعة المنهي عنها فإنها مما لم يهم بما يقتضيها أحد أصلا فكان الإهتمام بالأمر أتم من الإهتمام بذلك النهي إن الله كان عليما حكيما 1 مبالغا في العلم والحكمة فيعلم الأشياء من المصالح والمفاسد فلا يأمرك إلا بما فيه
(21/143)
مصلحة ولا ينهاك إلا عما فيه مفسدة ولا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة البالغة فالجملة تعليل للأمر والنهي مؤكد لوجوب الإمتثال بها
وقيل : المعنى إن الله كان عليما بمن يتقي فيجازيه بما يليق به حكيما في هدى من شاء وإضلال من شاء فالجملة تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وليس بشيء وقوله تعالى : وأتبع ما يوحى إليك من ربك عطف على ما تقدم من قبيل عطف العام عل ىالخاص أي أتبع في كل ما نأتي وتذر من أمور الدين ما يوحى إليك من الآيات التي من جملتها هذه الآية الآمرة بتقوى الله تعالى الناهية عن إطاعة الكفرة والمنافقين والتعرض لعنوان الربوبية لتأكيد وجوب الإمتثال بالأمر إن الله كان بما تعملون خبيرا 2 قيل : الخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والجمع للتعظيم وقال أبو البقاء : إنما جاء بالجمع لأنه عني بقوله تعالى : أتبع ما يوحى إلخ أتبع أنت ؤأصحابك وقيل : للغائبين من الكفرة المنافقين وبطريق الإلتفات ولا يخفى بعده نعم يجوز أن يكون للكل على ضرب من التغليب وأياما كان فالجملة تعليل للأمر وتأكيد لموجبه فكأنه قيل على الأول : إن الله تعالى يعلم بما تعمل فيرشدك إلى ما فيه الصلاح فلا بد من إتباع الوحي والعمل بمقتضاه حتما وعلى الثاني أن الله تعالى خبير بما يعمل الكفرة والمنافقون من الكيد والمكر فيأمرك سبحانه بما يدفعه فلا بد من إتباع ما يوحيه جل وعلا إليك وعلى الثالث أن الله تعالى خبير بما تعمل ويعمل الكفرة والمنافقون فيرشدك إلى ما فيه صلاح حالك ويطلعك على كيدهم ومكرهم ويأمرك جل شأنه بما يدفع ذلك ويرده فلا بد من إتباع وحيه تعالى والعمل بموجبه وقرأ أبو عمر و يعملون بياء الغيبة على أن الضمير للكفرة والمنافقين
وجوز كونه عاما فلا تغفل وتوكل على الله أي فوض جميع أمورك إليه عزوجل وكفى بالله وكيلا 3 حافظا موكولا إليه كل الأمور والإظهار في مقام الإضمار للتعظيم ولتستقل الجملة إستقلال المثل
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه أخرج أحمد والترمذي وحسنه وإبن جرير وإبن المندر وإبن أبي حاتم والحاكم وصححه وإبن مردويه والضياء في المختارة عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فنزلت وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه صلى رسول الله تعالى عليه وسلم صلاة فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فأكثروا فقالوا : إن له قلبين ألم تسمعوا إلى قوله وكلامه في الصلاة إن له قلبا معكم وقلبا مع أصحابه فنزلت وقال مقاتل في تفسيره وإسماعيل بن أبي زياد الشامي وغيرهما : نزلت في أبي معمر الفهري كان أهل مكة يقولون : له قلبان من قوة حفظه وكانت العرب تزعم أن كل لبيب أريب له قلبان حقيقة وأبو معمر هذا أشتهر بين أهل مكة بذي القلبين وهو على ما في الإصابة جميل بن أسيد مصغر الأسد وقيل : إبن أسد مكبرا وسماه إبن دريد عبدالله بن وهب وقيل : إن ذا القلبين هو جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة إبن جمح الجمحي وهو المعنى بقوله : وكيف ثوائي البيت وقد تقدم في تفسيره سورة لقمان والمعول على ما في الإصابة وحكى أنه كان يقول : إن لي قلبين أفهم بأحدهما
(21/144)
أكثر مما يفهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فروى أنه إنهزم يوم بدر فمر بأبي سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له أبو سفيان : ما فعل الناس فقال : هم ما بين مقتول وهارب فقال له : ما بال إحدى نعليك في رجلاك والأخرى في يدك فقال : ما ظننت إلا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله وقولهم
وعن الحسن أنه كان جماعة يقول الواحد منهم : نفس تأمرني ونفس تنهاني فنزلت والجعل بمعنى الخلق ومن سيف خطيب والمراد ما خلق سبحانه لأحد أو لذي قلب من الحيوان مطلقا قلبين فخصوص الرجل ليس بمقصود وتخصيصه بالذكر لكمال لزوم الحياة فيه فإذا لم يكن ذلك له فكيف بغيره من الإناث وأما الصبيان فمآلهم إلى الرجولية وقوله سبحانه : في جوفه للتأكيد والتصوير كالقلوب في قوله تعالى : ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وذكر في بيان عدم جعله تعالى قلبين في جوف بناء على ما هو الظاهر من أن المراد بالقلب المضغة الصنوبرية أن النفس الناطقة وكذا الحيوانية لا بد لها من متعلق ومتعلقها هو الروح وهو جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية لأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة عما وراء موضع الشد مما لا يلي جهة الدماغ والشد لا يمنع إلا نفوذ الأجسام والتجارب الطبية أيضا شاهدة بذلك وحيث أن النفس واحدة فلا بد من عضو واحد يكون تعلقها به أو لإثم بسائر الأعضاء بواسطته
وقد ذكر غير واحد أن أول عضو يخلق هو القلب فإنه المجمع للروح فيجب أن يكون التعلق أولا به ثم بواسطته بالدماغ والكبد وبسائر الأعضاء فمنبع القوى بأسرها منه وذلك يمنع التعدد إذ لو تعدد بأن كان هناك قلبان لزم أن يكون كل منهما أصلا للقوى وغير اصل لها أو توارد علتين على معلول واحد ولا يخفى على من له قلب أن هذا مع إبتنائه على مقدمات لا تكاد تثبت عند أكثر الإسلاميين من السلف الصالح والخلف المتأخرين ولو بشق الأنفس أمر إقناعي لا برهان قطعي على أن للفلسفي أيضا له فيه مقالا وقد يفسر القلب بالنفس بناء على أن سب النزول ما روى عن الحسن إطلاقا للمتعلق على المتعلق وقد بينوا وحدة النفس وأنه لا يجوز أن تتعلق نفسان فأكثر ببدن بما يطول ذكره وللبحث فيه مجال فليراجع ثم إن هذا التفسير بناء على أن سبب النزول ما ذكر غير متعين بل يجوز تفسير القلب عليه بما هو الظاهر المتبادر أيضا وحيث أن القلب متعلق النفس يكون نفي جعل القلبين دالا على نفي جعل النفسين فتدبر
وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم إبطال لما كان في الجاهلية من أجزاء أحكام الأمومة على المظاهر منها والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر ويستعمل في معان مختلفة راجعة إليه معنى ولفظا بحسب إختلاف الأغراض فيقال ظاهرته إذا قابلت ظهرك بظهره حقيقة وكذا إذا غايظته بإعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة وظاهرته إذا نصرته بإعتبار أنه يقال : قوى ظهره إذا نصره وظاهرت بين ثوبين إذا لبست أحدهما فوق الآخر على إعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرا للثوب ويقال : ظاهر من زوجته إذ قال لها أنت علي كظهر أمي نظير أي إذ قال لبيك وأفف إذا قال أف وكون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا لا يمنع الإشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا والمراد منه هنا المعنى الأخير وكان ذلك طلاقا منهم
وإنما عدى بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التباعد ونحوه مما فيه معنى المجانبة ويتعدى بمن والظهر في ذلك مجاز على ما قيل عن البطن لأنه إنما يركب البطن فقوله : كظهر أمي بمعنى كبطنها بعلاقة المجاورة ولأنه
(21/145)
عموده قال إبن الهمام : لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات وقال الأزهري ما معناه : خصوا الظهر لأنه محل الركوب والمرأة تركب إذا غشيت فهو كناية تلويحية إنتقل من الظهر إلى المركوب ومنه إلى المغشى والمعنى أنت محرمة علي لا تركبين كما لا يركب ظهر الأم وقيل : خص الظهر لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها كان حراما عندهم فإتيان أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ وقيل : كنوا بالظهر عن البطن لأنهم يستقبحون ذكر الفرج وما يقرب منه سيما في الأم وما شبه بها وليس بذاك وهو في الشرع تشبيه الزوجة أو جزء منها شائع أو معبر به عن الكل بمالا يحل النظر إليه من المحرمة على التأييد ولو برضاع أو صهرية وزاد في النهاية قيد الإتفاق ليخرج التشبيه بما لا يحل النظر إليه بمن أختلف في تحريمها كالبنت من الزنا وتحقيق الحق في ذلك في فتح القدير وخص بأسم الظهار تغليبا للظهر لأنه كان الأصل في إستعمالهم وشرطه في المرأة كونها زوجة وفي الرجل كونه من أهل الكفارة وركنه اللفظ المشتمل على ذلك التشبيه وحكمه حرمة الوطء ودواعيه إلى وجود الكفارة وتمام الكلام فيه في كتب الفروع وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ذلك في محله
وقرأ قالون وقنبل هنا وفي المجادلة والطلاق اللاء بالهمز من غير ياء وورش بياء مختلسة الكسرة والبزيء وأبو عمرو اللاي بياء ساكنة بدلا من الهمزة وهو بدل مسموع لا مقيس وهي لغة قريش وقرأ أهل الكوفة غير عاصم تظاهرون بفتح التاء وتشديد الظاء وأصله كما تقدم إلا أنه أدغمت التاء الثانية في الظاء وقرأ الحسن تظهرون بضم التاء وفتح الظاء المخففة وشد الهاء المكسورة مضارع ظهر بتشديد الهاء بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد وقرأ إبن وثاب فيما نقل إبن عطية تظهرون بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء مضارع أظهر وقرأ هارون عن أبي عمرو تظهرون بفتح التاء والهاء وسكون الظاء ومضارع ظهر بتخفيف الهاء وفي مصحف أبي تتظهرون بتاءين ومعنى الكل واحد
وما جعل أدعياءكم أبناءكم إبطال لما كان في الجاهلية أيضا وصدر من الإسلام من أنه إذا تبنى الرجل ولد غيره أجريت أحكام البنوة عليه وقد تبنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل البعثة زيد إبن حارثة والخطاب عامر بن ربيعة وأبو حذيفة مولاه سالما إلى غير ذلك وأخرج إبن أبي شيبة وإبن جرير وإبن المنذر عن مجاهد أن قوله تعالى : وما جعل إلخ نزلت في زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه
و أدعياء جمع دعى وهو الذي يدعى إبنا فهو فعيل بمعنى مفعول وقياسه أن يجمع على فعلي كجريح وجرحي لا على أفعلاء فإن الجمع عليه قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل كتقي وأتقياء فكأنه شبه به في اللفظ فحمل عليه وجمع جمعه كما قالوا في أسير وقتيل أسراء وقتلاء وقيل : إن هذا الجمع مقيس في المعتل مطلقا وفيه نظر
ذلكم قيل : إشارة إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من أنه قد يكون قلبان في جوف والظهار والإدعاء وقيل : إلى ما يفهم من الأخيرتين وقيل : إلى ما يفهم من الأخيرة قولكم بأفواهكم فقط من غير أن يكون له مصداق وحقيقة في الواقع ونفس الأمر فإذن هو بمعزل عن القبول أو إستتباع الأحكام كما زعمتم
(21/146)
والله يقول الحق الثابت المحقق في نفس الأمر وهو يهدي السبيل 4 أي سبيل الحق فدعوا قولكم وخذوا بقوله عزوجل
وقرأ قتادة على ما في البحر يهدي بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال وفي الكشاف أنه قرأ وهو الذي يهدي السبيل أدعوهم لآبائهم أي أنسبوهم إليهم وخصوهم بهم أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن أدعوهم لآبائهم إلخ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أنت زيد إبن حارثة بن شراحيل وكان من أمره رضي الله تعالى عنه على ما أخرج إبن مردويه عن إبن عباس أنه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طي فأصيب في نهب من طي فقدم به سوق عكاظ وأنطلق حكيم بن حزام إبن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه فلما قدم وجد زيدا يباع فيها فأعجبه ظرفه فأبتاعه فقدم به عليها وقال لها : إني قد أبتعت لك غلاما ظريفا عربيا فإن أعجبك فخذيه وإلا فدعيه فإنه قد أعجبني فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته فتزوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو عندها فأعجب النبي عليه الصلاة و السلام ظرفه فأستوهبه منها فقالت أهبه لك فإن أردت عقته فالولاء لي فأبى عليها عليه الصلاة و السلام فأوهبته له إن شاء أعتق وإن شاء أمسك قال : فشب عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام فمر بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه فقال : من أنت ياغلام قال : غلام من أهل مكة قال : من أنفسهم قال : لا قال : فحر أنت أم مملوك قال : بل مملوك قال : لمن قال : لمحمد بن عبدالله بن عبدالمطلب فقال له : أعرابي أنت أم عجمي قال : عربي قال : ممن أصلك قال : من كلب قال : من أي كلب قال : من بني عبد ود قال : ويحك إبن من أنت قال : إبن حارثة بن شراحيل قال : وأين أصبت قال : في أخوالي قال : ومن أخوالك قال طي قال : ما أسم أمك قال : سعدى فالتزمه وقال : إبن حارثة ودعا أباه فقال : ياحارثة هذا إبنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال : كيف صنع مولاك إليك قال : يؤثرني على أهله وولده فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة فلقوا رسول الله فقال له حارثة : يامحمد أنتم أهل حرم الله تعالى وجيرانه وعند بيته تفكون العاني وتطعمون الأسير إبني عندك فأمنن علينا وأحسن إلينا في فدائه فإنك إبن سيد قومه وإنا سنرفع إليك في الفداء ما أحببت فقال له رسول الله : أعطيكم خيرا من ذلك قالوا : وما هو قال أخيره فإن إختاركم فخذوه بغير فداء وإن إختارني فكفوا عنه فقال : جزاك الله تعالى خيرا فقد أحسنت فدعاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يازيد أتعرف هؤلاء قال : نعم هذا أبي وعمي وأخي فقال عليه الصلاة و السلام : فهم من قد عرفتهم فإن أخترتهم فأذهب معهم وإن أخترتني فأنا من تعلم قال له زيد : ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا أنت معي بمكان الوالد والعم قال أبوه وعمه : أيا زيد أتختار العبودية قال : ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حرصه عليه قال : أشهدوا إنه حر وإنه إبني يرثني وأرثه فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامته عليه عليه الصلاة و السلام فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن أدعوهم لآبائهم فدعى زيد بن حارثة وفي بعض
(21/147)
الروايات أن أباه سمع أنه بمكة فأتاه هو وعمه وأخوه فكان ما كان هو أقسط عند الله تعليل للأمر والضمير لمصدر أدعوا كما في قوله تعالى : أعدلوا هو أقرب للتقوى و أقسط أفعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل والمراد به البالغ ف الصدق فأندفع ما يتوهم من أن المقام يقتضي ذكر الصدق لا العدل أي دعاؤكم إياهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق وزائد فيه في حكم الله تعالى وقضائه عزوجل
وجوز أن يكون أفعل على ما هو الشائع فيه والمعنى أعدل مما قالوه ويكون جعله ذا عدل مع أنه زور لا عدل فيه أصلا على سبيل التهكم فإن لم تعلموا أي تعرفوا آباءهم فتنسبوهم إليهم فإخوانكم أ يفهم إخوانكم في الدين ومواليكم أي وأولياؤكم فيه فأدعوهم بالأخوة والمولوية بتأويلهما بالأخوة والولاية في الدين وبهذا المعنى قيل لسالم بعد نزول الآية مولى حذيفة وكان قد تبناه قبل وقيل : مواليكم أي بنوا أعمامكم وقيل : معتقوكم ومحرروكم وكأن دعاءهم بذلك لتطييب قلبوهم ولذا لم يؤمر بدعائهم بأسمائهم فقط
وليس عليكم جناح أي إثم فيما أخطأتم به أي فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل النهي ولكن ما تعمدت قلوبكم أي ولكن الجناح والإثم فيما تعمدتموه بعد النهي على أن ما في محل الجر عطفا على ما من فيما أخطأتم وتعقب بأن المعطوف المجرور لا يفصل بينه وبين ما عطف عليه ولذا قال سيبويه في قولهم ما مثل عبدالله يقول ذلك ولا أخيه : إنه حذف المضاف من جهة المعطوف وأبقى المضاف إليه على إعرابه والأصل ولا مثل أخيه ليكون العطف على المرفوع وأجيب بالفرق بين ما هنا والمثال وإن لا فصل فيه لأن المعطوف هو الموصول مع صلته أعني ما تعمدت على مثله أعني ما أخطأتم أو ولكن ما تعمدتم فيه الجناح على أن ما في موضع رفع على الإبتداء وخبره جملة مقدرة ونسبة التعمد إلى القلوب على حد النسبة في قوله تعالى : فإنه آثم قلبه وكون المراد في الأول قبل النهي وفي الثاني بعده أخرجه الفريابي وإبن أبي شيبة وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن مجاهد وقيل : كلا الأمرين بعد النهي والخطأ مقابل العمد والمعنى لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يابني على سبيل الخطأ وعدم التعمد كأن سهوتم أو سبق لسانكم ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين وأخرج إبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية : لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه
وجوز أن يراد بقوله تعالى : وليس عليكم جناح إلخ العفو عن الخطأ دون العمد على طريق العموم لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إني لست أخاف عليكم الخطأ ولكن أخاف عليكم العمد وحديث إبن عباس قال : قال عليه الصلاة و السلام وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وماأكرهوا عليه ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده والجملة على تقديري الخصوص والعموم واردة على سبيل الإعتراض التذييلي تأكيدا لإمتثال ما نبدوا إليه مع إدماج حكم مقصود في نفسه وجعلها بعضهم عطفا مؤولا بجملة طلبية على معنى أدعوهم لآبائهم هو أقسط لكم ولا تدعوهم لأنفسكم متعمدين
(21/148)
فتأثموا على تقدير الخصوص وجملة مستطردة على تقدير العموم وتعقب بأنه تكلف عنه مندوحة وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه ولعل ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية وأما إذا لم تكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة ياإبني وكثيرا ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة
وفي حواشي الخفاجي على تفسير البيضاوي النبوة وإن صح فيها التأويل كالأخوة لكن نهى عنها بالتشبيه بالكفرة والنهي للتنزيه إنتهى ولعله لم يرد بهذا النهي ما تدل عليه الآية المذكورة فإن ما تدل عليه نهى التحريم عن الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية والأولى أن يقال في تعليل النهي : سدا لباب التشبه بالكفرة بالكلية وهذا الذي ذكره الخفاجي من كراهة قول الشخص لولد غيره ياإبني حكاه لي من أرتضيه عن فتاوي إبن حجر الكبرى وحكم التبني بقوله : هو إبني إن كان عبدا للقائل العتق على كل حال ولا يثبت نسبه منه إلا إذا كان مجهول النسب وكان بحيث يولد مثله لمثله ولم يقر قبله بنسب من غيره وعند الشافعي لا عبرة بالتبني فلا يفيد العتق ولا ثبوت النسب وتحقيق ذلك في موضعه ثم الظاهر أنه لا فرق إذا لم يعرف الأب بين أن يقال ياأخي وإن يقال ياكولاي في أن كلا منهما مباح مطلقا حينئذ لكن صرح بعضهم بحرمة أن يقال للفاسق يامولاي لخبر في ذلك وقيل : لما أن فيه تعظيمه وهو حرام ومقتضاه أن قول ياأخي إذا كان فيه تعظيم بأن كان من جليل الشأن حرام أيضا فلعل الدعاء لغير معروف الأب بما ذكر مخصوص بما إذا لم يكن فاسقا ودليل التخصيص هو دليل حرمة تعظيم الفاسق فتدبر وكذا الظاهر أنه لا فرق في أمر الدعوة بين كون المدعو ذكرا وكونه إنثى لكن لم نقف على وقوع التبني للإناث في الجاهلية والله تعالى أعلم وكان الله غفورا فيغفر للعامد إذا تاب رحيما 5 ولذا رفع سبحانه الجناح عن المخطيء ويعلم من الآية أنه لا يجوز إنتساب الشخص إلى غير أبيه وعد ذلك بعضهم من الكبائر لما أخرج الشيخان وأبو داؤد عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من إدعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه أبيه فالجنة عليه حرام
وأخرج الشيخان أيضا من إدعى إلى غير أبيه أو إنتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله تعالى منه صرفا ولا عدلا وأخرجا أيضا ليس من رجل إدعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر
وأخرج الطبراني في الصغير من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديثه حسن قال : قال رسول الله كفر من تبرأ من نسب وأن دق أو إدعى نسبا لا يعرف إلى غير ذلك من الأخبار هذا ومناسبة قوله تعالى : ما جعل الله إلخ لما قبله أنه شروع في ذكر شيء من الوحي الذي أمر في إتباعه كذا قيل وقيل : إنه تعالى لما أمر بالتقوى كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله تعالى فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما الله تعالى وبالآخر غيره سبحانه إلا بصرف القلب عن جهة الله تعالى إلى غيره جل وعلا ولا يليق ذلك بمن يتقي الله تعالى حق تقاته وعن أبي مسلم أنه متصل بقوله تعالى : ولا تطع الكافرين والمنافقين حيث جيء به للرد عليهم والمعنى ليس لأحد قلبان يؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر وإنما هو قلب واحد فإما أن يؤمن وإما أن يكفر وقيل : هو متصلبلا تطع وأتبعوالمعنى أنه لا يمكن الجمع بين إتباعين متضادين إتباع الوحي والقرآن
(21/149)
وإتباع أهل الكفر والطغيان فكنى عن ذلك بذكر القلبين لأن الإتباع يصدر عن الإعتقاد وهو من أفعال القلوب فكما لا يجمع قلبان في جوف واحد لا يجمع إعتقادان متضادان في قلب واحد وقيل : هو متصل بقوله تعالى : وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا من حيث أنه مشعر بوحدته عزوجل فكأنه قيل : وتوكل على الله وكفى به تعالى وكيلا فإنه سبحانه وتعالى وحده المدبر لأمور العالم ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن أمر الرجل الواحد لا ينتظم ومعه قلبان فكيف تنتظم أمور العالم وله إلهان وقيل : إن ذاك مسوق للتنفير عن إطاعة الكفرة والمنافقين بحكاية أباطيلهم وذكر أن قوله تعالى : ما جعل إلخ ضرب مثلا للظهار والتبني أي كما لا يكون لرجل قلبان لا تكون المظاهرة أما والمتبني إبنا وجعل المذكورات الثلاث بجملتها مثلا فيما لا حقيقة له وأرتضى ذلك غير واحد وقال الطيبي : إن هذا أنسب لنظم القرآن لأنه تعالى نسق المنفيات الثلاث عن ترتيب واحد وجعل سبحانه قوله جل وعلا : ذلكم فذلكة لها ثم حكم تعالى بأن ذلك قول لا حقيقة له ثم ذيل سبحانه وتعالى الكل بقوله تعالى : والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وتعقبه في الكشف بأن سبب النزول وقوله سبحانه بعد التذييل أدعوهم لآبائهم الآية شاهد أصدق بأن الأول مضروب للتبني ثم إنهم ما كانوا يجعلون الأزواج أمهات بل كانوا يجعلون اللفظ طلاقا فإدخاله في قرن مسئلة التبني إستطرادا هو الوجه لا أنه قول لا حقيقة له كالأول
وأنتصر الخفاجي للجماعة فقال : لو كان مثلا للتبني فقط لم يفصل منه وكون القلبين لرجل وجعل المتبني إبنا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في نفس الأمر ولا في شرع ظاهر وكذا جعل الأزواج كالأمهات في الحرمة المؤبدة مطلقا من مخترعاتهم التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي فلا حقيقة له أيضا فما أدعاه غير وارد عليهم لا سيما مع مخالفته لما روى عنهم إنتهى ويد الله تعالى مع الجماعة وبين الطيبي نظم الآيات من مفتتح السورة إلى ههنا فقال : إن الإستهلال بقوله تعالى : ياأيها النبي أتق الله دال على أن الخطاب مشتمل على التبنية على أمر معتني بشأنه لائح فيه معنى التهييج والإلهاب ومن ثم عطف عليه ولا تطع كما يعطف الخاص على العام وأردف النهي بالأمر على نحو قولك لا تطع من يخذلك وأتبع ناصرك ولا يبعد أن يسمى بالطرد والعكس ثم أمر بالتوكل تشجيعا على مخالفة أعداء الدين والإلتجاء إلى حريم جلال الله تعالى ليكفيه شرورهم ثم عقب سبحانه كلا من تلك الأوامر على سبيل التتميم والتذييل بما يطابقه وعلل قوله تعالى ولا تطع الكافرين والمنافقين بقوله سبحانه وتعالى وإن الله كان عليما حكيما تتميما للإرتداع أي أتق الله فيما تأتي وتذر في سرك وعلانيتك لأنه تعالى عليم بالأحوال كلها يجب أن يحذر من سخطه حكيم لا يحب متابعة حبيبه أعداءه وعلل قوله تعالى : وأتبع ما يوحى إليك من ربك بقوله تعالى : إن الله كان بما تعملون خبيرا تتميما أيضا أي أتبع الحق ولا تتبع أهواءهم الباطلة وآراءهم الزائغة لأن الله تعالى يعلم عملك وعملهم فيكافيء كلا ما يستحقه وذيل سبحانه وتعالى قوله تبارك وتعالى : وتوكل على الله بقوله تعالى : وكفى بالله وكيلا تقريرا وتوكيدا عل ىمنوال فلأن ينطق بالحق والحق أبلج يعني من حق من يكون كافيا لكل الأمور أن تفوض الأمور إليه وتوكل عليه وفصل قوله تعالى : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه على سبيل الإستئناف تنبيها على بعض من أباطيلهم وتمحلاتهم وقوله تعالى ذلكم قولكم إلخ فذلكة لتلك الأقوال آذنت بأنها جديرة بأن يحكم عليها بالبطلان وحقيق بأن يذم قائلها فضلا عن أن يطاع ثم وصل تعالى والله يقول الحق إلخ على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في ولا تطع وأتبع وفصل قوله تعالى : أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله وقوله تعالى : النبي إلخ وهلم جرا إلى آخر السورة تفصيلا لقول الحق والإهتداء إلى
(21/150)
السبيل القويم إنتهى فتأمل ولا تغفل النبي أولى بالمؤمنين أي أحق وأقرب إليهم من أنفسهم أو أشد ولاية ونصرة لهم منها فإنه عليه الصلاة و السلام لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فإنها إما أمارة بالسوء وحالها ظاهر أو لا فقد تجهل بعض المصالح وتخفي عليها بعض المنافع وأطلقت الأولوية ليفيد الكلام أولويته عليه الصلاة و السلام في جميع الأمور ويعلم من كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم كونه عليه الصلاة و السلام أولى بهم من كل من الناس وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عنه أنه قال : ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة أقرؤا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا فلياتني فأنا مولاه ولا يلزم عليه كون الأنفس هنا مثلها في قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم لأن إفادة الآية المدعى على الظاهرة ظاهرة أيضا وإذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم بهذه المثابة في حق المؤمنين يجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وحكمه عليه الصلاة و السلام عليهم أنفذ من حكمها وحقه آثر لديهم من حقوقها وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها وسبب نزول الآية على ما قيل ما روى من أنه عليه الصلاة و السلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال أناس منهم : يستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت ووجه دلالتها على السبب أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى ولا حاجة إلى حمل أنفسهم عليه على خلاف المعنى المتبادر كما أشرنا إليه آنفا وأزواجه أمهاتهم أي منزلات منزلة أمهاتهم في تحريم النكاح وإستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وارثهن ونحو ذلك فهن كالأجنبيات وفرع على هذا القسطلاني في المواهب أنه لا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين في الأصح والطبرسي وهو شيعي أنه لا يقال لإخوانهن أخوال المؤمنين ولا يخفى أنه يسر حسوا بإرتغاء وفي المواهب أن في جواز النظر إليهن وجهين أشهرهما المنع ولكون وجه الشبه مجموع ما ذكر قالت عائشة رضي الله تعالى عنها لإمرأة قالت لها ياأمه : أنا أم رجالكم لا أم نسائكم أخرجه إبن سعد وإبن المنذر والبيهقي في سننه عنها ولا ينافي هذا إستحقاق التعظيم منهن أيضا
وأخرج إبن سعد عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت أنا أم الرجال منكم والنساء وعليه يكون ما ذكر وجه الشبه بالنسبة إلى الرجال وأما بالنسبة إلى النساء فهو إستحقاق التعظيم والظاهر أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلى الله تعالى عليه وسلم من طلقها ومن لم يطلقها وروى ذلك إبن أبي حاتم عن مقاتل فيثبت الحكم لكلهن وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة وقيل : لا يثبت الحكم لمن فارقها عليه الصلاة و السلام في الحياة كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا وصحح إمام الحرمين والرافعي في الصغير تحريم المدخول بها فقط لما روى أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر يرجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه هم برجمها فقالت له : ولم هذا وما ضرب على حجاب ولا سميت للمسلمين أما فكف عنها وذكر في المواهب أن في حل من أختارت منهن الدنيا للأزواج طريقين أحدهما طرد الخلاف والثاني القطع بالحل وأختار هذا الإمام
(21/151)
والغزالي وحكى القول بأن المطلقة لا يثبت لها هذا الحكم عن الشيعة وقد رأيت في بعض كتبهم نفي الأمومة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالوا : لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فوض إلى علي كرم الله تعالى وجهه أن يبقى من يشاء من أزواجه ويطلق من يشاء منهن بعد وفاته وكالة عنه عليه الصلاة و السلام وقد طلق رضي الله تعال ىعنه عائشة يوم الجمل فخرجت عن الأزواج ولم يبق لها حكمهن وبعد أن كتبت هذا أتفق لي أن نظرت في كتاب ألفه سليمان بن عبدالله البحراني عليه من الله تعالى ما يستحق في مثالب جمع من الصحابة حاشى رضي الله تعالى عنهم فرأيت ما نصه : روى أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الإحتجاج عن سعد بن عبدالله أنه سأل القائم المنتظر وهو طفل في حياة أبيه فقال له يامولانا وإبن مولانا روى لنا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه حتى أنه بعث في يوم الجمل رسولا إلى عائشة وقال : إنك أدخلت الهلاك على الإسلام وأهله بالغش الذي حصل منك وأوردت أولادك في موضع الهلاك بالجهالة فإن أمتنعت وإلا طلقتك فأخبرنا يامولانا عن معنى الطلاق الذي فوض حكمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أمير المؤمنين فقال : إن الله تقدس أسمه عظم شأن نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فخصهن بشرف الأمهات فقال عليه الصلاة و السلام : ياأبا الحسن إن هذا الشرف باق ما دمنا على طاعة الله تعالى فأيتهن عصت الله تعالى بعدي بالخروج عليك فطلقها من الأزواج وأسقطها من شرف أمهات المؤمنين ثم قال : وروى الطبرسي أيضا في الإحتجاج عن الباقر أنه قال : لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة بالنبل قال علي كرم الله تعالى وجهه : والله ما أراني إلا مطلقها فأنشد الله تعالى رجلا سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : ياعلي أمر نسائي بيدك من بعدي لما قام فشهد فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا بذلك الحديث ورأيت في بعض الأخبار التي لا تحضرني الآن ما هو صريح في وقوع الطلاق ما قاله البحراني عامله الله تعالى بعدله وهذا لعمري من السفاهة والوقاحة والجسارة على الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بمكان وبطلانه أظهر من أن يخفى وركاكة ألفاظه تنادي على كذبه بأعلى صوت ولا أظنه قولا مرضيا عند من له أدنى عقل منهم فلعن الله تعالى من أختلقه وكذا من يعتقده وأخرج الفريابي والحاكم وإبن مردويه والبيهقي في سننه عن إبن عباس أنه كان يقرأ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم وأخرج إبن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال : كان في الحرف الأول النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم وفي مصحف أبي رضي الله تعالى عنه كما روى عبدالرزاق وإبن المنذر وغيرهما النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وإطلاق الأب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه سبب للحياة الأبدية كما إن الأب سبب للحياة أيضا بل هو عليه الصلاة و السلام أحق بالأبوة منه وعن مجاهد كل نبي أب لأمته ومن هنا قيل في قول لوط هؤلاء بناتي أنه أراد المؤمنات ووجهه ما ذكر ويلزم من هذه الأبوة على ما قيل إخوة المؤمنين
ويعلم مما روى عن مجاهد أن الأبوة ليست من خصوصياته عليه الصلاة و السلام وهذا ليس كأمومة أزواجه فإنها على ما في المواهب من الخصوصيات فلا يحرم نكاح أزواج من عداه صلى الله تعالى عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام من بعدهم على أحد من أممهم وأولوا الأرحام أي ذوو القرابات الشاملون للعصبات
(21/152)
لا ما يقابلهم بعضهم أولى ببعض في النفع بميراث وغيره من النفع المالي أو في التوارث ويؤيده سبب النزول الآتي ذكره في كتاب الله أي فيما كتبه في اللوح أو فيما أنزله وهي آية المواريث أو هذه الآية أو فيما كتبه سبحانه وفرضه وقضاه من المؤمنين والمهاجرين صلة لأولى فمدخول من هو المفضل عليه وهي إبتدائية مثلها في قولك : زيد أفضل من عمرو أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى في كل نفع أو بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة وقال الزمنخشري : يجوز أن يكون بيانا لأولو الأرحام أي ألأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب والأول هو الظاهر وكان في المدينة توارث بالهجرة وبالموالاة في الدين فنسخ ذلك بآية آخر الأنفال أو بهذه الآية وقيل : بالإجماع وأرادوا كشفه عن الناسخ وإلا فهو لا يكون ناسخا كما لا يخفى ورفع بعضهم يجوز أن يكون على البدلية وأن يكون على الإبتداء و في كتاب متعلق بأولى ويجوز أن يكون حالا والعامل فيه معنى أولى ولا يجوز على ما قال أبو البقاء أن يكون حالا من الواو للفصل بالخبر ولأنه لا عامل إذا وقوله تعالى : إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا إما إستثناء متصل من أعم ما تقدر الأولوية فيه من النفع كأنه قيل : القريب أولى من الأجنبي من المؤمنين والمهاجرين في كل نفع من ميراث وصدقة وهدية ونحو ذلك إلا في الوصية فإنها المرادة بالمعروف فالأجنبي أحق بها من القريب الوارث فإنها لا تصح لوارث وإما إستثناء منقطع بناء على أن المراد بما فيه الأولوية هو التوارث فيكون الإستثناء من خلاف الجنس المدلول عليه بفحوى الكلام كأنه قيل : لا تورثوا غير أولي الأرحام لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب معروفا وهو أن توصوا لمن أحببتم منهم بشيء جائز فيكون ذلك له بالوصية لا بالميراث ويجوز أن يكون المعروف عاما لما عدا الميراث والمتبادر إلى الذهن إنقطاع الإستثناء وأقتصر عليه أبو البقاء ومكي وكذا الطبرسي وجعل المصدر مبتدأ محذوف الخبر كما أشرنا إليه
وتفسير الأولياء بمن كان من المؤمنين والمهاجرين هو الذي يقتضيه السياق فهو من وضع الظاهر موضع الضمير بناء على أن من فيما تقدم للإبتداء لا للبيان وأخرج إبن جرير وغيره عن مجاهد تفسيره بالذين والى بينهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وأخرج إبن المنذر وإبن جرير وإبن أبي حاتم عن محمد بن الحنفية أنه قال : نزلت هذه الآية في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني وأخرجوا عن قتادة أنه قال : الأولياء القرابة من أهل الشرك والمعروف الوصية وحكى في البحر عن جماعة منهم الحسن وعطاء أن الأولياء يشمل القريب والأجنبي المؤمن والكافر وأن المعروف أعم من الوصية وقد أجازها للكافر القريب وكذا الأجنبي جماعة من الفقهاء والإمامية يجوزونها لبعض ذوي القرابة الكفار وهم الوالدان والولد لا غير والنهي عن إتخاذ الكفار أولياء لا يقتضي النهي عن الإحسان إليهم والبر لهم وعدى تفعلوا بإلى لتضمنه معنى الإيصال والإسداء كأنه قيل : إلا أن تفعلوا مسديت إلى أوليائكم معروفا كان ذلك أي ما ذكر في الآيتين أعني أدعوهم لآبائهم والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وجوز أن يكون إشارة إلى ما سبق من أول السورة إلى هنا أو إلى ما بعد قوله تعالى : ما جعل الله لرجل من قلبين أو إلى ما ذكر في الآية الأخيرة وفيه بحث في الكتاب أي في اللوح أو القرآن وقيل في التوراة مسطورا 6 أي مثبتا بالإسطار وعن
(21/153)
قتادة أنه قال في بعض القراءات : كان ذلك عند الله مكتوبا أن لا يرث المشرك المؤمن فلا تغفل
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم مقدر بالذكر على أنه مفعول لا ظرف لفساد المعنى وهو معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر كخذ هذا وجوز أن يكون ذلك عطفا على خبر كان وهو بعيد وإن كان قريبا ولما كان ما سبق متضمنا أحكاما شرعها الله تعالى وكان فيها أشياء مما كان في الجاهلية وأشياء مما كان في الإسلام أبطلت ونسخت أتبعه سبحانه بما فيه حث على التبليغ فقال عزوجل : وإذ إلخ أي وأذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والشرائع والدعاء إلى الدين الحق وذلك على ما قال الزجاج وغيره وقت إستخراج البشر من صلب آدم عليه السلام كالذر وأخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم عن قتادة أنه سبحانه أخذ من النبيين عهودهم بتصديق بعضهم بعضا وإتباع بعضهم بعضا وفي رواية أخرى عنه أنه أخذ الله تعالى ميثاقهم بتصديق بعضهم بعضا والإعلان بان محمدا رسول الله وإعلان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا نبي بعده ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى إبن مريم تخصيصهم بالذكر مع إندراجهم في النبيين إندراجا بينا للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع
وإشتهرانهم هم أولو الزم من الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين وأخرج البزار عن أبي هريرة أنهم خيار ولد آدم عليهم الصلاة والسلام وتقديم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه آخرهم بعثة للإيذان بمزيد خطره الجليل أو لتقدمه في الخلق فقد أخرج إبن أبي عاصم والضياء في المختارة عن أبي بن كعب مرفوعا بديء بي الخلق وكنت آخرهم في البعث وأخرج جماعة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث وكذا في الإستنباء فقد جاء في عدة روايات إنه عليه الصلاة و السلام قال : كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد وأخرج إبن مردويه عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قيل يارسول الله متى آخذ ميثاقك قال : وآدم بين الروح والجسد ولا يضر فيما ذكر تقديم نوح عليه السلام في آية الشورى أعني قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية إذ لكل مقام مقال والمقام هناك وصف دين الإسلام بالإصالة والمناسب فيه تقديم نوح فكأنه قيل : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم وبعث عليه محمد عليه الصلاة و السلام خاتم الأنبياء في العهد الحديث وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء والمشاهير وقال إبن المنير : السر في تقديمه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه هو المخاطب والمنزل عليه هذا المتلو فكان أحق بالتقديم وفيه بحث وأخذنا منهم ميثاقا غليظا 7 أي عهد عظيم الشأن أو وثيقا قويا وهذا هو الميثاق الأول وأخذه هو أخذه والعطف مبني على تنزيل التغاير العنواني منزلة التغير الذاتي كما في قوله تعالى : ونجيناهم من عذاب غليظ أثر قوله سبحانه : فلما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه وفي دلك من تفخيم الشأن ما فيه ولهذا لم يقل عزوجل : وإذ أخذنا من النبيين ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى إبن مريم ميثاقا غليظا مثلا وقال سبحانه ما في النظم الكريم وقيل : الميثاق الغليظ اليمين بالله تعالى فيكون بعد ما أخذ الله سبحانه من النبيين الميثاق بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الحق أكد باليمين بالله تعالى على الوفاء بما حملوا فالميثاقان متغايران بالذات وقوله عزوجل : ليسئل الصادقين عن صدقهم
(21/154)
قيل متعلق بمضمر مستأنف مسوق لبيان علة الأخذ المذكور وغايته أي فعل الله تعالى ذلك ليسأل إلخ وقيل : متعلق بأخذنا وتعقب بأن المقصود تذكير نفس الميثاق ثم بيان علته وغايته بيانا قصديا كما ينبيء عنه تغيير الأسلوب بالإلتفات إلى الغيبة والمراد بالصادقين النبيون الذين أخذ ميثاقهم ووضع موضع ضميرهم للإيذان من أول الأمر بأنهم صادقوا فيما سئلوا عنه وإنما السؤال لحكمة تقتضيه أي ليسأل الله تعالى يوم القيامة النبيين الذين صدقوا عهودهم عن كلامهم الصادق الذي قالوه لأقوامهم أو عن تصديق أقوامهم إياهم وسؤالهم عليهم السلام عن ذلك على الوجهين لتبكيت الكفرة المكذبين كما في قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم أو المراد بهم المصدقون بالنبيين والمعنى ليسأل المصدقين للنبيين عن تصديقهم إياهم فيقال : هل صدقتم وقيل : يقال لهم هل كان تصديقكم لوجه الله تعالى ووجه إرادة ذلك إن مصدق الصادق صادق وتصديقه صدق وقيل : المعنى ليسأل المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم
وتعقب بأنه يأباه مقام تذكير ميثاق النبيين وأعد للكافرين عذابا أليما 8 قيل عطف على فعل مضمر متعلقا فيما قبل وقيل : عل ىمقدر دل عليه ليسأل كأنه قيل فاثاب المؤمنين وأعد للكافرين إلخ وقيل : على أخذنا وهو عطف معنوي كأنه قيل : أكد الله تعالى على النبيين الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين إلخ
وقيل : على يسأل بتأويله بالمضارع ولا بد من ملاحظة مناسبة ليحسن العطف وقيل : على مقدر وفي الكلام الإحتباك والتقدير ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد لهم ثوابا عظيما ويسأل الكاذبين عن كذبهم وأعد لهم عذابا أليما فحذف من كل منهما ما ثبت في الآخر وقيل : إن الجملة حال من ضمير يسأل بتقدير قد أو بدونه ولا يخفى أقلها تكلفا ياأيها الذين آمنوا أذكروا نعمة الله عليكم شروع في ذكر قصة الأحزاب وهي وقعة الخندق وكانت على ما قال إبن إسحاق في شوال سنة خمس وقال مالك : سنة أربع
والنعمة إن كانت مصدرا بمعنى الإنعام فالجار متعلق بها وسلا فهو متعلق بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة عليكم وقوله تعالى : إذ جاءتكم جنود ظرف لنفس النعمة أو لثبوتها لهم وقيل : منصوب بأذكر على أنه بدل إشتمال من نعمة والمراد بالجنود الأحزاب وهم قريش يقودهم أبو سفيان وبنو أسد يقودهم طليحة وغطفان يقودهم عيينة وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي وبنو النضير رؤساؤهم حيي بن أخطب وأبناء أبي الحقيق وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد وكان بينهم وبين رسول الله عهد فنبذه بسعي حيي وكان مجموعهم عشرة آلاف في قول وخمسة عشر ألفا في آخر وقيل : زهاء إثني عشر ألفا فلما سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بإقبالهم حفر خندقا قريبا من المدينة محيطا بها بإشارة سلمان الفارسي أعطى كل أربعين ذراعا لعشرة ثم خرج عليه الصلاة و السلام في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فدفعوا في الآطام وأشتد الخوف وظن المؤمنون ك ظن وبحم النفاق كما قص الله تعالى ومضى قريب من شهر على الفريقين لا حرب بينهم سوى الرمي بالنبل والحجارة من وراء الخندق إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودوكان يعد بألف فارس وعكرمة إبن أبي جهل وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبدالله قد ركبوا خيولهم وتيمموا من الخندق مكانا ضيقا فضربوا بخيولهم فأقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع فخرج علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وحهه في نفر من المسلمين رضي الله تعالى عنهم حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقتحموا منها فأقبلت
(21/155)
الفرسان معهم وقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرا في قصة مشهورة فأنهزمت خيله حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو منبه بن عثمان بن عبدالدار ونوفل بن عبدالعزى وقيل : وجد نوفل في جوف الخندق فجعل المسلمون يرمونه بالحجارة فقال لهم : قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام
وذكر إبن إسحاق أن عليا كرم الله تعالى وجهه طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبي عليه الصلاة و السلام : هو لكم لا نأكل ثمن الموتى ثم أنزل الله تعالى النصر وذلك قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا عطف على جاءتكم مسوق لبيان النعمة إجمالا وسيأتي إن شاء الله تعالى بقيتها في آخر القصة
وجنودا لم تروها وهم الملائكة عليهم السلام وكانوا على ما قيل ألفا روى أن الله تعالى بعث عليهم صبا باردة في ليلة باردة فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأمر الملائكة عليهم السلام فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم فقال طليحة بن خويلد الأسدي : أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فأنهزموا وقال حذيفة رضي الله عنه وقد ذهب ليأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخبر القوم خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول : الرحيل الرحيل لا مقام لكم وإذا الرجل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم والريح تضربهم ثم خرجت نحو النبي عليه الصلاة و السلام فلما صرت في نصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا متعممين فقالوا : أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم
وقرأ الحسن وجنودا بفتح الجيم وقرأ أبو عمرو في رواية وأبو بكر في رواية أيضا لم يروها بياء الغيبة وكان الله بما تعملون من حفر الخندق وترتيب مبادي الحرب أعلاء لكلمة الله تعالى وقيل : من إلتجائكم إليه تعالى ورجائكم من فضله عزوجل
وقرأ أبو عمرو يعملون بياء الغيبة أي بما يعمله الكفار من التحرز والمحاربة وإغراء بعضهم بعضا عليها حرصا على إبطال حقكم وقيل : من الكفر والمعاصي بصيرا 9 ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم والجملة إعتراض مقرر لما قبله إذ جاؤكم بدل من إذ جاءتكم بدل كل من كل وقيل : هو متعلق بتعملون أو ببصيرا من فوقكم من أعلى الوادي من جهة المشرق والإضافة إليهم لأدنى ملابسة والجائي من ذلك بنو غطفان ومن تابعهم من أهل نجد وبنو قريظة وبنو النضير ومن أسفل منكم من أسفل الوادي من قبل المغرب والجائي من لك قريش ومن شايعهم من الأحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة وقيل : الجائي من فوق بنو قريظة ومن أسفل قريش وأسد وغطفان وسليم وقيل : غير ذلك
ويحتمل أن يكون من فوق ومن أسفل كناية عن الإحاطة من جميع الجوانب كأنه قيل : إذ جاؤكم محيطين
(21/156)
بكم كقوله تعالى : يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم وإذ زاغت الأبصار عطف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير أي حين مالت الأبصار عن سننها وأنحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة
وقال الفراء : أي حين مالت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها وبلغت القلوب الحناجر أي خافت خوفا شديدا وفزعت فزعا عظيما لا أنها تحركت عن موضعها وتوجهت إلى الحناجر لتخرج
أخرج إبن أبي شيبة عن عكرمة أنه قال في الآية : إن القلوب لو تحركت وزالت خرجت نفسه ولكن إنما هو الفزع فالكلام على المبالغة وقيل : القلب عند الغضب يندفع وعند ألخوف يجتمع فيتقلص فيلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مخرج النفس فلا يقدر المرء أن يتنفس ويموت خوفا وقيل : إن الرئة تنتفخ من شدة الفزع والغضب والغم الشديد وإذا إنتفخت ربت وأرتفع القلب بإرتفاعها إلى رأس الحنجرة ومن ثم قيل للجبان : إنتفخ سحره وإلى حمل الكلام على الحقيقة ذهب قتادة
أخرج عنه عبدالرزاق وإبن المنذر وإبن أبي حاتم أنه قال في الآية : أي شخصت عن مكانها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا يارسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال : نعم اللهم أستر عوراتنا وآمن روعاتنا قال : فضرب الله تعالى وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله تعالى بالريح والخطاب في قوله تعالى : وتظنون بالله الظنونا 01 لمن يظهر الإيمان على الإطلاق والظنون جمع الظن وهو مصدر شامل للقليل والكثير وإنما جمع للدلالة على تعدد أنواعه وقد جاء كذلك في أشعارهم أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان : إذا الجوزاء أرفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا أي تظنون بالله تعالى أنواع الظنون المختلفة فيظن المخلصون منكم الثابتون في ساحة الإيمان أن ينجز سبحانه وعده في إعلاء دينه ونصرة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ويعرب عن ذلك ما سيحكي عنهم من قولهم : هذا ما وعدنا الله ورسوله الآية أو أن يمتحنهم فيخافون أن تزل أقدامهم فلا يتحملون ما نزل بهم وهذا لا ينافي الإخلاص والثبات كما لا يخفى ويظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما حكى عنهم في قوله تعالى : وإذ يقول المنافقون الآية وأخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية : ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يسأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعدالله ورسوله حق وأنه سيظهر على الدين كله وقد يختار أن الخطاب للمؤمنين ظاهرا وباطنا وإختلاف ظنونهم بسبب أنهم يظنون تارة أن الله سبحانه سنصرهم على الكفار من غير أن يكون لهم إستيلاء عليهم أولا وتارة أنه عزوجل سنصر الكفار عليهم فيستولون على المدينة ثم ينصرهم عليهم بعد وأخرى أنه سبحانه سينصر الكفار بحيث يستأصلونهم وتعود الجاهلية أؤ بسبب أن بعضهم يظن هذا وبعضهم يظن ذاك وبعضهم يظن ذلك ويلتزم أن الظن الذي لا يليق بحال المؤمن كان من خواطر النفس التي أوجبها الخوف الطبيعي ولم يمكن البشر دفعها ومثلها عفو أو يقال : ظنونهم المختلفة هي ظن النصر بدون نيل العدو منهم شيئا وظنه بعد النيل وظن الإمتحان وعلى هذا لا يحتاج إلى الإعتذار وأياما كان فالجملة معطوفة على زاغت وصيغة المضارع لإستحضار الصورة والدلالة على الإستمرار وكتب الظنونا وكذا أمثاله من المنصوب المعرف
(21/157)
بأل كالسبيلا والرسولا في المصحف بألف في آخره فحذفها أبو عمرو وقفا ووصلا وإبن كثير والكسائي وحفص يحذفونها وصلا خاصة ويثبتها باقي السبعة في الحالين وأختار أبو عبيد والحذاق أن يوقف على نحو هذه الكلمة بالألف ولا توصل فتحذف أو تثبت لأن حذفها مخالف لما أجتمعت عليه مصاحف الأمصار ولأن إثباتها في الوصل معدوم في لسان العرب نظمهم ونثرهم لافي إضطرار ولا في غيره أما إثباتها في الوقف ففيه إتباع الرسم وموافقة لبعض مذاهب العرب لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم ومصاريعها ومن ذلك قوله :
أقلى اللوم عاذل والعتابا
والفواصل في الكلام كالمصاريع وقال أبو علي : إن رؤس الآي تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع كما كانت القوافي مقاطع هنالك ظرف مكان ويستعمل للزمان وقيل : إنه مجاز وهو أنسب هنا وأياما كان فهو ظرف لما بعده لا لتظنون كما قيل أي في ذلك الزمان الهائل أو في ذلك المكان المدحض إبتلي المؤمنون أي أختبرهم الله تعالى والكلام من باب التمثيل والمراد عاملهم سبحانه وتعالى معاملة المختبر فظهر المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزل وإبتلاؤهم على ما روى عن الضحاك بالجوع وعلى ما روى عن مجاهد بشدة الحصار وعلى ما قيل بالصبر على الإيمان
وزلزلوا زلزالا شديدا 11 أي أضطربوا إضطرابا شديدا من شدة الفزع وكثرة الأعداء وعن الضحاك أنهم زلزلوا عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق وقيل : أي حركوا إلى الفتنة فعصموا وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي عن أبي عمرو زلزلوا بكسر الزاي قاله إبن خالويه وقال الزمخشري : وعن أبي عمرو إشمام زاي زلزلوا وكأنه عني إشمامها الكسر ووجه الكسر أنه أتبع حركة الزاي الأولى لحركة الثانية ولم يعتد بالساكن كما لم يعتد به من قال منتن يكسرن الميم إتباعا لحركة التاء وهو أسم فاعل من أنتن وقرأ الجحدري وعيسى زلزالا بفتح الزاي ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الفتح والكسر نحو قلقل قلقالا وقد يراد بالمفتوح أسم الفاعل نحو صلصال بمعنى مصلصل فإن كان من غير المضاعف فما سمع منه على فعلال مكسور الفاء نحو سرهفه سرهافا وإذ يقول المنافقون عطف على إذ زاغت وصيغة المضارع لما مر من الدلالة على إستمرار القول وإستحضار صورته
والذين في قلوبهم مرض ظاهر العطف أنهم قوم لم يكونوا منافقين فقيل : هم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبهة عليهم وقيل : قوم كانوا ضعفاء الإعتقاد لقرب عهدهم بالإسلام وجوز أن يكون المراد بهم المنافقين أنفسهم والعطف لتغاير الوصف كقوله :
إلى الملك القرم وإبن الهمام
ما وعدنا الله ورسوله من الظفر وإعلاء الدين إلا غرورا أي وعد غرور وقيل : أي قولا باطلا وفي البحر أي أمرا يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به روى أن الصحابة بينما يحفرون الخندق عرضت لهم صخرة بيضاء مدورة شديدة جدا لا تدخل فيها المعاول فشكوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذ المعول من سلمان رضي الله تعالى عنه فضربها ضربة دعها وبرقت منها برقة أضاء منها ما بين لابتي المدينة حتى لكأن
(21/158)
مصباحا في جوف ليل مظلم فكبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكبر المسلمون ثم ضربها الثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاء منها ما بين لابتيها فكبر عليه الصلاة و السلام وكبر المسلمون ثم ضربها الثالثة فكسرها وبرقت برقة أضاء منها ما بين لا بتيها فكبر صلى الله تعالى عليه وسلم وكبر المسلمون فسئل عن ذلك فقال عليه الصلاة و السلام : أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها وأضاء لي الثانية قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا بالنصر فأستبشر المسلمون وقال رجل من الأنصار يدعى معتب إبن قشير وكان منافقا : أيعدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أن يفتح لنا مدائن اليمن وبيض المدائن وقصور الروم وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلا قتل هذا والله الغرور فأنزل الله تعالى في هذا وإذ يقول المنافقون إلخ
وفي رواية قال المنافقون حين سمعوا ذلك ألا تعجبون يحدثكم ويعدكم ويمنيكم الباطل أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وإنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل الله تعالى قوله سبحانه : وإذ يقول المنافقون ووجه الجمع عل ىالقول بأن القائل واحد أن الباقين راضون بذلك قابلوه منه والظاهر أن نسبة الوعد إلى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام بعنوان الرسالة من المنافقين الذين لا يعتقدون إتصافه صلى الله تعالى عليه وسلم بالرسالة ولا أن الوعد وعد الله تعالى شأنه كانت من باب المماشاة أو الإستهزاء وإن كانت قد وقعت من غيرهم فهي بالتبيعة لهم
ويجوز أن يكون وقوع ما ذكر في الحكاية لا في كلامهم ويستأنس له بما وقع في بعض الآثار وبعضهم بحث عن إطلاق الرسول عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فقال أنه في الحكاية لا في كلامهم كما يشهد بذلك ما روى عن معتب أو هو تقية لا إستهزاء لأنه لا يصح بالنسبة لغير المنافقين فتأمل ولا تغفل وإذ قالت طائفة منهم قال السدي : هم عبدالله بن أبي إبن سلول وأصحابه وقال مقاتل : هم بنو سلمة وقال أوس بن رومان هم أوس بن قيظي وأصحابه بنو حارثة وضمير منهم للمنافقين أو للجميع ياأهل يثرب هو أسم المدينة المنورة وقال أبو عبيدة أسم بقعة وقعت المدينة في ناحية منها وقيل : أسم أرضها وهو عليها ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل أو التأنيث ولا ينبغي تسمية المدينة بذلك أخرج أحمد وإبن أبي حاتم وإبن مردويه عن ابراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى هي طابة هي طابة هي طابة وأخرج إبن مردويه عن إبن عباس عن رسول الله عليه الصلاة و السلام لا تدعونها يثرب فإنها طيبة يعني المدينة ومن قال يثرب فليستغفر الله تعالى ثلاث مرات هي طيبة هي طيبة هي طيبة وفي الحواشي الخفاجية أن تسميتها به مكروهة كراهة تنزيهية وذكر في وجه ذلك أن هذا الأسم يشعر بالتثريب وهو اللوم والتعيير
وقال الراغب : التثريب التقريع بالذنب والثرب شحمة رقيقة ويثرب يصح أن يكون أصله من هذا الباب والياء تكون فيه زائدة إنتهى وقيل : يثرب أسم رجل من العمالقة وبه سميت المدينة وكان يقال لها أثرب أيضا ونقل الطبرسي عن الشريف المرتضى أن للمدينة أسماء منها يثرب وطيبة وطابة والدار والسكينة وجائزة والمحبورة والمحبة والمحبوبة والعذراء والمرحومة والقاصمة ويندد إنتهى وكأن القائلين أختاروا يثرب من
(21/159)
بين الأسماء مخالفة له صلى الله تعالى عليه وسلم لما علموا من كراهيته عليه الصلاة و السلام لهذا الأسم من بينها ونداؤهم أهل المدينة بعنوان أهليتهم لها ترشيح لما بعد من الأمر بالرجوع إليها لا مقام لكم أي لا مكان إقامة أو لا إقامة لكم أي لا ينبغي أو لا يمكن لكم الإقامة ههنا
وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو رجاء والحسن وقتادة والنخعي وعبدالله بن مسلم وطلحة وأكثر السبعة لا مقام بفتح الميم وهو يحتمل أيضا المكان أي لا مكان قيام والمصدر أي لا قيام لكم والمعنى على نحو ما تقدم فأرجعوا أي إلى منازلكم بالمدينة ليكون ذلك أسلم لكم من القتل أو ليكون لكم عند هذه الأحزاب يد قيل : ومرادهم أمرهم بالفرار على ما يشعر به ما بعد لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجا لمقالتهم وإيذانا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم وقيل : المعنى لا مقام لكم في دين محمد فأرجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك أو فأرجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه إلى أعدائه عليه الصلاة و السلام أو لا مقام لكم بعد اليوم في يثرب أو نواحيها لغلبة الأعداء فأرجعوا كفارا ليتسنى لكم المقام فيها لإرتفاع العداوة حينئذ
وقيل : يجوز أن يكونوا خافوا من قتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم بعد غلبته عليه الصلاة و السلام حيث ظهر أنهم منافقون فقالوا : لا مقام لكم على معنى لا مقام لكم مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه إن غلب قتلكم فأرجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه عليه الصلاة و السلام أو فأرجعوا عن الإسلام وأتفقوا مع الأحزاب أو ليس لكم محل إقامة في الدنيا أصلا إن بقيتم على ما أنتم عليه فأرجعوا عما بايعتموه عليه عليه الصلاة و السلام إلى آخره والأول أظهر وأنسب بما بعده وبعض هذه الأوجه بعيد جدا كما لا يخفى
ويستأذن فريق منهم النبي عطف على قالت وصيغة المضارع لما مر من إستحضار الصورة والمستأذن على ما روى عن إبن عباس وجابر بن عبدالله بنو حارثة بن الحرث قيل : أرسلوا أوس بن قيظي أحدهم للإستئذان وقال السدي : جاء هو ورجل آخر منهم يدعى أبا عرابة بن أوس وقيل : المستأذن بنو حارثة وبنو سلمة أستأذنوه عليه الصلاة و السلام في الرجوع ممتثلين بأمر أولئك القائلين ياأهل يثرب
وقوله تعالى : يقولون بدل من يستأذن أو حال من فاعله أو إستئناف مبني على السؤال عن كيفية الإستئذان إن بيوتنا عورة أي ذليلة الحيطان يخاف عليها السراق كما نقل عن السدي وقال الراغب : أي متخرقة ممكنة لمن أرادها وقال الكلبي : أي خالية من الرجال ضائعة وقال قتادة : قاصية يخشى عليها العدو وأصلها على ما قيل مصدر بمعنى الخلل ووصف بها مبالغة وتكون صفة للمؤنث والمذكر والمفرد وغيره كما هو شأن المصادر وجوز أن تكون صفة مشبهة على أنها مخفف عورة بكسر الواو كما قرأ بذلك هنا وفيما بعد إبن عباس وأبو يعمر وقتادة وأبو رجاء وأبو حيوة وإبن أبي عبلة وأبو طالوت وإبن مقسم وإسماعيل بن سليمان عن إبن كثير من عورت الدار إذا أختلت قال إبن جني : صحة الواو على هذا شاذة والقياس قلبها ألفا عارة كما يقال كبش صاف ونعجة صافة ويوم راح ورجل مال والأصل صوف وصوفة وروح ومول وتعقب بأن القياس إنما يقتضي القلب إذا وقع القلب في الفعل وعور هنا قد صحت عينه حملا على أعور المشدد ورجح كونها مصدرا وصف به للمبالغة بأنه الأنسب بمقام الإعتذار كما يفصح عنه تصدير
(21/160)
مقالتهم بحرف التحقيق لكن ينبغي أن يقال في قوله تعالى : وما هي بعورة إذا أجرى فيه هذا اللفظ كما أجرى فيما قبله أن المراد المبالغة في النفي على نحو ما قيل قوله تعالى : وما ربك بظلام للعبيد والواو فيه للحال أي يقولون ذلك والحال أنها ليست كذلك إن يريدون أي ما يريدون بالإستئذان إلا فرار 31 أي هربا من القتال ونصرة المؤمنين قاله جماعة وقيل : فرارا من الدين ولو دخلت أي البيوت كما هو الظاهر عليهم أي على هؤلاء القائلين وأسند الدخول إلى بيوتهم وأوقع عليهم لما أن المراد فرض دخولها وهم فيها لا فرض دخولها مطلقا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور ولا فرض الدخول عليهم مطلقا كما هو المفهوم لو أسند إلى الجار والمجرور وفاعل الدخول الداخل من أهل الفساد من كان أي لو دخل كل من أراد الدخول من أهل الدعارة والفساد بيوتهم وهم فيها من أقطارها جمع قطر بمعنى الناحية والجانب ويقال قتر بالتاء لغة فيه أي من جميع جوانبها وذلك بأن تكون مختلفة بالكلية وهذا داخل في المفروض فلا يخالف قوله تعالى : وما هي بعورة ثم سئلوا أي طلب منهم من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة والرجفة الهائلة الفتنة أي القتال كما قال الضحاك لآتوها أي لأعطوها أولئك السائلين كأنه شبه الفتنة المطلوب إتباعهم فيها بأمر نفيس يطلب منهم بذله ونزل إطاعتهم وإتباعهم بمنزلة بذل ما سئلوه وإعطائه وقرأ نافع وإبن كثير لأتوها بالقصر أي لفعلوها وما تلبثوا بها أي بلفتنة والباء للتعدية أي ما لبثوها وما أخروها إلا يسيرا 41 اي إلا تلبثا يسيرا أو إلا زمانا يسير وهو مقدار ما يأخذون فيه سلاحهم على ما قيل وقيل : مقدار ما يجيبون السؤال فيه وكلاهما عندى من باب التمثيل والمراد أنهم لو سألهم غيرك القتال وهم في أشد حال وأعظم بلبال لأسرعوا جدا فضلا عن التعلل بإختلال البيوت مع سلامتها كما فعلوا الآن والحاصل أن يطلبهم الأذن في الرجوع ليس لإختلال بيوتهم بل لنفاقهم وكراهتهم نصرتك وقال إبن عطية : المعنى ولو دخلت المدينة من أقطارها وأشتد الحرب الحقيقي ثم سئلوا الفتنة والحرب لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم لطاروا إليها ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلا يسيرا قيل قدر ما يأخذون سلاحهم إنتهى فضمير دخلت عنده عائد على المدينة وباء بها للظرفية كما هو ظاهر كلامه وجوز أن تكون سببية والمعنى على تقدير مضاف أي ولم يتلبثوا بسبب حفظها وقيل : يجوز أن تكون للملابسة أيضا والضمير على كل تقدير للبيوت وفيه تفكيك الضمائر
وعن الحسن ومجاهد وقتادة الفتنة الشرك وفي معناه ما قيل : هي الردة والرجوع إلى إظهار الكفر وجعل بعضهم ضميري دخلتوبها للمدينة وزعم أن المعنى ولو دخلت المدينة عليهم من جميع جوانبها ثم سئلوا الرجوع إلى إظهار الكفر والشرك لفعلوا وما لبثوا بالمدينة بعد إظهار كفرهم إلا يسيرا فإن الله تعالى يهلكهم أو يخرجهم بالمؤمنين وقيل : ضمير دخلت للبيوت أو للمدينة وضمير بها للفتنة بمعنى الشرك والباء للتعدية والمعنى ولو دخلت عليهم ثم سئلوا الشرك لأشركوا وما أخروه إلا يسيرا وقريب منه قول قتاة أي لو دخلت عليهم ثم سئلوا الشرك لأعطوه طيبة به أنفسهم وما تحبسوا به إلا يسيرا وجوز أن تكون الباء
(21/161)
لغير ذلك وقيل : فاعل الدخول أولئك العساكر المتحزبة والوجوه المحتملة في الآية كثيرة كما لا يخفى على من له أدنى تأمل وما ذكرناه أولا هو الأظهر فيما أرى وقرأ الحسن سولوا بواو ساكنة بعد السين المضمومة قالوا : وهي من سأل يسأل كخاف يخاف لغة في سأل المهموز العين وحكى أبو زيد هما يتساولان وقال أبو حيان : ويجوز أن يكون أصلها الهمز لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب مبنيا للمفعول ضرب ثم سهل الهمزة بإبدالها واوا على قول من قال في بؤس بوس بإبدال الهمزة واوا لضم ما قبلها وقرأ عبدالوارث عن أبي عمرو والأعمش سيلوا بكسر السين من غير همز نحو قيل وقرأ مجاهد سويلوا بواو ساكنة بعد السين المضمومة وياء مكسورة بدلا من الهمزة ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار هؤلاء هم الفريق المستأذنون وهم بنو حارثة عند الأكثرين وقيل : هم بنو سلمة كانوا قد جبنوا يوم أحد ثم تابوا وعاهدوا يومئذ قبل يوم الخندق أن لا يفروا وعن إبن عباس أنهم قوم عاهدوا بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وقيل : أناس غابوا عن وقعة بدر فحزنوا على ما فاتهم مما أعطى أهل بدر من الكرامة فقالوا : لئن أشهدنا الله تعالى قتالا لنقاتلن و عاهد أجرى مجرى اليمين ولذلك تلقى بقوله تعالى : لا يولون الأدبار وجاء بصيغة الغيبة على المعنى ولو جاء كما لفظوا به لكان التركيب لا تولى الأدبار وتولية الأدبار كناية عن الفرار والإنهزام فإن الفار يولي دبره من فر منه وكان عهد الله مسئولا 51 عن الوفاء به مجازي عليه وذلك يوم القيامة والتعبير بالماضي على ما في مجمع البيان لتحقق الوقوع وقيل : أي كان عند الله تعالى مسئولا عن الوفاء به أو سمئولا مقتضى حتى يوفى به
قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل اي لن ينفعكم ذلك ويدفع عنكم ما أبرم في الأول عليكم من موت أحدكم حتف أنفه أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدر كائن لا محالة وإذا لا تمتعون إلا قليلا 61 أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم ما أبرم عليكم فمتعتم لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا
وهذا من باب فرض المحال ولم يقل : ولو نفعكم إخراجا للكلام مخرج المماشاة أو إذا نفعكم الفرار فمتعتم بالتأخير بأن كان ذلك معلقا عند الله تعالى على الفرار مربوطا به لم يكن التمتيع إلا قليلا فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة وعمر تأكله ذرات الدقائق وإن كثر قليل وقال بعض الأجلة : المعنى لا ينفعكم نفعا دائما أو تاما في دفع الأمرين المذكورين الموت أو القتل بالكلية إذ لا بد لكل شخص من موت حتف أنفه أو قتل في وقت معين لا لأنه سبق به القضاء لأنه تابع للمضي فلا يكون باعثا عليه بل لأنه مقتضى ترتب الأسباب والمسببات بحسب جرى العادة على مقتضى الحكمة فلا دلالة فيه على أن الفرار لا يغني شيئا حتى يشكل بالنهي عن الإلقاء إلى التهلكة وبالأمر بالفرار عن المضار وقوله تعالى : وإذا لا تمتعون إلا قليلا يدل على أن في الفرار نفعا في الجملة إذا لمعنى لا تمتعون على تقدير الفرار إلا متاعا قليلا وفيه ما فيه فتأمل
وذكر الزمخشري أن بعض المروانية مر على حائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب وكأنه مال إلى الوجه الثاني أو إلى ما ذكره البعض في الآية وجواب الشرط لإن محذوف لدلالة ما قبله عليه و إذن تقدمها ههنا حرف عطف فيجوز فيها الأعمال والإهمال لكنه لم يقرأ هنا إلا بالإهمال
(21/162)
وقريء بالأعمال في قوله تعالى في سورة الإسراء : وإذا لا يلبثوا خلافك وقريء لا يمتعون بياء الغيبة
قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة إستفهام في معنى النفي أي لا أحد يمنعكم من الله عزوجل وقدره جل جلاله إن خيرا وإن شرا فجعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة مع أنه لا عصمة إلا من السوء لما في العصمة من معنى المنع وجوز أن يكون في الكلام تقدير والأصل قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فأختصر نظير قوله : ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا فإنه أراد وحاملا أو ومعتقلا رمحا ويجري نحو التوجيه السابق في الآية وجوز الطيبي أن يكون المعنى من الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو من الذي يمنع رحمة الله منكم إن أراد بكم رحمة وقرينة التقدير ما في يعصمكم من معنى المنع وأختير الأول لسلامته عن حذف جملة بلا ضرورة
ولا يجدون لهم من دون الله وليا ينفعهم ولا نصيرا 71 يدفع الضرر عنهم والمراد الأولى فيجدوه إلخ فهو كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر
وهو معطوف على ما قبله بحسب المعنى فكأنه قيل : لا عاصم لهم ولا ولي ولا نصير أو الجملة حالية
قد يعلم الله المعوقين منكم أي المثبطين عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا أي أقبلوا إلينا أو قربوا أنفسكم إلينا قال إبن السائب : الآية في عبدالله إبن أبي ومعتب بن قشير ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة كانوا إذا جاءهم المنافق قالوا له : ويحك أجلس ولا تخرج ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن أئتونا فإنا ننتظركم وقال قتادة : هي في المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما محمد عليه الصلاة و السلام وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لألتهمهم أبو سفيان وأصحابه فخلوهم
وأخرج إبن أبي حاتم عن إبن زيد قال : أنصرف رجل من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب إلى شقيقه فوجد عنده شواء ونبيذا فقال له : أنت ههنا ورسول الله عليه الصلاة و السلام بين الرماح والسيوف فقال : هلم إلي فقد أحيط بك وبصاحبك والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا فقال : كذبت والذي يحلف به لأخبرنه بأمرك فذهب ليخبره صلى الله تعالى عليه وسلم فوجد جبريل عليه السلام قد نزل بهذه الآية
وقيل : هؤلاء اليهود كانوا يقولون لأهل المدينة : تعالوا إلينا وكونوا معنا وكأن المراد من أهل المدينة المنافقون منهم المعلوم نفاقهم عند اليهود و قد للتحقيق أو للتقليل وهو بإعتبار المتعلق و منكم بيان للمعوقين لا صلته كما أشير إليه والمراد بالإخوة التشارك في الصفة وهو النفاق على القول الأول والكفر بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم على القول الأخير والصحبة والجوار وسكنى المدينة على القول الثاني وكذا على القول الثالث فإن ذلك يجامع الأخوة في النسب وظاهر صيغة الجمع يقتضي أن الآية لم تنزل في ذينك الشقيقين وحدهما فلعلها نزلت فيهما وفي المنافقين القائلين ذلك والأنصار المخلصين المقول لهم وجواز كونها نزلت في جماعة من الإخوان في النسب مجرد إحتمال وأن كان له مستند سمعي فلتحمل الأخوة عليه على الآخوة
(21/163)
في النسب ولا ضير والقول بجميع الأقوال الأربعة المذكورة وحمل الأخوة على الأخوة في الدين والأخوة في الصحبة والجوار والأخوة في النسب لا يخفى حاله وهلم عند أهل الحجاز يسوى فيه بين الواحد والجماعة وأما عند تميم فيقال : هلم يارجل وهلموا يارجال وهو عند بعض الأئمة صوت سمى به الفعل وأشتهر أنه يكون متعديا كهلم شهداءكم بمعنى أحضروا أو قربوا ولازما كهلم إلينا بناء على تفسيره بأقبلوا إلينا وأما على تفسيره بقربوا أنفسكم إلينا فالظاهر أنه متعد حذف مفعوله وجوز كونه لازما وهذا تفسير لحاصل المعنى وفي البحر أن الذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا وإنما هو مركب أختلف في أصل تركيبه فقيل : مركب من ها التي للتنبيه والمم بمعنى أقصد وأقيل وهو مذهب البصريين وقيل : من هل وأم والكلام على المختار من ذلك مبسوط في محله
ولا يأتون البأس أي الحرب والقتال وأصل معناه الشدة إلا قليلا 81 أي إتيانا أو زمانا قليلا فقد كانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدا من إتيانه فيأتون ليرى الناس وجوههم فإذا غفلوا عنهم عادوا إلى بيوتهم ويجوز أن يكون صفة مفعول مقدر كما كان صفة المصدر أو الزمان أي إلا بأسا قليلا على أنهم يعتذرون في البأس الكثير ولا يخرجون إلا في القليل وإتيان البأس على هذه الأوجه على ظاهره ويجوز أن يكون كناية عن القتال والمعنى ولا يقاتلون إلا قتالا قليلا كقوله تعالى وما قاتلوا إلا قليلا وقلته إما لقصر زمانه وإما لقلة غنائه وأياما كان فالجملة حال من القائلين وقيل : يجوز أيضا أن تكون عطف بيان على قد يعلم وهو كما ترى وقيل : هي من مقول القول وضمير الجمع لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي القائلين ذلك والقائلين لا يأتي أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حرب الأحزاب ولا يقاومونهم إلا قليلا وهذا القول خلاف المتبادر وكأنه ذهب إليه من قال أن الآية في اليهود
أشحة عليكم أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة على ما روى عن مجاهد وقتادة وقيل : بأنفسهم وقيل : بالغنيمة عند القسم وقيل : بكل ما فيه منفعة لكم وصوب هذا أبو حيان وذهب الزمخشري إلى أن المعنى أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف وذلك لأنهم يخافون على أنفسهم لو غلب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حيث لم يكن لهم من يمنع الأحزاب عنهم ولا من يحمي حوزتهم سواهم وقيل : كانوا يفعلون ذلك رياء والأكثرون ذهبوا إلى ما سمعت قبل وعدل إليه مختصروا كشافه أيضا وذلك على ما قيل لأن ما ذهب إليه معنى ما في التفريع بعد فيحتاج إلى جعله تفسيرا ورجحه بعض الأجلة على ما ذهب إليه الأكثر فقال : إنما أختاره ليطابق معنى ويقابل قوله تعالى بعد : أشحة عل ىالخير ولأن الإستعمال يقتضيه فإن الشح عل ىالشيء هو أن يراد بقاؤه كما في الصحاح وأشار إليه بقوله : أضناء بكم وما ذكره غيره لا يساعده الإستعمال إنتهى
قال الخفاجي : إن سلم ما ذكر من الإستعمال كان متعينا وإلا فلكل وجهة كما لا يخفى عل ىالعارف بأساليب الكلام و أشحة جميع شحيح على غير القياس إذ قياس فعيل الوصف المضعف عينه ولامه أن يجمع على أفعلاء كضنين وأضناء وخليل وأخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضا ونصبه عند الرجاج وأبي البقاء على الحال من فاعل يأتون على معنى تركوا الإتيان أشحة وقال الفراء : على الذم وقيل : على الحال من ضمير هلم إلينا أو من ضمير يعوقون مضمرا ونقل أولهما عن الطبري وهو كما ترى وقيل : من المعوقين أو من
(21/164)
القائلين وردا بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة وتعقب بأن الفاصل من متعلقات الصلة وإنما يظهر الرد على كونه حالا من المعوقين لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته
وقرأ إبن أبي عبلة أشحة بالرفع على إضمار مبتدأ أي هم أشحة فإذا جاء الخوف من العدو وتوقع أن يستأصل أهل المدينة رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم أي أحداقهم أو بأحداقهم على أن الباء للتعدية فيكون المعنى تدير أعينهم أحداقهم والجملة في موضع الحال أي دائرة أعينهم من شدة الخوف
كالذي يغشى عليه من الموت صفة لمصدر ينظرون أو حال من فاعله أو لمصدر تدور أو حال من أعينهم أي ينظرون نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخوفا ولواذا بك أو ينظرون كائنين كالذي إلخ أو تدور أعينهم دورانا كائنا كدوران عين الذي إلخ أو تدور أعينهم كائنة كعين الذي إلخ وقيل : معنى الآية إذا جاء الخوف من القتال وظهر المسلمون على أعدائهم رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم في رؤيتهم وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم مضرب لأنهم يحضرون على نية شر لا على نية خير والقول الأول هو الظاهر فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أي اذوكم بالكلام وخاصموكم بألسنة سلطة ذربة قاله الفراء وعن قتادة بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون : أعطونا أعطونا فلستم بأحق بهامنا وقال يزيد بن رومان : بسطوا ألسنتهم في اذاكم وسبكم وتنقيص ما أنتم عليه من الدين
وقال بعض الأجلة : أصل السلق بسط العضو ومده للقهر سواء كان يدا أو لسانا فسلق اللسان بإعلان الطعن والذم وفسر السلق هنا بالضرب مجازا كما قيل للذم طعن والحامل عليه توصيف الألسنة بحداد وجوز أن يشبه اللسان بالسيف ونحوه على طريق الإستعارة المكنية ويثبت له السلق بمعنى الضرب تخييلا وسأل نافع إبن الأزرق إبن عباس رضي الله تعالى عنه عن السلق في الآية فقال : الطعن باللسان قال : وهل تعرف العرب ذلك فقال : نعم أما سمعت قول الأعشى : فيهم الخصب والسماحة والنجدة فيهم والخاطب المسلاق وفسره الزجاج بالمخاطبة الشديدة قال : معنى سلقوكم خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة يقال : خطيب مسلاق وسلاق إذا كان بليغا في خطبته وأعتبر بعضهم في السلق رفع الصوت وعلى ذلك جاء قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : ليس منا من سلق أو حلق قال في النهاية أي رفع صوته عند المصيبة وقيل : أن تصك المرأة وجهها وتمرشه والأول أصح وزعم بعضهم أن المعنى في الآية بسطوا ألسنتهم في مخادعتكم بما يرضيكم من القول على جهة المصانعة والمجاملة ولا يخفى ما فيه وقرأ إبن أبي عبلة صلقوكم بالصاد
أشحة على الخير أي بخلاء حريصين على مال الغنائم على ما روى عن قتادة وقيل : على ما لهم الذي ينفقونه وقال الجبائي : أي بخلاء بأن يتكلموا بكلام فيه خير وذهب أبو حيان إلى عموم الخير ونصب أشحة على الحال من فاعل سلقوكم أو على الذم ويؤيده قراءة إبن أبي عبلة أشحة بالرفع لأنه عليه خبر مبتدأ محذوف أي هم أشحة والجملة مستأنفة لا حالية كما هو كذلك على الذم وغاير بعضهم بين الشح هنا والشح فيما مر بأن ما هنا مقيد بالخبر المراد به مال الغنيمة وما مر مقيد بمعاونة المؤمنين ونصرتهم أو بالإنفاق
(21/165)
في سبيل الله تعالى فلا يتكرر هذا مع ما سبق والزمخشري لما ذهب إلى ما ذهب هناك قال هنا : فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير وهو المال والغنيمة ونسوا تلك الحالة الأولى وأجترؤا عليكم وضربوكم بألسنتهم إلخ وقد سمعت ما قال بعض الأجلة في ذلك
ويمكن أن يقال في الفرق بين هذا وما سبق : إن المراد مما سبق ذمهم بالبخل بكل ما فيه منفعة أو بنوع منه على المؤمنين ومن هذا ذمهم بالحرص على المال أو ما فيه منفعة مطلقا من غير نظر إلى كون ذلك على المؤمنين أو غيرهم وهو أبلغ في ذمهم من الأول أولئك الموصوفون بما ذكر من صفات السوء لم يؤمنوا بالإخلاص فإنهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا في قلوبهم الكفر فأحبط الله أعمالهم أي أظهر بطلانها لأنها باطلة منذ عملت إذ صحتها مشروطة بالإيمان بالإخلاص وهم مبطنون الكفر وفي البحر أي لم يقبلها سبحانه فكانت كالمحبطة وعل ىالوجهين المراد بالأعمال العبادات المأمور بها وجوز أن يكون المراد بها ما عملوه نفاقا وتصنعا وإن لم يكن عبادة والمعنى فأبطل عزوجل صنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعا لمنفعة دنيوية أصلا
وحمل بعضهم الأعمال على العبادات والإحباط على ظاهره بناء على ما روى عن إبن زيد عن أبيه قال نزلت الآية في رجل بدري نافق بعد بر ووقع منه ما وقع فأحبط الله تعالى عمله في بدر وغيرها وصيغة الجمع تبعد ذلك وكذا قوله تعالى : لم يؤمنوا فإن هذا كما هو ظاهر هذه الرواية قد آمن قبل وأيضا قوله عليه الصلاة و السلام : ولعل الله أطلع على أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم يأبى ذلك فالظاهر والله تعالى أعلم إن هذه الرواية غير صحيحة
وكان ذلك أي الإحباط على الله يسيرا 91 أي هينا لا يبالي به ولا يخاف سبحانه إعتراضا عليه وقيل : أي هينا سهلا عليه عزوجل وتخصيص يسره بالذكر مع أن كل شيء عليه تعالى يسير لبيان أن أعمالهم بالإحباط المذكور لكمال تعاضد الحكم المقتضية له وعدم مانع عنه بالكلية وقيل : ذلك إشارة إلى حالهم من الشح ونحوه والمعنى كان ذلك الحال عليه عزوجل هينا لا يبالي به ولا يجعله سبحانه سببا لخذلان المؤمنين وليس بذاك والمقصود مما ذكر التهديد والتخويف يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي هم من الجزع والدهشة لمزيد جبنهم وخوفهم بحيث هزم الله تعالى الأحزاب فرحلوا وهم يظنون أنهم لم يرحلوا وقيل : المراد هؤلاء لجبنهم يحسبون الأحزاب لم ينهزموا وقد أنهزموا فأنصرفوا عن الخندق راجعين إلى المدينة لذلك وهذا إن صحت فيه رواية فذاك وإلا فالظاهر أنه مأخوذ من قوله تعالى : والقائلين لإخوانهم هلم إلينا لدلالته ظاهرا على أنهم خارجون عن معسكر رسول الله يحثون إخوانهم على اللحاق بهم وكون المراد هلموا إلى رأينا أو إلى مكاننا الذي هو في طرف لا يصل إليه السهم خلاف الظاهر وكذا من قوله سبحانه ولو كانوا فيكم على ما هو الظاهر أيضا إذ يبعد حمله على إتحاد المكان ولو في الخندق وإن يأت الأحزاب كرة ثانية يودوا لو أنهم بادون في الأعراب تمنوا إنهم خارجون إلى البدو وحاصلون مع الأعراب وهم أهل العمود وقرأ عبدالله وإبن عباس وإبن يعمر وطلحة بدي جمع باد كغاز وغزى وليس بقياس في معتل اللام وقياسه فعلة كقاض وقضاة وفي رواية أخرى عن إبن عباس بدوا فعة ماضيا وفي رواية صاحب الأقليد بدي بوزن عدي يسألون اي كل قادم من جانب المدينة عن أنبائكم عما جرى عليكم من الأحزاب يتعرفون أحوالكم بالإستخبار لا بالمشاهدة
(21/166)
فرقا وجبنا وإختيار البداوة ليكونوا سالمين من القتال والجملة في موضع الحال من فاعل بادون وحكى إبن عطية أن أبا عمرو وعاصما والأعمش قرؤا يسلون بغير همز نحو قوله تعالى سل بني إسرائيل ولم يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم ولعل ذلك في شاذهما ونقلها صاحب اللوائح عن الحسن والأعمش وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وقتادة والجحدري والحسن ويعقوب بخلاف عنهما يساءلون بتشديد السين والمد وأصله يتساءلون فأدغمت التاء في السين أي يسأل بعضهم بعضا أي يقول بعضهم لبعض : ماذا سمعت وماذا بلغك أو يتساءلون الأعراب أي يسألونهم كما تقول : رأيت الهلال وتراءيته وأبصرت زيدا وتباصرته ولو كانوا فيكم أي في هذه الكرة المفروضة بقوله تعالى : وإن يأت الأحزاب أو لو كانوا فيكم في الكرة الأولى السابقة ولم يرجعوا إلى داحل المدينة وكانت محاربة بالسيوف ومبارزة الصفوف ما قاتلوا إلا قليلا 02 ياء وسمعة وخوفا من التعبير قال مقاتل والجياني والبعلبكي : هو قليل من حيث هو رياء ولو كان لله تعالى كان كثيرا ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الظاهر أن الخطاب للمؤمنين الخلص المخاطبين من قبل في قوله تعالى : عن أنبائكم وقوله سبحانه : ولو كانوا فيكم
والأسوة بكسرة الهمزة كما قرأ الجمهور وبضمها كما قرأ عاصم الخصلة وقال الراغب : الحالة التي يكون عليها الإنسان وهي أسم كان و لكم الخبر و في رسول الله متعلق بما تعلق به لكم أو في موضع من أسوة لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتا لها أو متعلق بكان على مذهب من أجاز فيها ناقصة وفي أخواتها أن تعمل في الظرف وجوز أن يكون في رسول الله الخبر ولكم تبيين أي أعني لكم أي والله لقد كان لكم في رسول الله خصلة حسنة من حقها أن يؤتي ويقتدي بها كاالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد ويجوز أن يراد بالأسوة القدوة بمعنى المقتدي على معنى هو صلى الله تعالى عليه وسلم في نفسه قدوة يحسن التأسي به وفي الكلام صنعة التجريد وهو أن ينتزع من ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في الإتصاف نحو لقيت منه أسدا وهو كما يكون بمعنى من يكون بمعنى في كقوله : أراقت بنو مروان ظلما دماءنا وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل وكقوله : في البيضة عشرون منا حديد أي هي في نفسها هذا القدر من الحديد والآية وإن سيقت للإقتداء به عليه الصلاة و السلام في أمر الحرب من الثبات ونحوه فهي عامة في كل أفعاله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا لم يعلم أنها من خصوصياته كنكاح ما فوق أربع نسوة أخرج إبن ماجه وإبن أبي حاتم عن حفص بن عاصم قال : قلت لعبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما رأيتك في السفر لا تصلي قبل الصلاة ولا بعدها فقال ياإبن أخي صحبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كذا وكذا فلم أره يصلي قبل الصلاة ولا بعدها ويقول الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وأخرج عبدالرزاق في المصنف عن قتادة قال : هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن ينهى عن الحبرة فقال رجل : أليس قد رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يلبسها قال عمر : بلى قال الرجل : ألم يقل الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فترك ذلك عمر رضي الله تعالى عنه
وأخرج الشيخان والنسائي وإبن ماجه وغيرهم عن إبن عمر أنه سئل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على أمرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة فقال قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين وسعى بين الصفا والمروة ثم قرأ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
(21/167)
وأخرج الشيخان وغيرهما عن إبن عباس قال إذا حرم الرجل عليه أمرأته فهو يمين يكفرها وقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة إلى غير ذلك من الأخبار وتمام الكلام في كتب الأصول
لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر أي يؤمل الله تعالى وثوابه كما يرمز إليه أثر عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وعليه يكون قد وضع اليوم الآخر بمعنى يوم القيامة موضع الثواب لأن ثوابه تعالى يقع فيه فهو على ما قال الطيبي من إطلاق أسم المحل على الحال والكلام نحو قولك : أرجو زيدا وكرمه مما يكون ذكر المعطوف عليه فيه توطئة للمعطوف وهو المقصود وفيه من الحسن والبلاغة ما ليس في قولك : أرجو زيدا كرمه على البدلية وقال صاحب الفرائد يمكن أن يكون التقدير يرجو رحمة الله أو رضا الله وثواب اليوم الآخر ففي الكلام مضافان مقدران وعن مقاتل أي يخشى الله تعالى ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال على أنه وضع اليوم الآخر موضع البعث لأنه يكون فيه والرجاء عليه بمعنى الخوف ومتعلق الرجاء بأي معنى كان أمر من جنس المعاني لأنه لا يتعلق بالذوات وقدر بعضهم المضاف إلى الأسم الجليل لفظ أيام مرادا بها الوقائع فإن اليوم يطلق على ما يقع فيه من الحروب والحوادث وأشتهر في هذا حتى صار بمنزلة الحقيقة وجعل قرينة هذا التقدير المعطوف وجعل العطف من عطف الخاص على العام والظاهر أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف وجوز أن يكون الكلام عليه كقولك : أرجو زيدا وكرمه وأن يكون الرجاء فيه بمعنى الأمل إن أريد ما في اليوم من النصر والثواب وأن يكون بمعنى الخوف والأمل معا بناء على جواز إستعمال اللفظ في معنييه أو في حقيقته ومجازه وإرادة ما يقع فيه من الملائم والمنافر وعندى أن تقدير أيام غير متبادر إلى الفهم وفسر بعضهم اليوم الآخر بيوم السياق والمتبادر منه يوم القيامة و من على ما قيل بدل من ضمير الخطاب في لكم وأعيد العامل للتأكيد وهو بدل كل من كل والفائدة فيه الحث على التأسي وإبدال الأسم الظاهر من ضمير المخاطب هذا الإبدال جائز عند الكوفيين والأخفش ويدل عليه قوله : بكم قريش كفينا كل معضلة وأم نهج الهدى من كان ضليلا ومنع ذلك جمهور البصريين : ومن هنا قال صاحب التقريب وهو بدل إشتمال أو بدل بعض من كل ولا يتسنى إلا على القول بأن الخطاب عام وهو مخالف للظاهر كما سمعت ومع هذا يحتاج إلى تقدير منكم وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون لمن متعلقا بحسنة أو بمحذوف وقع صفة لها لأنه وقع بعد نكرة وقيل : يجوز أن يكون صفة لأسوة وتعقب بأن المصدر الموصوف لا يعمل فيما بعد وصفه وكذا تعدد الوصف بدون العطف لا يصح وقد صرح بمنع ذلك الإمام الواحدي ولا يخفى أن المسئلة خلافية فلا تغفل
وذكر الله كثيرا 12 أي ذكرا كثيرا وقرن سبحانه بالرجاء كثرة الذكر لأن المثابرة على كثرة ذكره عزوجل تؤدي إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق الإئتساء برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومما ينبغي أن يعلم أنه قد صرح بعض الأجلة كالنووي أن ذكر الله تعالى المعتبر شرعا ما يكون في ضمن جملة مفيدة كسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ونحو ذلك ومالا يكون بمفرد لا يعد شرعا ذكرا نحو الله أو قادر أو سميع أو بصير إذا لم يقدر هناك ما يصير به اللفظ كلاما والناس عن هذا غافلون وأنهم أجمعوا على أن الذكر المتعبد بمعناه لا يثاب صاحبه ما لم يستحضر معناه فالمتلفظ بنحو سبحان الله ولا إله إلا الله إذا كان غافلا عن المعنى غير ملاحظ له ومستحضرا إياه لا يثاب إجماعا والناس أيضا عن هذا غافلون
(21/168)
فإنا لله وإنا إليه راجعون ولما رأى المؤمنون الأحزاب بيان لما صدر عن خلص المؤمنين عند إشتباه الشؤن وإختلاط الظنون بعد حكاية ما صدر عن غيرهم أي ما شاهدوهم حسبما وصفوا لهم قالوا هذا إشارة عند بعض المحققين إلى ما شاهدوه من غير أن يخطر ببالهم لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ نعم يجوز التذكير بإعتبار الخبر الذي هو ما وعدنا الله ورسوله فإن ذلك العنوان أول ما يخطر ببالهم عند المشاهدة وعند الأكثر إشارة إلى الخطب والبلاء و ما موصولة عائدها محذوف وهو المفعول الثاني لوعد أي الذي وعدناه الله وجوز أن تكون مصدرية أي هذا وعد الله تعالى ورسوله إيانا وأرادوا بذلك ما تضمنه قوله تعالى في سورة البقرة : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء كما أخرج ذلك إبن جرير وإبن مردويه والبيهقي في الدلائل عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه جماعة عن قتادة أيضا ونزلت آية البقرة قبل الواقعة بحول على ما أخرجه جويبر عن الضحاك عن الحبر رضي الله تعالى عنه
وفي البحر عن إبن عباس قال : قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا أي في آخر تسع ليال أو عشر أي من وقت الأخبار أو من غرة الشهر فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك فمرادهم بذلك ما وعد بهذا الخبر وتعقبه إبن حجر بأنه لم يوجد في كتب الحديث وقريء بإمالة الراء من رأى نحو الكسرة وفتح الهمزة وعدم إمالتها وروى أمالتهما وإمالة الهمزة دون الراء على تفصيل فيه في النشر فليراجع وصدق الله ورسوله الظاهر أنه داخل في حيز القول فجوز أن يكون عطفا على جملة هذا ما وعدنا إلخ أو على صلة الموصول وهو كما ترى وأن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه
وأيا ما كان فالمراد ظهر صدق خبر الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الصدق محقق قبل ذلك والمترتب على رؤية الأحزاب ظهوره وجوز أن يكون المعنى وصدق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام في النصرة والثواب كما صدق الله تعالى ورسوله في البلاء والإظهار مع سبق الذكر للتعظيم ولأنه لو أضمر وقيل وصدق جاء الجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير واحد والأولى تركه أو قيل وصدق هو ورسوله بقي الإظهار في مقام الإضمار فلا يندفع السؤال كذا قيل وحديث الجمع قد مر ما فيه وما زادهم أي ما رأوا المفهوم من قوله تعالى : ولما رأى المؤمنون إلخ ورجوع الضمير إلى المصدر المفهوم من رأى يعكر عليه التذكير وأرجعه بعضهم إلى الشهود المفهوم من ذلك وجوز رجوعه إلى الوعد أو الخطب والبلاء المفهومين من السياق أو الإشارة
وقرأ إبن أبي عبلة وما زادوهم بضمير الجمع العائد على الأحزاب إلا إيمانا بالله تعالى وبمواعيده عزوجل وتسليما 22 لأوامره جل شأنه وإقداره سبحانه وأستدل بالآية على جواز زيادة الإيمان ونقصه ومن أنكر قال : إن الزيادة فيما يؤمن به لا في نفس الإيمان والبحث في ذلك مشهور وفي كتب الكلام على أبسط وجه مسطور من المؤمنين أي المؤمنين بالإخلاص مطلقا لا الذين حكيت محاسنهم خاصة
(21/169)
رجال أي رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه من الثبات مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمقاتلة للأعداء وقيل : من الطاعات مطلقا ويدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا وسبب النزول ظاهر في الأول
أخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وجماعة عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله تعالى مشهدا مع رسول الله فيما بعد ليرين الله تعالى ما أصنع فشهد يوم أحد فأستقبله سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال : يا أبا عمرو وأين قال : واها لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية ونزلت هذه الآية من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وكانوا يرون أنها نزلت فيه وأصحابه وفي الكشاف نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا أي نذروا الثبات التام والقتال الذي يفضي بحسب العادة إلى نيل الشهادة وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وحمزة ومصعب بن عمير وغيرهم وعن الكلبي ومقاتل أن هؤلاء الرجال هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة وقال يزيد بن رومان : هم بنو حارثة والمعول عليه عندى ما قدمته ومعنى صدقوا أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق ومحل ما عاهدوا النصب أما على نزع الخافض وهو في وإيصال الفعل إليه كما في قولهم صدقني سن بكره على رواية النصب أي في سن بكره والمفعول محذوف والأصل صدقوا الله فيما عاهدوه وإما على أنه هو المفعول الصريح
وجعل ما عاهدوا عليه بمنزلة شخص معاهد على طريق الإستعارة المكنية وجعله مصدوقا تخييل وعلى الإسناد المجازي فمنهم من قضى نحبه تفصيل لحال الصادقين وتقسيم لهم إلى قسمين والنحب على ما قال الراغب النذر المحكوم بوجوبه يقال : قضى فلان نحبه أي وفي بنذره وقال أبو حيان : النذر الشيء الذي يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به قال الشاعر : عشية فر الحارثيون بعد ما قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر وقال جرير : بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا عشية بسطام جرين على نحب أي على أمر عظيم ألتزم القيام به وشاع قضى فلان نحبه بمعنى مات إما على أن النحب مستعار إستعارة تصريحية للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل إنسان والقرينة حالية والقضاء ترشيح وأما على أن قضاء النحب مستعار له
وجوز أن يراد بالنحب في الآية النذر وأن يراد الموت وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون مستعارا لإلتزام الموت شهيدا إما بتنزيل أسبابه التي هي أفعال إختيارية للناذر منزلة إلتزام نفسه وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه وإيراد الإلتزام عليه وهو الأنسب بمقام المدح وجعله إستعارة للموت لأنه كنذر لازم مسخ للإستعارة وإذهاب برونقها وإخراج للنظم الكريم عن مقتضى المقام بالكلية إنتهى وفيه منع ظاهر كما لا يخفى على المنصف
والذي يقتضيه ظاهر بعض الأخبار أن النحب هنا بمعنى النذر وقضاؤه أداؤه والوفاء به فقد أخرج إبن أبي عاصم والترمذي وحسنه وإبن جرير والطبراني وإبن مردويه عن طلحة أن أصحاب النبي قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو وكانوا لا يجترؤن على مسئلته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي
(21/170)
ثم إني أطلعت من باب المسجد فقال : أين السائل عمن قضى نحبه قال الأعرابي : أنا قال : هذا ممن قضى نحبه وأخرج إبن منده وإبن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت : دخل طحلحة بن عبيدالله على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ياطلحة أنت ممن قضى نحبه وأخرج الحاكم عن عائشة نحوه
وأخرج الترمذي وغيره عن معاوية أنه قال : سمعت رسول الله عليه الصلاة و السلام يقول : طلحة ممن قضى نحبه وكأن عليا كرم الله تعالى وجهه عني مدحه بذلك في قوله وقد قيل له حدثنا عن طلحة : ذاك أمرؤ نزل فيه آية من كتاب الله فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وقد أخرج ذلك عنه كرم الله تعالى وجهه أبو الشيخ وإبن عساكر وكان رضي الله تعالى عنه قد ثبت يوم واحد حتى أصيبت يده وإلى حمل النحب على حقيقته ذهب مجاهد فالمعنى منهم من وفى بعهده وأدى نذره ومنهم أي وبعضهم من ينتظر يوما فيه جهاد فيقضي نحبه ويؤدي نذره ويفي بعهده ومن حمل ما عاهدوا الله تعالى على العموم وأبقى النحب على حقيقته قال : المعنى منهم من وفى بعهود الإسلام وما يلزم من الطاعات ومنهم من ينتظر الحصول في أعلاء مراتب الإيمان والصلاح وأستشكل إبقاء النحب على حقيقته لأن وفاء النذر عين صدق العهد فيكون مآل المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى وصدقوا أي فعلوا ووفوا بما عاهدوا الله تعالى عليه فمنهم من فعل ووفى بما عاهد وفيه تقسيم الشيء إلى نفسه ويشكل على هذا المعنى قوله تعالى : ومنهم من ينتظر لأن المنتظر غير واف فكيف يجعل قسما من الذين صدقوا أي وفوا وأجيب بأن المراد بالصدق في الآية مطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجة وهذا الكلام المتضمن لهذه النسبة هو ما أقتضاه عهدهم على الثبات من نحو قولهم : لئن أرانا الله مشهدا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لنثبتن ولنقاتلن وإتثاف الخبر بالصدق وكذا المخبريبة لا يقتضي أكثر من مطابقة نسبته للواقع في أحد الأزمنة فنجو يقوم زيد صادق وكذا المخبر به وقت الأخبار به وإن كان وقوع القيام بعد ألف سنة مثلا وكذا نحو إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود صادق وإن كان التكلم به ليلا فهؤلاء الرجال لما أخبروا عن أنفسهم إنهم إن أراهم الله تعالى مشهدا مع رسوله عليه الصلاة و السلام ثبتوا وقاتلوا وعلم سبحانه أن هذا مطابق للواقع أخبر تعالى عنهم بأنهم صدقوا ثم قسمهم عزوجل إلى قسمين قسم أدى ما أخبر عن نفسه أنه يؤديه وقسم ينتظر وقتا يؤديه فيه ولا يتصف هذا القسم بالكذب إلا إذا مات وقد أراه الله تعالى ذلك ولم يؤد ومن أخبر الله تعالى عنهم بالصدق ما ماتوا حتى أدوا فلا إشكال نعم الإشكال على تقدير أن يراد بالصدق فيما عاهدوا تحقيق العهد فيما أظهروه من أفعالهم كما فسره الراغب ويراد من قضاء النحب وفاء النذر أو العهد كما لا يخفى وقيل : المراد بصدقهم المذكور مطابقة ما في ألسنتهم لما في قلوبهم على خلاف المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ولا إشكال في التقسيم حينئذ وقيل : الصدق بالمعنى المشهور بيبن الجمهور إلا أن المراد بصدقوا يصدقون و عبر عن المضارع بالماضي لتحقق الوقوع وكلا القولين كما ترى وعن إبن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى : قضى نحبه فقال : أجله الذي قدر له فقال : وهل تعرف العرب ذلك قال : نعم أما سمعت قول لبيد : ألأ تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل وأخرج جماعة عنه أنه فسر ذلك بالموت وروى نحوه عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما وعليه لا مانع
(21/171)
من أن يراد بصدقوا ما عاهدوا الله عليه كما ذكر عن الراغب حققوا العهد فيما أظهروه من أفعالهم فيكون المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى على الثبات والقتال إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحققوا ذلك وثبتوا فمنهم من مات ومن منهم من ينتظر الموت والذي يقتضيه السياق أن المراد قضى نحبه ثابتا بأن يكون قد أستشهد كأنس بن النضر ومصعب بن عمير ويحتمل أن يراد ما أعم من ذلك فيدخل من مات بعد الثبات حتف أنفه قبل نزول الآية إن كان هنالك من هو كذلك وعدوا ممن ينتظر عثمان وطلحة وأول ما ورد في طلحة من أنه ممن قضى نحبه بأن المراد أنه في حكم من أستشهد وأوجبوا ذلك فيما أخرج سعيد إبن منصور وأبو يعلى وإبن المنذر وأبو نعيم وإبن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة وأخرج إبن مردويه من حديث جابر بن عبدالله مثله
وفي إرشاد العقل السليم عن عائشة بلفظ من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي في الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة وفي مجمع البيان عن أبي إسحاق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : نزلت فينا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية وأنا والله المنتظر وفي بعضهم بالإنتظار المنبيء عن الرغبة في المنتظر شهادة حقة بكمال إشتياقهم إلى الشهادة وقيل : إلى الموت مطلقا حبا للقاء الله تعالى ورغبة فيما عنده عزوجل وما بدلوا تبديلا 32 عطف على صدقوا وفاعله فاعله أي وما بدلوا عهدهم وما غيروه تبديلا ما لا أصلا ولا وصفا بل ثبتوا عليه راغبين فيه مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون أما الذين قضوا فظاهر وأما الباقون فيشهد به إنتظارهم أصدق شهادة وتعميم عدم التبديل للفريق الأول مع ظهور حالهم للإيذان بمساواة الفريق الثاني لهم في الحكم وجوز أن يكون ضمير بدلوا للمنتظرين خاصة بناء على أن المحتاج إلى البيان حالهم وفي الكلام تعريض بمن بدل من المنافقين حيث ولوا الأدبار وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار فكأنه قيل : وما بدلوا تبديلا كما بدل المنافقون فتأمل جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك ليجزي الله الصادقين أي الذين صدقوا ما عدوا الله تعالى عليه بصدقهم أي بسبب صدقهم وصرح بذلك مع أنه يقتضيه تعليق الحكم بالمشتق إعتناء بأمر الصدق ويكتفي بما يقتضيه التعليق في قوله تعالى : ويعذب المنافقين لأنه الأصل ولا داعي إلى خلافه والمراد ويعذب المنافقين بنفاقهم إن شاء أي تعذيبهم أو يتوب عليهم أي فلا يعذبهم بل يرحمهم سبحانه إن شاء عزوجل كذا قيل وظاهره أن كلا من التعذيب والرحمة للمنافقين يوم القيامة ولو ماتوا على النفاق معلق بمشيئته تعالى وأستشكل بأن النفاق أقبح الكفر كما يؤذن به قوله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقد أخبر عزوجل أنه سبحانه يعذب الكفرة مطلقا حتما لا محالة فكيف هذا التعليق وأجيب بأنه لا إشكال فإن الله جل جلاله لا يجب عليه شيء والتعليق لذلك فهو جل شأنه إن شاء عذب المنافق وإن شاء رحمه لكن المتحقق أنه تبارك وتعالى شاء تعذيبه ولم يشأ رحمته فكأنه قيل : إن شاء يعذب المنافقين في الآخرة لكنه سبحانه شاء تعذيبهم فيها أو يتوب عليهم إن شاء لكنه جل وعلا لم يشاء ورفع مقدم الشرطية الثانية في مثل هذه القضية ينتج رفع التالي وإنما لم تقيد مجازاة الصادقين بالمشيئة كما
(21/172)
قيد تعذيب المنافقين والتوبة عليهم بها مع أنه تعالى إن شاء يجزي الصادقين وإن شاء لم يجزهم لمكان نفي وجوب شيء عليه تعالى لمجموع أمرين هما تحقق مشيئة المجازاة وكون الرحمة مقصودة بالذات بخلاف العذاب وكأنه سبحانه لهذا الأخير لم يقل ليثيب أو لينعم وقال سبحانه في المقابل : ويعذب وقال بعض الأجلة : إن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم ومعنى توبته تعالى على العباد قبول توبتهم فكأنه قيل : أو يقبل توبتهم إن تابوا وحذف الشرط لظهور إستلزام المذكور له ويجوز أن تفسر توبته تعالى عليهم بتوفيقه تعالى إياهم للتوبة إليه سبحانه وكلا هذين المعنيين لتوبته تعالى وارد كما في القاموس وأياما كان فالأمر معلق بالمشيئة ضرورة أنه لا يجب عليه سبحانه قبول التوبة ولا التوفيق لها والمراد من تعليق تعذيب المنافقين بالمشيئة أنه تعالى إن شاء عذبهم بإبقائهم منافقين وإن شاء سبحانه لم يعذبهم بأن يسلب عنهم وصف النفاق بالتوفيق إلى الإخلاص في الإيمان
وقال إبن عطية : تعذيب المنافقين ثمرة إقامتهم على النفاق وموتهم عليه والتوبة موازنة لتلك الإقامة وثمرتها تركهم بلا عذاب فهناك أمران إقامة على النفاق وتوبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب ورحمة فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدة من هاتين وواحدة من هاتين ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ويدلك على أن معنى قوله تعالى : ليعذب ليديم على النفاق قوله سبحانه : إن شاء ومعادلته بالتوبة وحرف أو إنتهى وأراد بذلك حل الإشكال وكأن ما ذكره يؤل إلى أن التقدير ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسب وهو التعذيب وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب و هو الرحمة والغفران وذلك من قبيل الإحتباك قال في البحر : وهذا من الإيجاز الحسن وقال السدي : المعنى ويعذب المنافقين إن شاء أن يميتهم على نفاقهم أو يتوب عليهم بنقلهم من النفاق إلى الإيمان وكأنه جعل مفعول المشيئة الإماتة على النفاق دون التعذيب كما هو الظاهر لما سمعت من إستشكال تعليق تعذيبهم بالمشيئة مع أنه متحتم وقيل لذلك أيضا : إن المراد يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يتوب عليهم فلا يعذبهم فيها وحكى هذا عن الجبائي والكلام عليه في غاية الظهور وقد يقال : المراد بالمنافقين الجماعة المخصوصون القائلون ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا على أن ذلك كالأسم لهم فلا يلاحظ فيه مبدأ الإشتقاق ولا يجعل علة للحكم بل العلة له ما يفهم من سياق الكلام فيكون المعلق بالمشيئة تعذيب أناس مخصوصين ويكون المعنى يعذب فلانا وفلانا مثلا إن شاء بأن يميتهم سبحانه مصرين على ما هم عليه مما يقتضي التعذيب أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة فيرحمهم ويجوز أن يراد بالصادقين نحو هذا وحينئذ يكون قوله سبحانه : بصدقهم تصريحا بما يفهم من السياق ويفهم من كلام شيخ الإسلام أن ذكر الصدق وحده من باب الإكتفاء حيث قال في معنى الآية : ليجزي الله الصادقين بما صدر عنهم من الأقوال والوفاء قولا وفعلا ويعذب المنافقين بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية قيل : ولم يقل في جانب المنافقين بنفاقهم لقوله سبحانه : أو يتوب إلخ فإنه يستدعي فعلا خاصا بهم فتأمل والظاهر أن اللام في ليجزي للتعليل والكلام عند كثير تعليل للمنطوق من نفي التبديل عن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه والمعرض به من إثبات التعريض لمن سواهم من المنافقين فإن الكلام على ما سمعت في قوة وما بدلوا تبديلا كما بدل المنافقون فقوله : ليجزي ويعذب متعلق بالمنفي والمثبت على اللف والنشر التقديري وجعل تبديل المنافقين علة للتعذيب مبني على تشبيه المنافقين بالقاصدين عاقبة السوء على نهج الإستعارة المكنية والقرينة إثبات معنى التعليل وقيل : إن اللام للعلة حقيقة بالنظر
(21/173)
إلى المنطوق ومجازا بالنظر إلى المعرض به ويكون من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وقد جوزه من جوزه
وقيل : لا يبعد جعل ليجزي إلخ تعليلا للمنطوق المقيد بالمعرض به فكأنه قيل : ما بدلوا كغيرهم ليجزيهم بصدقهم ويعذب غيرهم إن لم يتب وأنه يظهر بحسن صنيعهم قبح غيره وبضدها تتبين الأشياء وقيل : تعليل لصدقوا وحكى ذلك عن الزجاج وقيل : لما يفهم من قوله تعالى : وما زادهم إلا إيمانا وتسليما وقيل : لما يستفاد من قوله تعالى : ولما رأى المؤمنون الأحزاب كأنه قيل : إبتلاهم الله تعالى برؤية ذلك الخطب ليجزي الآية وأختاره الطيبي قائلا إنه طريق أسهل مأخذا وأبعد عن التعسف وأقرب إلى المقصود من جعله تعليلا للمنطوق والمنعرض به وأختار شيخ الإسلام كونه متعلقا بمحذوف والكلام مستأنف مسوق بطريق الفذلكة لبيان ما هو داع إلى وقوع ما حكى من الأقوال والأفعال على التفصيل وغاية كما في قوله تعالى : ليسأل الصادقين عن صدقهم كأنه قيل وقع جميع ما وقع ليجزي الله إلخ وهو عندي حسن وإن كان فيه حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك إن الله كان غفورا رحيما 42 أي لمن تاب وهذا إعتراض فيه بعث إلى التوبة
وقوله سبحانه : ورد الله إلخ رجوع إلى حكاية بقية القصة وتفصيل لتتمة النعمة المشار إليها إجمالا بقوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وهو معطوف على أرسلنا وقد وسط بينهما بيان كون ما نزل بهم واقعة طامة تحيرت بها العقول والإفهام وداهية تحاكت فيها الركب وزلت الأقدام وتفصيل ما صدر عن فريقي أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لإظهار عظم النعمة وإبانة خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية إحتياجهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الذين كفروا والإلتفات إلى الأسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة وجوز شيخ الإسلام ولعل صنيعه يشير إلى أولويته حيث بدأبه كونه معطوفا على المقدر قبل : ليجزي الله كأنه قيل إثر حكاية الأمور المذكورة وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا وقيل هو معطوف من حيث المعنى على قوله تعالى ليجزي كأنه قيل فكان عاقبة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أن جزاهم الله تعالى بصدقهم ورد أعدائهم وهذا الرد من جملة جزائهم على صدقهم وهو كما ترى والمراد بالذين كفروا الأحزاب على ما روى غير واحد عن مجاهد والظاهر أنه عني المشركين واليهود الذين تحزبوا
وأخرج إبن أبي حاتم عن السدي أنه فسر ذلك بأبي سفيان وأصحابه ولعله الأولى وعلى القولين المراد رد الله الذين كفروا من محل إجتماعهم حول المدينة وتحزبهم إلى مساكنهم بغيظهم حال من الموصول لا من ضمير كفروا والباء للملابسة أي ملتبسين بغيظهم وهو أشد الغضب وقوله تعالى : لم ينالوا خيرا حال من ذاك أيضا أو من ضمير بغيظهم أي غير ظافرين بخير أصلا وفسر بعضهم الخبر بالظفر بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين وإطلاق الخير عليه مبني على زعمهم وفسره بعضهم بالمال كما في قوله تعالى : وإنه لحب الخير لشديد والأولى أن يراد به كل خير عندهم فالنكرة في سياق النفي تعم وجوز أن تكون الجملة مستأنفة لبيان غيظهم أو بدلا وكفى الله المؤمنين القتال أي وقاهم سبحانه ذلك و كفى هذه تتعدى لإثنين وقيل : هي بمعنى أغنى وتتعدى إلى مفعول واحد
والكلام هنا على الحذف والإيصال والأصل وكفى الله المؤمنين عن القتال أي أغناهم سبحانه عنه ولا وجه له
(21/174)
وهذه الكفاية كانت كما أخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم عن قتادة بالريح والملائكة عليهم السلام وقيل : بقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرو بن عبدود
وأخرج إبن أبي حاتم وإبن مردويه وإبن عساكر عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب وفي مجمع البيان هو المروي عن أبي عبدالله رضي الله تعالى عنه ولا يكاد يصح ذلك والظاهر ما روى عن قتادة لمكان قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكأن المراد بالقتال الذي كفاهم الله تعالى إياه القتال على الوجه المعروف من تعبية الصفوف والرمي بالسهام والمقارعة بالسيوف أو القتال الذي يقتضيه ذلك التحزب والإجتماع بحكم العادة
وفي البحر ما هو ظاهر في أن المراد كفى الله المؤمنين مداومة القتال وعودته فإن قريشا هزموا بقوة الله تعالى وعزته عزوجل وما غزوا المسلمين بعد ذلك وإلا فقد وقع قتال في الجملة وقتل من المشركين على ما روى عن إبن إسحاق ثلاثة نفر من بني عبدالدار بن قصي منبه بن عثمان بن عبيد إبن السباق بن عبدالدار أصابه سهم فمات منه بمكة ومن بني مخزوم بن يقظة نوفل بن عبدالله بن المغيرة أقتحم الخندق فتورط فيه فقتل ومن بني عامر بن لؤي من بني مالك بن حسل عمرو بن عبد ود نازله علي كرم الله تعالى وجهه كما علمت فقتله
وروى عن إبن شهاب أنه رضي الله تعالى عنه قتل يومئذ إبنه حسل أيضا فيكون من قتل من المشركين أربعة وأستشهد من المؤمنين بسبب هذه الغزوة سعد بن معاذ وأنس بن أويس بن عتيك وعبدالله بن سهل وهم من بني عبد الأشهل والطفيل بن النعمان وثعلبة بن عثمة وهما من بني جشم بن الخزرج من بني سلمة وكعب إبن زيد وهو من بني النجار ثم من بني دينار أصابه سهم غرب فقتله قال إبن إسحاق : ولم يستشهد إلا هؤلاء الستة رضي الله تعالى عنهم وكان الله قويا على إحداث كل ما يريد جل شأنه وعزيزا 52 غالبا على كل شيء وأنزل الذين ظاهروهم أي عاونوا الأحزاب المردودة من أهل الكتاب وهم بنو قريظة عند الجمهور وعن الحسن أنهم بنو النضير وعلى الأول المعول من صياصيهم أي من حصونهم جمع صيصية وهي كل ما يمتنع به ويقال لقرن الثور والظباء ولشوكة الديك التي في رجله كالقرن الصغير وتطلق الصياصي على الشوك الذي للنساجين ويتخذ من حديد قاله أبو عبيدة وأنشد لدريد بن الصمة الجشمي : نظرت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج الممدد وتطلق على الأصول أيضا قال : أبو عبيدة إن العرب تقول : جذ الله صئصئة أي اصله
وقذف في قلوبهم الرعب أي الخوف الشديد بحيث أسلموا أنفسهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى : فريقا تقتلون وتأسرون فريقا 62 أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلا عن المخالفة والإستعصاء وفي البحر أن قذف الرعب سبب لإنزالهم ولتكن قدم المسبب لما أن السرور بإنزالهم أكثر والأخبار به أهم وقدم مفعول تقتلون لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين وكأن الإعتناء بحالهم أهم ولم يكن في المأسورين هذا الإعتناء بل الإعتناء هناك بالأسر أشد ولو قيل : وفريقا تأسرون لربما ظن قبل سماع تأسرون أنه يقال بعد تهزمون : أو نحو ذلك وقيل : قدم المفعول في الجملة الأولى لأن مساق الكلام
(21/175)
لتفصيله وأخر في الثانية لمراعاة الفواصل وقيل التقديم لذلك وأما التأخير فلا يفصل بين القتل وأخيه وهو الأسر فاصل وقيل : غوير بين الجملتين في النظم لتغاير حال الفريقين في الواقع فقد قدم أحدهما فقتل وأخر الآخر فأسر وقرأ إبن عامر والكسائي الرعب بضم العين وقرأ أبو حيوة تأسرون بضم السين وقرأ اليماني يأسرون بياء الغيبة وقرأ إبن أنس عن إبن ذكوان بها فيه وفي يقتلون ولا يظهر لي وجه وجيه لتخصيص الأسم بصيغة الغيبة فتأمل وتفصيل القصة على سبيل الإختصار أنه لما كانت صبيحة الليلة التي إنهزم فيها الأحزاب أو ظهر يوم تلك الليلة على ما في بعض الروايات وقد رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون إلى داخل المدينة أتى جبريل عليه السلام معتجرا بعمامة أستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج رسول الله وهو عند زينب بنت جحش تغسل رأسه الشريف وقد غسلت شقه فقال : أوقد وضعت السلاح يا رسول الله قال : نعم فقال : عفا الله تعالى عنك ما وصعت الملائكة عليهم السلام السلاح بعد وما رجعت إلا الآن من طلب القوم وإن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وإني عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم فأمر عليه الصلاة و السلام مؤذنا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة وأستعمل على المدينة إبن أم مكتوم وقدم علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه برايته إليهم وأبتدرها الناس فسار كرم الله تعالى وجهه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرجع حتى لقيه عليه الصلاة و السلام فقال : يارسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث قال : لم أظنك سمعت لي منهم أذى قال : نعم يارسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول الله من حصونهم قال : يا إخوان القردة هل أخزاكم الله تعالى وأنزل بكم نقمته قالوا : ياأبا القاسم ما كنت جهولا وفي رواية فحاشا وكان عليه الصلاة و السلام قد مر بنفر من أصحابه بالصورين قبل أن يصل إليهم فقال : هل مر بكم أحد قالوا : يارسول الله قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها حالة قطيفة ديباج فقال عليه الصلاة و السلام : ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم ولما أتاهم نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم يقال لها بئر أنا وتلاحق الناس فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يصلين أحد العصر إلا ببني قريظة وقد شغلهم ما لم يكن لهم منه بد في حربهم فلما أتوا صلوها بعد العشاء فما عابهم الله تعالى بذلك في كتابه ولا عنفهم رسوله عليه الصلاة و السلام
وحاصرهم صلى الله تعالى عليه وسلم خمسة وعشرين ليلة وقيل : إحدى وعشرين وقيل : خمس عشرة وجهدهم الحصار وخافوا أشد الخوف وقد كان حيي بن أخطب دخل معهم في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما عاهده عليه فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب : يامعشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم قالوا : وما هي قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على مائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره قال فإذا أبيتم على هذه فانقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله تعالى بيننا وبينهم فإن نهلك نهلك ولم نترك
(21/176)
وراءنا نسلا نخشى عليه وأن تظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء قالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم قال : فإن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وأنه عسى أن يكون محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه قد أمنونا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب منهم غرة قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال : فما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله أن أبعث إلينا أبا لبابة بن عبدالمنذر أخا بني عمرو إبن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله عليه الصلاة و السلام إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا له : ياأبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قال : نعم وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح فعرف أنه قد خان الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام فلم يرجع إلى رسول الله وذهب إلى المدينة وربط نفسه بجذع في المسجد حتى نزلت توبته رضي الله تعالى عنه ثم إنه عليه الصلاة و السلام أستنزلهم فتوائب الأوس فقالوا : يارسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت وقد كان رسول الله قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وقد كانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه فسأله إياهم عبدالله بن أبي بن سلول فوهبهم له فلما كلمته الأوس قال عليه الصلاة و السلام ألا ترضون يامعشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا : بلى قال : فذاك إلى سعد بن معاذ وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد جعله في خيمة لإمرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به صنيعة من المسلمين وقد كان رضي الله تعالى عنه قد أصيب يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال لهإبن العرقة بسهم فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله تعالى فقال : اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة وروى أن بني قريظة هم أختاروا النزول على حكم سعد ورضي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأتاه قومه وهو في المسجد فحملوه على حمار وقد وطأوا له بوسادة من أدم وكان رجلا جسيما جميلا ثم أقبلوا معه إلى رسول الله وهم يقولون : ياأبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صل الله تعالى عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبدالأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه فلما إنتهى سعد إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام والمسلمين قال صلى الله تعالى عليه وسلم : قوموا إلى سيدكم فأما المهاجرون من قريش فقالوا : إنما أراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الأنصار وأما الأنصار فيقولون : قد عم بها عليه الصلاة و السلام المسلمين فقاموا إليه فقالوا : ياأبا عمرو إن رسول الل صلى الله تعالى عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم فقال سعد : عليكم عهد الله تعالى وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت قالوا : نعم قال : وعلي من ههنا في الناحية التي فيها رسول الله وهو معرض برسول الله عليه الصلاة و السلام فقال صلى الله تعالى عليه وسلم نعم قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبي الذراري والنساء فكبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فحبسهم رسول الله في دار بنت الحرث أمرأة من بني النجار ثم خرج إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج إليهم بها أرسالا وفيهم عدو الله تعالى حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم
(21/177)
وهم ستمائة أو سبعمائة والمستكثر لهم يقول : كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أرسالا ياكعب ما تراه يصنع بنا قال : أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع ومن ذهب منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأتى بحيي بن أخطب عدو الله تعالى وعليه حلة تفاحية قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله تعالى يخذل ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله تعالى كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه فقال فيه جبل بن جدال التغلبي : لعمرك ما لام إبن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها وقلقل يبغي العز كل مقلقلوروى أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه أستوهب من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الزبير بن باطا القرظي لأنه من عليه في الجاهلية يوم بعاث فقال صلى الله تعالى عليه وسلم هو لك فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك قال : شيخ كبير فما يصنع بالحياة ولا أهل له ولا ولد فأتى ثابت رسول الله عليه الصلاة و السلام فقال : بأبي أنت وأمي يارسول الله أمرأته وولده قال : هم لك فأتاه فقال : قد وهب لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك قال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى رسول الله عليه الصلاة و السلام فقال : ماله قال : هو لك فأتاه فقال : قد أعطاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مالك فهو لك فقال أي ثابت : ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتمرأ فيها عذارى الحي كعب بن أسد قال : فما فعل مقدمتها إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا عزال بن شموال قال : قتل قال : فما فعل المجلسان يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة قال : قتلوا قال : فإني أسألك ياثابت بيدي عندك ألا ألحقني بالقوم فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر لله تعالى قتلة ذكر ناصح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه فلما بلغ أبا بكر رضي الله تعالى عنه قوله : ألقى الأحبة قال : يلقاهم والله في جهنم خالدين فيها مخلدين وأستوهبت سمي بنت أقيس أم المنذر أخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد صلت معه القبلتين وبايعته مبايعة النساء رفاعة بن شموال القرظي وقالت : بأبي أنت وأمي يانبي الله هب لي رفاعة فإنه زعم أنه سيصل ويأكل لحم الجمل فوهبه عليه الصلاة و السلام لها فأستحيته وفعل منه كل من أنبت من الذكور وأما النساء فلم يقتل منهم إلا أمرأة يقال لها لبابة زوجة الحكم القرظي وكانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته أخرج إبن إسحاق عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : والله إن هذه الأمرأة لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله يقتل رجالها بالسيوف إذ هتف هاتف بأسمها أين فلانة قالت : أنا والله قلت لها : ويلك مالك قالت : أقتل قلت : ولم قالت : لحدث أحدثته فأنطلق بها فضربت عنقها فكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول : فوالله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل ثم إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قسم
(21/178)
أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس وكان للفرس سهمان وللفارس سهم وللراجل الذي ليس له فرس سهم وكانت الخيل في تلك الغزوة ستة وثلاثين فرسا وهو أول فيء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس على ما ذكر إبن إسحاق ثم بعث رسول الله سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبدالأشهل بسبايا القوم وكانت السبايا كلها على ما قيل سبعمائة وخمسين إلى نجد فأبتاع بها لهم خيلا وسلاحا وكان عليه الصلاة و السلام قد أصطفى لنفسه الكريمة من نسائهم ريحانة بنت عمرو وكانت في ملكه حتى توفي وقد كان عليه الصلاة و السلام عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت : يارسول الله بل تتركني في ملك فهو أخف على وعليك فتركها وكانت حين سباها قد أبت إلا اليهودية فعزلها عليه الصلاة و السلام ووجد في نفسه لذلك فبينما هو صلى الله تعالى عليه وسلم مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال : إن هذا لنعلا إبن شعبة جاء يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال : يارسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك من أمرها وكان الفتح على ما في البحر في آخر ذي القعدة وهذه الغزوة وغزوة الخندق كانتا في سنة واحدة كما يدل عليه ما ذكرناه أول القصة وهو الصحيح خلافا لمن قال : إن كلا منهما في سنة ولما أنقضى شأن بني قريظة إنفجر لسعد رضي الله تعالى عنه جرحه فمات شهيدا وقد أستبشرت الملائكة عليهم السلام بروحه وأهتز له العرش وفي ذلك يقول رجل من الأنصار : وما أهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو وأستشهد يوم بني قريظة على ما روى عن إبن إسحاق من المسلمين ثم من بني الحرث بن الخزرج خلاد بن سويد إبن ثعلبة بن عمرو طرحت عليه رحا فشدخته شدخا شديدا وذكروا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن له لأجر شهيدين ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان أخو بني أسد بن خزيمة ورسول الله عليه الصلاة و السلام محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم التي يدفنون فيها اليوم وإليه دفنوا موتاهم في الإسلام وتمام الكلام فيما وقع في هذه الغزوة في كتب السير وقوله تعالى : وأورثكم أرضهم عطف على قوله سبحانه وتعالى : أنزل إلخ والمراد بأرضهم مزارعهم وقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزروع
وفي قوله عزوجل : أورثكم إشعار بأنه إنتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين وأن ملكهم إياه ملك قوي ليس بعقد يقبل الفسخ أو الإقالة وديارهم أي حصونهم وأموالهم نقودهم ومواشيهم وأثاثهم التي أشتملت عليها أرضهم وديارهم أخرج إبن أبي شيبة وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن قتادة من خبر طويل أن سعدا رضي الله تعالى عنه حكم كما حكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم بأن أعقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه : أتؤثر المهاجرين بالأعقار علينا فقال : إنكم ذوو أعقار وأن المهاجرين لا أعقار لهم وأمضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حكمه
وفي الكشاف روى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك فقال عليه الصلاة و السلام : إنكم في منازلكم وقال عمر رضي الله تعالى عنه : أما تخمس كما خمست يوم بدر قال : لا إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس قال : رضينا بما صنع الله تعالى ورسوله
(21/179)
وذكر الجلال السيوطي أن الخبر رواه الواقدي من رواية خارجة بن زيد عن أم العلاء قالت : لما غنم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بني النضير جعل الحديث ومن طريق المسور بن رفاعة قال : فقال عمر يارسول الله ألا تخمس ما أصيب من بني النضير الحديث وعليه لا يحسن من الزمخشري ذكره ههنا مع أن الآيات عنده في شأن بني قريظة وسيأتي الكلام فيما وقع لبني النضير في تفسير سورة الحشر إن شاء الله تعالى وأرضا لم تطؤها قال مقاتل ويزيد بن رومان وإبن زيد : هي خيبر فتحت بعد بني قريظة وقال قتادة : كان يتحدث أنها مكة وقال الحسن : هي أرض الروم وفارس وقيل : اليمن وقال عكرمة : هي ما ظهر عليها المسلمون إلى يوم القيامة وأختاره في البحر وقال عروة : لا أحسبها الأكل أرض فتحها الله تعالى على المسلمين أو هو عزوجل فاتحها إلى يوم القيامة والظاهر أن العطف على أرضهم وأستشكل بأن الأرث ماض حقيقة بالنسبة إلى المعطوف عليه ومجازا بالنسبة إلى هذا المعطوف وأجيب بأنه يراد بأورثكم في علمه وتقديره وذلك متحقن فيما وقع من الأرث كأرضهم وديارهم وأموالهم وفيما لم يقع بعد كارث ما لم يكن مفتوحا وقت نزول الآية وقدر بعضهم أورثكم في جانب المعطوف مرادا به يورثكم إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع والدليل المذكور وأستبعد دلالة المذكور عليه لتخالفهما حقيقة ومجازا
وقيل الدليل ما بعد من قوله تعالى : وكان الله إلخ ثم إذا جعلت الأرض شاملة لما فتح على أيدي الحاضرين ولما فتح على أيدي غيرهم ممن جاء بعدهم لا يخص الخطاب الحاضرين كما لا يخفى ومن بدع التفاسير أنه أريد بهذه الأرض نساؤهم وعليه لا يتوهم إشكال في العطف وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما لم تطوها بحذف الهمزة أبدل همزة تطأ الفا على حد قوله : إن السباع لتهدي في مرابضها والناس لا يهتدي ومن شرهم أبدا فألتقت ساكنة مع الواو فحذفت كقولك لم تروها وكان الله على كل شيء قديرا 72 فهو سبحانه قادر على أن يملككم ما شاء ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا أي السعة والتنعم فيها وزينتها أي زخرفها وهو تخصيص بعد تعميم فتعالين أي أقبلن بإرادتكن وإختياركن لإحدى الخصلتين كما يقال أقبل يخاصمني وذهب يكلمني وقام يهددني وأصل تعال أمر بالصعود لمكان عال ثم غلب في الأمر بالمجيء مطلقا والمراد به ههنا ما سمعت وقال الراغب : قال بعضهم إن أصله من العلو وهو إرتفاع المنزلة فكأنه دعاء إلى ما فيه رفعة كقولك : أفعل كذا غير صاغر تشريفا للمقول له وهذا المعنى غير مراد هنا كما لا يخفى أمتعكن أي أعطكن متعة الطلاق والمتعة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد واجبة عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه ولسائر المطلقات مستحبة وعن الزهري متعتان أحداهما يقضي بها السلطان ويجير عليها من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها والثانية حق على المتقين من طلق بعد ما فرض ودخل وخاصمت أمرأة إلى شريح في المتعة فقال : متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره وعن سعيد بن جبير المتعة حق مفروض وعن الحسن لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة والمتعة درع وحمار وملحفة على حسب السعة والإقتار إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك فيجب لها الأقل منهما ولا
(21/180)
ينقص من خمسة دراهم لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها كذا في الكشاف وتمام الكلام في الفروع والفعل مجزوم على أنه جواب الأمر وكذا قوله تعالى : وأسرحكن وجوز أن يكون الجزم على انه جواب الشرط ويكون فتعالين إعتراضا بين الشرط وجزائه والجملة الإعتراضية قد تقترن بالفاء كما في قوله : وأعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا وقرأ حميد الخراز أمتعكن وأسرحكن بالرفع على الإستئناف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أمتعكن بالتخفيف من أمتع والتسريح في الأصل مطلق الإرسال ثم كنى به عن الطلاق أي وأطلقكن سراحا أي طلاقا جميلا 82 أي ذا حسن كثير بأن يكون سنيا لا ضرار فيه كما في الطلاق البدعي المعروف عند الفقهاء وفي مجمع البيان تفسير السراح الجميل بالطلاق الخالي عن الخصومة والمشاجرة وكان الظاهر تأخير التمتيع عن التسريح لما أنه مسبب عنه إلا أنه قدم عليه إيناسا لهن وقطعا لمعاذيرهن من أول الأمر وهو نظير قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم من وجه ولأنه مناسب لما قبله من الدنيا : وجوز أن يكون في محله بناء على أن إرادة الدنيا بمنزلة الطلاق والسراح الإخراج من البيوت فكأنه قيل : إن أردتن الدنيا وطلقتن فتعالين أعطكن المتعة وأخرجكن من البيوت إخراجا جميلا بلا مشاجرة ولا إيذاء ولا يخفى بعده وسبب نزول الآية على ما قيل : إن أزواجه عليه الصلاة و السلام سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وإبن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال : أقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه والناس ببابه جلوس والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فدخلا والنبي جالس وحوله نساؤه وهو ساكت فقال عمر : لأكلمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعله يضحك فقال : يارسول الله لو رأيت إبنة زيد يعني أمرأته رضي الله تعال ىعنه سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها فضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدا ناجذه وقال : هن حولي سألتني النفقة فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى عائشة ليضربها وقام عمر رضي الله تعال ىعنه إلى حفصة كلاهما يقولان : تسألان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما ليس عنده فنهاهما رسول الله فقلن نساؤه : والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده وأنزل الله تعالى الخيار فبدأ بعائشة فقال عليه الصلاة و السلام : إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت : ما هو فتلا عليها ياأيها النبي قل لأزواجك الآية قالت عائشة : أفيك أستأمر أبوي بل أختار الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأسألك أن لا تذكر لأمرأة من نسائك ما أخترت فقال عليه الصلاة و السلام : إن الله تعالى لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا لا تسألني أمرأة منهن عما أخبرتني إلا أخبرتها وفي خبر رواه إبن جرير وإبن أبي حاتم عن قتادة والحسن أنه لما نزلت آية التخيير كان تحته عليه الصلاة و السلام تسع نسوة خمس من قريش : عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وكان تحته صفية بنمت حيي الخيبرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحرث من بني المصطلق وبدأ بعائشة فلما أختارت الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والدار الآخرة رؤى الفرح في
(21/181)
وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتتابعن كلهن على ذلك فلما خيرهن واخترن الله عزوجل ورسوله عليه الصلاة و السلام والدار الآخرة شكرهن الله جل شأنه على ذلك اذ قال سبحانه : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن فقصره الله تعالى عليهن وهن التسع اللاتي أخترن الله عز و جل ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم
واخرج إبن سعد عن عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده أنه صلى الله تعالى عليه وسلم خير نساءه فأخترن جميعا الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام غير العامرية أختارت قومها فكانت بعد تقول : أنا الشقية وكانت تلقط البعر وتبيعه وتستأذن على أزواج النبي فتقول : أنا الشقية
وأخرج أيضا عن إبن جناح قال : أخترنه جميعا غير العامرية كانت ذاهبة العقل حتى ماتت وجاء في بعض الروايات عن إبن جبير غير الحميرية وهي العامرية وكان هذا التخيير كما روى عن عائشة وأبي جعفر بعد أن هجرهن عليه الصلاة و السلام شهرا تسعة وعشرين يوما وفي البحر أنه لما نصر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ورد عنه الأحزاب وفتح عليه النضير وقريظة ظن أزواجه عليه الصلاة و السلام أنه أختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن : يارسول الله بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق وآلمن قلبه الشريف عليه الصلاة و السلام بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم فأمره الله تعالى بأن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن وما أحسن موقع هذه الآيات على هذا بعد إنتهاء قصة الأحزاب وبني قريظة كما لا يخفى ويفهم من كلام الإمام أنها متعلقة بأول السورة وذلك أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلقه عزوجل فبدأ سبحانه بإرشاد حبيبه عليه الصلاة و السلام إلى ما يتعلق بجانب التعظيم له تعالى فقال سبحانه : ياأيها النبي أتق الله إلخ ثم أرشده سبحانه إلى ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات لأنهن أولى الناس بذلك وقدم سبحانه الشرطية المذكورة على قوله تعالى : وإن كنتن تردن الله ورسوله إلخ لأن سبب النزول ما سمعت
وقال الإمام : إن التقديم إشارة إلى أن النبي غير ملتفت إلى الدنيا ولذاتها غاية الإلتفات وذكر أن في وصف السراح بالجميل إشارة إلى ذلك أيضا ومعنى إن كنتن تردن الله ورسوله إن كنتن تردن رسول الله وإنما ذكر الله عزوجل للإيذان بجلالة محله عليه الصلاة و السلام عنده تعالى والدار الآخرة أي نعيمها الباقي الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها فإن الله أعد أي هيأ ويسر للمحسنات منكن بمقابلة إحسانهن أجرا لا تحصي كثرته عظيما 92 لا تستقصي عظمته و من للتبيين لأن كلهن كن محسنات
وقيل : ويجوز فيه التبعيض على أن المحسنات المختارات لله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وإختيار الجميع لم يعلم وقت النزول وهو على ما قال الخفاجي عليه الرحمة بعيد وجواب إن في الظاهر ما قرن بالفاء إلا أنه قيل الماضي فيه بمعنى المضارع الدال على الإستقبال والتعبير به دونه لتحقق الوقوع وقيل : الجواب محذوف نحو تثبن أو تتلن خبرا وما ذكر دليله وتجريد الشرطية الأولى عن الوعيد للمبالغة في تحقيق معنى
(21/182)
التخيير والإحتراز عن شائبة الإكراه قيل : وهو السر في تقديم التمتيع على التسريح ووصف التسريح بالجميل
هذا وأختلف فيما وقع من التخيير هل كان تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الطلاق بنفس الإختيار أولا فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم على ما في إرشاد العقل السليم وهو الظاهر إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما كان تخييرا لهن بين الإرادتين على أنهن إن أردن الدنيا فارقهن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما ينبيء عنه قوله تعالى : فتعالين أمتعكن وأسرحكن وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضا للطلاق إليهن حتى لو أنهن أخترن أنفسهن كان ذلك طلاقا وكذا أختلف في حكم التخيير بأن يقول الرجل لزوجته إختاري فتقول أخترت نفسي أو أختاري نفسك فتقول أخترت فعن زيد بن ثابت أنه يقع الطلاق الثلاث وبه أخذ مالك في المدخول بها وفي غيرها يقبل من الزوج دعوى الواحدة وعن عمر وإبن عباس وإبن مسعود أنه يقع واحدة رجعية وهو قول عمر بن عبدالعزيز وإبن أبي ليلى وسفيان وبه أخذ الشافعي وأحمد
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه يقع واحدة بائنة وروى ذلك الترمذي عن إبن مسعود وأيضا عن عمر رضي الله تعالى عنهما وبذلك أخذ أبو حنيفة عليه الرحمة فإن أختارت زوجها فعن زيد بن ثابت أنه تقع طلقة واحدة وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان إحداهما أنه تقع واحدة رجعية والأخرى أنه لا يقع شيء أصلا وعليه فقهاء الأمصار
وذكر الطبرسي أن المروى عن أئمة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين إختصاص التخيير بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأما غيره عليه الصلاة و السلام فلا يصح له ذلك وأختلف في مدة ملك الزوجة الإختيار إذا قال لها الزوج ذلك فقيل : تملكه ما دامت في الجلس وروى هذا عن عمر وعثمان وإبن مسعود رضي الله تعالى عنهم وبه قال جابر بن عبدالله وجابر بن زيد وعطاء ومجاهد والشعبي والنخعي ومالك وسفيان والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وقيل : تملكه في المجلس وفي غيره وهو قول الزهري وقتادة وأبي عبيدة وإبن نصر وحكاه صاحب المغنى عن علي كرم الله تعالى وجهه
وفي بلاغات محمد بن الحسن أنه كرم الله تعالى وجهه قائل بالإقتصار على المجلس كقول الجماعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وتمام الكلام في هذه المسئلة وما لكل من هذه الأقوال وما عليه يطلب من كتب الفروع كشروح الهداية وما يتعلق بها بيد أني أقول : كون ما في الآية هو المسئلة المذكورة في الفروع التي وقع الإختلاف فيها مما لا يكاد يتسنى وتأول الخفاجي إستدلال من أستدل بها في هذا المقام بما لا يخلو عن كلام عند ذوي الإفهام هذا وذكر الإمام في الكلام على تفسير هذه الآية عدة مسائل الأولى أن التخيير منه صلى الله تعالى عليه وسلم قولا كان واجبا عليه عليه الصلاة و السلام بلا شك لأنه إبلاغ الرسالة وأما معنى فكذلك عل ىالقول بأن الأمر للوجوب الثانية أنه لو أردن كلهن أو إحداهن الدنيا فالظاهر نظرا إلى منصب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه يجب عليه التمتيع والتسريح لأن الخلف في الوعد منه عليه الصلاة و السلام غير جائز الثالثة أن الظاهر أنه لا تحرم المختارة بعد البينونة على غيره عليه الصلاة و السلام وإلا لا يكون التخيير ممكنا من التمتع بزينة الدنيا الرابعة أن الظاهر أن من أختارت الله تعالى ورسوله
(21/183)
صلى الله تعالى عليه وسلم يحرم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نظرا إلى منصبه الشريف طلاقها والله تعالى أعلم
يانساء النبي تلوين للخطاب وتوجيه له إليهن لإظهار الإعتناء بنصحهن ونداؤهن ههنا وفيما بعد بالإضافة إليه عليه الصلاة و السلام لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام وإعتبار كونهن نساء في الموضعين أبلغ من إعتبار كونهن أزواجا كما لا يخفى على المتأمل من يأت بالياء التحتية حملا على لفظ من وقرأ زيد إبن علي رضي الله تعالى عنهما والجحدري وعمرو بن قائد الأسواري ويعقوب بالتاء الفوقية حملا على معناها منكن بفاحشة بكبيرة مبينة ظاهرة القبح من بين بمعنى تبين وقرأ إبن كثير وأبو بكر مبينة بفتح الياء والمراد بها على ما قيل : كل ما يقترف من الكبائر وأخرج البيهقي في السنن عن مقاتل بن سليمان أنها العصيان للنبي وقيل : ذلك وطلبهن ما يشق عليه عليه الصلاة و السلام أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله
ومنع في البحران يراد بها الزنا قال : لأن النبي معصوم من إرتكاب نسائه ذلك ولأنه وصفت الفاحشة بالتبين والزنا مما يتستر به ومقتضاه منع إرادة الأعم ثم قال : وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته ولا يخلو كلامه عن بحث والإمام فسرها به وجعل الشرطية من قبيل لئن أشركت ليحبطن عملك من حيث أن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع جزما فإن الأنبياء صان الله تعالى زوجاتهم عن ذلك وقد تقدم بعض الكلام في هذه المسئة في سورة النور وسيأتي إن شاء الله تعالى طرف مما يتعلق بهما أيضا يضاعف لها العذاب يوم القيامة على ما روى عن مقاتل أو فيه وفي الدنيا على ما روى عن قتادة ضعفين أي يعذبن ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه فإن مكث غيرهن ممن أتى بفاحشة مبينة في النار يوما مثلا مكثن هن لو أتين بمثل ما أتي يومين وإن وجب على غيرهن حد لفاحشة وجب عليهن لو أتين بمثلها حدان وقال أبو عمرو وأبو عبيدة فيما حكى الطبري عنهما الضعفان أن يجعل الواحدة ثلاثة فيكون عليهن ثلاثة حدود أو ثلاثة أمثال عذاب غيرهن وليس بذاك وسبب تضعيف العذاب أن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تابعة لزيادة فضل المذنب والنعمة عليه وتلك ظاهرة فيهن ولذلك جعل حد الحر ضعف حد الرقيق وعوتب الأنبياء عليهم السلام بمالا يعاتب به الأمم وكذا حال العالم بالنسبة إلى الجاهل فليس من يعلم كمن لا يعلم وروى عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه قال له رجل : إنكم أهل بيت مغفور لكم فغضب وقال : نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله تعالى في أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أن نكون كما تقول إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي تليها وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو يضعف بالياء التحتية مبنيا للمفعول بلا ألف والجحدري وإبن كثير وإبن عامر نضعف بالنون مبنيا للفاعل بلا ألف أيضا وزيد بن علي وإبن محيصن وخارجة عن أبي عمرو نضاعف بالنون والألف والبناء للفاعل وفرقة يضاعف بالياء والألف والبناء للفاعل وقرأ العذاب بالرفع من قرأ بالبناء للمفعول وبالنصب من قرأ بالبناء للفاعل وكان ذلك أي تضعيف العذاب عليهن على الله يسيرا أي سهلا لا يمنعه جل شأنه عنه كونهن نساء النبي بل هو سبب له
تم بحمد الله الجزء الحادي والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني والعشرون 22
(21/184)
بسم الله الرحمن الرحيم ومن يقنت منكن أي ومن تخشع وتخضع لله ورسوله وتعمل عملا صالحا كصلاة وصوم وحج وإيتاء زكاة وهذا العمل غير القنوت لله تعالى على ما سمعت من تفسيره فلا تكرار وفسره بعضهم بالطاعة ودفع التكرار بأن المراد ومن يقنت منكن لرسول الله وتعمل صالحا لله تعالى وذكر الله إنما هو لتعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بجعل طاعته غير منفكة عن طاعة الله عزوجل وبعضهم بما ذكر أيضا إلا أنه دفع التكرار بأن المراد بالعمل الصالح الخدمة الحسنة والقيام بمصالح البيت لا نحو الصلاة والصيام وبالطاعة المفسر بها القنوت إمتثال الأوامر وإحتناب النواهي وفسره بعضهم بدوام الطاعة فقيل في دفع التكرار نحو ما مر وقيل : المراد به الدوام على الطاعة السابقة وبالعمل الصالح العبادات التي يكلفن بها بعد
وقيل : القنوت السكوت كما قيل ذلك في قوله تعالى : وقوموا لله قانتين والمراد به ههنا السكوت عن طلب ما لم يأذن الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لهن به من زيادة النفقة وثياب الزينة وقيل غير ذلك
نؤتها أجرها الذي تستحقه على ذلك فضلا وكرما مرتين فيكون أجرها مضاعفا وهذا في مقابلة يضاعف لها العذاب ضعفين
أخرج إبن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنه قال في حاصل معنى الآيتين : إنه من عصى منكن فإنه يكون للعذاب عليها الضعف منه على سائر نساء المؤمنين ومن عمل صالحا فإن الأجر لها الضعف على سائر نساء المسلمين : ويستدعي هذا أنه إذا أثيب نساء المسلمين عل ىالحسنة بعشر أمثالها أثبن هن على الحسنة بعشرين مثلا لها وإن زيد للنساء على العشر شيء زيد لهن ضعفه وكأنه والله تعالى أعلم إنما قيل نؤتها أجرها مرتين دون يضاعف لها الأجر كما قيل في المقابل يضاعف لها العذاب ضعفين لأن أصل تضعيف الأجر ليس من خواصهن بل كل من عمل صالحا من النساء والرجال من هذه الأمة يضاعف أجره فأخرج الكلام مغايرا لما تقتضيه المقابلة رمزا إلى أن تضعيف الأجر على طرز مغاير لطرز تضعيف العذاب مع تضمن الكلام المذكور الإشارة إلى مزيد تكريمهن ووفور الإعتناء بهن فإن الإحسان المكرر أحلى ومن تأمل في الجملتين ظهر له تغليب جانب الرحمة على جانب الغضب وكفى بالتصريح بفاعل إيتاء الأجر وجعله ضمير العظمة والتعبير عما يؤتون من النعيم بالأجر مع إضافته إلى ضميرهن مع خلو جملة تضعيف العذاب عن مثل ذلك شهداء على ما ذكر ثم إن تضعيف أجرهن لمزيد كرامتهن رضي الله تعالى عنهن على الله عزوجل مما من به عليهن من النسبة إلى خير البرية عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التحية والظاهر أن ذلك ليس بالنسبة إلى أعمالهن الصالحة التي عملتها في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم فقط بل يضاعف أجرهن عليها وعلى الأعمال الصالحة التي يعملنها بعد وفاته عليه الصلاة و السلام
(22/2)
وقال بعض الأجلة : إن هاتين المرتين إحداهما على الطاعة والأخرى على طلبهن رضاء للنبي بالقناعة وحسن المعاشرة وجعل في البحر وغيره سبب التضعيف هذا الطلب وتلك الطاعة ولا يخفى أن ما ذكروه موهم لعدم التضعيف بالنسبة لما فعلوه من العمل الصالح بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم وقال بعض المدققين : أراد من جعل سبب مضاعفة أجورهن ما ذكر التطبيق على لفظ الآية حيث جعل القنوت لله ولرسوله مع ما تلاه سببا ويدمج فيه أن مضاعفة العذاب إنما نشأت من أن النشوز مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وطلب ما يشق عليه ليس كالنشوز مع سائر الأزواج ولذلك أقتضى مضاعفة العذاب وكذلك طاعته وحسن التخلق معه والمعاشرة على عكس ذلك فهذا يؤكد ما قالوا من أن سبب تضعيف العذاب زيادة قبح الذنب منهن وفيه أن العكس يوجب العكس فتأمل
وقال بعض المفسرين : العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة وكذلك الأجر فالمرتان إحداهما في الدنيا وثانيتهما في الأخرى ولا يخفى ضعفه وقرأ الجحدري والأسواري ويعقوب في رواية وكذا إبن عامر ومن تقنت بتاء التأنيث حملا على المعنى وقرأ السلمي وإبن وثاب وحمزة والكسائي بياء من تحت في الأفعال الثلاثة على أن في يؤتها ضمير أسم الله تعالى وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ ومن تقنت بالتاء من فوق حملا على المعنى ويعمل بالياء من تحت حملا على اللفظ فقال بعض النحويين : هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعا للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن وهو قوله تعالى خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا إنتهى فتذكر وأعتدنا لها في الجنة زيادة على أجرها المضاعف رزقا كريما 13 عظيم القدر رفيع الخطر مرضيا لصاحبه وقيل الرزق الكريم ما يسلم من كل آفة
وجوز إبن عطية أن يكون في ذلك وعد دنياوي أي أن رزقها في الدنيا على الله تعالى وهو كريم من حيث هو حلال وقصد برضا من الله تعالى في نيله وهو كما ترى يانساء النبي لستن كأحد من النساء ذهب جمع من الرجال إلى أن المعنى ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء أي من نساء عصركن أي أن كل واحدة منكن أفضل من كل واحدة منهن لما أمتازت بشرف الزوجية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمومة المؤمنينفأحد باق على كونه وصف مذكر إلا أن موصوفه محذوف ولا بد من إعتبار الحذف في جانب المشبه كما أشير إليه وقال الزمخشري : أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة وقد أستعمل بمعنى المتعدد أيضا في قوله تعالى ولم يفرقوا بين أحد منهم لمكان بين المقتضية للدخول على متعدد وحمل أحد على الجماعة على ما في الكشف ليطابق المشبه والمعنى على تفضيل نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على نساء غيره لا النظر إلى تفضيل واحدة على واحدة من آحاد النساء فإن ذلك ليس مقصودا من هذا السياق ولا يعطيه ظاهر اللفظ
وكون ذلك أبلغ لما يلزم عليه تفضيل جماعتهن على كل جماعة ولا يلزم ذلك تفضيل كل واحدة على كل واحدة من آحاد النساء لو سلم لكان إذا ساعده اللفظ والمقام وأعترضه أيضا بعضهم بأنه يلزم عليه أن يكون كل واحدة من نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من فاطمة رضي الله تعالى عنها مع أنه ليس كذلك
(22/3)
وأجيب عن هذا بأنه لا مانع من إلتزامه إلا أنه يلتزم كون الأفضلية من حيث أمومة المؤمنين والزوجية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا من الحيثيات فلا يضر فيه كون فاطمة رضي الله تعالى عنها أفضل من كل واحدة منهن لبعض الحيثيات الأخر بل هي من بعض الحيثيات كحيثية البضعية أفضل من كل من الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين نعم أورد على ما في الكشاف أن أحد الموضوع في النفي العام همزته أصلية غير منقلبة عن الواحد وقد نص على ذلك أبو علي وخالف فيه الرضى فنقل عنه أن همزة أحد في كل مكان بدل من الواو والمشهور والتفرقة بين الواقع في النفي العام والواقع في الإثبات بأن همزة الأول أصلية وهمزة الثاني منقلبة عن الواو وفي العقد المنظوم في ألفاظ العموم للفاضل القرافي قد أشكل هذا على كثير من الفضلاء لأن اللفظين صورتهما واحدة ومعنى الوحدة يتناولهما والواو فيها أصلية فيلزم قطعا إنقلاب ألف أحد مطلقا عنها وجعل ألف أحدهما منقلبا دون ألف الآخر تحكم وقد أطلعني الله تعالى على جوابه وهو أن أحد ألذي لا يستعمل إلا في النفي معناه إنسان بإجماع أهل اللغة وأحد الذي يستعمل في الإثبات معناه الفرد من العدد فإذا تغاير مسماهما تغاير إشتقاقهما لأنه لا بد فيه من المناسبة بين اللفظ والمعنى ولا يكفي فيه أحدهما فإذا كان المقصود به الإنسان فهو الذي لا يستعمل إلا في النفي وهمزته أصلية وإن قصد به العدد ونصف الأثنين فهو الصالح للإثبات والنفي وألفه منقلبة عن واو ولا يخفى أنه إذا سلم الفرق المذكور ينبغي أن تكون الهمزة هنا أصلية وإلى أن همزة الواقع في النفي أصلية ذهب أبو حيان فقال : إن ما ذكره الزمخشري من قوله : ثم وضع في النفي العام إلخ غير صحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن واحدا ينطلق على كل شيء أتصف بالوحدة وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء ودال ومادة أحد بمعنى واحد أصله واو وحاء ودال فقد أختلفا مادة ومدلولا
وذكر أن ما في قوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله يحتمل أن يكون الذي للنفي العام ويحتمل أن يكون بمعنى واحد ويكون قد حذف معطوف أي بين واحد وواحد من رسله كما قال الشاعر : فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل وقال الراغب : أحد يستعمل على ضربين في النفي لإستغراق جنس الناطقين ويتناول القليل والكثير على الإجتماع والإنفراد نحو ما في الدار أحد أي لا واحد ولا إثنان فصاعدا لا مجتمعين ولا مفترقين وهذا المعنى لا يمكن في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح ولا يصح إثباتهما فلو قيل في الدار أحد لكان إثبات أحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومتفرقين وهو بين الإحالة ولتناوله ما فوق الواحد صح نحو فما منكم من أحد عنه حاجزين وفي الإثبات على ثلاثة أوجه إستعماله في الواحد المضموم إلى العشرات كأحد عشر وأحد وعشرين وإستعماله مضافا أو مضافا إليه بمعنى الأول نحو أما أحدكما فيسقي وقولهم يوم الأحد وإستعماله وصفا وهذا لا يصح إلا في وصفه تعالى شأنه أما أصلهأعني وحدفقد يستعمل في غيره سبحانه كقول النابغة : كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد وهو محتمل لدعوى إنقلاب همزته عن واو مطلقا ولدعوى إنقلابها عنها في الإستعمال الأخير إنتهى
(22/4)
ولا يخفى على المنصف أن كون المعنى في الآية ما ذكره الزمخشري أظهر وتفضيل كل واحدة من نسائه صلى الله تعالى عليه وسلم على كل واحدة واحدة من سائر النساء لا يلزم أن يكون لهذه الآية بل هو لدليل آخر إما عقلي أو نص مثل قوله تعالى : وأزواجه أمهاتهم وقيل يجوز أن يكون ذلك لها فإنها تفيد بحسب عرف الإستعمال تفضيل كل منهن على سائر النساء لأن فضل الجماعة عل ىالجماعة يكون غالبا لفضل كل منها
إن أتقيتن شرط لنفي المثلية وفضلهن على النساء وجوابه محذوف دل عليه المذكور والإتقاء بمعناه المعروف في لسان الشرع والمفعول محذوف أي إن أتقيتن مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد إن دمتن على إتقاء ذلك ومثله شائع أو هو على ظاهره والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن بمنزلة الخروج من التقوى أو شرط جوابه قوله تعالى : فلا تخضعن بالقول والإتقاء بمعناه الشرعي أيضا وفي البحر أنه بمعنى الإستقبال أي إن أستقبلتن أحدا فلا تخضعن وهو بهذا المعنى معروف في اللغة قال النابغة : سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته وأتقتنا باليد أي أستقبلتنا باليد ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلق فضلهن عل ىالتقوى ولا علق نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله تعالى في أنفسهن والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى وفيه أن أتقي بمعنى أستقبل وإن كان صحيحا لغة وقد ورد في القرآن كثيرا كقوله تعالى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب إلا أنه لا يتأتى ههنا لأنه لا يستعمل في ذلك المعنى إلا مع المتعلق الذي تحصل به الوقاية كقوله سبحانه : بوجهه وقول النابغة باليد وما أستدل به أمره سهل وظاهر عبارة الكشاف إختيار كون إن أتقيتن شرطا جوابه فلا تخضعن وفسر إن أتقيتن بأن أردتن التقوى وإن كنتن متقيات مشيرا بذلك إلى أنه لا بد من تجوز في الكلام لأن الواقع أن المخاطبات متقيات فأما أن يكون المقصود الأولى المبالغة في النهي فيفسر بأن أردتن التقوى وإما أن يكون المقصود التهييج والإلهاب فيفسر بأن كنتن متقيات فليس في ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز كما توهم وقد قرر ذلك في الكشف ومعنى لا تخضعن بالقول لا تجبن بقولكن خاضعا أي ليناخنثا على سنن كلام المريبات والمومسات وحاصله لا تلن الكلام ولا ترققنه وهذا على ما قيل في غير مخاطبة الزوج ونحوه كمخاطبة الأجانب وإن كن محرمات عليهم على التأييد
روى عن بعض أمهات المؤمنين أنها كانت تضع يدها عل ىفمها إذا كلمت أجنبيا تغير صوتها بذلك خوفا من أن يسمع رخيما لينا وعد إغلاظ القول لغير الزوج من جملة محاسن خصال النساء جاهلية وإسلاما كما عد منها بخلهن بالمال وجبنهن وما وقع في الشعر من مدح العشيقة برخامة الصوت وحسن الحديث ولين الكلام فمن باب السفه كما لا يخفى وعن الحسن أن المعنى لا تكلمن بالرفث وهو كما ترى فيطمع الذي في قلبه مرض أي فجور وزنا وبذلك فسره إبن عباس وأنشد قول الأعشى : حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض والمراد نية أو شهوة فجور وزنا وعن قتادة تفسيره بالنفاق وأخرج إبن المنذر وإبن أبي حاتم عن زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال : المرض مرضان فمرض زنا ومرض نفاق ونصب يطمع
(22/5)
في جواب النهي وقرأ أبان بن عثمان وإبن هرمز فيطمع بالجزم وكسر العين لإلتقاء الساكنين وهو عطف على محل عل النهي على أنه نهى لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول كأنه قيل : فلا تخضعن بالقول فلا يطمع الذي في قلبه مرض وقال أبو عمرو الداني : قرأ الأعرج وعيسى فيطمع بفتح الياء وكسر الميم ونقلها إبن خالويه عن أبي السمال قال : وقد روى ذلك عن إبن محيصن وذكر أن الأعرج وهو إبن هرمز قرأ فيطمع بضم الياء وفتح العين وكسر الميم أي فيطمع هو أي الخضوع بالقول و الذي مفعول أو الذي فاعل والمفعول محذوف أي فيطمع الذي في قلبه مرض نفسه وقلن قولا معروفا 23 حسنا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد وقال الكلبي : أي صحيحا بلا هجر ولا تمريض وقال الضحاك : عنيفا وقيل أي قولا أذن لكم فيه وقيل ذكر الله تعالى وما يحتاج إليه من الكلام وقرن في بيوتكن من قريقر من باب علم أصله أقررن فحذفت الراء الأولى وألقيت فتحتها على ما قبلها وحذفت الهمزة للإستغناء عنها بتحرك القاف
وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان وجها آخر قال : قاريقار إذا أجتمع ومنه القارة لإجتماعها ألا ترى إلى قول عضل والديش : أجتمعوا فكونوا قارة فالمعنى وأجمعن أنفسكن في البيوت
وقرأ الأكثر وقرن بكسر القاف من وقريقر وقارا إذا سكن وثبت وأصله أو قرن ففعل به ما فعل بعدن منوعد أو من قريقر المضاعف من باب ضرب وأصله أقررن حذفت الراء الأولى وأليقت كسرتها إلى القاف وحذفت الهمزة للإستغناء عنها وقال مكي وأبو علي : أبدلت الراء التي هي عين الفعل ياء كراهة التضعيف ثم نقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت لكونها وسكون الراء بعدها وسقطت الهمزة لتحرك القاف وهذا غاية في التمحل وفي البحران قررت وقررت بالفتح والكسر كلاهما من القرار في المكان بمعنى الثبوت فيه وقد حكى ذلك أبو عبيدة والزجاح وغيرهما وأنكر قوم منهم المازني مجيء قررت في المكان بالكسر أقر بالفتح وإنما جاء قرت عينه بالكسر في الماضي والفتح في المضارع والمثبت مقدم على النافي
وقرأ إبن أبي عبلة وأقرنن بألف الوصل وكسر الراء الأولى والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله تعالى عنهن بملازمة البيوت وهو أمر مطلوب من سائر النساء أخرج الترمذي والبزار عن إبن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها أستشرفها الشيطان وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها
وأخرج البزار عن أنس قال جئن النساء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلن : يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى فقال عليه الصلاة و السلام : من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى وقد يحرم عليهن الخروج بل قد يكون كبيرة كخروجهن لزيارة القبور إذا عظمت مفسدته وخروجهن ولو إلى المسجد وقد أستعطرن وتزين إذا تحققت الفتنة أما إذا ظنت فهو حرام غير كبيرة وما يجوز من الخروج كالخروج للحج وزيارة الوالدين وعيادة المرضى وتعزية الأموات من الأقارب ونحو ذلك فإنما يجوز بشروط مذكورة في محلها
وظاهر إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات أنها كانت ملكهن وقد صرح بذلك الحافظ غلام محمد الأسلمي نور الله تعالى صريحه في التحفة الأثني عشرية وذكر فيها أنه عليه الصلاة و السلام بنى كل حجرة لمن سكن
(22/6)
فيها من الازواج وكانت كل واحدة منهن تتصرف بالحجرة الساكنة هي فيها تصرف المالك في ملكه بحضوره صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ذكر الفقهاء أن من بنى بيتا لزوجته وأقبضه إياها كان كمن وهب زوجته بيتا وسلمه اليها فيكون البيت ملكا لها ويشهد لدعوى أن الحجرة التي كانت تسكنها عائشة رضي الله تعالى عنها كانت ملكا لها غير الإضافة في بيوتكن الداخل فيه حجرتها إستئذان عمر رضي الله تعالى عنه لدفنه فيها منها بمحضر من الصحابة وعدم إنكار أحد منهم حتى علي كرم الله تعالى وجهه وإستئذان الحسن رضي الله تعالى عنه منها لذلك أيضا الثابت عند أهل السنة والشيعة كما ذكر في الفصول المهمة في معرفة الأئمة وغيره من كتبهم فإن تلك الحجرة لو كانت لبيت المال لحديث نحن معاشر الانبياء لا نورث لاستأذن رضي الله تعالى عنه الوزغ مروان فإنه إذ ذاك كان حاكم المدينة المنورة والمتصرف في بيت المال ولو كانت المورثة بناء على زعم الشيعة من أنه صلىالله تعالى عليه وسلم يورث كغيره لزم الإستئذان من سائر الازواج أيضا لتعلق حقهن فيها على زعمهم بل يلزم الإستئذان أيضا من عصبته عليه الصلاة و السلام المستحقين لما يبقى بعد النصف والثمن إذا قلنا بتوريثهم فحيث لم يستأذن رضي الله تعالى عنه إلا منها علم أنها ملكها وحدها
والقول بأنه علم رضا الجميع سواها رضي الله تعالى عنها فأستأذنها لذلك مما لا يقوم لهم حجة ولهم في هذا الباب أكاذيب لا يعول عليها ولا يلتفت أريب إليها منها أن عائشة رضي الله تعالى عنها أذنت للحسن رضي الله تعالى عنه حين أستأذنها في الدفن في الحجرة المباركة ثم ندمت بعد وفاته رضي الله تعالى عنه وركبت على بغلة لها وأتت المسجد ومنعت الدفن ورمت السهام على جنازته الشريفة الطاهرة وأدعت الميراث
وأنشأ إبن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول : تجملت تبغلت
وإن عشت تفيلت لك التسع من الثمن
فيف الكل ملكت وركاكة هذ الشعر تنادي بكذب نسبته إلى ذلك الحبر رضي الله تعالى عنه وليت شعري أي حاجة لها إلى الركوب ومسكنها كان تلك الحجرة المباركة فلو كانت بصدد المنع لأغلقت بابها ثم إنها رضي الله تعالى عنها كيف يظن بها ولها من العقل الحظ الأوفر بالنسبة إلى سائر أخواتها أمهات المؤمنين تدعى الميراث وهي وأبوها رضي الله تعالى عنهما رويا بمحضر الصحابة الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم نحن معاشر الأنبياء لا نورث هذا ويجوز أن تكون إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات بإعتبار أنهن ساكنات فيها قائمات بمصالحها قيمات عليها وإستعمال الخاصة والعامة شائع بإضافة البيوت إلى الأزواج بهذا الإعتبار
والإستئذان يجوز أن يكون لإنتقال كل بيت إلى ملك الساكنة فيه بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم من جهة الخليفة ولى بيت المال لما رأى من المصلحة في تخصيص كل منهن بمسكنه وتركه لها على نحو الإقطاع من بيت المال ومما يستأنس به لكون الإضافة إلى ضميرهن بهذا الإعتبار لا لكون البيوت ملكهن إضافة البيت إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غير ما أثر بل سيأتي إن شاء الله تعالى إضافة البيوت إليه عليه الصلاة و السلام وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم الآية وهي أحق بأن تكون للملك فليراجع هذا المطلب وليتأمل ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى التبرج على ما روى عن مجاهد وقتادة وإبن أب نجيح المشي بتبختر وتكسر وتغنج وعن مقاتل أن تلقي المرأة خمارها
(22/7)
على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها وقال المبرد : أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره قال الليث : ويقال تبرجت المرأة إذا أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر وقال أبو عبيدة : أن تخجر من محاسنها ما تستدعي به شهوة الرجال وأصله على ما في البحر من البرج وهو سعة العين وحسنها ويقال طعنة برجاء أي واسعة وفي أسنانه برج إذا تفرق ما بينها وقيل : هو البرج بمعنى القصر ومعنى تبرجت المرأة ظهرت من برجها أي قصرها وجعل الراغب إطلاق البرج على سعة العين وحسنها للتشبيه بالبرج في الأمرين ولا يخفى أنه لو فسر التبرج هنا بالظهور من البرج تكون هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها فالأولى أن لا يفسر به وتبرج مصدر تشبيهي مثل له صوت صوت حمار أي لا تبرجن مثل تبرج الجاهلية الأولى وقيل في الكلام إضمار مضافين أي تبرج نساء أيام الجاهية وإضافة نساء على معنى في والمراد بالجاهلية الأولى على ما أخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم والحاكم وإبن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن إبن عباس الجاهلية ما بين نوح وإدريس عليهما السلام وكانت ألف سنة قال : وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبال وكان رجال الجبال صباحا وفي النساء دمامة وكان نساء السهل ورجاله على العكس فأتخذ أهل السهل عيدا يجتمعون إليه في السنة فتبرج النساء للرجال والرجال لهن وأن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهن فنزلوا معهن فظهرت الفاحشة فيهن وفي رواية أن المرأة إذ ذاك تجتمع بين زوج وعشيق
وأخرج إبن جرير عن الحكم بن عيينة قال : كان بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة فكان نساؤهم من أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان وكانت المرأة تراود الرجل عن نفسه وهي الجاهلية الأولى وروى مثله عن عكرمة وقال الكلبي هي ما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام وقال مقاتل : كانت ومن نمروذ وكان فيه بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق وروى عنه أيضا أن الجاهلية الأولى زمن إبراهيم عليه السلام والثانية زمن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يبعث وقال أبو العالية : كانت الأولى زمن داؤد وسليمان عليهما السلام وكان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين يظهر منه الأعكان والسوأتان
وقال المبرد : كانت المرأة تجمع بين زوجها وخدنها للزوج نصفها الأسفل وللخدن نصفها الأعلى يتمتع به في التقبيل والترشف وقيل : ما بين موسى وعيسى عليهما السلام وقال الشعبي : ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام
قال الزجاج : وهو الأشبه لأنهم هم الجاهلية المعروفة كانوا يتخذون البغايا وإنما قيل الأولى لأنه ي قال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وروى عن إبن عباس ما هو نص في أن الأولى هنا مقابل الأخرى وقال الزمخشري : يجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام فكأن المعنى ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر
وقال إبن عطية : الذي يظهر عندي أن الجاهلية الأولى إشارة إلى الجاهلية التي تخصهن فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر وقلة الغيرة ونحو ذلك وفي حديث أخرجه الشيخان
(22/8)
وأبو داؤد والترمذي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأبي ذر وكان قد عير رجلا أمه أعجمية فشكاه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ياأبا ذر إنك أمرؤ فيك جاهلية وفسرها إبن الأثير بالحالة التي عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك والله تعالى أعلم وتمسك الرافضة في طعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وحاشاها من كل طعن بخروجها من المدينة إلى مكة ومنها إلى البصرة وهناك وقعت وقعة الجمل بهذه الآية قالوا : إن الله تعالى أمر نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهي منهن بالسكون في البيوت ونهاهن عن الخروج وهي بذلك قد خالفت أمر الله تعالى ونهيه عزوجل وأجيب بأن الأمر بالإستقرار في البيوت والنهي عن الخروج ليس مطلقا وإلا لما أخرجهن صلى الله تعالى عليه وسلم بعد نزول الآية للحج والعمرة ولما ذهب بهن في الغزوات ولما رخص لهن لزيارة الوالدين وعيادة المرضى وتعزية الأقارب وقد وقع كل ذلك كما تشهد به الأخبار وقد صح أنهن كلهن كن يحججن بعد وفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا سودة بنت زمعة وفي رواية عن أحمد عن أبي هريرة إلا زينب بنت جحش وسودة ولم ينكر عليهن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الأمير كرم الله تعالى وجهه وغيره وقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة و السلام قال لهن بعد نزول الآية : أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن فعلم أن المراد الأمر بالإستقرار الذي يحصل به وقارهن وإمتيازهن على سائر النساء بأن يلازمن البيوت في أغلب أوقاتهن ولا يكن خراجات ولاجات طوافات في الطرق والأسواق وبيوت الناس وهذا لا ينافي خروجهن للحج أو لما فيه مصلحة دينية مع التستر وعدم الإبتذال وعائشة رضي الله تعالى عنها إنما خرجت من بيتها إلى مكة للحج وخرجت معها لذلك أيضا أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهي وكذا صفية مقبولة عند الشيعة لكنها لما سمعت بقتل عثمان رضي الله تعالى عنه وإنحياز قتلته إلى علي كرم الله تعالى وجهه حزنت حزنا شديدا وأستشعرت إختلال أمر المسلمين وحصول الفساد والفتنة فيما بينهم وبينما هي كذلك جاءها طلحة والزبير ونعمان إبن بشير وكعب بن عجرة في آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم هاربين من المدينة خائفين من قتلة عثمان رضي الله تعالى عنهم لما أنهم أظهروا المباهاة بفعلهم القبيح وأعلنوا بسب عثمان فضاقت قلوب أولئك الكرام وجعلوا يستقبحون ما وقع ويشنعون على أولئك السفلة ويلومونهم على ذلك الفعل الأشنع فصح سندهم عزمهم على إلحاقهم بعثمان رضي الله تعالى عنه وعلموا أن لا قدرة لهم على منعهم إذا هموا بذلك فخرجوا إلى مكة ولاذوا بأم المؤمنين وأخبروها الخبر فقالت لهم : أرى الصلاح أن لا ترجعوا إلى المدينة ما دام أولئك السفلة فيها محيطين بمجلس الأمير علي كرم الله تعالى وجهه غير قادر على القصاص منهم أو طردهم فأقيموا ببلد تأمنون فيه وأنتظروا إنتظام أمور أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وقوة شوكته وأسعوا في تفرقهم عنه وإعانته على الإنتقام منهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم فأرتضوا ذلك وأستحسنوه فأختاروا البصرة لما أنها كانت إذ ذاك مجمعا لجنود المسلمين ورجحوها على غيرها وألحوا على أمهم رضي الله تعالى عنها أن تكون معهم إلى أن ترتفع الفتنة ويحصل الأمن وتنتظم أمور الخلافة وأرادوا بذلك زيادة إحترامهم وقوة أمنيتهم لما أنها أم المؤمنين والزوج المحترمة غاية الإحترام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنها كانت أحب
(22/9)
أزواجه إليه وأكثرهن قبولا عنده وبنت خليفته الأول رضي الله تعالى عنه فسارت معهم بقصد الإصلاح وإنتظام الأمور وحفظ عدة نفوس من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكان معها إبن أختها عبدالله بن الزبير وغيره من أبناء أخواتها أم كلثوم زوج طلحة وأسماء زوج الزبير بل كل من معها بمنزلة الأبناء في المحرمية وكانت في هودج من حديد
فبلغ الأمير كرم الله تعالى وجهه خير التوجه إلى البصرة أولئك القتلة السفلة على غير وجهه وحملوه على أن يخرج إليهم ويعاقبهم وأشار عليه الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر وعبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهم بعدم الخروج واللبث إلى أن ينضح الحال فأبى رضي الله تعالى عنه ليقضي الله أمرا كان مفعولا فخرج كرم الله تعالى وجهه ومعه أولئك الأشرار أهل الفتنة فلما وصلوا قريبا من البصرة أرسلوا القعقاع إلى أم المؤمنين وطلحة والزبير ليتعرف مقاصدهم ويعرضها على الأمير رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه فجاء القعقاع إلى أم المؤمنين فقال : ياأماه ما أشخصك وأقدمك هذه البلدة فقالت : أي بني الإصلاح بين الناس ثم بعثت إلى طلحة والزبير فقال القعقاع : أخبرني بوجه الصلاح قالا : إقامة الحد على قتلة عثمان وتطييب قلوب أوليائه فيكون ذلك سببا لأمننا وعبرة لمن بعدهم فقال القعقاع : هذا لا يكون إلا بعد إتفاق كلمة المسلمين وسكون الفتنة فعليكما بالمسالمة في هذه الساعة فقالا : أصبت وأحسنت فرجع إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه فأخبره بذلك فسر به وأستبشر وأشرف القوم على الرجوع ولبثوا ثلاثة أيام لا يشكون في الصلح فلما غشيتهم ليلة اليوم الرابع وقررت الرسل والوسائط في البين أن يظهروا المصالحة صبيحة هذه الليلة ويلاقي الأمير كرم الله تعالى وجهه طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما وأولئك القتلة ليسوا حاضرين معه وتحققوا ذلك ثقل عليهم وأضطربوا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فتشاوروا فيما بينهم أن يغيروا على من كان مع عائشة من المسلمين ليظنوا الغدر من الأمير كرم الله وجهه فيهجموا على عسكره فيظنوا بهم أنهم هم الذين غدروا فينشب القتال ففعلوا ذلك فهجم من كان مع عائشة على عسكر الأمير وصرخ أولئك القتلة بالغدر فألتحم القتال وركب الأمير متعجبا فرأى الوطيس قد حمى والرجال قد سبحت بالدماء فلم يسعه رضي الله تعالى عنه إلا الإشتغال بالحرب والطعن والضرب وقد نقل الواقعة كما سمعت الطبري وجماهير ثقات المؤرخين ورووها كذلك من طرق متعددة عن الحسن وعبدالله بن جعفر وعبدالله بن عباس وما وراء ذلك مما رواه الشيعة عن أسلافهم قتلة عثمان مما لا سلتفت له ويدل على تغلب القتلة وقوة شوكتهم ما في نهج البلاغة المقبول عند الشيعة من أنه قال للأمير كرم الله تعالى وجهه بعض أصحابه : لو عاقبت قوما أجلبوا على عثمان فقال : ياأخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لي بهم والمجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا تملكهم وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤا
فحيث كان الخروج أولا للحج ومعها من محارمها من معها ولم يكن الآمر بالإستقرار في البيوت يتضمن النهي عن مثله لم يتوجه الطعن به أصلا وكذا المسير إلى البصرة لذلك القصد فإنه ليس أدون من سفر حج النفل وما ترتب عليه لم يكن في حسابها ولم يمر ببالها ترتبه عليه ولهذا لما وقع ما وقع وترتب ما ترتب ندمت غاية الندم فقد روى أنها كلما كانت تذكر يوم الجمل تبكي حتى يبتل معجرها بل أخرج عبدالله بن أحمد في زوائد الزهد وإبن المنذر وإبن ابي شيبة وإبن سعد عن مسروق قال : كانت عائشة رضي الله تعالى عنها إذا قرأت
(22/10)
وقرن في بيوتكن بكت حتى تبل خمارها وما ذاك إلا لأن قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين وهذا كما أن الأمير كرم الله تعالى وجهه أحزنه ذلك فقد صح أنه رضي الله تعالى عنه لما وقع الإنهزام على من مع آم المؤمنين وقتل من قتل من الجمعين طاف في مقتل القتلى فكان يضرب على فخذيه ويقول : ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا وليس بكاؤها عند قراءة الآية لعلمها بأنها أخطأت في فهم معناها أو أنها نسيتها يوم خرجت كما توهم وقال في ذلك مستهزئا كاظم الأزدي البغدادي من متأخري شعراء الرافضة من قصيدة طويلة كفر بعدة مواضع فيها : حفظت أربعين ألف حديث ومن الذكر آية تنساها نعم قد ينضم لما ذكرناه في سبب البكاء أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يوما لأزواجه المطهرات وفيهن عائشة : كأني بأحداكن تنبحها كلاب الحوأب وفي بعض الروايات الغير المعتبرة عند أهل السنة بزيادة فإياك أن تكوني ياحميراء ولم تكن سألت قبل المسير عن الحوأب هل هو واقع في طريقها أم لا حتى نبحتها في أثناء المسير كلاب عند ماء فقالت لمحمد بن طلحة : ما أسم هذا الماء فقال : يقولون له حوأب فقالت أرجعوني وذكرت الحديث وأمتنعت عن المسير وقصدت الرجوع فلم يوافقها أكثر من معها ووقع التشاجر حتى شهد مروان بن الحكم مع نحو من ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية بأن هذا الماء ماء آخر وليس هو حوأبا فمضت لشأنها يسبب ذلك وتعذر الرجوع ووقوع الأمر فكأنها رضي الله تعالى عنها رأت سكوتها عن السؤال وتحقيق الحال قبل المسير تقصيرا منها وذنبا بالنسبة إلى مقامها فبكت له ولما تقدم وما زعمته الشيعة من أنها رضي الله تعالى عنها كانت هي التي تحرض الناس على قتل عثمان وتقول : أقتلوا نعثلا فقد فجره تشبهه بيهودي يدعى نعثلا حتى إذا قتل وبايع الناس عليا قالت : ما أبالي أن تقع السماء على الأرض قتل والله مظلوما وأنا طالبة بدمه فذكرها عبيد بما كانت تقول فقالت : قد والله قلت وقال الناس فأنشد فمنك البداء ومنك الغير ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الامام وقلت لنا إنه قد فجر كذب لا أصل له وهو من مفتريات إبن قتيبة وإبن أعثم الكوفي والسمساطي وكانوا مشهورين بالكذب والإفتراء ومثل ذلك في الكذب زعمهم أنها رضي الله تعالى عنها ماخرجت وسارت الى البصرة ألا لبغض علي كرم الله تعالى وجهه فإنها لم تزل تروي مناقبه وفضائله ومن ذلك ما رواه الديلمي أنها قالت : قال رسول الله حب علي عبادة وقالت بعد وقوع ما وقع : والله لم يكن بيني وبين على ألا ما يكون بين المرأة وإحمائها
وقد أكرمها علي كرم الله تعالى وجهه وأحسن مثواها وبالغ في إحترامها وردها إلى المدينة ومعها جماعة من نساء أعيان البصرة عزيز كريمة وهذا مما يرد به على الرافضة الزاعمين كفرها وحاشاها بما فعلت وما روى عن الأحنف بن قيس من أن عليا كرم الله تعالى وجهه لما ظهر على أهل الجمل أرسل إلى عائشة أن أرجعي إلى المدينة فأبت فأعاد إليها الرسول وأمره أن يقول لها : والله لترجعن أو لأبعثن إليك نسوة من بكر بن وائل معهن شفار حداد يأخذنك بها فلما رأت ذلك خرجت لا يعول عليه وإن قيل : إنه رواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف لمخالفته لما رواه الأوثق حتى كاد يبلغ مبلغ التواتر هذا ولا يعكر على القول بجواز الخروج للحج ونحوه ما أخرجه عبد بن حميد وإبن المنذر عن محمد بن سيرين قال : ثبت أنه قيل لسودة رضي الله تعالى عنها زوج النبي :
(22/11)
مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك فقالت : قد حججت وأعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت قال : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها لأن ذلك مبني على إجتهادها كما أن خروج الأخوات مبني على إجتهادهن نعم أخرج أحمد عن أبي هريرة أن النبي قال لنسائه عام حجة الوداع : وهذه ثم لزوم الحصر قال : فكان كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة وكانتا تقولان : والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله والمراد بقوله عليه الصلاة و السلام : هذه إلخ أنكن لا تعدن تخرجن بعد هذه الحجة من بيوتكن وتلزمن الحصر وهو جمع حصير الذي يبسط في البيوت من القصب وتضم الصاد وتسكن تخفيفا وهو في معنى النهي عن الخروج للحج فلا يتم ما ذكر أولا ويشكل خروج سائر الأزواج لذلك وأجيب بأن الخبر ليس نصا في النهي عن الخروج للحج بعد تلك الحجة وإلا لما خرج له سائر الأزواج الطاهرات من غير نكير أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عليهن بل جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسلهن للحج في عهده وجعل معهن عثمان وعبدالرحمن بن عوف وقال لهما : إنكما ولدان باران لهن فليكن أحدكما قدام مراكيهن والآخر خلفها ولم ينكر أحد فكان إجماعا سكوتيا على الجواز فكأن زينب وسودة فهما من الخبر قضيت هذه الحجة أو أبيحت لكن هذه الحجة بخصوصهما ثم الواجب بعدها عليكن لزوم البيوت فلم يحجا بعد لذلك وغيرهما فهم منه المناسب لكن أو اللائق بكن هذه الحجة أي جنسها أو هذه الحالة من السفر للحج أو لأمر ديني مهم ثم بعد الفراغ المناسب أو اللائق لزوم البيوت فيكون مفاده إباحة الخروج لذلك ومن أنصف لا يكاد يقول بإفادة الخبر الأمر بلزوم البيوت والنهي عن الخروج منها مطلقا بعد تلك الحجة بخصوصها فإن النبي مرض في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها وبقى مريضا فيه حتى توفي عليه الصلاة و السلام ولا يكاد يشك أحد في خروج سائرهن لعيادته أو يتصور إستقرارهن في بيوتهن غير بالين شوقهن برؤية طلعته الشريفة حتى توفي فإن مثل ذلك لا يفعله أقل النساء حبا لأزواجهن الذين لا قدر لهم فكيف يفعله الأزواج الطاهرات مع رسول الله وهو هو وحبهن له حبهن ثم إن الجواب المذكور إنما يحتاج إليه بعد تسليم صحة الخبر ويحتاج الجزم بصحته إلى تنقير ومراجعة فلينقر وليراجع والله تعالى أعلم
وأقمن الصلاة وآتين الزكاة أمرن بهما لإنافتهما على غيرهما وكونهما أساس العبادات البدنية والمالية
وأطعن الله ورسوله أي في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا 33 إستئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن والرجس في الأصل الشيء القذر وأريد به هنا عند كثير الذنب مجازا وقال السدي : الأثم وقال الزجاج : الفسق وقال إبن زيد : الشيطان وقال الحسن : الشرك وقيل : الشك وقيل : البخل والطمع وقيل : الأهواء والبدع وقيل : إن الرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص والمراد به هنا ما يعم كل ذلك ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف وأل فيه للجنس أو للإستغراق والمراد بالتطهير قيل التحلية بالتقوى والمعنى على ما قيل إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم ويحليكم بالتقوى تحلية بليغة فيما أمركم وجوز أن يراد به الصون والمعنى إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم الرجس ويصونكم من المعاصي صونا بليغا فيما أمر ونهى جل شأنه وأختلف في لأم ليذهب فقيل زائدة وما بعدها في موضع المفعول به
(22/12)
ليريد فكأنه قيل : يريد الله إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وقيل : للتعليل ثم أختلف هؤلاء فقيل المفعول محذوف أي إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب أو إنما يريد منكم ما يريد ليذهب أو نحو ذلك وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما : الفعل في ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالإبتداء واللام وما بعدها خبر أي إنما إرادة الله تعالى للإذهاب على حد ما قيل فيتسمع بالمعيدي خير من أن تراهفلا مفعول للفعل وقال الطبرسي : اللام متعلق بمحذوف تقديره وإرادته ليذهب وهو كما ترى وهذا الذي ذكر جار في قوله تعالى يريد الله ليبين لكم وأمرنا لنسلم لرب العالمين وقول الشاعر : أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل مكان ونصب أهل على النداء وجوز أن يكون على المدح فيقدر أمدح أو أعني وأن يكون على الإختصاص وهو قليل في المخاطب ومنه بك الله نرجو الفضل وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله : نحن بنات طارق
نمشي على النمارق وأل في البيت للعهد وقيل : عوض عن المضاف إليه أي بيت النبي والظاهر أن المراد به بيت الطين والخشب لا بيت القرابة والنسب وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل وحينئذ فالمراد بأهله نساؤه المطهرات للقرائن الدالة على ذلك من الآيات السابقة واللاحقة مع أنه عليه الصلاة و السلام ليس له بيت يسكنه سوى سكناهن وروى ذلك غير واحد أخرج إبن أبي حاتم وإبن عساكر من طريق عكرمة عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت إنما يريد الله إلخ في نساء النبي خاصة وأخرج إبن مردويه من طريق إبن جبير عنه ذلك بدون لفظ خاصة وقال عكرمة من شاء بأهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج إبن جرير وإبن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية : ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
وروى إبن جرير أيضا أن عكرمة كان ينادي في السوق أن قوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت نزل في نساء النبي عليه الصلاة و السلام وأخرج إبن سعد عن عروة ليذهب عنكم الرجس أهل البيت قال : يعني أزواج النبي وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات بإعتبار الإضافة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بيت واحد وجمعه فيما سبق ولحق بإعتبار الإضافة إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء الله تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم دفعا لتوهم إرادة بيت زينب لو أفرد من حيث أن سبب النزول أمر وقع فيه كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى وأورد ضمير جمع المذكر في عنكم ويطهركم رعاية للفظ الأهل والعرب كثيرا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك رعاية للفظ وهذا كقوله تعالى خطابا لسارة : أمرأة الخليل عليهما السلام أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ومنه ما قيل قوله سبحانه : قال لأهله أمكثوا إني آنست نارا خطابا من موسى عليه السلام لإمرأته ولعل إعتبار التذكير هنا أدخل في التعظيم وقيل : المراد هو ونساؤه المطهرات رضي الله تعالى عنهن وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة و السلام عليهن وقيل : المراد بالبيت بيت النسب ولذا أفرد ولم يجمع كما في السابق واللاحق
فقد أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وإبن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله : إن الله تعالى قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما
(22/13)
فذلك قوله تعالى : وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فإنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا فذلك قوله تعالى : وأصحاب المشأمة ماأصحاب المشأمة والسابقون السابقون فإنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله تعالى : وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأنا أتقى ولد آدم وأكرمكم على الله تعالى ولا فخر ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب فان المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النسبى وأختلف في المراد بأهله فذهب الثعلبي الى أن المراد بهم جميع بني هاشم ذكورهم وإناثهم والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم وهذا هو المراد بالآل عند الحنيفة وقال بعض الشافعية : المراد بهم آله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين هم مؤمنو بني هاشم والمطلب وذكر الراغب أن أهل البيت تعورف في أسرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مطلقا وأسرة الرجل على ما في القاموس رهطه أي قومه وقبيلته الأدنون وقال في موضع آخر : صار أهل البيت متعارفا في ءاله عليه الصلاة و السلام وصح عن زيد إبن أرقم في حديث أخرجه مسلم أنه قيل له : من أهل بيته نساؤه صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : لا أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده صلى الله تعالى عليه وسلم وفي آخر أخرجه هو أيضا مبين هؤلاءالذين حرموا الصدقة أنه قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس وقال بعض الشيعة : أهل البيت سواء أريد به البيت المدر والخشب أم بيت القرابة والنسب عام أما عمومه على الثاني فظاهر وأما على الأول فلأنه يشمل الإماء والخدم فإن البيت المدري يسكنه هؤلاء أيضا وقد صح ما يدل على أن العموم غير مراد
أخرج الترمدي والحاكم وصححاه وإبن جرير وإبن المنذر وإبن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت في بيتي نزلت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والسحين فجللهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بكساء كان عليه ثم قال هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة و السلام أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ثلاث مرات
وفي بعض آخر أنه عليه الصلاة و السلام ألقى عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال : اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وفي لفظ آل محمد فأجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أم سلمة أنها قالت : فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال : إنك على خير وفي أخرى رواها إبن مردويه عنها أنها قالت ألست من أهل البيت فقال إنك إلى خير إنك من أزواج النبي وفي آخرها رواها الترمذي وجماعة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه الصلاة و السلام قال : قالت أم سلمة وأنا معهم : يانبي الله قال : أنت على مكانك وأنك على خير وأخبار إدخاله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا وفاطمة وإبنيهما رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء وقوله عليه الصلاة و السلام
(22/14)
اللهم هؤلاء أهل بيتي ودعائه لهم وعدم إدخال أم سلمة أكثر من أن تحصى وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنى كان البيت فالمراد بهم من شملهم الكساء ولا يدخل فيهم أزواجه وقد صرح بعدم دخولهن من الشيعة عبدالله المشهدي وقال المراد من البيت بيت النبوة ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للأزواج بل للخدام من الإماء اللائي يسكن في البيت أيضا : وليس المراد هذا المعنى اللغوي بهذه السعة بالإتفاق فالمراد به آل العباء الذين خصصهم حديث الكساء وقال أيضا : إن كون البيوت جمعا في بيوتكن وأفراد البيت في أهل البيت يدل على أن بيوتهن غير بيت النبي وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى وقيل المراد بالبيت بيت السكنى وبيت النسب وأهل ذلك أهل كل من البيتين وقد سمعت ما قيل فيه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز
وقال بعض المحققين : المراد بالبيت بيت السكنى وأهله على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها والأخبار التي لا تحصى كثرة ويشهد له العرف من له مزيد إختصاص به إما بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه وتدبير شأنه والإهتمام بأمره وعدم كون الساكن في معرض التبدل والتحول بكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج أو بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد أو بقرابة من صاحبه تقضي بحسب العادة بالتردد إليه والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك أو بعدم المنع من ذلك فالأولاد الذين لا يسكنونه وكأولادهم وإن نزلوا وكالأعمام وعلى هذا يحصل الجمع بين الأخبار وقد سمعت بعضها كحديث الكساء ولا دلالة فيه على الحصر وكالحديث الحسن أنه أشتمل على العباس وبنيه بملاءة ثم قال : يارب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي فأسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت آمين ثلاثا
وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة و السلام ضم إلى أهل الكساء على وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم بقية بناته وأقاربه وأزواجه وصح عن أم سلمة في بعض آخر أنها قالت فقلت يارسول الله أما أنا من أهل البيت فقال : بلى إن شاء الله تعالى وفي بعض آخر أيضا أنها قالت له ألست من أهلك قال : بلى وأنه عليه الصلاة و السلام أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم وقد تكرر كما أشار إليه المحب الطبري منه الجمع وقول هؤلاء أهل بيتي والدعاء في بيت أم سلمة وبيت فاطمة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما وبه جمع بين إختلاف الروايات في هيئة الإجتماع وما جلل به المجتمعين وما دعا به لهم وما أجاب به أم س لمة وعدم إدخالها في بعض المرات تحت الكساء ليس لأنها ليست من أهل البيت أصلا بل لظهور أنها منهم حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية وسباقها دخولهن فيهم بخلاف من أدخلوا تحته رضي الله تعالى عنهم فإنه عليه الصلاة و السلام لو لم يدخلهم ويقل ما قال لتوهم عدم دخولهم في الآية لعدم إقتضاء سياقها ذلك وذكر إبن حجر على تقدير صحة بعض الروايات المختلفة الحمل على أن النزول كان مرتين وقد أدخل بعض من لم يكن بينه وبينه قرابة سببية ولا نسبية في أهل البيت توسعا وتشبيها كسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه حيث قال عليه الصلاة و السلام سلمان منا أهل البيت وجاء في رواية صحيحة أن واثلة قال : وأنا من أهلك يارسول الله فقال : عليه الصلاة و السلام وأنت من أهلي فكان واثلة يقول : إنها لمن أرجى ما أرجو والخبر الدال بظاهره على أن المراد بالبيت البيت النسبي أعني خبر الحكيم الترمذي ومن معه عن إبن عباس يجوز حمل البيت فيه على بيت المدر والحيوان ينقسم إلى رومي وزنجي مثلا كما ينقسم الإنسان إليهما على أن في رواته من وثقه إبن معين وضعفه غيره والجرح مقدم
(22/15)
على التعديل وما روى عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه من نفى كون أزواجه أهل بيته وكون أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة و السلام فالمراد بأهل البيت فيه أهل البيت الذين جعلهم رسول الله ثاني الثقلين لا أهل البيت بالمعنى الأعم المراد في الآية ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم عن يزيد بن حيان قال : أنطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يازيد خيرا كثيرا رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يازيد خيرا كثيرا حدثنا يازيد بما سمعت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ياإبن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فما حدثتكم فأقبلوا وما لا لاتكلفونيه ثم قال : قام رسول الله يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : أما بعد ألا ياايها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وأستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال : وأهل بيتي اذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثافقال له حصين : ومن أهل بيته يازيد أليس نساؤه من من أهل بيته قال : نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعدهقال : ومن هم قال هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس الحديث فإن الإستدراك بعد جعله النساء من أهل بيته صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهر في أن الغرض بيان المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول الله عليه الصلاة و السلام وهم فيه ثاني الثقلين فلأهل البيت إطلاقان يدخل في أحدهما النساء ولا يخلن في الآخر وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر والخبر السابق المتضمن نفيه رضي الله تعالى عنه كون النساء من أهل البيت
وقال بعضهم : إن ظاهر تعليله نفي كون النساء أهل البيت بقوله : أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها يقتضي أن لا يكن من أهل البيت مطلقا فلعله أراد بقوله في الخبر السابق نساؤه من أهل بيته أنساؤه إلخ بهمزة الإستفهام الإنكاري فيكون بمعنى ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير صحيح مسلم ويكون رضي الله تعالى عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة و السلام لسن من أهل البيت أصلا ولا يلزمنا أن ندين الله تعالى برأيه لا سيما وظاهر الآية معنا وكذا العرف وحينئذ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى الشامل للأزواج وغيرهن من أصله وعصبته صلى الله تعالى عليه وسلم الذين حرموا الصدقة بعده ولا يضر في ذلك عدم إستمرار بقاء الأزواج كما أستمر بقاء الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى وأنت تعلم أن ظاهر ما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني تارك فيكم خليفتين وفي روايةثقلين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض يقتضي أن النساء المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين لأن عترة الرجل كما في الصحاح نسله ورهطه الأدنون ؤأهل بيتي في الحديث الظاهر أنه بيان له أو بدل منه بدل كل من كل وعلى التقديرين يكون متحدا معه فحيث لم تدخل النساء في الأول لم تدخل في الثاني وفي النهاية أن عترة النبي بنو عبدالمطلب وقيل أهل بيته الأقربون وهم أولاده وعلي وأولاده رضي الله تعالى عنهم وقيل : عترته الأقربون والأبعدون منهم والذي رجحه
(22/16)
القرطبي أنهم من حرمت عليهم الزكاة وفي كون الأزواج المطهرات كذلك خلاف قال إبن حجر : والقول بتحريم الزكاة عليهن ضعيف وإن حكى إبن عبدالبر الإجماع عليه فتأمل ولا يرد على حمل أهل البيت في الآية على المعنى الأعم ما أخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نزلت هذه الآية في خمسة في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا إذ لا دليل فيه على الحصر والعدد لا مفهوم له ولعل الإقتصار على من ذكر صلوات الله تعالى وسلامه عليهم لأنهم أفضل من دخل في العموم وهذا على تقدير صحة الحديث والذي يغلب على ظني أنه غير صحيح إذ لم أعهد نحو هذا في الآيات منه صلى الله تعالى عليه وسلم في شيء من الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها في أسباب النزول وبتفسير أهل البيت بمن له مزيد إختصاص به على الوجه الذي سمعت يندفع ما ذكره المشهدي من شموله للخدام والإماء والعبيد الذين يسكنون البيت فإنهم في معرض التبدل والتحول بإنتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع وليس لهم قيام بمصالحه وإهتمام بأمره وتدبير لشأنه إلا حيث يؤمرون بذلك ونظمهم في سلك الأزواج ودعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد مما لا يرتضيه منصف ولا يقول به إلا متسعف
وقال بعض المتأخرين : إن دخولهم في العموم مما لا بأس به عند أهل السنة لأن الآية عندهم لا تدل على العصمة ولا حجر على رحمة الله عزوجل ولأجل عين ألف عين تكرم وأما أمر الجمع والأفراد فقد سمعت ما يتعلق به والظاهر على هذا القول أن التعبير بضمير جمع المذكر في عنكم للتغليب وذكر أن في عنكم عليه تغليبين أحدهما تغليب المذكر على المؤنث وثانيهما تغليب المخاطب على الغائب إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم ذكر فيما قبل ولم يخاطبوا بأمر أو نهي أو غيرهما فيه وأمر التعليل عليه ظاهر وإن لم يكن كظهوره على القول بأن المراد بأهل البيت الأزواج المطهرات فقط
وأعتذر المشهدي عن وقوع جملة إنما يريد الله إلخ في البين بأن مثله واقع في القرآن الكريم فقد قال تعالى شأنه : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل ثم قال سبحانه بعد تمام الآية : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فعطف أقيموا على أطيعوا مع وقوع الفصل الكثير بينهما وفيه أنه وقع بعد أقيموا الصلاة إلخ وأطيعوا الرسول فلو كان العطف على ما ذكر لزم عطف أطيعوا على أطيعوا وهو كما ترى
سلمنا أن لا فساد في ذلك إلا أن مثل هذا الفصل ليس في محل النزاع فإنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي من حيث الإعراب وهو لا ينافي البلاغة وما نحن فيه على ما ذهبوا إليه فصل بأجنبي بإعتبار موارد الآيات اللاحقة والسابقة وإنكار منافاته للبلاغة القرآنية مكابرة لا تخفى ومما يضحك منه الصبيان أنه قال بعد : إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية لأن آية التطهير جملة ندائية وخبرية وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية وعطف الإنشائية على الخبرية لا يجوز ولعمري أنه أشبه كلام من حيث الغلط بقول بعض عوام الأعجام : خسن وخسين دختران مغاوية ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم إن الشيعة أستدلوا بالآية بعد قولهم : بتخصيص أهل البيت فيها بمن سمعت وجعل ليذهب مفعولا به ليريد
(22/17)
وتفسير الرجس بالذنوب على العصمة فذهبوا إلى أن عليا وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم معصومون من الذنوب عصمته صلى الله تعالى عليه وسلم منها وتعقبه بعض أجلة المتأخرين بأنه لو فرض تعين كل ما ذهبوا إليه لا تسلم دلالتها على العصمة بل لها دلالة على عدمها إذ لا يقال في حق من هو طاهر : إن أريد أن أطهره ضرورة إمتناع تحصيل الحاصل وغاية ما في الباب أن كون أولئك الأشخاص رضي الله تعالى عنهم محفوظين من الرجس والذنوب بعد تعلق الإرادة بإذهاب رجسهم يثبت بالآية ولكن هذا أيضا على أصول أهل السنة لا على أصول الشيعة لأن وقوع مراده تعالى غير لازم عندهم لإرادته عزوجل مطلقا وبالجملة لو كانت إفادة معنى العصمة مقصودة لقيل هكذا إن الله أذهب عنكم الرجس أهل البيت وطهركم تطهيرا وأيضا لو كانت مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لقوله تعالى فيهم : ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون بل لعل هذا أفيد لما فيه من قوله سبحانه : وليتم نعمته عليكم فإن وقوع هذا الإتمام لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان وقرر الطبرسي وجه الإستدلال بها على العصمة بأن إنما لفظة محققة لما أثبت بعدها نافية لما لم يثبت فإذا قيل : إنما لك عندي درهم أفاد أنه ليس للمخاطب عنده سوى درهم فتفيد الآية تحقق الإرادة ونفي غيرها والإرادة لا تخلو من أن تكون هي الإرادة المحضة أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس لا يجوز أن تكون الإرادة المحضة لأنه سبحانه وتعالى قد أراد من كل مكلف ذلك بالإرادة المحضة فلا إختصاص لها بأهل البيت دون سائر المكلفين ولأن هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بلا ريب ولا مدح في الإرادة فتعين إرادة الإرادة بالمعنى الثاني وقد علم أن هذا من عدا أهل الكساء غير مراد فتختص العصمة بهم وهو كما ترى على أنه قد ورد في كتب الشيعة ما يدل على عدم عصمة الأمير كرم الله تعالى وجهه وهو أفضل من ضمه الكساء بعد رسول الله ففي نهج البلاغة أنه كرم الله تعالى وجهه قال لأصحابه : لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطيء ولا آمن من ذلك في فعلي إلا أن يلقى الله تعالى في نفسي ما هو أملك به مني
وفيه أيضا كان كرم الله تعالى وجهه يقول في دعائه : اللهم أغفر لي ما تقربت به إليك وخالفه قلبي وقصد التعليم كما في بعض الأدعية النبوية بعيد كذا قيل فتدبر ولا تغفل و فسر بعض أهل السنة الإرادة ههنا بالمحبة قالوا : لأن لو أريد بها الإرادة التي يتحقق عندها الفعل لكان كل من أهل البيت إلى يوم القيامة محفوظا من كل ذنب والمشاهد خلافه والتخصيص بأهل الكساء وسائر الأئمة الأثني عشر كما ذهب إليه الإمامية المدعون عصمتهم مما لا يقوم عليه دليل عندنا والمدح جاء من جهة الإعتناء بشأنهم وإفادتهم محبة الله تعالى لهم هذا الأمر الجليل الشأن ومخاطبته سبحانه إياهم بذلك وجعله قرآنا يتلى إلى يوم القيامة
وقد يستدل على كون الإرادة ههنا بالمعنى المذكور دون المعنى المشهور الذي يتحقق عنده الفعل بأنه قال حين أدخل عليا وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فإنه أي حاجة للدعاء لو كان ذلك مرادا بالإرادة بالمنعنى المشهور وهل هو إلا دعاء بحصول واجب الحصول
وأستدل بهذا بعضهم على عدم نزول الآية في حقهم وإنما أدخلهم صلى الله تعالى عليه وسلم في أهل البيت
(22/18)
المذكور في الآية بدعائه الشريف عليه الصلاة و السلام ولا يخلو جميع ما ذكر عن بحث والذي يظهر لي أن المراد بأهل البيت من لهم مزيد علاقة به ونسبة قوية قريبة إليه عليه الصلاة و السلام بحيث لا يقبح عرفا إجتماعهم وسكناهم معه في بيت واحد ويدخل في ذلك أزواجه الأربعة أهل الكساء وعلي كرم الله تعالى وجهه مع ماله من القرابة من رسول الله قد نشأ في بيته وحجره عليه الصلاة و السلام فلم يفارقه وعامله كلده صغيرا وصاهره وآخاه كبيرا والإرادة على معناها الحقيقي المستتبع للفعل والآية لا تقوم دليلا على عصمة أهل بيته صلى الله تعالى عليه وسلم الموجودين حين نزولها وغيرهم ولا على حفظهم من الذنوب على ما يقوله أهل السنة لا لإحتمال أن يكون المراد توجيه الأمر والنهي أو نحوه لإذهاب الرجس والتطهير بأن يجعل المفعول به ليريد محذوفا ويجعل ليذهب ويطهر في موضع المفعول له وإن لم يكن فيه بأس وذهب إليه من ذهب بل لأن المعنى حسبما ينساق إليه الذهن ويقتضيه وقوع الجملة موقع التعليل للنهي والأمر نهاكم الله تعالى وأمركم لأنه عزوجل يريد بنهيكم وأمركم إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وفي ذلك غاية المصلحة لكم ولا يريد بذلك إمتحانكم وتكليفكم بلا منفعة تعود إليكم وهو على معنى الشرط أي يريد بنهيكم وأمركم ليذهب عنكم الرجس ويطهركم أن إنتهيتم وأئتمرتم ضرورة أن أسلوب الآية نحو أسلوب قول القائل لجماعة علم أنهم إذا شربوا الماء أذهب عنهم عطشهم لا محالة يريد الله سبحانه بالماء ليذهب عنكم العطش فإنه على معنى يريد سبحانه بالماء إذهاب العطش عنكم إن شربتموه فيكون المراد إذهاب العطش بشرط شرب المخاطبين الماء لا الإذهاب مطلقا فمفاد التركيب في المثال تحقق إذهاب العطش بعد الشرب وفيما نحن فيه إذهاب الرجس والتطهير بعد الإنتهاء والإئتمار لأن المراد الإذهاب المذكور بشرطهما فهو متحقق الوقوع بعد تحقق الشرط وتحققه غير معلوم إذ هو أمر إختياري وليس متعلق الإرادة والمراد بالرجس الذنب وبإذهابه إزالة مباديه بتهذيب النفس وجعل قواها كالقوة الشهوانية والقوة الغضبية بحيث لا ينشأ عنهما ما ينشأ من الذنوب كالزنا وقتل النفس التي حرم الله تعالى وغيرهما لا إزالة نفس الذنب بعد تحققه في الخارج وصدوره من الشخص إذ هو غير معقول إلا على معنى محوه من صحائف الأعمال وعدم المؤاخذة عليه وإرادة ذلك كما ترى
وكأن مآل الإذهاب التخلية ومآل التطهير التحلية بالحاء المهملة والآية متضمنة الوعد منه عزوجل لأهل بيت نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنهم إن ينتهوا عما ينهى عنه ويأتمروا بما يأمرهم به يذهب عنهم لا محالة مبادي ما يستهجن ويحليهم أجل تحلية بما يستحسن وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم وترتب الآثار الجميلة عليها قطعا ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم من حيث أن أولئك الأغيار إذا إنتهوا أو أئتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك
ولذا نجد عباد أهل البيت أتم حالا من سائر العباد المشاركين لهم في العبادة الظاهرة وأحسن إخلافا وأزكى نفسا وإليهم تنتهي سلاسل الطرائق التي مبناها كما لا يخفى على سالكيها التخلية والتحلية اللتان هما جناحان للطيران إلى حظائر القدس والوقوف على أوكار الأنس حتى ذهب قوم إلى أن القطب في كل عصر لا يكون إلا منهم خلافا للأستاذ أبي العباس المرسي حيث ذهب كما نقل عنه تلميذه التاج بن عطاء الله إلى أنه قد يكون من غيرهم ورأيت في مكتوبات الإمام الفاروق الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره ما حاصله أنه القطبية لم تكن على سبيل الإصالة إلا لأئمة أهل البيت المشهورين ثم إنها صارت بعدهم لغيرهم على سبيل النيابة عنهم حتى إنتهت النوبة إلى السيد الشيخ عبدالقادر الكيلاني قدس سره النوراني فنال مرتبة القطبية
(22/19)
على سبيل الإصالة فلما عرج بروحه القدسية إلى أعلى عليين نال من نال بعده تلك الرتبة على سبيل النيابة عنه فإذا جاء المهدي ينالها إصالة كما نالها غيره من الإئمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وهذا مما لا سبيل إلى معرفته والوقوف على حقيته إلا بالكشف وأتى لي به
والذي يغلب على ظني أن القطب قد يكون من غيرهم لكن قطب الأقطاب لا يكون إلا منهم لأنهم أزكى الناس أصلا وأوفرهم فضلا وإن من ينال هذه الرتبة منهم لا ينالها إلا على سبيل الإصالة دون النيابة والوكالة وأنا لا أعقل النيابة في ذلك المقام وإن عقلت قلت : كل قطب في كل عصر نائب عن نبينا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام ولا بدع في نيابة الأقطاب بعده عنه كما نابت عنه الأنبياء قبله فهو عليه الصلاة و السلام الكامل المكمل للخليقة والواسطة في الإفاضة عليهم على الحقيقة وكل من تقدمه عصرا من الأنبياء وتأخر عنه من الأقطاب وألاؤلياء نواب عنه ومستمدون منه وأقول إن السيد الشيخ عبدالقادر قدس سره وغمرنا بره قد نال ما نال من القطبية بواسطة جده عليه الصلاة و السلام على أتم وجه وأكمل حال فقد كان رضي الله تعالى عنه من أجلة أهل البيت حسنيا من جهة الأب حسينيا من جهة الأم لم يصبه نقص لو أن عسى وليت ولا ينكر ذلك إلا زنديق أو رافضي ينكر صحبة الصديق وأرى أن قوله رضي الله تعالى عنه : أفلت الشموس الأولين وشمسنا أبدا على فلك العلا لا تغرب لا يدل على أن من ينال القطبية بعده من أهل البيت الذين عنصرهم وعنصره واحد نائب عنه ليس له فيض إلا منه بل غاية ما يدل عليه ويوميء إليه إستمرار ظهور أمره وإنتشار صيته وشهرة طريقته وعموم فيضه لمن إستفاض على الوجه المعروف عند أهله منه وذلك مما لا يكاد ينكر وأظهر من الشمس والقمر هذا ما عندي في الكلام على الآية الكريمة المتضمنة الفضيلة لأهل البيت عظيمة ويعلم منه وجه التعبير بيريد على صيغة المضارع ووجه تقديم إذهاب الرجس على التطهير ووجه دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم لأهل الكساء بإذهاب الرجس من غير حاجة إلى القول بأن ذلك طلب للدوام كما قيل في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا آمنوا ونحوه ولا يورد عليه كثير مما يورد على غيره ومع هذا لمسلك الذهن إتساع ولا حجر على فضل الله عزوجل فلا مانع من أن يوفق أحدا لما هو أحسن من هذا وأجل فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك
وأذكرن ما يتلى في بيوتكن أي أذكرن للناس بطريق العظة والتذكير وقيل : أي تذكرن ولا تنسين ما يتلى في بيوتكن من آيات الله أي القرآن والحكمة هي السنة على ما أخرج إبن جرير وغيره عن قتادة وفسرت بنصائحه صلى الله تعالى عليه وسلم وعن عطاء عن إبن عباس أنه كان في المصحف بدل الحكمة السنة حكاه محمد بن عبدالكريم الشهرستاني في أوائل تفسيره مفاتيح الأسرار وقال جمع : المراد بالآيات والحكمة القرآن وهو أوفق بقوله سبحانه : يتلى أي أذكرن ما يتلى من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله تعالى البينة الدالة على صدق النبوة بأوجه شتى وكونه حكمة منطوية على فنون العلوم والشرائع وهذا تذكير بما أنعم عليهن حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة وفيه حث على الإنتهاء والإئتمار فيما كلفنه وقيل : هذا هذا أمر بتكميل الغير بعد الأمر بما فيه كما لهن ويعلم منه وجه توسيط إنما يريد إلخ في البين والتعرض
(22/20)
للتلاوة في البيوت دون النزول فيها مع انها الأنسب لكونها مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات ووقوعها في كل البيوت وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير بخلاف النزول وقيل : ان ذلك لرعاية الحكمة بناء على ان المراد بها السنة فإنها لم تنزل نزول القرآن وتعقب بأنها لم تتل أيضا تلاوته وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل وتلاوة النبي عليهما الصلاة والسلام وتلاوتهن وتلاوة غيرهن تعليما وتعلما
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما تتلى بتاء التأنيث إن الله كان لطيفا خبيرا 43 يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك فعل ما فعل من الأمر والنهي أو يعلم من يصلح للنبوة ومن يستأهل أن يكون من أهل بيته وقيل : يعلم الحكمة حيث أنزل كتابه جامعا بين الوصفين وجوز بعضهم أن يكون اللطيف ناظرا للآيات لدقة أعجازها والخبير للحكمة لمناسبتها للخبرة
إن المسلمين والمسلمات أي الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله تعالى أو المفوضين أمرهم لله عزوجل من الذكور والإناث والمؤمنين والمؤمنات المصدقين بما يجب أن يصدق به من الفريقين
والقانتين والقانتات المداومين على الطاعات القائمين بها والصادقين والصادقات في أقوالهم التي يجب الصدق فيها وقيل في القول والعمل
وأخرج إبن أبي حاتم عن إبن جبير أنه قال أي في إيمانهم والصابرين والصابرات على المكاره وعلى العبادات وعن المعاصي والخاشعين والخاشعات المتواضعين لله تعالى بقلوبهم وجوارحهم
وقيل : الذين لا يعرفون من عن أيمانهم وشمائلهم إذا كانوا في الصلاة والمتصدقين والمتصدقات بما يحسن التصدق به من فرض وغيره والصائمين والصائمات الصوم المشروع فرضا كان أو نفلا وعن عكرمة الإقتصار على صوم رمضان وقيل : من تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين والحافظين فروجهم والحافظات عما لا يرضى به الله تعالى
والذاركرين الله كثيرا والذاكرات بالألسنة والقلوب ومدار الكثرة العرف عند جمع وأخرج عبدالرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن مجاهد قال : لا يكتب الرجل من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا
وأخرج أبو داؤد والنسائي وإبن ماجه وغيرهم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا أيقظ الرجل أمرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات وقيل : المراد بذكر الله تعالى ذكر آلائه سبحانه ونعمه وروى ذلك عن عكرمة ومآل هذا إلى الشكر وهو خلاف الظاهر
أعد الله لهم بسبب كسبهم ما ذكر من الصفات مغفرة لما أقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات بالأعمال الصالحة كما ورد وأجرا عظيما 53 على ما عملوا من الطاعات والآية وعد للأزواج المطهرات وغيرهن ممن أتصفت بهذه الصفات أخرج أحمد والنسائي وغيرهما عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت :
(22/21)
قلت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مالنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فلم ير عني منه ذات يوم إلا نداءه على المنبر وهو يقول : إن المسلمين والمسلمات إلى آخر الآية وضمير مالنا للنساء على العموم ففي رواية أخرى رواها النسائي وجماعة عنها أيضا أنها قالت : قلت للنبي عليه الصلاة و السلام مالي أسمع الرجال يذكرون في القرآم والنساء لا يذكرون فأنزل الله تعالى إن المسلمين والمسلمات الآية
وفي بعض الآثار ما يدل على أن القائل غيرها أخرج الترمذي وحسنه والطبراني وعبد بن حميد وآخرون عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية إن المسلمين إلخ
وأخرج إبن جرير عن قتادة قال : دخل نساء على نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقلن : قد ذكركن الله تعالى في القرآن وما يذكرنا بشيء أما فينا ما يذكر فأنزل الله تعالى إن المسلمين الآية وفي رواية أخرى عنه أنه قال لما ذكر أزواج النبي قال النساء : لو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله تعالى الآية
ولا مانع أن يكون كل ذلك وعطف الإناث على الذكور كالمسلمات على المسلمين والمؤمنات على المؤمنين ضروري لأن تغاير الذوات المشتركة في الحكم يستلزم العطف مالم يقصد السرد على طريق التعديد وعطف الزوجين أعني مجموع كل مذكر ومؤنث كعطف مجموع المؤمنين والمؤمنات على مجموع المسلمين والمسلمات غير لازم وإنما أرتكب ههنا للدلالة على أن مدار إعداد ما أعد لهم جمعهم بين هذه النعوت الجميلة
وذكر الفروج متعلقا للحفظ لكونها مركب الشهوة الغالبة وذكر الأسم الجليل متعلقا للذكر لأنه الأسم الأعظم المشعر بجميع الصفات الجليلة وحذف متعلق كل من الحافظات والذاكرات لدلالة ما تقدم عليه وجعل الذكر آخر الصفات لعمومه وشرفه ولذكر الله أكبر وتذكير الضمير في أعد الله لهم لتغليب الذكور على الإناث وإلا فالظاهر لهم ولهن ولله تعالى در التنزيل أشار في أول الآية وآخرها إلى أفضلية الذكور على الإناث وما كان لمؤمن ولا مؤمنة أي ما صح وما أستقام لرجل ولا أمرأة من المؤمنين
إذا قضى الله ورسوله أمرا أي قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر الله تعالى لتعظيم أمره بالإشارة إلى أنه عليه الصلاة و السلام بمنزلة من الله تعالى بحيث تعد أوامره أوامر الله عزوجل أو للإشعار بأن ما يفعله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما يفعله بأمره لأنه لا ينطق عن الهوى فالنظم إما من قبيل فأن لله خمسه وللرسول أو من قبيل فالله ورسوله أحق أن يرضوه أن يكون لهم الخيرة من أمرهم أي أن يختاروا من أمرهم ما شاؤا بل يجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه عليه الصلاة و السلام وإختيارهم تلوا لإختياره
والخيرة مصدر من تخير كالطيرة مصدر من تطير ولم يجيء على ما قيل مصدر بهذه الزنة غيرهما وقيل : هي صفة مشبهة وفسرت بالمتخير و من أمرهم متعلق بها أو بمحذوف وقع حالا منها وجمع الضمير في لهم رعاية للمعنى لوقوع مؤمن ومؤمنة في سياق النفي والنكرة الواقعة في سياقه تعم وكان من حقه على ما في الكشاف توحيده كما تقول : ما جاءني من أمرأة ولا رجل إلا كان من شأنه كذا : وتعقبه أبو حيان بأن هذا عطف بالواو والتوحيد في العطف بأو نحو من جاءك من شريف أو وضيع أكرمه فلا يجوز إفراد الضمير في ذاك إلا بتأويل الحذف
وجمعه في أمرهم مع أنه للرسول أوله ولله عزوجل للتعظيم على ما قيل
(22/22)
وقال بعض الأجلة : لم يظهر عندي إمتناع أن يكون عائدا على ما عاد عليه الأول على أن يكون المعنى ناشئة من أمرهم أي دواعيهم السائقة إلى إختيار خلاف ما أمر الله ورسوله أو يكون المعنى الإختيار في شيء من أمرهم أي أمورهم التي يعنونها ويرجح عوده على ما ذكر بعدم التفكيك ورد بأن ذاك قليل الجدوى ضرورة أن الخيرة ناشئة من دواعيهم أو واقعة في أمورهم وهو بين مستغن عن البيان بخلاف ما إذا كان المعنى بدل أمره الذي قضاه عليه الصلاة و السلام أو متجاوزين عن أمره لتأكيده وتقريره للنفي وهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول والحق أنه لا مانع من ذلك على أن يكون المعنى ما كان للمؤمنين أن يكون لهم إختيار في شيء من أمورهم إذا قضى الله ورسوله لهم أمرا ولا نسلم أن ما عد مانعا مانع فتدبر
ولعل الفائدة في العدول عن الظاهر في الضمير الأول على ما قال الطيبي الإيذان بأنه كما لا يصح لكل فرد فرد من المؤمنين أن يكون لهم الخيرة كذلك لا يصح أن يجتمعوا ويتفقوا على كلمة واحدة لأن تأثير الجماعة وإتفاقهم أقوى من تأثير الواحد ويستفاد منه فائدة الجمع في الضمير الثاني على تقدير عوده على ما عاد عليه الأول وكذا وجه أفراد الأمر إذا أمعن النظر وقرأ الحرميان والعربيان وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى تكون بتاء التأنيث والوجه ظاهر ووجه القراءة بالياء وهي قراءة الكوفيين والحسن والأعمش والسلمي أن المرفوع بالفعل مفصول مع كون تأنيثه غير حقيقي وقريء كما ذكر عيسى بن سليمان الخيرة بسكون الياء ومن يعص الله ورسوله في أمر من الأمور ويعمل فيه برأيه فقد ضل طريق الحق ضلالا مبنيا 63 أي بين الإنحراف عن سنن الصواب والظاهر أن هذا في الأمور المقضية على ما يشعر به السوق والآية على ما روى عن إبن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم نزلت في زينب بنت جحش من عمته صلى الله تعالى عليه وسلم أميمة بنت عبدالمطلب وأخيها عبدالله خطبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة وقال : إني أريد أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك فأبت وقالت : يارسول الله لكني لا أرضاه لنفسي وأنا أيم قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل
وفي رواية أنها قالت : أنا خير منه حسبا ووافقها أخوها عبدالله على ذلك فلما نزلت الآية رضيا وسلما فأنكحها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زيدا بعد أن جعلت أمرها بيده وساق إليها عشرة دنانير وستين درهما مهرا وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدأ من طعام وثلاثين صاعا من تمر
وأخرج إبن أبي حاتم عن إبن زيد قال نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول أمرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فزوجها زيد بن حارثة فحطت هي وأخوها وقالت إنما أردنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فزوجنا عبده وإذ تقول خطاب للنبي أي أذكر وقت قولك للذي أنعم الله عليه بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لحسن تربيته وعتقه ومراعاته وتخصيصه بالتبني ومزيد القرب وأنعمت عليه بالعمل بما وفقك الله تعالى له من فنون الإحسان التي من جملتها تحريره وهو زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وإيراده بالعنوان المذكور كما قال شيخ الإسلام : لبيان منافاة حاله لما
(22/23)
صدر عنه عليه الصلاة و السلام من إظهار خلاف ما في ضميره الشريف إذ هو إنما يقع عند الإستحياء والإحتشام وكلاهما مما لا يتصور في حق زيد رضي الله تعالى عنه وجوز أن يكون بيانا لحكمة إخفائه ما أخفاه لأن مثل ذلك مع مثله ما يطعن به الناس كما قيل : وأظلم خلق الله من بات حاسدا لمن كان في نعمائه يتقلب أمسك عليك زوجك أي زينب بنت جحش وذلك أنها كانت واحدة ولا زالت تفخر على زيد بشرفها ويسمع منها ما يكره فجاء رضي الله تعالى عنه يوما إلى النبي فقال : يارسول الله إن زينب قد أشتد على لسانها وأنا أريد أن أطلقها فقال له عليه الصلاة و السلام : أمسك عليك زوجك وأتق الله في أمرها ولا تطلقها ضرارا وتعلالا بتكبرها وإشتداد لسانها عليك وتعدية أمسك بعلي لتضمينه معنى الحبس
وتخفي في نفسك ما الله مبديه عطف على تقول وجوزت الحالية بتقدير وأنت تخفي أو بدونه كما هو ظاهر كلام الزمخشري في مواضع من كشافه والمراد بالموصول على ما أخرج الحكيم الترمذي وغيره عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ما أوحى الله تعالى به إليه أن زينب سيطلقها زيد ويتزوجها بعد عليه الصلاة و السلام وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين كالزهري وبكر بن العلاء والقشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم ونخشى الناس تخاف من إعتراضهم وقيل : أي تستحي من قولهم : إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم تزوج زوجة إبنه والمراد بالناس الجنس والمنافقون وهذا عطف على ما تقدم أو حال
وقوله : والله أحق أن تخشاه في موضع الحال لا غير والمعنى والله تعالى وحده أحق أن تخشاه في كل أمر فتفعل ما أباحه سبحانه لك وأذن لك فيه والعتاب عند من سمعت على قوله عليه الصلاة و السلام ذلك مع أمسك مع علمه بأنه سيطلقها ويتزوجها هو صلى الله تعالى عليه وسلم بعده وهو عتاب على ترك الأولى
وكان الأولى في مثل ذلك أن يصمت عليه الصلاة و السلام أو يفوض الأمر إلى رأي زيد رضي الله تعالى عنه
وأخرج جماعة عن قتادة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يخفي إرادة طلاقها ويخشى قالة الناس إن أمره بطلاقها وأنه عليه الصلاة و السلام قال له : أمسك عليك زوجك وأتق الله وهو يحب طلاقها والعتاب عليه على ظهار ما ينافي الإضمار وقد ورد ذلك القاضي عياض في الشفاء وقال : لا تسترب في تنزيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا الظاهر وأنه يأمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها كما ذكره جماعة من المفسرين إلى آخرها ما قال
وذكر بعضهم أن إرادته صلى الله تعالى عليه وسلم طلاقها وحبه إياه كان مجرد خطوره بباله الشريف بعد العلم بأنه يريد مفارقتها وليس هناك حسد منه عليه الصلاة و السلام وحاشاه له عليها فلا محذور والأسلم ما ذكرناه عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه والجمهور وحاصل العتاب لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه مبدي ما أخفاه عليه الصلاة و السلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال سبحانه : زوجناكها فلو كان المضمر محبتها وإرادة طلاقها ونحو ذلك لأظهره جل وعلا وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول
منه ما أخرجه إبن سعد والحاكم عن محمد بن يحيى بن حبان أنه جاء إلى بيت زيد فلم يجده وعرضت
(22/24)
زينب عليه دخول البيت فأبى أن يدخل وأنصرف راجعا يتكلم بكلام لم تفهم منه سوى سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب فجاء زيد فأخبرته بما كان فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له : بلغني يارسول الله إنك جئت منزلي فهلا دخلت يارسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها فقال عليه الصلاة و السلام : أمسك عليك زوجك وأتق الله فما أستطاع زيد إليها سبيلا بعد ففارقها وفي تفسير علي بن إبراهيم أنه أتى بيت زيد فرأى زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها فلما نظر إليها قال : سبحان خالق النور تبارك الله أحسن الخالقين فرجع فجاء زيد فأخبرته فقال لها : لعلك وقعت في قلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فهل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله عليه الصلاة و السلام فقالت : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني فجاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له : أريد أن أطلق زينب فأجابه بما قص الله تعالى إلى غير ذلك مما على المتتبع وفي شرح المواقف أن هذه القصة مما يجب صيانة النبي عن مثله فإن صحت فميل القلب غير مقدور مع ما فيه من الإبتلاء لهما والظاهر أن الله تعالى لما أراد نسخ تحريم زوجة المتنبي أوحى إليه عليه الصلاة و السلام أن يتزوج زينب إذا طلقها زيد فلم يبادر له صلى الله تعالى عليه وسلم مخافة طعن الأعداء فعوتب عليه وهو توجيه وجيه قاله الخفاجي عليه الرحمة ثم قال : إن القصة شبيهة بقصة داؤد عليه السلام لا سيما وقد كان النزول عن الزوجة في صدر الهجرة جاريا بينهم من غير حرج فيه إنتهى وأبعد بعضهم فزعم أن وتخفي إلخ خطاب كسابقه من الله عزوجل أو من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لزيد فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما وقع في قلبه أن النبي يود أن تكون من نسائه هذا وفي قوله تعالى أمسك عليك زوجك وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد فهو كقوله : هون عليك ودع عنك نهبا صيح في حجراته وذكروا في مثل هذا التركيب أن علي وعن أسمان ولا يجوز أن يكونا حرفين لإمتناع فكر فيك وأعين بك بل هذا مما تكون فيه النفس أي فكر في نفسك وأعين بنفسك والحق عندي جواز ذلك التركيب مع حرفية علي وعن فلما قضى زيد منها وطرا أي طلقها كما روى عن قتادة وهو كناية عن ذلك مثل لا حاجة لي فيك ومعنى الوطر الحاجة وقيدها الراغب بالمهمة وقال أبو عبيدة : هو كالأدب وأنشد للربيع بن ضبع : ودعنا قبل أن نودعه لما قضى من شبابنا وطرا ويفسر الأدب بالحاجة الشديدة المقتضية للإحتيال في دفعها ويستعمل تارة في الحاجة المفردة وأخرى في الإحتيال وإن لم تكن حاجة وقال المبرد : هو الشهوة والمحبة يقال : ما قضيت من لقائك وطرا أي ما أستمتعت منك حتى تنتهي نفسي وأنشد : وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى وطرا منها جميل بن معمر وعن إبن عباس تفسير الوطر هنا بالجماع والمراد لم يبق له بها حاجة الجماع وطلقها وفي البحر نقلا عن بعضهم أنه رضي الله تعالى عنه لم يتمكن من الإستمتاع بها وروى أبو عصمة نوح بن أبي مريم بإسناد رفعه إليها أنها قالت : ما كنت أمتنع منه غير أن الله عزوجل منعني منه وروى أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها فيمتنع
قيل : ولا يخفى أنه على هذا يحسن جدا جعل قضاء الوطر كناية عن الطلاق فتأمل وفي الكلام تقدير
(22/25)
أي فلما قضى زيد منها وطرا وأنقضت عدتها وقيل : إن قضاء الوطر يشعر بإنقضاء العدة لأن القضاء الفراغ من الشيء على التمام فكأنه قيل : فلما قضى زيد حاجته من نكاحها فطلقها وأنقضت عدتها فلم يكن في قلبه ميل إليها ولا وحشة من فراقها زوجناكها أي جعلناها زوجة لك بلا واسطة عقد إصالة أو وكالة فقد صح من حديث البخاري والترمذي أنها رضي الله تعالى عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات وأخرج إبن جرير عن الشعبي قال : كانت تقول للنبي عليه الصلاة و السلام إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك أمرأة تدل بهن إن جدي وجدك واحد وإني أنكحك الله إياي من السماء وإن السفير لجبريل عليه السلام ولعلها أرادت سفارته عليه السلام بين الله تعالى وبين رسوله وإلا فالسفير بينه عليه الصلاة و السلام وبينها كان زيدا
أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال : لما أنقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لزيد : أذهب فاذكرها علي فأنطلق قال : فلما رأيتها عظمت في صدري فقلت : يازينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يذكرك قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤمرر بي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودخل عليبها بغير إذن
ومن حديث أخرجه الطبراني والبيهقي في سننه وإبن عساكر من طريق إبن زيد الأسدي عن مذكور مولى زينب قالت طلقني زيد فبت طلاقي فلما أنقضت عدتي لم أشعر إلا والنبي عليه الصلاة و السلام قد دخل علي وأنا مكشوفة الشعر فقلت : هذا من السماء دخلت يارسول الله بلا خطبة ولا شهادة فقال : الله تعالى المزوج وجبريل الشاهد ولا يخفى أن هذا بظاهره يخالف ما تقدم من الحديث والمعول على ذاك وقيل : المراد بزوجناكها أمرناك بتزوجها
وقرأ علي وأبتاه ريحانتا رسول الله الحسن والحسين وإبنه محمد بن الحنفية وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهم أجمعين زوجتكها بتاء الضمير للمتكلم وحده لكي لا يكون على المؤمنين حرج أي ضيق وقيل إثم وفسره بهما بعضهم كالطبرسي بناء على جواز إستعمال المشترك في معنييه مطلقا كما ذهب إليه الشافعية أو في النفي كما ذهب إليه العلامة إبن الهمام من الحنفية في أزواج أي في حق تزوج أزواج أدعيائهم الذين تبنوهم إذا قضوا منهن وطرا أي إذا طلقهن الأدعياء وأنقضت عدتهن فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة وأستدل بهذا على أن ما ثبت له من الأحكام ثابت لأمته إلا ما علم أنه من خصوصياته عليه الصلاة و السلام بدليل وتمام الكلام في المسئلة مذكور في الأصول والمراد بالحكم ههنا على ما سمعت أولا مطلق تزوج زوجات الأدعياء وهو على ما قيل ظاهر وكان أمر الله أي ما يريد تكوينه من الأمور أو مأموره الحاصل بكن مفعولا 73 مكونا لا محالة والجملة إعتراض تذييلي مقرر لما قبله من تزويج زينب رضي الله تعالى عنها ما كان على النبي من حرج أي ما صح وما أستقام في الحكمة أن يكون له حرج فيما فرض الله له أي قسم له وقدر من قولهم : فرض له في الديوان كذا ومنه فروض العساكر لما يقطعه السلطان لهم ويرسم به وقال قتادة : أي فيما أحل له وقال الحسن : فيما خصه به من صحة
(22/26)
النكاح بلا صداق وقال الضحاك : من الزيادة على الأربع سنة الله أي سن الله تعالى ذلك سنة فهو مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه والجملة مؤكدة لما قبلها من نفي الحرج وذهب الزمخشري إلى أنه أسم موضوع موضع المصدر كقولهم : تربا وجندلا أي رغما وهوانا وخيبة وكأنه لم تثبت عنده مصدريته وقيل : منصوب بتقدير ألزم ونحوه
قال إبن عطية : ويجوز أن يكون نصبا على الإغراء كأنه قيل : فعليه سنة الله وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لأن عامل الأسم في الإغراء لا يجوز حذفه وأيضا تقدير فعليه سنة الله بضمير الغائب لا يجوز إذ لا يغرى غائب وقولهم عليه رجلا ليتسنى مؤول وهو مع ذلك نادر وأعترض بأن قوله : لأن عامل الأسم في الإغراء لا يجوز حذفه ممنوع وهو خلاف ما يفهم من كتب النحو وبأن ما ذكره في أمر إغراء الغائب مسلم لكن يمكن توجيهه ههنا كما لا يخفى ثم قيل : إن ظاهر كلام إبن عطية يشعر بأن النصب بتقدير ألزم قسيم للنصب على الإغراء وليس كذلك بل هو قسم منه فتدبر
في الذين خلوا أي مضوا من قبل أي من قبلك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث لم يخرج جل شأنه عليهم في الإقدام على ما أحل لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره وقد كانت تحتهم المهائر والسراري وكانت لداؤد عليه السلام مائة أمرأة وثلاثمائة سرية ولسليمان عليه السلام ثلثمائة أمرأة وسبعمائة سرية
وأخرج إبن سعد عن محمد بن كعب القرظي أنه كان له عليه السلام ألف أمرأة ولظاهر أنه عني بالمرأة ما يقابل السرية ويحتمل أنه أراد بها الأعم فيوافق ما قبله يروى أن اليهود قاتلهم الله تعالى عابوه وحاشاه من العيب صلى الله تعالى عليه وسلم بكثرة النكاح وكثرة الأزواج فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : سنة الله الآية
وقيل : إنه جل وعلا أشار بذلك إلى ما وقع لداؤد عليه السلام من تزوجه أمرأة أوريا وأخرج ذلك إبن المنذر والطبراني عن إبن جريج وأسم تلك الأمرأة عنده اليسية وهذا مما لا يلتفت إليه والقصة عند المحققين لا أصل لها وكان أمر الله قدرا مقدورا 83 أي عن قدر أو ذا قدر ووصفه بمقدور وصف الظل بالظليل والليل بالأليل في قولهم ظل ظليل وليل أليل في قصد التأكيد والمراد بالقدر عند جمع المعنى المشهور للقضاء وهو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه وجوز كونه بالمعنى المشهور له وهو إيجاد الأشياء على قدر مخصوص وكمية معينة من وجوه المصلحة وغيرها والمعنى الأول أظهر والقضاء والقدر يستعمل كل منهما بمعنى الآخر وفسر الأمر بنحو ما فسر به فيما سبق وجوز أن يراد به الأمر الذي هو واحد الأوامر من غير تأويل ويراد أن أتباع أمر الله تعالى المنزل على أنبيائه عليهم السلام والعمل بموجبه لازم مقضى في نفسه أو هو كالمقضى في لزوم إتباعه ولا يخفى تكلفه وظاهر كلام الإمام إختيار أن الأمر واحد الأمور وفرق بين القضاء والقدر بما لم نقف عليه لغيره فقال ما حاصله القضاء ما يكون مقصودا له تعالى في الأصل والقدر ما يكون تابعا والخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر كالزنا والقتل ثم بنى على ذلك لطيفة وهو أنه لما قال سبحانه : زوجناكها ذيله بأمرا مفعولا لكونه مقصودا أصليا وخيرا مقضيا ولما قال جل شأنه : سنة الله في الذين خلوا إشارة إلى قصة داؤد عليه السلام حيث أفتتن بأمرأة أوريا قال سبحانه : قدرا مقدورا لكون الإفتتان شرا غير مقصود أصلي من خلق المكلف وفيه ما فيه والجملة إعتراض وسط بين الموصولين
(22/27)
الجاريين مجرى الواحد للمسارعة إلى تقرير نفي الحرج وتحقيقه الذين يبلغون رسالات الله صفة للذين خلوا أو هو في محل رفع أو نصب على إضمارهم أو على المدح
وقرأ عبدالله بلغوا فعلا ماضيا وقرأ أبي رسالة على التوحيد لجعل الرسالات المتعددة لإتفاقها في الأصول وكونها من الله تعالى بمنزلة شيء واحد وأن أختلفت أحكامها ويخشونه أي يخافونه تعالى في كل ما يأتون ويذرون لا سيما في أمر تبليغ الرسالة ولا يخشون أحدا إلا الله في وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعالى تعريض بما صدر عنه عليه الصلاة و السلام من الإحتراز عن لأئمة الناس من حيث أن إخوانه المرسلين لم تكن سيرتهم التي ينبغي الإقتداء بها ذلك وهذا كالتأكيد لما تقدم من التصريح في قوله سبحانه : وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وتوهم بعضهم أن منشأ التعريض توصيف الأنبياء بتبليغ الرسالات وحمل الخشية على الخشية في أمر التبليغ لوقوعها في سياقه وفيه ما لا يخفى وكفى بالله حسيبا 93 أي كافيا للمخاوف أو محاسبا على الكبائر والصغائر من أفعال القلب والجوارح فلا ينبغي أن يخشى غيره والإظهار في مقام الإضمار لما في هذا الأسم الجليل ما ليس في الضمير وأستدل بالآية على عدم جواز التقية على الأنبياء عليهم السلام مطلقا وخص ذلك بعض الشيعة في تبليغ الرسالة وجعلوا ما وقع منه صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه القصة المشار إليه بقوله تعالى وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه بناء على أن الخشية فيه بمعنى الخوف لا على أن المراد الإستحياء من قول الناس تزوج زوجة إبنه كما قاله إبن فورك من التقية الجائزة حيث لم تكن في تبليغ الرسالة ولا فرق عندهم بين خوف المقالة القبيحة وأساءة الظن وبين خوف المضار في أن كلا يبيح التقية فيما لا يتعلق بالتبليغ ولهم في التقية كلام طويل وهي لأغراضهم ظل ظليل والمتتبع لكتب الفرق يعرف أن قد وقع فيها إفراط وتفريط وصواب وتخليط وأن أهل السنة والجماعة قد سلكوا فيها الطريق الوسط وهو الطريق الأسلم الأمين سالكه من الخطأ والغلط أما الإفراط فللشيعة حيث جوزوا بل أوجبوا على ما حكى عنهم إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع وأما التفريط فللخوارج والزيدية حيث لا يجوزون في مقابلة الدين مراعاة العرض وحفظ النفس والمال أصلا وللخوارج تشديدات عجيبة في هذا الباب وقد سبوا وطعنوا بريدة الأسلمي أحد أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب أنه رضي الله تعالى عنه كان يحافظ فرسه في صلاته خوفا من أن يهرب
ومذهب أهل السنة أن التقية وهي محافظة النفس أو العرض أو المال من نحو الأعداء بإظهار محظور ديني مشروعة في الجملة
وقسموا العدو إلى قسمين : الأول من كانت عداوته مبنية على إختلاف الدين كالمسلم والكافر ويلحق به من كانت عداوته لإختلاف المذهب إختلافا يجر إلى تكفير أصحاب أحد المذهبين أصحاب المذهب الآخر كأهل السنة والشيعة والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمرأة وعلى هذا تكون التقية أيضا قسمين : أما الأول فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على إختلاف الدين حقيقة أو حكما وقد ذكروا في ذلك أن من يدعي الإيمان إذا وقع في محل لا يمكن أن يظهر دينه وما هو عليه لتعرض المخالفين وجب عليه أن يهاجر إلى محل يقدر فيه على الإظهار ولا يجوز له أن يسكن هنالك ويكتم دينه بعذر الإستضعاف
(22/28)
فأرض الله تعالى واسعة نعم إن كان له عذر غير ذلك كالعمى والحبس وتخويف المخالف له بقتله أو قتل ولده أو أبيه أو أمه على أي وجه كان القتل تخويفا يظن معه وقوع ما خوف به جاز له السكنى والموافقة بقدر الضرورة ووجب عليه السعي في الحيلة للخروج وإن لم يكن التخويف كذلك كالتخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له الموافقة وإن ترتب على ذلك موته كان شهيدا وأما الثاني فألتقية ممن كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية
وقد أختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم : تجب الهجرة لوجوب حفظ المال والعرض
وقال جمع : لا تجب إذا الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود بتركها نقصان في الدين إذ العدو المؤمن كيفما كان لا يتعرض لعدوه الضعيف المؤمن مثله بالسوء من حيث هو مؤمن
وقال بعض الأجلة على طريق المحاكمة : الحق أن الهجرة ههنا قد تجب أيضا وذلك إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو الإفراط في هتك حرمته وقال : إنها مع وجوبها ليست عبادة إذ التحقيق أنه ليس كل واجب عبادة يثاب عليها فإن الأكل عند شدة المجاعة والإحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض وعن تناول السمومات في حال الصحة وما أشبه ذلك أمور واجبة ولا يثاب فاعلها عليها وفيه بحث وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من زبر العلماء الأعلام ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لذكر شيء من ذلك والله تعالى الهادي لسلوك أقوم المسالك بقي لنا فيما يتعلق بالآية شيء وهو ما قيل : إنه سبحانه وصف المرسلين الخالين عليهم الصلاة والسلام بأنهم لا يخشون أحدا إلا الله وقد أخبر عزوجل عن موسى عليه السلام بأنه قال : إنا نخاف أن يفرط علينا وهل خوف ذلك إلا خشية غير الله تعالى فما وجه الجمع قلت : أجيب بأن الخشية أخص من الخوف
قال الراغب : الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه وذكر في ذلك عدة آيات منها هذه الآية ونفى الخاص لا يستلزم نفي العام فقد يجتمع مع إثباته وهذا أولى مما قيل في الجواب من أن الخشية أخص من الخوف لأنها الخوف الشديد والمنفي في الآية ههنا هو ذلك لا مطلق الخوف المثبت فيما حكى عن موسى عليه السلام وأجاب آخر بأن المراد بالخشية المنفية الخوف الذي يحدث بعد الفكر والنظر وليس من العوارض الطبيعية البشرية والخوف المثبت هو الخوف العارض بحسب البشرية بادي الرأي وكم قد عرض مثله لموسى عليه السلام ولغيره من إخوانه وهو مما لا نقص فيه كما لا يخفى على كامل وهو جواب حسن وقيل : إن موسى عليه السلام إنما خاف أن يعجل فرعون عليه بما يحول بينه وبين إتمام الدعوة وإظهار المعجزة فلا يحصل المقصود من البعثة فهو خوف لله عزوجل والمراد بما نفى عن المرسلين هو الخوف عنه سبحانه بمعنى أن يخاف غيره جل وعلا فيخل بطاعته أو يقدم على معصيته وأين هذا من ذاك فتأمل تولى الله تعالى هداك
ما كان لمحمد أبا أحد من رجالكم رد لمنشأ خشيته صلى الله تعالى عليه وسلم الناس المعاتب عليها بقوله تعالى : وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وهو قولهم : إن محمدا عليه الصلاة و السلام تزوج زوجة إبنه زيد بنفي كون زيد إبنه الذي يحرم نكاح زوجته عليه صلى الله تعالى عليه وسلم على أبلغ وجه كما ستعرفه قريبا
(22/29)
إن شاء الله تعالى والرجال جمع رجل بضم الجيم كما هو المشهور وسكونه وهو على ما في القاموس الذكر إذا أحتلم وشب أو هو رجل ساعة يولد وفي بعض ظواهر الآيات والأخبار ما هو مؤيد للثاني نحو قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقوله سبحانه : وإن كان رجل يورث كلالة ونحو قوله عليه الصلاة و السلام : فلأولى رجل ذكر والبحث الذي ذكره بعض أجلة المتأخرين فيما ذكر من الأمثلة لا يدفع كون الظاهر منها ذلك عند المنصف وقد يذكر لتأييد الأول قوله تعالى : والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان فإن الرجال فيه للبالغين وفيه بحث نعم ظاهر كلام الزمخشري وهو إمام له قدم راسخة في اللغة وغيرها من العلوم العربية يدل على أن الرجل هو الذكر البالغ وأياما كان فإضافة رجال إلى ضمير المخاطبين بإعتبار الولاد فإن أريد بالرجال الذكور البالغون فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم أيها الناس الذكور البالغين الذين ولدتموهم وإن أريد بهم الذكور مطلقا فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم الذين ولدتموهم مطلقا كبارا كانوا أو صغارا
والأب حقيقة لغوية في الوالد على ما يفهم من كلام كثير من اللغويين والمراد بالأبوة المنفية هنا الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها أحكام الأبوة الحقيقية اللغوية من الأرث ووجوب النفقة وحرمة المصاهرة سواء كانت بالولادة أو بالرضاع أو بتبني من يولد مثله لمثله وهو مجهول النسب فحيث نفى كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أبا أحد من رجالهم بأي طريق كانت الأبوة ومن المعلوم أن زيدا أحد من رجالهم تحقق نفي كونه عليه الصلاة و السلام أبا له مطلقا أما كونه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالولادة فمما لا نزاع فيه ولم يتوهم أحد خلافه ومثله كونه عليه الصلاة و السلام ليس أبا له بالرضاع وأما كونه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالتبني مع تحقق تبنيه عليه الصلاة و السلام فلأن الأبوة بالتبني التي نفيت إنما هي الأبوة الحقيقية الشرعية وما كان من التبني لا يستتبعها لتوقفها شرعا على شرائط منها كون المتبني مجهول النسب وذلك منتف في زيد فقد كان معروف النسب فيما بينهم وقد تقدم لك أنه إبن حارثة وتعميم نفي أبوته صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد من رجالهم بحيث شمل نفي الأبوة بالولادة والأبوة بالرضاع والأبوة بالتبني مع أنه لا كلام في إنتفاء الأوليين وإنما الكلام في إنتفاء الأخيرة فقط إذ هي التي يزعمها من يقول : تزوج محمد عليه الصلاة و السلام زوجة إبنه للمبالغة في نفي الأبوة بالتبني التي زعموا ترتب أحكام الأبوة الحقيقة عليها بنظم ما خفى في سلك ما لا خفاء فيه أصلا
ولعل هذا هو السر في قوله سبحانه ما كان محمد أبا أحد من رجالكم دون ما كان محمد أبا أحد من الرجال أو ما كان محمد أبا أحد منكم ولعله لهذا أيضا صرح بنفي أبوته صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد من رجالهم ليعلم منه نفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة و السلام ولم يعكس الحال بأن يصرح بنفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة و السلام ليعلم نفي أبوته صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد من رجالهم ويؤتى بما بعد على وجه ينتظم مع ما قبل وبحمل الأبوة المنفية على الأبوة الحقيقية الشرعية ينحل أشكال في الآية وهو أن سياقها لنفي أبوته عليه الصلاة و السلام لزيد ليرد به على من يعترض على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بتزوجه مطلقته فإن أريد بالأبوة الأبوة الحقيقية اللغوية وهي ما يكون بالولادة لم تلائم السياق ولم يحصل بها الرد المذكور مع أنه هو المقصود إذ لم يكن أحد يزعم ويتوهم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان أبا زيد بالولادة وإن أريد بها الأبوة المجازية التي تحقق بالتبني ونحوه فنفيها غير صحيح لأنه عليه الصلاة و السلام كان
(22/30)
أبا لزيد مجازا لتبنيه إياه ولم يزل زيد يدعى بإبن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى : أدعوهم لآبايهم فدعوه حينئذ بإبن حارثة ووجه إنحلاله بما ذكرنا من أن المراد بالأبوة الحقيقية الشرعية أن هذه الأبوة تكون بالولادة وبالرضاع وبالتبني بشرطه وهي بأنواعها غير متحققة في زيد أما عدم تحققها بالنوعين الأولين فظاهر وأما عدم تحققها بالنوع الأخير فلأن التبني وإن وقع إلا أن شرطه الذي به يستتبع الأبوة الحقيقية الشرعية مفقود كما علمت وبجعل إضافة الرجال إلى ضمير المخاطبين بإعتبار الولادة يندفع إستشكال النفي المذكور بأنه عليه الصلاة و السلام قد ولد له عدة ذكور فكيف يصح النفي لأن من ولد له عليه الصلاة و السلام ليس مضافا للمخاطبين بإعتبار الولادة بل هو مضاف إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بإعتباره ومن خص الرجال بالبالغين قال : لا ينتقص العموم بذلك لأن جميع من ولد له عليه الصلاة و السلام مات صغيرا ولم يبلغ مبلغ الرجال وقيل : لا إشكال في ذلك لأنه عليه الصلاة و السلام لم يكن له إبن يوم نزول الآية لأن السورة مدنية نزلت على ما نقل عن إبن الأثير في تاريخ الكامل السنة الخامسة من الهجرة وفيها تزوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بزينب ومن ولد له صلى الله تعالى عليه وسلم من الذكور ممن عدا إبراهيم فإنما ولد بمكة قبل الهجرة وتوفي فيها وإبراهيم وإن ولد بالمدينة لكن ولد السنة الثامنة من الهجرة فلم يكن مولودا يوم النزول بل بعده وهو كما ترى وكما أستشكل النفي بما ذكر أستشكل بالحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما فقد كان النبي أبا لهما حقيقة شرعية ولم يرتض بعضهم هنا الجواب بخروجهما بالإضافة لأن لهما نسبة إلى المخاطبين بإعتبار الولادة لدخول علي كرم الله تعالى وجهه فيهم وهما ولداه وأرتضاه آخر بناء على أن الإضافة للإختصاص بإعتبار الولادة ولا إختصاص للحسنين بعلي رضي الله تعالى عنهم بإعتبارها لما أنهما ولدا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا لكن بالواسطة فإن قبل هذا فذاك وإلا فالجواب أما ما قيل من أن المراد بالرجال البالغون ولم يكونا رضي الله تعالى عنهما يوم النزول كذلك فإن الحسن رضي الله تعالى عنه ولد السنة الثالثة من الهجرة والحسين رضي الله تعالى عنه ولد السنة الرابعة منها لخمس خلون من شعبان وقد عقلت به أمه عقب ولادة أخيه بخمسين ليلة أو أقل وكان النزول بعد ولادتهما على ما سمعت آنفا وأما ما قيل من أن المراد بالأب في الآية الأب الصلب ومعلوم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن اباهما كذلك فتدبر وقيل : ليس المراد من الآية سوى نفي أبوته صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد من الرجال بالتبني لتنتفي أبوته عليه الصلاة و السلام لزيد التي يزعمها المعترض كما يدل عليه سوق الآية الكريمة فكأنه قيل : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم كما زعمتم حيث قلتم إنه أبو زيد لتبنيه إياه وهي ساكتة عن نفي أبوته صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد بالولادة أو بالرضاع وعن إثباتها فلا سؤال بمن ولد له صلى الله تعالى عليه وسلم من الذكور ولا بالحسنين رضي الله تعالى عنهم ولا جواب
وإلى إختيار هذا يميل كلام أبي حيان والله تعالى أعلم وأستدل بعض الشافعية بهذه الآية على أنه لا يجوز أن يقال للنبي عليه الصلاة و السلام أبو المؤمنين حكاه صاحب الروضة ثم قال : ونص الشافعي عليه الرحمة على أنه يجوز أن يقال له صلى الله تعالى عليه وسلبم أبو المؤمنين أي في الحرمة ونحوها وقال الراغب بعد أن قال الأب الوالد ما نصه : ويسمى كل من كان سببا في إيجاد شيء أو أصلاحه أو ظهوره أبا ولذلك سمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبا المؤمنين قال الله تعالى : الني أولي بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وفي بعض القراءآت وهو أب لهم وروى أنه عليه الصلاة و السلام قال : لعلي كرم الله تعالى وجهه أنا وأنت أبوا هذه الأمة وإلى هذا أشار صلى الله
(22/31)
تعالى عليه وسلم بقوله كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي فلا تغفل وعلى جواز الإطلاق قالوا : إن قوله تعالى : ولكن رسول الله إستدراك من نفي كونه عليه الصلاة و السلام أبا أحد من رجالهم على وجه يقتضي حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أبا لكل واحد من الأمةو فيما يرجع إلى وجوب التوفير والتعظيم له صلى الله تعالى عليه وسلم ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه عليه الصلاة و السلام فإن كل رسول أب لأمته فيما يرجع إلى ذلك وحاصله أنه إستدراك من نفي الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات الأبوة المجازية اللغوية التي هي من شأن الرسول عليه الصلاة و السلام وتقتضي التوفير من جانبهم والشفقة من جانبه صلى الله تعالى عليه وسلم وقبل في توجيه الإستدراك أيضا إنه لما نفيت أبوته صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد من رجالهم مع إشتهار أن كل رسول أب لأمته ولذا قيل : إن لوطا عليه السلام عني بقوله : هؤلاء بناتي هن أطهر لكم المؤمنات من أمته يتوهم نفي رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم بناء على توهم التلازم بين الأبوة والرسالة فأستدرك بإثبات الرسالة تنبيها على أن الأبوة المنفية شيء والمثبتة للرسول شيء آخر وأما قوله سبحانه وخاتم النبيين فقد قيل إنه جيء به ليشير إلى كمال نصحه وشفقته صلى الله تعالى عليه وسلم فيفيد أن أبوته عليه الصلاة و السلام للأمة المشار إليها بقوله تعالى : ولكن رسول الله أبوة كاملة فوق أبوة سائر الرسل عليهم السلام لأممهم وذلك لأن الرسول الذي يكون بعده رسول ربما لا يبلغ في الشفقة غايتها وفي النصيحة نهايتها إتكالا على من يأتي بعده كالوالد الحقيقي إذا علم أن لولده بعده من يقوم مقامه وقيل : إنه جيء به للإشارة إلى إمتداد تلك الأبوة المشار إليها بما قبل إلى يوم القيامة فكأنه قيل : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم بحيث تثبت بينه وبينه حرمة المصاهرة ولكن كان أبا كل واحد منكم وأبا أبنائكم وأبناء أبنائكم وهكذا إلى يوم القيامة بحيث يجب له عليكم وعلى من تناسل منكم إحترامه وتوقيره ويجب عليه لكم ولمن تناسل منكم الشفقة والنصح الكامل وقيل : إنه جيء به لدفع ما يتوهم من قوله تعالى : من رجالكم من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يكون أبا أحد من رجاله الذين ولدوا منه عليه الصلاة و السلام بأن يولد له ذكر فيعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال وذلك لأن كونه عليه الصلاة و السلام خاتم النبيين يدل على أنه لا يعيش له ولد ذكر حت يبلغ لأنه لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا فلا يكون هو صلى الله تعالى عليه وسلم خاتم النبيين ويراد بالأب عليه الأب الصلب لئلا يعترض بالحسنين رضي الله تعالى عنهما ودليل الشرطية ما رواه إبراهيم السدي عن أنس قال : كان إبراهيم يعني إبن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد ملأ المهد ولو بقى لكان نبيا لكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء عليهم السلام وجاء نحوه في روايات أخر
أخرج البخاري من ط ريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد قال : قلت لعبدالله بن أبي أوفي رأيت إبراهيم إبن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : مات صغيرا ولو قضى بعد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبي عاش إبنه إبراهيم ولكن لا نبي بعده
وأخرج أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت إبن أبي أوفي يقول : لو كان بعد النبي نبي ما مات إبنه
وأخرج إبن ماجه وغيره من حديث إبن عباس لما مات إبراهيم إبن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال :
(22/32)
إن له مرضعا في الجنة ولو عاش لكان صديقا نبيا ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط وما أسترق قبطي وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي وهو على ما قال القسطلاني ضعيف ومن طريقه أخرجه إبن منده في المعرفة وقال : إنه غريب وكأن النووي لم يقف على هذا الخبر المرفوع أو نحوه أو وقف عليه ولم يصح عنده فقال في تهذيب الأسماء واللغات : وأما ما روى عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم ومثله إبن عبدالبر فقد قال في التمهيد : لا أدري ما هذا فقد ولد نوح عليه السلام غير نبي ولو لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا لأنهم من نوح عليه السلام وأنا أقول : لا يظن بالصحابي الهجوم على الاخبار عن مثل هذا الأمر بالظن فالظاهر أنه لم يخبر إلا عن توقيف من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإذا صح حديث إبن عباس رضي الله تعالى عنهما المرفوع أرتفع الخصام لكن الظاهر أن هذا الأمر في إبراهيم خاصة بأن يكون قد سبق في علم الله تعالى أنه لو عاش لجعله جل وعلا نبيا لا لكونه إبن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل لأمر هو جل شأنه به اعلم والله أعلم حيث يجعل رسالته وحينئذ يرد على الشرطية السابقة أعني قوله لأنه : لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا منع ظاهر والدليل الذي سيق فيما سبق لا يثبتها لما أن ظاهره الخصوص فيجوز أن يبلغ ولد ذكر له عليه الصلاة و السلام غير إبراهيم ولا يكون نبيا لعدم أهليته للنبوة في علم الله تعالى لو عاش
وقول بعض الأفاضل : ليس مبني تلك الشرطية على اللزوم العقلي والقياس المنطقي بل على مقتضى الحكمة الألهية وهي أن الله سبحانه أكرم بعض الرسل عليهم السلام بجعل أولادهم أنبياء كالخليل عليه السلام ونبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أكرمهم عليه وأفضلهم عنده فلو عاش أولاده أقتضى تشريف الله تعالى له وأفضليته عنده ذلك ليس بشيء لأنا نقول : لا يلزم من إكرام الله تعالى بعض رسله عليهم السلام بنبوة الأولاد وكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أكرمهم وأفضلهم إقتضاء التشريف والأفضلية نبوة أولاده لو عاشوا وبلغوا ليقال إن حكمة كونه عليه الصلاة و السلام خاتم النبيين لكونها أجل وأعظم منعت من أن يعيشوا فينبؤا ألا ترى أن الله تعالى أكرم بعض الرسل بجعل بعض أقاربهم في حياتهم وبعد مماتهم أنبياء معينين لهم ومؤيدين لشريعتهم غير مخالفين لها في أصل أو فرع كموسى عليه السلام ونبينا عليه الصلاة و السلام أكرمهم وأفضلهم ولم يجعل له ذلك
فإن قيل : إنه عوض صلى الله تعالى عليه وسلم عنه بأن جعل جل شأنه له من أقاربه وأهل بيته علماء أجلاء كأنبياء بني إسرائيل كعلي كرم الله تعالى وجهه كما يرشد إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم له رضى الله تعالى عنه أنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي قلنا فلم لا يجوز أن يبقى سبحانه له عليه الصلاة و السلام أولادا ذكورا بالغين ويعوضه عن نبوتهم التي منعت عنها حكمة الخاتمية نحو ما عوضه عن نبوة بعض أقاربه التي منعت عنها تلك الحكمة وذلك أقرب لمقتضى التشريف كما لا يخفى وقيل : الملازمة مستفادة من الآية لأنه لولاها لم يكن للإستدراك معنى إذ لكن تتوسط بين متقابلين فلا بد من منافاة بنوتهم له عليه الصلاة و السلام لكونه خاتم النبيين وهو إنما يكون بإستلزام بنوتهم نبوتهم ولا يقدح فيه قوله تعالى : رسول الله كما يتوهم لأنه لو سلم رسالتهم لكانت إما في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم وهي تنافي رسالته أو بعده وهي تنافي
(22/33)
خاتميته وفيه أن الملازمة في قوله : ولولا ذلك لم يكن للإستدراك معنى ممنوعة والدليل المذكور لم يثبتها لجواز أن يكون معنى الإستدراك ما ذكرناه أولا على أن فيما ذكره بعد ما لا يخفى وقيل في توجيه الإستدراك إنه لما كان عدم النسل من الذكور يفهم منه أنه لا ينبغي حكمه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يدوم ذكره أستدرك بما ذكر وهو كما ترى
وقال بعض المتأخرين : يجوز أن لا يكون الإستدراك بلكن هنا بمعنى رفع التوهم الناشيء من أول الكلام كما في قولك : ما زيد كريم لكنه شجاع بل بمعنى أن يثبت لما بعدها حكم مخالف لما قبلها نحو ما هذا ساكن لكنه متحرك وما هذا أبيض لكنه أسود وقد جاء كذلك في بعض آي الكتاب الكريم كما في قوله تعالى : ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول ربي العالمين فإن نفي السفاهة لا يوهم إنتفاء الرسالة ولا إنتفاء ما يلزمها من الهدى والتقوى حتى يجعل إستدراكا بالمعنى الأول فليتأمل
ومن العجيب أن إبن حجر الهيتمي قال في فتاواه الحديثية : إنه لا بعد في إثبات النبوة لإبراهيم إبن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في صغره وقد ثبت في الصغر لعيسى ويحيى عليهما السلام ثم نقل عن السبكي كلاما في حديث كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد حاصله أن حقيقته عليه الصلاة و السلام قد تكون من قبل آدم آتاها الله تعالى النبوة بأن خلقها مهيأة لها وأفاضها عليها من ذلك الوقت وصار نبيا ثم قال : وبه يعلم تحقيق نبوة سيدنا إبراهيم في حال صغره وفيه بحث وخبر أنه عليه الصلاة و السلام أدخل يده في قبره بعد دفنه وقال أما والله إنه لنبي إبن نبي في سنده من ليس بالقوي فلا يعول عليه ليتكلف لتأويله والخاتم أسم آلة لما يختم به كالطابع لما يطبع به فمعنى خاتم النبيين الذي ختم النبيون به ومآله آخر النبيين وقال المبرد : خاتم فعل ماض على فاعل وهو في معنى ختم النبيين فالنبيين منصوب على أنه مفعول به وليس بذاك وقرأ الجمهور وخاتم بكسر التاء على أنه أسم فاعل أي الذي ختم النبيين والمراد به آخرهم أيضا وفي حرف إبن مسعود ولكن نبيا ختم النبيين والمراد بالنبي ما هو أعم من الرسول فيلزم من كونه صلى الله تعالى عليه وسلم خاتم النبيين كونه خاتم المرسلين والمراد بكونه عليه الصلاة و السلام خاتمهم إنقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليله عليه الصلاة و السلام بها في هذه النشأة
ولا يقدح في ذلك ما أجمعت الأمة عليه وأشتهرت فيه الأخبار ولعلها بلغت مبلغ التواتر المعنوي ونطق به الكتاب على قول ووجب الإيمان به وأكفر منكره كالفلاسفة من نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان لأنه كان نبيا قبل تحلي نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالنبوة في هذه النشأة ومثل هذا يقال في بقاء الخضر عليه السلام على القول بنبوته وبقائه ثم أنه عليه السلام حين نزول باق على نبوته السابقة لم يعزل عنها قال لكنه لا يتعبد بها لنسخها في حقه وحق غيره وتكليفه بأحكام هذه الشريعة أصلا وفرعا فلا يكون إليه عليه السلام وحي ولا نصب أحكام بل يكون خليفة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحاكما من حكام ملته بين أمته بما علمه في السماء قبل نزوله من شريعته عليه الصلاة و السلام كما في بعض الآثار أو ينظر في الكتاب والسنة وهو عليه السلام لا يقصر عن رتبة الإجتهاد المؤدي إلى إستنباط ما يحتاج إليه أيام مكثه في الأرض من الأحكام وكسره الصليب وقتله الخنزير ووضعه الجزية وعدم قبولها مما علم من شريعتنا صوابيته في قوله
(22/34)
صلى الله تعالى عليه وسلم إن عيسى ينزل حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية فنزوله عليه السلام غاية لإقرار الكفار ببذل الجزية على تلك الأحوال ثم لا ي قبل إلا الإسلام لا نسخ لها قاله شيخ الإسلام إبراهيم اللقاني في هداية المريد لجوهرة التوحيد وقوله : أنه عليه السلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنها بحال لكنه لا يتعبد بها إلخ أحسن من قول الخفاجي الظاهر أن المراد من كونه على دين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إنسلاخه عن وصف النبوة والرسالة بأن يبلغ ما يبلغه عن الوحي وإنما يحكم بما يتلقى عن نبينا عليه الصلاة و السلام ولذا لم يتقدم لأمامة الصلاة مع المهدي ولا أظنه عني بالإنسلاخ عن وصف النبوة والرسالة عزله عن ذلك بحيث لا يصح إطلاق الرسول والنبي عليه عليه السلام فمعاذ الله أن يعزل رسول الله أو نبي عن الرسالة أو النبوة بل أكاد لا أتعقل ذلك ولعله أراد أنه لا يبقى له وصف تبليغ الأحكام عن وحي كما كان له قبل الرفع فهو عليه السلام نبي رسول قبل الرفع وفي السماء وبعد النزول وبعد الموت أيضا وبقاء النبوة والرسالة بعد الموت في حقه وحق غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام حقيقة مما ذهب إليه غير واحد فإن المتصف بهما وكذا بالإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن نعم ذهب الأشعري كما قال النسفي إلى أنهما بعد الموت باقيان حكما وما أفاده كلام اللقاني من أنه عليه السلام يحكم بما علم في السماء قبل نزوله من الشريعة قد أفاده السفاريني في البحور الزاخرة وهو الذي أميل له وأما أنه يجتهد ناظرا في الكتاب والسنة فبعيد وإن كان عليه السلام قد أوتي فوق ما أوتي مجتهدو الأمم مما يتوقف عليه الإجتهاد بكثير إذ قد ذهب معظم أهل العلم إلى أنه حين ينزل يصلي وراء المهدي رضي الله تعالى عنه صلاة الفجر وذلك الوقت يضيق عن أستنباط ما تضمنته تلك الصلاة من الأقوال والأفعال من الكتاب والسنة على الوجه المعروف
نعم لا يبعد أن يكون عليه السلام قد علم في السماء بعضا ووكل إلى الإجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة في بعض آخر وقيل : إنه عليه السلام يأخذ الأحكام من نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم شفاها بعد نزوله وهو في قبره الشريف عليه الصلاة و السلام وأيد بحديث أبي يعلى والذي نفسي بيده لينزلن عيسى إبن مريم ثم لئن قام على قبري وقال يامحمد لأجيبنه
وجوز أن يكون ذلك بالإجتماع معه عليه الصلاة و السلام روحانية ولا بدع في ذلك فقد وقعت رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته لغير واحد من الكاملين من هذه الأمة والأخذ منه يقظة قال الشيخ سراج الدين بن الملقن في طبقات الأولياء : قال الشيخ عبدالقادر الكيلاني قدس سره : رأيت رسول الله قبل الظهر فقال لي : يابني لم لا تتكلم قلت : ياأبتاه أنا رجل أعجم كيف أتكلم على فصحاء بغداد فقال : أفتح فاك ففتحته فتفل فيه سبعا وقال : تكلم على الناس وأدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير فأرتج علي فرأيت عليا كرم الله تعالى وجهه قائما بإزائي في المجلس فقال لي : يا بني لم لا تتكلم قلت : ياأبتاه قد أرتج علي فقال : أفتح فاك ففتحته فتفل فيه ستا فقلت : لم لا تكملها سبعا قال : أدبا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم توارى عني فقلت : غواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف فيستخرجها إلى ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشتري بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع وقال أيضا في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي : كان كثير الرؤية لرسول الله عليه
(22/35)
الصلاة والسلام يقظة ومناما فكان يقال : إن أكثر أفعاله يتلقاه منه يقظة ومناما ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة قال له في إحداهن : يا خليفة لا تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في لطائف المتن : قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي ياسيدي صافحني بكفك هذه فإنك لقيت رجالا وبلادا فقال : والله ما صافحت بكفي هذه إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : وقال الشيخ لو حجب عني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين ومثل هذه النقول كثير من كتب القوم جدا
وفي تنوير الحلك لجلال الدين السيوطي الذي رد به على منكري رؤيته بعد وفاته في اليقظة طرف معتد به من ذلك وبدأ في الإستدلال على ذلك بما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داؤد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي ؤأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبدالله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة
وللمنكرين إختلاف في تأويله فقيل : المراد فسيراني في القيامة فهناك اليقظة الكاملة كما يشير إليه الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا وتعقب بأنه لا فائدة في هذا التخصيص لأن كل أمته يرونه يوم القيامة من رآه منهم في المنام ومن لم يره وقيل : المراد الرؤية على وجه خاص من القرب والحظوة منه صلى الله تعالى عليه وسلم يوم القيامة أو حصول الشفاعة له أو نحو ذلك ولا يرد عليه ما ذكر وقيل : المراد بمن من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذ غائبا عنه فيكون الخبر مبشرا له بأنه لا بد أن يراه في اليقظة يعني بعيني رأسه وقيل : بعين قلبه حكاهماالقاضي أبو بكر بن العربي وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في تعليقه على الأحاديث التي إنتقاها من صحيح البخاري : هذا الحديث يدل على أن من يراه صلى الله تعالى عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة وهل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته عليه الصلاة و السلام أو هذا كان في حياته وهل ذلك لكل من رآه مطلقا أو خاص بمن فيه الأهلية والإتباع لسنته عليه الصلاة و السلام اللفظ يعطي العموم ومن يدعى الخصوص فيه بغير مخصص منه صلى الله تعالى عليه وسلم فمتعسف وأطال الكلام في ذلك ثم قال : وقد ذكر عن السلف والخلف وهلم جرا ممن كانوا رأوه صلى الله تعالى عليه وسلم في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص إنتهى المراد منه ثم إن رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم يقظة عند القائلين بها أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يرى بالبصر وأختلفوا في حقيقة المرئي فقال بعضهم المرئي ذات المصطفى بجسمه وروحه وأكثر أرباب الأحوال على أنه مثاله وبه صرح الغزالي فقال : ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل مثالا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه قال : والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق
وفصل القاضي أبو بكر بن العربي فقال : رؤية النبي بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال وأستحسنه الجلال السيوطي وقال : بعد نقل أحاديث وآثار ما نصه فحصل من مجموع هذا الكلام النقول والأحاديث أن النبي حي بجسده وروحه وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع
(22/36)
كونهم أحياء بأجسادهم فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليه الصلاة و السلام عليها لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال وذهب رحمه الله تعالى إلى نحو هذا في سائر الأنبياء عليهم السلام فقال إنهم أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي وهذا الذي ذكره من الخروج من القبور ذكر أخبارا كثيرة تشهد له
منها ما أخرجه إبن حبان في تاريخه والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية عن أنس قال : قال رسول الله ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا ومنها ما رواه عبدالرزاق في مصنفه عن الثوري عن أبي المقدام عن سعيد بن المسيب قال : ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز شيخ صالح ومنها ما ذكره إمام الحرمين في النهاية ثم الرافعي في الشرح أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث زاد إمام الحرمين وروى أكثر من يومين
والذي يغلب على الظن أن رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته بالبصر ليست كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره ولشدة شبه تلك الرؤية بالرؤية البصرية المتعارفة يشتبه الأمر على كثير من الرائين فيظن أنه رآه ببصره الرؤية المتعارفة وليس كذلك وربما يقال إنها رؤية قلبية ولقوتها تشتبه بالبصرية والمرئي إما روحه عليه الصلاة و السلام التي هي أكمل الأرواح تجردا وتقدسا بأن تكون قد تطورت وظهرت بصورة مرئية بتلك الرؤية مع بقاء تعلقها بجسده الشريف الحي في القبر السامي المنيف على حد ما قاله بعضهم من أن جبريل عليه السلام مع ظهوره بين يدي النبي عليه الصلاة و السلام في صورة دحية الكلبي أو غيره لم يفارق سدرة المنتهى وإما جسد مثالي تعلقت به روحه صلى الله تعالى عليه وسلم المجردة القدسية ولا مانع من أن يتعدد الجسد المثالي إلى ما لا يحصى من الأجساد مع تعلق روحه القدسية عليه من الله تعالى ألف ألف صلاة وتحية بكل جسد منها ويكون هذا التعلق من قبيل تعلق الروح الواحدة بأجزاء بدن واحد ولا تحتاج في إدراكاتها وإحساساتها في ذلك التعلق إلى ما تحتاج إليه من الآلات في تعلقها بالبدن في الشاهد و على ما ذكر وجه ما نقله الشيخ صفى الدين بن أبي منصور والشيخ عبدالغفار عن الشيخ أبي العباس الطنجي من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله وينحل به السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة و السلام في زمان واحد في أقطار متباعدة
ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد : كالشمس في كبد السماء وضوؤها يغشى البلاد مشارقا ومغاربا وهذه الرؤية إنما تقع في الأغلب للكاملين الذين لم يخلوا بإتباع الشريعة قدر شعيرة ومتى قويت المناسبة بين رسول الل صلى الله تعالى عليه وسلم وبين أحد من الأمة قوى أمر رؤيته إياه عليه الصلاة و السلام وقد تقع لبعض صلحا الأمة عند الإحتضار لقوة الجمعية حينئذ والرؤية التي تكون يقظة لمن رآه صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام إن كانت في الدنيا فهي على نحو رؤية بعض الكاملين إياه صلى الله تعالى عليه وسلم وهي أكمل من الرؤيا وإن كان المرئي فيهما هو رسول الله عليه الصلاة و السلام وآخر مظان تحققها وقت الموت
ولعل الأغلب في حق العامة تحققها فيه وإن كانت في الآخرة فالأمر فيها واضح ويرجح عندي كونها في الآخرة على وجه خاص من القرب والحظوة وما شاكل ذلك أن البشارة في الخبر عليه أبلغ ثم إن الخبر
(22/37)
المذكور فيما مر مذكور في صحيح مسلم بالسند إلى أبي هريرة أنه قال : سمعت رسول الله يقول : من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي فلا قطع على هذه الرواية بأنه عليه الصلاة و السلام قال : فسيراني فإن كان الواقع في نفس الأمر ذلك فالكلام فيه ما سمعت وإن كان الواقع لكأنما رآني فهو كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في خبر آخر : فقد رآني وفي آخر أيضا فقد رأى الحق والمعنى أن رؤياه صحيحة وما تقدم من أن الأنبياء عليهم السلام يخرجون من قبورهم أي بأجسامهم وأرواحهم كما هو الظاهر ويتصرفون في الملكوت العلوي والسفلي فمما لا أقول به والخبر السابق الذي أخرجه إبن حبان والطبراني وأبو نعيم عن أنس وهو قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا قد أخرجوه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن خالد الأزرق عن الحسن بن يحيى الخشني عن سعيد بن عبدالعزيز عن يزيد بن أبي مالك عن أنس رضي الله تعالى عنه وقال فيه إبن حبان : هو باطل والخشني منكر الحديث جدا يروى عن الثقات مالا أصل له
وفي الميزان عن الدارقطني الخشني متروك ومن ثم حكم إبن الجوزي بوضع الحديث وهو مع ذلك بعض حديث والحديث بتمامه عند الطبراني ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا حتى ترد إليه روحه ومررت ليلة أسري بي بموسى وهو قائم يصلي في قبره وهو على هذا لا يدل على أنه بعد الأربعين لا يقيم في قبره بل يخرج منه وإنما يدل على أنه لا يبقى في القبر ميتا كسائر الأموات أكثر من أربعين صباحا بل ترد إليه روحه ويكون حيا وأين هذا من دعوى الخروج من القبر بعد الأربعين والحياة في القبر لا تستلزم الخروج وأنا أقول بها في حق الأنبياء عليهم السلام وقد ألف البيهقي جزا في حياتهم في قبورهم وأورد فيه عدة أخبار
ولا يضرني بعد ظهور أن الحديث السابق لا يدل على الخروج المنازعة في وصفه وبلوغه بماله من الشواهد درجة الحسن والأخبار المذكورة بعد فيما سبق المراد منها كلها إثبات الحياة في القبر بضرب من التأويل والمراد بتلك الحياة نوع من الحياة غير معقول لنا وهي فوق حياة الشهداء بكثير وحياة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أكمل وأتم من حياة سائرهم عليهم السلام وخبر ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله تعالى علي روحي حتى أرد عليه السلام محمول على إثبات إقبال خاص وإلتفات روحاني يحصل من الحضرة الشريفة النبوية إلى عالم الدنيا وتنزل إلى عالم البشرية حتى يحصل عند ذلك رد السلام وفيه توجيهات أخر مذكورة في محلها ثم إن تلك الحياة في القبر وإن كانت يترتب عليها بعض ما يترتب على الحياة في الدنيا المعروفة لنا من الصلاة والأذان والإقامة ورد السلام المسموع ونحو ذلك إلا أنها لا يترتب عليها كل ما يمكن أن يترتب على تلك الحياة المعروفة ولا يحس بها ولا يدركها كل أحد فلو فرض إنكشاف قبر نبي من الأنبياء عليهم السلام لا يرى الناس النبي فيه إلا كما يرون سائر الأموات الذين لم تأكل الأرض أجسادهم وربما يكشف الله تعالى على بعض عباده فيرى ما لا يرى الناس ولولا هذا لأشكل الجمع بين الأخبار الناطقة بحياتهم في قبورهم وخبر أبي يعلى وغيره بسند صحيح كما قال الهيثمي مرفوعا أن موسى نقل يوسف من قبره بمصر ثم إني أقول بعد هذا كله إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول وقد وقع إختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي عليه الصلاة و السلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية وفيهم أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما
(22/38)
وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية ولم يبلغنا أن أحدا منهم إدعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور : ليتني كنت سألت رسول الله عليه الصلاة و السلام عنه ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال وقد وقفت على إختلافهم في حكم الجد مع الإخوة فهل وقفت على أن أحدا منهم ظهر له الرسول فأرشده إلى ما هو الحق فيه وقد بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك فهل بلغك أنه عليه الصلاة و السلام ظهر لها كما يظهر للصوفية قبل لوعتها وهون حزنها وبين الحال لها وقد سمعت بذهاب عائشة رضي الله تعالى عنها إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل فهل سمعت تعرضه لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصي كثرة والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة و السلام لأحد من أصحابه وأهل بيته وهم هم مع إحتياجهم الشديد لذلك وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة إفتراء محض وبهت بحت
وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام ولا يحسن معنى أن أقول : كل ما يكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدعيه وكذا لا يحسن مني أن أقول : إنهم إنما رأوا النبي مناما فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة فقالوا : رأينا يقظة لما فيه من البعد ولعل في كلامهم ما يأباه وغاية ما أقول : إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السلام وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جدا وأنى يرى النجم تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد إنتشر ضوء الشمس في البقاع فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه ويمكن أن يقال : إنه لم يقع لحكمه الإبتلاء أو لخوف الفتنة أو لأن في القوم من هو كالمرآة له أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنته فيما يهمهم فيتسع باب الإجتهاد وتنتشر الشريعة وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد أو لنحو ذلك
وربما يدعى أنه عليه الصلاة و السلام ظهر ولكن كان متسترا في ظهوره كما روى أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول الله عليه الصلاة و السلام ولم ير صورة نفسه فهذا كالظهور الذي يدعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرأة وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى مرآته عليه الصلاة و السلام وملاحظة أنه كثيرا ما ظهرت فيها صورته حسبما ظنه إبن خلدون
فإن قبل قولي وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت وإلا فالأمر مشكل فأطلب لك ما يحله والله سبحانه الموفق للصواب
هذا وقيل يجوز أن يكون عيسى عليه السلام قد تلقى من نبينا عليه الصلاة و السلام أحكام شريعته المخالفة لما كان عليه هو من الشريعة حال إجتماعه معه قبل وفاته في الأرض لعلمه أنه سينزل ويحتاج إلى ذلك وإجتماعه معه كذلك جاء في الأخبار
(22/39)
أخرج إبن عدي عن أنس بينا نحن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا فقلنا يارسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد قال : قد رأيتموه قالوا : نعم قال : ذلك عيسى إبن مريم سلم علي وفي رواية إبن عساكر عنه كنت أطوف مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا ولم أره قلنا : يارسول الله صافحت شيئا ولا نراه قال : ذلك أخي عيسى إبن مريم إنتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه ومن هنا عد عليه السلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقيل : إنه عليه السلام بعد نزوله يتلقى أحكام شريعتنا من الملك بأن يعلمه إياها أو يوقفه عليها لا على وجه الإيحاء بها عليه من جهته عزوجل وبعثته بها ليكون في ذلك رسالة جديدة متضمنة نبوة جديدة وقد دل قوله تعالى : وخاتم النبيين على إنقطاعها بل على نحو تعليم الشيخ ما علمه من الشريعة تلميذه ومجرد الإجتماع بالملك والأخذ عنه وتكليمه لا يستدعي النبوة ومن توهم إستدعاء إياها فقد حادكما قال اللقانيعن الصواب فقد كلمت الملائكة عليهم السلام مريم وأم موسى في قول ورجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وبلغته أن الله عزوجل يحبه كحبه لأخيه فيه
وأخرج إبن أبي الدنيا في كتاب الذكر عن أنس قال : قال أبي بن كعب لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله تعالى بمحامد لم يحمده بها أحد فلما صلى وجلس ليحمد الله تعالى ويثني عليه إذا هو بصوت عال من خلف يقول : اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره لك الحمد إنك على كل شيء قدير أغفر لي ما مضى من ذنوبي وأعصمني فيما بقى من عمري وأرزقني أعمالا زاكية ترضى بها عني وتب علي فأتى رسول الله فقص عليه فقال : ذاك جبريل عليه السلام والأخبار طافحة برؤية الصحابة للملك وسماعهم كلامه وكفى دليلا لما نحن فيه قوله سبحانه : إن الذين قالوا ربنا الله ثم أستقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون الآية فإن فيها نزول الملك على غير الأنبياء في الدنيا وتكليمه إياه ولم يقل أحد من الناس : إن ذلك يستدعي النبوة وكون ذلك لأن النزول والتكليم قبيل الموت غير مفيد كما لا يخفى وقد ذهب الصوفية إلى نحو ما ذكرناه قال حجة الإسلام الغزالي في كتابهالمنقذ من الضلالاثناء الكلام على مدح أولئك السادة : ثم إنهم وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والإمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق
وقال تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه قانون التأويل : ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للإنسان طهارة النفس وتزكية القلب وقطع العلائق وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس والإقبال على الله تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرا كشفت له القلوب ورأى الملائكة وسمع كلامهم وأطلع على أرواح الأنبياء والملائكة وسماع كلامهم ممكن للمؤمن كرامة وللكافر عقوبة
ونسب إلى بعض أئمة أهل البيت أنه قال : إن الملائكة لتزاحمنا في بيوتنا بالركب والظاهر من كلامهم أن الإجتماع بهم والأخذ عنهم لا يكون إلا للكاملين ذوي النفوس القدسية وأن الإخلال بالسنة مانع كبير عن ذلك ويرشد إليه ما أخرجه مسلم في صحيحه عن مطرف قال : قال لي عمران بن حصين قد كان ملك يسلم على حتى أكتويت فترك ثم تركت الكي فعاد ويعلم مما ذكرنا أن مدعيه إذا كان مخالفا لحكم الكتاب والسنة كاذب لا ينبغي أن يصغى إليه ودعواه باطلة مردودة عليه فأين الظلمة من النور والنجس من الطهور ثم أنه لا طريق إلى معرفة كون المجتمع به ملكا بعد خبر الصادق سوى العلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى في العبد بذلك ويقطع بعدم كونه
(22/40)
ملكا متى خالف ما ألقاه وأتى به الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة ومثله فيما أرى التكلم بما يشبه الهذيان ويضحك منه الصبيان وينبغي لمن وقع له ذلك أن لا يشيعه ويعلن به لما فيه من التعرض للفتنة فقد أخرج مسلم عن مطرف أيضا من وجه آخر قال : بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال : إني محدثك فإن عشت فأكتم عني وإن مت فحدث بها إن شئت إنه قد سلم عليوفي رواية الحاكم في المستدركأعلم يامطرف أنه كان يسلم على الملايكة عند رأسي وعند البيت وعند باب الحجرة فلما أكتويت ذهب ذلك قال : فلما برأ كلمه قال : أعلم يامطرف أنه عاد إلى الذي كنت أكتم على حتى أموت وكذا ينبغي أن لا يقول لإلقاء الملك عليه إيحاء لما فيه من الإيهام القبيح وهو إيهام وحي النبوة الذي يكفر مدعيه بعد رسول الله بلا خلاف بين المسلمين وأطلق بعض الغلاة من الشيعة القول بالإيحاء إلى الأئمة إلاطهار وهم رضي الله تعالى عنهم بمعزل عن قبول قول أولئك الأشرار
فقد روى أن سديرا الصيرفي سأل جعفرا الصادق رضي الله تعالى عنه فقال : جعلت فداك إن شيعتكم أختلفت فيكم فأكثرت حتى قال بعضهم : إن الإمام ينكت في أذنه وقال آخرون : يوحى إليه وقال آخرون : يقذف في قلبه وقال آخرون : يرى في منامه وقال آخرون : إنما يفتى بكتب آبائه فبأي جوابهم آخذ يجعلني الله تعالى فداك قال : لا تأخذ بشيء مما يقولون ياسدير نحن حجج الله تعالى وأمناؤه على خلقه حلالنا من كتاب الله تعالى وحرامنا منه حكاه محمد بن عبدالكريم الشهرستاني في أول تفسيره مفاتيح الأسرار وقد ظهر في هذا العصر عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم بالبابية لهم في هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كل من أنتظم في سلك ذوي العقول وقد كاد يتمكن عرقهم في العراق لولا همة وإليه النجيب الذي وقع على همته وديانته الإتفاق حيث خذلهم نصره الله تعالى وشتت شملهم وغضب عليهم رضي الله تعالى عنه وأفسد عملهم فجزاه الله تعالى عن الإسلام خيرا ودفع عنه في الدارين ضيما وضيرا وأدعى بعضهم الوحي إلى عيسى عليه السلام بعد نزوله وقد سئل عن ذلك إبن حجر الهيثمي فقال : نعم يوحى إليه عليه السلام وحي حقيقي كما في حديث مسلم وغيره عن النواس بن سمعان وفي رواية صحيحة فبينما هو كذلك إذا وحي الله تعالى ياعيسى إني أخرجت عبادا لي لايد لأحد بقتالهم فحول عبادي إلى الطور وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السلام إذ هو السفير بين الله تعالى وأنبيائه لا يعرف ذلك لغيره وخبر لا وحي بعدي باطل وما أشتهر أن جبريل عليه السلام لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي فهو لا أصل له ويرده خبر الطبراني ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السلام فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه الله تعالى وهو على طهارة ولعل من نفي الوحي عنه عليه السلام بعد نزوله أراد وحي التشريع وما ذكر وحي لا تشريع فيه فتأمل
وكونه خاتم النبيين مما نطق به الكتاب وصدعت به السنة وأجمعت عليه الأمة فيكفر مدعي خلافه ويقتل أن أصر
ومن السنة ما أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وإبن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله قال : مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا بناه فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فإنا اللبنة وأنا خاتم النبيين وصح عن جابر مرفوعا نحو ذا وكذا عن أبي بن كعب وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم وللشيخ محيي الدين بن عربي
(22/41)
قدس سره كلام في حديث اللبنة قد إنتقده عليه جماعة من الأجلة فعليك بالتمسك بالكتاب والسنة والله تعالى الحافظ من الوقوع في المحنة ونصب رسول على إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه والواو عاطفة للجملة الإستدراكية على ما قبلها وكون لكن المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردا وجوز أن يكون النصب بالعطف على أبا أحد وقرأ عبدالوارث عن أبي عمرو لكن بالتشديد فنصب رسول على أنه أسم لكن والخبر محذوف تقديره ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو أي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقال الزمخشري : تقديره ولكن رسول الله من عرفتموه أي لم يعش له ولد ذكر وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه الدليل ومما جاء في لكن قول الشاعر : فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجيا عظيم المشافر أي ولكن زنجيا عظيم المشافر أنت وفيه بحث لا يخفى على ذي معرفة وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وإبن أبي عبلة بتخفيف لكن ورفع رسولوخاتم أي ولكن هو رسول ا لله إلخ كما قال الشاعر : ولست الشاعر السفاف فيهم ولكن مدرة الحرب العوالي أي ولكن أنا مدرة ؤكان الله بكل شيء أعم من أن يكون موجودا أو معدوما عليما 04 فيعلم سبحانه الأحكام والحكم التي بينت فيما سبق والحكمة في كونه عليه الصلاة و السلام خاتم النبيين
ياأيها الذين آمنوا أذكروا الله بما هو جل وعلا أهله من التهليل والتحميد والتمجيد والتقديس ذكرا كثيرا 14 يعم أغلب الأوقات والأحوال كما قال غير واحد وعن إبن عباس الذكر الكثير أن لا ينسى جل شأنه وروى ذلك عن مجاهد أيضا وقيل : أن يذكر سبحانه بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزه عما لا يليق به وعن مقاتل هو أن يقال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر على كل حال وعن العترة الطاهرة رضي الله تعالى عنهم من قال ذلك ثلاثين مرة فقد ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا وفي مجمع البيان عن الواحدي بسنده إلى الضحاك بن مزاحم عن إبن عباس قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يامحمد قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم فإنه من قالها كتب له بها ست خصال كتب من الذاكرين الله تعالى كثيرا وكان أفضل من ذكره بالليل والنهار وكن له غرسا في الجنة وتحاتت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة وينظر الله تعالى إليه ومن نظر الله تعالى إليه لم يعذبه كذا رأيته في مدونه فلا تغفل وقال بعضهم : مرجع الكثرة العرف
وسبحوه ونزهوه سبحانه عما لا يليق به بكرة وأصيلا 24 أي أول النهار وآخره وتخصيصهما بالذكر ليس لقصر التسبيح عليهما دون سائر ألأوقات بل لإنافة فضلهما على سائر الأوقات لكونهما تحضرهما ملائكة الليل والنهار وتلتقي فيهما كأفراد التسبيح من بين الأذكار مع إئدراجه فيها لكونه العمدة بينها وقيل : كلا الأمرين متوجه إليهما كقولك : صم وصل يوم الجمعة وبتفسير الذكر الكثير بما يعم أغلب الأوقات لا تبقى حاجة إلى تعلقهما بالأول وعن إبن عباس أن المراد بالتسبيح الصلاة أي بإطلاق الجزء على الكل والتسبيح بكرة صلاة الفجر والتسبيح أصيلا صلاة العشاء وعن قتادة نحو ما روى عن إبن عباس إلا أنه قال : أشار
(22/42)
بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر وهو أظهر مما روى عن الحبر وتعقب ما روى عنهما بأن فيه تجوزا من غير ضرورة وقد يقال : إن التسبيح على حقيقته لكن التسبيح بكرة بالصلاة فيها والتسبيح أصيلا بالصلاة فيه فتأمل
وجوز أن يكون المراد بالذكر المأمور به تكثير الطاعات والإقبال عليها فإن كل طاعة من جملة الذكر ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا أي الصلاة في جميع أوقاتها أو صلاة الفجر والعصر أو الفجر والعشاء لفضل الصلاة على غيرها من الطاعات البدنية ولا يخفى بعده هو الذي يصلي عليكم إلخ إستئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين وملائكته عطف على الضمير في يصلي لمكان الفصل المغنى عن التأكيد بالمنفصل لا على هو والصلاة في المشسهوروروى ذلك عن إبن عباسمن الله تعالى رحمة ومن الملائكة إستغفار ومن مؤمني الأنس والجن دعاء ويجوز على رأي من يجوز إستعمال اللفظ في معنيين أن يراد بالصلاة هنا المعنيان الأولان فيراد بها أولا الرحمة وثانيا الإستغفار ومن لا يجوز كأصحابنا يقول بعموم المجاز بأن يراد بالصلاة معنى مجازي عام يكون كلا المعنيين فردا حقيقيا له وهو إما الإعتناء بما فيه خير المخاطبين وصلاح أمرهم فإن كلا من الرحمة والإستغفار فرد حقيقي له وهذا المجاز من الصلاة بمعنى الدعاء وهو إما إستعارة لأن الإعتناء يشبه الدعاء لمقارنة كل منهما لإرادة الخير والأمر المحبوب أو مجاز مرسل لأن الدعاء مسبب عن الإعتناء وأما الترحم والإنعطاف المعنوي المأخوذ من الصلاة المعروفة المشتملة على الإنعطاف الصوري الذي هو الركوع والسجود ولا ريب في أن إستغفار الملائكة عليهم السلام ودعاءهم للمؤمنين ترحم عليهم وأما أن ذلك سبب للرحمة لكونهم مجابي الدعوة كما قيل ففيه بحث ورجح جعل المعنى العام ما ذكر بأنه أقرب لما بعد فإنه نص عليه فيه بقوله تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما فدل على أن المراد بالصلاة الرحمة وأعترض بأن رحم متعد وصلى قاصر فلا يحسن تفسيره به وبأنه يستلزم جواز رحم عليه وبأنه تعالى غاير بينهما بقوله سبحانه : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة للعطف الظاهر في المغايرة وأجيب بأنه ليس المراد بتفسير صلى برحم إلا بيان أن المعنى الموضوع له صلى هو الموضوع له رحم مع قطع النظر عن معنى التعدي واللزوم فإن الرديفين قد يختلفان في ذلك وهو غير ضار فزعم أن ذلك لا يحسن وأنه يلزم جواز رحم عليه ليس في محله على أنه يحسن تعدية صلى بعلى دون رحم لما في الأول من ظهور معنى التحنن والتعطف والعطف لأن الصلاة رحمة خاصة ويكفي هذا القدر من المغايرة وقيل : إن تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد فكأن الرحمة مرادة من لفظ والإستغفار مراد من آخر فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز وليس هناك إستعمال لفظ واحد حقيقة وحكما في معنيين وهو كما ترى ومثله كون ملائكته مبتدأ خبره محذوف لدلالة ما قبل عليه كأنه قيل هو الذي يصلي عليكم وملائكته يصلون عليكم فهناك لفظان حقيقة كل منهما بمعنى وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يزيدك علما بأمر الصلاة وسبب نزول الآية ما أخرجه عبد بن حميد وإبن المنذر قال : لما نزلت إن الله وملائكته يصلون على النبي قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : ما أنزل الله تعالى عليك خيرا إلا أشركنا فيه فنزلت هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور أي من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة وقال الطبرسي : من الجهل بالله تعالى إلى معرفته عزوجل فإن الجهل أشبه بالظلمة والمعرفة
(22/43)
أشبه شيء بالنور وقال إبن زيد : أي من الضلالة إلى الهدى وقال مقاتل : من الكفر إلى الإيمان وقيل : من النار إلى الجنة حكاه الماوردي وقيل : من القبور إلى البعث حكاه أبو حيان وليس بشيء واللام متعلقة بيصلي أي يعتني بكم هو سبحانه وملائكته ليخرجكم أو يترحم هو عزوجل وملائكته ليخرجكم بذلك من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما 34 إعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي كان سبحانه بكافة المؤمنين الذين أنتم من زمرتهم كامل الرحمة ولذا يفعل بكم ما يفعل بالذات وبالواسطة أو كان بكم رحيما على أن المؤمنين مظهر وضع موضع المضمر مدحا لهم وإشعارا بعلة الرحمة وقوله تعالى : تحيتهم يوم يلقونه سلام بيان للأحكام الآجلة لرحمته تعالى بهم بعد بيان آثارها العاجلة من الإخراج المذكور والتحية أن يقال : حياك الله أي جعل لك حياة وذلك إخبار ثم يجعل دعاء ويقال حيا فلان فلانا تحية إذا قال له ذلك وأصل هذا اللفظ من الحياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول الحياة أو سبب حياة إما لدنيا أو لآخرة
وهو هنا مصدر مضاف إلى المفعول وقع مبتدأ و سلام مراد به لفظه خبره والمراد ما يحييهم الله تعالى به ويقوله لهم يوم يلقونه سبحانه ويدخلون دار كرامته سلام أي هذا اللفظ روى أن الله تعالى يقول : سلام عليكم عبادي أنا عنكم راض فهل أنتم عني راضون فيقولون : بأجمعهم ياربنا إنا راضون كل الرضا وورد أن الله تعالى يقول : السلام عليكم مرحبا بعبادي المؤمنين الذين أرضوني في دار الدنيا بإتباع أمري وقيل : تحييهم الملائكة عليهم السلام بذلك إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم
وقيل : تحييهم عند الخروج من القبور فيسلمون عليهم ويبشرونهم بالجنة وقيل عند الموت
وروى عن إبن مسعود أنه قال : إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام قيل : فعلى هذا الهاء في يلقونه كناية عن غير مذكور وهو ملك الموت ولا ضرورة تدعو لذلك إذ لا مانع من أن يكون الضمير لله تعالى عليه كما هو كذلك على الأقوال الأخر جميعها ولقاء الله تعالى على ما أشار إليه الإمام عبارة عن الإقبال عليه تعالى بالكلية بحيث لا يعرض للشخص ما يشغله ويلهيه أو يوجب غفلته عنه عزوجل ويكون ذلك عند دخول الجنة وفيها وعند البعث وعند الموت
وقال الراغب : ملاقاة الله تعالى عبارة عن القيامة وعن المصير إليه عزوجل وقال الطبرسي : هي ملاقاة ثوابه تعالى وهو غير ظاهر على جميع الأقوال السابقة بل ظاهر على بعضها كما لا يخفى وعن قتادة في الآية أنهم يوم دخولهم الجنة يحيى بعضهم بعضا بالسلام أي سلمنا وسلمت من كل مخوف والتحية عليه على ما قال الخفاجي مصدر مضاف للفاعل وفي البحر هي عليه مصدر مضاف للمحيي والمحيي لا على جهة العمل لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلا مفعولا ولكنه كقوله تعالى : وكنا لكحمهم شاهدين أي للحكم الذي جرى بينهم
وكذا يقال هنا التحية الجارية بينهم هي سلام وقول المحيي في ذلك اليوم سلام إخبار لا دعاء لأنه أبلغ على ما قيل فتدبر وأحرى الأقوال بالقبول عندي أن الله تعالى يسلم عليهم يوم يلقونه إكراما لهم وتعظيما
وأعد لهم أجرا كريما 44 أي وهيأ عزوجل لهم ثوابا حسنا والظاهر أن التهيئة واقعة قبل دخول الجنة والتحية ولذا لم تخرج الجملة مخرج ما قبلها بأن يقال وأجرهم أجر كريم أي ولهم أجر كريم وقيل : هي بعد الدخول والتحية فالكلام بيان لآثار رحمته تعالى الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته
(22/44)
الواصلة إليهم قبل ذلك ولعل إيثار الجملة الفعلية على الأسمية المناسبة لما قبلها للمبالغة في الترغيب والتشويق إلى الموعود ببيان أن الأمر الذي هو المقصد الأقصى من بين سائر آثار الرحمة موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد أعمالهم وتتحمل عنهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولا فيما لهم وما عليهم وهو حال مقدرة وإن أعتبر الإرسال أمرا ممتدا لإعتبار التحمل والأداء في الشهادة والإرسال بذلك الإعتبار وإن قارن التحمل إلا أنه غير مقارن للأداء وإن أعتبر الإمتداد
وقيل : بإطلاق الشهادة على التحمل فقط تكون الحال مقارنة والأحوال المذكورة بعد على إعتبار الإمتداد مقارنة ولك أن لا تعتبره أصلا فتكون الأحوال كلها مقدرة ثم إن تحمل الشهادة على من عاصره وأطلع على عمله أمر ظاهر وأما تحملها على من بعده بإعيانهم فإن كان مرادا أيضا ففيه خفاء لأن ظاهر الأخبار أنه عليه الصلاة و السلام لا يعرف أعمال من بعده بإعيانهم روى أبو بكر وأنس وحذيفة وسمرة وأبو الدرداء عنه ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم أختلجوا دوني فأقول : يارب أصيحابي أصيحابي فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك نعم قد يقال : إنه عليه الصلاة و السلام يعلم بطاعات ومماض تقع بعده من أمته لكن لا يعلم أعيان الطائعين والعاصين وبهذا يجمع بين الحديث المذكور وحديث عرض الأعمال عليه صلى الله تعالى عليه وسلم كل أسبوع أو أكثر أو أقل وقيل : يجمع بأنه عليه الصلاة و السلام يعلم الأعيان أيضا إلا أنه نسى فقال : أصيحابي ولتعظيم قبح ما أحدثوا قيل له : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك وقيل : يعرض ما عدا الكفر وهو كما ترى وأما زعم أن التحمل على من بعده إلى يوم القيامة لما أنه حي بروحه وجسده يسير حيث شاء في أقطار الأرض والملكوت فمبني على ما علمت حاله ولعل في هذين الخبرين ما يأباه كما لا يخفى على المتدبر وأشار بعض السادة الصوفية إلى أن الله تعالى قد اطلعه صلى الله تعالى عليه وسلم على أعمال العباد فنظر إليها ولذلك أطلق عليه عليه الصلاة و السلام شاهد قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره العزيز في مثنويه : در نظر بودش مقامات العباد زان سبب نامش خدا شاهد نهاد فتأمل ولا تغفل وقيل : المراد شاهدا على جميع الأمم يوم القيامة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ودعوهم إلى الله تعالى وشهادته بذلك لما علمه من كتابه المجيد وقيل : المراد شاهدا بأن لا إله إلا الله ومبشرا تبشر الطائعين بالجنة ونذيرا 54 تنذر الكافرين والعاصين بالنار ولعموم الإنذار وخصوص التبشير قيل : مبشرا ونذيرا على صيغة المبالغة دون ومنذرا مع أن ظاهر عطفه على مبشرا يقتضي ذلك وقدم التبشير لشرف المبشرين ولأنه المقصود الأصلي إذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم رحمة للعالمين وكأنه لهذا جبر ما فاته من المبالغة بقوله تعالى : وبشر المؤمنين وداعيا إلى الله أي إلى الإقرار به سبحانه وبوحدانيته وبسائر ما يجب الإيمان به من صفاته وأفعاله عزوجل ولعل هذا هو مراد إبن عباس وقتادة من قولهما أي شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه أي بتسيهله وتيسيره تعالى وأطلق الأذن على التسهيل مجازا لما أنه من أسبابه لا سيما الأذن من
(22/45)
الله عزوجل ولم يحمل على حقيقته وإن صح هنا أن يأذن الله تعالى شأنه له عليه الصلاة و السلام حقيقة في الدعوة لأنه قد فهم من قوله سبحانه : إنا أرسلناك داعيا أنه مأذون له في الدعوة ومما ذكر يعلم أن بإذنه من متعلقات داعيا وقيدت الدعوة بذلك إيذانا بأنها أمر صعب المنال وخطب في غاية الإعضال لا يتأتى إلا بإسداد من جناب قدسه كيف لا وهو صرف للوجوه عن القبل المعبودة وإدخال للأعناق في قلادة غير معهودة وجوز رجوع القيد للجميع والأول أظهر وسراجا منيرا 64 يستضيء به الضالون في ظلمات الجهل والغواية ويقتبس من نوره أنوار المهتدين إلى مناهج الرشد والهداية وهو تشبيه إما مركب عقلي أو تمثيبل منتزع من عدة أمور أو مفرق وبولغ في الوصف بالإنارة لآن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته
وقال الزجاج : هو معطوف على شاهدا بتقدير مضاف أي ذا سراج منير وقال الفراء : إن شئت كان نصبا على معنى وتاليا سراجا منيرا وعليهما السراج المنير القرآن وإذا فسر بذلك إحتمل على ما قيل أن يعطف على كاف أرسلناك على معنى أرسلناك والقرآن إما على سبيل التبعية وإما من باب متقلدا سيفا ورمحا وقيل : إنه على تقدير تاليا سراجا يجوز هذا العطف أي إنا أرسلناك وتاليا سراجا كقوله تعالى : يتلو صحفا مطهرة على أنه الجامع بين الآمرين على نحو ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء أي ارسلنا بإرسالك تاليا
وجوز أن يراد وجعلناك تاليا وقيل : يجوز أن يراد بذا سراج القرآن وحينئذ يكون التقدير إنا أسرلناك وأنزلنا عليك ذا سراج وتعقب بأن جعل القرآن ذا سراج تعسف والحق أن كل ما قيل كذلك
وبشر المؤمنين عطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل : فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين وجوز عطفه على الخبر السابق عطف القصة على القصة وقيل : هو معطوف عليه ويجعل في معنى الأمر لأنه في معنى أدعهم شاهدا ومبشرا ونذيرا إلخ وبشر المؤمنين منهم بأن لهم من الله فضلا كبيرا 74 أي عطاء جزيلا وهو كما روى عن الحسن وقتادة الجنة وما أوتوا فيها ويؤيده قوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير وقيل : المعنى فضلا على سائر الأمم في الرتبة والشرف أو زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضل والإحسان
أخرج إبن جرير وإبن عكرمة عن الحسن قال : لما نزل ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر قالوا : يارسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله تعالى وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين نهى عن مداراتهم في أمر الدعوة ولين الجانب في التبليغ والمسامحة في الإنذار كنى عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في النهي والتنفير عن المنهي عنه بنظمها في سلكها وتصويره بصورتها وحمل غير واحد النهي على التهييج والإلهاب من حيث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يطعهم حتى ينهى وجعله بعضهم من باب إياك أعني وأسمعي ياجاره فلا تغفل
ودع أذاهم أي لا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارك إياهم وأصبر على ما ينالك منهم قاله قتادة أذاهم مصدر مضاف للفاعل وقال أبو حيان : الظاهر أنه مصدر مضاف للمفعول لما نهى صلى الله تعالى عليه وسلم عن طاعتهم أمر تبرك إيذائهم وعقوبتهم ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف وروى نحوه عن مجاهد والكلبي والأول أولى وتوكل على الله في كل ما تأتي وتذر من الشئون التي من جملتها هذا الشأن فإنه
(22/46)
عزوجل يكفيهم وكفى بالله وكيلا 84 موكولا إليه الأمور في كل الأحوال وإظهار الأسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحكم وتأكيد إستقلال الإعتراض التذييلي ولما وصف صلى الله تعالى عليه وسلم بنعوت خمسة قوبل كل واحد منها بخطاب بناسبه خلا أنه لم يذكر ما قابل الشاهد صريحا وهو الأمر بالمراقبة ثقة بظهور دلالة المبشر عليه وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر آنفا وقابل النذير بالنهي عن مداراة الكافرين والمنافقين والمسامحة في إنذارهم وقوبل الداعي بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث أنه عبارة عن الإستعداد منه تعالى والإستعانة به عزوجل وقوبل السراج المنير بالإكتفاء به تعالى فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية ورشحه للنبوة وجعله برهانا نيرا يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد حقيق بأن يكتفي به تعالى عمن سواه وجعل الزمخشري مقابل الشاهد وبشر المؤمنين ومقابل الإعراض عن الكافرين والمنافقين المبشر أعني المؤمنين وتكلف في ذلك
وقال الطيبي طيب الله تعالى ثرا : نظير هذه الآية ما روى البخاري : والإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة قال : والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يأايها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للمؤمنين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وروى الدارمي نحوه عن عبدالله بن سلام فقوله : حرزا للمؤمنين مقابل لقوله تعالى وداعيا إلى الله بإذنه فإن دعوته إنما حصلت فائدتها فيمن وفقه الله تعالى : بتيسيره وتسهيله فلذلك أمنوا من مكاره الدنيا وشدائد الآخرة فكان صلوات الله تعالى وسلامه عليه بهذا الإعتبار حرزا لهم وقوله سميتك المتوكل إلخ مقابل لقوله وسراجا منيرا فعلم أن قوله تعالى وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا مناسب لقوله تعالى وسراجا منيرا فإن السراج مضيء في نفسه ومنور لغيره فبكونه متوكلا على الله تعالى يكون كاملا في نفسه فهو مناسب لقوله : أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل إلى قوله : يعفو ويصفح وكونه منيرا يفيض الله تعالى عليه يكون مكملا لغيره وهو مناسب لقوله : حتى يقيم به الملة العوجاء إلخ ثم قال ويمكن أن ينزل المراتب على لسان أهل الفرقان فقوله تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا هو مقام الشريعة ودعوة الناس إلى الإيمان وترك الكفر ونتيجة الإعراض عما سوى الله تعالى والأخذ في السير والسلوك والإلتجاء إلى حريم لطفه تعالى والتوكل عليه عزوجل وقوله سبحانه : وسراجا منيرا هو مقام الحقيقة ونتيجته فناء السالك وقيامه بقيوميته تعالى ولا يخفى تكلف ما قرره في الحديث والله تعالى أعلم بمزاده
ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها عود إلى ذكر النساء والنكاح هنا العقد بالإتفاق وأختلفوا في مفهومه لغة فقيل هو مشترك بين الوطء والعقد إشتراكا لفظيا وقيل : حقيقة في العقد مجاز في الوطء وقيل : بقلبه وقيل هو مشترك بينهما إشتراكا معنويا وهو من افراد المشكك وحقيقته الضم والجمع كما في قوله : ضممت إلى صدري معطر صدرها كما نكحت أم الغلام صبيها ونقل المبرد ذلك عن البصريين وغلام ثعلب الشيخ عمرو الزاهد عن الكوفيين ثم المتبادر من لفظ الضم
(22/47)
تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها إعراض يتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه وهذا يقتضي كونه مجازا في العقد وإن أعتبر الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول جاز أن يكون النكاح حقيقة في كل من الوطء والعقد وجاز أن يكون مجازا على التفصيل المعروف في إستعمال العام في كل فرد من أفراده وأختار الراغب القول الثاني من الأقوال السابقة وبالغ في عدم قبول الثالث : فقال هو حقيقة في العقد ثم أستعير للجماع ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم أستعير للعقد لأن أسماء الجماع كلها كنايات لإستقباحهم ذكره كإستقباح تعاطيه ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا أسم ما يستفظعونه لما يستحسنه
وأختار الزمخشري الثالث فقال : النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث أنه طريق له ونظيره تسمية الخمر إثما لأنها سبب في إقتراف الإثم ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد لأنه في حق الوطء من باب التصريح به ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان وأراد على ما قيل إنه في العقد حقيقة شرعية منسي فيه المعنى اللغوي وبحث في قوله لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد بأنه في قوله تعالى حتى تنكح زوجا غيره بمعنى الوطء وهذا ما عليه الجمهور وخالف في ذلك إبن المسيب وتمام الكلام في موضعه والمس في الأصل معروف وكنى به هنا عن الجماع والعدة هي الشيء المعدود وعدة المرأة المراد بها الأيام التي بإنقضائها يحل لها التزوج أي ياأيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل أن تجامعوهن فما لكم عليهن من عدة بأيام يتربصن فيها بأنفسهن تستوفون عددها على أن تعتدون مطاوع عد يقال عد الدراهم فأعتدها أي أستوفى عددها نحو قولك كلته فأكتلته ووزنته فأتزنته أو تعدونها على أن أفتعل بمعنى فعل وإسناد الفعل إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج كما أشعر به قوله تعالى فما لكم وأعترض بأن المذكور في كتب الفروع كالهداية وغيرها أنها حق الشرع ولذا لا تسقط لو أسقطها الزوج ولا يحل لها الخروج ولو أذن لها وتتداخل العدتان ولا تداخل في حق العبد وحق الولد أيضا ولذا قال لا يحل لأمريء مؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع غيره وفرعوا على ذلك أنهما لا يصدقان في إبطالها بإتفاقهما على عدم الوطء
وأجيب بأنه ليس المراد أنها صرف حقهم بل أن نفعها وفائدتها عائدة عليهم لأنها لصيانة مياههم والأنساب الراجعة إليهم فلا ينافي أن يكون للشرع والولد حق فيها يمنع إسقاطها ولو فرض أنها صرف حقهم يجوز أن يقال : إن عدم سقوطها بإسقاطهم لا ينافي ذلك إلا إذا ثبت أن كل حق للعبد إذا أسقطه العبد سقط وليس كذلك فإن بعض حقوق العبد لا تسقط بإسقاطه كالإرث وحق الرجوع الهبة وخيار الرؤية ثم أن في الإستدلال بالحديث على أنها حق الولد تأملا كما لا يخفى وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه على أن المؤمن شأنه أن يتخير لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة وحاصله أنه لبيان الأحرى والأليق بعد ما فصل في البقرة نكاح الكتابيات وفائدة المجيء بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج أمرأة وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخى الطلاق له دخل في إيجاب العدة لإحتمال الملاقاة والجماع سرا كما أن له دخلا في النسب ويمكن أن تكون الإشارة إلى التراخي الرتبي فإن الطلاق وإن كان مباحا لا كراهة فيه على ما قيل لقوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن غير محبوب كالنكاح من حيث أنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة المؤدي لقلة التناسل الذي به تكثر الأمة ولهذا ورد
(22/48)
كما أخرج أبو داؤد وإبن ماجه والحاكم والطبراني وإبن عدي عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أبغض الحلال إلى الله الطلاق ورواه البيهقي مرسلا بدون إبن عمر بل قال العلامة إبن الهمام : ألاصح حظره وكراهته إلا لحاجة لما فيه من كفران نعمة النكاح وللأخبار الدالة على ذلك ويحمل لفظ المباح في الخبر المذكور على ما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داؤد ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق والفعل لا عموم له في الأزمان والحاجة المبيحة الكبر والريبة مثلا من المبيح عدم إشتهائها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه على جماعها مع عدم رضاها بإقامتها في عصمته من غير وطء أو قسم
وأما ما روى عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه فقال : أحب الغناء فقد قال تعالى وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته فهو رأي منه إن كان على ظاهره وكل ما نقل عن طلاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم فمحمله وجود الحاجة وظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة لأنه سبحانه نفى فيها وجوب العدة إذا طلقت قبل الجماع والخلوة ليست جماعا وهي عندنا إذا كانت صحيحة على الوجه المبين في كتب الفروع كالجماع في وجوب العدة فتجب فيه العدة إحتياطا لتوهم الشغل نظرا إلى التمكن الحقيقي بل قالوا هو مثله في جميع أحكامه سوى عشرة نظمها أفضل من عاصرناه من الفقهاء الشيخ محمد الأمين الشامي الشهير بإبن عابدين بقوله : وخلوته كالوطء في غير عشرة مطالبة بالوطء إحصان تحليل وفيء وارث رجعة فقد عنة وتحريم بنت عقد بكر وتغسيل وظاهر قولهم بوجوب العدة فيها أنها واجبة قضاء وديانة وفي الفتح قال العتابي : تكلم مشايخنا في العدة الواجبة بالخلوة الصحيحة أنها واجبة ظاهرا أو حقيقة فقيل : لو تزوجت وهي متيقنة بعدم الدخول حل لها ديانة لا قضاء ولم يتعقبه بشيء وذكره سعدي جلبي في حواشي البيضاوي وقال : ينبغي أن يكون التعويل على هذا القول وتعقب ذلك الشهاب الخفاجي بأنه وإن نقله فقهاؤنا فقد صرحوا بأنه لا يعول عليه ونحن لم نر هذا التصريح فليتبع ثم لا يخفى أن عدم وجوب العدة في الطلاق بعد الخلوة مما يعد منطوقا صريحا في الآية إذا فسر المس بالجماع وليس من باب المفهوم حتى يقال : إنا لا نقول به كما يتوهم فلابد لإثبات وجوب العدة في ذلك من دليل ومن الناس من حمل المس فيها على الخلوة إطلاقا لأسم المسبب إذا المس مسبب عن الخلوة عادة وأعترض بأنه لم يشتهر المس بمعنى الخلوة ولا قرينة في الكلام على إرادته منه وأيضا يلزم عليه أنه لو طلقها وقد وطئها بحضرة الناس عدم وجوب العدة لأنه قد طلقها قبل الخلوة وأجيب عن هذا بأن وجوب العدة في ذلك بالإجماع وبأن العدة إذا وجبت في الطلاق بمجرد الخلوة كانت واجبة فيه بالجماع من باب أولى وكيف لا تجب به ووجوبها بالخلوة لإحتمال وقوعه فيها لا لذاتها وقيل : إن المس لما لم يرد ظاهره وإلا لزمت العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها بيده في غير خلوة مع أنها لا تلزم في ذلك بلا خلاف علم أنه كنى به عن معنى آخر من لوازم الإتصال فهو الجماع وما في معناه من الخلوة الصحيحة وفيه نظر لأن عدم صحة إرادة ظاهره لا يوجب إرادة ما يعم الجماع والخلوة لم لا يجوز إرادة الجماع ويرجحها شهرة الكناية
(22/49)
بذلك ونحوه عن الجماع وإطلاقه عليه إما من إطلاق أسم السبب على المسبب أو من إطلاق أسم المطلق على أخص بخصوصه وهو الأوجه على ماذكره العلامة إبن الهمام وبالجملة القول بأن ظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة قول متين وحق مبين فتأمل
وفي البحر لأبي حيان الظاهر أن المطلقة إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها لا تتم عدتها من الطلقة الأولى لأنها مطلقة قبل الدخول بها وبه قال داؤد وقال عطاء وجماعة : تمضي في عدتها عن طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي وقال مالك : لا تبنى على العدة من الطلاق الأول وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني وهو قول جمهور فقهاء الأمصار والظاهر أيضا أنها لو كانت بائنا غير مبتونة فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فكالرجعية في قول داؤد ليس عليها عدة لا بقية عدة الطلاق الأول ولا إستئناف عدة للثاني ولها نصف المهر وقال الحسن : وعطاء وعكرمة وإبن شهاب ومالك والشافعي وعثمان البتي وزفر : لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف : لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدة مستقبلة جعلوها في حكم المدخول بها لإعتدادها من مائه وفيه أيضا الظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد فلا يصح طلاق من لم يعقد عليها وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين
وقالت طائفة كثيرة منهم مالك يصح ذلك وعني بطلاق من لم يعقد عليها قول الرجل كل أمرأة أتزوجها فهي طالق أو إن تزوجت فلانة فهي طالق
وقد أخرج جماعة عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن ذلك فقال : هو ليس بشيء فقيل له : إن إبن مسعود كان يقول إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال : أخطا في هذا وتلا الآية وفي بعض الروايات أنه قال : رحم الله تعالى أبا عبدالرحمن لو كان كما قال لقال الله تعالى : ياايها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن ولكن إنما قال إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن
وفي الدر المنثور عدة أحاديث مرفوعة ناطقة بأن لا طلاق قبل نكاح والمذكور في فروعنا أن ذلك من باب التعليق وشرطه الملك أو الإضافة إليه فإذا قال : إن نكحت أمرأة فهي طالق أو إن نكحتك فأنت طالق وكل أمرأة أنكحها فهي طالق يقع الطلاق إذا نكح لأن ذلك تعليق وفيه إضافة إلى الملك ويكفي معنى الشرط إلا في المعينة بأسم ونسب كما إذا قال : فلانة بنت فلان التي أتزوجها فهي طالق أو بإشارة في الحاضرة كما لو قال : هذه المرأة التي أتزوجها طالق فإنها لا تطلق في الصورتين لتعريفها فلغا الوصف بالتي أتزوجها فصار كأنه قال : فلانة بنت فلان أو هذه المرأة طالق وهي أجنبية ولم توجد الإضافة إلى الملك فلا يقع الطلاق إذا تزوجها فتدبر
وقريء تماسوهن بضم التاء وألف بعد الميم وعن إبن كثير وغيره من أهل مكة تعتدونها بتخفيف الدال ونقلها عن إبن كثير إبن خالويه وأبو الفضل الرازي في اللوامح عنه وعن أهل مكة وقال إبن عطية : روى إبن أبي بزة عن إبن كثير أنه قرأ بتخفيف الدال من العدوان كأنه قال : فمالكم عدة تلزمونها عدوانا وظلما لهن والقراءة الأولى أشهر عنه وتخفيف الدال وهم من إبن أبي بزة وليس بوهم إذ قد نقله عنه جماعة غيره وخرج ذلك على أن تعتدونها من الإعتداء بمعنى الظلم كما في قوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا والمراد تعتدون فيها كقوله : ويوما شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن الدراك نوافله
(22/50)
أي شهدنا فيه فحذف حرف الجر ووصل الفعل بالضمير وقال أبو حيان : إن الإعتداء يتعدى بعلي فالمراد تعتدون عليهن فيها ونظيره في حذف على قوله : تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفى الذي لولا الأسى لقضائي فإنه أراد لقضي على وجوز أن يكون ذلك على إبدال بالتاء وقيل عليه : إنه تخريج غير صحيح لأن عد يعد من باب نصر كما في كتب اللغة فلا وجه لفتح التاء لو كانت مبدلة من الدال فالظاهر حمله على حذف إحدى الدالين تخفيفا وقرأ الحسن بإسكان العين كغيره وتشديد الدال جمعا بين الساكنين فمتعوهن أي فأعطوهن المتعة وهي في المشهور درع أي قميص وخمار وهو ما تغطى به المرأة رأسها وملحفة وهي ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها ولعلها ما يقال له إزار اليوم وهذا على ما في البدائع أدنى ما تكسي به المرأة وتتستر عند الخروج
ويفهم من كلام فخر الإسلام والفاضل البر جندي أنه يعتبر عرف كل بلدة فيما تكسى به المرأة عند الخروج والمفتى به الأشبه بالفقه قول الخصاف إنها تعتبر بحالهما فإن كانا غنيين فلها الأعلى من الثياب أو فقيرين فالأدنى أو مختلفين فالوسط وتجب لمطلقة قبل الوطء والخلوة عند معتبرها لم يسم لها في النكاح تسمية صحيحة من كل وجه مهر ولا تزيد على نصف مهر المثل ولا تنقص عن خمسة دراهم فإن ساوت النصف فهي الواجبة وأن كان النصف أقل منها فالواجب الأقل إلا أن ينقص عن خمسة دراهم فيكمل لها الخمسة وفي البدائع لو دفع لها قيمة المتعة أجبرت على القبول فمعنى الآية على ما سمعت وكان الأمر للوجوب فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهن في النكاح وروى هذا عن إبن عباس وأما المفروض لها فيه إذا طلقت قبل المس فالواجب لها نصف المفروض لا غير
وأما المتعة فهي على ما في المبسوط والمحيط وغيرهما من المعتبرات مستحبة وعلى ما في بعض نسخ القدورىومشى عليه صاحب الدرر غير مستحبة أيضا والأرجح أنها مستحبة وفي قول الشافعي القديم أنها واجبة كما في صورة عدم الفرض وجوز أن تبقى الآية على ظاهرها ويكون المراد ذكر المطلقة قبل المس سواء فرض لها في النكاح أم لم يفرض ويراد بالمتعة العطاء مطلقا فيعم نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه ويكون الأمر للوجوب أيضا أو يراد بالمتعة معناها المعروف ويحمل الأمر على ما يشمل الوجوب والندب
وأدعى سعيد بن المسيب كما أخرج عبد بن حميد أن الآية منسوخة بآية البقرة وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم قال : فصار لها نصف الصداق ولا متاع لها وأنكر الحسن وأبو العالية النسخ وقالا لها نصف الصداق ولها المتاع
وجاء في رواية أخرى أخرجها عبد بن حميد عن الحسن أيضا أن لكل مطلقة متاعا دخل بها أم لم يدخل بها فرض لها أو لم يفرض وظاهره دعوى الوجوب في الكل وهو خلاف ما عندنا وقد علمت الحكم في صورتين وهو في الصورتين الباقيتين الإستحباب وأما دعوى النسخ فلا يخفى ما فيها والظاهر أن الفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها وقيل : فصيحة أي إذا كان كما ذكر فمتعوهن وسرحوهن أي أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة وأصل التسريح أن ترعى الإبل السرح وهو شجر له ثمرة ثم جعل لكل إرسال في الرعى ثم لكل إرسال وإخراج سراحا جميلا 94 مشتملا على كلام طيب عاريا عن أذى ومنع واجب وقيل : السراح الجميل أن لا يطالبوهن بما آتوهن وقال الجبائي هو الطلاق السني وليس بشيء لأن ذاك لعطفه على
(22/51)
التمتيع الواقع بعد الفاء مرتب على الطلاق فيلزم ترتب الطلاق السني على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن فلا يمكن أن يكون ذلك طلاقا مرتبا على الطلاق الأول لأن غير المدخول بهن لا يتصور فيها لحوق طلاق بعد طلاق آخر مع أنها إذا طلقت بانت ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن أي مهورهن كما قال مجاهد وغيره وأطلق الأجر على المهر لأنه أجر على الإستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الإستمتاع وتقييد الإحلال له بإعطائها معجلة كما يفهم من معنى آتيت ظاهرا ليس لتوقف الحل عليه بل لا يثار الأفضل له فإن في التعجيل براءة الذمة وطيب النفس ولذا كان سنة السلف لا يعرف منهم غيره وقال الإمام : من الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة و السلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولا وذلك لأن المرأة لها الإمتناع من تسليم نفسها إلى أن تأخذ المهر والنبي ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالا وكيف والنبي عليه الصلاة و السلام إذا طلب شيئا حرم الإمتناع فلو طلب التمكين قبل إيتاء المهر لزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا وفيه بحث لا يخفى وحمل الإيتاء على الإعطاء وما في حكمه كالتسمية في العقد وجعل التقييد لا يثار الأفضل أيضا فإن التسمية أولى من تركها وإن جاز العقد بدونها ولزم مهر المثل خلاف الظاهر
وأستدل أبو الحسن الكرخي من أصحابنا بقوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن على أن النكاح ينعقد بلفظ الإجارة كما ينعقد بلفظ التزويج ويكون لفظ الإجارة مجازا عنه لأن الثابت بكل منهما ملك منفعة فوجد المشترك ورد بأنه لا يلزم من تسمية المهر أجرا صحة النكاح بلفظ الإجارة وما ذكر من التجوز ليس بشيء لأن الإجارة ليست سببا لملك المنفعة حتى يتجوز بها عنه قاله في الهداية وقال بعضهم : إن الإجارة لا تنعقد إلا مؤقتة والنكاح يشترط فيه نفيه فيتضادان فلا يستعار أحدهما للآخر وتعقب بأنه إن كان المتضادان هما العرضين اللذين لا يجتمعان في محل واحد لزمكم مثله في البيع من كونه لا يجامع النكاح مع جواز العقد به عند الأصحاب على أن التحقيق أن التوقيت ليس بمفهوم لفظ الإجارة ولا جزأ منه بل شرط لإعتباره فيكون خارجا عنه فهو مجرد تمليك المنافع بعوض غير أنه إذا وقع مجردا لا يعتبر شرعا على مثال الصلاة فإنها الأقوال والأفعال المعروفة ولو وجدت من غير طهارة لا تعتبر ولا يقال : إن الطهارة جزء مفهوم الصلاة هذا ومثل تقييد إحلال الأزواج بما ذكر على ما قيل تقييد إحلال المملوكة بكونها ممن باشر سباءها وشاهده في قوله تعالى وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها لجواز كون السبي ليس في محله ولذا نكح بعض المتور عين الجواري بعقد بعد الشراء مع القول بعدم صحة العقد على الإماء وأستشكل ذلك بمارية بنت شمعون القبطية رضي الله تعالى عنها فإنها لم تكن مسببة بل أهداها له صلى الله تعالى عليه وسلم أمير القبط جريج بن مينا صاحب الأسكندرية ومصر وأجيب بأن هذا غير وارد لأن هدايا أهل الحرب للإمام لها حكم الفيء وقد يقال : إنه يستشكل بسرية له صلى الله تعالى عليه وسلم أخرى وهي جارية وهبتها له عليه الصلاة و السلام زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وكان هجرها عليه الصلاة و السلام في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه رضي عنها الله عنها ودخل عليها فقالت ما أدري ما أجزيك فوهبتها له وقد عدوها من سراريه صلى الله تعالى عليه
(22/52)
وسلم والجواب المذكور لا يتسنى فيها ولعل الجواب عن ذلك أنه عليه الصلاة و السلام تسراها بيانا للجواز ولا يبعد أنه كان متحققا بدء أمرها وما جرى عليها بحيث كأنه باشر سبيها وشاهده ويحتمل أنها كانت مما أفاء الله تعالى عليه عليه الصلاة و السلام فملكتها زينب ببعض أسباب الملك ثم وهبتها له صلى الله تعالى عليه وسلم
ومع ذلك قد اطلق له عليه الصلاة و السلام حل المملوكة بعد ولم يقيد بحسب الظاهر بكونها مما أفاء الله عليه في قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك
ثم إن هبة هذه الجارية كانت شهرة وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم والآية نزلت قبل لأنها نزلت إما سنة الأحزاب وهي السنة الخامسة من الهجرة وإما بعيد الفتح وهو السنة الثامنة منها وعلى هذا يكون ما وقع من أمر مارية متقدما على نزول الآية لأنها أهديت له صلى الله تعالى عليه وسلم السنة السابعة من الهجرة فإنه عليه الصلاة و السلام فيها أرسل رسله إلى الملوك ومنهم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي أرسله إلى المقوقس أمير القبط المتقدم ذكره فقدم منه بمارية وبأختها شيرين وبأخ أو بإبن عم لها خصى يقال له مابور وببغلة تسمى دلدلا وبحمار يسمى يعفورا أو عفيرا وبألف مثقال ذهبا وبغير ذلك فتدبر ومثل ما ذكر على ما قيل تقييد القرائب بكونها مهاجرات معه صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله سبحانه : وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك فهن أفضل من غيرهن والمعية للتشريك في الهجرة لا للمقارنة في الزمان كأسلمت مع سليمان قال أبو حيان : يقال دخل فلان معي وخرج معي أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان ولو قلت : خرجنا معا أقتضى المعنيين الإشتراك في الفعل والإقتران في الزمان وهو كلام حسن وحكى الماوردي قولا بأن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق وهو ضعيف جدا وقولا آخر بأنها شرط في إحلال قراباته عليه الصلاة و السلام المذكورات وأستدل له بما أخرجه بن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وإبن جرير وإبن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وإبن مردويه والبيهقي عن أم هانيء فاختة بنت أبي طالب قالت خطبني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأعتذرت إليه فعذرني فأنزل الله تعالى ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله سبحانه هاجرن معك قالت فلم أكن أخحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء وأجيب بأن عدم الحل لفقد الهجرة إنما فهم من قول أم هانيء فلعلها إنما قالت ذلك حسب فهمها إياه من الآية وهو لا ينتهض حجة علينا إلا إذا جاءت به رواية عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقال : إنه أخرج إبن سعد عن أبي صالح مولى أم هانيء قال : خطب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم هانيء بنت أبي طالب فقالت : يارسول الله إني مؤتمة وبني صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه عليه الصلاة و السلام فقال : أما الآن فلا إن الله تعالى أنزل على ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلىاللاتي هاجرن معك ولم تكن من المهاجرات وهو يدل على أنه نفسه صلى الله تعالى عليه وسلم فهم الحرمة وإلا لتزوجها لأنا نقول بعد تسليم صحة الخبر : لا نسلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم فهم الحرمة وعدم التزوج يجوز أن يكون لكونه خلاف الأفضل ويدل خبر أم هانيء على أن هذه الآية نزلت بعد الفتح فلا تغفل وأدعى بعضهم أن تحريم نكاح غير المهاجرة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم كان أولا ثم نسخ وعن قتادة أن معنى هاجرن معك أسلمن معك قيل : وعلى هذا لا يحرم عليه عليه الصلاة و السلام إلا الكافرات وهو في غاية البعد كما لا يخفى والظاهر أن المراد بأزواجك اللاتي أتيت مهورهن
(22/53)
نساؤه صلى الله تعالى عليه وسلم اللاتي كن في عصمته وقد آتاهن مهورهن كعائشة وحفصة وسودة وبما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك نحو ريحانة بناء على ما قاله محمد إبن إسحاق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما فتح قريظة أصطفاها لنفسه فكانت عنده حتى توفيت عنده وهي في ملكه ووافقه في ذلك غيره أخرج الواقدي بسنده إلى أيوب بن بشير قال إنه عليه الصلاة و السلام أرسل بها إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر فكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها فجاءت أم المنذر فأخبرته صلى الله تعالى عليه وسلم فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها : إن أحببت أن أعتقك وأتزوجك فعلت وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطأك بالملك فعلت فقالت : يارسول الله أحب أن أخف عليك وأن أكون في ملكك فكانت في ملك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يطؤها حتى ماتت وذهب بعضهم إلى أنه عليه الصلاة و السلام أعتقها وتزوجها وأخرج ذلك الواقدي أيضا عن إبن أبي ذئب عن الزهري ثم قال : وهذا الحديث أثبت عندنا : وروى عنها أنها قالت : لما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكنت فيمن عرض عليه فأمر بي فعزلت وكان له صفي كل غنيمة فلما عزلت خار الله تعالى لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل الأسرى وفرق السبي فدخل علي صلى الله تعالى عليه وسلم فتجنبت منه حياء فدعاني فأجلسني بين يده فقال : إن أخترت الله ورسوله أختارك رسول الله لنفسه فقلت : إني أختار الله تعالى ورسوله فلما أسلمت أعتقني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتزوجني وأصدقني إثنتي عشرة أوقية ذهبا كما كان يصدق نساءه وأعرس بي في بيت أم النذز وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه وضرب على الحجاب ولم يذكر إبن الأثير غير القول بإعتاقها وتزوجها ومنهم من ذهب إلى أنها أسلمت فأعتقها عليه الصلاة و السلام فلحقت بأهلها وكانت تحتجب عندهم وتقول : لا يراني أحد بعد رسول الله وحكى لحوقها بأهلها عن الزهري وأدعى بعضهم بقاءها حية بعده عليه الصلاة و السلام وأنها توفيت سنة ست عشرة أيام خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وذكر إبن كمال في تفسيره لبيان الموصول صفية وجويرية والمذكور في أكثر المعتبرات في أمرهما أن صفية لما جمع سبي خيبر أخذها دحية وقد قال له : أذهب فخذ جارية ثم أخبر عليه الصلاة و السلام أنها لا تصلح إلا له لكونها بنت سيد قومه فقال لدحية : خذ غيرها وأخذها رسول الله وأعتقها وتزوجها وكان صداقها نفسها وأن جويرية في غزوة بني المصطلق وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري فكاتبته على نفسها ثم جاءت إلى رسول الله فقالت : يارسول الله أنا جويرية بنت الحرث وكان من أمري مالا يخفى عليك ووقعت في سهم ثابت إبن قيس وإني كاتبت نفسي فجئت أسألك في كتابتي فقال عليه الصلاة و السلام فهل لك إلى ما هو خير : قالت وما هو يارسول الله قال : أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت : قد فعلت وقال إبن هشام ويقال إشتراها من ثابت وأعتقها وتزوجها وأصدقها أربعمائة درهم ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد إحلال ما ملكت يمينه حين الملك من حيث أنه ملك له وإن لم يحصل وطء بالفعل يدخل جميع ما ملكه عليه الصلاة و السلام من الجواري حين الملك ولا يضر الإعتاق والتزوج بعد ذلك وحل الوطء بسبب النكاح لا الملك وإن كان المراد إحلال ذلك مع وقوع الوطء لالفعل ووصف الملك قائم لا يصح بيان الموصول إلا بمملوكة وطئها عليه الصلاة و السلام وهي ملكه كريحانة في قول وجارية أصابها في بعض السبي وعدوها من سراريه ولم يذكر المعظم أسمها وعد الجلبي من سراريه عليه الصلاة و السلام جارية سماها زليخة القرظية فلعلها هي
(22/54)
التي لم تسم وكمارية القبطية والجارية التي وهبتها له عليه الصلاة و السلام زينب وقد سمعت الكلام فيهما آنفا والمراد ببنات عمه وبنات عماته بنات القرشيين وبنات القرشيات فإنه يقال للقرشيين قربوا أو بعدوا أعمامه وللقرشيات قربن أو بعدن عماته عليه الصلاة و السلام والمراد ببنات خاله وبنات خالاته بنات بني زهرة ذكورهم وإناثهم وإلى هذا ذهب الطبرسي في مجمع البيان ولم يذكر غيره وإطلاق الأعمام والعمات على أقارب الشخص من جهة أبيه ذكورا وإناثا قربوا أو بعدوا والأخوال والخالات على أقاربه من جهة أمه كذلك شائع في العرف كثير في الإستعمال
واللاتي نكحهن ودخل بهن صلى الله تعالى عليه وسلم من القرشيات ست وكان نكاحه بعضهن قبل نزول الآية بيقين ونكاحه بعضهن الآخر محتمل للقبلية والبعدية كما لا يخفى على من راجع كتب السير وسمع ما قيل في وقت نزول الآية ولم نقف على أنه عليه الصلاة و السلام نكح أحدا من الزهريات أصلا فالمراد بإحلال نكاح أولئك مجرد جوازه وهو لا يستدعي الوقوع وإذا حمل العم على أخي الأب والعمة على أخته والخال على أخي الأم والخالة على أختها أقتضى ظاهر الآية أن يكون له عم وعمة وخال وخالة كذلك وأن يكون لهم بنات وذلك مشهور في شأن العم والعمة وبناتهما فقد ذكر معظم أهل السير عدة أعمام له وعدة بنات لهم كالعباس ومن بناته أم حبيبة تزوجها أسود المخزومي وكان قد خطبها رسول الله على ما قيل فوجد أباها أخاه من الرضاعة كان قد أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب وكأبي طالب ومن بناته أم هانيء وقد سمعت ما قيل في شأنها وجمانة كانت إحدى المبايعات له صلى الله تعالى عليه وسلم وكانت تحت أبي سفيان بن الحرث عمها وكأبي لهب ومن بناته خالدة تزوجها عثمان بن أبي العاصي الثقفي وولدت له ودرة أسلمت وهاجرت وكانت تحت الحرث إبن نوفل ثم تحت دحية الكلبي وعزة تزوجها أو في بن أمية وكالزبير ومن بناته ضباعة زوجة المقداد بن الأسود وأم الحكم ويقال أنها أخته عليه الصلاة و السلام من الرضاعة وكان يزورها بالمدينة وكحمزة ومن بناته أمامة لما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عمرة القضاء أتى بها من مكة وزوجها سلمة بن أم سلمة ومقتضى قول القسطلاني أن حمزة أخوه صلى الله تعالى عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما ثويبة بلبن إبنها مسروح أنها لا تحل له عليه الصلاة و السلام بل ذكر هو أيضا أنها عرضت عليه فقال هي إبنة أخي من الرضاعة وكالحرث ومن بناته أروى زوجة أبي وداعة وكالمقوم ومن بناته من أسمها أروى أيضا زوجة إبن عمها أبي سفيان بن الحرث وذكروا أيضا له صلى الله تعالى عليه وسلم عدة عمات وعدة بنات لهن منهن أميمة ومن بناتها زينب أم المؤمنين وهي التي نزل فيها قوله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها وأم حبيبة وكانت زوجة عبدالرحمن إبن عوف وحمنة وكانت عند مصعب بن عمير ثم عند طلحة أحد الشعرة ومنهن البيضاء ومن بناتها أروى أم عثمان رضي الله تعالى عنه وأم طلحة بنتا كريز بن ربيعة ومنهن عاتكة ومن بناتها قريبة بنت زاد الراكب أبي أمية إبن المغيرة ومنهن صفية ومن بناتها صفية بنت الحرث بن حارثة وأم حبيبة بنت العوام بن خويلد وأما الخال والخالة فلم يشتهر ذكرهما نعم ذكر في الإصابة فريعة بنت وهب الزهرية رفعها النبي وقال : من أراد أن ينظر إلى خالة رسول الله فلينظر إلى هذه وفيها أيضا فاختة بنت عمرو الزهرية خالة النبي
أخرج الطبراني من طريق عبدالرحمن بن عثمان الوقاصي عن إبن المنكدر عن جابر سمعت رسول الله
(22/55)
يقول : وهبت خالتي فاختة بنت عمرو غلاما وأمرتها أن لا تجعله جازرا ولا صائغا ولا حجاما والوقاصي ضعيف
وقال : في صفية بنت عبدالمطلب هي شقيقة حمزة أمهما هالة خالة رسول الله أي هالة بنت وهب كما في المواهب ولم نقف لهذه الخالة على بنت غير صفية عمته عليه الصلاة و السلام وكذا لم نقف على بنات لمن ذكرنا قبلها ووقفنا على خال واحد له عليه الصلاة و السلام وهو عبد يغوث بن وهب ولم نقف على بنت له وإنما وقفنا على إبنين أحدهما الأرقم وله إبن يسمى عبالله وهو صحابي كتب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولصاحبيه وكان على بيت المال في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وكان أثيرا عنده حتى أن حفصة روت عنه أنه قال لها : لولا أن ينكر على قومك لأستخلفت عبدالله بن الأرقم وقيل : هو إبن عبد يغوث والأرقم هو عبد يغوث والبخاري على ما قلنا وقد أسلم يوم الفتح وقال بعضهم فيه : خال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن الناس من ذكر لعبدالله هذا أخا سماه عبدالرحمن بن الأرقم وأثبت له الصحبة وفي ذلك مقال وثانيهما الأسود وأطلق عليه النبي عليه الصلاة و السلام أسم الخال فقد روى أنه كان أحد المستهزئين به صلى الله تعالى عليه وسلم فقصد جبريل عليه السلام إهلاكه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : ياجبريل خالي فقال : دعه عنك وله إبن هو عبدالرحمن وبنت هي خالدة وكانت من المهاجرات الصالحات وقد أطلق عليها أيضا أسم الخالة
أخرج المستغفري من طريق أبي عمير الجرمي عن معمر عن الزهري عن عبيدالله مرسلا قال : دخل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منزله فرأى عند عائشة أمرأة فقال : من هذه ياعائشة قالت : هذه إحدى خالاتك فقال : أن خالاتي بهذه البلدة لغرائب فقالت : هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال : سبحان الذي يخرج الحي من الميت قرأها مثقلة
وأخرج موسى بن إبراهيم عن أبيه عن أبي سلمة عن عائشة موصولا نحوه وفي هذا الخبر وما قبله إطلاق الخال والخالة على قرابة الأم وإن لم يكن الخال أخاها والخالة أختها وبذلك يتأيد ما ذكرناه سابقا فأحفظ ذاك والله تعالى يتولى هداك وإياك أن تظن الأمر فرضيا أو أن الخطاب وإن كان خاصا في الظاهر عام في الحقيقة فيكفي وجود بنات خال وبنات خالات لغيره عليه الصلاة و السلام كما يظن ذلك من يشهد العم بجهله ويصدق الخال عقله هذا وقد كثر السؤال عن حكمة أفراد العم والخال وجمع العمة والخالة حتى أن السبكي على ما قيل صنف جزأ فيه سماه الهمة في أفراد العم وجمع العمة
قال الخفاجي : وقد رأيت لهم فيه كلمات ضعيفة كقول الرازي إن العم والخال على زنة المصدر ولذا لم يجمعا بخلاف العمة والخالة وقيل لم يجمعا ليعما إذا أضيفا والعمة والخالة لا يعمان لتاء الوحدة وهي إن لم تمنع العموم حقيقة تأباه ظاهرا ولا يأبى ذلك قوله تعالى : في سورة النور بيوت أعمامكم وبيوت عماتكم لأنه على الأصل ثم قال : وأحسن منه ما قيل إن أعمامه صلى الله تعالى عليه وسلم العباس وحمزة رضي الله تعالى عنهما أخواه من الرضاع لا تحل له بناتهما وأبو طالب إبنته أم هانيء لم تكن مهاجرة وما أدعى ضعفه فهو كما قال وما زعم أنه أحسن منه إن كان كما نقلناه بهذا المقدار خاليا عن إسقاط شيء حسبما وجدناه في نسختنا فهو مما لا حسن فيه فضلا عن كونه أحسن وإن كان له تتمة فالنظر فيه بعد الإطلاع عليها إليك وأظنه على العلات ليس بشيء
(22/56)
وقال بعض الأجلة المعاصرين من العلماء المحققين لازال سعيد زمانه سابقا بالفضل على أقرانه : يحتمل أن يكون إفراد العم لأنه بمنزلة الأب بل قد يطلق عليه الأب ومنه في قول : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر والأب لا يكون إلا واحدا فكان الأفراد أنسب بمن ينزل منزلته ويكون جمع العمة على الأصل وإفراد الخال ليكون على وفق العم وجمع الخالة وإن كانت بمنزلة الأم لتكون على وفق العمات ويحتمل أن يكون إفراد المدكر وجمع المؤنث لقلة الذكور وكثرة الإناث وقد ورد في الآثار ما يدل على أن النساء أكثر من الرجال
وقال آخر من أؤلئك الأجلة لا زالت مدارس العلم تزهو به وتشكر فضله : إن ذلك لما فيه من الحسن اللفظي فإن بين العم والعمات والخال والخالات نوعا من الجناس ولأن أعمامه عليه الصلاة و السلام كانوا على ماذكره صاحب ذخائر العقبى إثني عشر عما وعماته كن ستا فلو قيل أعمامك لتوهم أنهم أقل من إثني عشر لأنه جمع قلة وغاية ما يصدق هو عليه تسعة أو عشرة على قول ولو قيل : عمتك لم تتحقق الإشارة إلى قلتهن فلذا أفرد العم وجمعت العمة وقيل : خالك وخالاتك ليوافق ما قبل وأنا أقول : الذي يغلب على ظني في ذلك ما حكاه أبو حيان عن القاضي أبي بكر بن العربي من أن ما ذكر عرف لغوي على معنى أنه جرى عرف اللغويين في مثل ذلك على إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ونحن قد تتبعنا كثيرا من أشعار العرب فلم نر العم مضافا إليه إبن أو بنت بالأفراد أو الجمع إلا مفردا نحو قوله : جاء شقيق عارضا رمحه
إن بنى عمك فيهم رماح وقوله : فتى ليس لإبن العم كالذئب إن رأى
بصاحبه يوما دما فهو آكله وقوله : قالت بنات العم ياسلمي وإن
كان فقيرا معدما قالت وإن وقوله : يابنت عما لا تلومي وأهجعي
فليس يخلو عنك يوما مضجعي إلى ما لا يحصى كثرة وأما أطراد إفراد الخال وجمع العمة والخالة إذا أضيف إليها ما ذكر فلست على ثقة من أمره فإذا كان الأمر في المذكورات كالأمر في العم فليس فوق هذا الجواب جواب والظن بالقاضي أنه لم يحكم بما حكم إلا عن بينة مع أني لا أطلق القول بعدم قبول حكم القاضي بعلمه ولا أفتي به نعم لهذا القاضي حكم مشهور في أمر الحسين رضي الله تعالى عنه ولعن من رضى بقتله لا يرتضيه إلا يزيد زاد الله عزوجل عليه عذابه الشديد وعلى تقدير كون الأمر في العم ومن معه كما قال يحتمل أن يكون الداعي لإفراد العم والخال الرجوع إلى اصل واحد مع ما بين الذكور من جهة العمومة والخؤلة في حق الشخص المدلي بهما من التناصر والتساعد فلذلك ترى الشخص يهرع لدفع بليته إلى ذكور عمومته وخؤلته وذلك التعاضد يجعل المتعدد في حكم الواحد ويقوي هذا الإعتبار هنالك إضافة الفرع كالبنين والبنات إلى ذلك ولعل في الإفراد مع جمع المضاف المذكور إشارة إلى أن البنين والبنات وإن كانوا بنين وبنات لمتعددين في نفس الأمر إلا أنهم في حكم البنين والبنات لواحد وأن كل واحد من الأعمام والأخوال لمزيد شفقته على أبناء وبنات كل كأنه أب لأبناء وبنات كل وهذا الذي ذكرناه لا يوجد في العمات والخالات ولا يرد عليه جمع العم والخال في آية النور كما لا يخفى على من له أدنى نور يهتدي به إذا أشكلت الأمور ويمكن أن يقال في الحكمة ههنا خاصة : أنه لما كان المفرد
(22/57)
أصلا والمجموع فرعه والمذكر أصلا والمؤنث فرعه أتى بالعم والخال المذكرين مفردين وبالعمة والخالة المؤنثين مجموعين فأجتمع في الأولين أصلان وفي الأخيرين فرعان بحكم شبيه الشيء منجذب إليه وإن الطيور على أشباهها تقع وما ألطف هذا الإجتماع في منصة مقام النكاح لما فيه من الإشارة إلى الكفاءة وأن المناسب ضم الجنس إلى جنسه كما يقتضيه بعض الآيات وهو لعمري ألطف من جمع المذكر وإفراد المؤنث ليجتمع في كل أصل وفرع فيوافق ما في النكاح من إجتماع ذكر هو أصل وأنثى هي فرع لخلوه عن الإشارة إلى ذلك الضم المناسب المستحسن عند كل ذي رأي صائب على أن في جمع أصلين في العم موافقة لما في النكاح من جمع الزوجين الذين هما أصلان لما يتولد منهما وإذا أعتبر جمعهما في الخال الذي قرابته من جهة الأم التي لا تعتبر في النسب وافق الجملة ما في النكاح من إجتماع أصل وفرع فلا يفوت ذلك بالكلية على ما في النظم الجليل
وأيضا في الإنتقال من الأفراد إلى الجمع في جانبي العمومة والخؤلة إشارة إلى ما في النكاح من إنتقال كل من الزوج والزوجة من حال الإنفراد إلى حال الإجتماع فلله تعالى در التنزيل هذا ما عندي وهو زهرة ربيع لا تتحمل الفرك ومع هذا قسه إلى ما سمعت عن ساداتنا المعاصرين وأختر لنفسك ما يحلو والله تعالى أعلم بأسرار كتابه
وأمرأة مؤمنة بالنصب عطفا على مفعول أحللنا عند جمع وليس معنى أحللنا إنشاء لا حلال الناجز ولا الأخبار عن إحلال ماض بل إعلام بمطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق فلا يعكر على ذلك الشرط وهذا كما تقول أبحت لك أن تكلم فلانا إن سلم عليك ولما فيه من البحث قال بعضهم : إنه نصب بفعل يفسره ما قبل أي ويحل لك أمرأة أو وأحللنا لك أمرأة وهو مستقبل لمكان الشرط وقرأ أبو حيوة بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي وأمرأة مؤمنة أحللناها لك أيضا إن وهبت نفسها للنبي أي ملكته المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر
وقرأ أبي والحسن والشعبي وعيسى وسلام أن وهبت بفتح الهمزة أي لأن وهبت وقيل : أي وقت أن وهبت أو مدة أن وهبت فتكون أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب على الظرفية وأكثر النحاة لا يجيزونه في غير المصدر الصريح كآتيك خفوق النجم وغير ما المصدرية وجوز أن يكون المصدر بدلا من أمرأة وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما إذ وهبت وإذ ظرف لما مضى وقيل : هي مثلها في قوله تعالى : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون إن أراد النبي أن يستنكحها أي يتملك المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر وهذا شرط للشرط الأول في إستيجاب الحل فهبتها نفسها منه لا يوجب له حلها إلا بإرادته نكاحها وهذه الإرادة جارية مجرى قبول الهبة وقال إبن كمال : الإرادة المذكورة عبارة عن القبول ولا وجه لحملها على الحقيقة لأن قوله تعالى : يستنكحها يغني عن الإرادة بمعناه الوضعي وهو يشير إلى أن السين للطلب وكلام بعض الأجلة على هذا حيث قال : إرادة طلب النكاح كناية عن القبول
وقيل : أستفعل هنا بمعنى فعل فالإستنكاح بمعنى النكاح لئلا يتوهم التكرار وفيه نظر وأستظهر صاحب هذا القيل حمل الإرادة على الإرادة المتقدمة على الهبة بناء على أن التركيب يقتضي تقدم هذا الشرط فقد قالوا : إذا أجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ متقدم في الوقوع وهو بمنزلة الحال ومن هنا قال :
(22/58)
الفقهاء : لو قال : إن ركبت إن أكلت فأنت طالق لا تطلق ما لم يتقدم الآكل على الركوب ليتحقق تقييد الحالية
وأستشكل السمين هذه القاعدة بما هنا بناء على أنهم جعلوا ذلك الشرط بمنزلة القبول لإقتضاء الواقع ذلك ثم ذكر أنه عرضه على علماء عصره فلم يجدوا مخلصا منه إلا بأن هذه القاعدة ليست بكلية بل مخصوصة بما لم تقم قرينة على تأخر الثاني كما في نحو إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حرفان الطلاق لا يتقدم التزوج وما نحن فيه من هذا القبيل ثم قال : فمن جعل الشرط الثاني هنا مقدما لم يصب ورأيت في الفن السابع من الأشباه والنظائر النحوية للجلال السيوطي عليه الرحمة كلاما لإبن هشام ذكر فيه أن جعل الآية كالمثال ونظمهما في سلك مسئلة إعتراض الشرط على الشرط هو ما ذهب إليه جماعة منهم إبن مالك وذهب هو إلى أن المثال من مسئلة الإعتراض المذكور دون الآية وأحتج عليه بما أحتج ثم ذكر الخلاف في صحة تركيب ما وقع فيه الإعتراض كالمثال وأن الجمهور على جوازه وهو الصحيح وأن المجيزين أختلفوا في تحقيق ما يقع به مضمون الجواب الواقع بعد الشرطين على ثلاثة مذاهب أحدهما أنه إنما يقع بمجموع أمرين أحدهما حصول كل من الشرطين والآخر كون الشرط الثاني واقعا قبل وقوع الأول ففي المثال لا يقع الطلاق إلا بوقوع الركوب والأكل من تقدم وقوع الأكل على الركوب وذكر أن هذا مذهب الجمهور وثانيهما أنه يقع بحصول الشرطين مطلقا وذكر أنه حكاه له بعض العلماء عن إمام الحرمين وأنه رآه محكيا عن غيره بعد وثالثهما أنه يقع بوقوع الشرطين على الترتيب فإنما تطلق في المثال إذا ركبت أولا ثم أكلت وأبطل كلا من المذهبين الأخيرين وذكر في توجيه التركيب على المذهب الأول مذهبين الأول مذهب الجمهور أن الجواب المذكور للشرط الأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه ولإغناء ذلك عنه وقيامه مقامه لزم في وقوع المعلق على ذلك أن يكون الثاني واقعا قبل الأول ضرورة أن الجواب لا بد من تأخره عن الشرط فكذا الأمر في القائم مقام الشرط والثاني مذهب إبن مالك أن الجواب المذكور للأول والثاني لا جواب له مذكور ولا مقدر لأنه مقيد للأول تقييده بحال واقعة موقعه فالمعنى في المثال إن ركبت آكلة فأنت طالق وفيه أنه خارج عن القياس وأنه لا يطرد في إن قمت إن قعدت فأنت طالق وأن الشرط بعيد عن مذهب الحال لمكان الإستقبال
وبالجملة قد أطال الكلام في هذه المسألة وهي مسئلة شهيرة ذكرها الأصوليون وغيرهم وفيما ذكرنا فيها إكتفاء بأقل اللازم ههنا فتأمل
وأكثر العلماء على وقوع الهبة وأختلفوا في تعيين الواهبة فعن إبن عباس وقتادة وعكرمة هي ميمونة بنت الحرث الهلالية وفي المواهب يقال : إن ميمونة وهبت نفسها للنبي وذلك أن خطبته عليه الصلاة و السلام إنتهت إليها وهي على بعيرها فقالت : البعير وما عليه لله ولرسوله وكان ذلك سنة سبع بعد غزوة خيبر وبنى عليها عليه الصلاة و السلام بسرف على عشرة أميال من مكة وعليه تكون إرادة النكاح سابقة على الهبة فيضعف به قول السمين : وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما والضحاك ومقاتل هي أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية قال في الصفوة : والأكثرون على أنها هي التي وهبت نفسها للنبي فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت وفي الدر المنثور عن منير بن عبدالله الدوسي أنه عليه الصلاة و السلام قبلها وعن عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة من الأنصار كانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم وكان ذلك في سنة ثلاث ولم
(22/59)
تلبث عنده إلا قليلا حتى توفيت رضي الله تعالى عنها
وأخرج إبن أبي حاتم وإبن مردويه والبيهقي في السنن عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : التي وهبت نفسها للنبي خولة بنت حكيم وقد أرجأها عليه الصلاة و السلام فتزوجها عثمان بن مظعون بإذنه وقال بعضهم : يجوز تعدد الواهبات فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عروة بن الزبير قال : كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجى من تشاء منهن قالت عائشة : يارسول الله ما أرى بك إلا يسارع لك في هواك فقوله : من اللاتي وهبن أنفسهن صريح في تعددهن وأنكر بعضهم وقوع الهبة وقيل : إن قوله تعالى : إن وهبت يشير إلى عدم وقوعها وأنها أمر مفروض وكذا تنكير أمرأة فالمراد الأعلام بالإحلال في هذه الصورة أن أتفقت وأنكر بعضهم القبول
أخرج إبن سعد عن إبن أبي عون أن ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي ووهبن نساء أنفسهن فلم نسمع أن النبي قبل منهن أحدا وما أخرجه إبن جرير وإبن أبي حاتم والطبراني وإبن مردويه والبيهقي في السنن عن إبن عباس قال : لم يكن عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمرأة وهبت نفسها له يحتمل نفي القبول ويحتمل نفي الهبة وإيراده صلى الله تعالى عليه وسلم في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الإلتفات للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه الصلاة و السلام حسب إختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى خالصة لك من دون المؤمنين ويتضمن ذلك الإشارة إلى أن هبة من تهب لم تكن حرصا على الرجال وقضاء الوطر بل على الفوز بشرف خدمته صلى الله تعالى عليه وسلم والنزول في معدن الفضل وبذلك يعلم أن قول عائشة : ما في المرأة وهبت نفسها لرجل خير وكذا إعتراضها السابق صادر من شدة غيرتها رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا بدع فالمحب غيور وقد قال بعض المحبين : أغار إذا آنست في الحي أنة حذارا وخوفا أن تكون لحبه ونصب خالصة على أنه مصدر مؤكد للجملة قبله وفاعلة في المصادر على ما قال الزمخشري غير كالعافية والكاذبة وأدعى أبو حيان عزتها والكثير على تعلق ذلك بإحلال الواهبة أي خلص لك إحلالها خالصة أي خلوصا وقال الزجاج : هو حال من أمرأة لتخصصها بالوصف أي أحللناها خالصة لك لا تحل لأحد غيرك في الدنيا والآخرة
وقال أبو البقاء : هو حال من ضمير وهبت أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة وقريء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذاك خلوص لك وخصوص أو هي أي تلك المرأة أو الهبة خالصة لك لا تتجاوز المؤمنين
وأستدل الشافعية رضي الله تعالى عنهم به على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة و السلام بالمعنى فيختص باللفظ وقال بعض أجلة أصحابنا في ذلك : إن المراد بالهبة في الآية تمليك المتعة بلا عوض بأي لفظ كان لا تمليكها بلفظ وهبت نفسي فحيث لم يكن ذلك نصا في التمليك بهذا اللفظ لم يصلح لأن يكون مناطا للخلاف في إنعقاد النكاح بلفظ الهبة إيجابا وسلبا ومعنى خلوص الإحلال المذكور له صلى الله تعالى عليه وسلم من دون المؤمنين كونه متحققا في حقه غير متحقق في حقهم إذ لا بد في
(22/60)
الإحلال لهم من مهر المثل
وظاهر كلام العلامة إبن الهمام إعتبار لفظ الهبة حيث قال في الفتح : قد ورد النكاح بلفظ الهبة وساق الآية ثم قال : والأصل عدم الخصوصية حتى يقوم دليلها وقوله تعالى خالصة لك يرجع إلى عدم المهر بقرينة إعقابه بالتعليل بنفي الحرج ليس في ترك لفظ إلى غيره خصوصا بالنسبة إلى أفصح العرب بل في لزوم المال وبقرينة وقوعه في مقابلة المؤتى أجورهن فصار الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهرا خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم إلخ من المهر وغيره وأبدى صدر الشريعة جواز كونه متعلقا بأحللنا قيدا في إحلال أزواجه له صلى الله تعالى عليه وسلم لإفادة عدم حلهن لغيره صلى الله تعالى عليه وسلم إنتهى وجوز بعضهم كونه قيدا في إحلال الإماء أيضا لإفادة عدم حل إمائه كأزواجه لأحد بعده عليه الصلاة و السلام وبعض آخر كونه قيدا لإحلال جميع ما تقدم على القيود المذكورة أي خلص إحلال ما أحللنا لك من المذكورات على القيود المذكورة خلوصها من دون المؤمنين فإن إحلال الجميع على القيود المذكورة غير متحقق في حقهم بل المتحقق فيه إحلال بعض المعدود على الوجه المعهود وأختاره الزمخشري وأياما كان فقوله تعالى : قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم إعتراض بين المتعلق والمتعلق والأول على جميع الأوجه قوله سبحانه : لكيلا يكون عليك حرج والثاني على الوجه الأخير وهو تعلق خالصة بجميع ما سلف من الإحلالات الأربع قوله تعالى خالصة وهو مؤكد معنى إختصاصه عليه الصلاة و السلام بما أختص به بأن كلا من الإختصاص عن علم وأن هذه الحظوة مما يليق بمنصب الرسالة فحسب فالمعنى أن الله تعالى قد علم ما ينبغي من حيث الحكمة فرضه على المؤمنين في حق الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة ينبغي أن يفرض عليهم ففرضه وأختصك سبحانه بالتنزيه وإختيار ما هو أولى وأفضل في دنياك حيث أحل جل شأنه لك أجناس المنكوحات وزاد لك الواهبة نفسها من غير عوض لئلا يكون عليك ضيق في دينك وهو على الوجه الأول الذي ذكرناه وهو تعلق خالصة بالواهبة خاصة قوله عزوجل : إنا أحللنا وهو الذي أستظهره أبو حيان وأمر الإعتراض عليه في حاله وبعضهم يجعل المتعلق خالصة على سائر الأوجه والتعلق به بإعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له صلى الله تعالى عليه وسلم لا بإعتبار إختصاصه به عليه الصلاة و السلام لأن مدار إنتفاء الحرج هو الأول لا الثاني الذي هو عبارة عن عدم ثبوته لغيره صلى الله تعالى عليه وسلم
وقال إبن عطية : إن لكيلا إلخ متعلق بمحذوف أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لئلا يكون عليك حرج ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك عزوجل فلا إعتراض على هذا ولا يخلو عن إعتراض فتدبر ولا تغفل
وكان الله غفورا أي كثير المغفرة فيغفر ما يشاء مما يعسر التحرز عنه وغيره رحيما 05 أي وافر الرحمة ومن رحمته سبحانه أن وسع الأمر في مواقع الحرج ترجى من تشاء منهن أي تؤخر من تشاء من نسائك وتترك مضاجعها وتؤوي إليك من تشاء وتضم إليك من تشاء منهن وتضاجعها وروى هذا عن قتادة
وعن إبن عباس والحسن أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء وقال بعضهم : الإرجاء والإيواء
(22/61)
لإطلاقهما يتناولان ما في التفسيرين وما ذكر فيهما فإنما هو من باب التمثيل ولا يخلو عن حسن وفي رواية عن الحسن أن ضمير منهن لنساء الأمة والمعنى تترك نكاح من تشاء من نساء أمتك فلا تنكح وتنكح منهن من تشاء
وقال : كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خطب أمرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يتركها وعن زيد بن أسلم والطبري أنه للواهبات أنفسهن أي تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء منهن فلا تقبلها وعن الشعبي ما يقتضيه فقد أخرج إبن سعد والبيهقي في السنن وغيرهما عنه قال : كن نساء وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن فلم يقربن حتى توفي عليه الصلاة و السلام ولم ينكحن بعده منهن أم شريك فذلك قوله تعالى ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ويشهد لما تقدم من رجوعه إلى النساء ما أخرج إبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم وغيرهم عن أبي رزين قال : هم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك أفرض لنا من نفسك ومالك ما شئت فأنزل الله تعالى الآية فأرجأ منهن نسوة وكان ممن أرجأ ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي الله تعالى عنهن أجمعينوقرأ إبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر وأبو بكر ترجيء بالهمزة وهو عند الزجاج أجود والمعنى واحد ومن أبتغيت أي طلبت من عزلت أي تجنبت وحمل هذا التجنب على ما كان بطلاق ومن شرطية منصوبة بما بعدها وقوله تعالى فلا جناح عليك جوابها أي من طلبتها ممن طلقت فليس عليك أثم في طلبها أو موصولة والجملة خبرها أي والتي طلبتها لا جناح عليك في طلبها والمراد نفي أن يكون عليه عليه الصلاة و السلام أثم في إرجاع المطلقة وقيل من موصولة معطوفة على من يشاء الثاني والمراد به غير المطلقة ومعنى فلا جناح عليك فلا إثم عليك في شيء مما ذكر من الإرجاء والإيواء والإبتغاء والمراد تفويض ذلك إلى مشيئته صلى الله تعالى عليه وسلم
وقال بعضهم : المراد به ما كان بترك مضاجعة بدون طلاق والمقصود من الآية بيان أن له ترك مضاجعة من شاء من نسائه ومضاجعة من شاء منهن أي ممن لم يكن أرجأها وترك مضاجعتها والرجوع إلى مضاجعة من ترك مضاجعتها وأعتزلها فمن عزل هي المرجأة وأفاد صاحب الكشاف أن الآية متضمنة قسمة جامعة لما هو الفرض لأنه إما أن يطلق وأما أن يمسك وإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق وعزل فأما أن يخلى المعزولة لا يبتغيها أو يبتغيها وإنفهام الطلاق والإمساك بإقسامه بواسطة إطلاق الإرجاء والإيواء في قوله تعالى : ترجى من تشاء منهن وتؤوي وإنفهام إبتغاء المعزولة من قوله سبحانه ومن أبتغيت إلخ ومتى فهم أن لا جناح في إبتغاء المعزولة بالطلاق وردها إلى النكاح فهم منه أن رفع النكاح في عدم ردها من طريق الأولى ولقد أجاد فيما أفاد وجوز بعضهم أن يكون من مبتدأ وفي الكلام معطوف وخبر محذوفان أي ومن أبتغيت ممن عزلت ومن لم تعزلإ سواء وقوله سبحانه : فلا جناح عليك تأكيد لذلك ولا يخفى بعده وتعسفه وقال الحسن : معنىومن إبتغيتإلخ من مات من نسائك اللواتي عندك أو خليت سبيلها فلا جناح عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك كذا في البحر وكأنه جعل من المبدل كالتي في قوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ومن عزلت شاملا لمن ماتت ومن طلقت وكلاهما بعيد وثانيهما
(22/62)
أبعد من أولهما بكثير ومثله إعتبار ما أعتبره من القيود وبالجملة هو قول تبعد نسبته إلى الحسن وأبعد من ذلك نسبته إلى ترجمان القرآن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما كما في الدر المنثور
ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن أي تفويض الأمر إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وسرورهن ورضاهن جميعا لأنه حكم كلهن فيه سواء ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهن وروى هذا عن قتادة والمراد بما آتيتهن عليه ما صنعت معهن فيتناول ترك المضاجعة والقسم وعن إبن عباس ومجاهد أن المعنى أنهن إذا علمن أن لك ردهن إلى فراشك بعد ما أعتزلتهن قرت أعينهن ولم يحزن ويرضين بما تفعله من التسوية والتفضيل لأنهن يعلمن أنك لم تطلقهن وظاهره جعل المشار إليه العلم بأن له صلى الله تعالى عليه وسلم الإيواء وأظهر منه في ذلك قول الجبائي ذلك العلم منهن بأنك إذا عزلت واحدة كان لك أن تؤويها بعد ذلك أدنى لسرورهن وقرة أعينهن
وقال بعض الأجلة : كون الإشارة إلى التفويض أنسب لفظا لأن ذلك للبعيد وكونها إلى الإيواء أنسب معنى لأن قرة عيونهن بالذات إنما هي بالإيواء فلا تغفل والأعين جمع قلة وأريد به ههنا جمع الكثرة وكأن إختياره لأنه أوفق بكمية الأزواج وقرأ إبن محيصن تقر من أقر وفاعله ضميره و أعينهن بالنصب على المفعولية
وقريء تقر مبنيا للمفعول وأعينهن بالرفع نائب الفاعل و كلهن بالرفع في جميع ذلك وهو توكيد لنون يرضين
وقرأ أبو أياس جوية بن عائذ كلهن بالنصب تأكيدا لضميره في آتيتهن قال إبن جني : وهذه القراءة راجعة إلى معنى قراءة العامة كلهن بضم اللام وذلك أن رضاهن كلهن بما أوتين كلهن على إنفرادهن وإجتماعهن فالمعنيان أذن واحد إلا أن للرفع معنى وذلك أن فيه إصراحا من اللفظ بأن يرضين كلهن والأصراح في القراءة الشاذة إنما هو في إتيانهن وإن كان محصول الحال فيهما واحدا مع التأويل إنتهى وقال الطيبي : في توكيد الفاعل دون المفعول إظهار لكمال الرضا منهن وإن لم يكن الإيتاء كاملا سويا وفي توكيد المفعول إظهار إنهن مع كمال الإيتاء غير كاملات في الرضا والأول أبلغ في المدح لأن فيه معنى التتميم وذلك أن المؤكد يرفع إيهام التجوز عن المؤكد إنتهى فتأمل والله يعلم ما في قلوبكم خطاب له ولأزواجه المطهرات على سبيل التغليب
والمراد بما في القلوب عام ويدخل فيه ما يكون في قلوبهن من الرضا بما دبر الله تعالى في حقهن من تفويض الأمر إليه صلى الله تعالى عليه وسلم ومقابل ذلك وما في قلبه الشريف عليه الصلاة و السلام من الميل إلى بعضهن دون بعض والكلام بعث على الإجتهاد في تحسين ما في القلوب ولعل إعتباره صلى الله تعالى عليه وسلم في الخطاب لتطييب قلوبهن وفي الكشاف أن هذا وعيد لمن لم يرض منهن بما دبر الله تعالى من ذلك وفوض سبحانه إلى مشيئة رسوله عليه الصلاة و السلام وبعث على تواطيء قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وطيب نفسه الكريمة والظاهر أنه غير قائل بدخوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الخطاب وحينئذ فأما أن يقول : إنه عام لهن ولسائر المؤمنين وإما أن يقول بأنه خاص بهن ولعله ظاهر كلامه وعليه لا يظهر وجهه التذكير وربما يقال على الأول : إن المقام غير ظاهر في إقتضاء دخول سائر المؤمنين في الخطاب وقال إبن عطية : الإشارة بذلك ههنا إلى ما في قلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ويدخل في المعنى المؤمنون وربما يتخيل أن الخطاب لجميع المكلفين والكلام بعث على تحسين
(22/63)
ما في القلوب في شأن ما دبر الله تعالى لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم في أمر أزواجه ونفي الخواطر الرديئة بأن يظن أن ذاك هو الذي تقتضيه الحكمة وأنه دليل على كمال المحبوبية ولا يتوهم خلافه فإن بعض الملحدين طعنوا كالنصارى في كثرة تزوجه عليه الصلاة و السلام وكونه في أمر النساء على حال لم يبح لأمته من حل جمع ما فوق الأربع وعدم التقيد بالقسم لهن مثلا وزعموا أن في ذلك دليلا على غلبة القوة الشهوية فيه عليه الصلاة و السلام وذلك مناف لتقدس النفس الذي هو من شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فجزموا والعياذ بالله تعالى بنفي نبوته وأن ما فعله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن منه تعالى بل ليس ذلك إلا منه عليه الصلاة و السلام ولا يخفى أن قائلي ذلك على كفرهم جهلة بمراتب الكمال صم عن سماع آثاره عليه الصلاة و السلام ومن سبر الأخبار علم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أكمل الأنبياء على الإطلاق لغاية كمال بشريته وملكيته وآثار الكمال الأول تزوج ما فوق الأربع والطواف عليهن كلهن في الليلة الواحدة وآثار الكمال الثاني أنه عليه الصلاة و السلام كثيرا ما كان يبيت ويصبح لا يأكل ولا يشرب وهو على غاية من القوة وعدم الإكتراث بترك ذلك وليس لأحد من الأنبياء عليهم السلام إجتماع هذين الكمالين حسب إجتماعهما فيه عليه الصلاة و السلام لتكثره النساء حكمة دينية جليلة أيضا وهي نشر أحكام شرعية لا تكاد تعلم إلا بواسطتهن مع تشييد أمر نبوته فإن النساء لا يكدن يحفظن سرا وهن أعلم الناس بخفايا أزواجهن فلو وقف نساؤه عليه الصلاة و السلام على أمر خفي منه يخل بمنصب النبوة لأظهرنه وكيف يتصور إخفاؤه بينهن مع كثرتهن
وكل سر جاوز الإثنين شاع
وفي عدم إيجاب القسم عليه عليه الصلاة و السلام تأكيد لذلك كما لا يخفى على المنصف وكان الله عليما مبالغا في العلم فيعلم كل ما يبدي ويخفى حليما 15 مبالغا في الحلم فلا يعجل سبحانه بمقابلة من يفعل خلاف ما يحب حسبما يقتضيه فعله من عتاب أو عقاب أو فيصفح عما يغلب على القلب من الميول ونحوها هذا وفي البحر أتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة و السلام كان يعدل بين أزواجه المطهرات في القسمة حتى مات ولم يستعمل شيئا مما أبيح له ضبطا لنفسه وأخذا بالأفضل غير ما جرى لسودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك وأخرج إبن أبي حاتم عن إبن شهاب أنه قال لم يعلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرجأ منهن شيئا ولا عز له بعد ما خيرن فأخترنه
وأخرج الشيخان وأبو داؤد والنسائي وغيرهم عن عائشة أن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية ترجى من تشاء منهن فقيل لها : ما كنت تقولين قالت : كنت أقول له إن كان ذاك إلى فإني لا أريد أن أوثر عليك أحدا فتأمله مع حكاية الإتفاق السابق والله تعالى الموفق
لا يحل لك النساء بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي وقد وقع بفصل أيضا والمراد بالنساء الجنس الشامل للواحدة ولم يؤت بمفرد لأنه لا مفرد له من لفظه والمرأة شاملة للجارية وليست بمرادة وإختصاص النساء بالحرائر بحكم العرف وقرأ البصريان بالتاء الفوقية وسهل وأبو حاتم يخير فيهما وأيا كان ما كان فالمراد يحرم عليك نكاح النساء من بعد قيل أي من بعد التسع اللاتي في عصمتك اليوم أخرج إبن سعد عن عكرمة قال : لما خير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أزواجه أخترنه فأنزل الله تعالى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي
(22/64)
أخترنكأخترنك أي لقد حرم عليك تزويج غيرهن وأخرج أبو داؤد في ناسخه وإبن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال لما خيرهن فأخترن الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم قصره عليهن فقال سبحانه لا يحل لك النساء من بعد وأخرج إبن مردويه عن إبن عباس أنه قال في الآية حبسه الله تعالى عليهن كما حبسهن عليه عليه الصلاة و السلام وقدر بعضهم المضاف إليه المحذوف إختيارا أي من بعد إختيارهن الله تعالى ورسوله
وقال الإمام : هو أولى وكان ذلك لكونه أدل على أن التحريم كان كرامة لهن وشكرا على حسن صنيعهن
وجوز آخر أن يكون التقدير من بعد اليوم وماله تحريم من عدا اللاتي أخترنه عليه الصلاة و السلام
وحكى في البحر عن إبن عباس وقتادة قال : لما خيرن فأخترن الله تعالى ورسوله جازاهن أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ونسخ سبحانه بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء وحكى أيضا عن مجاهد وإبن جبير أن المعنى من بعد إباحة النساء على العموم وقيل التقدير من بعد التسع على معنى أن هذا العدد مع قطع النظر عن خصوصية المعدود نصابه من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن فالمعنى لا يحل لك الزيادة على التسع ولا أن تبدل أصله تتبدل فخفف بحذف إحدى التاءين أي ولا يحل لك أن تستبدل بهن من أزواج بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى ففي الآية حكمان حرمة الزيادة وحرمة الإستبدال وظاهره أنه يحل له عليه الصلاة و السلام نكاح أمرأة أخرى على تقدير أن تموت واحدة من التسع وإذا كان المراد من الآية تحريم من عدا اللاتي أخترنه عليه الصلاة و السلام أفادت الآية أنه لو ماتت واحدة منهن لم يحل له نكاح أخرى وكلام إبن عباس السابق ظاهر في ذلك جدا وكأن قوله تعالى ولا أن تبدل إلخ عليه لدفع توهم أن المحرم ليس إلا أن يرعهن صلى الله تعالى عليه وسلم بواحدة من الضرائر
وفي رواية أخرى عن عكرمة أن المعنى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء اللاتي سمى الله تعالى لك في قوله سبحانه ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الآية فلا يحل له صلى الله تعالى عليه وسلم ما وراء الأجناس الأربعة كالأعرابيات والغرائب ويحل له منها ماشاء وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه وغيرهما عن إبن عباس ما هو ظاهر في ذلك حيث قال في الخبر وقال تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك إلى قوله سبحانه خالصة لك وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء وأخرج عبدالله بن أحمد في زوائد المسند وإبن جرير وإبن المنذر والضياء في المختارة وغيرهم عن زياد قال : قلت لأبي بن كعب لاضي الله تعالى عنه أرأيت لو أن أزواج النبي عليه الصلاة و السلام متن أما يحل له أن يتزوج قال : وما يمنعه من ذلك قلت : قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد فقال : إنما أحل له ضربا من النساء ووصف له صفة فقال سبحانه ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله تعالى وأمرأة مؤمنة إلخ ثم قال تبارك وتعالى لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة وعلى هذا القول قال الطيبي : يكون قوله سبحانه ولا أن تبدل إلخ تأكيدا لما قبله من تحريم غير ما نص عليه من الأجناس الأربعة وكأن ضمير بهن للأجناس المذكورة في قوله تعالى ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الآية والمعنى لا يحل لك أن تترك هذه الأجناس وتعدل عنها إلى أجناس غيرها وقال شيخ الإسلام أبو السعود عليه الرحمة بعد ما حكى القول المذكور يأباه قوله تعالى : ولا أن تبدل بهن إلخ فإن المعنى إحلال الأجناس المذكورة إحلال
(22/65)
نكاحهن فيكون التبدل بهن إحلال نكاح غيرهن بدل إحلال نكاحهن وذلك إنما يتصور بالنسخ الذي هو ليس من الوظائف البشرية إنتهى فتأمل ولا تغفل وقيل ولا أن تبدل من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل بادلني بأمرأتك وأبادلك بأمرأتي فينزل كل واحد منهما عن أمرأته للآخر وروى نحوه عن إبن زيد وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية وقالوا ما فعلت العرب ذاك قط وما روى من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين دخل عليه بغير إستئذان وعنده عائشة : من هذه الحميراء فقال : عائشة فقال عيينة : يارسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالا ونسبا فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما أحتقر عائشة رضي الله تعالى عنها لأنها كانت إذ ذاك صبية ومن مزيد لتأكيد الإستغراق فيشمل النهي تبدل الكل والبعض وقوله تعالى ولو أعجبك حسنهن في موضع الحال فاعل تبدل والتقدير مفروضا إعجابك بهن وحاصله ولا تبدل بهن من أزواج على كل حال وظاهر كلام بعضهم أنه لا يجوز أن يكون حالا من مفعوله أعني أزواجا وعلل ذلك بتوغله في التنكير وتعقب بأنه مخالف لكلام النحاة فإنهم جوزوا الحال من النكرة إذا وقعت منفية لأنها تستغرق حينئذ فيزول إبهامها كما صرح به الرضى
وقيل إن التنكير مانع من الحالية ههنا لأن الحال تقاس بالصفة والواو مانعة من الوصفية فتمنع من الحالية ومنع لزوم القياس مع أن الزمخشري وغيره جوزوا دخول الواو على الصفة لتأكيد لصوقها وقيل في عدم جواز ذلك إن ذا الحال إذا كان نكرة يجب تقديمها ولم تقدم ههنا وتعقب بأن ذلك غير مسلم في الجملة المقرونة بالواو لكونه بصورة العاطف وأستظهر صاحب الكشف الجواز وذكر أن المعنى في الحالين لا يتفاوت كثير تفاوت لأنه إذا تقيد الفعل لزم تقيد متعلقاته وإنما الإختلاف في الإصالة والتبعية وضمير حسنهن للأزواج والمراد بهن من يفرضن بدلا من أزواجه اللاتي في عصمته عليه الصلاة و السلام فتسميتهن أزواجا بإعتبار ما يعرض مآلا وهذا بناء على أن باء البدل في بهن داخلة على المتروك دون المأخوذ فلو أعتبرت داخلة على المأخوذ كان الضمير للنساء لا للأزواج وممن أعجبه صلى الله تعالى عليه وسلم حسنهن على ما قيل أسماء بنت عميس الخثعمية أمرأة جعفر بن أبي طالب بعد وفاته رضي الله تعالى عنه وفي قوله سبحانه : ولو أعجبك حسنهن على ما نقل عن إبن عطية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها وفي الأخبار أدلة على ذلك وتفصيل الأقوال فيه في كتب الفروع وأختلف في أن الآية الدالة على عدم حل النساء له هل هي محكمة أم لا فعن أبي بن كعب وجماعة منهم الحسن وإبن سيرين وأختاره الطبري وأستظهره أبو حيان أنها محكمة وعن علي كرم الله تعالى وجهه وإبن عباس وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما والضحاك عليه الرحمة أنها منسوخة وروى ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها
أخرج أبو داؤد في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه أيضا وإبن المنذر وغيرهم عنها قالت : لم يمت رسول الله حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم لقوله سبحانه : ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء وهذا ظاهر في أن الناسخ قوله تعالى ترجى إلخ وهو مبني على أن المعنى تطلق من تشاء وتمسك من تشاء ووجه النسخ به على هذا التفسير أنه يدل بعمومه على أنه أبيح له الطلاق والإمساك لكل من يريد فيدل على أن له تطليق منكوحاته ونكاح من يريد من غيرهن إذ
(22/66)
ليس المراد بالإمساك إمساك من سبق نكاحه فقط لعموم من تشاء وقوله سبحانه : وتؤوي ليس مقيدا بمنهن كذا قال الخفاجي : وفي القلب منه شيء ولا بد على القول بأن النسخ بذلك من القول بتأخر نزوله عن نزول الآية المنسوخة إذ لا يمكن النسخ مع التقدم وهو ظاهر ولا يعكر التقدم في المصحف لأن ترتيبه ليس على حسب النزول وقال بعضهم : إن الناسخ السنة ويغلب على الظن أنها كانت فعله عليه الصلاة و السلام
أخرج إبن أبي شيبة وعبد بن حميد وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن عبدالله بن شداد أنه قال : في قوله تعالى : ولا أن تبدل إلخ ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل وقد كان ينكح بعد ما نزلت هذه الآية ما شاء ونزلت وتحته تسع نسوة ثم تزوج بعد أم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحرث رضي الله تعالى عنهما والظاهر على القول بأن الآية نزلت كرامة للمختارات وتطييبا لخواطرهن وشكرا لحسن صنيعهن عدم النسخ والله تعالى أعلم وقوله : إلا ما ملكت يمينك إستثناء من النساء متصل بناء على أصل اللغة لتنازله عليه الحرائر والإماء ومنقطع بناء على العرف لإختصاصه فيه بالحرائر ولا أن تبدل بهن من أزواج كالصريح فيه
وقال إبن عطية : إن ما إن كانت موصولة واقعة على الجنس فهو إستثناء من الجنس مختار فيه الرفع على البدل من النساء ويجوز النصب على الإستثناء وإن كانت مصدرية فهي في موضع نصب لأنه إستثناء من غير الجنس الأول إنتهى وليس بجيد لأنه قال والتقدير إلا ملك اليمين وملك بمعنى مملوك فإذا كان بمعنى مملوك لم يصح الجزم بأنه ليس من الجنس وأيضا لا يتحتم النصب وإن فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة بل أهل الحجاز ينصبون وبنو تميم يبدلون وأياما كان فالظاهر حل المملوكة له سواء كانت مما أفاء الله تعالى عليه أم لا وكان الله على كل شيء رقيبا 25 أي راقبا أو مراقبا والمراد كان حافظا ومطلعا على كل شيء فأحذروا تجاوز حدوده سبحانه وتخطي حلاله إلى حرامه عزوجل
ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم شروع في بيان بعض الحقوق على الناس المتعلقة به وهو عند نسائه والحقوق المتعلقة بهن رضي الله تعالى عنهن ومناسبة ذلك لما تقدم ظاهرة والآية عند الأكثرين نزلت يوم تزوج عليه الصلاة و السلام زينب بنت جحش
أخرج الإمام أحمد وعب بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم وإبن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أنس قال : لما تزوج رسول الله زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس ثم أنهم قاموا فأنطلقت فجئت فأخبرت النبي أنهم قد أنطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية والنهي للتحريم وقوله سبحانه : إلا أن يؤذن بتقدير باء المصاحبة إستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مصحوبين بالأذن
وجوز أبو حيان كونه بتقدير باء السببية فيكون الإستثناء من أعم الأسباب أي لا تدخلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الأذن وذهب الزمخشري إلى أنه إستثناء من أعم الأوقات أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم وأورد عليه أبو حيان أن الوقوع موقع الظرف مختص بالمصدر الصريح دون
(22/67)
المؤول فلا يقال أتيتك أن يصيح الديك وإنما يقال أتيتك صياح الديك ولا يخفى أن القول بالإختصاص أحد قولين للنحاة في المسئة نعم أنه الأشهر والزمخشري إمام في العربية لا يعترض عليه بمثل هذه المخالفة
وزعم بعضهم أن الوقت مقدر في نظم الكلام فيكون محذوفا حذف حرف الجر وأن هذا ليس من باب وقوع المصدر موقع الظرف
وأجاز بعض الأجلة كون ذلك إستثناء من أعم الأحوال بلا تقدير الباء بل بإعتبار أن المصدر مؤول بأسم المفعول أي لا تدخلوها إلا مأذونا لكم والمصدر المسبوك قد يؤول بمعنى المفعول كما قيل في قوله تعالى ما كان هذا القرآن أن يفترى إن المعنى ما كان هذا القرآن مفترى فمن قال كون المصدر بمعنى المفعول غير معروف في المؤول لم يصب وقيل فيما ذكر مخالفة لقول النحاة المصدر المسبوك معرفة دائما كما صرح به في المغنى
وتعقبه الخفاجي بأن الحق أنه سطحي وأنه قد يكون نكرة وذكر قوله تعالى ما كان إلخ وقوله سبحانه : إلى طعام متعلق بيؤذن وعدى بإلى مع أنه يتعدى بفي فيقال أذن له في كذا لتمضينه معنى الدعاء للأشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على طعام بغير دعوة وإن تحقق الأذن الصريح في دخول البيت فإن كل اذن ليس بدعوة وقيل يجوز أن يكون قد تنازع فيه الفعلان تدخلوا ويؤذن وهو مما لا بأس به وقوله تعالى : غير ناظرين آناه أي غير منتظرين نضجه وبلوغه تقول أنى الطعام يأنى أنى كقلي يقلي قلي إذا نضج وبلغ قاله الزجاج وقال مكي : أناه ظرف زمان مقلوب آن التي بمعنى الحين فقلبت النون قبل الألف وغيرت الهمزة إلى الكسرة أي غير ناظرين آنه أي حينه والمراد حين إدراكه ونضجه أو حين أكله حال من فاعل تدخلوا وهو حال مفرغ من أعم الأحوال كما سمعت في أن يؤذن لكم وإذا جعل ذلك حالا فهي حال مترادفة فكأنه قيل : لا تدخلوا في حال من الأحوال إلا مصحوبين بالأذن غير ناظرين والظاهر أنها حال مقدرة ويحتمل أن تكون مقارنة والزمخشري بعد أن جعل ما تقدم نصبا على الظرفية جعل هذا حالا أيضا لكنه قال بعد وقع الإستثناء على الوقت والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الأذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين
وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز على مذهب الجمهور من أنه لا يقع بعد إلا في الإستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفة المستثنى منه ثم قال وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال أجاز ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا فيجوز ما قاله الزمخشري عليه ولا يخفى على المتأمل في كلام الزمخشري أنه بعيد بمراحل عن جعل الآية الكريمة كالمثال المذكور لأنه على التأخير والتقديم وكلامه آب عن إعتبار ذلك في الآية نعم لو أقتصر على جعل غير ناظرين حالا من ضمير تدخلوا لأمكن أن يقال إن مراده لا تدخلوا غير ناظرين إلا أن يؤذن لكم ويكون المعنى أن دخولهم غير ناظرين إناه مشروط بالأذن وأما دخولهم ناظرين فممنوع مطلقا بطريق الأولى ثم قدم المستثنى وأخر الحال وتعقبه بعضهم بأن فيه إستثناء شيئين وهما الظرف والحال بأداة واحدة وقد قال إبن مالك في التسهيل : لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئآن وظاهره عدم جواز ذلك سواء كان الإستثناء مفرغا أم لا وسواء كان الشيئآن مما يعمل فيهما العامل المتقدم أم لا فلا يجوز قام القوم إلا زيدا عمرا ولا ما قام القوم إلا زيدا عمرا أو إلا زيد عمرو ولا ما قام إلا خالد بكر ولا ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ولا ما أعطيت إلا عمرا دانقا ولا ما أخذ أحد شيئا إلا زيد درهما ولا ما أخذ أحد إلا زيد درهما والكلام
(22/68)
في هذه المسئلة وما يصح من هذه التراكيب وما لا يصح وإذا صح فعلى أي وجه يصح طويل عريض والذي أميل إليه تقييد إطلاقهم لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئآن بما إذا كان الشيئآن لا يعمل فيهما العامل السابق قبل الإستثناء فلا يجوز ما قام إلا زيد إلا بكر مثلا إذ لا يكون للفعل فاعلان دون عطف ولا ماضربت إلا زيدا عمرا مثلا إذ لا يكون لضرب مفعولان دون عطف أيضا وأرى جواز نحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ونحو ما ضرب إلا زيد عمرا من غير حاجة إلى إلتزام إبدال أسمين من أسمين نظير قوله : ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ببعض أبت عيدانه أن تكسرا في الأول وإضمار فعل ناصب لعمرو دل عليه المذكور في الثاني وما ذكره إبن مالك في الإحتجاج على الشبه بالعطف حيث قال : كما لا يقدر بعد حرف العطف معطوفان كذلك لا يقدر بعد حرف الإستثناء مستثنيان لا يتم علينا فإنا نقول في العطف بالجواز في مثل ما ضرب زيد عمرا وبكر خالدا قطعا فنحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا زيدا دانقا كذلك وقوله : إن الإستثناء في حكم جملة مستأنفة لأن معنى جاء القوم إلا زيدا جاء القوم ما منهم زيد وهو على ما قيل يقتضي أن لا يعمل ما قبل فيما بعدها في مثل ما ذكر لأنها بمثابة ما وليس ذلك من الصور المستثناة ليس بشيء كما لا يخفى وما في أمالي الكافية من أنه لابد في المستثنى المفرغ من تقدير عام فلو أستعمل بعد إلا شيآن فأما أن لا يقدر عام أصلا وهو يخالف حكم الباب أو يقدر عامان وهو يؤدي إلى أمر خارج عن القياس من غير ثبت ولو جاز في الأثنين جاز فيما فوقهما وهو ظاهر البطلان أو يقدر لأحدهما دون الآخر وهو يؤدي إلى اللبس فيما قصد تعقبه الحديثي بأن لقائل أن يختار الثالث ويقول : العام لا يقدر إلا للذي يلي إلا منهما لأنه المستثنى المفرغ ظاهرا فلا يحصل اللبس أصلا وأبو حيان قدر في الآية محذوفا وجعل غير ناظرين حالا من الضمير فيه والتقدير أدخلوا غير ناظرين وهو الذي يقتضيه كلام إبن مالك حيث أوجب في نحو ما ضرب إلا زيد عمرا جعل عمرا مفعولا لمحذوف دل عليه المذكور والجملة مستأنفة إستئنافا بيانيا وقعت جوابا لسؤال نشأ من الجملة الأولى كأنه لما قيل ما ضرب إلا زيد سأل سائل من ضرب فقيل : ضرب عمرا وذكر العلامة تقي الدين السبكي عليه الرحمة في رسالته المسماة بالحلم والإناة في إعراب غير ناظرين إناه وفيها يقول الصلاح الصفدي : ياطالب النحو في زمان أطول ظلا من القناة وما تحلى منه بعقد عليك بالحلم والإناة إن الظاهر أن الزمخشري ما قال ذلك إلا تفسير معنى والمستثنى في الحقيقة هو المصدر المتعلق به الظرف والحال فكأنه قيل : لا تدخلوا إلا دخولا مصحوبا بكذا ثم قال : ولست أقول بتقدير مصدر هو عامل فيهما فإن العمل للفعل المفرغ وإنما أردت شرح المعنى ومثل هذا الإعراب هو الذي نختاره في قوله تعالى وما أختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من ما جاءهم العلم بغيا بينهم إي إلا إختلافا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فمن بعد ما جاءهم وبغيا ليسا مستثنين بل وقع عليهما المستثنى وهو الإختلاف كما تقول ما قمت إلا يوم الجمعة ضاحكا أمام الأمير في داره فكلها يعمل فيها الفعل المفرغ من جهة الصناعة وهي من جهة المعنى كالشيء الواحد لأنها بمجموعها بعض من المصدر الذي تضمنه الفعل المنفي وهذا أحسن من أن يقدر أختلفوا بغيا بينهم لأنه حينئذ لا يفيد الحصر وعلى ما قلناه يفيد الحصر فيه كما أفاده في قوله تعالى من بعد ما جاءهم العلم فهو حصر في شيئين لكن بالطريق الذي قلناه لا أنه إستثناء شيئين بل إستثناء شيء صادق على شيئين ويمكن حمل كلام الزمخشري على ذلك فقوله : وقع
(22/69)
الإستثناء على الوقت والحال معا صحيح إن المستثنى أعم لأن الأعم يقع على الأخص والواقع على الواقع واقع فتخلص عما ورد عليه من قول النحاة لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيآن إنتهى فتدبره وجوز أن يكون غير ناظرين حالا من المجرور في لكم ولم يذكره الزمخشري وفي الكشف لو جعل حالا من ذلك لأفاد ما ذكره من حيث أنه نهى عن الدخول في جميع الأوقات إلا وقت وجود الأذن المقيد وقال العلامة تقي الدين : لم يجعل حالا من ذلك وإن كان جائزا من جهة الصناعة لأنه يصير حالا مقدرة ولأنهم لا يصيرون منهيين عن الإنتظار بل يكون ذلك قيدا في الأذن وليس المعنى على ذلك بل على أنهم نهوا أن يدخلوا إلا بإذن ونهوا إذا دخلوا أن يكونوا غير ناظرين أتاه فلذلك أمتنع من جهة المعنى أن يكون العامل فيه يؤذن وأن يكون حالا من مفعوله
ولعله أبعد نظرا مما في الكشف وقرأ إبن أبي عبلة غير بالكسر على أنه صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هوله ومذهب البصريين في ذلك وجوب إبراز الضمير بأن يقال هنا غير ناظر أنتم أو غير ناظرين أنتم ولا بأس بحذفه عند الكوفيين إذا لم يقع لبس كما هنا والتخريج المذكور عليه وقد أمال حمزة والكسائي إناه بناء على أنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك وقرأ الأعمش إناءه بمدة بعد النون ولكن إذا دعيتم فأدخلوا إستدراك من النهي عن الدخول بغير إذن وفيه دلالة على أن المراد بالأذن إلى الطعام الدعوة إليه فإذا طعمتم فأنتشروا أي فإذا أكلتم الطعام فتفرقوا ولا تلبثوا والفاء للتعقيب بلا مهملة للدلالة على أنه ينبغي أن يكون دخولهم بعد الأذن والدعوة على وجه يعقبه الشروع في الأكل بلا فصل والآية على ما ذهب إليه الجل من المفسرين خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبي فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبامثالهم ممن يفعل مثل فعلهم في المستقبل فالنهي مخصوص بمن دخل بغير دعوة وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فلا تفيد النهي عن الدخول بأذن لغير طعام ولا عن الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر ولو أعتبر الخطاب عاما لكان الدخول واللبث المذكوران منهيا عنهما ولا قائل به ويؤيد ما ذكر ما أخرجه عبد بن حميد عن الربيع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل الله تعالى ياأيها الذين آمنوا اةية وكذا ما أخرجه إبن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال نزلت في الثقلاء ومن هنا قيل إنها آية الثقلاء وتقدم لك القول بجواز كون إلى طعام قد تنازع فيه الفعلان تدخلوا ويؤذن والأمر عليه ظاهر
وقال العلامة إبن كمال : الظاهر أن الخطاب عام لغير المحارم وخصوص السبب لا يصلح مخصصا على ما تقرر في الأصول نعم يكون وجها لتقييد الأذن بقوله تعالى إلى طعام فيندفع وهم إعتبار مفهومه إنتهى وفيه بحث فتأمل والمشهور في سبب النزول ما ذكرناه أول الكلام في الآية عن الإمام أحمد والشيخين وغيرهم فلا تغفل
ولا مستأنسين لحديث أي لحديث بعضكم بعضا أو لحديث أهل البيت بالتسمع له فاللام تعليلية أو اللام المقوية و مستأنسين مجرور معطوف على ناظرين و لا زائدة ويجوز أن يكون منصوبا معطوفا على غير كقوله تعالى ولا الضالين وجوز أن يكون حالا مقدرة أو مقارنة من فاعل فعل حذف مع فاعله وذلك معطوف على المذكور والتقدير ولا تدخلوها أو لا تمكثوا مستأنسين لحديث إن ذلكم أي اللبث الدال عليه الكلام أو الإستئناس أو المذكور من الإستئناس والنظر أو الدخول على غير الوجه المذكور والأول أقوى ملاءمة
(22/70)
للسياق والسباق كان يؤذي النبي لأنه يكون مانعا له عليه الصلاة و السلام عن قضاء بعض أوطاره مع ما فيه من تضييق المنزل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أهله فيستحي منكم أي من إخراجكم بأن يقول لكم أخرجوا أو من منعكم عما يؤذيه على ما قيل فالكلام على تقدير المضاف لقوله تعالى : والله لا يستحيي من الحق فإنه يدل على أن المستحيا منه معنى من المعاني لا ذواتهم ليتوارد النفي والإثبات على شيء واحد كما يقتضيه نظام الكلام فلو كان المراد الإستحياء من ذواتهم لقال سبحانه والله لا يستحي منكم فالمراد بالحق إخراجهم أو المنع عن ذلك ووضع الحق موضعه لتعظيم جانبه وحاصل الكلام أنه تعالى لم يترك الحق وأمركم بالخروج والتعبير بعدم الإستحياء للمشاكلة وجوز أن يكون الكلام على الإستعارة أو المجاز المرسل وإعتبار تقدير المضاف مما ذهب إليه الزمخشري وكثير وهو الذي ينبغي أن يعول عليه وفي الكشف فإن قلت : الإستحياء من زيد للإخراج مثلا هو الحقيقة والإستحياء من إستخراجه توسع بجعل ما نشأ منه الفعل كالصلة وكلتا العبارتين صحيحة يصح إيقاع إحداهما موقع الأخرى قلت : أريد أنه لا بد من ملاحظة معنى الإخراج فأما أن يقدر الإخراج ويوقع عليه فيكثر الإضمار ولا يطابق اللفظ نفيا وإثباتا وإما أن يقدر المضاف فيقل ويطابق ومع وجود المرجح وفقد المانع لا وجه للعدول فلا بد مما ذكر
وقال العلامة إبن كمال : إن قوله تعالى فيستحي منكم تعليل لمحذوف دل عليه السياق أي ولا يخرجكم فيستحيي منكم ولذلك صدر بأداة التعليل ولو كان المعنى يستحيي من إخراجكم لكان حقه أن يصدر بالواو وفيه أن الكلام بعد تسليم ما ذكر على تقدير المضاف وزعم بعضهم أن الأصل فيستحي منكم من الحق والله لا يستحيي منكم من الحق والمراد بالحق إخراجهم على أن ذلك من الإحتباك وكلا حرفي الجر ليس بمعنى واحد بل الأول للإبتداء والثاني للتعليل وقال : إن الحمل على ذلك هو الأنسب للأعجاز التنزيلي والإختصار القرآني ولا يخفى ما فيه
وقرأت فرقة كما في البحر فيستحي بكسر الحاء مضارع أستحي وهي لغة بني تميم والمحذوف إما عين الكلمة فوزنه يستفل أو لامها فوزنه يستفع وفي الكشاف قريء لا يستحيي بياء واحدة وأظن أن القراءة بياء واحدة في الفعل في الموضعين هذا والظاهر حرمة اللبث على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت وليس ما ذكر مختصا بما إذا كان اللبث في بيت النبي عليه الصلاة و السلام ومن هنا كان الثقيل مذموما عند الناس قبيح الفعل عند الأكياس
وعن إبن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهما حسبك في الثقلاء أن الله عزوجل لم يحتملهم وعندي كالثقيل المذكور من يدعى في وقت معين مع جماعة فيتأخر عن ذلك الوقت من غير عذر كثير شرعي بل لمحض أن ينتظر ويظهر بين الحاضرين مزيد جلالته وأن صاحب البيت لا يسعه تقديم الطعام للحاضرين قبل حضوره مخافة منه أو إحتراما له أو لنحو ذلك فيتأذى لذلك الحاضرون أو صاحب البيت وقد رأينا من هذا الصنف كثيرا نسأل الله تعالى العافية إن فضله سبحانه كان كبيرا وإذا سألتموهن الضمير لنساء النبي المدلول عليهن بذكر بيوته عليه الصلاة و السلام أي وإذا طلبتم منهن متاعا أي شيئا يتمتع به من الماعون وغيره فأسألوهن فأطلبوا منهن ذلك من وراء حجاب أي ستر
(22/71)
أخرج البخاري وإبن جرير وإبن مردويه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يارسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب وكان رضي الله تعالى عنه حريصا على حجابهن وما ذاك إلا حبا لرسول الله
أخرج إبن جرير عن عائشة أن أزواج النبي عليه الصلاة و السلام كن يخرجن بالليل إذ برزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول للنبي : أحجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها ليلة من الليالي عشاء وكانت أمرأة طويلة فناداها عمر رضي الله تعالى عنه بصوته الأعلى قد عرفناك ياسودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله تعالى الحجاب وذلك أحد موافقات عمر رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة وعد الشيعة ما وقع منه رضي الله تعالى عنه في خبر إبن جرير من المثالب قالوا : لما فيه من سوء الأدب وتخجيل سودة حرم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإيذائها بذلك
وأجاب أهل السنة بعد تسليم صحة الخبر أنه رضي الله تعالى عنه رأى أن لا بأس بذلك لما غلب على ظنه من ترتب الخير العظيم عليه ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان أعلم منه وأغير لم يفعل ذلك إنتظارا للوحي وهو اللائق بكمال شأنه مع ربه عزوجل
وأخرج البخاري في الأدب والنسائي من حديث عائشة أنها كانت تأكل معه عليه الصلاة و السلام وكان يأكل معهما بعض أصحابه فأصابت يد رجل يدها فكره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك فنزلت ولا يبعد أن يكون مجموع ما ذكر سببا للنزول ونزل الحجاب على ما أخرج إبن سعد عن أنس سنة خمس من الهجرة
وأخرج عن صالح بن كيسان أن ذلك في ذي القعدة منها ذلكم الظاهر أنه إشارة إلى السؤال من وراء حجاب وقيل : هو إشارة إلى ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الإستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن أي أكثر تطهرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال في أمر النساء وللنساء في أمر الرجال فإن الرؤية سبب التعلق والفتنة وفي بعض الآثار النظر سهم مسموم من سهام إبليس وقال الشاعر : والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العين موقوف على الخطر يسر مقلته ما ساء مهجته لا مرحبا بإنتفاع جاء بالضرر وما كان لكم أي وما صح وما أستقام لكم أن تؤذوا رسول الله أي تفعلوا في حياته فعلا يكرهه ويتأذى به كاللبث والإستئناس بالحديث الذي كنتم تفعلونه وغير ذلك والتعبير عنه عليه الصلاة و السلام بعنوان الرسالة لتقبيح ذلك الفعل والإشارة إلى أنه بمراحل عما يقتضيه شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذ في الرسالة
(22/72)
من نفعهم المقتضي للمقابلة بالمثل دون الإيذاء ما فيها ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا من بعد وفاته أو فراقه وهو كالتخصيص بعد التعميم فإن نكاح زوجة الرجل بعد فراقه إياها من أعظم الأذى ومن الناس من تفرط غيرته على زوجته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده وخصوصا العرب فإنهم أشد الناس غيرة
وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قتل جارية له يحبها مخافة أن تقع في يد غيره بعد موته والظاهر النهي أن العقد غير صحيح وعموم الأزواج ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المدخول بها وغيرها كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا فقال لها عليه الصلاة و السلام قبل الدخول ألحقي بأهلك وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة وصحح إمام الحرمين والرافعي في الصغير أن التحريم للمدخول بها فقط لما روى أن الأشعث بن قيس الكندي نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبر أنها لم يكن مدخولا بها فكف من غير نكير وروى أيضا أن قتيلة بنت قيس أخت الأشعث المذكور تزوجها عكرمة إبن أبي جهل بحضرموت وكانت قد زوجها أخوها قبل من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقبل أن يدخل بها حملها معه إلى حضرموت وتوفي عنها عليه الصلاة و السلام فبلغ ذلك ابا بكر رضي الله تعالى عنه فقال : هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر : ما هي من أمهات المؤمنين أدخل بها صلى الله تعالى عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب
وقيل : لم يحتج عليه بذلك بل أحتج بأنها أرتدت حين أرتد أخوها فلم تكن من أمهات المؤمنين بإرتدادها وكذا هو ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المختارة منهن الدنيا كفاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في رواية إبن إسحاق والمختارة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم كنسائه عليه الصلاة و السلام التسع اللاتي توفي عنهن
وللعلماء في حل مختارة الدنيا للأزواج طريقان أحدهما طرد الخلاف والثاني القطع بالحل وأختاره الإمام والغزالي عليهما الرحمة وكأن من قال بحل غير المدخول بها وبحل المختارة المذكورة حمل الأزواج على من كن في عصمته يوم نزول الآية وعلى من يشبههن ولسن إلا المدخولات بهن اللاتي أخترنه عليه الصلاة و السلام وإذا حمل ذلك وأريد بقوله تعالى : من بعده من بعد فراقه يلزم حرمة نكاح من طلقها صلى الله تعالى عليه وسلم من تلك الأزواج على المؤمنين وهو كذلك ومن هنا أختلف القائلون بإنحصار طلاقه صلى الله تعالى عليه وسلم بالثلاث فقال بعضهم : تحل له عليه الصلاة و السلام من طلقها ثلاثا من غير محلل وقال آخرون لا تحل له أبا وظاهر التعبير بالأزواج عدم شمول الحكم لأمة فارقها صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وطئها
وفي المسئلة أوجه ثالثها أنها تحرم إن فارقها بالموت كمارية رضي الله تعالى عنها ولا تحرم إن باعها أو وهبها في الحياة
وحرمة نكاح أزواجه عليه الصلاة و السلام من بعده من خصوصياته صلى الله تعالى عليه وسلم وسمعت عن بعض جهلة المتصوفة أنهم يحرمون نكاح زوجة الشيخ من بعده على المريد وهو جهل ما عليه مزيد إن ذلكم إشارة إلى ما ذكر من إيذائه عليه الصلاة و السلام ونكاح أزواجه من بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد كان عند الله في حكمه عزوجل عظيما 35 أي أمرا عظيما وخطبا هائلا لا يقادر قدره وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وإيجاب حرمته حيا وميتا ما لا يخفى
(22/73)
ولذلك بالغ عزوجل في الوعيد حيث قال سبحانه : إن تبدوا شيئا مما لا خير فيه على ألسنتكم كأن تتحدثوا بنكاحهن أو تخفوه في صدوركم فإن الله كان بكل شيء عليما 45 كامل العلم فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة وهذا دليل الجواب والأصل إن تبدوا شيئا أو تخفوه يجازكم به فإن الله إلخ
وقيل هو الجواب على معنى فأخبركم أن الله إلخ وفي تعميم شيء في الموضعين مع البرهان على المقصود من ثبوت علمه تعالى بما يتعلق بزوجاته صلى الله تعالى عليه وسلم مزيد تهويل وتشديد ومبالغة الوعيد وسبب نزول الآية على ما قيل أنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل : إنتهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لنتزوجن نساءه وفي بعض الروايات تزوجت عائشة أو أم سلمة
وأخرج جوبير عن إبن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فكلمها وهو إبن عمها فقال النبي عليه الصلاة و السلام : لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال : يارسول الله إنها إبنة عمي والله ما قلت لها منكرا ولا قالت لي قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : قد عرفت ذلك أنه ليس أحد أغير من الله تعالى وأنه ليس أحد أغير مني فمضى ثم قال : عنفني من كلام إبنة عمي لأتزوجنها من بعده فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله تعالى وحج ماشيا من كلمته
وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وإبن المنذر عن قتادة أن طلحة بن عبيدالله قال : لو قبض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تزوجت عائشة فنزلت وما كان لكم الآية
قال إبن عطية : كون القائل طلحة رضي الله تعالى عنه لا يصح وهو الذي يغلب على ظني ولا أكاد أسلم الصحة إلا إذا سلم ما تضمنه خبر إبن عباس مما يدل على الندم العظيم وفي بعض الروايات أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة ما بال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يتزوج نساءنا والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت ولعمري أن ذلك غير بعيد عن المنافقين وهو أبعد من العيوق عن المؤمنين المخلصين لا سيما من كان من المبشرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين ورأيت لبعض الأجلة أن طلحة الذي قال ما قال ليس هو طلحة أحد العشرة وإنما هو طلحة آخر لا يبعد منه القول المحكي وهذا من باب إشتباه الأسم فلا إشكال
لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن إستئناف لبيان من لا يجب عليهن الإحتجاب عنه روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب أو نحن يارسول الله نكلمهن أيضا من وراء حجاب فنزلت والظاهر أن المعنى لا إثم عليهن في ترك الحجاب من آبائهن إلخ وروى ذلك عن قتادة وعن مجاهد أن المراد لا جناح عليهن في وضع الجلباب وإبداء الزينة للمذكورين وفي حكمهم كل ذي رحم محرم من نسب أو رضاع على ما روى إبن سعد عن الزهري وأخرج إبن أبي شيبة وأبو داؤد في ناسخه عن عكرمة قال : بلغ إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عائشة رضي الله تعالى عنها أحتجبت من الحسن رضي الله تعالى عنه فقال إن رؤيته لها لحل ولم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين أو لأنه إكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الأخوة وأبناء الأخوات فإن مناط عدم لزوم الحجاب بينهن وبين الفريقين عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخؤلة لما أنهن عمات لأبناء الأخوة وخالات لأبناء الأخوات وقال الشعبي :
(22/74)
لم يذكرا وإن كانا من المحارم لئلا يصفاها لأبنائهما وليسوا من المحارم وقد أخرج نحو ذلك إبن جرير وإبن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها مخافة وصفه إياها لإبنه وهذا القول عندي ضعيف لجريان ذلك في النساء كلهن ممن لم يكن أمهات محارم ولا أرى صحة الرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه ولا نسائهن أي النساء المؤمنات على ما روى عن إبن عباس وإبن زيد ومجاهد والإضافة إليهن بإعتبار أنهن على دينهن فيحتجبن على الكافرات ولو كتابيات وفي البحر دخل في نسائهن الأمهات والأخوات وسائر القرابات ومن يتصل بهن من المتصرفات لهن والقائمات بخدمتهن
ولا ما ملكت أيمانهن ظاهره من العبيد والإماء وأخرجه إبن مردويه عن إبن عباس وإليه ذهب الإمام الشافعي وقال الخفاجي : مذهب أبي حنيفة أنه مخصوص بالإماء وعلى الظاهر أستثنى المكاتب قال أبو حيان : إنه أمر بضرب الحجاب دونه وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان وأتقين الله في كل ما تأتن وتذرن لا سيما فيما أمرتن به وما نهيتن عنه وفي البحر في الكلام حذف والتقدير أقتصرن على هذا وأتقين الله تعالى فيه أن تتعدينه إلى غيره وفي نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب فضل تشديد في طلب التقوى منهن إن الله كان على كل شيء شهيدا 55 لا تخفى عليه خافية ولا تتفاوت في علمه الأحوال فيجازي سبحانه على الأعمال بحسبها هذا وأختلف في حرمة رؤية أشخاصهن مستترات فقال بعضهم بها ونسب ذلك إلى القاضي عياض وعبارته فرض الحجاب مما أختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من ثم أستدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر رضي الله تعالى عنه سترتها النساء عن أن يرى شخصها وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها لتستر شخصها إنتهى وتعقب ذلك الحافظ إبن حجر فقال : ليس فيما ذكره دليل على ما أدعاه من فرض ذلك عليهن فقد كن بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحججن ويطفن وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص وأنا أرى أفضلية ستر الأشخاص فلا يبعد القول بندبه لهن وطلبه منهن أزيد من غيرهن وفي البحر ذهب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب عليه وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر رضي الله تعالى عنه وروى أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله وملائكته يصلون على النبي كالتعليل لما أفاده الكلام السابق من التشريف العظيم الذي لم يعهد له نظير والتعبير بالجملة الأسمية للدلالة على الدوام والإستمرار وذكر أن الجملة تفيد الدوام نظرا إلى صدرها من حيث أنها جملة أسمية وتفيد التجدد نظرا إلى عجزها من حيث أنه جملة فعلية فيكون مفادها إستمرار الصلاة وتجددها وقتا فوقتا وتأكيدها بأن للإعتناء بشأن الخبر وقيل لوقوعها في جواب سؤال مقدر هو ما سبب هذا التشريف العظيم وعبر بالنبي دون أسمه صلى الله تعالى عليه وسلم على خلاف الغالب في حكايته تعالى عن أنبيائه عليهم السلام إشعارا بما أختص به من مزيد الفخامة والكرامة وعلو القدر وأكد ذلك الإشعار بأل التي للغلبة إشارة إلى أنه المعروف
(22/75)
الحقيق بهذا الوصف وقال بعض الأجلة : إن ذاك للأشعار بعلة الحكم ولم يعبر بالرسول بدله ليوافق ما قبله من قوله تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله لأن الرسالة أفضل من النبوة على الصحيح الذي عليه الجمهور خلافا للعز بن عبدالسلام فتعليق الحكم بها لا يفيد قوة إستحقاقه عليه الصلاة و السلام للصلاة بخلاف تعليقه بما هو دونها مع وجودها فيه وهو معنى دقيق فلا تسارع إلى الإعتراض عليه وإضافة الملائكة للإستغراق
وقيل : ملائكته ولم يقل الملائكة إشارة إلى عظيم قدرهم ومزيد شرفهم بإضافتهم إلى الله تعالى وذلك مستلزم لتعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يصل إليه منهم من حيث أن العظيم لا يصدر منه إلا عظيم ثم فيه التنبيه على كثرتهم وأن الصلاة من هذا الجمع الكثير الذي لا يحيط بمنتهاه غير خالقه واصلة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم على ممر الأيام والدهور مع تجددها كل وقت وحين وهذا أبلغ تعظيم وأنهاه وأشمله وأكمله وأزكاه
وأختلفوا في معنى الصلاة من الله تعالى وملائكته عليهم السلام على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على أقوال فقيل : هي منه عزوجل ثناؤه عليه عند ملائكته وتعظيمه ورواه البخاري عن أبي العالية وغيره عن الربيع بن أنس وجرى عليه الحليمي في شعب الإيمان وتعظيمه تعالى إياه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء العمل بشريعته وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وأجزال أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود وتقديمه على كافة المقربين الشهود وتفسيرها بذلك لا ينافي عطف غيره كالآل والأصحاب عليه لأن تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به وهي من الملائكة الدعاء له عليه الصلاة و السلام على ما رواه عبد بن حميد وإبن أبي حاتم عن أبي العالية وقيل : هي منه تعالى رحمته عزوجل ونقله الترمذي عن الثوري وغير واحد من أهل العلم ونقل عن أبي العالية أيضا وعن الضحاك وجرى عليه المبرد وإبن الأعرابي والإمام الماوردي وقال : إن ذلك أظهر الوجوه
وأعترض بما مر عند الكلام في قوله تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته والجواب هو الجواب وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم سألوا كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى لما نزلت عن كيفية الصلاة فلو لم يكونوا فهموا المغايرة بينها وبين الرحمة ما سألوا عن كيفيتها مع كونهم علموا الدعاء بالرحمة في التشهد وأجيب بأنها رحمة خاصة فسألوا عن الكيفية ليحيطوا علما بذلك الخصوص وهي من الملائكة كما سمعت أولا ويلزم على هذا وذلك إستعمال اللفظ في معنيين ولا يجوزه كثير كالحنفية والقائلون بأحد القولين الذين لا يجوزون الإستعمال المذكور أختلفوا في التقصي عن ذلك في الآية فقال بعضهم : في الآية حذف والأصل إن الله يصلي وملائكته يصلون فيكون قد أدى كل معنى بلفظ وقال آخر : تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد وقال صدر الشريعة يجوز أن يكون المعنى واحدا حقيقا وهو الدعاء والمعنى والله تعالى أعلم أنه تعالى يدعو ذاته والملائكة بإيصال الخير وذلك في حقه تعالى بالرحمة وفي حق الملائكة بالإستغفار وفيه دغدغة لا تخفي وقال جمع من المحققين : يتقصى عن ذلك بعموم المجاز فيراد معنى مجازي عام يكون كل من المعاني فردا حقيقيا له وهو الإعتناء بما فيه خيره صلى الله تعالى عليه وسلم وصلاح أمره وإظهار شرفه وتعظيم شأنه أو الترحم والإنعطاف المعنوي
وقال بعض الأجلة : إن معنى الصلاة يختلف بإعتبار حال المصلي والمصلي له والمصلي عليه والأولى أنها موضوعة هنا للقدر المشترك وهو الإعتناء بالمصلي عليه أو إرادة وصول الخير وقال آخر : الصواب أن الصلاة لغة بمعنى واحد وهو العطف ثم هو بالنسبة إليه تعالى الرحمة وإلى الملائكة عليهم السلام الإستغفار
(22/76)
وإلى الآدميين الدعاء وتعقب بأن العطف بمعناه الحقيقي مستحيل عليه تعالى فيلزم من إعتباره مسندا إليه تعالى وإلى الملائكة عليهم السلام ما يلزم وأجيب بأنا لا نسلم الإستحالة إلا إذا كان العطف في الغائب كالعطف في الشاهد لا يتحقق إلا بقلب ونحوه من صفات الأجسام المستحيلة عليه سبحانه ونحن من وراء المنع فكثير مما في الشاهد شيء وهو في الله تعالى وراء ذلك ويسند إليه سبحانه على الحقيقة كالسمع والبصر وكذا الإرادة
وقد ذهب السلف إلى عدم تأويل الرحمة فيه تعالى بأحد التأويلين المشهورين مع أنها في الشاهد لا تتحقق إلا بما يستحيل عليه تعالى ولو أوجب ذلك التأويل لم يبق بأيدينا غير محتاج إليه إلا قليل وقد تقدم ما يتعلق بهذا المطلب في غير موضع من هذا الكتاب وقد يختار أن الصلاة هنا تعظيم لشأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يقارنه عطف لائق به تعالى وبملائكته وإذا أنسحبت عليه عليه الصلاة و السلام وعلى أحد من المؤمنين تعلقت بكل حسبما يليق به وجمع الله سبحانه والملائكة في ضمير واحد لا ينافي قوله عليه الصلاة و السلام لمن قال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله لأن ذلك منه تعالى محض تشريف للملائكة عليهم السلام لا يتوهم منه نقص ولذا قيل إذا صدر مثله عن معصوم قيل كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وقال بعضهم : لا بأس بذلك مطلقا وذم الخطيب لأنه وقف على يعصهما وسكت سكتة وأستدل بخبر لأبي داؤد وقيل يقبح إذا كان في جملتين كما في كلام الخطيب ولا يقبح إذا كان في واحدة كما في الآية وكلام الحبيب عليه الصلاة و السلام وفيه بحث وقرأ إبن عباس وعبدالوارث عن أبي عمرو وملائكته بالرفع فعند الكوفيين غير الفراء هو عطف على محل أن وأسمها والفراء يشترط في العطف على ذلك خفاء إعراب أسم إن كما في قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون وكما في قول الشاعر : ومن يك أمسى في المدينة رحله فإني وقيار بها لغريب وهل خفاء الإعراب شامل للأسم المقصور والمضاف للياء أو خاص بالمبني فيه خلاف وعند البصريين والفراء هو مبتدأ وجملة يصلون خبره وخبر إن محذوف ثقة بدلالة ما بعد عليه أي إن الله يصلي وملائكته يصلون ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه أي عظموا شأنه عاطفين عليه فإنكم أولى بذلك وظاهر سوق الآية أنه لا يجاب إقتدائنا به تعالى فيناسب إتحاد المعنى مع إتحاد اللفظ وقراءة إبن مسعود صلوا عليه كما صلى عليه وكذا قراءة الحسن فصلوا عليه أظهر فيما ذكر فيبعد تفسير صلوا عليه بقولوا : اللهم صل على النبي أو نحوه
ومن فسره بذلك أراد أن المراد بالتعظيم المأمور به ما يكون بهذا اللفظ ونحوه مما يدل على طلب التعظيم لشأنه عليه الصلاة و السلام من الله عزوجل لقصور وسع المؤمنين عن أداء حقه عليه الصلاة و السلام
وما جاء في الأخبار إرشاد إلى كيفية ذلك وصفته لا أنه تفسير للفظ صلوا وجاء ذلك على عدة أوجه والجمع ظاهر
أخرج عبدالرزاق وإبن أبي شيبة والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داؤد والترمذي والنسائي وإبن ماجه وإبن مردويه عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رجل : يارسول الله أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك قال : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
(22/77)
وأخرج الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داؤد والنسائي وإبن ماجه وغيرهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا : يارسول الله كيف نصلي عليك فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قولوا اللهم صلي على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وأخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وإبن ماجه وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قلنا : يارسول الله هذا السلام عليك قد علمنا فكيف الصلاة عليك قال : قولوا اللهم صلي على عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم
وأخرج النسائي وغيره عن أبي هريرة إنهم سألوا رسول الله كيف نصلي عليك قال : قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد وإبن مردويه عن إبن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : قلنا يارسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك قال : قولوا اللهم أجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم إنك حميد مجيد إلى غير ذلك مما ملئت منه كتب الحديث إلا أن في بعض الروايات المذكورة فيها مقالا والظاهر من السؤال أنه سؤال عن الصفة كما أشرنا إليه قبل وهو الذي رجحه الباجي وغيره وجزم به القرطبي وقيل : إنه سؤال عن معنى الصلاة وبأي لفظ تؤدي والحامل لهم على السؤال على هذا أن السلام لما ورد في التشهد بلفظ مخصوص فهموا أن الصلاة أيضا تقع بلفظ مخصوص ولم يفروا إلى القياس لتيسر الوقوف على النص سيما والأذكار يراعى فيها اللفظ ما أمكن فوقع الأمر كما فهموه فإنه لم يقل عليه الصلاة و السلام كالسلام بل علمهم صفة أخرى كذا قيل ويقال على الأول : إنهم لما سمعوا الأمر بالصلاة بعد سماع أن الله عزوجل وملائكته عليهم السلام يصلون عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وفهموا أن الصلاة منه عزوجل ومن ملائكته عليه عليه الصلاة و السلام نوع من تعظيم لائق بشأن ذلك النبي الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم لم يدروا ما اللائق منهم من كيفيات تعظيم ذلك الجناب وسيد ذوي الألباب صلى الله تعالى عليه وسلم صلاة وسلاما يستغرقان الحساب فسألوا عن كيفية ذلك التعظيم فأرشدهم عليه الصلاة و السلام إلى ما علم أنه أولى أنواعه وهو بهم رؤوف رحيم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : قولوا اللهم صل محمد إلى آخر ما في بعض الروايات الصحيحة وفيه إيماء إلى أنكم عاجزون عن التعظيم اللأئق بي فأطلبوه من الله عزوجل لي
ومن هنا يعلم أن الآتي بما أمر به من طلب الصلاة له صلى الله تعالى عليه وسلم عزوجل آت بأعظم أنواع التعظيم لتضمنه الإقرار بالعجز عن التعظيم اللائق وقد قيل ونسب إلى الصديق رضي الله تعالى عنه العجز عن درك الأدراك إدراك ويقرب في الجملة مما ذكرنا قول بعض الأجلة ونقله أبو اليمن بن عساكر وحسنه لما أمرنا الله تعالى بالصلاة على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم لم نبلغ معرفة فضلها ولم ندرك حقيقة مراد الله تعالى فيه فأحلنا ذلك إلى الله عزوجل فقلنا اللهم صل أنت على رسولك لأنك أعلم بما يليق به وبما أردته له صلى الله تعالى عليه وسلم إنتهى ولعل ما ذكرناه ألطف منه ومقتضى ظاهر إرشاده صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم إلى طلب الصلاة عليه من الله تعالى شأنه أنه لا يحصل إمتثال الأمر إلا بما فيه طلب ذلك منه عزوجل
(22/78)
ويكفي اللهم صل على محمد لأنه الذي أتفقت عليه الروايات في بيان الكيفية وكأن خصوصية الإنشاء لفظا ومعنى غير لازمة ولذا قال بعض من أوجبها في الصلاة وستعلمه إن شاء الله تعالى : إنه كما يكفي اللهم صل على محمد ولا يتعين اللفظ الوارد خلافا لبعضهم يكفي صلى الله على محمد على الأصح بخلاف الصلاة على رسول الله فإنه لا يجزي إتفاقا لأنه ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى فليس في معنى الوارد وفي تحفة إبن حجر يكفي الصلاة على محمد إن نوى بها الدعاء فيما يظهر وقال النيسابوري : لا يكفي صليت على محمد لأن مرتبة العبد تقصر عن ذلك بل يسأل ربه سبحانه أن يصلي عليه عليه الصلاة و السلام وحينئذ فالمصلي عليه حقيقة هو الله تعالى وتسمية العبد مصليا عليه مجلز عن سؤاله الصلاة من الله تعالى عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فتأمله
وذكروا أن الإتيان بصيغة الطلب أفضل من الإتيان بصيغة الخبر وأجيب عن إطباق المحدثين على الإتيان بها فإنه مما أمرنا به من تحديث الناس بما يعرفون إذ كتب الحديث يجتمع عند قراءتها أكثر العوام فخيف أن يفهموا من صيغة الطلب أن الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لم توجد من الله عزوجل بعد وإلا لما طلبنا حصولها له عليه صلاة الله تعالى وسلامه فأتى بصيغة يتبادر إلى إفهامهم منها الحصول وهي مع إبعادها إياهم من هذه الورطة متضمنة للطلب الذي أمرنا به إنتهى ولا يخفى ضعفه فالأولى أن يقال : إن ذلك لأن تصليتهم في الأغلب في أثناء الكلام الخبري نحو قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كذا وفعل صلى الله تعالى عليه وسلم كذا فأحبوا أن لا كيثر الفصل وأن لا يكون الكلام على أسلوبين لما في ذلك من الخروج عن الجادة المعروفة إذ قلما تجد في الفصيح توسط جملة دعائية إلا وهي خبرية لفظا مع إحتمال تشوش ذهن السامع وبطء فهمه وحسن الإفهام مما تحصل مراعاته فتدبر
والظاهر أنه لا يحصل الإمتثال باللهم عظم محمدا التعظيم اللائق ونحوه مما ليس فيه مشتق من الصلاة كصل وصلى فإنا لم نسمع أحدا عد قائل ذلك مصليا عليه وذلك في غاية الظهور إذا كان قولوا اللهم صل على محمد تفسيرا لقوله تعالى : صلوا عليه وسلموا تسليما 65 أي وقولوا والسلام عليك أيها النبي ونحوه وهذا ما عليه أكثر العلماء الأجلة وفي معنى السلام عليك ثلاثة أوجه أحدها السلامة من النقائص والآفات لك ومعك أي مصاحبة وملازمة فيكون السلام مصدرا بمعنى السلامة كاللذاذ واللذاذة والملام والملامة ولما في السلام من الثناء عدى بعلي لا لإعتبار معنى القضاء أي قضى الله تعالى عليك السلام كما قيل لأن القضاء كالدعاء لا يتعدى بعلي للنفع ولا لتضمنه معنى الولاية والإستيلاء لبعده في هذا الوجه ثانيها السلام مداوم على حفظك ورعايتك ومتول له وكفيل به ويكون السلام هنا أسم الله تعالى ومعناه على ما أختاره إبن فورك وغيره من عدة أقوال ذو السلامة من كل آفة ونقيصة ذاتا وصفة وفعلا وقيل : إذا أريد بالسلام ما هو من أسمائه تعالى فالمراد لا خلوت من الخير والبركة وسلمت من كل مكروه لأن أسم الله تعالى إذا ذكر على شيء أفاده ذلك
وقيل : الكلام على هذا التقدير على حذف المضاف أي حفظ الله تعالى عليك والمراد الدعاء بالحفظ وثالثها الإنقياد عليك على أن السلام من المسالمةوعدم المخالفة والمراد الدعاء بأن يصير الله تعالى العباد منقادين مذعنين له عليه الصلاة و السلام ولشريعته وتعديته بعلي قيل : لما فيه من الإقبال فإن من إنقاد لشخص وأذعن له فقد
(22/79)
أقبل عليه والأرجح عندي هو الوجه الأول وقيل : معنى سلموا تسليما إنقادوا لأوامره إنقيادا وهو غير بعيد إلا أن ظواهر الأخبار والآثار تقتضي المعنى السابق وكأنه لذلك ذهب إليه الأكثرون والجملة صيغة خبر معناها الدعاء بالسلامة وطلبها منه تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وأستشكل ذلك فيما إذا قال الله تعالى السلام عليك أيها النبي أو نحوه بأن الدعاء لا يتصور منه عزوجل لأنه طلب وهو يتضمن طالبا ومطلوبا ومطلوبا منه وهي أمور متغايرة فإن كان طلبه سبحانه السلامة لنبيه عليه الصلاة و السلام من غيره تعالى فمحاليته من أجلي البديهيات وإن كان من ذاته عزوجل لزم أن يغاير ذاته والشيء لا يغاير ذاته ضرورة وهذا منشأ قول بعضهم : إن في السلام منه تعالى إشكالا له شأن فينبغي الإعتناء به وعدم إهمال أمره فقل من يدرك سره
وأجيب بأن الطلب من باب الإرادات والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئا فكذلك يريد من نفسه أن يفعله هو والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها وهي كالجنس له فكما يعقل أن المريد يريد من نفسه فكذلك يطلب منها إذ لا فرق بين الطلب والإرادة والحاصل أن طلب الحق جل وعلا من ذاته أمر معقول يعلمه كل واحد من نفسه بدليل أنه يأمرها وينهاها قال سبحانه إن النفس لأمارة بالسوء وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى والأمر والنهي قسمان من الطلب وقد تصورا من الإنسان لنفسه بالنص فكذا بقية أقسم الطلب وأنواعه وأوضح من هذا أن الطلب منه تعالى بمعنى الإرادة وتعقل إرادة الشخص من ذاته شيئا بناء على التغاير الإعتباري ومثله يكفي في هذا المقام ومعنى اللهم سلم على النبي اللهم قل السلام على النبي على ما قيل وقيل : معناه اللهم أوجد أو حقق السلامة له وقيل : اللهم سلمه من النقائص والآفات
وقال بعض المعاصرين : إن السلام عليك ونحوه من الله عزوجل لإنشاء السلامة وإيجادها بهذا اللفظ نظير ما قالوه في صيغ العقود وأختار أن معنى اللهم سلم على النبي اللهم أوجد السلامة أو حققها له دون قل السلام على النبي تقليلا للمسافة فتدبر وقد يكون السلام منه عزوجل على أنبيائه عليهم السلام نحو قوله سبحانه سلام على نوح في العالمين سلام على إبراهيم سلام على موسى وهرون تنبيها على أنه جل شأنه جعلهم بحيث يدعى لهم ويثني عليهم ونصب تسليما على أنه مصدر مؤكد وأكد سبحانه التسليم ولم يؤكد الصلاة قيل لأنها مؤكدة بإعلامه تعالى أنه يصلي عليه وملائكته ولا كذلك التسليم فحسن تأكيده بالمصدر إذ ليس ثم ما يقوم مقامه
وإلى هذا يؤل قول إبن القيم التأكيد فيهما وإن أختلف جهته فإنه تعالى أخبر في الأول بصلاته وصلاة ملائكته عليه مؤكدا له بأن وبالجمع المفيد للعموم في الملائكة وفي هذا من تعظيمه ما يوجب المبادرة إلى الصلاة عليه من غير توقف على الأمر موافقة لله تعالى وملائكته في ذلك وبهذا أستغنى عن تأكيد يصلي بمصدر ولما خلا السلام عن هذا المعنى وجاء في حيز الأمر المجرد حسن تأكيده بالمصدر تحقيقا للمعنى وإقامة لتأكيد الفعل مقام تقريره وحينئذ حصل لك التكرير في الصلاة خبرا وطلبا كذلك حصل لك التكرير في السلام فعلا ومصدرا وأيضا هي مقدمة عليه لفظا والتقديم يفيد الإهتمام فحسن تأكيد السلام لئلا يتوهم قلة الإهتمام به لتأخره وقيل : إن في الكلام الإحتباك والأصل صلوا عليه تصلية وسلموا عليه تسليما فحذف عليه من إحدى الجملتين والمصدر من الأخرى وأضيفت الصلاة إلى الله تعالى وملائكته دون السلام وأمر
(22/80)
المؤمنون بهما قيل لأن للسلام معنيين التحية والإنقياد فأمرنا بهما لصحتهما هنا ولم يضف لله سبحانه والملائكة لئلا يتوهم إنه في الله تعالى والملائكة يعني الإنقياد المستحيل في حقه تعالى وكذا في حق الملائكة وقيل : الصلاة من الله سبحانه والملائكة متضمنة للسلام بمعنى التحية الذي لا يتصور غيره فكان في إضافة الصلاة إليه تعالى وإلى الملائكة إستلزام لوجود السلام بهذا المعنى وأما الصلاة منا فهي وإن أستلزمت التيحة أيضا إلا أنا مخاطبون بالإنقياد وهي لا تستلزمه فأحتيج إلى التصريح به فينا لأن الصلاة لا تغني عن معنييه المتصورين في حقنا المطلوبين منا ثم قيل : وهذا أولى مما قبله لأن ذلك يرد عليه قوله تعالى : سلام على إبراهيم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ولا يرد هذان على هذا وفيه بحث
وقال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة : قد لاح لي في ترك تأكيد السلام وتخصيصه بالمؤمنين نكتة سرية وهي أن السلام عليه عليه الصلاة و السلام تسليمه عما يؤذيه فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي والأذية إنما هي من البشر وقد صدرت منهم فناسب التخصيص بهم والتأكيد وربما يقال على بعد في ذلك : إنه يمكن أن يكون سلام الله تعالى وملائكته عليه عليه الصلاة و السلام معلوما للمؤمنين قبل نزول الآية فلم يذكر ويسلمون فيها لذلك وأن كونهم مأمورين بأن يسلموا عليه كان أيضا معلوما لهم ككيفية السلام ويؤذن بهذه المعلومية ما ورد في عدة أخبار أنهم قالوا عند نزول الآية : يارسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك وعنوا بذلك على ما قيل ما في التشهد من السلام فلما أخبروا بصلاة الله تعالى وملائكته عليه في الآية مجردة عن ذكر السلام وأردف ذلك بالأمر بالصلاة كان مظنة عدم الإعتناء بأمر السلام أو أنه نسخ طلبه منهم فأمروا به مؤكدا دفعا لتوهم ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال والأمر في الآية عند الأكثرين للوجوب بل ذكر بعضهم إجماع الأئمة والعلماء عليه ودعوى محمد بن جرير الطبري أنه للندب بالإجماع مردودة أو مؤولة بالحمل على ما زاد على مرة واحدة في العمر فقد قال القرطبي المفسر : لا خلاف في وجوب الصلاة في العمر مرة وتفصيل الكلام في أمرها بعد الغاء القول بندبها أن العلماء أختلفوا فيها فقيل : واجبة مرة في العمر ككلمة التوحيد لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارا والماهية تحصل بمرة وعليه جمهور الأمة منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما وقيل : واجبة في التشهد مطلقا وقيل : واجبة في مصلق الصلاة وتفرد بعض الحنابلة بتعين دعاء الإفتتاح بها
وقيل : يجب الإكثار منها من غير تعيين بعدد وحكى ذلك عن القاضي أبي بكر بن بكير وقيل : تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره مرارا وقيل : تجب في كل دعاء وقيل : تجب كلما ذكر عليه الصلاة و السلام وبه قال جمع من الحنفية منهم الطحاوي وعبارته تجب كلما سمع ذكره من غيره أو ذكره بنفسه وجمع من الشافعية منهم الإمام الحليمي والأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني والشيخ أبو حامد الأسفرايني وجمع من المالكية منهم الطرطوشي وإبن العربي والفاكهاني وبعض الحنابلة قيل وهو مبني على القول الضعيف في الأصول أن الأمر المطلق يفيد التكرار وليس كذلك بل له أدلة أخرى كالأحاديث التي فيها الدعاء بالرغم والأبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء وغير ذلك مما يقتضي الوعيد وهو عند الأكثر من علامات الوجوب وأعترض هذا القول كثيرون بأنه مخالف للأجماع المنعقد قبل قائله إذ لم يعرف عن صحابي ولا
(22/81)
تابعي وبأنه يلزم على عمومه أن لا يتفرغ السامع لعبادة أخرى وأنها تجب على المؤذن وسامعه والقاريء المار بذكره والمتلفظ بكلمتي الشهادة وفيه من الحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه وبأن الثناء على الله تعالى كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به وبأنه لا يحفظ عن صحابي أنه قال : يارسول الله صلى الله عليك وبأن تلك الأحاديث المحتج بها للوجوب خرجت مخرج المبالغة في تأكد ذلك وطلبه وفي حق من أعتاد ترك الصلاة ديدنا
ويمكن التقصي عن جميع ذلك أما الأول فلأن القائلين بالوجوب من أئمة النقل فكيف يسعهم خرق الإجماع على أنه لا يكفي في الرد عليهم كونه لم يحفظ عن صحابي أو تابعي وإنما يتم الرد إن حفظ إجماع مصرح بعدم الوجوب كذلك وأنى به وأما الثاني فممنوع بل يمكن التفرغ لعبادات أخر وأما الثالث فللقائلين بالوجوب إلتزامه وليس فيه حرج وأما الرابع فلأن جمعا صرحوا بالوجوب في حقه تعالى أيضا وأما الخامس فلأنه ورد في عدة طرق عن عدة من الصحابة أنهم لما قالوا : يارسول الله قالوا : صلى الله عليك وأما السادس فلأن حمل الأحاديث على ما ذكر لا يكفي إلا مع بيان سنده ولم يبينوه ثم القائلون بالوجوب كما ذكر أكثرهم على أن ذلك فرض عين على كل فرد فرد وبعضهم على أنه فرض كفاية وأختلفوا أيضا هل يتكرر الوجوب بتكرر ذكره في المجلس الواحد وفي بعض شروح الهداية يكفي مرة على الصحيح وقال صاحب المجتبي : يتكرر وفي تكرر ذكر الله تعالى لا يتكرر وفرق هو وغيره بينهما بما فيه نظر ويمكن الفرق بأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والتوسعة وحقوق العباد مبنية على المشاحة والتضييق ما أمكن والقول بأنها أيضا حق الله تعالى لأمره بها سبحانه ناشيء من عدم فهم المراد بحقه تعالى وقيل : إنها تجب في القعود آخر الصلاة بين التشهد وسلام التحلل وهذا هو مذهب الشافعي الذي صح عنه ونقل الأسنوي أن له قولا آخر إنها سنة في الصلاة لم يعتبره أجلة أصحابه ووافقه على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم وفقهاء الأمصار فمن الصحابة إبن مسعود فقد صح عنه أنه قال : يتشهد الرجل في الصلاة ثم يصلي على النبي ثم يدعو لنفسه وأبو مسعود البدري وإبن عمر فقد صح عنهما أنه لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة على النبي فإن نسيت من ذلك شيئا فأسجد سجدتين بعد السلام ومن التابعين الشعبي فقد صح عنه كنا نعلم التشهد فإذا قال : وأن محمدا عبده ورسوله يحمد ربه ويثني عليه ثم يصلي على النبي ثم يسأل حاجته
وأخرج البيهقي عنه من لم يصل على النبي في التشهد فليعد صلاته أو قال : لا تجزيء صلاته والإمام أبو جعفر محمد الباقر فقد روى البيهقي عنه نحو ما ذكر عن الشعبي وصوبه الدارقطني ومحمد بن كعب القرظي ومقاتل بل قال الحافظ إبن حجر : لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلا ما نقل عن إبراهيم النخعي وهذا يشعر بأن غيره كان قائلا بالوجوب ومن فقهاء الأمصار أحمد فإنه جاء عنه روايتان والظاهر أن رواية الوجوب هي الأخيرة فإنه قال : كنت أتهيب ذلك ثم تبينت فإذا الصلاة على النبي واجبة وإسحاق إبن راهويه فقد قال في آخر الروايتين عنه : إذا تركها عمدا بطلت صلاته أو سهوا رجوت أن تجزئة وهو قول عند المالكية أختاره إبن العربي منهم ولعله لازم للقائلين بوجوبها كلما ذكر لتقدم ذكره في التشهد إلا أن وجوبها بعد التشهد لذلك لا يستلزم كونها شرطا لصحة الصلاة إلا أنه يرد على القائلين بأن الشافعي رضي الله تعالى عنه شذ في قوله بالوجوب وأما دليله رضي الله تعالى عنه على ذلك فمذكور في الأم وقد أستدل له
(22/82)
أصحابه بعدة أحاديث منها الصحيح ومنها الضعيف وألفوا الرسائل في الإنتصار له والرد على من شنع عليه كإبن جرير وإبن المنذر والخطابي والطحاوي وغيرهم وأنا أرى التشنيع على مثل هذا الإمام شنيعا والتعصب مع قلة التتبع أمرا فظيعا والكلام في السلام كالكلام في الصلاة
وقد صرح إبن فارس اللغوي بأنهما سيان في الفرضية لأن كلا منهما مأمور به في الآية والأمر للوجوب حقيقة إلا إذا ورد ما يصرفه عنه وأفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ما علمه رسول الله عليه الصلاة و السلام لأصحابه بعد سؤالهم إياه لأنه لا يختار صلى الله تعالى عليه وسلم لنفسه إلا الأشرف والأفضل ومن هنا قال النووي في الروضة : لو حلف ليصلين على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل الصلاة لم يبر إلا بتلك الكيفية ووجهه السبكي بأن من أتى بها فقد صلى الصلاة المطلوبة بيقين وكان له الخير الوارد في أحاديث الصلاة كذلك ونقل الرافعي عن المروزي أنه يبر باللهم صل على محمد وآل محمد كلما ذكرك الذاكرون وكلما سها عنه الغافلون وقال القاضي حسين : طريق البر اللهم صل على محمد كما هو أهله ومستحقه وأختار البارزي أن الأفضل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد أفضل صلواتك وعدد معلوماتك وقال الكمال بن الهمام : كلما ذكر من الكيفيات موجود في اللهم صل أبدا أفضل صلواتك على سيدنا عبدك ونبيك ورسولك محمد وآله وسلم عليه تسليما وزده شرفا وتكريما وأنزله المنزل المقرب عندك يوم القيامة وأختار إبن حجر الهيثمي غير ذلك ونقل إبن عرفة عن إبن عبدالسلام أنه لا بد في السلام عليه صل الله تعالى عليه وسلم أن يزيد تسليما كأن يقول : اللهم صل على محمد وسلم تسليما أو صلى الله تعالى عليه وسلم تسليما وكأنه أخذ بظاهر ما في الآية وليس أخذا صحيحا كما يظهر بأدنى تأمل ونقل عن جمع من الصحابة ومن بعدهم أن كيفية الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يوقف فيها مع المنصوص وأن من رزقه الله تعالى بيانا فأبان عن المعاني بالألفاظ الفصيحة المباني الصريحة المعاني مما يعرب عن كمال شرفه صلى الله تعالى عليه وسلم وعظيم حرمته فله ذلك وأحتج له بما أخرجه عبدالرزاق وعبد بن حميد وإبن ماجه وإبن مردويه عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : إذا صليتم على النبي فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه قالوا : فعلمنا قال : قولوا اللهم أجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة اللهم أبعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وفي قوله سبحانه : صلوا عليه وسلموا تسليما رمز خفي فيما أرى إلى مطلوبية تحسين الصلاة عليه عليه الصلاة و السلام حيث أتى به كلاما يصلح أن يكون شطرا من البحر الكامل فتدبره فأني أظن أنه نفيس وأستدل النووي رحمه الله تعالى بالآية على كراهة إفراد الصلاة عن السلام وعكسه لورود الأمر بهما معا فيها ووافقه على ذلك بعضهم وأعترض بأن أحاديث التعليم تؤذن بتقدم تعليم التسليم على تعليم الصلاة فيكون قد أفرد التسليم مرة قبل الصلاة في التشهد ورد بأن الأفراد في ذلك الزمن لا حجة فيه لأنه لم يقع منه عليه الصلاة و السلام قصدا كيف والآية ناصة عليهما وإنما يحتمل أنه علمهم السلام وظن أنهم يعلمون الصلاة فسكت عن تعليمهم إياها فلما سألوه أجابهم صلى الله تعالى عليه وسلم لذلك وهو كما ترى وذكر العلامة إبن حجر الهيثمي أن الحق أن المراد بالكراهة خلاف الأولى إذ لم يوجد مقتضيها من النهي المخصوص
ونقل الحموي من أصحابنا عن منية المفتي أنه لا يكره عندنا أفراد أحدهما عن الآخر ثم قال نقلا عن العلامة
(22/83)
ميرك وهذا الخلاف في حق نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وأما غيره من الأنبياء عليهم السلام فلا خلاف في عدم كراهة الأفراد لأحد من العلماء ومن أدعى ذلك فعليه أن يورد نقلا صريحا ولا يجد إليه سبيلا إنتهى
وصرح بعضهم أن الكراهة عند من يقول بها إنما هي في الأفراد لفظا وأما الأفراد خطاكما وقع في الأم فلا كراهة فيه وعندي أن الإستدلال بالآية على كراهة الأفراد حسبما سمعت في غاية الضعف إذ قصارى ما تدل عليه أن كلا من الصلاة والتسليم مأمور به مطلقا ولا تدل على الأمر بالإتيان بهما في زمان واحد كأن يؤتى بهما مجموعين معطوفا أحدهما على الآخر فمن صلى بكرة وسلم عشيا مثلا فقد إمتثل الأمر فإنها نظير قوله تعالى : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأذكورا الله ذكرا كثيرا وسبحوه إلى غير ذلك من الأوامر المتعاطفة نعم درج أكثر السلف على الجمع بينهما فلا أستحسن العدول عنه مع ما في ذكر السلام بعد الصلاة من السلامة من توهم لا يكاد يعرض إلا للأذقان السقيمة كما لا يخفى وفي دخوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الخطاب بيا أيها الذين آمنوا هنا خلاف فقال بعضهم بالدخول وقد صرح بعض أجلة الشافعية بوجوب الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم في صلاته وذكر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي على نفسه خارجها كما هو ظاهر أحاديث كقوله حين ضلت ناقته وتكلم منافق فيها إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول الله وقوله حين عرض على المسلمين رد ما أخذه من أبي العاص زوج إبنته زينب قبل إسلامه وإن زينب بنت رسول الله سألتني الحديث فذكر التصلية والتسليم على نفسه بعد ذكره وإحتمال أن ذلك في الحديثين من الراوي بعيد جدا
وتوقف بعضهم في دخوله من حيث أن قرينة سياق ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلى هنا ظاهرة في إختصاص هذا الحكم بالمؤمنين دونه صلى الله تعالى عليه وسلم ونظر فيه بأن ما قبل هذه الآية صريح في إختصاصه بالمؤمنين وأما هي فلا قرينة فيها على الإختصاص وأنت تعلم أن للأصوليين في دخوله في نحو هذه الصيغة أقوالا عدمه مطقا وهو شاذ ودخوله مطلقا وهو الأصح على ما قال جمع والدخول إلا فيما صدر بأمره بالتبليغ نحو قل ياأيها الذين آمنوا وأنا أعول على الدخول إلا إذا وجدت قرينة على عدم الدخول سواء كانت الأمر بالتبليغ أولا وههنا السباق والسياق قرينتان على عدم الدخول فيما يظهر وعبر بالذين آمنوا دون الناس الشامل للكفار قيل : إشارة إلى أن الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم من أجل الوسائل وأنفعها والكافر لا وسيلة له فلم يؤت بلفظ يشمله ومخاطبة الكفار بالفروع على القول بها بالنسبة لعقابهم عليها في الآخرة فحسب على أن محل تكليفهم بها حيث أجمع عليها ومن ثم أستثنى من مخاطبتهم بها معاملتهم الفاسدة ونحوها
ولعل الأولى أن التعبير بذلك لما ذكر مع إقتضاء السياق له وفي نداء المؤمنين بهذا الأسلوب من حثهم على إمتثال الأمر ما لا يخفى والأمر بالصلاة والتسليم من خواص هذه الأمة فلم تؤمر أمة غيرها بالصلاة والتسليم على نبيها
وكان ذلك على ما نقل عن أبي ذر الهروي في السنة الثانية من الهجرة وقيل : كان في ليلة الإسراء وأنت تعلم أن الآية مدنية وأخرج عبد بن حميد وإبن المنذر عن مجاهد أنها لما نزلت قال أبو بكر : ما أنزل الله عليك خيرا إلا أشركنا فيه فنزلت هو الذي يصلي عليكم وملائكته وحكمة تغاير أسلوبي الآيتين ظاهرة على المتأمل والصلاة منا على الأنبياء ما عدا نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام جائزة بلا كراهة فقد جاء بسند صحيح على ما قاله المجد اللغوي إذا صليتم على المرسلين فصلوا على معهم فإني رسول من المرسلين وفي لفظ إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين وللأول طريق أخرى إسنادها حسن جيد لكنه مرسل
(22/84)
وأخرج عبدالرزاق والقاضي إسماعيل وإبن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله تعالى بعثهم كما بعثني وهو وإن جاء من طرق ضعيفة يعمل به في مثل هذا المطلب كما لا يخفى وأما ما حكى عن مالك من أنه لا يصلي على غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من الأنبياء فأوله أصحابه بأن معناه إنا لم نتعبد بالصلاة عليهم كما تعبدنا بالصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والصلاة على الملائكة قيل لا يعرف فيها نص وإنما تؤخذ من حديث أبي هريرة المذكور آنفا إذا ثبت أن الله تعالى سماهم رسلا وأما الصلاة على غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام فقد أضطربت فيها أقوال العلماء فقيل تجوز مطلقا قال القاضي عياض وعليه عامة أهل العلم وأستدل له بقوله تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته وبما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم صل على آل أبي أوفى وقوله عليه الصلاة و السلام وقد رفع يديه : اللهم أجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة وصحح إبن حبان خبر إن أمرأة قالت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : صل علي وعلى زوجي ففعل وفي خبر مسلم أن الملائكة تقول لروح المؤمن : صلى الله عليك وعلى جسدك وبه يرد على الخفاجي قوله في شرح الشفاء صلاة الملائكة على الأمة لا تكون إلا بتبعيته صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل لا تجوز مطلقا وقيل لا تجوز إستقلالا وتجوز تبعا فيما ورد فيه النص كالآل أو الحق به كالأصحاب وأختاره القرطبي وغيره وقيل تجوز تبعا مطلقا ولا تجوز إستقلالا ونسب إلى أبي حنيفة وجمع وفي تنوير الأبصار ولا يصلي على غير الأنبياء والملائكة إلا بطريق التبع وهو محتمل لكراهة الصلاة بدون تبع تحريما ولكراهتها تنزيها ولكونها خلاف الأولى لكن ذكر البيري من الحنفية من صلى على غيرهم أثم وكره وهو الصحيح وفي رواية عن أحمد كراهة ذلك إستقلالا ومذهب الشافعية أنه خلاف الأولى وقال اللقاني : قال القاضي عياض الذي ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك وسفيان وأختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر الأنبياء بالصلاة والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وأيضا فهو أمر لم يكن معروفا في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبه بأهل البدع منهي عنه فتجب مخالفتهم إنتهى ولا يخفى أن كراهة التشبه بأهل البدع مقررة عندنا أيضا لكن لا مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم فلا تغفل وجاء عن عمر بن عبدالعزيز بسند حسن أو صحيح أنه كتب لعامله إن ناسا من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على حلفائهم ومواليهم عدل صلاتهم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين خاصة ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك
وصح عن إبن عباس أنه قال : لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي رواية عنه ما أعلم الصلاة تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالإستغفار وكلاهما يحتمل الكراهة والحرمة وأستدل المانعون بأن لفظ الصلاة صار شعارا لعظم الأنبياء وتوقيرهم فلا تقال لغيرهم إستقلالا وإن صح كما لا يقال محمد عزوجل وإن كان عليه الصلاة
(22/85)
والسلام عزيزا جليلا لأن هذا الثناء صار شعارا لله تعالى فلا يشارك فيه غيره وأجابوا عما مر بأنه صدر من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لغيرهما إلا بإذنهما ولم يثبت عنهما إذن في ذلك ومن ثم قال أبو اليمن بن عساكر له صلى الله تعالى عليه وسلم أن يصلي على غيره مطلقا لأنه حقه ومنصبه فله التصرف فيه كيف شاء بخلاف أمته إذ ليس لهم أن يؤثروا غيره بما هوله لكن نازع فيه صاحب المعتمد من الشافعية بأنه لا دليل على الخصوصية وحمل البيهقي بالمنع على ما إذا جعل ذلك تعظيما وتحية وبالجواز عليها إذا كان دعاء وتبركا وأختار بعض الحنابلة أن الصلاة على الآل مشروعة تبعا وجائزة إستقلالا وعلى الملائكة وأهل الطاعة عموما جائزة أيضا وعلى معين شخص أو جماعة مكروهة ولو قيل بتحريمها لم يبعد سيما إذا جعل ذلك شعارا له وحده دون مساويه ومن هو خير منه كما تفعل الرافضة بعلي كرم الله تعالى وجهه ولا بأس بها أحيانا كما صلى عليه الصلاة و السلام على المرأة وزوجها وكما صلى عليه الصلاة و السلام على علي وعمر رضي الله تعالى عنهما لما دخل عليه وهو مسجى ثم قال : وبهذا التفصيل تتفق الأدلة وأنت تعلم إتفاقها بغير ما ذكر والسلام عند كثير فيما ذكر وفي شرح الجوهرة للقاني نقلا عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء عليهم السلام فلا يقال علي عليه السلام بل يقال رضي الله تعالى عنه وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر فيقال السلام أو سلام عليك أو عليكم وهذا مجمع عليه إنتهى وفي حكاية الإجماع على ذلك نظر
وفي الدر المنضود السلام كالصلاة فيما ذكر إلا إذا كان لحاضر أو تحية لحي غائب وفرق آخرون بأنه يشرع في حق كل مؤمن بخلاف الصلاة وهو فرق بالمدعي فلا يقبل ولا شاهد في السلام علينا وعلى عبادالله الصالحين لأنه وارد في محل مخصوص وليس غيره في معناه على أن ما فيه وقع تبعا لا إستقلالا
وحقق بعضهم فقال ما حاصله مع زيادة عليه السلام الذي يعم الحي والميت هو الذي يقصد به التحية كالسلام عند تلاق أو زيارة قبر وهو مستدع للرد وجوب كفاية أو عين بنفسه في الحاضر ورسوله أو كتابه في الغائب وأما السلام الذي يقصد به الدعاء منا بالتسليم من الله تعالى على المدعو له سواء كان بلفظ غيبة أو حضور فهذا هو الذي أختص به صلى الله تعالى عليه وسلم عن الأمة فلا يسلم على غيره منهم إلا تبعا كما أشار إليه التقي السبكي في شفاء الغرام وحينئذ فقد أشبه قولنا عليه السلام قولنا عليه الصلاة من حيث أن المراد عليه السلام من الله تعالى ففيه إشعار بالتعظيم الذي في الصلاة من حيث الطلب لأن يكون المسلم عليه الله تعالى كما في الصلاة وهذا النوع من السلام هو الذي أدعى الحليمي كون الصلاة بمعناه إنتهى
وأختلف في جواز الدعاء له صلى الله تعالى عليه وسلم بالرحمة فذهب إبن عبدالبر إلى منع ذلك ورد بوروده في الأحاديث الصحيحة منها وهو أصحها حديث التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ومنها قول الأعرابي : اللهم أزحمني ومحمدا وتقريره لذلك وقوله : اللهم إني أسألك رحمة من عندك اللهم أرجو رحمتك ياحي ياقيوم برحمتك أستغيث وفي خطبة رسالة الشافعي ما لفظه ورحم وكرم نعم قضية كلامه كحديث التشهد أن محل الجواز إن ضم إليه لفظ الصلاة أو السلام وإلا لم يجز وقد أخذ به جمع منهم الجلال السيوطي بل نقله القاضي عياض في الإكمال عن الجمهور قال القرطبي : وهو الصحيح وجزم
(22/86)
بعدم جوازه منفردا الغزالي عليه الرحمة فقال : لا يجوز ترحم على النبي ويدل له قوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا والصلاة وإن كانت بمعنى الرحمة إلا أن الأنبياء خصوا بها تعظيما لهم وتمييزا لمرتبتهم الرفيعة على غيرهم على أنها في حقهم ليست بمعنى مطلق الرحمة بل المراد بها ما هو أخص من ذلك كما سمعت فيما تقدم
نعم ظاهر قول الأعرابي السابق وتقريره عليه الصلاة و السلام له الجواز ولو بدون إنضمام صلاة أو سلام
قال إبن حجر الهيثمي : وهو الذي يتجه وتقريره المذكور خاص فيقدم على العموم الذي أقتضته الآية ثم قال : وينبغي حمل قول من قال لا يجوز ذلك على أن مرادهم نفي الجواز المستوي الطرفين فيصدق بأن ذلك مكروه أؤ خلاف الأولى وذكر زين الدين في بحره أنهم أتفقوا على أنه لا يقال إبتداء رحمه الله تعالى وأنا أقول : الذي ينبغي أن لا يقال ذلك إبتداء
وقال الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار : وينبغي أن لا يجوز غفر الله تعالى له أو سامحه لما فيه من إيهام النقص وهو الذي أميل إليه وإن كان الدعاء بالمغفرة لا يستلزم وجوب ذنب بل قد يكون بزيادة درجات كما يشير إليه إستغفاره عليه الصلاة و السلام في اليوم والليلة مائة مرة وكذا الدعاء بها للميت الصغير في صلاة الجنازة ومثل ذلك فيما يظهر عفا الله تعالى عنه وإن وقع في القرآن فإن الله تعالى له أن يخاطب عبده بما شاء وأرى حكم الترحم على الملائكة عليهم السلام كحكم الترحم عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ومن أختلف في نبوته كلقمان يقال فيه رضي الله تعالى عنه أو صلى الله تعالى على الأنبياء وعليه وسلم هذا وقد بقيت في هذا المقام أبحاث كثيرة يطول الكلام بذكرها جدا فلتطلب من مظانها والله تعالى ولي التوفيق وبيده سبحانه أزمة التحقيق
إن الذين يؤذون الله ورسوله أريد بالإيذاء إما إرتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازا لأنه سبب أو لازم له وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة وقيل في إيذائه تعالى : هو قول اليهود والنصارى والمشركين يد الله مغلولة والمسيح إبن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقيل قول الذين يلحدون في آياته سبحانه وقيل تصوير التصاوير وروى عن كعب ما يقتضيه وقيل في إيذاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هو قولهم : شاعر ساحر كاهن مجنون وحاشاه عليه الصلاة و السلام وقيل هو كسر رباعيته وشج وجهه الشريف وكان ذلك في غزوة أحد وقيل طعنهم في نكاح صفية بنت حيي والحق هو العموم فيهما وإما إيذاؤه عليه الصلاة و السلام خاصة بطريق الحقيقة وذكر الله عزوجل لتعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم ببيان قربه وكونه حبيبه المختص به حتى كان ما يؤذيه سبحانه كما أن من يطيعه يطيع الله تعالى
وجوز أن يكون الإيذاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف أي يؤذون أولياء الله ورسوله وليس بشيء وقيل يجوز أن يراد منه المعنى المجازي بالنسبة إليه تعالى والمعنى الحقيقي بالنسبة إلى رسوله عليه الصلاة و السلام وتعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل فيخف أمر الجمع بين المعنيين حتى أدعى بعضهم أنه ليس من الجمع الممنوع وليس بشيء لعنهم الله طردهم وأبعدهم من رحمته في الدنيا والآخرة بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها وذلك في الآخرة ظاهر وأما في الدنيا فقيل بمنعهم زيادة الهدى وأعد لهم مع ذلك عذابا مهينا 75 يصيبهم في الآخرة خاصة والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات يفعلون بهم ما يتأذون به
(22/87)
من قول أو فعل وتقييده بقوله تعالى بغير ما أكتسبوا أي بغير جناية يستحقون بها الأذية شرعا بعد إطلاقه فيما قبله للإيذان بأن أذى الله تعالى ورسوله لا يكون إلا في غير حق وأما أذى هؤلاء فمنه ومنه
وروى أن عمر رضي الله تعالى عنه قال يوما لأبي : ياأبا المنذر قرأت البارحة آية من كتاب الله تعالى فوقعت مني كل موقع والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات والله إني لأعاقبهم وأضربهم فقال : إنك لست منهم إنما أنت معلم ومقوم وقوله تعالى : الذين مبتدأ وقوله سبحانه فقد أحتملوا بهتانا أي فعلا شنيعا وقيل ما هو كالبهتان أي الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته في الإثم وقيل أحتمل بهتانا أي كذبا فظيعا إذا كان الإيذاء بالقول وإثما مبينا 85 أي ظاهرا بينا خبره ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط والآية قيل نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا كرم الله تعالى وجهه ويسمعونه مالا خير فيه
وأخرج إبن جويبر عن الضحاك عن إبن عباس قال : أنزلت في عبدالله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي الله تعالى عنها فخطب النبي وقال : من يعذرني من رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني فنزلت
وأخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنها إنها نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أخذ صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها وعن الضحاك والسدي والكلبي أنها نزلت في زناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر جهلا أو تجاهلا لإتحاد الكل في الزي واللباس والظاهر عموم الآية لكل ما ذكر ولكل ما سيأتي من أراجيف المرجفين وفيها من الدلالة على حرمة المؤمنين والمؤمنات ما فيها وأخرج إبن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال : يلقى الجرب على أهل النار فيحكون حتى تبدو العظام فيقولون ربنا بماذا أصابنا هذا فيقال : بأذاكم المسلمين وأخرج غير واحد عن قتادة قال : إياكم وأذى المؤمن فإن الله تعالى يحوطه ويغضب له
وأخرج إبن أبي حاتم وإبن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه أي الربا أربى عند الله قالوا : الله ورسوله أعلم قال : أربى الربا عند الله إستحلال عرض أمريء مسلم ثم قرأ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما أكتسبوا الآية يأأيها النبي بعد ما بين سبحانه سوء حال المؤذين زجرا لهم عن الإيذاء أمر النبي بأن يأمر بعض المتأذين منهم بما يدفع إيذاءهم في الجملة من التستر والتميز عن مواقع الإيذاء فقال عزوجل : قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن روى عن غير واحد أنه كانت الحرة والأمة تخرجان لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل من غير إمتياز بين الحرائر والإماء وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر فإذا قيل لهم يقولون حسبناهن إماء فأمرت الحراير أن يخالفن الإماء بالزي والتستر ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن والجلابيب جمع جلباب وهو على ما روى عن إبن عباس الذي يستر من فوق إلى أسفل وقال إبن جبير : المقنعة وقيل : الملحفة وقيل : كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها وقيل : كل ما تتستر به من كساء أو غيره وأنشدوا
تجلببت من سواد الليل جلبابا
وقيل هو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء والأدناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى الإرخاء أو السدل
(22/88)
ولذا عدى بعلي على ما يظهر لي ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل
ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال : أي يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ثم قال : أراد بالإنضام معنى الأدناء وفي الكشاف معنى يدنين عليهن يرخين عليهن يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدنى ثوبك على وجهك
وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن وقيل : على رؤسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه
وأختلف في كيفية هذا التستر فأخرج إبن جرير وإبن المنذر وغيرهما عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن فرفع ملحفة كانت عليه فتقنع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر وقال السدي : تغطى إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين وقال إبن عباس وقتادة : تلوى الجلبا فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه وفي رواية أخرى عن الحبر رواها إبن جرير وإبن أبي حاتم وإبن مردويه تغطى وجهها من فوق رأسها بالجلبا وتبدي عينا واحدة
وأخرج عبدالرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها
وأخرج إبن مردويه عن عائشة قالت : رحم الله تعالى نساء الأنصار لما نزلت ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك الآية شققن مروطهن فأعتجزن بها فصلين خلف رسول الله كأنما على رؤسهن الغربان
ومن للتبعيض ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين أحدهما أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب وإدناء ذلك عليهن أن يلبسنه على البدن كله وثانيهما أن يكون المراد بالبعض جزأ منه وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن والنساء مختصات بحكم العرف بالحرائر وسبب النزول يقتضيه وما بعد ظاهر فيه فإماء المؤمنين غير داخلات في حكم الآية
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أن غير الحرة لا تتقنع أخرج إبن أبي شيبة عن قلابة قال : كان عمر بن الخطاب لا يدع في خلافته أمة تتقنع ويقول : القناع للحرائر لكيلا يؤذين وأخرج هو وعبد بن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : رأى عمر رضي الله تعالى عنه جارية مقنعة فضربها بدرته وقال : القى القناع لا تتشبهي بالحرائر وجاء في بعض الروايات أنه رضي الله تعالى عنه قال لأمة رآها مقنعة : يالكعاء أتشبهين بالحرائر وقال أبو حيان : نساء المؤمنين يشمل الحرائر والإماء والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح إنتهى وأنت تعلم أن وجه الحرة عندنا ليس بعورة فلا يجب ستره ويجوز النظر من الأجنبي إليه إن أمن الشهوة مطلقا وإلا فيحرم وقال القهستاني : منع النظر من الشابة في زماننا ولو بلا شهوة وأما حكم أمة الغير ولو مدبرة أو أم ولد فكحكم المحرم فيحل النظر إلى رأسها ووجهها وساقها وصدرها وعضدها إن أمن شهوته وشهوتها وظاهر الآية لا يساعد على ما ذكر في الحرائر فلعلها محمولة على طلب تستر تمتاز به الحرائر عن الإماء أو العفائف مطلقا عن غيرهن فتأمل و يدنين
(22/89)
يحتمل أن يكون مقول القول وهو خبر بمعنى الأمر وأن يكون جواب الأمر على حد قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وفي الآية رد على من زعم من الشيعة أنه عليه الصلاة و السلام لم يكن له من البنات إلا فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم وأما رقية وأم كلثوم فربيبتاه عليه الصلاة و السلام ذلك أي ما ذكر من الأدناء والتستر أدنى أي أقرب أن يعرفن أي يميزن عن الإماء اللاتي هن مواقع تعرضهم وإيذائهم
ويجوز إبقاء المعرفة على معناها أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر فلا يؤذين من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن بناء عن أنهن إماء
وقال أبو حيان : أي ذلك أولى أن يعرفن لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن ولا يلقين بما يكرهن لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والإنضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها وهو تفسير مبني على رأيه في النساء وأياما كان فقد قال السبكي في طبقاته : إن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية أستنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن وإن لم يفعله السلف لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا فيعمل بأقوالهم وهو إستنباط لطيف وكان الله غفورا كثير المغفرة فيغفر سبحانه ما عسى يصدر من الإخلال بالتستر وقيل : يغفر ما سلف منهن من التفريط وتعقب بأنه إن أريد التفريط في أمر التستر قبل نزول الآية فلا ذنب قبل الورود في الشرع وإن أريد التفريط في غير ذلك ليكون وكان الله كثير المغفرة فيغفر ما سلف من ذنوبهن وإرتكابهن ما نهى عنه مطلقا فهو غير مناسب للمقام وجوز أن يراد التفريط في أمر التستر والأمر به معلوم من آية الحجاب إلتزاما وهو كما ترى رحيما 95 كثير الرحمة فيثيب من أمتثل أمره منهن بما هو سبحانه أهله وقيل : رحيما بهن بعد التوبة عن الإخلال بالتستر بعد نزول الآية وقبل : رحيما بعباده حيث راعى سبحانه في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات
لئن لم ينته المنافقون عما هم عليه من النفاق وأحكامه الموجبة للإيذاء والذين في قلوبهم مرض وهم قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه عما هم من التزلزل وما يستتبعه مما لا خير فيه والمرجفون في المدينة من اليهود المجاورين لها عما هم عليه من نشر أخبار السوء عن سرايا المسلمين وغير ذلك من الأراجيف الملفقة المستتبعة للأذية وأصل الأرجاف التحريك من الرجفة التي هي الزلزلة وصفت به الأخبار الكاذبة لكونها في نفسها متزلزلة غير ثابتة أو لتزلزل قلوب المؤمنين وإضطرابها منها والتغاير بين المتعاطفات على ما ذكرنا بالذات وهو الذي يقتضيه ظاهر العطف
وأخرج إبن المنذر وغيره عن مالك بن دينار قال : سألت عكرمة عن الذين في قلوبهم مرض فقال : هم أصحاب الفواحش وعن عطاء أنه فسرهم بذلك أيضا وفي رواية أخرى عنه أنه قال هم قوم مؤمنون كان في أنفسهم أن يزنوا فالمرض حب الزنا وإذا فسر المرجفون على ذلك بما سمعت يكون التغاير بين المتعاطفات بالذات أيضا
وأخرج إبن سعد عن محمد بن كعب أن الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون وهو المعروف في وصفهم
وأخرج هو أيضا عن عبيد بن حنين أن الذين في قلوبهم مرض والمرجفون جميعا هم المنافقون فيكون العطف مع الإتحاد بالذات لتغاير الصفات على حد
هو الملك القرم وإبن الهمام
فكأنه قيل : لئن لم ينته الجامعون
(22/90)
بين هذه الصفات القبيحة عن الإتصاف بها المفضى إلى الإيذاء لنغرينك بهم أي لندعوك إلى قتالهم وإجلائهم أو فعل ما يضطرهم إلى الجلاء ونحرضك على ذلك يقال : أغراه بكذا إذا دعاه إلى تناوله بالتحريض عليه وقال الراغب : غرى بكذا أي لهج به ولصق وأصل ذلك من الغراى وهو ما يلصق به وقد أغريت فلانا بكذا ألهجت به وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أي لنسلطنك عليهم ثم لا يجاورونك عطف على جواب القسم وثم للتفاوت الرتبي والدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول أعظم ما يصيبهم وأشده عندهم فيها أي في المدينة إلا قليلا 06 أي زمانا أو جوارا قليلا ريثما يتبين حالهم من الإنتهاء وعدمه أو يتلقطون عيالاتهم وأنفسهم
وفي الآية عليه كما في الإنتصاف إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتيسر له منزل آخر على حسب الإجتهاد ونصب قليلا على ما أشرنا إليه على الظرفية أو المصدرية وجوز أن يكون نصبا على الحال أي إلا قليلين أذلاء ولا يخفى حاله على ذي تمييز
وقوله تعالى : ملعونين نصب على الذم أي أذم ملعونين أو على الحال من فاعل لا يجاورونك والإستنثاء شامل له عند من يرى جواز نحو ذلك وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه وجعل إبن عطية المعنى على الحالية ينتفون ملعونين وجوز أن يكون حالا من ضميرهم في قوله تعالى : أين ما ثقفوا أي حصروا وظفر بهم وكأنه على معنى أينما ثقفوا متصفين بما هم عليه أخذوا أس أسروا ومنه الأخيذ للأسير وقتلوا تقتيلا 16 أي قتلوا أبلغ قتل وقريء قتلوا بالتخفيف فيكون تقتيلا مصدرا على غير الصدر وأعترض على الحالية مما ذكر بأن أداة الشرط لا يعمل ما بدعها فيما قبلها مطلقا وهذا أحد مذاهب للنحاة في المسئلة ثانيها الجواز مطلقا وثالثها جواز تقديم معمول الجواب دون معمول الشرط وجوز على تقدير كون قليلا حالا أن يكون ملعونين بدلا منه وتعقبه أبو حيان بأن البدل بالمشتق قليل ثم قال : والصحيح أن ملعونين صفة لقليل أي إلا قليلين ملعونين ويكون قليلا مستثنى من الواو في لا يجارونك والجملة الشرطية صفة أيضا أي مقهورين مغلوبا عليهم وهو كما ترى
وقوله تعالى : سنة الله في الذين خلوا من قبل مصدر مؤكد أي سن الله تعالى ذلك في الأمم الماضية سنة وهي قتال الذين يسعون بالفساد بين قوم وإجلائهم عن أوطانهم وقهرهم أينما ثقفوا متصفين بذلك
ولن تجد أيها النبي أو يأمن يصح منك الوجدان أبدا لسنة الله لعادته عزوجل المستمرة تبديلا 26 لإبتنائها على أساس الحكمة فلا يبدلها هو جل شأنه وهيهات هيهات أن يقدر غيره سبحانه على تبديلها ومن سبر أخبار الماضين وقف على أمر عظيم في سوء معاملتهم المفسدين فيما بينهم وكأن الطباع مجبولة على سوء المعاملة معهم وقهرهم وفي تفسير الفخر ولن تجد لسنة الله تبديلا أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ وللسدي كلام غريب في الآية لا أظن أن أحدا قال به
أخرج إبن أبي حاتم عنه أنه قال فيها : كان النفاق على ثلاثة أوجه : نفاق مثل نفاق عبدالله بن سلول ونظائره كانوا وجوها من وجوه الأنصار فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا يصونون بذلك
(22/91)
أنفسهم وهم المنافقون في الآية ونفاق الذين في قلوبهم مرض وهم منافقون إن تيسر لهم الزنا عملوه وإن لم يتيسر لم يتبعوه ويهتموا بأمره ونفاق المرجفين وهم منافقون يكابرون النساء يقتصون أثرهن فيغلبوهن على أنفسهن فيفجرون بهن وهؤلاء الذين يكابرون النساء لنغرينك بهم يقول سبحانه لنعلمنك بهم ثم قال تعالى ملعونين ثم فصلت الآية أينما ثقفوا يعملون هذا العمل مكابرة النساء أخذوا وقتلوا تقتيلا ثم قال السدي : هذا حكم في القرآن ليس يعمل به لو أن رجلا وما فوقه أقتصوا أثر أمرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيها عبر الجلد والرجم وهو أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم سنة الله في الذين خلوا من قبل كذلك كان يفعل بمن مضى من الأمم ولن تجد لسنة الله يبديلا فمن كابر أمرأة على نفسها فغلبها فقتل فليس على قاتله دية لأنه يكابر إنتهى والظاهر أنه قد وقع الإنتهاء من المنافقين والذين في قلوبهم مرض عما هو المقصود بالنهي وهو ما يستتبعه حالهم من الإيذاء ولم يقع من المرجفين أعني اليهود فوقع القتال والإجلاء لهم
وفي البحر الظاهر أن المنافقين يعني جميع من ذكر في الآية إنتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين وتستر جميعهم وكفوا خوفا من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه وهو الإغراء والإجلاء والقتل وحكى ذلك عن الجبائي وعن أبي مسلم لم ينتهوا وحصل الإغراء بقوله تعالى جاهد الكفار والمنافقين وفيه أن الإجلاء والقتل لم يقعا للمنافقين والجهاد في الآية قولى وقيل إنهم لم يتركوا ما هم عليه ونهوا عنه جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملا ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ونهيه تعالى عن الصلاة عليهم وما نزل في سورة براءة وزعم بعضهم أنه لم ينته أحد من المذكورين أصلا ولم ينفذ الوعيد عليهم ففيه دليل على بطلان القول بوجوب نفاذ الوعيد في الآخرة ويكون هذا الوعيد مشروطا بالمشيئة وفيه من البعد ما فيه
يسألك الناس عن الساعة أي عن وقت قيامها ووقوعها كان المشركون يسألونه عن ذلك إستعجالا بطريق الإستهزاء والمنافقون تعنتا واليهود إمتحانا لما أنهم يعلمون من التوراة أنها مما أخفاه الله تعالى فيسألونه عليه الصلاة و السلام ليمتحنوه هل يوافقها وحيا أولا قل إنما علمها عند الله لا يطلع سبحانه عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وما يدريك خطاب مستقل له غير داخل تحت الأمر مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة مرجوة المجيء عن قريب وما إستفهام في موضع الرفع بالإبتداء والجملة بعده خبر أي اي شيء يعلمك بوقت قيامها والمعنى على النفي أي لا يعلمنك به شيء أصلا
لعل الساعة تكون قريبا 36 أي لعلها توجد وتتحقق في وقت قريب فقريبا منصوب على الظرفية وإستعماله كذلك كثير و تكون تامة ويجوز أن تكون ناقصة وإذا كان قريبا الخبر وأعتبر وصفا لا ظرفا فالتذكير لكونه في الأصل صفة لخبر مذكر يخبر به عن المؤنث وليس هو الخبر أي لعل الساعة تكون شيئا قريبا وجوز أن يكون ذلك رعاية للمعنى من حيث أن الساعة بمعنى اليوم أو الوقت
وقال أبو حيان : يجوز أن يكون ذلك لأن التقدير لعل قيام الساعة فلوحظ الساعة في تكون فأنث ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قريبا فذكر ولا يخفى بعده وقيل إن قريبا لكونه فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى إن رحمة الله قريب من المحسنين وقد تقدم ما في ذلك وفي الكلام تهديد للمستعجبين
(22/92)
المستهزئين وتبكيت للمتعنتين والممتحنين والإظهار في موضع الإضمار للتهويل وزيادة التقرير وتأكيد إستقلال الجملة كما أشير إليه إن الله لعن الكافرين على الإطلاق أي طردهم وأبعدهم عن رحمته العاجلة والآجلة وأعد هيأ لهم مع ذلك في الآخرة سعيرا 46 نارا شديدة الإتقاد كما يؤذن بذلك صيغة المبالغة خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ومتوليا لأمرهم يحفظهم ولا نصيرا 56 ناصرا يخلصهم منها يوم تقلب وجوههم في النار ظرف لعدم الوجدان وقيل لخالدين وقيل لنصير وقيل مفعول لا ذكر أي يوم تصرف وجوههم فيها من جهة إلى جهة كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر فيدور به الغليان من جهة إلى جهة أو يوم تتغير وجوههم من حال إلى حال فتتوارد عليها الهيئات القبيحة من شدة الأهوال او يوم يلقون في النار مقلوبين منكوسين وتخصيص الوجوه بالذكر لما أنها أكرم الأعضاء ففيه مزيد تفظيع للأمر وتهويل للخطب ويجوز أن تكون عبارة عن كل الجسد وقرأ الحسن وعيسى وأبو جعفر الرواسي تقلب بفتح التاء والأصل تتقلب فحذفت إحدى التاءين وقرأ إبن أبي عبلة بهما على الأصل وحكى إبن خالويه عن أبي حيوة أنه قرأ نقلب وجوههم بإناد الفعل إلى ضمير العظمة ونصب وجوههم على المفعولية
وقرأ عيسى الكوفة تقلب وجوههم بإناد الفعل إلى ضمير السعير إتساعا ونصب الوجوه يقولون إستئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم الفظيعة كأنه قيل : فماذا يصنعون عند ذلك فقيل : يقولون متحسرين على ما فاتهم ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا 66 فلا نبتلي بهذا العذاب أو حال من ضمير وجوههم أو من نفسها
وجوز أن يكون هو الناصب ليوم وقالوا عطف على يقولون والعدول إلى صيغة الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرا كقولهم السابق بل هو ضرب إعتذار أرادوا به ضربا من التشفي بمضاعفة عذاب الذين أوردوهم هذا المورد الوخيم وألقوهم في ذلك العذاب الأليم وإن علموا عدم قبوله في حق خلاصهم بما هم فيه
ربنا أطعنا سادتنا أي ملوكنا وولاتنا الذين يتولون تدبير السواد الأعظم منا وكبراءنا أي رؤساءنا الذين أخذنا عنهم فنون الشر وكان هذا في مقابلة ما تمنوه من إطاعة الله تعالى وإطاعة الرسول فالسادة والكبراء متغايران والتعبير عنهما بعنوان السيادة والكبر لتقوية الإعتذار والأفهم في مقام التحقير والإهانة
وقدموا في ذلك إطاعة السادة لما أنه كان لهم قوة البطش بهم لو لم يطيعوهم فكان ذلك أحق بالتقديم في مقام الإعتذار وطلب التشفي وقيل : بإتحاد السادة والكبراء والعطف على حد العطف في قوله
وألفى قولها كذبا ومينا
والمراد بهم العلماء الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم وعن قتادة رؤساؤهم في الشر والشرك
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلمي وإبن عامر والعامة في الجامع بالبصرة ساداتنا على جمع الجمع وهو شاذ كبيوتات وفيه على ما قيل دلالة على الكثرة ثم إن كون سادة جمعا هو المشهور وقيل : أسم جمع فإن كان جمعا لسيد فهو شاذ أيضا فقد نصوا على شذوذ فعلة في جمع فعيل وإن كان جمعا لمفرد مقدر وهو سائد كان ككافر وكفرة لكنه شاذ أيضا لأن فاعلا لا يجمع على فعلة إلا في الصحيح فأضلونا السبيلا 76 أي جعلونا ضالين
(22/93)
عن الطريق الحق بما دعونا إليه وزينوه لنا من الأباطيل والألف للأطلاق كما في وأظعنا الرسولا
ربنا آتهم ضعفين من العذاب أي عذابين يضاعف كل واحد منهما الآخر عذابا على ضلالهم في أنفسهم وعذابا على إضلالهم لنا وألعنهم لعنا كبيرا 86 أي شديدا عظينا فإن الكبر يستعار للعظمة مثل كبرت كلمة ويستفاد التعظيم من التنوين أيضا وقرأ الأكثر كثيرا بالثاء المثلثة أي كثير العدد وتصدير الدعاء بالنداء مكررا للمباغة في الجؤار وأستدعاء الإجابة ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى قيل نزلت فيما كان من أمر زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وتزوجه بها وما سمع في ذلك من كلام آذاه عليه الصلاة و السلام فبرأه الله مما قالوا أي من قولهم أو الذي قالوه وأياما كان فالقول هنا بمعنى المقول والمراد به مدلوله الواقع في الخارج وبتبرئة الله تعالى إياه من ذلك إظهار براءته عليه السلام منه وكذبهم فيما أسندوا إليه لأن المرتب على أذاهم ظهور براءته لأنها مقدمة عليه وإستعمال الفعل مجازا عن إظهاره والمقول بمعنى المضمون كثير شائع فالمعنى فأظهر الله تعالى براءته من الأمر المعيب الذي نسبوه إليه عليه السلام وقيل : لا حاجة إلى ما ذكر فإنه تعالى لما أظهر براءته عما أفتروه عليه أنقطعت كلماتهم فيه فبريء من قولهم على أن برأه بمعنى خلصه من قولهم لقطعه عنه وتعقب بأنه مع تكلفه لأن قطع قولهم ليس مقصودا بالذات بل المراد إنقطاعه لظهور خلافه لا بد من ملاحظة ما ذكر والمراد بالأمر الذي نسبوه إليه عليه السلام عيب في بدنه
أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمدي وجماعة من طريق أبي هريرة قال : قال رسول الله إن موسى عليه السلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء إستحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده أما برص وأما آفة وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وأن موسى عليه السلام خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم أغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عليه السلام عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى إنتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله تعالى وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فذلك قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا
وقيل : إن ذلك ما نسبوه إليه عليه السلام من قتل هرون أخرج إبن منيع وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم وإبن مردويه والحاكم وصححه عن إبن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية : صعد موسى وهرون عليهما السلام الجبل فمات لهرون فقالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته كان أشد حبا لنا منك وألين فآذوه من ذلك فأمر الله تعالى الملائكة عليهم فحملوه فمروا به على مجالس بني إسرائيل وتكلمت الملائكة عليهم السلام بموته فبرأه الله تعالى فأنطلقوا به فدفنوه ولم يعرف قبره إلا الرخم وإن الله تعالى جعله أصم أبكم وفي رواية عن إبن عباس وأناس من الصحابة أن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف لهرون فأت جبل كذا فأنطلقا نحو الجبل فأذاهم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه فقال ياموسى إني أحب إن أنام على هذا السرير قال نم عليه قال نم معي فلما ناما أخذ لهرون الموت فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل لهرون
(22/94)
وحسده لحب بني إسرائيل له وكان هرون أكف عنهم وألين لهم وكان في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال : ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه وقيل : ما نسبوه إليه عليه السلام من الزنا وحاشاه روى أن قارون أغرى مومسة على قذفه عليه السلام بنفسها ودفع إليها مالا عظيما فأقرت بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل به ما فعل كما فصل في سورة القصص ويبعد هذا القول تبعيدا ما جمع الموصول وقيل : ما نسبوا إليه من السحر والجنون وقيل : ما حكى عنهم في القرآن من قولهم أذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون وقولهم لن نصبر على طعام واحد وقولهم لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة إلى غير ذلك ويمكن حمل ما قالوا على جميع ما ذكر
وكان عند الله وجيها 96 أي كان ذا جاه ومنزلة عنده عزوجل وفي معناه قول قطرب : كان رفيع القدر ونحوه قول إبن زيد : كان مقبولا وأخرج إبن أبي حاتم عن الحسن أنه قال وجيها مستجاب الدعوة وزاد بعضهم ما سأل شيئا إلا أعطى إلا الرؤية في الدنيا ولا يخفى أن إستجابة الدعوة من فروع رفعة القدر وقيل : وجاهته عليه السلام أن الله تعالى كلمه ولقب كليم الله وقرأ إبن مسعود والأعمش وأبو حيوة عبدا من العبودة لله بلام الجر فيكون عبدا خبر كان ووجيها صفة له وهي قراءة شاذة وفي صحة القراءة بالشواذ كلام
قال إبن خالويه : صليت خلف إبن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ وكان عبدالله على قراءة إبن مسعود ولعل إبن شنبوذ ممن يرى صحة القراءة بها مطلقا ويحتمل مثل ذلك في إبن خالويه وإلا فقد قال الطيبي : قال صاحب الروضة : وتصح بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصان وههنا بين المعنيين : وأن كما يشير إليه كلام الزمخشري ونحوه عن إبن جني ياأيها الذين آمنوا أتقوا الله في كل ما تأتون وتذرون لا سيما في إرتكاب ما يكرهه تعالى فضلا عما يؤذي رسوله وحبيبه صلى الله تعالى عليه وسلم وقولوا في كل شأن من الشؤن قولا سديدا 07 قاصدا ومتوجها إلى هدف الحق من سديد بكسر السين سدادا بفتحها يقال سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل به عن سمته والمراد على ما قيل نهيهم عن ضد هذا القول وهو القول الذي ليس بسديد ويدخل فيه ما صدر منهم في قصة زينب من القول الجائر عن العدل والقصد وكذا كل قول يؤذيه عليه الصلاة و السلام وعن مقاتل وقتادة أن المعنى وقولوا قولا سديدا في شأن الرسول عليه الصلاة و السلام وزيد وزينب وعن إبن عباس وعكرمة تخصيص القول السديد بلا إله إلا الله وقيل : هو ما يوافق ظاهره باطنه وقيل : ما فيه إصلاح ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى يصلح لكم أعمالكم بالقبول والإثابة عليها على ما روى عن إبن عباس ومقاتل وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية
ويغفر لكم ذنوبكم ويجعلها مكفرة بإستقامتكم في القول والعمل ومن يطع الله ورسوله في الأوامر والنواهي التي من جملتها ما تضمنته هذه الآيات فقد فاز في الدارين فوزا عظيما 17 لا يقادر قدره ولا تبلغ غايته
قال في الكشاف وهذه الأية يعني ياأيها الذين آمنوا أتقوا الله إلى آخرها مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يوذي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهذه على الأمر بإتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع إتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام لأن وصفه بوجاهته عند الله
(22/95)
تعالى متضمن أنه تعالى أنتقم له من آذاه وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه إنتهى فلا تغفل
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها لما بين جل شأنه عظم شأن طاعة الله تعالى ورسوله ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والإلتزام من غير جبر هناك ولا إبرام وعبر عنها بالأمانة وهي في الأصل مصدر كالأمن والأمان تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين وأئتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والإنقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها وعبر عن إعتبارها بالنسبة إلى إستعداد ما ذكر من السموات وغيرها من حيث الخصوصيات بالعرض عليهن لإظهار مزيد الإعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها وعن عدم إستعدادهن لقبولها ومنافاتها لما هن عليه بالإباء والإشفاق منها لتهويل أمرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في القوة والشدة مراعاتها وكانت ذات شعور وإدراك لأبين قبولها وخفن منها لكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق لزيادة تحقيق المعنى المقصود وتوضيحه
وحملها الإنسان أي هذا الجنس نحو إن الإنسان لربه لكنود وإن الإنسان ليطغى وحمله إياها إما بإعتبارها بالإضافة إلى إستعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أي تكلفها وألتزمها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة وهو إما عبارة عن قبولها بموجب إستعداده الفطري أو عن القبول القولي يوم الميثاق وتخصيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون أيضا وكذا الملائكة عليهم السلام وإن لم يكن في ذلك كلفة عليهم لما أنه ليس فيه ما يخالف طباعهم لأن الكلام معه وقوله تعالى إنه كان ظلوما جهولا 27 إعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما تحمل والتأكيد لمظنة التردد أي إنه كان مفرطا في الظلم مبالغا في الجهل أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو قبولهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تعالى تبديلا ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض أفراده فضلا عن وجوده في غالبها وإلى الفريق الأول أشير بقوله تعالى : ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات أي حملها الإنسان ليعذب الله تعالى بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعلقة بها أبرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية وإلى الفريق الثاني أشير بقوله سبحانه ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة
(22/96)
وتلا فيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والإلتفات إلى الأسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة والإظهار في موضع الإضمار ثانيا لإبراز مزيد الإعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه كذا قال بعض الأجلة في تفسير الآية ووراء ذلك أقوال فقيل الأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء والكلام تقرير الوعد الكريم الذي ينبيء عنه قوله تعالى ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما بجعل تعظيم شأن الطاعة زديعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم الشأن وراعاه فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين وتعقب بأن جعل الأمانة التي شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التي هي من أفعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل عن التقريب وإن حمل الكلام على التقرير بالوجه الذي قرر يأباه وصف الإنسان بالظلم والجهل أولا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانيا وقد يقال : مراد ذلك القائل أن الأمانة هي الطاعة من حيث أمره عزوجل بها وأن قوله تعالى إنه كان إلخ على معنى أنه كان كذلك إن لم يراع حقها فتأمل وأخرج إبن جرير وغيره عن إبن عباس أن الأمانة الفرائض وروى نحوه عن سعيد بن جبير وهو غير ما ذكر أولا بناء على أن التكليفات الشرعية مراد بها المعنى المصدري دون أسم المفعول وقيل : الصلاة فقد روى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذا دخل وقت الصلاة أصفر وجهه الشريف وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال : إنه دخل على وقت أمانة عرضها الله تعالى على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقد حملتها أنا مع ضعفي فلا أدري كيف أؤديها وحكى السفيري أنها الغسل من الجنابة وقيل الصلاة والصيام والغسل من الجنابة فقد أخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الأمانة ثلاث الصلاة والصيام والغسل من الجنابة وفي رواية عن السدي والضحاك أنها أمانات الناس المعروفة والوفاء بالعهود وقيل هي أن لا تغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير وقيل : هي كلمة التوحيد لأنها المدار الأعظم للتكليفات الشرعية وقيل هي الأعضاء والقوى فقد أخرج إبن أبي الدنيا في الورع والحكيم الترمذي عن عبدالله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه ثم قال هذه أمانتي عندك فلا تضعها إلا في حقها فالفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة
ولا يخفى أن تفسير الأمانة في الآية بالأعضاء مما لا ينبغي أن يتلفت إليه والخبر المذكور إن صح لا يدل عليه ومثله بل دونه بكثير أنها حروف التهجي ولا يكاد يقول به إلا أطفال المكاتب وأقرب الأقوال المذكورة للقبول القول بأنها الفرائض أي من فعل وترك وتخصيص شيء منها بالذكر في خبران صح لا يدل على أنه الأمانة في الآية لا غيره وكم يخص بعض أفراد العام بالذكر لنكتة وقال أبو حيان لنكتة وقال أبو حيان : الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا ويعم هذا المعنى جميع ما تقدم وفيها أقوال أخر ستأتي إن شاء الله تعالى وأختلفت كلمات الذاهبين إلى أنها الفرائض في تحقيق ما بعد فقيل الكلام على حذف مضاف والتقدير إنا عرضنا الأمانة على أهل السموات إلخ
وحكى ذلك عن الجبائي وليس بشيء وقيل الكلام على ظاهره وكذا العرض والأباء وذلك أنه عزوجل خلق للسموات الأرض والجبال فهما وتمييزا فخيرت في الحمل فأبت وروى ذلك عن إبن عباس
(22/97)
وأخرجوأخرج إبن المنذر وإبن أبي حاتم وإبن الأنباري عن إبن جريج قال : بلغني أن الله تعالى لما خلق السموات والأرض والجبال قال : إني فارض فريضة وخالق جنة ونارا وثوابا لمن أطاعني وعقابا لمن عصاني فقالت السموات خلقتني فسخرت في الشمس والقمر والنجوم والسحاب والريح فأنا مسخرة على ما خلقتني لا أتحمل فريضة ولا أبغي ثوابا ولا عقابا ونحو ذلك قالت الأرض والجبال ويعلم مما ذكر أن الأباء لم يكن معصية لأنه لم يكن هناك تكليف بل تخيير وأما كونها أستحقرت أنفسها عن أن تكون محل الأمانة فلا ينفي عنهن العصيان بالأباء لو كان هناك تكليف بالحمل وقيل : لا حذف والكلام من باب التمثيل على ما سمعت أولا
وذهب كثير إلى أن المراد بحملها إلتزام القيام بها وبالإنسان آدم عليه السلام وأختلف في حمله إياها هل كان بعد عرضها عليه أو بدونه فقيل كان بعد العرض
فقد أخرج إبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم أن الله تعالى عرض الأمانة على السماء الدنيا فأبت ثم التي تليها فأبت حتى فرغ منها ثم الأرضين ثم الجبال ثم عرضها على آدم عليه السلام فقال نعم بين أذني وعاتقي الخبر وقيل : بدونه
قال إبن الجوزي : لما خلق الله عزوجل آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح مثلت له الأمانة بصخرة ثم قال : للسموات أحملي هذه فأبت وقالت : إلهي لا طاقة لي بها وقال سبحانه : للأرض أحمليها فقالت : لا ط اقة لي بها وقال تعالى للجبال : أحمليها فقالت : لا طاقة لي بها فأقبل آدم عليه السلام فحركها بيده وقال لو شئت لحملتها فحملها حتى بلغت حقويه ثم وضعها على عاتقه فلما أهوى ليضعها نودي من جانب العز يا آدم مكانك لا تضعها فهذه الأمانة قد بقيت في عنقك وعنق أولادك إلى يوم القيامة ولكم عليها ثواب في حملها وعقاب في تركها وهذا ظاهر في أن الحمل على حقيقته وفي أن العرض على السموات والأرض والجبال كان بمسمع من آدم عليه السلام وإلى هذا ذهب إبن الأنباري وفي بعض الآثار ما يدل على أن العرض عليهن قبل خلقه عليه السلام
أخرج إبن أبي حاتم عن مجاهد قال : لما خلق الله تعالى السموات والأرض عرض عليهن الأمانة فلم يقبلنها فلما خلق آدم عليه السلام عرضها عليه فقال : يارب وما هي قال سبحانه : هي إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك قال : فقد تحملت يارب فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج إلا قدر ما بين الظهر والعصر وكأني بك تختار من هذه الأقوال أن العرض على تقدير كونه بعد إعطاء الفهم والتمييز كان بمسمع من آدم عليه السلام وأنه بعد أن سمع الأباء حملته الغيرة على الحمل وربما يفضي بك هذا إلى إختيار القول بأنه حمل الأمانة بدون عرضها عليه كما هو ظاهر الآية وبه يتأكد وصفه بما وصف لكني لا أظنك تقول بصحة حديث تمثل الأمانة بصخرة وإن قلت بصحة تمثل المعاني بصور الأجسام كما ورد في حديث ذبح الموت وغيره وأنا لا أميل إلى القول بأن المراد بالإنسان آدم عليه السلام وإن كان أول أفراد الجنس ومبدأ سلسلتها لمكان إنه كان ظلوما جهولا فإنه يبعد غاية البعد وصف صفي الله عزوجل بنص إن الله أصطفى آدم بمزيد الظلم والجهل وكون المعنى كان ظلوما جهولا بزعم الملائكة عليهم السلام قول بارد وحمله على معنى كان ظلوما لنفسه حيث حملها على ضعفه ما أبت الأجسام القوية حمله جهولا بقدر ما دخل فيه أو بعاقبة ما تحمل ولا يزيل البعد ولا أستسحن كون المراد كان من شأنه لو خلى ونفسه ذلك كما قيل :
(22/98)
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم إلا على القول بإرادة الجنس وإخراج الكلام مخرج الإستخدام على نحو ما قالوا في عندي درهم ونصفه بعيد لفظا ومعنى وقيل المراد بالأمانة مطلق الأنقياد الشامل للطبيعي والإختياري وبعرضها أستدعاؤه الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والإمتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته وأنشدوا
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أخرجتك الودائع فيكون الأباء إمتناعا من الخيانة وإتيانا بالمراد فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتنا وأتين بما أمرناهن به لقوله تعالى أتينا طائعين وخائها الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا ولا يخفى بعده ولم نر في المأثور ما يؤيده نعم أن العوام يقولون : إن الأرض لا تخون الأمانة حتى أنهم جرت عادتهم في بلادنا أنهم إذا أرادوا دفن ميت في مكان ولم يتيسر لهم وضعوه في قبر وقالوا حين الوضع مخاطبين الأرض : هذا أمانة عندك كذا شهرا أو كذا سنة وحثوا التراب عليه وأنصرفوا فإذا نبشوا القبر قبل مضي المدة وجدوه كما وضعوه لم يتغير منه شيء فيخرجونه ويدفنونه حيث أرادوا وإذا بقي حتى تمضي المدة التي عينوها وجدوه متغيرا وهذا أمر تواتر نقله لنا وهو مما يستبعده العقل وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق الزجاج إلا أنه قال : عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات ونقله عنه أبو حيان وذكر البيت المار آنفا لكنه تعقبه بأن الحمل فيه ليس نصا في الخيانة وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن إعتبارها بالإضافة إلى إستعدادهن وبابأئهن الأباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والإستعداد لها وبحمل الإنسان قابليته وإستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية الداعية للظلم والشهوية الداعية للجهل بعواقب الأمور قيل وعليه ينتظم قوله تعالى : إنه كان ظلوما جهولا مع ما قبله على أنه علته بإعتبار حمل العقل عليه بمعنى إيداعه فيه لأجل إصلاح ما فيه من القوتين المحتاجتين إلى سلطان العقل الحاكم عليهما فكأنه قيل : حملناه ذلك لما فيه من القوى المحتاجة لقهره وضبطه وكذا إذا أريد التكليف فإن معظم المقصود منه تعديل تلك القوى وكسر سورتها ومن هنا قيل إنه أقرب للتحقيق وقيل الأمانة تجلياته عزوجل بأسمائه الحسنى وصفاته تعالى العليا وعرضها عليهن وإباؤهن وحمل الإنسان كالمذكور آنفا
وقوله تعالى : إنه كان ظلوما جهولا تعليل للحمل مشار به إلى قوة إستعداده وقوله سبحانه ليعذب تعليل للعرض على معنى عرضنا ذلك لتظهر تجلياتنا الجلالية والجمالية ويشير إلى هذا قول العلامة الطيبي عليه الرحمة : إن الله تعالى خلق الخلق ليكون مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا فحامل معنى الكبرياء والعظمة السموات والأرض والجبال من حيث كونها عاجزة عن حمل سائر الصفات لعدم إستعدادها لقبولها ولذلك أبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لقوة إستعداده وإقتداره لكونه ظلوما جهولا فأختص لذلك من بين سائر المخلوقات بقبول تجلي القهارية والتوابية والمغفرة وشاركها بقبول تجلى الرحمة وله النصيب الأوفر منها لقوة إستعداده وإقتداره وهو مشرب صوفي كما لا يخفى وأنا أختار كون الأمانة كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته ولها أفراد كثيرة متفاوتة في جلالة القدر وإن عرضها على تلك الأجرام كان على وجه التخيير
(22/99)
لهن في حملها لا الإلزام وأنهن خوطبن في ذلك وعقلن الخطاب والله عزوجل قادر على أن يخلق في كل ذرة من ذرات الكائنات الحياة والعلم كما خلقهما سبحانه في ذوي الألباب بل ذهب الفلاسفة إلى القول بثبوت النفوس والحركة الأرادية للأفلاك بل قال بعضهم نحو ذلك في الكواكب وأثبت الحركة الإرادية ونفي القواسر هناك وأن المراد بالإنسان الجنس وأن قوله تعالى : إنه كان ظلوما جهولا في موضع التعليل للحمل
ووصف الجنس بصيغتي المبالغة لكثرة الأفراد المتصفة بالظلم والجهل منه وإن لم يكونا فيها على وجه المبالغة بل لا يخلو فرد من الأفراد عن الإتصاف بظلم ما وجهل ما ولا يجب في وصف الجنس بصيغة المبالغة تحقق تلك الصفة في الأفراد كلا أو بعضا على وجه المبالغة نعم إن تحقق ذلك فهو زيادة خير كما فيما نحن فيه فإن أكثر أفراد الإنسان في غاية الظلم ونهاية الجهل ولعل المراد بظلوم جهول من شأنه الظلم والجهل وأن قوله تعالى : ليعذب إلخ متعلق بعرضنا على أنه تعليل له وفي الكلام إلتفات لا يخفى وتقديم التعذيب لأنه أوفق بصفتي الظلم والجهل وقيل : لأن الأمانة من حكمها اللازم أن خائنها يضمن وليس من حكمها أن حافظها يؤجر ومقابلة التعذيب بالتوبة دون الإثابة أو الرحمة للإشارة إلى أن في المؤمنين والمؤمنات من يصدر منه ما يصح أن يعذب عليه ومع ذلك لا يعذب وفيه إشعار بأنه لا يعذب على كل ظلم وجهل وفي هذا من إدخال السرور على المؤمنين والكآبة على أضدادهم ما فيه وأيضا أن ذلك أوفق بظاهر قوله تعالى : إنه كان ظلوما جهولا وقيل لم يعتبر بالإثابة لأنها علمت من قوله سبحانه : ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما فعبر بما ذكر للتنبيه على أن ذلك بمحض الفضل وهو كما ترى وقيل إن ذاك لأن التذييل متكفل بإفادة رحمتهم وإثابتهم
وقرأ الحسن كما ذكر صاحب اللوامح ويتوب بالرفع على الإستئناف وكان الله غفورا رحيما 37 اي مبالغا في المغفرة والرحمة حيث تاب على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم فرطاتهم وأثابهم بالفوز العظيم على طاعاتهم نسأل الله تعالى أن يتوب علينا ويغفر لنا ويثيبنا بالفوز العظيم إنه جل جلاله وعم نواله غفور رحيم
ومن باب الإشارة في آيات من هذه السورة الكريمة ياأيها النبي أتق الله إلخ فيه إشارة إلى عظم شأن التقوى وكذا شأن كل أمر ونهي يتعلقان به عليه الصلاة و السلام وفيه أيضا إشارة إلى أنه لا ينبغي محبة أعداء الله عزوجل حيث نهى عن طاعتهم وهما كالمتلازمين ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه لأن موقعه في البدن موقع الرئيس في المملكة والحكمة تقتضي وحدة الرئيس وفي الخبر إذا بويع خليفتان فأقتلوا أحدهما
وقيل : إن ذاك لتشعر وحدته في بدن الإنسان الذي هو العالم الأصغر المنطوي فيه العالم الأكبر بوحدة الله سبحانه في الوجود وينبغي أن يعلم أن للقلب عندهم كما قال الصدر القونوي إطلاقين الأول إطلاقه على اللحم الصنوبري الشكل المعروف عند الخاصة والعامة والثاني إطلاقه على الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشئون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعية وهي تنشأ من بين الهيئة الإجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الألهية والكونية وما يشمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الإرتياض والتزكية وظهور ذلك مما ذكرنا ظهور السواد بين العفص والزاج والماء وهذا هو القلب الذي أخبر عنه الحق على لسان نبيه بقوله سبحانه : ما وسعني أرضي ولا سمائي
(22/100)
ووسعلني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع وهو محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه واللحم الصنوبري أحقر من حيث صورته أن يكون محل سره جل وعلا فضلا عن أن يسعه سبحانه ويكون مطمح نظره الأعلى ومستواه وأدعوا أن تسمية ذلك الصنوبري الشكل بالقلب على سبيل المجاز بإعتبار تسمية الصفة والحامل بأسم الموصوف والمحمول وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم فيه أن الحقائق لا تنقلب وأن في القرابة النسبية خواص لا تكون في القرابة السببية فأين الأزواج من الأمهات والأدعياء من الأبناء فالأمهات أصول ولا كذلك الأزواج والأبناء فروع ولا كذلك الأدعياء ومن هنا قيل : الولد سر أبيه وقد أورده الشمس الفناري في مصباح الأنس حديثا بصيغة الجزم من غير عزو ولا سند ولا يصح ذلك عند المحدثين وهو إشارة إلى الأوصاف والأخلاق والكمالات التي يحصلها الولد بالسراية من والده لا بواسطة توجه القلب إلى حضرة الغيب الألهي وعالم المعاني فإنه بإعتبار ذلك قد تحصل للولد أوصاف وأخلاق على خلاف حال والده ومنه يظهر سر يخرج الحي من الميت فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم فيه إشارة إلى أن للدين نوعا من الأبوة ولهذا قد يقع به التوارث النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم لأنه عليه الصلاة و السلام يحب لهم فوق ما يحبون لها ويسلك بهم المسلك الذي يوصلهم إلى الحياة الأبدية وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم أي في الأزل إذ كانوا أعيانا ثابتة أو يوم الميثاق إذ صار لهم نوع تعين ليسئل الصادقين عن صدقهم سؤال تشريف لا تعنيف والصدق على ما قالوا أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ولا في إعتقادك ريب ومن أمارته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب وسلامة القول من المعاريض والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس وإدامة التبري من الحول والقوة بل الخروج من الوجود المجازي شوقا إلى الوجود الحقيقي ياأيها الذين آمنوا أذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود إلخ طبق بعضهم ما تضمنته الآيات من قصة الأحزاب على ما في الأنفس ولا يخفى حاله ومن غريب ما رأيت أن الشيخ محيي الدين قدس الله سره قسم الأولياء إلى أقسام وجعل منهم قسما يقال اليثربيون وقال : هم قوم من الأولياء لا مقام لهم كما لسائر الأولياء وجعل قول المنافقين ياأهل يثرب لا مقام لكم إشارة إلى ذلك وكم قول غريب لهذا الشيخ غفر الله تعالى له لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا لأنه عليه الصلاة و السلام أكمل الخلق على الإطلاق وأحظى الناس بإشراق أنوار أخلاقه عليه الذين يرجون الله تعالى واليوم الآخر ويذكرونه عزوجل كثيرا الصقالة قلوبهم وقوة إستعدادها لإشراق الأنوار وظهور الآثار من المؤمنين رجال أي رجال كاملون وقول بعضهم : أي متصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الإناث كلام بشع تنقبض منه ككثير من كلام المتصوفة قلوب المقتفين للسلف الصالح
ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا إلخ فيه إشارة إلى أن حب الدنيا وزينتها يكون سببا لمفارقة رسول الله والبعد عن حضرته الشريفة وأن محبته عليه الصلاة و السلام تكون سببا للأجر العظيم يانساء النبي من يأت منكن إلخ فيه إشارة إلى تفاوت قبح المعاصي وحسن الطاعات بإعتبار الأشخاص ومثل ذلك تفاوتها بإعتبار الأماكن والأزمان
(22/101)
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم إشارة إلى مقام التسليم وأنه اللائق بالمؤمنين وهذا حكم مستمر على الأمة إلى يوم القيامة فلا ينبغي لأحد بلغه شيء عن الله عزوجل وعن رسوله أن يختار لنفسه خلافه لإشعار ذلك بإتهام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام
ولعل الإشارة في الآيات بعد ظاهرة لمن له أدنى إلتفات بيد أنهم أطالوا الكلام في الأمانة المذكورة في قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة الآية فلنذكر بعضا من ذلك فنقول : قال الشيخ محيي الدين قدس سره في بلغة الغواص : إن الأمانة التي عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها هي السعة لمعرفة الله تعالى فلم يوجد في السموات والأرض قبول لما قبله الإنسان بهذا التأليف الصوري إذ هو ثمرة العالم فهو يرى نفسه في العالم ويرى ربه سبحانه بالعالم الذي هو نفسه من حيث هو كل العالم فلذلك أتسع لما لم يسعه العالم ولذلك خصه سبحانه بالسعة حيث أخبر جل شأنه أنه لم يسعه سمواته ولا أرضه ووسعه قلب المؤمن من نوع الإنسان إنتهى
وكأنه أراد بكونه وسع الحق سبحانه كونه مظهرا جامعا للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق جل جلاله وهذا قريب مما ذكرناه في التفسير وقلنا إنه مشرب صوفي كما لا يخفى وقال آخر : هي عبارة عن الفيض الألهي بلا واسطة وحمله خاص بالإنسان لأن نسبته مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن القلب حامل للروح بلا واسطة وتسري منه بواسطة العروق والشرايين ونحوها إلى سائر البدن كذلك الإنسان حامل للفيض الألهي بلا واسطة ويسري منه إلى ظاهر الكون وباطنه بواسطة ظاهره وباطنه من أعمال البدن والروح فظاهر العالم وباطنه معمور أن بظاهر الإنسان وباطنه وهذا سر الخلافة ومعنى كونه ظلوما أنه ظالم لنفسه حيث أستعد لأن يحمل أمرا عظيما وكونه جهولا أنه جاهل بها حيث لم يعرف حقيقتها ولم يدرك منها سوى الصورة الحيوانية المتصفة بالصفات البهيمية من الأكل والشرب والنكاح وهاتان الصفتان في حق حاملي الأمانة ومؤدي حقها من حيث أنهما صارتا سببا لحمل الأمانة صفتا مدح وفي حق الخائنين صفتا ذم والشيء قد يكون ذما في حق شخص ومدحا في حق آخر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ومنه الإستمداد في فهم كلامه العزيز الجليل
سورة سبأ
مكية كما روى عن إبن عباس وقتادة وفي التحرير هي مكية بإجماعهم وقال إبن عطية : مكية إلا قوله تعالى ويرى الذين أوتوا العلم وروى الترمذي عن فروة بن مسيكة المرادي قال : أتيت النبي فقلت يارسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي الحديث وفيه وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل : يارسول الله وما سبأ الحديث
قال إبن الحصار هذا يدل على أن هذه القصة مدنية لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع ويحتمل أن يكون قوله وأنزل حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته فلا يأبى كونها مكية وآياتها خمس وخمسون في الشامي وأربع وخمسون في الباقين وما قيل خمس وأربعون سهو من قلم الناسخ ووجه إتصالها بما قبلها أن الصفات التي أجريت على الله تعالى في مفتتحها مما يناسب الحكم التي في مختتم ما قبل من قوله تعالى : ليعذب الله المنافقين والمنافقات إلخ
وأيضا قد أشير فيما تقدم إلى سؤال الكفار عن الساعة على جهة الإستهزاء وههنا قد حكى عنهم إنكارها صريحا والطعن بمن يقول بالمعاد على أتم وجه وذكر مما يتعلق بذلك ما لم يذكر هناك وفي البحر أن سبب نزولها أن
(22/102)
أبا سفيان قال لكفار مكة لما سمعوا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت ويتخوفنا بالبعث واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث فقال الله تعالى قل يامحمد بلى وربي لتبعثن قاله مقاتل وباقي السورة تهديد لهم وتخويف ومن هذا ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها إنتهى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض أي له عزوجل خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والأحياء والأماتة جميع ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فكأنه قيل : له هذا العالم بالأسر ووصفه تعالى بذلك على ما قاله أبو السعود لتقرير ما أفاده تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة عند أرباب التحقيق بالأسم الجليل من إختصاص جميع أفراد المخلوقات به عزوجل ببيان تفرده تعالى وإستقلاله بما يوجب ذلك وكون كل ما سواه سبحانه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوته تعالى ليس لها في حد ذاتها إستحقاق الوجود فضلا عما عداه من صفاتها بل كل ذلك نعم فائضة عليها من جهته عزوجل فما هذا شأنه فهو بمعزل من إستحقاق الحمد الذي مداره الجميل الصادر عن القادر بالإختيار فظهر إختصاص جميع أفراده به تعالى وفي الوصف بما ذكر أيضا إيذان بأنه تعالى المحمود على نعم الدنيا حيث عقب الحمد بما تضمن جميع النعم الدنيوية فيكون الكلام نظير قولك : أحمد أخاك الذي حملك وكساك فإنك تريد به أحمده على حملانه وكسوته وفي عطف قوله تعالى : وله الحمد في الآخرة على الصلة كما هو الظاهر إيذان بأنه سبحانه المحمود على نعم الآخرة ليتلاءم الكلام وفي تقييد الحمد فيه : بأن محله الآخرة إيذان بأن محل الحمد الأول الدنيا لذلك أيضا فتفيد الجملتان أنه عزوجل المحمود على نعم الدنيا فيها وأنه تبارك وتعالى المحمود على نعم الآخرة فيها وجوز أن يكون في الكلام صنعة الإحتباك وأصله الحمد لله إلخ في الدنيا وله ما في الآخرة والحمد فيها فأثبت في كل منهما ما حذف من الآخر وقال أبو السعود : إن الجملة الثانية لإختصاص الحمد الأخروي به تعالى إثر بيان إختصاص الدنيوي به سبحانه على أن في الآخرة متعلق بنفس الحمد أو بما تعلق به له من الإستقرار وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليس للإكتفاء بذكر كونه في الآخرة عن التعيين كما أكتفى فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد فيها أيضا بل ليعم النعم الأخروية كما في قوله تعالى الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وقوله تعالى الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما في قوله تعالى الحمد لله الذي هدانا لهذا أي لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان والعمل الصالح
وأنت تعلم أن المتبادر إلى الذهن هو ما قرر أولا والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة بطريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ والإغتباط وقد ورد في الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس وقول الزمخشري : إن الأول واجب لأنه على نعمة متفضل بها والثاني ليس بواجب لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها مبني على رأي المعتزلة على أن قوله : لأنه على نعمة واجبة الإيصال ليس على إطلاقه عندهم لأن ما يعطى الله تعالى العباد في الآخرة ليس مقصورا على الجزاء عندهم بل بعض ذلك تفضل وبعضه أجر وتقديم الخبر في الجملة الثانية لتأكيد الحصر المستفاد من اللام على ما هو الشائع إعتناء بشأن
(22/103)
نعم الآخرة وقيل : للإختصاص لأن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة وكأنه أراد لتأكيد الإختصاص أو بني الأمر على أن الإختصاص المستفاد من اللام بمعنى الملابسة التامة لا الحصر كما فصله الفاضل اليمنى وأما أنه أراد لإختصاص الإختصاص فكما ترى ويرد على قوله ولا كذلك نعم الآخرة عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فتأمل وهو الحكيم الذي أحكم أمر الدارين ودبره حسبما تقتضيه الحكمة الخبير 1 العالم ببواطن الأشياء ومكنوناتها ويلزم من ذلك علمه تعالى بغيرها وعمم بعضهم من أول الأمر وما ذكر مبني على ما قاله بعض أهل اللغة من أن الخبرة تختص بالبواطن لأنها من خبر الأرض إذا شقها وفي هذه الفاصلة إيذان بأنه تعالى كما يستحق الحمد لأنه سبحانه منعم يستحقه لأنه جل شأنه منعوت بالكمال الإختياري وتكميل معنى كونه تعالى منعما أيضا بأنه على وجه الحكمة والصواب وعن علم بموضع الإستحقاق والإستيجاب لا كمن يطلق عليه أنه منعم مجازا وقوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض إلخ إستئناف لتفصيل بعض ما يحبط به علمه تعالى من الأمور التي أنيطت بها مصالحهم الدينية والدنيوية وجوز أن يكون تفسير الخبير وأن يكون حالا من ضميره تعالى في له ما في السموات فيكون له الحمد في الآخرة إعتراضا بين الحال وصاحبها أي يعلم سبحانه ما يدخل في الأرض من المطر وما يخرج منها من النبات قاله السدي
وقال الكلبي : ما يدخل فيها من الأموات وما يخرج منها من جواهر المعادن والأولى التعميم في الموصولين فيشملان كل ما يلج في الأرض ولو بالوضع فيها وكل ما يخرج منها حتى الحيوان فإنه كله مخلوق من التراب
وما ينزل من السماء وما يعرج فيها أي من الملائكة قاله السدي والكلبي والأولى التعميم فيشمل ما ينزل المطر والثلج والبرد والصاعقة والمقادير ونحوها أيضا وما يعرج الأبخرة والأدخنة وأعمال العباد وأدعيتهم ونحوها أيضا ويراد بالسماء جهة العلو مطلقا ولعل ترتيب المتعاطفات كما سمعت أفادة للترقي في المدح وضمن العروج معنى السير أو الإستقرار على ما قيل فلذا عدى بفي دون إلى وقيل : لا حاجة إلى إعتبار التضمين والمراد بما يعرج فيها ما يعرج في ثخن السماء ويعلم من العلم بذلك العلم بما يعرج إليها من باب أولى فتدبر وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي ينزل بضم الياء وفتح النون وشد الزاي أي الله كذا في البحر
وفي الكشاف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ننزل بالتشديد ونون العظمة وهو مع كثرة نعمته وسبوغ فضله الرحيم الغفور 2 للمفرطين في أداء مواجب شكرها فهذا التذنيب مع كونه مقررا للخبرة مفصل لما أجمل في قوله سبحانه : له ما في السموات وما في الأرض يعرف منه كيف كان كله نعمة وكالتبصر لأنواع النعم الكلية فكل منه ومن التذنيب السابق في موضعه اللاحق فلا تتوهم أن العكس أنسب
وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبة لا أنفسهم أو معاصريهم فقط وبنفي أتيانها نفي وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحقيقها في نفس الأمر وإنما عبروا عنه بذلك لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها وقيل : لأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما أجزاء الزمان لا يكون إلا بالإتيان والحضور وقيل : هو إستبطاء لإتيانها الموعود بطريق الهزء والسخرية كقولهم متى هذا الوعد
(22/104)
والأول أولى والجملة قيل : معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة وجعلها حالية غير ظاهر قل بلى رد لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلا إتيانها وقوله تعالى : وربي لتأتينكم تأكيد له على أتم الوجوه وأكملها وجاء القسم بالرب للإشارة إلى أن إتيانها من شؤون الربوبية وأتى به مضافا إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم ليدل على شدة القسم وروى هرون كما قال إبن جني عن طليق قال : سمعت أشياخنا يقرؤون ليأتينكم بالياء التحتية وخرجت على أن الفاعل ضمير البعث لأن مقصودهم من نفي إتيان الساعة أنهم لا يبعثون وقيل : الفاعل ضمير الساعة على تأويلها باليوم أو الوقت وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ لا يكون مثل هذا إلا في الشعر نحو
ولا أرض ابقل إبقالها
وقوله تعالى : عالم الغيب بدل من المقسم به على ما ذهب إليه الحوفي وأبو البقاء وجوز أن يكون عطف بيان وأجاز أبو البقاء أن يكون صفة له
وتعقب بأنه صفة مشبهة وهي كما ذكره سيبويه في الكتاب لا تتعرف بالإضافة إلى معرفة والجمهور على أنها تتعرف بها ولذا ذهب جمع من الأجلة إلى أنه صفة ووصف سبحانه بإحاطة العلم إمدادا للتأكيد وتشديدا له إثر تشديد فإن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدة ثباته وإستقامته لأنه بمنزلة الإستشهاد على الأمر وكلما كان المستشهد به أعلى كعبا وأبين فضلا وأرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ وخص هذا الوصف بالذكر من بين الأوصاف مع أن كل وصف يقتضي العظمة يتأتى به ذلك لما أن له تعلقا خاصا بالمقسم عليه فإنه أشهر أفراد الغيب في الخفاء ففيه مع رعاية التأكيد حسن الإقسام على منوال وثناياك أنها إغريض كأنه قيل : وربي العالم بوقت قيامها لتأتينكم وفيه إدماج أن لا كلام في ثبوتها
وقال صاحب الفرائد : جيء بالوصف المذكور لأن إنكارهم البعث بإعتبار أن الأجزاء المتفرقة المنتشرة يمتنع إجتماعها كما كانت يدل عليه قوله تعالى : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم الآية فالوصف بهذه الأوصاف رد لزعمهم الإستحالة وهو أن من كان علمه بهذه المثابة كيف يمتنع منه ذلك إنتهى وأستحسنه الطيبي وقال في البحر : أتبع القسم بقوله تعالى : عالم الغيب وما بعده ليعلم أن إتيانها من الغيب الذي تفرد به عزوجل وما ذكر أولا أبعد مغزى وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أن لا يبقى للمعاندين عذر ما أصلا فإنهم كانوا يعرفون أمانته صلى الله تعالى عليه وسلم ونزاهته عن وصمة الكذب فضلا عن اليمين الفاجرة وإنما لم يصدقوه عليه الصلاة و السلام مكابرة وغفل صاحب الفرائد عن هذه الفائدة فقال : أقتضى المقام اليمين لأن من أنكر ما قيل له فالذي وجب بعد ذلك إذا أريد إعادة القول له أن يكون مقترنا باليمين وإلا كان خطأ بالنظر إلى علم المعاني وإن كان صحيحا بالنظر إلى العربية والنحو وقد يغفل الأريب
وقرأ نافع وإبن عامر ورويس وسلام والجحدري وقعنب عالم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم وجوز الحوفي أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عالم الغيب هو وجوز هو وأبو البقاء أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبره
(22/105)
وقرأ إبن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي علام بصيغة المبالغة والخفض وقريء عالم بالرفع يكون بلا مبالغة الغيوب بالجمع لا يعزب عنه أي لا يبعد ومنه روض عزيب بعيد من الناس
وقرأ الكسائي بكسر الزاي مثقال ذرة مقدار أصغر نملة في السموات ولا في الأزض أي كائنة فيهما ولا أصغر من ذلك أي مثقال ذرة ولا أكبر أي منه والكلام على حد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ورفعهما على الإبتداء والخبر قوله تعالى : إلا في كتاب مبين 3 هو اللوح المحفوظ عند الأكثرين
والجملة مؤكدة لنفي العزوب وقرأ الأعمش وقتادة وأبو عمرو ونافع في رواية عنهما ولا أصغر ولا أكبر بالنصب على أن لا لنفي الجنس عاملة عمل إن وما بعدها أسمها منصوب بها لأنه شبيه بالمضاف ولم ينون للوصف ووزن الفعل فليس ذلك نحو لا مانع لما أعطيت والخبر هو الخبر على قراءة الجمهور وقال أبو حيان : لا لنفي الجنس وهي ما بني معها مبتدأ على مذهب سيبويه والخبر إلا في كتاب وما ذكرناه في توجيه القراءتين هو الذي ذهب إليه كثير من الأجلة وقيل : إن ذلك معطوف في قراءة الرفع على مثقال وفي القراءة الأخرى على ذرة والفتحة فيه نيابة عن الكسرة للوصف والوزن وإليه ذهب أبو البقاء وأستشكل بأنه يصير المعنى عليه إذا كان الإستثناء متصلا كما هو الأصل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين فإنه يعزب عنه فيه وفساده ظاهر وألتزم السراج البلقيني على تقدير العطف المذكور أن يكون الإستثناء من محذوف والتقدير ولا شيء إلا في كتاب ثم قال : ولا بدع في حذف ما قدر لدلالة الكلام عليه ويحصل من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى بكل معلوم وإن كل شيء مكتوب في الكتاب وقيل العطف على ما ذكر والإستثناء منقطع والمعنى لا يعزب عنه تعالى شيء من ذلك لكن هو في كتاب وقيل العطف على ذلك والكلام نهج قوله : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب فالمعنى إن كان يعزب عنه شيء فهو الذي في كتاب مبين لكن الذي في الكتاب لا يعزب عنه فلا يعزب عنه شيء وفيه من البعد ما فيه وقيل : إن المراد بقوله تعالى لا يعزب إلخ أنه تعالى عالم به والمراد بقوله سبحانه إلا في كتاب نحو ذلك لأن الكتاب هو علم الله تعالى والمعنى وما يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا يعلمه ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في علمه فيكون نيظر قوله وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب وفيه أنه أبعد مما قبله وقيل : يعزب بمعنى يظهر ويذهب والعطف على ما سمعت والمعنى لم يظهر شيء عن الله تعالى بعد خلقه له إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ وتلخيصه كل مخلوق مكتوب وفيه أن هذا المعنى ليعزب غير معروف وإنما المعروف ما تقدم نعم قال الصغاني في العباب قال : أبو سعيد الضرير يقال ليس لفلان أمرأة تعز به أي تذهب عزبته بالنكاح مثل قولك تمرضه أي تقوم عليه في مرضه ثم قال الصغاني : والرتكيب يدل على تباعد وتنح فتفسيره بالظهور بعيد ولئن سلمنا قربه فلأي شيء جمع بين الظهور والذهاب وقيل إلا بمعنى الواو وهو مقدر في الكلام والكلام قد تم عند أكبر كأنه قيل : لا يعزب عنه ذلك وهو في كتاب ومجيء إلا بمعنى الواو ذهب إليه الأخفش من البصريين والفراء من الكوفيين
(22/106)
وخرج عليه قوم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وخالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك وقد حكى هذا القول مكي في نظير الآية ثم قال : وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون إلا بمعنى الواو كأنه لم يقف على قول الأخفش وهو من رؤساء نحاة البصرة أو لم يعتبره فلذا قال جميع البصريين وقد كثر الكلام في هذا الوجه وإرتضاه السراج البلقيني وأنا لا أراه مرضيا وأن أوقد له ألف سراج وقيل العطف على ما سمعت وضمير عنه للغيب فلا أشكال إذ المعنى حينئذ لا يبعد عن غيبه شيء إلا ما كان في اللوح لبروزه من الغيب إلى الشهادة وإطلاع الملأ الأعلى عليه وتعقب بأن المعنى لا يساعده لأن الأمر الغيبي إذا برز إلى الشهادة لم يعزب عنه بل بقى في الغيب على ما كان عليه مع بروزه ومعناه أن كونه في اللوح المحفوظ كناية عن كونه من جملة معلوماته تعالى وهي إما مغيبة وإما ظاهرة وكل مغيب سيظهر وإلا كان معدوما لا مغيبا وظهوره وقت ظهوره لا يرفع كونه مغيبا فلا يكون إستثناء متصلا ألا ترى أنك لو قلت علم الساعة مغيب عن الناس إلا علمهم بها حين تقوم ويشاهدونها لم يكن هذا الإستثناء متصلا كذا قيل فتأمل ولا تغفل
وأنت تعلم أن هذا الوجه على فرض عدم ورود ما ذكر عليه ضعيف لأن الظاهر الذي يقتضيه قوله تعالى وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء الآية رجوع الضمير إلى الله عزوجل
والذي ذهب إليه أبو حيان أن الكتاب ليس هو اللوح وليس الكلام إلا كناية عن ضبط الشيء والتحفظ به وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بكسر الراءين
وخرج على أنه نوى مضاف إليه والتقدير ولا أصغره ولا أكبره و من ذلك ليس متعلقا بأفعل بل هو تبيين لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظا فبين بقوله تعالى من ذلك أي أعني من ذلك ولا يخفى أنه توجيه شذوذ
ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات متعلق بقوله سبحانه لتأتينكم على أنه علة له وبيان لمقتضى إتيانها فهو من تتمة المقسم عليه فحاصل الكلام أن الحكمة تقتضي إثباتها والعلم البالغ المحيط بالغيب وجميع الجزئيات جليها وخفيها حاصل والقدرة المقتضية لإيجاد العالم وما فيه وجعله نعمة على ما مر فقد تم المقتضى وأرتفع المانع فليس في الآية إكتفاء في الرد بمجرد اليمين وأستظهر في البحر تعلقه بلا يعزب
وذهب إليه أبو البقاء وتعقب بأن علمه تعالى ليس لأجل الجزاء وقيل متعلق بمتعلق في كتاب وهو كما ترى
أولئك إشارة إلى الموصول من حيث إتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف أي أولئك الموصوفون بالإيمان وعمل الأعمال الصالحات لهم بسبب ذلك مغفرة لما فرط منهم من بعض فرطات قلما يخلو عنها البشر ورزق كريم 4 حسن لا تعب فيه ولا من عليه والذين سعوا في آياتنا بالقدح فيها وصيد الناس عن التصديق بها معاجزين أي مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا قاله قتادة وقال عكرمة : مراغمين وقال إبن زيد : مجاهدين في إبطالها
وقرأ جمع معجزين مخففا وإبن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال مثقلا قال إبن الزبير : اي مثبطين عن الإيمان من أراده مدخلين عليه العجز في نشاطه وقيل معجزين قدرة الله عزوجل في زعمهم
أولئك الموصوفون بما ذكر وفيه إشارة إلى بعد منزلتهم في الشر لهم بسبب ذلك عذاب من رجز
(22/107)
أي من سيء العذاب وأشده ومن للبيان أليم 5 بالرفع صفة عذاب وقرأ أكثر السبعة بالجر على أنه صفة مؤكدة لرجز بناء على ما سمعت من معناه وجعله بعضهم صفة مؤسسة له بناء على أن الرجز كما روى عن قتادة مطلق العذاب وجوز جعله صفة عذاب أيضا والجر للمجاورة والظاهر أن الموصول مبتدأ والخبر جملة أولئك لهم عذاب وجوز أن يكون في محل نصب عطفا على الموصول قبله أي ويجزي الذي سعوا وجملة أولئك لهم إلخ التي بعده مستأنفة والتي قبله معترضة وفي البحر يحتمل على تقدير العطف على الموصول أن تكون الجملتان المصدرتان بأولئك هما نفس الثواب والعقاب ويحتمل أن يكونا مستأنفتين والثواب والعقاب غير ما تضمنتا مما هو أعظم كرضا الله تعالى عن المؤمن دائما وسخطه على الكافر دائما وفيه أنه كيف يتأتى حمل ذلك على رضا الله تعالى وضده وقد صرح أولا بالمغفرة والرزق الكريم وفي مقابله بالعذاب الأليم وجعل الأول جزاء
ويرى الذين أوتوا العلم أي ويعلم أولوا العلم من أصحاب رسول الله ومن يطأ أعقابهم من أمته عليه الصلاة و السلام أو من آمن من علماء أهل الكتاب كما روى عن قتادة كعبدالله بن سلام وكعب وأضرابهما رضي الله تعالى عنهم الذي أنزل إليك من ربك أي القرآن هو الحق بالنصب على أنه مفعول ثان ليرى والمفعول الأول هو الموصول الثاني و هو ضمير الفصل
وقرا إبن أبي عبلة بالرفع على جعل الضمير مبتدأ وجعله خبرا والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ وقوله تعالى : ويرى إلخ إبتداء كلام غير معطوف على ما قبله مسوق للإستشهاد بأولى العلم على الجهلة الساعين في الآيات وفي الكشف هو عطف على قوله تعالى وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة على معنى وقال الجهلة : لا ساعة وعلم أولى العلم أنه الحق الذي نطق به المنزل إليك الحق وتعقب بأنه تكلف بعيد فإن دلالة النظم الكريم على الإهتمام بشأن القرآن لا غير وقيل عليه : أنت خبير بأن ما قبله من قوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة وقوله سبحانه : وقال الذين كفروا هل ندلكم إلخ في شأن الساعة ومنكري الحشر فكيف يكون ماذكر بعيدا بسلامة الأمير فذكر حقية القرآن بطريق الإستطراد والمقصود بالذات حقية ما نطق به من أمر الساعة وقال الطبري والثعلبي : إن يرى منصوب بفتحة مقدرة عطفا على يجزي أي وليعلم أولوا العلم عند مجيء الساعة معاينة أنه الحق حسبما علموه قبل برهانا ويحتجوا به على المكذبين وعليه فقوله تعالى : والذين سعوا معطوف على الموصول الأول أو مبتدأ والجملة معترضة فلا يضر الفصل كما توهم وجوز أن يراد بأولى العلم من لم يؤمن من الأحبار أي ليعلموا يومئذ أنه هو الحق فيزدادوا حسرة وغما ةتعقب بأن وصفهم بأولى العلم يأباه لأنه صفة مادحة ولعل المجوز لا يسلم هذا نعم كون ذلك بعيدا لا ينكر لا سيما وظاهر المقابلة بقوله تعالى : وقال الذين كفروا يقتضي الحمل على المؤمنين ويهدي إلى صراط العزيز الذي يقهر ولا يقهر الحميد 6 المحمود في جميع شؤنه عزوجل والمراد بصراطه تعالى التوحيد والتقوى وفاعل يهدي إما ضمير الذي أنزل أو ضمير الله تعالى ففي العزيز الحميد إلتفات والجملة على الأول إما مستأنفة أو في موضع الحال من الذي على إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كما في قوله :
نجوت وأرهنهم مالكا
أو معطوفة على الحق بتقدير وإنه يهدي وجوز أن يكون يهدي
(22/108)
معطوفا على الحق عطف الفعل على الأسم لأنه ف تأويله كما في قوله تعالى : صافات ويقبض أي قابضات وبعكسه قوله : وألفيته يوما يبير عدوه
وبحر عطاء يستحق المعابرا وقال الذين كفروا هم كفار قريش قالوا مخاطبا بعضهم لبعض على جهة التعجب والإستهزاء هل ندلكم على رجل يعنون به النبي والتعبير عنه عليه الصلاة و السلام بذلك من باب التجاهل كأنهم لم يعرفوا منه إلا أنه رجل وهو عليه الصلاة و السلام عندهم أظهر من الشمس وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم ينبئكم يحدثكم بأمر مستغرب عجيب وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ينيبكم بإبدال الهمزة ياء محضة وحكى عنه ينبئكم بالهمز من أنبأ إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد 7 إذا شرطية وجوابها محذوف لدلالة ما بعده عليه أي تبعثون أو تحشرون وهو العامل في إذا على قول الجمهور والجملة الشرطية بتمامها معمولة لينبئكم لأنه في معنى يقول لكم إذا مزقتم كل ممزق تبعثون ثم أكد ذلك بقوله تعالى أنكم لفي خلق جديد وجوز أن يكون إنكم لفي خلق جديد معمولا لينبئكم وهو معلق ولولا اللام في خبر إن لكانت مفتوحة والجملة سدت مسد المفعولين والشرطية على هذا إعترض وقد منع قوم التعليق في باب أعلم والصحيح جوازه وعليه قوله : حذار فقد نبئت أنك للذي
ستجزي بما تسعى فتسعد أو تشقى وجوز أن تكون إذا لمحض الظرفية فعاملها الذي دل عليه ما بعد يقدر مقدما أي تبعثون أو تحشرون إذا مزقتم ولا يجوز أن يكون العامل يدلكم أو ينبئكم لإعدم المقارنة ولا مزقتم لأن إذا مضافة إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا خلق ولا جديد لأن إن لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها
وقال الزجاج : إذا في موضع النصب بمزقتم وهي بمنزلة من الشرطية يعمل فيها الذي يليها وقال السجاوندي : العامل محذوف وما بعدها إنما يعمل فيها إذا كان مجزوما بها وهو مخصوص بالضرورة نحو
وإذا تصبك خصاصة فتجمل
فلا يخرج عليه القرآن فإذا لم تجزم كانت مضافة إلى ما بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف
وقال أبو حيان : الصحيح أن العامل فيها فعل الشرط كسائر أدوات الشرط وتمام الكلام على ذلك في كتب النحو وممزق مصدر جاء على زنة أسم المفعول كمسرح في قوله : ألم تعلم مسرحي القوافي
فلا عيابهن ولا إجتلابا وتمزيق الشيء تخريقه وجعله قطعا قطعا ومنه قوله : إذا كنت مأكولا فكن خير آكل
وإلا فأدركني ولما أمزق والمراد إذا متم وفرقت أجسادكم كل تفريق بحيث صرتم رفاتا وترابا ونصب كل على المصدرية
وجوز أن يكون أسم مكان فنصب كل على الظرفية لأن لها حكم ما تضاف إليه أي إذا فرقت أجسادكم في كل مكان من القبور وبطون الطير والسباع وما ذهبت به السيول كل مذهب وما نسفته الرياح فطرحته
(22/109)
كل مطرح و جديد فعيل بمعنى فاعل عند البصريين من جد الشيء إذا صار جديدا وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه ثم شاع في كل جديد وإن لم يكن مقطوعا كالبناء والسبب في الخلاف أنهم رأوا العرب لا يؤنثونه ويقولون ملحفة جديد لا جديدة فذهب الكوفيون إلى أنه بمعنى مفعول والبصريون إلى خلافه وقالوا ترك التأنيث لتأويله بشيء جديد أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول كذا قيل : أفترى على الله كذبا فيما ينسب إليه من أمر البعث أم به جنة أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه وأستدل به أبو عمرو الجاحظ على ما ذهب إليه من أن صدق الخبر مطابقته للواقع مع الإعتقاد وكذبه عدمها معه وغيرهما ليس بصدق ولا كذب وذلك أن الكفار وهم عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة حصروا أخبار النبي بالبعث في الإفتراء والأخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو بالمعنى الأعم ولا شك أن المراد بالثاني غير الكذب لأنه قسيمه وغير الصدق لأنهم أعتقدوا عدمه وأيضا لا دلالة لقولهم أم به جنة على معنى أم صدق بوجه من الوجوه فيجب أن يكون بعض الخبر ما ليس باصدق ولا كاذب ليكون ذلك منه بزعمهم وإن كان صادقا في نفس الأمر وتوضيحه أن ظاهر كلامهم هذا يدل على طلب تعيين أحد حالي النبي المستويين في إعتقاد المتكلم حين الأخبار بالبعث وهو يستلزم تعيين أحد حالي الخبر والإستفهام ههنا للتقرير فيفيد ثبوت أحد الحالين للخبر ولا شك أن ثبوت أحدهما لا يثبت الواسطة ما لم يعتبر تنافيهما وكذا تنافيهما في الجمع لا يثبتها بل لا بد من تنافيهما في الإرتفاع يعني أن خبره عليه الصلاة و السلام بالبعث لا يخلو عن أحد الأمرين المتنافيين فيكون المراد بالثاني ما هو مناف وقسيم للأول ومعلوم أنه غير الصدق فليس الصدق عبارة عن مطابقة الواقع فقط والكذب عن عدم المطابقة له كما يقول الجمهور أو عن مطابقة الإعتقاد له وعدم مطابقته له كما يقول النظام فيكونان عبارتين عن مطابقتهما وعدم مطابقتهما وتثبت الواسطة وأجيب بأن معنى أم به جنة أم لم يفتر فعبر عن عدم الإفتراء بالجنة لأن المجنون يلزمه أن لا إفتراء له كما دل عليه نقل الأئمة وإستعمال العرب الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون فالثاني ليس قسيما للكذب بل لما هو أخص منه أعني الإفتراء فيكون ذلك حصرا للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد ولو سلم أن الإفتراء بمعنى الكذب مطلقا فالمعنى أقصد الإفتراء أي الكذب أم لم يقصد بل كذب بلا قصد لما به من الجنة
وقيل : المعنى أفترى أم لم يفتر بل به جنون وكلام المجنون ليس بخبر لأنه لا قصد له يعتد به ولا شعور فيكون مرادهم حصره في نونه خبرا كاذبا أو ليس بخبر فلا يثبت خبر لا يكون صادقا ولا كاذبا ونوقش فيه كما لا يخفى على من راجع كتب المعاني بقي ههنا بحث وهو أن الطيبي أشار إلى أن مبني الإستدلال كون أم متصلة وأعترضه بأن الظاهر كونها منقطعة أما لفظا فلإختلاف مدخول الهمزة وأم وأما معنى فلأن الكفرة المعاندين لما أخرجوا قولهم هل ندلكم على رجل ينبئكم مخرج الظن والسخرية متجاهلين برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبكلامه من إثبات الحشر والنشر وعقبوه بقولهم أفترى على الله كذبا أضربوا عنه إلى ما هو أبلغ منه ترقيا من الأهون إلى الأغلظ من نسبة الجنون إليه وحاشاه فكأنهم قالوا : دعوا حديث الإفتراء فإن ههنا ما هو أطم منه لأن العاقل كيف يحدث بإنشاء خلق جديد بعد الرفات والتراب ولما كان التعويل على ما بعد الإضراب من إثبات الجنون أوقع الإضراب الثاني في كلامه تعالى ردا لقولهم ونفيا للجنون عنه صلوات الله
(22/110)
تعالى وسلامه عليه وإثباتا له فيهم إلى آخر ما قال ولم يرتض ذلك صاحب الكشف فقال في كلام الكشاف إشارة إلى أن أم متصلة : وفائدة العدول عن الفعل في جن إيماء إلى أن الثابت هو ذلك الشق كأنه قيل : أعن إفتراء هذا الكذب العجاب أم جنون والتقابل لأن المجنون لا إفتراء له فالإستدلال على الإنقطاع بتخالف العديلين ساقط وأما الترقي من الإتصال أيضا على ما لوح إليه بوجه ألطف
وأنت تعلم أن ظاهر الإستدلال يقتضي الإتصال لكن قال الخفاجي : إن كون الإستدلال مبنيا على الإتصال غير مسلم فتأمل والظاهر أفترى على الله كذبا أم به جنة من قول بعضهم لبعض وفي البحر يحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال هل ندلكم ردد بين شيئين ولم يجزم بأحدهما لما في كل من الفظاعة
بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد 8 إبطال من جهته تعالى لما قالوا بقسيميه وإثبات ما هو أشد وأفظع لهم ولذا وضع الذين لا يؤمنون موضع الضمير توبيخا لهم وإيماء إلى سبب الحكم بما بعده كأنه قيل : ليس الأمر كما زعموا بل هم في كمال إختلال العقل وغاية الضلال عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقة وفيما يؤدي إليه ذلك من العذاب حيث أنكروا حكمة الله تعالى في خلق العالم وكذبوه عزوجل في وعده ووعيده وتعرضوا لسخطه سبحانه وتقديم العذاب على ما يوجبه ويستتبعه للمسارعة إلى بيان ما يسوءهم ويفت في إعضادهم والإشعار بغاية سرعة ترتبه عليه كأنه يسابقه فيسبقه ووصف الضلال بالبعيد الذي هو وصف الضال للمبالغة لأن ضلالهم إذا كان بعيدا في نفسه فكيف بهم أنفسهم
وقوله تعالى : أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء قيل : هو إستئناف مسوق لتذكيرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته عزوجل وتنبيههم على ما يحتمل أن يقع من الأمور الهائلة في ذلك إزاحة لإستحالتهم الأحياء حتى قالوا ما قالوا فيمن أخبرهم به وتهديدا على ما أجترؤا عليه والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أنهم أشد خلقا أم هي وأنا إن نشأ نخسف بهم الأرض كما خسفناها بقارون أو نسقط عليهم كسفا أي قطعا من السماء كما أسقطنا على اصحاب الأيكة لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات وهو تفسير ملائم للمقام إلا أن ربط قوله تعالى إن نشأ إلخ بما قبله بالطريق الذي ذكره بعيد وفي البحر أنه تعالى وقفهم في ذلك على قدرته الباهرة وحذرهم إحاطة السماء والأرض بهم وكأن ثم حالا محذوفة أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهورا تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد إن نشأ نخسف بهم الأرض إلخ أو فلم ينظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم محيطا بهم وهو مقهورون فيما بينه إن نشأ إلخ ولا يخلو عن شيء وقال العلامة أبو السعود : إن قوله تعالى أفلم يروا إلخ إستئناف مسوق لتهويل ما أجترؤا عليه من تكذيب آيات الله تعالى وإستعظام ما قالوا في حقه عليه الصلاة و السلام وأنه من العظائم الموجبة لنزول أشد العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريث وتأخير وقوله تعالى إن نشأ إلخ بيان لما ينبيء عنه ذكر إحاطتهما بهم من المحذور المتوقع من جهتهما وفيه تنبيه على أنه لم يبق من أسباب وقوعه إلا تعلق المشيئة به أي فعلوا ما فعلوا من المنكر الهائل المستتبع للعقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم بحيث لا مفر لهم عنه ولا محيص إن نشأ جريا على موجب جناياتهم نخسف إلخ ولا يخفى أن فيه بعدا وضعف ربط بالنسبة إلى ما سمعت أولا مع أن ما بعده ليس فيه كثير ملائمة لما قبله عليه ويخطر لي أن قوله تعالى أفلم يروا مسوق لتذكيرهم
(22/111)
بأظهر شيء لهم بحيث أنهم يعاينونه أينما ألتفتوا ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا يدل على كمال قدرته عزوجل إزاحة لما دعاهم إلى ذلك الإستهزاء والوقيعة بسيد الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام من زعمهم قصور قدرته تعالى عن البعث والأحياء ضرورة أن من قدر على خلق تلك الأجرام العظام لا يعجزه إعادة أجسام هي كلا شيء بالنسبة إلى تلك الأجرام كما قال سبحانه أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم وفيه من التنبيه على مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد ما فيه وقوله تعالى إن في ذلك أي فيما ذكر مما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض لآية أي لدلالة واضحة على كمال قدرة الله عزوجل وأنه لا يعجزه البعث بعد الموت وتفرق الأجزاء المحاطة بهما لكل عبد منيب 9 أي راجع إلى ربه تعالى مطيع له جل شأنه لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله عزوجل والتفكر فيها كالتعليل لما يشعر به قوله سبحانه أفلم يروا إلخ من الحث على الإستدلال بذلك على ما يزيح إنكارهم البعث وفيه تعريض بأنهم معرضون عن ربهم سبحانه غير مطيعين له جل وعلا وتخلص إلى ذكر المنيبين إليه تعالى على قول وقوله تعالى إن نشأ كالإعتراض جيء به لتأكيد تقصيرهم والتنبيه على أنهم بلغوا فيه مبلغا يستحقون به في الدنيا فضلا عن الأخرى نزول أشد العقاب وحلول أفظع العذاب وأنه لم يبق من أسباب ذلك إلا تعلق المشيئة به إلا أنها لم تتعلق لحكمة وظني أنه حسن وتحتمل الآية غير ذلك والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وقيل : إن ذلك إشارة إلى مصدر يروا وهو الرؤية وذكر لتأويله بالنظر والمراد به الفكر وقيل إشارة إلى ما تلى من الوحي الناطق بما ذكر وقرأ حمزة والكسائي وإبن وثاب وعيسى والأعمش وإبن مصرف يشأ ويخسف ويسقط بالياء فيهن وأدغم الكسائي الفاء في الباء في يخسف بهم قال أبو علي : ولا يجوز ذلك لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كانت الباء تدغم في الفاء نحو أضرب فلانا وهذا كما تدغم الباء في الميم نحو أضرب مالكا ولا تدغم الميم في الباء نحو أضمم بك لأن الباء أنحطت عن الميم بفقد العنة التي فيها وقال الزمخشري : قرأ الكسائي يخسف بهم بالإدغام وليست بقوية وأنت تعلم أن القراءة سنة متبعة ويوجد فيها الفصيح والأفصح وذلك من تيسير الله تعالى القرآن للذكر وما أدغم الكسائي إة عن سماع فلا إلتفات إلى قول أبي علي ولا الزمخشري ولقد آتينا داؤد منا فضلا أي آتيناه لحسن إنابته وصحة توبته فضلا أي نعمة وإحسانا وقيل فضلا وزيادة على سائر الأنبياء المتقدمين عليه أو أنبياء بني إسرائيل أو على ما عدا نبينا لأنه ماا من فضيلة في أحد من الأنبياء عليهم السلام إلا وقد أوتي عليه الصلاة و السلام مثلها بالفعل أو تمكن منها فلم يختر إظهارها أو على الأنبياء مطلقا وقد يكون في المفضول ما ليس في غيره وقد أنفرد عليه السلام بما ذكر ههنا وقيل : أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن وتعقب بأنه إن أريد أن كلا منها فضل لا يوجد في سائر الناس فعدم مثل ملكه وصوته محل شبهة وإن أريد المجموع من حيث هو نفيه أنه غير موجود في الأنبياء أيضا فلا وجه لتخصيصه بهذا الوجه
وأنا أرى الفضل لتفسير الفضل بالإحسان وتنكيره للتفخيم و منا أي بلا واسطة لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية كما في قوله تعالى وآتيناه من لدنا علما وتقديمه على المفعول الصريح للإهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن في النفس عند وروده فضل تمكن وذكر شؤن داؤد وسليمان عليهما السلام هنا لمناسبة ذكر المنيب في
(22/112)
قوله تعالى إن في ذلك لآية لكل عبد منيب كما أشرنا إليه وقال أبو حيان : مناسبة قصتيهما عليهما السلام لما قبلها هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لإستحالته في زعمهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم وأشعارهم وقيل : ذكر سبحانه نعمته عليهما إحتجاجا على ما منح نبينا كأنه قيل : لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا فلما فرغ التمثيل له عليه الصلاة و السلام رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو ياجبال أوبي معه أي سبحي معه قاله إبن عباس وقتادة وإبن زيد وأخرجه إبن جرير عن أبي ميسرة إلا أنه قال : معناه ذلك بلغة الحبشة والظاهر أنه عربي من التأويب والمراد رجعي معه التسبيح وردديه وقال إبن عطية : إن أصل ماضيه آب وضعف للمبالغة وتعقبه في البحر بقوله ويظهر أن التضعيف للتعدية لأن آب بمعنى رجع لازم صلته اللام فعدى بالتضعيف إذ شرحوه بقولهم رجعي معه التسبيح
يروى أنه عليه السلام كان إذا سبح سبحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها ولا يعجز الله عز و جل أن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع وقد سبح الحصى في كف نبينا عليه الصلاة و السلام وسمع تسبيحه وكذا في كف أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولا يبعد على هذا أن يقال : إنه تعالى خلق فيها الفهم أولا فناداها كما ينادي أولوا الفهم وأمرها وقال بعضهم : إنه سبحانه نزل الجبال منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم اطاعوا وأذعنوا وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته سبحانه ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية حيث نادى الجبال وأمرها وقيل : المراد بتأويلها حملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها وفيه مع كونه خلاف المأثور إن معه يأباه وأيضا لا إختصاص له عليه السلام بتأويب الجبال بهذا المعنى حتى يفضل به أو يكون معجزة له وقيل : كان عليه السلام ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده بأصدائها وفيه أن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما قام عليه البرهان والله تعالى نادى الجبال وأمرها أن تؤؤب معه وأيضا أي إختصاص له عليه الصلاة و السلام بذلك ولصوت كل أحد صدى عند الجبال وعن الحسن أن معنى أوبي معه سيرى معه أين سار والتأويب سير النهار كأن الإنسان يسير الليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده
ومن ذلك قول تميم بن مقبل : لحقنا بحي أوبوا السير بعدما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح وقول آخر : يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب وأورد عليه أن الجبال أوتاد الأرض ولم ينقل سيرها مع داؤد عليه السلام أو غيره وقيل : المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه فكانت إذا سبح سبحت وإذا ناح ناحت وإذا قرأ الزبور قرأت وتعقب بأنه لم يعرف التأويب بمعنى التصرف في لغة العرب وقيل : المعنى أرجعي إلى مراده فيما يريد من حفر وإستنباط أعين وإستخراج معدن ووضع طريق والجملة معمولة لقول مضمر أي قولنا ياجبال على أنه بدل من فضلا بدل كل من كل أو بدل إشتمال أو قلنا ياجبال على أنه بدل من آتينا وجوز كونه بدلا من فضلا بناء على أنه
(22/113)
يجوز إبدال الجملة من المفرد وجوز أبو حيان الإستئناف وليس بذاك
وقرأ إبن عباس والحسن وقتادة وإبن أبي إسحاق أوبي بضم الهمزة وسكون الواو أمر من الأوب وهو الرجوع وفرق بينهما الراغب بأن الأوب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة والرجوع يقال فيه وفي غيره
والمعنى على هذه القراءة عند الجمهور أرجعي معه في التسبيح وأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك ومنه ياخيل الله أركبي وكذا مآرب أخرى وقد جاء ذلك في جمع من يعقل من المؤنث قال الشاعر : تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي لكن هذا قليل والطير بالنصب وهو عند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل تقديره وسخرنا له الطير وحكى أبو عبيدة عنه إن ذاك بالعطف على فضلا ولا حاجة إلى الإضمار لأن إيتاءها إياه عليه السلام تسخيرها له وذكر الطيبي أن ذلك كقوله :
علفتها تبنا وماء باردا
وقال الكسائي : بالعطف أيضا إلا أنه قدر مضافا أي وتسبيح الطير ولا يحتاج إليه وقال سيبويه : الطير معطوف على محل جبال نحو قوله :
ألأ يازيد والضحاك سيرا
بنصب الضحاك ومنعه بعض النحويين للزوم دخول ياعلي المنادى المعرف بأل والمجيز يقول : رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز إستقلالا وقال الزجاج : هو منصوب على أنه مفعول معه وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن قبله معه ولا يقتضي إثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف فكما لا يجوز جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف كذلك هذا وقال الخفاجي : لا يأباه معه سواء تعلق بأوبي على أنه ظرف لغو أو جعل حالا لأنهما معمولان متغايران إذ الظرف والحال غير المفعول معه وكل منها باب على حده وإنما الوهم لذلك لفظ المعية فما أعترض به أبو حيان غير متوجه وإن ظن كذلك وأقبح من الذنب الإعتذار حيث أجيب بأنه يجوز أن يقال حذفت واو العطف من قوله تعالى : والطير إستثقالا لإجتماع الواوين أو أعتبر تعلق الثاني بعد تعلق الأول
وقرأ السلمي وإبن هرمز وأبو يحيى وأبو نوفل ويعقوب وإبن أبي عبلة وجماعة من أهل المدينة وعاصم في رواية والطير بالرفع وخرج على أنه معطوف على جبال بإعتبار لفظه وحركته لعروضها تشبه حركة الإعراب ويغتفر في التابع مالا يغتفر في المتبوع وقيل معطوف على الضمير المستتر في أوبي وسوغ ذلك الفصل بالظرف وقيل : هو بتقدير ولتؤوب الطير نظير ما قيل في قوله تعالى : أسكن أنت وزوجك الجنة
وقيل : هو مرفوع بالإبتداء والخبر محذوف أي والطير تؤوب وألنا له الحديد وجعلناه في يده كالشمع والعجين يصرفه كما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة قاله السدي وغيره وقيل : جعلناه بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينا كالشمع بالنسبة إلى قوى سائر البشر أن أعمل سابغات أن مصدرية وهي على إسقاط حرف الجر أي ألنا له الحديد لعمل سابغات أو وأمرناه بعمل سابغات والأول أولي وأجاز الحوفي وغيره أن تكون مفسرة ولما كان شرط المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه وألنا ليس فيه ذلك قدر بعضهم قبلها فعلا محذوفا فيه معنى القول ليصح كونها مفسرة أي وأمرناه أن أعمل أي أي أعمل وأورد عليه أن حذف المفسر لم يعهد والسابغات الدروع وأصله صفة من السبوغ وهو التمام والكمال فغلب على الدروع
(22/114)
كالأبطح قال الشاعر : لا سابغات ولا جأواء باسلة تقي المنون لدى إستيفاء آجال ويقال سوابغ أيضا كما في قوله : عليها أسود ضاريات لبوسهم سوابغ بيض لا تخرقها النبل فلا حاجة إلى تقدير موصوف أي دروعا سابغات ولا يرد هذا نقصا على ما قيل إن الصفة ما لم تكن مختصة بالموصوف كحائض لا يحذف موصوفها وقريء صابغات بإبدال السين صادا لأجل الغين وقدر في السرد السرد نسج في الأصل كما قال الراغب خرز ما يخشن ويغلظ قال الشماخ فظلت سراعا خيلنا في بيوتكم كما تابعت سرد العنان الخوارز وأستعير لنظم الحديد وفي البحر هو إتباع الشيء بالشيء من جنسه ويقال للدرع مسرودة لأنه توبع فيها الحلق بالحلق قال الشاعر : وعليهما مسرودتان قضاهما داؤد أو صنع السوابغ تبع ولصانعها سراد وزراد بإبدال السين زايا وفسره هنا غير واحد بالنسج وقال : المعنى أقتصد في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقها وإبن عباس فيما أخرجه عنه إبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم من طرق بالحلق أي أجعل حلقها على مقادير متناسبة وقال إبن زيد : لا تعملها صغيرة فتضعف فلا يقوى الدرع على الدفاع ولا كبيرة فينال صاحبها من خلالها وجاء في رواية أخرى عن إبن عباس تفسيرها بالمسامير وروى ذلك عن قتادة ومجاهد أي قدر مساميرها فلا تعملها دقاقا ولا غلاظا أي أجعلها على مقدار معين دقة وغيرها مناسبة للثقب الذي هيء لها في الحلقة فإنها إن كانت دقيقة أضطربت فيها فلم تمسك طرفيها وإن كانت غليظة خرقت طرف الحلقة الموضوعة فيه فلا تمسك أيضا ويبعد هذا أن إلانة الحديد له عليه السلام بحيث كان كالشمع والعجين يغني عن التسمير فإنه بعد جمع الحلق وإدخال بعضه في بعض يزال إنفصال طرفي كل حلقة بمزج الطرفين كما يمزج طرفا حلقة من شمع أو عجين والأحكام بذلك أتم من الأحكام بالتسمير بل لا يبقى معه حاجة إلى التسمير أصلا فلعله إن صح مبني على أنه عليه السلام كان يعمل الحلق من غير مزج لطرفي كل فيسمر للأحكام بعد إدخال بعضه في بعض ويظهر ذلك على التفسير الثاني لقوله تعالى وألنا له الحديد إذ غاية القوة كسر الحديد كما يريد من غير آلة دون وصل بعضه ببعض ولا يعارض ذلك ما نقل عن البقاعي أنه قال : أخبرنا بعض من رأى ما نسب إلى داؤد عليه السلام من الدروع أنه بغير مسامير فإنه نقل عن مجهول فلا يلتفت لمثله وقيل معنى قدر في السرد لا تصرف جميع أوقاتك فيه بل مقدار ما يحصل به القوت وأما الباقي فأصرفه إلى العبادة قيل وهو الأنسب بالأمر الآتي وحكى أنه عليه السلام أول من صنع الدرع حلقا وكانت قبل صفائح وروى ذلك عن قتادة
وعن مقاتل أنه عليه السلام حين ملك على بني إسرائيل يخرج متنكرا فيسأل الناس عن حاله فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله فقال : نعم العبد لولا خلة فيه فقال وما هي قال : يرزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده تمت فضائله فدعا الله تعالى أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه صنعة الدروع وألان له الحديد فأثرى
(22/115)
وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليل وثمنها ألف درهم
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وإبن أبي حاتم عن إبن شوذب قال : كان داؤد عليه السلام يرفع في كل يوم درعا فيبيعها بستة آلاف درهم ألفان له ولأهله وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل الخبز الحواري وقيل : كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء وفي مجمع البيان عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه عمل ثلثمائة وستين درعا فباعها بثلثمائة وستين ألف درهم فأستغنى عن بيت المال وأعملوا صالحا خطاب لداؤد وآله عليهم السلام وهم وإن لم يجر لهم ذكر يفهمون على ما قال الخفاجي إلتزاما من ذكره وجوز أن يكون خطابا له عليه السلام خاصة على سبيل التعظيم وأياما كان فالظاهر أنه أمر بالعمل الصالح مطلقا وليس هو على الوجه الثاني أمر بعمل الدروع خالية من عيب
إني بما تعملون بصير 01 فأجازيكم به وهو تعليل للأمر أو لوجوب الإمتثال به على وجه الترغيب والترهيب ولسيمان الريح أي وسخرنا له الريح وقيل لسليمان عطف على له في ألنا له الحديد والريح عطف على الحديد وألانة الريح عبارة عن تسخيرها
وقرأ أبو بكر الريح بالرفع على أنه مبتدأ و لسيمان خبره والكلام على تقدير مضاف أي ولسيمان تسخير الريح وذهب غير واحد إلى أنه مبتدأ ومتعلق الجار كون خاص هو الخبر وليس هناك مضاف مقدر أي ولسليمان الريح مسخرة وعندي أن الجملة على القراءتين معطوفة على قوله تعالى ولقد آتينا داؤد منا فضلا إلخ عطف القصة عل ىالقصة وقال إبن الشيخ : العطف على القراءة الأولى على ألنا له الحديد وكلتا الجملتين فعلية وعلى القراءة الثانية العطف على أسمية مقدرة دلت عليها تلك الجملة الفعلية لا عليها للتخالف فكأنه قيل : ما ذكرنا لدأود ولسليمان الريح فإنها كانت له كالمملوك المختص بالمالك يأمرها بما يريد ويسير عليها حيثما يشاء ثم قال : وإنما لم يقل ومع سليمان الريح لأن حركتها ليست بحركة سليمان بل هي تتحرك بنفسها وتحرك سليمان وجنوده بحركتها وتسير بهم حيث شاء وهذا على خلاف تأويب الجبال فإنه كان تبعا لتأويب داؤد عليه السلام فلذا جيء هناك بمعه
وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد بن الياس الرياح بالرفع جمعا غدوها شهر ورواحها شهر أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك والجملة إما مستأنفة أو حال من الريح ولا بد من تقدير مضاف في الخبر لأن الغدو والرواح ليس نفس الشهر وإنما يكونان فيه ولا حاجة إلى تقدير في المبتدأ كما فعل مكي حيث قال : أي مسير غدوها مسيرة شهر ومسير رواحها كذلك لما لا يخفى وقال إبن الحاجب في أماليه الفائدة في إعادة لفظ الشهر الإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح والألفاظ التي تأتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار ألا ترى أنك تقول زنة هذا مثقال وزنة هذا مثقال فلا يحسن الإضمار كما لا يحسن في التمييز وأيضا فإنه لو أضمر فالضمير إنما يكون لما تقدم بإعتبار خصوصيته فإذا لم يكن له بذلك الإعتبار وجب العدول إلى الظاهر ألا ترى أنك إذا أكرمت رجلا وكسوت ذلك الرجل بخصوصه لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوته ولو أكرمت رجلا وكسوت رجلا آخر لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوت رجلا فتبين أنه ليس من وضع الظاهر موضع الضمير كذا في حواشي الطيبي عليه الرحمة ولا يخفى أن ما ذكره مبني على ما هو الغالب وإلا فقد قال تعالى
(22/116)
وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره ولم يقتصر على الأعلام بزمن الغدو ليقاس عليه زمن الرواح لأن الريح كثيرا ما تسكن أو تضعف حركتها بالعشي فدفع بالتنصيص على بيان زمن الرواح توهم إختلاف الزمانين قال قتادة : كانت الريح تقطع به عليه السلام في الغدو إلى الزوال مسيرة شهر وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر
وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال في الآية كان سليمان عليه السلام يغدو من بيت المقدس فيقيل بأصطخر ثم يروح من أصطخر فيقيل بقلعة خراسان
وقد ذكر حديث هذه الريح في بعض الأشعار القديمة قال وهب : ونقله عنه في البحر وجدت أبياتا منقورة في صخرة بأرض كسكر لبعض أصحاب سليمان عليه السلام وهي
ونحن ولا حول سوى حول ربنا
نروح من الأوطان من أرض تدمر إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا
مسيرة شهر والغدو لآخر أناس شروا لله طوعا نفوسهم
بنصر إبن داؤد النبي المطهر لهم في معالي الدين فضل ورفعة
وإن نسبوا يوما فمن خير معشر متى تركب الريح المطيعة أسرعت
مبادرة عن شهرها لم تقصر تظلهم طير صفوف عليهم
متى رفرفت من فوقهم لم تنفر وذكر أيضا رضي الله تعالى عنه أنه عليه السلام كان مستقرة تدمر وأن الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر وقال : وفيه يقول النابغة : ألا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فأصددها عن الفند وجيش الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد إنتهى وما ذكره في تدمر هو المشهور عند العامة وقد ذكر ذلك الثعالبي في تفسيره مع الأبيات المذكورة لكن في القاموس تدمر كتنصر بنت حسان بن أذينة بها سميت مدينتها وهو ظاهر في المخالفة ولعل التعويل على ما فيه إن لم يمكن الجمع والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
وقرأ إبن أبي عبلة غدوتها وروحتها على وزن فعلة وهي المرة الواحدة من غدا وراح وأسلنا له عين القطر أي النحاس الذائب من قطر يقطر قطرا وقطرانا بسكون الطاء وفتحها وقيل الفلزات النحاس والحديد وغيرهما وعلى الأول جمهور اللغويين وأريد بعين القطر معدن النحاس ولكنه سبحانه أساله كما ألان الحديد لداؤد فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سمى عين القطر بأسم ما آل إليه وذكر الجلبي أن نسبة الإسالة إلى العين مجازية كما في جري النهر
وقال الخفاجي : إن كانت العين هنا بمعنى الماء المعين أي الجاري وإضافتها كما في لجين الماء فلا تجوز في النسبة وإنما هو من مجاز الأول على أن العين منبع الماء ولا حاجة إليه فتأمل
وقال بعضهم : القطر النحاس وعين بمعنى ذات ومعنى أسلنا أذبنا فالمعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداؤد عليه السلام فكانت الأعمال تتأتى منه وهو بارد دون نار ولم يلن ولا ذاب لأحد قبله
(22/117)
والظاهر المؤيد بالآثار أنه تعالى جعله في معدنه عينا تسيل كعيون الماء
أخرج إبن المنذر عن عكرمة أنه قال في الآية : أسأل الله تعالى له القطر ثلاثة أيام يسيل كما يسيل الماء قيل : إلى أين قال : لا أدري وأخرج إبن أبي حاتم عن السدي قال : سيلت له عين من نحاس ثلاثة أيام وفي البحر عن إبن عباس والسدي ومجاهد قالوا أجريت له عليه السلام ثلاثة أيام بلياليهن وكانت بأرض اليمن وفي رواية عن مجاهد أن النحاس سأل من صنعاء وقيل : كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام
ومن الجن من يعمل بين يديه يحتمل أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف هو خبر مقدم و من في محل رفع مبتدأ ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا مقدما من من وهي في محل نصب عطف على الريح وجوز أن يكون من الجن عطفا على الريح على أن من للتبعيض و من يعمل بدل منه وهو تكلف و يعمل إما منزل منزلة اللازم أو مفعوله مقدر يفسره ما سيأتي إن شاء الله تعالى ليكون تفصيلا بعد الإجمال وهو أوقع في النفس بإذن ربه بأمره عزوجل ومن يزغ منهم عن أمرنا أي ومن يعدل منهم عما أمرناه به من طاعة سليمان عليه السلام وقريء يزغ بضم الياء من أراغ مبنيا للفاعل ومفعوله محذوف أي من يمل ويصرف نفسه أو غيره وقيل مبنيا للمفعول فلا يحتاج إلى تقدير مفعول نذقه من عذاب السعير 11 أي عذاب النار في الآخرة كما قال أكثر المفسرين وروى ذلك عن إبن عباس وقال بعضهم : المراد تعذيبه في الدنيا
روى عن السدي أنه عليه السلام كان معه ملك بيده سوط من نار كل ما أستعصى عليه جني ضربه من حيث لا يراه الجني
وفي بعض الروايات أنه كان يحرق من يخالفه وإحتراق الجني مع أنه مخلوق من النار غير منكر فإنه عندنا ليس نارا محضة وإنما النار أغلب العناصر فيه يعملون له ما يشاء من محاريب جمع محراب وهو كما قال عطية القصر وسمى بأسم صاحبه لأنه يحارب غيره في حمايته فإن المحراب في الأصل من صيغ المبالغة أسم لمن يكثر الحرب وليس منقولا من أسم الآلة وإن جوزه بعضهم ولإبن حيوس
جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في محرابه ويطلق على المكان المعروف الذي يقف بحذائه الإمام وهو مما أحدث في المساجد ولم يكن في الصدر الأول كما قال السيوطي وألف في ذلك رسالة ولذا كره الفقهاء الوقوف في داخله
وقال إبن زيد : المحاريب المساكن وقيل ما يصعد إليه بالدرج كالغرف وقال مجاهد : هي المساجد سميت بأسم بعضها تجوزا على ما قيل وهو مبني على أن المحراب أسم لحجرة في المسجد يعبد الله تعالى فيها أو لموقف الإمام
وأخرج إبن المنذر وغيره عن قتادة تفسيرها بالقصور والمساجد معا وجملة يعملون له ما يشاء إستئناف لتفصيل ما ذكر من علمهم وجوز كونها حالا وهو كما ترى وتماثيل قال الضحاك : كانت صور حيوانات وقال الزمخشري : صور الملائكة والأنبياء والصلحاء كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وكان إتخاذ الصور في ذلك الشرع جائزا كما قال الضحاك وأبو العالية
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن إبن عباس أنه قال في الآية إتخذ سليمان عليه السلام تماثيل من نحاس فقال يارب أنفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة فينفخ الله تعالى فيها الروح فكانت تخدمه
(22/118)
وأسفنديار من بقاياهم وهذا من العجب العجاب ولا ينبغي إعتقاد صحته وما هو إلا حديث خرافة وأما ما روى من أنهم عملوا له عليه السلام أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد ان يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما فأمر غير مستبعد فإن ذلك يكون بآلات تتحرك عند الصعود وعند القعود فتحرك الذراعين والأجنحة وقد إنتهت صنائع البشر إلى مثل ذلك في الغرابة وقيل : التماثيل طلسمات فتعمل تمثالا للتمساح أو للذباب أو للبعوض فلا يتجاوزه الممثل به ما دام في ذلك المكان وقد أشتهر عمل نحو ذلك عن الفلاسفة وهو مما لا يتم عندهم إلا بواسطة بعض الأوضاع الفلكية وعلى الباب الشهيرة بباب الطلسم من أبواب بغداد تمثال حية يزعمون أنه لمنع الحيات عن الإيذاء داخل بغداد ونحن قد شاهدنا مرارا أناسا لسعتهم الحيات فمنهم من لم يتأذ ومنهم من تأذى يسيرا ولم نشاهد موت أحد من ذلك وقلما يسلم من لسعته خارج بغداد لكن لا نعتقد أن لذلك التمثال مدخلا فيما ذكر ونظن أن ذاك لضعف الصنف الموجود في بغداد من الحيات وقلة شره بالطبيعة وقيل كانت التماثيل صور شجر أو حيوانات محذوفة الرؤس مما جوز في شرعنا ولا يحتاج إلى إلتزام ذلك إلا إذا صح فيه نقل فإن الحق أن حرمة تصوير الحيوان كاملا لم تكن في ذلك الشرع وإنما هي في شرعنا ولا فرق عندنا بين أن تكون الصورة ذات ظل وأن لا تكون كذلك كصورة الفرس المنقوشة على كاغد أو جدار مثلا
وحكى مكي في الهداية أن قوما أجازوا التصوير وحكاه النحاس أيضا وكذا إبن الفرس وأحتجوا بهذه الآية وأنت تعلم أنه ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصورين ما ورد فلا يلتفت إلى هذا القول ولا يصح الإحتجاج بالآية وكأنه إنما حرمت التماثيل لأنه بمرور الزمان إتخذها الجهلة مما يعبد وظنوا وضعها في المعابد لذلك فشاعت عبادة الأصنام أو سدا لباب التشبه بمتخذي الأصنام بالكلية وجفان جمع جفنة وهي ما يوضع فيها الطعام مطلقا كما ذكره غير واحد وقال بعض اللغويين : الجفنة أعظم القصاع ويليها القصعة وهي ما تشبع العشرة ويليها الصحفة وهي ما تشبع الخمسة ويليها المئكلة وهي ما تشبع الأثنين والثلاثة ويليها الصحيفة وهي ما تشبع الواحد وعليه فالمراد هنا المطلق لظاهر قوله تعالى كالجواب أي كالحياض العظام جمع جابية من الجباية أي الجمع فهي في الأصل مجاز في الطرف أو النسبة لأنها يجبي إليها لا جابية ثم غلبت على الإناء المخصوص غلبة الدابة في ذوات الأربع وجاء تشبيه الجفنة بالجابية في كلامهم من ذلك قول الأعشى : نفي الذم عن آل المحلق جفنة كجابية السيح العراقي تفهق وقول الأفوه الأودي : وقدور كالربى راسية وجفان كالجوابي مترعه وذكر في سعة جفان سليمان عليه السلام أنها كان على الواحدة منها ألف رجل وقريء كالجوابي بياء وهو الأصل وحذفها للإجتزاء بالكسرة وإجراء أل مجرى ما عاقبها وهو التنوين فكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه وقدور جمع قدر وهو ما يطبخ فيه من فخار أو غيره وهو على شكل مخصوص راسيات ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها قاله قتادة وقيل : كانت عظيمة كالجبال وقدمت المحاريب على التماثيل
(22/119)
لأن الصور توضع في المحاريب أو تنقش على جدرانها وقدمت الجفان على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل لأنه لما ذكرت الأبنية الملكية ناسب أن يشار إلى عظمة السماط الذي يمد فيها فذكرت الجفان أولا لأنها تكون فيها بخلاف القدور فإنها لا تحضر هناك كما ينبيء عنه قوله تعالى راسيات على ما سمعت أولا وكأنه لما بين حال الجفان إشتاق الذهن إلى حال القدور فذكرت للمناسبة
أعملوا آل داؤد شكرا بتقدير القول على الإستئناف أو الحالية من فاعل سخرنا المقدر وآل منادى حذف منه حرف النداء و شكرا نصب على أنه مفعول له وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف أو على أنه مفعول مطلق لا عملوا لأن الشكر نوع من العغمل فهو كقعدت القرفصاء وقيل : لتضمين أعملوا معنى أشكروا وقيل : لا شكروا محذوفا أو على أنه حال بتأويل أسم الفاعل أي أعملوا شاكرين لأن الشكر يعم القلب والجوارح أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي أعملوا عملا شكرا أو على أنه مفعول به لا عملوا فالكلام كقولك عملت الطاعة وقيل : إن أعملوا أقيم مقام أشكروا أشكروا مشاكلة لقوله سبحانه يعملون
وقال إبن الحاجب : أنه جعل مفعولا به تجوزا وأياما كان فقد روى إبن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن إبن مسعود قال : لما قيل لهم أعملوا آل داؤد شكرا لم يأت ساعة على القوم إلا ومنهم قائم يصلي وفي رواية كان مصلي آل داؤد لم يخل من قائم يصلي ليلا ونهارا وكانوا يتناوبونه وكان سليمان عليه السلام يأكل خبز الشعير ويطعم أهله خشادته والمساكين الدرمك وهو الدقيق الحواري وما شبع قط وقيل : له في ذلك فقال : أخاف إذا شبعت أن أنسى الجياع وجوز بعض الأفاضل دخول داؤد عليه السلام في الآل هنا لأن آل الرجل قد يعمه
ويؤيده ما أخرجه أحمد في الزهد : وإبن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان عن المغيرة بن عتيبة قال : قال داؤد عليه السلام يارب هل بات أحد من خلقك أطول ذكرا مني فأوحى الله تعالى إليه الضفدع وأنزل سبحانه عليه عليه السلام أعلموا آل داؤد شكرا فقال داؤد عليه السلام كيف أطيق شكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر فالنعمة منك والشكر منك فكيف أطيق شكرك فقال جل وعلا : ياداؤد الآن عرفتني حق معرفتي
وجاء في رواية إبن أبي حاتم عن الفضيل أنه عليه السلام قال يارب : كيف أشكرك والشكر نعمة منك قال سبحانه : الآن شكرتني حين علمت النعم مني وكذا ما أخرجه الفريابي : وإبن أبي حاتم عن مجاهد قال : قال داؤد لسليمان عليهما السلام : قد ذكر الله تعالى الشكر فأكفني قيام النار أكفك قيام الليل قال : لا أستطيع قال : فأكفني صلاة النهار فكفاه وقليل من عبادي الشكور 21 قال إبن عباس : هو الذي يشكر على أحواله كلها وفي الكشاف هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه إعترافا وإعتقادا وكدحا وأكثر أوقاته وقال السدي : هو من يشكر على الشكر وقيل : من يرى عجزه عن الشكر لأن توفيقه للشكر نعمة يستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية وقد نظم هدا بعضهم فقال : إذا كان شكري نعمة الله نعمة على له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام وأتسع العمر إذا مس بالنعماء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
(22/120)
وقد سمعت آنفا ما روى عن داؤد عليه السلام وهذه الجملة يحتمل أن تكون داخلة في خطاب آل داؤد وهو الظاهر وأن تكون جملة مستقلة جيء بها إخبارا لنبينا وفيها تنبيه وتحريض على الشكر
وقرأ حمزة عبادي بسكون الياء وفتحها الباقون فلما قضينا عليه الموت قيل أي أوقعنا على سليمان الموت حاكمين به عليه وفي مجمع البيان أي حكمنا عليه بالموت وقيل : أوجبناه عليه وفي البحر أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت وأخرجناه إلى حيز الوجود وفيه تكلف وأياما كان فليس المراد بالقضاء أخا القدر فتدبر ولما شرطية ما بعدها شرطها وجوابها قوله تعالى ما دلهم على موته إلا دابة الأرض وأستدل بذلك على حرفيتها وفيه نظر وضمير دلهم عائد على الجن الذين كان يعملون له عليه السلام وقيل : عائد على آل سليمان ويأباه بحسب الظاهر قوله تعالى بعد تبينت الجن والمراد بدابة الأرض الأرضة بفتحات وهي دويبة تأكل الخشب ونحوه وتسمى سرفة بضم السين وإسكان الراء المهملة وبالفاء وفي حياة الحيوان عن إبن السكيت إنها دويبة سوداء الرأس وسائرها أحمر تتخذ لنفسها بيتا مربعا من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها ثم تدخل فيه وتموت وفي المثل أصنع من سرفة وسماها في البحر بسوسة الخشب والأرض على ما ذهب إليه أبو حاتم وجماعة مصدر أرضت الدابة الخشب تأرضه إذا أكلته من باب ضرب يضرب فإضافة دابة إليه من إضافة الشيء إلى فعله ويؤيد ذلك قراءة إبن عباس والعباس بن الفضل الأرض بفتح الراء لأنه مصدر أرض من باب علم المطاوع لأرض من باب ضرب يقال أرضت الدابة الخشب بالفتح فأرض بالكسر كما يقال أكلت القوادح الأسنان أكلا فأكلت أكلا فالأرض بالسكون الأكل والارض بالفتح التأثر من ذلك الفعل
وقد يفسر الأول بالتأثر الذي هو الحاصل لتتوافق القراءتان وقيل الأرض بالفتح جمع أرضة وإضافة دابة إليه من إضافة العام إلى الخاص وقيل : إن الأرض بالسكون بمعناها المعروف وإضافة دابة إليها قيل لأن فعلها في الأكثر فيها وقيل لأنها تؤثر في الخشب ونحوه كما تؤثر الأرض فيه إذا دفن فيها وقيل غير ذلك والأولى التفسير الأول وإن لم تجيء الأرض في القرآن بذلك المعنى في غير هذا الموضع وقوله تعالى تأكل منسأته في موضع الحال من دابة أي آكلة منسأته والمنسأة العصا من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها أو من نسأته إذا أخرته ومنه النسيء ويظهر من هذا أنها العصا الكبيرة التي تكون مع الراعي وأضرابه
وقرأ نافع وإبن عامر وجماعة منسأته بألف وأصله منسأته فأبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي
وقال أبو عمرو : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها إشتقاقا فإن كانت مما لا تهمز فقد أحتطت وإن كانت مما تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز ولعله بيان لوجه إختيار القراءة بدون همزة وبالهمز جاءت في قول الشاعر
ضربت بمنسأة وجهه فصار بذاك مهينا ذليلا وبدونه في قوله : إذا دببت على المنسأة من هرم فقد تباعد منك اللهو والغزل وقرأ إبن ذكوان وبكار والوليد بن أبي عتبة وإبن مسلم وآخرون منسأته بهمزة ساكنة وهو من تسكين المتحرك تخفيفا وليس بقياس وضعف النحاة هذه القراءة لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل تاء التأنيث ساكنا
(22/121)
غير ألف وقيل : قياسها التخفيف بين بين والراوي لم يضبط وأنشد هرون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على السكون في هذه القراءة قول الراجز : صريع خمر قام من وكأته كقومة الشيخ إلى منسأته وقريء بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا و منسأته بالمد على وزن مفعالة كما يقال في الميضأة وهي آلة التوضيء وتطلق على محله أيضا ميضاءة وقريء منسيته بإبدال الهمزة ياء وقرأت فرقة منهم عمرو بن ثابت عن إبن جبير من مفصولة حرف جر ساته بجر التاء وهي طرف العصا وأصلها ما أنعطف من طرفي القوس ويقال فيه سية أيضا أستعيرت لما ذكر إما إستعارة أصطلاحية لأنها كانت خضراء فأعوجت بالإتكاء عليها على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى في القصة أو لغوية بإستعمال المقيد في المطلق وبما ذكر علم رد ما قاله البطليوسي بعد ما نقل هذه القراءة عن الفراء أنه تعجرف لا يجوز أن يستعمل في كتاب الله عزوجل ولم يأت به رواية ولا سماع ومع ذلك هو غير موافق لقصة سليمان عليه السلام لأنه لم يكن معتمدا على قوس وإنما كان معتمدا على عصا وقريء أكلت منسأته بصيغة الماضي فالجملة إما حال أيضا بتقدير قد أو بدونه وإما إستئناف بياني
فلما خر أي سقط تبينت الجن أي علمت بعد إلتباس أمر سليمان من حياته ومماته عليهم أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين 41 أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته زمن وقوعه فلم يلبثوا بعده حولا في الأعمال الشاقة إلى أن خر والمراد بالجن الذين علموا ذلك ضعفاء الجن وبالذين نفى عنهم علم الغيب رؤساؤهم وكبارهم على ما روى عن قتادة وجوز عليه أن يراد بالأمر الملتبس عليهم أمر علم الغيب أو المراد بالجن الجنس بأن يسند للكل ما للبعض أو المراد كبارهم المدعون علم الغيب أي علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم وأنهم لا يعلمون الغيب وهم وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم لكن أريد التهكم بهم كما تقول للمبطل إذا دحضت حجته هل تبينت أنك مبطل وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبينا
وجوز أن يكون تبين بمعنى بان وظهر فهو غير متعد لمفعول كما في الوجه الأول فإن مفعوله فيه أن لو كانوا إلخ وهو في هذا الوجه بدل من الجن بدل إشتمال نحو تبين زيد جهله والظهور في الحقيقة مسند إليه أي فلما خر بان للناس وظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب ولا حاجة على ما قرر إلى إعتبار مضاف مقدر هو فاعل تبين في الحقيقة إلا أنه بعد حذفه أقيم المضاف إليه مقامه وأسند إليه الفعل ثم جعل أن لو كانوا إلخ بدلا منه بدل كل من كل والأصل تبين أمر الجن أن لو كانوا إلخ وجعل بعضهم في قوله تعالى أن لو كانوا يعلمون إلخ قياسا طويت كبراه فكأنه قيل لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين لكنهم لبثوا في العذاب المهين فهم لا يعلمون الغيب ومجيء تبين بمعنى بان وظهر لازما وبمعنى أدرك وعلم متعديا موجود في كلام العرب قال الشاعر : تبين لي أن القماءة ذلة وأن أعزاء الرجال طيالها وقال الآخر : أفأطم إني ميت فتبيني ولا تجزعي كل الأنام تموت وفي البحر نقلا عن إبن عطية قال : ذهب سيبويه إلى أن أن لا موضع لها من الأعراب وإنما هي منزلة منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها
(22/122)
تحل محل القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب لو فتأمله فإني لا أكاد أتعقله وجها يلتفت إليه
وفي أمالي العز بن عبدالسلام أن الجن ليس فاعل تبينت بل هو مبتدأ وإن لو كانوا يعلمون خبره والجملة مفسرة لضمير الشأن في تبينت إذ لولا ذلك لكان معنى الكلام لما مات سليمان وخر ظهر لهم أنهم لا يعلمون الغيب وعلمهم بعدم علمهم الغيب لا يتوقف على هذا بل المعنى تبينت القصة ما هي والقصة قوله تعالى الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين والعجب من صدور مثله عن مثله وما جعله مانعا عن فاعلية الجن مدفوع بما سمعت في تفسير الآية كما لا يخفى وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه قريء تبينت الجن بالنصب على أن تبينت بمعنى علمت والفاعل ضمير الأنس والجن مفعوله وقرأ إبن عباس فيما ذكر إبن خالويه ويعقوب بخلاف عنه تبينت مبنيا للمفعول وقرأ أبي تبينت الأنس وعن الضحاك تباينت الأنس بمعنى تعارقت وتعالمت والضمير في كانوا للجن المذكور فيما سبق وقرأ إبن مسعود تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب وهي قراءات مخالفة لسواد المصحف مخالفة كثيرة وفي القصة روايات فروى أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى فيسألها لأي شيء أنت فتقول : لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخرنوبة فسألها فقالت نبت لخراب هذا المسجد فقال ما كان الله تعالى ليخرجه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له وأتخذ منها عصا وقال : اللهم عم علي الجن موتي حتى يعلم أنهم لا يعلمون الغيب كما يموهمون وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني فقال : أمرت بك وقد بقى من عمرك ساعة فدعا الجن فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكيء عليها وكانت الجن تجتمع حول محرابه أينما صلى فلم يكن جني ينظر إليه في صلاته إلا أحترق فمر جني فلم يسمع صوته ثم رجع فلم يسمع فنظر إذا سليمان قد خر ميتا ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة فأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا فتبين أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لما لبثوا في العذاب سنة ولا يخفى أن هذا من باب التخمين والإقتصار على الأقل وإلا فيجوز أن تكون الأرضة بدت بالأكل بعد موته بزمان كثير وأنها كانت تأكل أحيانا وتترك أحيانا
وأما كون بدئها في حياته فبعيد وكونه بالوحي إلى نبي في ذلك الزمان كما قيل فواه لأنه لو كان كذلك لم يحتاجوا إلى وضع الأرضة على العصا ليستعلموا المدة وروى أن داؤد عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الجن بإتمامه فلما بقى من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب وهذا بظاهره مخالف لما روى أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أسس بيت المقدس بعد الكعبة بأربعين سنة ثم خرب وأعاده داؤد ومات قبل أن يتمه وأيضا إن موسى عليه السلام لم يدخل بيت المقدس بل مات في التيه وجاء في الحديث الصحيح أنه عليه السلام سأل ربه عند وفاته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر وأيضا قد روى أن سليمان قد فرغ من بناء المسجد وتعبد فيه وتجهز بعده للحج شكرا لله تعالى على ذلك وأجيب عن الأول بأن المراد تجديد التأسيس وعن الثاني بأن المراد بالفسطاط موسى فسطاطه المتوارث وكانوا يضربونه يتعبدون فيه تبركا لا أنه كان يضرب هنالك في زمنه
(22/123)
عليه السلام ويحتاج هذا إلى نقل فإن مثله لا يقال بالرأي فإن كان فأهلا ومرحبا وقيل المراد به مجمع العبادة على دين موسى كما وقع في الحديث فسطاط إيمان
وقال القرطبي في التذكرة : المراد به فرقة منحازة عن غيرها مجتمعة تشبيها بالخيمة ولا يخفى ما فيهما وإن قيل إنهما أظهر من الأول وعن الثالث بأن المراد بالفراغ القرب من الفراغ وما قارب الشيء له حكمه وفيه بعد وأختير أن هذا رواية وذاك رواية والله تعالى أعلم بالصحيح منهما وروى أنه عليه السلام قد أمر ببناء صرح له فبنوه فدخله مختليا ليصفو له يوم في الدهر من الكدر فدخل عليه شاب فقال : له كيف دخلت على بلا إذن فقال : إنما دخلت بإذن فقال : ومن أذن لك قال : رب هذا الصرح فعلم أنه ملك الموت أتى لقبض روحه فقال : سبحان الله هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا فقال له : طلبت ما لم يخلق فأستوثق من الإتكاء على عصاه فقبض روحه وخفى على الحن موته حتى سقط وروى أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه ولذا لم تقربه الجن وخفى أمر موته عليهم
ونظر فيه بأن سليمان كان بعد موسى بمدة مديدة وأفريدون كان قبله لأن منوجهر من أسباط أفريدون وظهر موسى عليه في زمانه وعلى جميع الروايات الدالة على موته عليه السلام خروره لما كسرت العصا لضعفها بأكل الأرضة منها ونسبة الدلالة في الآية إليها نسبة إلى السبب البعيد
ومن الغريب ما نقل عن إبن عباس أنه عليه السلام مات في متعبده على فراشه وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة أي عتبة الباب فلما خر أي الباب علم موته فإن فيه جعل ضمير خر للباب وإليه ذهب بعضهم وفيه أنه لم يعهد تسمية العتبة منسأة وأيضا كان اللازم عليه خرت بتاء التأنيث ولا يجيء حذفها في مثل ذلك إلا في ضرورة الشعر وكون التذكير على معنى العود بعيد فالظاهر عدم صحة الرواية عن الحبر والله تعالى أعلم
وحكى البغوي عنه أن الجن شكروا الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب وهذا شيء لا أقول به ولا أعتقد صحة الرواية أيضا وكان عمره عليه السلام ثلاثا وخمسين سنة وملك بعد أبيه وعمره ثلاثة عشر سنة وأبتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه ثم مضى وأنقضى وسبحان من لا ينقضي ملكه ولا يزول سلطانه وفي الآية دليل على أن الغيب لا يختص بالأمور المستقبلة بل يشمل الأمور الواقعة التي هي غائبة عن الشخص أيضا لقد كان لسبأ لما ذكر عزوجل حال الشاكرين لنعمه المنيبين إليه تعالى ذكر حال الكافرين بالنعمة المعرضين عنه جل شأنه موعظة لقريش وتحذيرا لمن كفر بالنعم وأعرض عن المنعم وسبأ في الأصل أسم رجل وهو سبا بن يشجب بالشين المعجمة والجيم كينصر بن يعرب بن قحطان وفي بعض الأخبار عن فروة بن مسيك قال : أتيت النبي فقلت : يارسول الله أخبرني عن سبأ أرجل هو أم أمرأة فقال : هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعريون وأنمار ومنهم بجيلة وأما الذين تشاءموا فعاملة وغسان ولخم وجذام وفي شرح قصيدة عبدالمجيد إبن عبدون لعبدالملك بن عبدالله بن بدرون الحضرمي البستي أن سبأ بن يشجب أول ملوك اليمن في قول وأسمه عب شمس وإنما سبا لأنه أول من سبى السبي من ولد قحطان وكان ملكه أربعمائة وأربعا وثمانين سنة ثم سمى به الحي ومنع الصرف عنه إبن كثير وأبو عمرو بإعتبار جعله أسما للقبيلة ففيه العلمية والتأنيث وقرأ قنبل بإسكان
(22/124)
الهمزة على نية الوقف وعن إبن كثير قلب همزته ألفا ولعله سكنها أولا بنية الوقف كقنبل ثم قلبها ألفا والهمزة إذا سكنت يطرد قلبها من جنس حركة ما قبلها وقيل : لعله أخرجها بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب والمراد بسبأ هنا إما الحي أو القبيلة وإما الرجل الذي سمعت وعليه فالكلام على تقدير مضاف أي لقد كان في أولاد سبا وجوز أن يراد به البلد وقد شاع إطلاقه عليه وحينئذ فالضمير في قوله تعالى في مسكنهم لأهلها أولها مرادا بها الحي على سبيل الإستخدام والأمر فيه على ما تقدم ظاهر والمسكن أسم مكان أي في محل سكناهم وهو كالدار يطلق على المأوى للجميع وإن كان قطرا واسعا كما تسمى الدنيا دارا وقال أبو حيان : ينبغي أن يحمل على المصدر أي في سكناهم لأن كل أحد له مسكن وقد أفرد في هذه القراءة وجعل المفرد بمعنى الجمع كما في قوله
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
وقوله
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
يختص بالضرورة عند سيبويه إنتهى
وبما ذكرنا لا تبقى حاجة إليه كما لا يخفى وأسم ذلك المكان مأرب كمنزل وهي من بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث وقرأ الكسائي والأعمش وعلقمة مسكنهم بكسر الكاف على خلاف القياس كمسجد ومطلع لأن ما ضمت عين مضارعه أو فتحت قياس المفعل منه زمانا ومكانا ومصدرا الفتح لا غير وقال أبو الحسن كسر الكاف لغة فاشية وهي لغة الناس اليوم والفتح لغة الحجاز وهي اليوم قليلة وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة
وقرأ الجمهور مساكنهم جمعا أي في مواضع سكناهم آية أي علامة دالة بملاحظة أخواتها السابقة واللاحقة على وجود الصانع المختار وأنه سبحانه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسنيء وهي أسم كان وقوله تعالى جنتان بدل منها على ما أشار إليه الفراء وصرح به مكي وغيره وقال الزجاج : خبر مبتدأ محذوف أي هي جنتان ولا يشترط في البدل المطابقة إفرادا وغيره وكذا الخبر إذا كان غير مشتق ولم يمنع المعنى من إتحاده مع المبتدأ ولعل وجه توحيد الآية هنا مثله في قوله تعالى وجعلنا إبن مريم وأمه آية ولا حاجة إلى إعتبار مضاف مفرد محذوف هو البدل أو الخبر في الحقيقة أي قصة جنتين وذهب إبن عطية بعد أن ضعف وجه البدلية ولم يذكر الجهة إلى أن جنتان مبتدأ خبره قوله تعالى عن يمين وشمال ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للإبتداء بها إلا أن أعتقد أن ثم صفة محذوفة أي جنتان لهم أو جنتان عظيمتان وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام متفلتا عما قبله وقرأ إبن أبي عبلة جنتين بالنصب على المدح وقال أبو حيان : على أن آية أسم كان و جنتين الخبر وأياما كان فالمراد بالجنتين على ما روى عن قتادة جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله وإطلاق الجنة على كل جماعة لأنها لتقارب أفرادها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها وقيل : أريد بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال سبحانه جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب قيل : ولم تجمع لئلا يلزم أن لكل مسكن رجل جنة واحدة لمقابلة الجمع بالجمع ورد بأن قوله تعالى عن يمين وشمال يدفع ذلك لأنه بالنظر إلى كل مسكن إلا أنها لو جمعت أوهم أن لكل مسكن جنات عن يمين وجنات عن شمال وهذا لا محذور فيه إلا أن يدعى أنه مخالف للواقع ثم أنه قيل إن في فيما سبق بمعنى عند فإن المساكن محفوفة بالجنتين لا ظرف لهما وقيل : لا حاجة إلى هذا فإن القريب من الشيء قد يجعل فيه مبالغة في شدة القرب ولكل جهة لكن أنت تعلم أنه إذا أريد بالمساكن أو المسكن ما يصلح أن يكون ظرفا لبلدهم المحفوفة بالجنتين
(22/125)
أو لمحل كل منهم المحفوفة بهما لم يحتج إلى التأويل أصلا فلا تغفل كلوا من رزق ربكم وأشكروا له جملة مستأنفة بتقدير قول أي قال لهم نبيهم كلوا إلخ وفي مجمع البيان قيل إن مساكنهم كانت ثلاثة عشر قرية في كل قرية نبي يدعوهم إلى الله عزوجل يقول كلوا من رزق ربكم إلخ وقيل : ليس هناك قول حقيقة وإنما هو قول بلسان الحال بلدة طيبة ورب غفور 51 أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره والجملة إستئناف للتصريح بموجب الشكر ومعنى طيبة زكية مستلذة
يروى أنها كانت لطيفة الهواء حسنة التربة لا تحدث فيها عاهة ولا يكون فيها هامة حتى أن الغريب إذا حلها وفي ثيابه قمل أو براغيث ماتت وقيل : المراد بطيبها صحة هوائها وعذوبة مائها ووفور نزهتها وأنه ليس فيها حر يؤذي في الصيف ولا برد يؤذي في الشتاء وقرأ رويس بنصب بلدة وجميع ما بعدها وذلك على المدح والوصفية
وقال أحمد بن يحيى : بتقدير أسكنوا لدة طيبة وأعيدوا ربا غفورا ومن الإتفاقات النادرة إن لفظ بلدة طيبة بحساب الجمل وإعتبار هاء التأنيث بأربعمائة كما ذهب إليه كثير من الأدباء وقع تاريخا لفتح القسطنطينية وكانت نزهة بلاد الروم فأعرضوا أي عن الشكر كما يقتضيه المقام ويدخل فيه الإعراض عن الإيمان لأنه أعظم الكفر والكفران وقال أبو حيان : أعرضوا عما جاء به إليهم أنبياؤهم الثلاثة عشر حيث دعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعمه سبحانه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة فأرسلنا عليهم سيل العرم أي الصعب من عرم الرجل مثلث الراء فهو عارم وعرم إذا شرس خلقه وصعب وفي معناه ما جاء في رواية عن إبن عباس من تفسيره بالشديد وإضافة السيل إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة ومن أباها من النحاة قال التقدير سيل الأمر العرم
وقيل : العرم المطر الشديد والإضافة على ظاهرها وقيل : هو أسم للجرذ الذي نقب عليهم سدهم فصار سببا لتسلط السيل عليهم وهو الفار الأعمى الإذي ي قال له الخلد وإضافة السيل إليه لأدنى ملابسة وقال إبن جبير : العرم المسناة بلسان الحبشة وقال الأخفش هو بهذا المعنى عربي وقال المغيرة بن حكيم : وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي كل ما بنى أو سنم ليمسك الماء ؤيقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة والإضافة كما في سابقه والملابسة في هذا أقوى وعن إبن عباس وقتادة والضحاك ومقاتل هو أسم الوادي الذي كان يأتي السيل منه وبنى السد فيه ووجه إضافة السيل إليه ظاهر وقرأ عزرة بن الورد فيما حكى إبن خالويه العرم بإسكان الراء تخفيفا كقولهم في الكبد الكبد روى أن بلقيس لما ملكت أقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها وسكنت قصرها وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا : لترجعن أو لنقتلنك فقالت لهم : أنتم لا عقول لكم ولا تطيعوني فقالوا : نطيعك فرجعت إلى واديهم وكانوا إذا مطروا أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام فأمرت فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر والقار وحبست الماء من وراء السد وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة منها إثنا عشر مخرجا على عدة أنهارهم وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان عليه السلام ما كان
وقيل : الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية وقيل بناه لقمان الأكبر بن عاد ورصف أحجاره بالرصاص والحديد وكان فرسخا في فرسخ ولم يزالوا في أرغد عيش وأخصب أرض حتى أن المراة تخرج وعلى رأسها
(22/126)
المكتل فتعمل بيديها وتسير فيمتليء المكتل مما يتساقط من أشجار بساتينهم إلى أن أعرضوا عن الشكر وكذبوا الأنبياء عليهم السلام فسلط الله تعالى على سدهم الخلد فوالد فيه فخرقه فأرسل سبحانه سيلا عظيما فحمل السد وذهب بالجنان وكثير من الناس وقيل إنه أذهب السد فأحتمل أمر قسمة الماء ووصوله إلى جنانهم فيبست وهلكت وكان ذلك السيل على ما قيل في ملك ذي الأذعار بن حسان في الفترة بين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وعيسى عليه السلام وفيه بحث على تقدير القول بأن الأعراض كان عما جاءهم من أنبيائهم الثلاثة عشر كما ستعلمه إن شاء الله تعالى عن قريب
وبدلناهم بجنتيهم أي أذهبنا جنتيهم وأتينا بدلها جنتين ذواتي أكل أي ثمر خمط أي حامض أو مر وعن إبن عباس الخمط الأراك ويقال لثمره مطلقا أو إذا أسود وبلغ البربر وقيل شجر الغضا ولا أعلم هل له ثمر أم لا وقال أبو عبيدة : كل شجرة مرة ذات شوك وقال إبن الأعرابي : هو ثمر شجرة على صورة الخشخاش لا ينتفع به وتسمى تلك الشجرة على ما قيل بفسوة الضبع وهو على الأول صفة لأكل والأمر في ذلك ظاهر وعلى الأخير عطف بيان على مذهب الكوفيين المجوزين له في النكرات وقيل بدل وعلى ما بينهما الكلام على حذف مضاف أي أكل أكل خمط وذلك المضاف بدل من أكل أو عطف بيان عليه ولما حذف أقيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه كما في البحر وقيل هو بتقدير أكل ذي خمط وقيل هو بدل من باب يعجبني القمر فلكه وهو كما ترى ومنع جعله وصفا من غير ضرب من التأويل لأن الثمر لا يوصف بالشجر لا لأن الوصف بالأسماء الجامدة لا يطرد وإن جاء منه شيء نحو مررت بقاع عرفج فتأمل
وقرأ أبو عمرو أكل خمط بالإضافة وهو من باب ثوب خز وقرأ إبن كثير أكل بسكون الكاف والتنوين وأثل ضرب من الطرفاء على ما قاله أبو حنيفة اللغوي في كتاب النبات له وعن إبن عباس تفسيره بالطرفاء ونقل الطبرسي قولا أنه السمر وهو عطف على أكل ولم يجوز الزمخشري عطفه على خمط معلالا بأن الأثل لا ثمر له والأطباء كداؤد الأنطاكي وغيره يذكرون له ثمرا كالحمص ينكسر عن حب صغار ملتصق بعضه ببعض ويفسرون الأثل بالعظيم من الطرفاء ويقولون في الطرفاء هو بري لا ثمر له وبستاني له ثمر لكن قال الخفاجي : لا يعتمد على الكتب الطبية في مثل ذلك وفي القلب منه شيء ونحن قد حققنا أن للأثل ثمرا وكذا لصنف من الطرفاء إلا أن ثمرهما لا يؤكل ولعل مراد النافي نفي ثمرة تؤكل والأطباء يعدون ما تخرجه الشجر غير الورق ونحوه ثمرة أكلت أم لا ومثله في العطف على ذلك في قوله تعالى :
وشيء من سدر قليل 61 وحكى الفضيل بن إبراهيم أنه قريء أثلا وشيئا بالنصب عطفا على جنتين والسدر شجر النبق وقال الأزهري : السدر سدران سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمرة عفصة لا تؤكل وهو الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب إنتهى وأختلف في المراد هنا فقيل الثاني ووصف بقليل لفظا ومعنى أو معنى فقط وذلك إذا كان نعتا لشيء المبين به لأن ثمره مما يطيب أكله فجعل قليلا فيما بدلوا به لأنه لو كثر كان نعمة لا نقمة وإنما أوتوه تذكيرا للنعم الزائلة لتكون حسرة عليهم وقيل المراد به الأول حتما لأنه الأنسب بالمقام ولم يذكر نكتة الوصف بالقليل عليه
ويمكن أن يقال في الوصف به مطلقا أن السدر له شأن عند العرب ولذا نص الله تعالى على وجوده في الجنة
(22/127)
والبستاني منه لا يخفى نفعه والبري يستظل به أبناء السبيل ويأنسون به ولهم فيه منافع أخرى ويستأنس لعلو شأنه بما أخرجه أبو داؤد في سننه والضياء في المختارة عن عبدالله بن حبشي قال : قال رسول الله من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار وبما أخرجه البيهقي عن أبي جعفر قال : قال رسول الله لعلي كرم الله تعالى وجهه في مرض موته : أخرج ياعلي فقل عن الله لا عن رسول الله لعن الله من يقطع السدر وفي معناهما عدة أخبار لها عدة طرق والكل فيما أرى محمول على ما إذا كان القطع عبثا ولو كان السدر في ملكه
وقيل في ذلك مخصوص بسدر المدينة وإنما نهى عن قطعه ليكون إنسا وظلا لمن يهاجر إليها وقيل بسدر الفلاة ليستظل به أبناء السبيل والحيوان وقيل بسدر مكة لأنها حرم وقيل بما إذا كان في ملك الغير وكان القطع بغير حق والكل كما ترى وأياما كان ففي التنصيص عليه ما يشير إلى أن له شأنا فلما ذكر سبحانه ما آل إليه حال أولئك المعرضين وما بدلوا بجنتيهم أتى جل وعلا بما يتضمن الإيذان بحقارة ما عوضوا به وهو مما له شأن عند العرب أعني السدر وقلته والإيذان بالقلة ظاهر وأما الإيذان بالحقارة فمن ذكر شيء والعدول عن أن يقال وسدر قليل مع أنه الأخضر الأوفق بما قبله ففيه إشارة إلى غاية إنعكاس الحال حيث أومأ الكلام إلى أنهم لم يؤتوا بعد إذهاب جنتيهم شيئا مما لجنسه شأن عند العرب إلا السدر وما أوتوه من هذا الجنس حقير قليل وتسمية البدل جنتين مع أنه ما سمعت للمشاكلة والتهكم ذلك إشارة إلى ما ذكر من التبديل وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى بعد رتبته في الفظاعة أو إلى مصدر قوله تعالى :
جزيناهم كما قيل في قوله سبحانه وكذلك جعلناكم أمة وسطا ومحله على الأول النصب على أنه مفعول ثان وعلى الثاني النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور والتقديم للتعظيم والتهويل وقيل للتخصيص أي ذلك التبديل جزيناهم لا غيره أو ذلك الجزاء الفظيع جريناهم لا جزاء آخر بما كفروا بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها وقيل بسبب كفرهم بالرسل الثلاثة عشر الذين بعثوا إليهم وأستشكل هذا مع القول بأن السيل العرم كان زمن الفترة بأن الجمهور قالوا لا نبي بين نبينا وعيسى عليهما الصلاة والسلام ومن الناس من قال : بينهما أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد العبسي وهو قد بعث لقومه وبنو إسرائيل لم يبعثوا للعرب وأجيب بأن ما كان زمن الفترة هو السيل العرم لا غير والرسل الثلاثة عشر هم جملة من كان في قومهم من سبأ بن يشجب إلى أن أهلكهم الله تعالى أجمعين فتأمل ولا نغفل
وهل نجازي إلا الكفور أي ما نجازي مثل هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا المبالغ في الكفران أو الكفر فلا يتوجه على الحصر إشكال أن المؤمن قد يعاقب في العاجل وفي الكشف لا يراد أن المؤمن أيضا يعاقب فإنه ليس بعقاب على الحقيقة بل تمحيص ولأنه أريد المعاقبة بجميع ما يفعله من السوء ولا كذلك للمؤمن ولا مانع من أن يكون الجزاى عاما في كل مكافآت وأريد به المعاقبة مطلقا من غير تقييد بما سبق لقرينة جزيناهم بما كفروا لتعيين المعاقبة فيه بل قال الزمخشري : هو الوجه الصحيح وذلك لعدم الإضمار ولأن التذييل هكذا آكد وأسد موقعا ولا يتوجه الأشكال لما في الكشف وقرأ الجمهور يجازي بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول الكفور بالرفع على النيابة عن الفاعل وقريء يجازي بضم الياء وكسر الزاي مبنيا
(22/128)
للفاعل وهو ضميره تعالى وحده الكفور بالنصب على المفعولية وقرأ مسلم بن جندب يجزي مبنيا للمفعول الكفور بالرفع على النيابة والمجازات على ما سمعت عن الزمخشري المكافآت لكن قال الخفاجي لم ترد في القرآن إلا مع العقاب بخلاف الجزاء فإنه عام وقد يخص بالخير وعن أبي إسحاق تقول جزيت الرجل في الخير وجازيته في الشر وفي معناه قول مجاهد يقال في العقوبة يجازي وفي المثوبة يجزي
وقال بعض الأجلة : ينبغي أن يكون أبو إسحاق قد أزاد أنك إذا أرسلت الفعلين ولم تعدهما إلى المفعول الثاني كانا كذلك وأما إذا ذكرته فيستعمل كل منهما في الخير والشر ويرد على ما ذكر جزيناهم بما كفروا وكذا وهل يجزي في قراءة مسلم إذ الجزاء في ذلك مستعمل في الشر مع عدم ذكر المفعول الثاني وقوله : جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزي سنمار وقال الراغب : يقال جزيته وجازيته ولم يجيء في القرآن إلا جزى دون جازى وذلك لأن المجازاة المكافأة وهي مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها ونعمة الله عزوجل تتعالى عن ذلك ولهذا لا يستعمل لفظ المكافأة فيه سبحانه وتعالى وفيه غفلة عما هنا إلا أن يقال : أراد أنه لم يجيء في القرآن جازى فيما هو نعمة مسندا إليه تعالى فإنه لم يخطر لي مجيء ذلك فيه والله تعالى أعلم ويحسن عندي قول أبي حيان : أكثر ما يستعمل الجزاء في الخير والمجازاة في الشر لكن في تقييدهما قد يقع كل منهما موقع الآخر وفي قوله سبحانه : جزيناهم بما كفروا دون جازيناهم بما كفروا على الوجه الثاني في اسم الإشارة ما يحكي تمتع القوم بما يسر ووقوعهم بعده فيما يسيء ويضر ويمكن أن تكون نكتة التعبير بجزي الأكثر إستعمالا في الخير ويجوز أن يكون التعبير بذاك أول وبنجازي ثانيا ليكون كل أوفق بعلته وهذا جار على كلا الوجهين في الإشارة فتدبر جدا
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة إلى آخره عطف بمجموعه على مجموع ما قبله عطف القصة على القصة وهو حكاية لما أوتوا من النعم في مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وما حاق بهم بسبب ذلك وما قبل كان حكاية لما أوتوا من النعم في مساكنهم ومحل إقامتهم وما فعلوا بها وما فعل بهم والمراد بالقرى التي بورك فيها قرى الشام وذلك بكثرة أشجارها وأثمارها والتوسعة على أهلها وعن إبن عباس هي قرى بيت المقدس وعن مجاهد هي السراوية وعن وهب قرى صنعاء وقال إبن جبير : قرى مأرب والمعول عليه الأول حتى قال إبن عطية إن إجماع المفسرين عليه ومعنى ظاهرة على ما روى عن قتادة متواصلة يقرب بعضها من بعض بحيث يظهر لمن في بعضها ما في مقابلته من الأخرى وهذا يقتضي القرب الشديد لكن سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما قيل في مقدار ما بين كل قريتين وقال المبرد ظاهرة مرتفعة أي على الآكام والظراب وهي أشرف القرى وقيل ظاهرة معروفة يقال هذا أمر ظاهر أي معروف وتعرف القرية لحسنها ورعاية أهلها المارين عليها وقيل ظاهرة موضوعة على الطرق ليسهل سير السابلة فيها
وقال إبن عطية : الذي يظهر لي أن معنى ظاهرة خارجة عن المدن فهي عبارة عن القرى الصغار التي في ظواهر المدن كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن وظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي ومنه قولهم نزلنا بظاهر البلد الفلاني أي خارجا عنه ومنه قول الشاعر : فلو شهدتني من قريش عصابة قريش البطاح لا قريش الظواهر يعني أن الخارجين من بطحاء مكة ويقال للساكنين خارج البلد أهل الضواحي وأهل البوادي أيضا
(22/129)
وقدرنا فيها السير أي جعلنا نسبة بعضها إلى بعض على مقدار معين من السير قيل من سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدو ونحوه وقيل : كان بين كل قريتين ميل وقال الضحاك : مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها وهذا هو الأوفق بمعنى ظاهرة على ما سمعت عن قتادة وكذا بقوله سبحانه سيروا فيها فإنه مؤذن بشدة القرب حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى والظاهر أن سيروا أمر منه عزوجل على لسان نبي أو نحوه وهو بتقدير القول أي قلنا لهم سيروا في تلك القرى ليالي وأياما أي متى شئتم من ليل ونهار آمنين 81 من كل ما تكرهونه لا يختلف إلا من فيها بإختلاف الأوقات وقدم الليالي لأنها مظنة الخوف من مغتال وإن قيل الليل أخفى للويل أو لأنها سابقة على الأيام أو قلنا سيروا فيها آمنين وإن تطاولت مدة سفركم وأمتدت ليالي وأياما كثيرة قال قتادة : كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان ولو وجد الرجل قاتل أبيه لم يهجه أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم أي مدة أعماركم لا تلقون فيها إلا الأمن وقدمت الليالي لسبقها
وأياما كان فقد علم فائدة ذكر الليالي والأيام وإن كان السير لا يخلو عنهما وجوز أن لا يكون هناك قول حقيقة وإنما نزل تمكينهم من السير المذكور وتسوية مباديه وأسبابه منزلة القول لهم وأمرهم بذلك والأمر على الوجهين للإباحة
فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا لما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنو إسرائيل وقالوا : لو كانت متاجرنا أبعد كان ما نجليه منها أشهى وأغلى فطلبوا تبديل إتصال العمران وفصل المفارز والقفار وفي ضمن ذلك إظهار القادرين منهم على قطعها بركوب الرواحل وتزود الأزواد الفخر والكبر على الفقراء العاجزين عن دلك فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسطة وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب والظاهر أنهم قالوا ذلك بلسان القال وجوز الإمام أن يكونوا قالوا : باعد بلسان الحال أي فلما كفروا فقد طلبوا أن يبعد بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم
وقرأ إبن كثير وأبو عمرو وهشام بعد بتشديد العين فعل طلب وإبن عباس وإبن الحنفية وعمرو إبن قائد ربنا رفعا بعد بالتشديد فعلا ماضيا وإبن عباس وإبن الحنفية أيضا وأبو رجاء : والحسن ويعقوب وزيد بن علي وأبو صالح وإبن أبي ليلى والكلبي ومحمد بن علي وسلام وأبو حيوة ربنا رفعا و باعد طلبا من المفاعلة وإبن الحنفية أيضا وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن وسفيان بن حسين وإبن السميقع ربنا بالنصب بعد بضم العين فعلا ماضيا بين بالنصب إلا سعيدا منهم فإنه يضم النون ويجعل بين فاعلا ومن نصب فالفاعل عنده ضمير يعود على السير ومن نصب ربنا جعله منادى فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرا وبطرا
وفاعل بمعنى فعل وإن جاء فعلا ماضيا كان ذلك شكوى من مسافة ما بين قراهم مع قصرها لتجاوزهم في الترفه والتنعم أو شكوى مما حل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها بعد وقوعها أو دعاء بلفظ الخبر ومن رفع ربنا فلا يكون الفعل عنده إلا ماضيا والجملة خبريه متضمنة للشكوى على ما قيل ونصب بين بعد كل فعل متعد في إحدى القراءات ماضيا كان أو طلبا عند أبي حيان على أنه مفعول به وأيد ذلك بقراءة الرفع أو على الظرفية والفعل منزل منزلة اللازم أو متعد مفعوله محذوف أي السير وهو أسهل من إخراج الظرف الغير المتصرف
(22/130)
عن ظرفيته وقريء بوعد مبنيا للمفعول وقرأ إبن يعمر سفرنا بالأفراد وظلموا أنفسهم حيث عرضوها للسخط والعذاب حين بطروا النعمة وغمطوها فجعلناهم أحاديث جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والإستغراب لا جمع حديث على خلاف القياس وجعلهم نفس الأحاديث إما على المبالغة أو تقدير المضاف أي جعلناهم بحديث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم
وقيل المراد لم يبق منهم إلا الحديث عنهم ولو بقى منهم طائفة لم يكونوا أحاديث ومزقناهم كل ممزق أي فرقناهم كل تفريق على أن الممزق مصدر أو كل مطرح وكان تفريق على أنه أسم مكان وفي التعبير بالتمزيق الخاص بتفريق المتصل وخرقه من تهويل الأمر والدلالة على شدة التأثير والإيلام ما لا يخفى أي مزقناهم تمزيقا لا غاية وراءه بحيث يضرب مثلا في كل فرقة ليس بعدها وصال وعن إبن سلام أن المراد جعلناهم ترابا تذروه الرياح وهو أوفق بالتمزيق إلا أن جميع أجلة المفسرين على خلافه وأن المراد بتمزيقهم تفريقهم بالتباعد وقد تقدم لك غير بعيد حديث كيفية تفرقهم في جواب رسول الله لفروة بن مسيك
وفي الكشاف لحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة وأسد بالبحرين وخزاعة بتهامة وظاهر الآية أن ذلك كان بعد إرسال السيل العرم وفي البحر أن في الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل فلما جاء السيل على مأرب تيامن منها ستة قبائل وتشاءمت أربعة وزعم بعضهم أن تفرقهم كان قبيل مجيء السيل
قال عبدالملك في شرح قصيدة إبن عبدون إن أرض سبأ من اليمن كانت العمارة فيها أزيد من مسيرة شهرين للراكب المجد وكان أهلها يقتبسون النار بعضهم من بعض مسيرة أربعة أشهر فمزقوا كل ممزق وكان أول من خرج من اليمن في أول الأمر عمرو بن عامر مزيقيا وكان سبب خروجه أنه كانت له زوجة كاهنة يقال لها طريفة الخير وكانت رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه ففزعت طريفة لذلك فزعا شديدا وأتت الملك عمرا وهي تقول ما رأيت كاليوم أزال عني النوم رأيت غيما أرعد وأبرق وزمجر وأصعق فما وقع على شيء إلا أحرق فلما رأى ما داخلها من الفزع سكنها ثم أن عمرا دخل على حديقة له ومعه جاريتان من جواريه فبلغ ذلك طريفة فخرجت إليه وخرج معها وصيف لها أسمه سنان فلما برزت من بيتها عرض لها ثلاث مناجد منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن وهي دواب تشبه اليرابيع فقعدت إلى الأرض واضعة يديها على عينيها وقالت : لوصيفها إذا ذهبت هذه المناجد فأخبرني فلما ذهبت أخبرها فأنطلقت مسرعة فلما عارضها الخليج الذي في حديقة عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت على الطريق على ظهرها وجعلت تروم الإنقلاب فلا تستطيع وتستعين بذنبها فتحثو التراب على بطنها من جنباته وتقذف بالبول عل بطنها قذفا فلما رأتها طريفة جلست إلى الأرض فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت طريفة إلى أن دخلت على عمرو وذلك حين إنتصف النهار في ساعة شديد حرها فإذا الشجر يتكافأ من غير ريح فلما رآها إستحى منها وأمر الجاريتين بالإنصراف إلى ناحية ثم قال لها ياطريفة فكهنت وقالت والنور والظلماء والأرض والسماء إن الشجر لهالك وليعودن الماء كما كان في الزمن السالك قال عمرو : من أخبرك بهذأ قالت : أخبرتني المناجد بسنين شدائد يقطع فيها الولد الوالد قال : ما تقولين قالت : أقول قول الندمان لهيفا لقد رأيت سلحفا تجرف التراب
(22/131)
جرفا وتقذف بالبول قذفا فدخلت الحديقة فإذا الشجر من غير ريح يتكفى قال : ما ترين في ذلك قالت : هي داهية دهياء من أمور جسيمة ومصايب عظيمة قال : وما هو ويلك قالت : أجل وإن فيه الويل ومالك فيه من نيل وإن الويل فيما يجيء به السيل فألقى عمرو عن فراشه وقال : ما هذا ياطريفة قالت : خطب جليل وحزن طويل وخلف قليل قال : وما علامة ما تذكرين قالت : أذهب إلى السد فإذا رأيت جرذا يكثر بيديه في السد الحفر ويقلب برجليه من أجل الصخر فأعلم أن الغمر عمر وأنه قد وقع الأمر قال : وما الذي تذكرين قالت : وعد من الله تعالى نزل وباطل بطل ونكال بنا نكل فبغيرك ياعمرو يكون الثكل فأنطلق عمرو فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلها خمسون رجلا فرجع وهو يقول : أبصرت أمرا عادني منه ألم وهاج لي من هوله برح السقم من جرذ كفحل خنزير الأجم أو كبش صرم من أفاويق الغنم يسحب قطرا من جلاميد العرم له مخاليب وأنياب قضم
ما فاته سحلا من الصخر قصم
فقالت طريفة : وإن من علامة ذلك الذي ذكرته لك أن تجلس فتأمر بزجاجة فتوضع بين يديك فإن الريح يملؤها من تراب البطحاء من سهل الوادي وحزنه وقد علمت أن الجنان مظلة لا يدخلها شمس ولا ريح فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه ولم تمكث إلا قليلا حتى أمتلأت من التراب فأخبرها بذلك وقال لها : متى يكون ذلك الخراب الذي يحدث في السد قالت له : فيما بيني وبينك سبع سنين قال : ففي أيها يكون قالت : لا يعلم بذلك إلا الله تعالى ولو علمه أحد لعلمته وأنه لا تأتي على ليلة فيما بيني وبين السبع سنين إلا ظننت هلاكه في غدها أو في مسائها ثم رأى عمرو في منامه سيل العرم وقيل له : إن آية ذلك أن ترى الحصباء قد ظهرت في سعف النخل فنظر إليها فوجد الحصباء قد ظهرت فيها فعلم أنه واقع وأن بلادهم ستخرب فكتم ذلك وأجمع على بيع كل شيء له بأرض مأرب وأن يخرج منها هو وولده ثم خشى أن تنكر الناس عليه ذلك فأمر أحد أولاده إذا دعاه لما يدعوه إليه أن يتأبى عليه وأن يفعل ذلك به في الملأ من الناس وإذا لطمه يرفع هو يده ويلطمه ثم صنع عمرو طعاما وبعث إلى أهل مأرب أن عمرا قد صنع طعاما يوم مجد وذكر فأحضروا طعامه فلما جلس الناس للطعام جلس عنده إبنه الذي أمره بما قد أمره فجعل يأمره فيتأبى عليه فرفع عمرو يده فلطمه فلطمه إبنه وكان أسمه مالكا فصاح عمرو وإذلاه يوم فخر عمرو وبهجته صبي يضرب وجهه وحلف ليقتلنه فلم يزالوا يرغبون إليه حتى ترك وقال : والله لا أقيم بموضع صنع فيه بي هذا ولأبيعن أموالي حتى لا يرث بعدي منها شيئا فقال الناس : بعضهم لبعض أغتنموا غيظ عمرو وأشتروا منه أمواله قبل أن يرضى فأبتاع الناس منه كل ماله بأرض مأرب وفشا بعض حديثه فيما بلغه من شأن سيل العرم فقام ناس من الأزد فباعوا أموالهم فلما أكثروا البيع أستنكر الناس ذلك فأمسكوا عن الشراء فلما أجتمعت إلى عمرو أمواله أخبر الناس بشأن السيل وخرج فخرج لخروجه منها بشر كثير فنزلوا أرض عك فحاربتهم عك فأرتحلوا عن بلادهم ثم أصطلحوا وبقوا بها حتى مات عمرو وتفرقوا في البلاد فمنهم من سار إلى الشام وهم أولاد جفنة بن عمرو بن عامر ومنهم من سار إلى يثرب وهم أبناء قيلة الأوس والخزرج وأبوهما حارثة بن ثعلية بن عمرو بن عامر وسارت أزد السراة إلى السراة وأزد عمان
(22/132)
إلىإلى عمان وسار مالك بن فهم إلى العراق ثم خرجت بعد عمرو بيسير من أرض اليمن طيء فنزلت أجأ وسلمى ونزلت أبناء ربيعة بن حارثة بن عامر بن عمرو تهامة وسموا خزاعة لإنخزاعهم من أحوانهم ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه وفي ذلك يقول ميمون بن قيس الأعشى : وفي ذاك للمؤتسى أسوة ومأرب عفا عليها العرم رخام بنته لهم حمير إذا جاء مواره لم يرم فأروى الزروع وأعنابها على سعة ماؤهم إذ قسم فصاروا أيادي ما يقدرو ن منه على شرب طفل فطم وذكر الميداني عن الكلبي عن أبي صالح أن طريفة الكاهنة قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه حتى إنتهوا إلى مكة فأقاموا بها وبما حولها فأصابتهم الحمى وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم فقالت لهم : أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا قالوا فماذا تأمرين قالت : من كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد فكانت أزد عمان ثم قالت : من كان منكم ذا جلد وقسر وصبر على أزمات الدهر فعليه بالأراك من بطن مر فكانت خزاعة ثم قالت : من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليحلق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج ثم قالت : من كان منكم يريد الخمر والخمير والملك والتأسير ويلبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها آل جفنة من غسان ثم قالت : من كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق وكنوز الأرزاق والدم المهراق فليحلق بأرض العراق فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة وآل محرق والحق أن تمزيقهم وتفريقهم في البلاد كان بعد إرسال السيل نعم لا يبعد خروج بعضهم قبيله حين أستشعروا وقوعه وفي المثل ذهبوا أيدي سبأ ويقال تفرقوا أيدي سبأ ويروى أيادي وهو بمعنى الأولاد لأنهم أعضاد الرجل لتقويه بهم
وفي المفصل أن الأيدي الأنفس كناية أو مجازا قال في الكشف : وهو حسن ونصبه على الحالية بتقدير مثل لإقتضاء المعنى إياه مع عدم تعرفه بالإضافة وقيل : إنه بمعنى البلاد أو الطرق من قولهم خذ يد البحر أي طريقه وجانبه أي تفرقوا في طرق شتى والظاهر أنه على هذا منصوب على الظرفية بدون تقديرفيكما أشار إليه الفاضل اليمني وربما يظن أن الأيدي أو الأيادي بمعنى النعم وليس كذلك ويقال في الشخص إذا كان مشتت الهم موزع الخاطر كان أيادي سبأ وعليه قول كثير عزة : أيادي سبأ ياعز ما كنت بعدكم فلم يحل بالعينين بعدك منظر إن في ذلك أي فيما ذكر من قصتهم لآيات عظيمة لكل صبار أي شأنه الصبر على الشهوات ودواعي الهوى وعلى مشاق الطاعات وقيل : شأنه الصبر على النعم بأن لا يبطر ولا يطغى وليس بذاك شكور 91 شأنه الشكر على النعم وتخصيص هؤلاء بذلك لأنهم المنتفعون بها ولقد صدق عليهم إبليس ظنه أي حقق عليهم ظنه أو وجد ظنه صادقا والظاهر أن ضمير عليهم عائإد على سبأ ومنشأ ظنه رؤية إنهماكهم في الشهوات وقيل : هو لبني آدم ومنشأ ظنه أنه شاهد أباهم آدم عليه السلام وهو هو قد اصغى إلى وسوسته
(22/133)
فقاس الفرع على الأصل والولد على الوالد وقيل : إنه أدرك ما ركب فيهم من الشهوة والغضب وهما منشئان للشرور وقيل : إن ذاك كان ناشئا من سماع قول الملائكة عليهم السلام أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء يوم قال سبحانه لهم : إني جاعل في الأرض خليفة ويمكن أن يكون منشأ ذلك ما هو عليه من السوء كما قيل : إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم وجوز أن يكون كل ما ذكر منشأ لظنه في سبأ والكلام على الوجه الأول في الضمير على ما قال الطيبي تتمة لسابقه إما حالا أو عطفا وعلى الثاني هو كالتذييل تأكيدا له وقرأ البصريون صدق بالتخفيف فنصب ظنه على إسقاط حرف الجر والأصل صدق في ظنه أي وجد ظنه مصيبا في الواقع فصدق حينئذ بمعنى أصاب مجازا
وقيل هو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدر أي يظن ظنه كفعلته جهدك أي تجهد جهدك والجملة في موقع الحال و صدق مفسر بما مر ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول به والفعل متعد إليه بنفسه لأن الصدق أصله في الأقوال والقول مما يتعدى إلى المفعول به بنفسه والمعنى حقق ظنه كما في الحديث صدق وعده ونصر عبده وقوله تعالى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
وقرأ زيد بن علي وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهم والزهري وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب وبلال بن أبي برزة بنصب إبليس ورفع ظنه كذا في البحر والظان ذلك مع قراءة صدق بالتشديد أي وجده ظنه صادقا لكن ذكر إبن جني أن الزهري كان يقرأ ذلك مع تخفيف صدق أي قال له الصدق حين خيل له إغواؤهم
وقرأ عبدالوارث عن أبي عمرو إبليس ظنه برفعهما بجعل الثاني بدل إشتمال وأبهم الزمخشري القاريء بذلك فقال قريء بالتخفيف ورفعهما على معنى صدق عليهم ظن إبليس ولو قريء بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صدق كقوله : فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقت فيهم ظنوني وهو ظاهر في أنه لم يقرأ أحد بذلك والله تعالى أعلم وعلى جميع القراءت عليهم متعلق بالفعل السابق وليس متعلقا بالظن على شيء منها فأتبعوه أي سبأ وقيل بنو آدم إلا فريقا من المؤمنين 02 أي إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه على أن من بيانية وتقليلهم إما لقلتهم في حد ذاتهم أو لقلتهم بالإضافة إلى الكفار وهذا متعين على القول برجوع الضمير إلى بني آدم وكأني بك تختار كون القلة في حد ذاتهم على القول برجوع الضمير إلى سبأ لعدم شيوع كثرة المؤمنين في حد ذاتهم منهم أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه وهم المخلصون فمن تبعيضية والمراد مطلق الإتباع الذي هو أعم من الكفر
وما كان له عليهم من سلطان أي تسلط وإستيلاء بالوسوسة والإستغواء
إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك أستثناه مفرغ من أعم العلل و من موصوله وجعلها إستفهامية بعيد والعلم المستقبل المعلل ليس هو العلم الأزلي القائم بالذات المقدس بل تعلقه بالمعلوم في عالم الشهادة الذي يترتب عليه الجزاء بالثواب والعقاب وهو مضمن معنى التميز لمكان من أي ما كان له عليهم تسلط لأمر من الأمور إلا لتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هو منها في شك تعلقا حاليا يترتب عليه
(22/134)
الجزاء وإلى هذا يشير كلام كثير من أئمة التفسير وقيل : المعنى لنجعل المؤمن متميزا من غيره في الخارج فيتميز عند الناس وقيل : المراد من وقوع العلم في المستقبل وقوع المعلوم لأنه لازمه فكأنه قيل ما كان ذلك لأمر من الأمور إلا ليؤمن من قدر إيمانه ويضل من قدر ضلاله وعدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة لما فيه من جعل المعلوم عين العلم وقيل المراد بالعلم الجزاء فكأنه قيل على الأيمان وضده وقيل : العلم على ظاهره إلا أن المستقبل بمعنى الماضي وعلم الله تعالى الأزلي بأهل الشك يستدعي تسلط الشيطان عليهم
وقيل : المراد لنعامل معاملة من كأنه لا يعلم ذلك وإنما يعمل ليعلم وقيل : المراد ليعلم أولياؤنا وحزبنا ذلك ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال وكان الظاهر إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن لا يؤمن بها وعدل عنه إلى ما فيه النظم الجليل لنكتة وهي أنه قوبل الإيمان بالشك ليؤذن بأن أدنى مراتب الكفر مهلكة وأورد المضارع في الجملة الأولى إشارة إلى أن المعتبر في الإيمان الخاتمة ولأنه يحصل بنظر تدريجي متجدد وأتى بالثانية أسمية إشارة إلى أن المعتبر الدوام والثبات على الشك إلى الموت ونون شكا للتقليل وأتى بفي إشارة إلى أن قليله كأنه محيط بصاحبه وعداه بمن دون في وقدمه لأنه إنما يضر الشك الناشيء منها وأنه يكفي شك ما فيما يتعلق بها
وقرأ الزهري ليعلم بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول وربك على كل شيء حفيظ 12 أي وكيل قائم على أحواله وشؤونه وهو إما مبالغة في حافظ وإما بمعنى محافظ كجليس ومجالس وخليط ومخالط ورضيع ومراضع إلى غير ذلك
قل يامحمد للمشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة عندهم بالنقل في أخبارهم وأشعارهم تنبيها على بطلان ما هم عليه وتبكيتا لهم أدعوا الذين زعمتم أي زعمتموهم آلهة كذا قدره الجمهور على أن الضمير مفعول أول وآلهة مفعول ثان وحذف الأول تخفيفا لأن الصلة والموصول بمنزلة أسم واحد فهناك طول يطلب تخفيفه والثاني لأن صفته أعني قوله تعالى : من دون الله سدت مسده فلا يلزم إجحاف بحذفهما معا ولا يجوز أن يكون من دون الله هو المفعول الثاني إذ لا يتم به مع الضمير الكلام ولا يلتئم النظام فأ معنى معتبر لهم من دون الله على أن في جواز حذف أحد مفعولي هذا اباب إختصارا خلافا ومن أجازه قال هو قليل في كلامهم وكذا لا يجوز أن يكون لا يملكون لأن ما زعموه ليس كونهم غير مالكين بل خلافه وليس ذلك ايضا بزعم بالمعنى الشائع لو سلم أنه ص در منهم بل حق وقال إبن هشام : الأولى أن يقدر زعمتم أنهم آلهة لأن الغالب علىزعم أن لا يقع على المفعولين الصريحين بل على ما يسد مسدهما من أن وصلتهما ولم يقع في التنزيل إلا كذلك أي فلأنسب أن يوافق المقدر المصرح به في التنزيل
ورجح تقدير الجمهور بأنه أبعد عن لزوم الإجحاف والأمر للتوبيخ والتعجيز أي أدعوهم فيما يهمكم من دفع ضر أو جلب تقع لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم روى أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا
وقوله تعالى : لا يملكون مثقال ذرة كلام مستأنف في موقع الجواب ولم يهملهم ليجيبوا إشعارا بتعينه فإنه لا يقبل المكابرة وجوز تقدير ثم أجب عنهم قائلا لا يملكون إلخ وهو متضمن بيان حال الآلهة في الواقع
(22/135)
وأنهم إذا لم يملكوا مقدار ذرة أي من خير وشر ونفع وضر كيف يكونون آلهة تعبد
في السموات ولا في الأرض أي في أمر من الأمور وذكر السموات والأرض للتعميم عرفا فيراد بهما جميع الموجودات وهذا كما يقال المهاجرون والأنصار ويراد جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فلا يتوهم أنهم يملكون في غيرهما ويجوز أن يقال : إن ذكرهما لأن بعض آلهة المخاطبين سماوية كالمةئكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام فالمراد نفي قدرة السماوي منهم على أمر سماوي والأرضي على أمر أرضي ويعلم نفي قدرته على غيره بالطريق الأولى أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية فالمراد نفي قدرتهم بشيء من الأسباب القريبة فكيف بغيرها وما لهم أي لآلهتهم فيهما من شرك أي شركة لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا وما له أي لله عزوجل منهم أي من آلهتهم من ظهير 22 أي معين يعينه سبحانه في تدبير أمرهما ولا تنفع الشفاعة عنده أي لا توجد رأسا كما في قوله :
على لا حب لا يهتدي بمناره
لقوله تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وإنما علق النفي بنفعها دون وقوعها تصريحا بنفي ما هو غرضهم من وقوعها
وقوله تعالى : إلا من أذن له إستثناء مفرغ من أعم الأحوال على ما أختاره الزمخشري و من عبارة عن الشافع واللام الداخلة عليه للإختصاص مثلها في الكرم لزيد ولام له صلة أذن والمراد نفي شفاعة آلهتهم لهم لكن ذكر ذلك على وجه عام ليكون طريقا رهانيا أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال أو كائنة لمن كانت الأ كائنة لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة ومن البين أنهم لا يؤذن لهم في الشفاعة للكفار فقد قال الله تعالى لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا والشفاعة لهم بمعزل عن الصواب وعدم الأذن للأصنام أبين وأبين فتبين حرمان هؤلاء الكفرة منها بالكلية أو من عبارة عن المشفوع له واللام الداخلة عليه للتعليل ولام له صلة أذن أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمشفوع أذن له اي لشفيعه على الإضمار لأن المشفوع لم يصدر عنه فعل حتى يؤذن له فيه أن يشفعه وأختار الزمخشري أن لام له للتعليل أي إلا لمن وقع الأذن للشفيع لأجله ووجهه على ما في الكشف حصول الإشارة إلى الشافع والمشفوع لأن المأذون لأجله المشفوع والمأذون الشافع ولأن الغرض بيان محل النفع وهو المشفوع كان التصريح بذكره أهم ولا يخفى أن الوجه السابق ظاهر التكلف فيه الإضمار الذي لا يقتضيه المقام وحاصل المعنى على هذا لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المستأهلين لها إلا كائنة لمن وقع الأذن للشفيع لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة وأما من عداهم من غير المستحقين لها فلا تنفعهم أصلا وإن فرض وقوعها من الشفعاء إذ لم يؤذن لهم في شفاعتهم بل في شفاعة غيرهم ويثبت من هذا حرمان هؤلاء الكفرة من شفاعة الشفعاء المستأهلين للشفاعة بعبارة النص وعن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حين حرموها من جهة القادرين عليها في الجملة فلأن يحرموها من جهة العجزة عنها بالكلية أولى وذهب أبو حيان إلى أن الإستثناء من أعم الذوات أي لا تنفع الشفاعة لأحد إلا لمن إلخ وأستظهر إحتمال أن تكون من عبارة عن المشفوع له واللام نظرا إلى الظاهر متعلقة بالشافعة وجوز أبو البقاء تعلقها بتنفع وتعقبه بأنه لا يتعدى إلا بنفسه وقال أبو حيان فيه : إن المفعول متأخر فدخول اللام قليل وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي أذن مبنيا للمفعول فله قائم مقام
(22/136)
فاعله حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق صيغة التفعيل للسلب كما في قردت البعير إذا أزلت قراده ومنه التمريض فالتفزيع إزالة الفزع وهو على ما قال الراغب إنقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف و حتى للغاية وأختلفوا في المغيا إذ لم يكن قبلها ما يصلح أن يكون مغيا بحسب الظاهر وأختلفوا لذلك في المراد بالآية إختلافا كثيرا فقيل : هو ما يفهم من حديث الشفاعة ويشير إليه وذلك أن قوله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له يؤذن بشفعاء ومشفوع لهم وأن هناك إستئذانا في الشفاعة ضرورة أن وقوع الأذن يستدعي سابقيه ذلبك وهو مستدع للترقب والإنتظار للجواب وحيث أنه كلام صادر عن مقام العظمة والكبرياء كيف وقد تقدمه يدل على كون الكل في ذلك الموقف خلف سرادق العظمة ملقى عليهم رداء الهيبة وما بعد حرف الغاية أيضا شديد الدلالة على ذلك فكأنه قيل : تقف الشفعاء والمشفوع لهم في ذلك الموقف الذي يتشبث فيه المستشفعون بأذيال الرجاء من المستشفع بهم ويقوم فيه المستشفع به على قدم الإلتجاء إلى الله جل جلاله فيطرق باب الشفاعة بالإستئذان فيها ويبقون جميعا منتظرين وجلين فزعين لا يدرون ما يوقع لهم الملك الأعظم جل وعلا على رقعة سؤالهم وماذا يصح بعد عرض حالهم حتى إذا أزيل الفزع عن قلوب الشفعاء والمشفوع لهم بظهور تباشير حسن التوقيع وسطوع أنوار الإجابة والإرتضاء من آفاق رحمة الملك الرفيع قالوا أي قال بعضهم لبعض والظاهر أن البعض القائل المشفوع لهم وإن شئت فأعد الضمير إليهم من أول الأمر إذ هم الأشد إحتياجا إلى الأذن والأعظم إهتماما بأمره ماذا قال ربكم في شأن الأذن بالشفاعة قالوا : أي الشفعاء فإنهم المباشرون للإستئذان بالذات المتوسطون لأولئك السائلين بالشفاعة عنده عزوجل قال ربنا القول الحق أي الواقع بحسب ما تقتضيه الحكمة وهو الأذن بالشفاعة لمن أرتضى
والظاهر أن قوله تعالى : وهو العلي الكبير 32 من تتمة كلام الشفعاء قالوه إعترافا بعظمة جناب العزة جل جلاله وقصور شأن كل من سواه أي هو جل شأنه المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه وليس لكل منهم كائنا من كان أن يتكلم إلا من بعد إذنه جل وجلا وفيه من تواضعهم بعد ترفيع قدرهم بالأذن لهم بالشفاعة ما فيه وفيه أيضا نوع من الحمد كما لا يخفى وهذه الجملة المغيات بما ذكر لا يبعد أن تكون جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل : كيف يكون الأذن في ذلك الموقف للمستأذنين وكيف الحال فيه للشافعين والمستشفعين فقيل : يقفون منتظرين وجلين فزعين حتى إذا إلخ والآيات دالة على أن المشفوع لهم هم المؤمنون وأما الكفرة فهم عن موقف الإستشفاع بمعزل وعن التفزيع عن قلوبهم بألف ألف منزل وجعل بعضهم على هذا الوجه من كون المغيا ما ذكر ضمير قلوبهم للملائكة وخص الشفعاء بهم وضمير قالوا الأول لهم أيضا وضمير قالوا الثاني للملائكة الذين فوقهم وهم الذين يبلغون ذلك إليهم وقال : إن فزعهم إما لما يقرن به الأذن من الأمر الهائل أو لغشية تصيبهم عند سماع كلام الله جل شأنه أو من ملاحظة وقوع التقصير في تعيين المشفوع لهم بناء على ورود الأذن بالشفاعة إجمالا وهو كما ترى
8 - وقال الزجاج : تفسير هذا أن جبريل عليه السلام لما نزل إلى النبي بالوحي ظنت الملائكة عليهم السلام أنه نزل بشيء من أمر الساعة ففزعت لذلك فلما أنكشف عنها الفزع قالوا : ماذا قال : ربكم سألت لأي شيء
(22/137)
نزل جبريل عليه السلام قالوا : الحق
روى ذلك عن قتادة ومقاتل وإبن السائب بيد أنهم قالوا : إن الملائكة صعقوا لذلك فجعل جبريل عليه السلام يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي ولم يبين الزجاج وجه إتصال الآية بما قبلها ولا بحث عن الغاية بشيء وقد ذكر نحو ذلك الإمام الرازي ثم قال في ذلك : أن حتى غاية متعلقة بقوله تعالى : قل لأنه تبينه بالوحي فلما قال سبحانه قل فزع من في السموات وهو لعمري من العجب العجاب
وقال الفاضل الطيبي بعد نقله ذلك التفسير : وعليه أكثر كلام المفسرين ويعضده ما روينا عن البخاري والترمذي وإبن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم قالوا الذي قال الحق وهو العلي الكبير وعن أبي داؤد عن إبن مسعود قال إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا أتاهم جبريل عليه السلام فزع عن قلوبهم فيقولون : ياجبريل ماذا قال ربكم فيقول : الحق الحق ثم ذكر في أمر الغاية وإتصال الآية بما قبلها على ذلك أنه يستخرج معنى المغيا من المفهوم وذلك إن المشركين لما أدعوا شفاعة الآلهة والملائكة وأجيبوا بقوله تعالى قل أدعوا الذين زعمتم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم بأسمه تعالى وألتجؤا إليهم فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا تنفع الشفاعة من هؤلاء إلا للملائكة لكن مع الأذن والفزع العظيم وهم لا يسفعون إلا للمرضيين فعبر عن الملائكة عليهم السلام بقوله تعالى إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم الآية كناية كأنه قيل : لا تنفع الشفاعة إلا لمن هذا شأنه ودأبه وأنه لا يبثت عند صدمة من صدمات هذا الكتاب المبين وعند سماع كلام الحق يعني الذين إذا نزل عليهم الوحي يفزعون ويصعقون حتى إذا أتاهم جبريل عليه السلام فزع عن قلوبهم فيقولون : ماذا قال ربكم فيقولون : الحق إنتهى ولا يخفى على من له أدنى تمييز حاله وأنه مما لا ينبغي أن يعول عليه
وقول إبن عطية : إن تأويل الآية بالملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل أو الأمر بأمر الله تعالى به فتسمع كجر سلسلة الحديد على الحديد فتفزع تعظيما وهيبة وقيل خوف قيام الساعة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ناشيء من حرمان عطية سلامة الذوق وتدقيق النظر والتفسير الذي ذكرناه أولا بمراحل في الحسن عما ذكر عن أكثر المفسرين وما سمعت من الرواية لا ينافيه إذ لا دلالة فيه على أنه عليه الصلاة و السلام ذكر ذلك في معرض تفسير الآية ولا تنافي بين التفزيعين وكأن الأكثر من المفسرين نظروا إلى ظاهر طباق اللفظ مع الحديث فنزلوا الآية على ذلك فوقعوا فيما فيه وإن كثروا وجلوا والقائل بما سبق نظر إلى طباق المقام وحقق عدم المنافاة وظهر له حال ما قالوه فعدل عنه
وأخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم عن الضحاك أنه قال في الآية : زعم إبن مسعود أن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الرب تبارك وتعالى فأنحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجدا وهذا كلما مروا عليهم فيفعلون من خوف ربهم تبارك وتعالى وإبن مسعود عندي أجل من أن يحمل الآية على هذا فالظاهر انه لا يصح عنه
(22/138)
ومثل هذا ما زعمه بعضهم أن ذاك فزع ملائكة أدنى السموات عند نزول المدبرات إلى الأرض وقيل إن حتى غاية متعلقة بقوله تعالى زعمتم أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق وإليه يشير ما أخرج إبن أبي حاتم عن زيد بن اسلم أنه قال في الآية : حتى فزع الشيطان عن قلوبهم ففارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم به قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ثم قال : وهذا في بني آدم أي كفارهم عند الموت أقروا حين لا ينفعهم الإقرار والظاهر أن في الكلام عليه إلتفاتا من الخطاب في زعمتم إلى الغيبة في قلوبهم وأن ضمير قالوا الأول للملائكة الموكلين بقبض أرواحهم والمراد بالتفزيع عن القلوب كشف الغطاء وموانع إدراك الحق عنها وما نقل عن الحسن من أنه قال : إنما يقال للمشركين ماذا قال ربكم أي على لسان الأنبياء عليهم السلام فأقروا حين لا ينفع يحتمل أن يكون كالقول المذكور في أن ذلك عند الموت ويحتمل أن يكون قولا بأن ذلك يوم القيامة إلا أن في جعل حتى غاية للزعم عليه غير ظاهر إذ لا يستصحبهم ذلك إلى يوم القيامة حقيقة كما لا يخفى وأبعد من هذا القول كون ذلك غاية لقوله تعالى ممن هو منها في شك وضمير قلوبهم لمن بإعتبار معناه والتفزيع كشف الغطاء ومواقع إدراك الحق بل هو مما لا ينبغي حمل كلام الله تعالى عليه
وزعم بعضهم أن المعنى إذا دعاهم إسرافيل عليه السلام من قبورهم قالوا مجيبين ماذا قال ربكم حكاه في البحر ثم قال : والتفزيع من الفزع الذي هو الدعاء والإستصراخ كما قال زهير : إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم طوال الرماح لإضعاف ولا عزل وأنت تعلم أن التفزيع بالمعنى المذكور لا يتعدى بعن وأمر الغاية عليه غير ظاهر وبالجملة ذلك الزعم ليس بشيء
وأختار أبو حيان أن المغيا الإتياع في قوله تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فأتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وضمير قلوبهم عائد إلى ما عاد إليه ضمير الرفع في أتبعوه أعني الكفار وكذا ضمير قالوا الثاني وضمير قالوا الأول للملائكة وكذا ضمير ربكم وجملة قوله تعالى : قل أدعوا الذين إلخ إعتراضية بين الغاية والمغيا والتفزيع حال مفارقة الحياة أو يوم القيامة وبجعل إتباعهم إبليس مستصحبا لهم إلى ذلك اليوم مجازا ولا يخفى بعده والوجه عندي ما ذكر أولا و ماذا تحتمل أن تكون منصوبة بقال أي أي شيء قال ربكم وتحتمل أن تكون في موضع رفع على أن ما أسم إستفهام مبتدأ وذا أسم موصول خبره وجملة قال صلة الموصول والعائد محذوف أي ما الذي قاله ربكم وقرأ إبن عباس وإبن مسعود وطلحة وأبو المتوكل الناجي وإبن المسيقع وإبن عامر ويعقوب فزع بالتشديد والبناء للفاعل والفاعل ضمير الله تعالى المستتر أي أزال الله تعالى الفزع عن قلوبهم
وقال أبو حيان : هو ضميره تعالى إن كان ضمير قلوبهم للملائكة وإن كان للكفار فهو ضمير مغريهم
وقرأ الحسن فزع بالتخفيف والبناء للمفعول فعن قلوبهم نائب الفاعل كما في قراءة الجمهور وقرأ هو وأبو المتوكل أيضا وقتادة ومجاهد فزع بالفاء والراء المهملة والغين المعجمة مشددا مبنيا للفاعل بمعنى أزال وقرأ الحسن أيضا كذلك إلا أنه خفف الراء وقرأ عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما والحسن أيضا وأيوب السختياني وقتادة أيضا وأبو مجلز فزع كذلك إلا أنهم بنوه للمفعول وقرأ إبن مسعود في رواية وعيسى أفرنقع قيل بمعنى تفرق
وقال الزمخشري : بمعنى أنكشف والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب أقمطر من حروف القمط مع زيادة الراء وفيه إيهام أن العين والراء من حروف الزيادة وليس كذلك وقرأ إبن أبي عبلة الحق
(22/139)
بالرفع أي مقوله الحق قل من يرزقكم من السموات والأرض أمر أن يقول ذلك تبكيتا للمشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وإن الرزاق هو الله عزوجل فإنهم لا ينكرونه وحيث كانوا يتلعثمون أحيانا في الجواب مخافة الإلزام قيل له عليه الصلاة و السلام قل الله إذ لا جواب سواه عندهم أيضا وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين 42 أي وإن أحد الفريقين منا معشر الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية العابدية وحده عزوجل ومنكم فرقة المشركين به العاجزين في أنفسهم عن دفع أدنى ضر وجلب أحقر نفع وفيهم النازل إلى اسفل المراتب الإمكانية المتصفون بأحد الأمرين من الإستقرار على الهدى والإنغماس في الضلال وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ دلالة ظاهرة على من هو من الفريقين على هدى ومن هو في ضلال ولكن التعريض أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وقل شوكته بالهوينا ونحوه قول الرجل لصاحبه قد علم الله تعالى الصادق مني ومنك وإن أحدنا لكاذب ومنه قول حسان يخاطب أبا سفيان بن حرب وكان قد هجا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يسلم : أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء وقول أبي الأسود : يقول الأرذلون بنو قشير طوال الدهر لا تنسى عليا بنو عم النبي وأقربوه أحب الناس كلهم إليا فإن يك حبهم خيرا أصبه ولست بمخطيء إن كان غيا وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو كما في قوله : سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه والكلام من باب اللف والنشر المرتب بأن يكون على هدى راجعا لقوله تعالى إنا و في ضلال راجعا لقوله سبحانه إياكم فإن العقل يحكم بذلك كما في قول أمريء القيس كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي ولا يخفى بعده وأياما كان فليس هذا من باب التقية في شيء كما يزعمه بعض الجهلة والظاهر أن لعلى هدى إلخ خبر إنا أو إياكم من غير تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لمتصف بأحد الأمرين كقولك زيد أو عمرو في السوق أو في البيت وقيل : هو خبر إنا وخبر إياكم محذوف تقديره لعلى هدى أو في ضلال مبين وقيل : هو خبر إياكم وخبر إنا محذوف لدلالة ما ذكر عليه و إياكم على تقدير إن ولكنها لما حذفت أنفصل الضمير
وفي البحر لا حاجة إلى تقدير الحذف في مثل هذا وإنما يحتاج إليه في نحو زيد أو عمرو قائم فتدبر والمتبادر أن مبين صفة ضلال ويجوز أن يكون وصفا له ولهدى والوصف وكذا الضمير يلزم أفراده بعد المعطوف بأو وأدخل على على الهدى للدلالة على إستعلاء صاحبه وتمكنه وإطلاعه على ما يريد كالواقف على مكان عال أو الراكب على جواد يركضه حيث شاء و في على الضلال للدلالة على إنغماس صاحبه في ظلام حتى كأنه في مهواة مظلمة لا يدري
(22/140)
أين يتوجه ففي الكلام إستعارة مكنية أو تبعية وفي قراءة أبي إنا أو إياكم أما على هدى أو في ضلال مبين
قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون 52 هذا أبلغ في الإنصاف حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو عنها مؤمن بما يعبر به عن العظائم وأسند إلى النفس وعن العظائم من الكفر ونحوه بما يعبر به عن الهفوات وأسند للمخاطبين وزيادة على ذلك أنه ذكر الأجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقق وعن العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك وذكر أن في الآية تعريضا وأنه لا يضر بما ذكر وزعم بعضهم أنها من باب المتاركة وأنها منسوخة بآية السيف
قل يجمع بيننا ربنا يوم القيامة عند الحشر والحساب ثم يفتح بيننا بالحق يقضي سبحانه بيننا ويفصل بعد ظهور رحال كل منا ومنكم بالعدل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار وهو الفتاح القاضي في القضايا المنغلقة فكيف بالواضحة كإبطال الشرك وإحقاق التوحيد أو القاضي في كل قضية خفية كانت أو واضحة والمبالغة على الأول في الكيف وعلى الثاني في الكم ولعل الوجه الأول أولى وفيه إشارة إلى وجه تسمية فصل الخصومات فتحا وأنه في الأصل لتشبيه ما حكم فيه بأمر منغلق كما يشبه بأمر منعقد في قولهم : حلال المشكلات وقرأ عيسى الفاتح العليم 62 بما ينبغي أن يقضى به أو بكل شيء
قل أروني الذين ألحقتم به شركاء إستفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم وأرى على ما أستظهره أبو حيان بمعنى أعلم فتتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ياء المتكلم والموصول و شركاء وعائد الموصول محذوف أي ألحقتموهم والمراد أعلموني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة وجوز كون رأي بصرية تعدت بالنقل لأثنين ياء المتكلم والموصول و شركاء حال من ضمير الموصول المحذوف أي ألحقتموهم متوهما شركتهم أو مفعول ثان لألحق لتضمينه معنى الجعل أو التسمية والمراد أرونيهم لأنظر بأي صفة ألحقتموهم بالله عزوجل الذي ليس كمثله شيء في إستحقاق العبادة أو ألحقتموهم به سبحانه جاعليهم أو مسميهم شركاء والغرض إظهار خطئهم العظيم
وقال بعض الأجلة : لم يرد من أروني حقيقته لأنه كان يراهم ويعلمهم فهو مجاز وتمثيل والمعنى ما زعمتموه شريكا إذا برز للعيون وهو خشب وحجر تمت فضيحتكم وهذاكما تقول للرجل الخسيس الأصل أذكر لي أباك الذي قايست به فلانا الشريف ولا تريد حقيقة الذكر وإنما تريد تبكيته وأنه إن ذكر أباه أفتضح
كلا ردع لهم عن زعم الشركة بعد ما كسره بالإبطال كما قال إبراهيم عليه الصلاة و السلام أف لكم ولما تعبدون من دون الله بعد ما حج قومه بل هو الله العزيز أي الموصوف بالغلبة القاهرة المستدعية لوجوب الوجود الحكيم 72 الموصوف بالحكمة الباهرة المستدعية للعلم المحيط بالأشياء وهؤلاء الملحقون عن الإتصاف بذلك في معزل وعن الحوم حول ما يقتضيه بألف ألف منزل والضمير إما عائد لما في الذهن وما بعده وهو الله الواقع خبرا له يفسره و العزيز الحكيم صفتان للأسم الجليل أو عائد لربنا في قوله سبحانه : يفتح بيننا ربنا على ما قيل أو هو ضمير الشأن و الله مبتدأ و العزيز الحكيم خبره والجملة خبر ضمير الشأن لأن خبره لا يكون إلا جملة على الصحيح وما أرسلناك إلا كافة للناس المتبادر أن كافة حال من الناس قدم مع إلا عليه للإهتمام
(22/141)
كما قال إبن عطية وأصله من الكف بمعنى المنع وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج وأشتهر في ذلك حتى قطع النظر فيه عن معنى المنع بالكلية فمعنى جاء الناس كافة جاؤا جميعا ويشير إلى هذا الإعراب ما أخرج إبن أبي شيبة وإبن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية : أي إلى الناس جميعا وما أخرج إبن أبي حاتم عن محمد إبن كعب أنه قال : أي للناس كافة وكذا ما أخرج عبد بن حميد وإبن جرير وإبن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية : أزسل الله تعالى محمد إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله تعالى أطوعهم له وما نقل عن إبن عباس أنه قال : أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم وهو مبني على جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو الذي ذهب إليه خلافا لكثير من النحاة أبو علي وإبن كيسان وإبن برهان والرضي وإبن مالك حيث قال : وسبق حال ما بحرف جرقد أبوا ولا أمنعه فقد ورد وأبو حيان حيث قال بعد أن نقل الجواز عمن عدا الرضى من المذكورين وهو الصحيح : ومن أمثلة أبي على زيد خير ما يكون خير منك وقال الشاعر : إذا المرء أعيته المروءة ناشئا فمطلبها كهلا عليه شديد وقال آخر : تسليت طراعنكم بعد بينكم بذكراكم حتى كأنكم عندي وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به ومن ذلك قوله : مشغوفة بك قد شغفت وإنما حتم الفراق إليك سبيل وقول آخر : غافلا تعرض المنية للمر فيدعى ولات حين إباء وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل فتقديمها عليه دون العامل أجوز إنتهى وجعلوا هذا الوجه أحسن الأوجه في الآية وقالوا : إن ما عداه تكلف وأعترض بأنه يلزم عليه عمل ما قبل إلا وهوأرسلفيما بعدها وهو للناس وليس بمستثنى ولا مستثنى منه ولا تابعا له وقد منعوه وأجيب بأن التقدير وما أرسلناك للناس إلا كافة فهو مقدم رتبة ومثله كاف في صحة العمل مع أنهم يتوسعون في الظرف مالا يتوسعون في غيره
وقال الخفاجي عليه الرحمة : الأحسن أن يجعل للناس مستثنى على أن الإستثناء فيه مفرغ وأصله ما أرسلناك لشيء من الأشياء إلا لتبليغ الناس كافة وأما تقديره بما أرسلناك للخلق مطلقا إلا للناس كافة على أنه مستثنى فركيك جدا ولا يخفى أن في الآية على ما أستحسنه حذف المضاف والفصل بين أداة الإستثناء والمستثنى وتقديم الحال على صاحبها والكل خلاف الأصل وقلما يجتمع مثل ذلك في الكلام الفصيح وأعترض عليه أيضا بأنه يلزم حينئذ جعل اللام في للناس بمعنى إلى وليس بشيء لأن أرسل يتعدى باللام وإلى كما ذكره أبو حيان وغيره فلا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى على أنه لو جعلت بمعناها لا يلزم خطأ أصلا لمجيء كل من اللام وإلى بمعنى الأخر وكذا لا حاجة إلى جعلها تعليلية إلا على ما أستحسنه الخفاجي
وقال غير واحد : إن كافة أسم فاعل من كف والتاء فيه للمبالغة كتاء راوية ونحوه وهو حال من مفعول أرسلناك و للناس متعلق به وإليه دهب أبو حيان أي ما أرسلناك إلا كافا ومانعا للناس عن الكفر والمعاصي
وإلى الحالية من الكاف ذهب أبو علي أيضا إلا أنه قال : المعنى إلا جامعا للناس في الإبلاغ وتعقبه أبو حيان بأن اللغة لا تساعد على ذلك لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع وفيه منع ظاهر لأنه يقال : كف القميص
(22/142)
إذا جمع حاشيته وكف الجرح إذا ربطه بخرقة تحيط به وقد قال إبن دريد : كل شيء جمعته فقد كففته مع أنه جوز أن يكون مجازا من المنع لأن ما يجمع يمتنع تفرقه وإنتشاره وقيل إنه مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية وهو أيضا حال من الكاف إما باق على مصدريته بلا تقدير شيء مبالغة وإما بتأويل أسم الفاعل أو بتقدير مضاف أي إلا ذا كافة أي ذا منع للناس من الكفر وقيل ذا منع من ان يشذوا عن تبليغك وذهب بعضهم إلى أنه مصدر وقع مفعولا له ولم يشترط في نصبه إتحاد الفاعل كما أرتضاه الرضى وذهب العلامة الزمخشري إلى أنه أسم فاعل من الكف صفة لمصدر محذوف وتاؤه للتأنيث أي ما أرسلناك إلا إرسالة كافة أي عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم عن أن يخرج منها أحد منهم وأعترض عليه بأن كافة لم ترد عن العرب إلا منصوبة على الحال مختصة بالمتعدد من العقلاء وأن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه إنما يكون لما عهد وصفه بها بحيث لا تصلح لغيره وأجيب بأن كافة ههنا غير ما ألتزم فيه الحالية وإن رجعا إلى معنى واحد وما قيل من أنه لم تستعمله العرب إلا كذلك ليس بشيء وإقامة الصفة مقام موصوفها منقاس مطرد بدون شرط إذا قامت عليه قرينة وذكر الفعل قبله دال على تقدير مصدره كما في قمت طويلا وحسنا أي قياما طويلا وحسنا وفي الحواشي الخفاجية قد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه قال في كتابه لآل بني كاكلة : قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهبا إبريزا وقاله علي كرم الله تعالى وجهه حين أمضاه فقد أستعمل هذان الإمامان كافة في غير العقلاء وغير منصوب على الحالية
ولا يخفى أن بعض ما أعترض به على هذا الوجه يعترض به على بعض الأوجه السابقة أيضا والجواب هو الجواب
والذي أختاره في الآية ما هو المتبادر ولا بأس بالتقدم والإستعمال وارد عليه ولا قياس يمنعه وأمر تخطي العامل إلا إلى ما ليس مستثنى ولا مستثنى منه سهل لحديث التوسع في الظرف والآية عليه أظهر في الإستدلال على عموم رسالته وهي في ذلك كقوله تعالى : قل يأأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ولو أستدل بها القاضي أبو سعيد لبهت اليهودي وقد يستعمل عليه بما لا يكاد ينكره من فعله مع اليهود في عصره ودعوته عليه الصلاة و السلام إياهم إلى الإسلام بشيرا لمن أسلم بالثواب ونذيرا لمن لم يسلم بالعقاب والوصفان حالان من مفعول أرسلناك وقد يجعلان على بعض الأوجه السابقة بدلا من كافة نحو بدل المفصل من المجمل فتأمل
ولكن أكثر الناس لا يعلمون 82 ذلك فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم عليه من الغي والضلال ويقولون أي لجهلهم حقيقة أو حكما ولذا لم يعطف بالفاء وقيل يقولون أي من فرط تعنتهم وعدم العطف بالفاء لذلك وقيل الحامل فرط الجهل وعدم العطف بالفاء لظهور تفرعه على ما قبله ومثله يوكل إلى ذهن السامع وقيل إن ذاك لأن فرط الجهل غير الجهل وهو كما ترى وقيل لأن هذا حال بعض وعدم العلم في قوله تعالى : لا يعلمون حال بعض آخر والذي يظهر لي أن القائلين بالفعل هم بعض المشركين المعاصرين له لا أكثر الناس مطلقا وأن المراد بصيغة المضارع الإستمرار التجددي وقيل عبر بها إستحضارا للصورة الماضية لنوع غرابة والأصل وقالوا متى هذا الوعد بطريق الإستهزاء يعنون المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله تعالى يجمع بيننا
(22/143)
ربنا ثم يفتح بيننا إن كنتم صادقين 92 مخاطبين رسول الله والمؤمنين به
قل لكم ميعاد يوم أو وعد يوم على أن ميعاد مصدر ميمي أو أسم أقيم مقام المصدر على ما نقل عن أبي عبيدة وهو بمعنى الموعود وقيل : الكلام على تقدير مضاف أي لكم وقوع وعد يوم أونجز وعد يوم وتنوين يوم للتعظيم أي يوم عظيم وجوز أن يكون الميعاد أسم زمان وسضافته إلى يوم للتبيين أي لبيان زمان الوعد بأنه يوم مخصوص نحو سحق ثوب وبعير سانية وأيد الوجه الأول بوقوع الكلام جوابا لقولهم متى هذا الوعد والوجه الثاني أنه قريء ميعاد يوم برفعهما وتنوينهما فإن يوم على هذه القراءة بدل وذلك يقتضي أن الميعاد نفس اليوم وكونه بدل إشتمال بعيد وكذا ما قال أبو حيان من أنه على تقدير محذوف أي قل لكم ميعاد ميعاد يوم فلما حذف المضاف أعرب ما قام مقامه بإعرابه وقرأ إبن أبي عبلة ميعاد بالرفع والتنوين يوما بالنصب والتنوين قال الزمخشري : وهو على التعظيم بإضمار فعل تقديره لكم ميعاد أعني يوما من صفته كيت وكيت ويجوز الرفع على هذا أيضا وجوز أن يكون على الظرفية لميعاد على أنه مصدر بمعنى الموعود لا أسم زمان وقال في البحر : يجوز أن يكون إنتصابه على الظرف والعامل فيه مضاف محذوف أي إنجاز وعد يوما من صفته كيت وكيت وقرأ عيسى ميعاد منونا يوم بالنصب من غير تنوين مضافا إلى الجملة ووجه النصب ما مر آنفا
لا تستأخرون عنه ساعة إذا فاجأكم ولا تستقدمون 03 أي عنه ساعة والهاء على ما قال أبو البقاء يجوز أن تعود على ميعاد وإن تعود على يوم وعلى أيهما عادت كانت الجملة وصفا له وفي الإرشاد هي صفة لازمة لميعاد وفي الجواب على تقدير تقييد النفي بالمفاجأة من المبالغة في التهديد ما لا يخفى ويجوز أن يكون النفي غير مقيد بذلك فيكون وصف الميعاد بما ذكر لتحقيقه وتقديره وقد تقدم الكلام في نظير هذه الجملة فتذكر
ولما كان سؤالهم عن الوقت على سبيل النعت أجيبوا بالتهديد وحاصله أنه لوحظ في الجواب المقصود من سؤالهم لاما يعطيه ظاهر اللفظ وليس هذا من الأسلوب الحكيم فإن البليغ يلتفت لفت المعنى وقال الطيبي : هو منه سألوا عن وقت إرساء الساعة وأجيبوا عن أحوالهم فيها فكأنه قيل : دعوا السؤال عن وقت إرسائها فإن كينونته لا بد منه بل سلوا عن أحوال أنفسكم حيث تكونون مبهوتين متحيرين فيها من هول ما تشاهدون فهذا أليق بحالكم من أن تسألوا عنه وهو كما ترى وقيل : إنه متضمن الجواب بأن ذلك اليوم لا يعلمه إلا الله عزوجل لمكان تنكير يوم وهو تعسف لا حاجة إليه وأختلف في هذا اليوم فقيل يوم القيامة وعليه كلام الطيبي وقيل : يوم مجيء أجلهم وحضور منيتهم وقيل : يوم بدر وقال الذين كفروا وهم مشركو العرب لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه أي من الكتب القديمة كما روى عن قتادة والسدي وإبن جريج ومرادهم نفي الإيمان بجميع ما يدل على البعث من الكتب السماوية المتضمنة لذلك ويروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول فأخبروهم أنهم يجدون صفته عليه الصلاة و السلام في كتبهم فأغضبهم ذلك فقالوا ما قالوا وضعف بأنه ليس في السايق والسباق ما يدل عليه وقيل الذي بين يديه القيامة
وخطأ إبن عطية قائله بأن ما بين اليد في اللغة المتقدم وتعقب بأنه قد يراد به ما مضى وقد يراد به ما سيأتي
نعم يضعف ذلك أن ما بين يدي الشيء يكون من جنسه لكن محصل كلامهم على هذا أنهم لم يؤمنوا بالقرآن
(22/144)
ولا بمادل عليه وأما إدعاء أن الأكثر كونه لما مضى فقد قيل أيضا إنه غير مسلم وحكى الطبرسي أن المراد بالذين كفروا اليهود وحينئذ يراد بما بين يديه الإنجيل ولا يخفى أن هذا القول مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وليس في السباق والسياق ما يدل عليه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم الخطاب للنبي أو لكل واقف عليه ومفعول ترى إذ أو محذوف و إذ ظرف له أي أي حال الظالمين و لو للتمني مصروفا إلى غيره تعالى لا جواب لها أو هو مقدر أي لرأيت أمرا فظيعا أو نحوه و الظالمون ظاهر وضع موضع الضمير للتسجيل وبيان إستحقاقهم والأصل ولو ترى إذ هم موقوفون عند ربهم أي في موقف المحاسبة يرجع بعضهم إلى بعض القول أي يتحاورون ويتراجعون القول والجملة في موضع الحال وقوله تعالى : يقول الذين أستضعفوا إستئناف لبيان تلك المحاورة أو بدل من يرجع إلخ أي يقول الإتباع للذين أستكبروا في الدنيا وأستتبعوهم في الغي والضلال لولا أنتم صددتمونا عن الهدى لكنا مؤمنين 13 بما جاء به الرسول
قال الذين أستكبروا للذين أستضعفوا إستئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال الذين أستكبروا لما أعترض عليهم الأتباع ووبخوهم فقيل قالوا : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين 23 أنكروا أن يكونوا هم الذين صدوهم عن الإيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم أي لسنا نحن الذين حلنا بينكم وبين الإيمان بعد إذ صممتم على الدخول فيه بل أنتم منعتم أنفسكم حظها بإجرامكم وإيثاركم الكفر على الإيمان
ووقوع إذ مضافا إليها الظرف شائع في كلامهم كوقوعها مضافة وذلك من باب الإتساع في الظروف لا سيما الزمانية وبهذا يجاب عما قيل إن إذ من الظروف اللازمة للظرفية فكيف وقعت ههنا مجرورة مضافا إليها
وقال صاحب الفرائد إن إذ ههنا جردت عن معنى الظرفية وأنسلخت عنه رأسا وصيرت أسما صرفا لأن المراد من وقت مجيء الهدى هو الهدى لا الوقت نفسه فلذا أضيف إليها
وقال الذين أستضعفوا للذين أستكبروا إضرابا عن إضرابهم وإبطالا له بل مكر الليل والنهار أي بل صدنا مكركم بنا في الليل والنهار فحذف المضاف إليه وأقيم مقامه الظرف إتساعا أو جعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي وقيل لا حاجة إلى ذلك فإن الإضافة على معنى في وتعقب بأنها مع أن المحققين لم يقولوا بها يفوت بإعتبارها المبالغة ويعلم مما أشرنا إليه أن مكر فاعل لفعل محذوف وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف أي سبب كفرنا مكر الليل والنهار أو مكر الليل والنهار سبب كفرنا وقرأ قتادة ويحيى إبن يعمر بل مكر الليل والنهار بالتنوين ونصب الظرفين أي بل صدنا مكركم أو مكر عظيم في الليل والنهار
وقرأ محمد بن جعفر وسعيد بن جبير وأبو رزين وإبن يعمر أيضا مكر الليل والنهار بفتح الميم والكاف وتشديد الراء والرفع مع الإضافة أي بل صدنا كرور الليل والنهار وإختلافهما وأرادوا على ما قيل الإحالة على طول الأمل والإغترار بالأيام مع هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله عزوجل
وقرأ إبن جبير أيضا وراشد القاري وطلحة كذلك إلا أنهم نصبوا مكر على الظرف أي بل صددتمونا مكر الليل والنهار أي في مكرهما أي دائما وجوز أن يكون مفعولا مطلقا أي تكرون الإغراء مكرا دائما لا تفترون عنه وجوز صاحب اللوامح كونه ظرفا لتأمروننا بعد وتعقبه أبو حيان بأنه وهم لأن ما بعد إذ لا يعمل
(22/145)
فيما قبلها وقوله تعالى : إذ تأمروننا بدل من الليل والنهار أو تعليل للمكر وجعله في الإرشاد ظرفا له أي بل مكركم الدائم وقت أمركم لنا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا على أن مكرهم إما نفس أمرهم بما ذكر وأما أمور آخر مقارنة لأمرهم داعية إلى الإمتثال به من الترغيب والترهيب وغير ذلك
وجملة قال الذين أستضعفوا إلخ عطف على جملة يقول الذين أستضعفوا إلخ وإن تغايرتا مضيا وإستقبالا
ولما كان هذا القول رجوعا منهم إلى الكلام دون قول المستكبرين أنحن صددناكم فإنه إبتداء كلام وقع جوابا للإعتراض عليهم جيء بالعاطف ههنا ولم يجيء به هناك على ما أختاره بعضهم وقيل : إن النكتة في ذلك أنه لما حكى قول المستضعفين بعد قوله تعالى يرجع بعضهم إلى بعض القول كان مظنة إن يقال فماذا قال الذين أستكبروا للذين أستضعفوا وهل كان بين الفريقين تراجع فقيل : قال الذين أستكبروا كذا وقال الذين أستضعفوا كذا فأخرج مجموع القولين مخرج الجواب وعطف بعض الجواب على بعض فتدبر والأنداد جمع ند هو شائع فيمن يدعى أنه شريك مطلقا لكن ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في تفسيره الجاري فيه على مسلك المفسرين إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن وبخطه الشريف النوراني رأيته انه مخصوص بمن يدعى الألوهية كفرعون وإضرابه لأنه بذلك ند عن الله تعالى وشرد عن رحمته سبحانه وقال الشيخ : لأنه شرد عن العبودية له جل شأنه وأسروا أي أضمر الظالمون من الفريقين المستكبرين والمستضعفين الندامة على ما كان منهم في الدنيا من الضلال والإضلال نظرا للمستكبرين ومن الضلال فقط نظرا للمستضعفين والقول بحصول ندامتهم على الإضلال أيضا بإعتبار قبوله تكلف ولم يظهروا ما يدل عليها من المحاورة وغيرها لما رأوا العذاب لأنهم بهتوا لما عاينوه فلم يقدروا على النطق وأشتغلوا عن إظهارها بشغل شاغل وقيل : أخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير وتعقب بأنه كيف يتأتى هذا مع قول المستضعفين لرؤساهم لولا أنتم لكنا مؤمنين وأي ندامة أشد من هذا وأيضا مخافة التعيير في ذلك المقام بعيدة وقيل : أسروا الندامة بمعنى أظهروها فإن أسر من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات وللسلب فمعنى أسره جعله سرا أو أزال سره ونظيره أشكيت وأنشد الزمخشري لنفسه : شكوت إلى الأيام سوء صنيعها ومن عجب باك فشكى إلى المبكي فما زادت الأيام إلا شكاية وما زالت الأيام نشكي ولا تشكي وتعقب إبن عطية هذا القول بأنه لم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد وأنت تعلم أن المثبت مقدم على النافي فلا تغفل وجعلنا الأغلال أي القيود في أعناق الذين كفروا وهم المستكبرون والمستضعفون والأصل في أعناقهم إلا أنه أظهر في مقام الإضمار للتنويه بذمهم والتنبيه على موجب إغلالهم وأستظهر أبو حيان عموم الموصول فيدخل فيه الفريقان المذكوران وغيرهم لأن من الكفار من لا يكون له إتباع تراجعه القول في الآخرة ولا يكون هو تابعا لرئيس له كالغلام الذي قتله الخضر عليه السلام هل يجزون إلا ما كانوا يعملون 33 أي لا يجزون إلا مثل الذي كانوا يعملونه من الشر وحاصله لا يجزون إلا شرا وجزى قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه كما يشير إليه قول الراغب يقال جزيته كذا وبكذا وجوز كون ما في محل النصب بنزع الخافض وهو إما الباء أو عن أو على فإنه ورد تعدية جزى بها جميعا وقيل : إن هذا التعدي لتضمينه معنى القضاء ومتى صح ما سمعت
(22/146)
عن الراغب لم يحتج إلى هذا وما أرسلنا في قرية من القرى من تدبر أي نذيرا من النذر إلا قال مترفوها أي المتوسعون في النعم فيها والجملة في موضع الحال إنا بما أرسلتم به بزعمكم من التوحيد وغيره والجار الثاني متعلق بما عنده والأول متعلق بقوله تعالى : كافرون 43 وهو خبر إن وظاهر الآية أن مترفي كل قرية قالوا لرسولهم ذلك وعليه فالجمع في أرسلتم للتهكم وقيل : لتغليب المخاطب على جنس الرسل أو على إتباعه المؤمنين به وقال بعض الأجلة الكلام من باب مقابلة الجمع بالجمع فقيل الجمع الأول الرسل المدلول عليه بقوله تعالى أرسلتم والثاني كافرون فقد كفر كل برسوله وخاطبه بمثله فلا تغليب في الخطاب في أرسلتم وقيل : الجمع الأول نذير لأنه يفيد العموم في الحكاية لا المحكي لوقوعه في سياق النفي وليس كل قوم منكرا لجميع الرسل فحمل على المقابلة والكلام مسوق لتسلية رسول الله مما إبتلى به من مخالفة مترفي قومه وعداوتهم له عليه الصلاة و السلام وتخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم في الأغلب أول المكذبين للرسل عليهم السلام لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على قلوبهم منها فهم منهمكون في الشهوات والإستهانة بمن لم يحظ منها بخلاف الفقراء فإن قلوبهم لخلوها من ذلك أقبل للخير ولذلك تراهم أكثر إتباع الأنبياء عليهم السلام كما جاء في حديث هرقل وقالوا الضمير للمترفين الذين تقدم ذكرهم وقيل : لقريش والظاهر المتبادر هو الأول والمراد حكاية ما شجعهم على الكفر بما أرسل به المنذرون أي وقال المترفون : نحن أكثر أموالا وأولادا أي أموالنا وأولادنا كثيرة جدا فأفعل للزيادة المطلقة وجوز بقاؤه على ما هو الأكثر إستعمالا والمفضل عليه محذوف أي نحن أكثر منكم أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين 53 بشيء من أنواع العذاب الذي يكدر علينا لذة كثرة الأموال والأولاد من خوف الملوك وقهر الأعداء وعدم نفوذ الكلمة والكد في تحصيل المقاصد ونحو ذلك وإيلاء الضمير حرف النفي للإشارة إلى أن المخاطبين أو المؤمنين ليسوا كذلك وحاصل قولهم نحن في نعمة لا يشوبها نقمة وهو دليل كرامتنا على الله عزوجل ورضاه عنا فلو كان ما نحن عليه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفا لرضاه لما كنا فيه من النعمة ويجوز أن يكونوا قد قاسوا أمور الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمور الدنيا وزعموا أن المنعم عليه في الدنيا منعم عليه في الآخرة وإلى هذا الوجه ذهب جمع وقالوا : نفي كونهم معذبين إما بناء على إنتفاء العذاب الأخروي رأسا وإما بناء على إعتقاد أنه تعالى أكرمهم في الدنيا فلا يهينهم في الآخرة على تقدير وقوعها وقال الخفاجي في وجه إيلاء الضمير حرف النفي : إنه إشارة إلى أن المؤمنين معذبون إستهانة بهم لظنهم أن المراد بالعذاب المنفي أعم من العذاب الأخروي والعذاب الدنيوي الذي قد ينذر به الأنبياء عليهم السلام ويتوعدون به قومهم إن لم يؤمنوا بهم ولعل ما ذكرناه أولا أنسب بالمقام فتأمل جدا قل ردا لما زعموه من أن ذلك دليل الكرامة والرضا إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له ويقدر على من يشاء أن يقدره عليه فربما يوسع سبحانه على العاصي ويضيق على المطيع وربما يعكس الأمر وربما يوسع عليهما معا وقد يضيق عليهما معا وقد يوسع على شخص مطيع أو عاص تارة ويضيق عليه أخرى يفعل كلا من ذلك حسبما تقتضيه مشيئته عزوجل
(22/147)
المبنية على الحكم البالغة فلو كان البسط دليل الإكرام والرضا لأختص به المطيع وكذا لو كان التضييق دليل الإهانة والسخط لأختص به العاصي وليس فليس والحاصل كما قيل منع كون ذلك دليلا على ما زعموا لإستواء المعادي والموالي فيه وقال جمع : أريد أنه تعالى يفعل ذلك حسب مشيئته المبنية على الحكم فلا ينقاس عليه أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها وقال ناصر الدين : لو كان ذلك لكرامة أو هوان يوجبانه لم يكن بمشيئته تعالى وهو مبني على أن الإيجاب ينافي الإختيار والمشيئة وقد قال به الخفاجي أخذا من كلام مولانا جلال الدين ورد به على من رد ولا يخفى أن دعوى المترفين الإيجاب على الله تعالى فيما هم فيه من بسط الرزق وكذا فيما فيه أعداؤهم من تضييقه غير ظاهرة حتى يرد عليهم بإثبات المشيئة التي لا تجامع الإيجاب وقرأ الأعمش ويقدر مشدد هنا وفيما بعد ولكن أكثر الناس لا يعلمون 63 ذلك فمنهم من يزعم أن مدار البسط الشرف والكرامة ومدار التضييق الهوان والحقارة ومنهم من تحير وأعترض على الله تعالى في البسط على أناس والتضييق على آخرين حتى قال قائلهم : كم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الأفهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا وعني هذا القائل بالعالم النحرير نفسه ولعمري أنه بوصف الجاهل البليد أحق منه بهذا الوصف فالعالم النحرير وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى كلام مستأنف من جهته عزوجل خوطب به الناس بطريق التلوين والألتفات مبالغة في تحقيق الحق وتقرير ما سبق كذا في إرشاد العقل السليم وجوز أن يكون ما تقدم لنفي أن يكون القرب والكرامة مدارا وعلة لكثرة الرزق وهذا النفي أن تكون كثرة الرزق سببا للقرب والكرامة ويكون الخطاب للكفرة والتي واقع على الأموال والأولاد وحيث أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث وكان المجموع بمعنى جماعة صح الأفراد والتأنيث أي وما جماعة أموالكم وأولادكم بالجماعة التي تقربكم عندنا قربة ولا حاجة إلى تقدير مضاف في النظم الكريم وما ذكر تقدير معنى لا أعراب وعن الزجاج أن في الكلام حذفا في أوله لدلالة ما في آخره والتقدير وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي إلخ وأنت تعلم أنه لا حاجة إليه أيضا وجوز أن تكون التي صفة لموصوف مفرد مؤنث تقديره بالتقوى أو بالخصلة التي وجوز الزمخشري أن تكون التي كناية عن التقوى لأن المقرب إلى الله تعالى ليس إلا تلك أي وما أموالكم ولا أولادكم بتلك الموضوعة للتقريب وقرأ الحسن باللاتي جمعا وهو راجع للأموال والأولاد كالتي على ما سمعت أولا وقريء بالذي أي بالشيء الذي يقربكم
وزلفى مصدر كالقربى وإنتصابه على المصدرية من المعنى وقرأ الضحاك زلفا بفتح اللام وتنوين الفاء جمع زلفة وهي القربة إلا من آمن وعمل صالحا إستثناء من مفعول تقربكم على ما ذهب إليه جمع وهو إستثناء متصل إذا كان الخطاب عاما للمؤمنين والكفرة ومنقطع إذا كان خاصا بالكفرة فالموصول في محل نصب
(22/148)
أو رفع على أنه مبتدأ ما بعده خبره مقدر أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه
وأستظهر أبو حيان الإنقطاع وقال في البحرتان الزجاج ذهب إلى بدليته من المفعول المذكور وغلطه النحاس بأن ضمير المخاطب لا يجوز الإبدال منه فلا يقال رأيتك زيدا ومذاهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضميري المخاطب والمتكلم لكن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصبح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا فلو قلت مازيد بالذي يضرب إلا خالدا لم يصح
وذكر بعض الأجلة أن جعله إستثناء من المفعول لا يصح على جعل التي كناية عن التقوى لأنه يلزم أن تكون الأموال والأولاد تقوى في حق غير من آمن وعمل صالحا لكنها غير مقربة وقيل لا بأس بذلك إذ يصح أن يقال وما أموالكم ولا أولادكم بتقوى إلا المؤمنين وحاصله أن المال والولد لا يكونان تقوى ومقربين لأحد إلا للمؤمنين وإذا كان الإستثناء منقطعا صح وأتضح ذلك وجوز أن يكون إستثناء من أموالكم وأولادكم على حذف مضاف أي إلا أموال من آمن وعمل صالحا وأولادهم وفي هذا إذا جعل التي كناية عن التقوى مبالغة من حيث أنه جعل مال المؤمن الصالح وولده نفس التقوى ثم أن تقريب الأموال المؤمن الصالح بإنفاقها فيما يرضى الله تعالى وتقريب الأولاد بتعليمهم الخير وتفقيههم في الدين وترشيحهم للصلاح والطاعة
فأولئك إشارة إلى من والجمع بإعتبار معناها كما أن الإفراد فيما تقدم بإعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي فأولئك المنعوتون بالإيمان والعمل الصالح لهم جزاى الضعف أي لهم أن يجازيهم الله تعالى الضعف أي الثواب المضاعف فيجازيهم على الحسنة بعشر أمثالها أو بأكثر إلى سبعمائة فإضافة جزاء إلى الضعف من إضافة المصدر إلى مفعوله وقرأ قتادة جزاء الضعف برفعهما فالضعف بدل وجوز الزجاج كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الضعف ويعقوب في رواية بنصب جزاء ورفع الضعف فجزاء تمييز أو حال من فاعل لهم إن كان الضعف مبتدأ أو منه إن كان فاعلا أو نصب على المصدر لفعله الذي دل عليه لهم أي يجزون جزاء وقريء جزاء بالرفع والتنوين الضعف بالنصب على أعمال المصدر بما علموا من الصالحات وهم في الغرفات أي في غرفات الجنة ومنازلها العالية آمنون 73 من جميع المكاره الدنيوية والأخروية وقرأ الحسن وعاصم بخلاف عنه والأعمش ومحمد إبن كعب في الغرفات بإسكان الراء وقرأ بعض القراء بفتحها وإبن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة وخلف في الغرفة بالتوحيد وإسكان الراء وإبن وثاب أيضا بالتوحيد وضم الراء والتوحيد على إرادة الجنس لأن الكل ليسوا في غرفة واحدة والمفرد أخصر مع عدم اللبس فيه والذين يسعون في آياتنا بالرد والطعن فيها معاجزين أي بحسب زعمهم الباطل الله عزوجل أو الأنبياء عليهم السلام وحاصله زاعمين سبقهم وعدم قدرة الله تعالى أو أنبيائه عليهم السلام عليهم ومعنى المفاعلة غير مقصود ههنا أولئك الذي بعدت منزلتهم في الشر في العذاب محضرون 83 لا يجديهم ما ولوا عليه نفعا وفي ذكر العذاب دون موضعه ما لا يخفى من المبالغة قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له أي يوسعه سبحانه عليه تارة ويضيقه عليه أخرى فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله تعالى وتقربوا لديه عزوجل بأموالكم
(22/149)
وتعرضوا لنفحاته جل وعلا فمساق الآية للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقريب إليه تعالى بالإنفاق وهذا بخلاف مساق نظيرها المتقدم فإنه للرد على الكفرة كما سمعت وأيضا ما سبق عام وما هنا خاص في البسط والتضييق لشخص واحد بإعتبار وقتين كما يشعر به قوله تعالى هنا له وعدم قوله هناك والضمير وإن كان في موضع من المبهم إلا أن سبق النظير خاليا عن ذلك وذكر هذا بعد مشتملا عليه كالقرينة على إرادة ما ذكر فلا تغفل
وما أنفقتم من شيء يحتمل أن تكون ما شرطية في موضع نصب بأنفقتم وقوله تعالى فهو يخلفه جواب الشرط ويحتمل أن تكون بمعنى الذي في موضع رفع بالإبتداء والجملة بعد خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط و من شيء تبيين على الإحتمالين ومعنى يخلفه يعطي بدله وما يقوم مقامه عوضا عنه وذلك إما في الدنيا بالمال كما هو الظاهر أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى كما قيل وإما في الآخرة بالثواب الذي كل خلف دونه وخصه بعضهم بالآخرة أخرج الفريابي وعبد بن حميد وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن مجاهد قال : إذا كان لأحدكم شيء فيلقتصد ولا يتأول هذه الآية وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه وأخرج من عدا الفريابي من المذكورين عنه أنه قال في الآية : أي ما كان من خلف فهو منه تعالى وربما أنفق الإنسان ماله كله في الخير ولم يخلف حتى يموت ومثلها وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها يقول ما آتاها من رزق فمنه تعالى وربما لم يرزقها حتى تموت والأول أظهر لأن الآية في الحث على الإنفاق وإن البسط والقدر إذا كانا من عنده عزوجل فلا ينبغي لمن وسع عليه أن يخاف الضيعة بالإنفاق ولا لمن قدر عليه زيادتها وقوله تعالى وهو خير الرازقين 93 تذييل يؤيد ذلك كأنه قيل : فيرزقه من حيث لا يحتسب وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا واخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : كل ما أنفق العبد نفقة فعلى الله تعالى خلفها ضامنا إلا نفقة في بنيان أو معصية
وأخرج البخاري وإبن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال : قال الله عزوجل أنفق ياإبن آدم أنفق عليك وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عنه قالقال عليه الصلاة و السلام إن المعونة تنزل من السماء على قدر المؤونة وفي حديث طويل عن الزبير قال الله تبارك وتعالى أنفق أنفق عليك وأوسع أوسع عليك ولا تضيق أضيق عليك ولا تصر فأصر عليك ولا تخزن فأخزن عليك إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سموات متواصل إلى العرش لا يغلق ليلا ولا نهارا ينزل الله تعالى منه الرزق على كل أمريء بقدر نيته وعطيته وصدقته ونفقته فمن أكثر أكثر له ومن أقل أقل له ومن أمسك أمسك عليه يازبير فكل وأطعم ولا توكي فيوكي عليك ولا تحصي فيحصي عليك ولا تقتر فيقتر عليك ولا تعسر فيعسر عليك الحديث ومعنى الرازقين الموصلين للرزق والموهبين له فيطلق الرازق حقيقة على الله عزوجل وعلى غيره ويشعر بذلك فأرزقوهم منه نعم لا يقال لغيره سبحانه رازق فلا إشكال في قوله سبحانه وهو خير الرازقين ووجه الأخيرية في غاية الظهور وقيل إطلاق الرازق على غيره تعالى مجاز بإعتبار أنه واسطة في إيصال رزقه تعالى فهو رازق صورة فأستشكل أمر التفضيل بأنه لا بد من مشاركة المفضل للمفضل عليه في أصل الفعل حقيقة لا صورة
(22/150)
وأجاب الآمدي بأن المعنى خير من تسمى بهذا الأسم وأطلق عليه حقيقة أو مجازا وهو ضرب من عموم المجاز ويوم يحشرهم جميعا أي المستكبرين والمستضعفين أو الفريقين وما كانوا يعبدون من دون الله عزوجل و يوم ظرف لمضمر متقدم أي وأذكر يوم أو متأخر أي ويوم نحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة إلى آخرة يكون من الأحوال والأهوال مالا يحيط به نطاق المقال وظاهر العطف بثم يقتضي أن القول للملائكة متراخ عن الحشر وفي الآثار ما يشهد له فقد روى أن الخلق بعد أن يحشروا يبقون قياما في الموقف سبع الآف سنة لا يكلمون حتى يشفع في فصل القضاء نبينا فلعله عند ذلك يقول سبحانه للملائكة عليهم السلام أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون 04 تقريعا للمشركين وتبكيتا وإقناطا لهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعة الملائكة عليهم السلام لعلمه سبحانه بما تجيب به على نهج قوله تعالى لعيسى عليه السلام أأنت قلت للناس إتخذوني وأمي إلهين وتخصيصهم بالذكر لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم والصالحون عادة للخطاب وعبادتهم مبدأ الشرك بناء على ما نقل إبن الوردي في تاريخه في أن سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب أن عمرو بن لحي مر بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا له هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصر بها ونستسقي فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسول للعرب فعبدوه وأستمرت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاء الإسلام وحدثت عبادة عيسى عليه السلام بعد ذلك بزمان كثير فبظهور قصورهم عن رتبة المعبودية وتنزعهم عن عبادتهم يظهر حال سائر الشركاء بطريق الأولوية
و هؤلاء مبتدأ و كانوا يعبدون خبره و إياكم مفعول يعبدون قدم للفاصلة مع أنه أهم لأمر التقريع وأستدل بتقديمه على جواز تقديم خبر كان إذا كان جملة عليها كما ذهب إليه إبن السراج فإن تقديم المعمول مؤذن بجواز تقديم العامل وتعقبه أبو حيان بأن هذه القاعدة ليست مطردة ثم قال : والأولى منع ذلك إلا أن يدل على جوازه سماع من العرب وقرأ جمهور القراء نحشرهم ثم نقول بالنون في الفعلين قالوا إستئناف بياني كأنه قيل : فماذا تقول الملائكة حينئذ فقيل تقول منزهين عن ذلك سبحانك أنت ولينا من دونهم والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على التحقق أي أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم بل كانوا يعبدون الجن أي الشياطين كما روى عن مجاهد حيث كانوا يطيعونهم فيما يسولون لهم من عبادة غير الله تعالى وقيل صورت الشياطين لهم صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الملائكة فأعبدوها فعبدوها وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها وقيل أرادوا أنهم عبدوا شيئا تخيلوه صادقا على الجن لا صادقا علينا فهم يعبدون الجن حقيقة دوننا وقال إبن عطية : يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها أكثرهم بهم مؤمنون 14 الضمير الثاني للجن والأول للمشركين والأكثر على ظاهره لأن من المشركين من لم يؤمن بهم وعبدهم إتباعا لقومه كأبي طالب أو الأكثر بمعنى الكل وأختار في البحر الأول لأن كونه بمعنى الكل ليس حقيقة وقال : إنهم لم يدعوا الإحاطة إذ يكون في الكفار من لم يطلع الله تعالى الملائكة عليهم السلام أو أنهم حكموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من أعمال القلب فلم يذكروا الإطلاع على عمل جميع قلوبهم لأن ذلك
(22/151)
لله عزوجل وجوز أن يكون الضمير الأول للأنس فالأكثر على ظاهره أي غالبهم مصدقون أنهم آلهة وقيل مصدقون أنهم بنات الله وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا وقيل مصدقون أنهم ملائكة
فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا من جملة ما يقال للملائكة عليهم السلام عند جوابهم بالتبريء عما نسب إليهم المشركون يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد إظهارا لعجزهم وقصورهم عن زاعمي عبادتهم وتنصيصا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية وقيل للكفار وليس بذاك والفاء لترتيب الأخبار بما بعدها على جواب الملائكة عليهم السلام ونسبة عدم النفع والضر إلى البعض المبهم للمبالغة فيما هو المقصود الذي هو بيان عدم نفع الملائكة للعبدة بنظمه في سلك عدم نفع العبدة لهم كأن نفع الملائكة لعبدتهم في الإستحالة والإنتفاء كنفع العبدة لهم والتعرض لعدم الضر مع أنه لا بحث عنه لتعميم العجز أو لحمل عدم النفع على تقدير العبادة وعدم الضر على تقدير تركها وقيل لأن المراد دفع الضر على حذف المضاف وفيه بعد والمراد باليوم يوم القيامة وتقييد الحكم به مع ثبوته على الإطلاق لإنعقاد رجاء المشركين على تحقق النفع يومئذ
ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون 24 عطف على نقول للملائكة وقيل على لا يملك وتعقب بأنه مما يقال يوم القيامة خطابا للملائكة مترتبا على جوابهم المحكي وهذا حكاية لرسول الله لما سيقال للعبدة يوميذ إثر حكاية ما سيقال للملائكة عليهم السلام وأجيب بأن ذلك ليس بمانع فتدبر ووقع الموصول هنا وصفا للمضاف إليه وفي السجدة في قوله تعالى عذاب النار الذي كنتم به تكذبون صفة للمضاف فقال أبو حيان : لأنهم ثمت كانوا ملابسين للعذاب كما ينبيء عنه قوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها فوصف لهم ثمت مالا بسوه وهنا لم يكونوا ملابسين له بل ذلك أول ما رأوا النار عقب الحشر فوصف ما عاينوه لهم وكون الموصول هنا نعتا للمضاف على أن تأنيثه مكتسب لتتحد الآيتان تكلف سمج
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات بيان لبعض آخر من كفرهم أي إذا تتلى عليهم بلسان الرسول آياتنا الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك قالوا ما هذا يعنون رسول الله التالي للآيات والإشارة للتحقير قاتلهم الله تعالى : إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم فيجعلكم من أتباعه من غير أن يكون له دين إلهي وإضافة الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم لتحريك عرق العصبية منهم مبالغة في تقريرهم على الشرك وتنفيرهم عن التوحيد وقالوا ما هذا يعنون القرآن المتلو والإشارة كالإشارة السابقة إلا أفك أي كلام مصروف عن وجهه لا مصداق له في الواقع مفترى بإسناده إلى الله عزوجل
وقال الذين كفروا للحق أي لأمر النبوة التي معها من خوارق العادة ما معها أو للإسلام المفرق بين المرء وزوجه وولده أو القرآن الذي تتأثر به النفوس على أن العطف لإختلاف العنوان بأن يراد بالأول معناه وبالثاني نظمه المعجز لما جاءهم من غير تدبر ولا تأمل فيه إن هذا إلا سحر مبين 34 ظاهر سحريته
وفي ذكر قال ثانيا والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما في لما من المسارعة إلى البت بهذا القول الباطل إنكار عظيم له وتعجب بليغ منه وجوز أن تكون كل جملة صدرت
(22/152)
من قوم من الكفرة وما آتيناهم أي أهل مكة من كتب يدرسونها تقتضي صحة الإشراك ليعذروا فيه فهو كقوله تعالى : أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وقوله سبحانه : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون وإلى هذا ذهب إبن زيد وقال السدي : المعنى ما آتيناهم كتبا يدرسونها فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به ويرجع إلى الأول والمقصود نفي أن يكون لهم دليل على صحة ما هم عليه من الشرك ومن صلة وجمع الكتب إشارة على ما قيل إلى أنه لشدة بطلانه وإستحالة إثباته بدليل سمعي أو عقلي يحتاج إلى تكرر الأدلة وقوتها فكيف يدعى ما تواترت الأدلة النيرة على خلافه وقرأ أبو حيوة يدرسونها من التدريس وهو تكرير الدرس أو من درس الكتاب مخففا ودرس الكتب مشددا التضعيف فيه بإعتبار الجمع
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير 44 أي وما أرسلنا إليهم قبلك نذيرا يدعوهم إلى الشرك وينذرهم بالعقاب على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ وفيه من التهكم والتجهيل ما لا يخفى ويجوز أن يراد أنهم أميون كانوا في فترة لا عذر لهم في الشرك ولا في عدم الإستجابة لك كأل الكمتاب الذين لهم كتب ودين يأبون تركه ويحتجون على عدم المتابعة بأن نبيهم حذرهم ترك دينه مع أنه بين البطلان لثبوت أمر من قبله بإتباعه وتبشير الكتب به وذكر إبن عطية أن الأرض لم تخل من داع إلى توحيد الله تعالى فالمراد نفي إرسال نذير يختص بهؤلاء ويشافههم وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل عليه السلام والله تعالى بقول : إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ولكن لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمد ثم إنه تعالى هددهم بقوله سبحانه : وكذب الذين من قبلهم من الأمم المتقدمة والقرون الخالية بما كذبوا وما بلغوا أي أهل مكة معشار أي عشر ما آتيناهم وقال : قوم المعشار عشر العشر ولم يرتضه إبن عطية وقال الماوردي : المراد المبالغة في التقليل أي ما بلغوا أقل قليل مما آتينا أولئك المكذبين من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال فكذبوا أي أولئك المكذبون رسلي الذين أرسلتهم إليهم فيف كان نكيره 54 أي إنكاري لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك
والفاء الأولى سببية و كذب الأول منزل منزلة اللازم أي فعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه ونظير ذلك أن يقول القائل أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد ومن هنا قالوا : إن كذبوا رسلي عطف على كذب الذين عطف المقيد على المطلق وهو تفسير معنى وما بلغوا إعتراض والفاء الثانية فصيحة فيكون المعنى فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم وجعل التدمير إنكارا تنزيلا للفعل منزلة القول كما في قوله
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
أو على نحو
تحية بينهم ضرب وجيع
وجوز بعضهم أن يكون صيغة التفعيل في كذب الذين للتكثير وفي كذبوا للتعدية والمكذب فيهما واحد أي أنهم أكثروا الكذب وألفوه فصار سجية لهم حتى أجترؤا على تكذيب الرسل وعلى الوجهين لا تكرار وجوز أن يكون كذبوا
(22/153)
رسلي منعطفا على ما بلغوا من تتمة الإعتراض والضمير لأهل مكة يعني هؤلاء لم يبلغوا معشار ما آتينا أولئك المكذبين الأولين وفضلوهم في التكذيب لأن تكذيبهم لخاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام تكذيب لجميع الرسل عليهم السلام من وجهين وعليه لا يتوهم تكرار كما لا يخفى وكون جملة ما بلغوا معترضة هو الظاهر وجعل وكذب الذين من قبلهم تمهيدا لئلا تكون تلك الجملة كذلك يدفعه فكيف كان نكير لأن معناه للمكذبين الأولين البتة فلا إلتئام دون القول بكونها معترضة وإرجاع ضمير بلغوا إلى أهل مكة والضمير المنصوب في آتيناهم إلى الذين من قبلهم وبيان الموصول بما سمعت هو المروى عن إبن عباس وقتادة وإبن زيد وقيل الضمير الأول للذين من قبلهم والضمير الثاني لأهل مكة أي وما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى وقيل : الضميران للذين من قبلهم أي كذبوا وما بلغوا في شكر النعمة ومقابلة المئة عشر ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم وأستظهر ذلك أبو حيان معلالا له بتناسق الضمائر حيث جعل ضمير فكذبوا للذين من قبلهم فلا تغفل قل إنما أعظكم بواحدة أي ما أرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة وهي على ما قال قادة ما د عليه قول تعالى : أن تقوموا لله على أنه في تأويل مصدر بدل منها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي قيامكم أو مفعول لفعل محذوف أي أعني قيامكم وجوز الزمخشري كونه عطف بيان لواحدة وأعترض بأن أن تقوموا معرفة لتقديره بقيامكم وعطف البيان يشترط فيه عند البصريين أن يكون معرفة من معرفة وهو عند الكوفيين يتبع ما قبله في التعريف والتنكير والتخالف مما لم يذهب إليه ذاهب
والظاهر أن الزمخشري ذاهب إلى جواز التخالف وقد صرح إبن مالك في التسهيل بنسبة ذلك إليه وهو من مجتهدي علماء العربية وجوز أن يكون قد عبر بعطف البيان وأراد البدل لتآخيها وهذا إمام الصناعة سيبويه يسمي التوكيد صفة وعطف البيان صفة ثم إن كون المصدر المسبوك معرفة أو مؤولا بها دائما غير مسلم والقيام مجاز عن الجد والإجتهاد وقيل هو على حقيقته والمراد القيام عن مجلس رسول الله وليس بذاك وقد روى نفي إرادته عن إبن جريج أي إن تجدوا وتجتهدوا في الأمر بإخلاص لوجه الله تعالى مثنى وفرادى اي متفرقين إثنين إثنين وواحدا واحدا فإن في الإزدحام على الأغلب تهويش الخاطر والمنع من الفكر وتخليط الكلام وقلة الإنصاف كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة فإنه لا يكاد يوقف فيها عل تحقيق وفي تقديم مثنى إيذان بأنه أوثق وأقرب إلى الإطمئنان وفي البحر قدم لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة فإذا أنقدح الحق بين الأثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة وشاع الفتح بين الأثنين ثم تتفكروا في أمره وما جاء به لتعلموا حقيته والوقف عند أبي حاتم هنا وقوله تعالى : ما بصاحبكم من جنة إستئناف مسوق من جهته تعالى للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن مثل هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة لا يتصدى لإدعائه إلا مجنون لا يبالي بإفتضاحه عند مطالبته بالبرهان وظهور عجزه أو مؤيد من عند الله تعالى مرشح للنبوة واثق بحجته وبرهانه وإذ قد علمتم أنه عليه الصلاة و السلام أرجح الناس عقلا وأصدقهم قولا وأذكاهم نفسا وأفضلهم علما وأحسنهم
(22/154)
عملا وأجمعهم للكمالات البشرية وجب أن تصدقوه في دعواه فكيف وقد أنضم إلى ذلك معجزات تخر لها صم الجبال والتعبير عنه عليه الصلاة و السلام بصاحبكم للإيماء إلى أن حاله مشهور بينهم لأنه نشأ بين أظهرهم معروفا بما ذكرنا وجوز أن يكون متعلقا بما قبله والوقف على جنة على أنه مفعول لفعل علم مقدر لدلالة التفكر عليه لكونه طريق العلم أي ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة أو معمول لتتفكروا على أن التفكر مجاز عن العلم أو معمول له بدون إرتكاب تجوز بناء على ما ذهب إليه إبن مالك في التسهيل من أن تفكر يعلق حملا على أفعال القلوب وجوز أن يكون هناك تضمين أي ثم تتفكروا عالمين ما بصاحبكم من جنة وقال إبن عطية : هو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين وتكون الفكرة على هذا في آيات الله تعالى والإيمان به وهو كما ترى و ما مطلقا نافية والياء بمعنى في ومن صلة وقيل : ما للإستفهام الإنكاري ومن بيانية وجوز أن تكون صلة أيضا وفيه تطويل المسافة وطيها أولى إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد 64 هو عذاب الآخرة فإنه مبعوث في نسم الساعة وجاء بعثت أنا والساعة كهاتين وضم عليه الصلاة و السلام الوسطى والسبابة على المشهور
قل ما سألتكم من أجر أي مهما سألتكم من نفع على تبليغ الرسالة فهو لكم والمراد نفي السؤال رأسا كقولك لصاحبك أن أعطيتني شيئا فخذه وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا فما شرطية مفعول سألتكم وهو المروى عن قتادة وقيل هي موصولة والعائد محذوف ومن للبيان ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط أي الذي سألتكموه من الأجر فهو لكم وثمرته تعود إليكم وهو على ما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما إشارة إلى المودة في القربى في قوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى وكون ذلك لهم على القول بأن المراد بالقربى قرباهم ظاهر وأما على القول بأن المراد بها قرباه عليه الصلاة و السلام فلأن قرباه قرباهم أيضا أو هو إشارة إلى ذلك وإلى ما تضمنه قوله تعالى : ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا وظاهر أن إتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى وجوز كون ما نافية ومن صلة وقوله سبحانه : فهو لكم جواب شرط مقدر أي فإذا لم أسألكم فهو لكم وهو خلاف الظاهر
وقوله تعالى : إن أجري إلا على الله يؤيد إرادة نفي السؤال رأسا وقريء إن أجري بسكون الياء وهو على كل شيء شهيد 74 أي مطلع فيعلم سبحانه صدقي وخلوص نيتي قل إن ربي يقذف بالحق قال السدي وقتادة : بالوحي وفي راوية أخرى عن قتادة بالقرآن والمآل واحد وأصل القذف الرمي بدفع شديد وهو هنا مجاز عن الإلقاء والباء زائدة أي إن ربي يلقي الوحي وينزله على قلب من يجتبيه من عباده سبحانه وقيل القذف مضمن معنى الرمي فالباء ليست زائدة وجوز أن يراد بالحق مقابل الباطل والباء للملابسة والمقذوف محذوف والمعنى إن ربي يلقى ما يلقى إلى إنبيائه عليهم السلام من الوحي بالحق لا بالباطل
وعن إبن عباس إن المعنى يقذف الباطل بالحق أي يورده عليه حتى يبطله عزوجل ويزيله والحق مقابل الباطل والباء مثلها في قولك قتلته بالضرب وفي الكلام إستعارة مصرحة تبعية والمستعار منه حسي والمستعار له عقلي وجوز أن تكون الإستعارة مكنية وقيل : المعنى يرمي بالحق إلى أقطار الآفاق على أن ذلك
(22/155)
مجاز عن إشاعته فيكون الكلام وعدا بإظهار الإسلام وإفشائه وفيه من الإستعارة ما فيه علام الغيوب 84 خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه علام الغيوب أو صفة محمولة على محل إن مع أسمها كما جوزه الكثير من النحاة وأن منعه سيبويه أو بدل من ضمير يقذف ولا يلزم خلو جملة الخبر من العائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح من كل الوجه وقال الكسائي : هو نعت لذلك الضمير ومذهبه جوأر نعت المضمر الغائب
وقرأ عيسى وزيد بن علي وإبن أبي إسحاق وإبن أبي عبلة وأبو حيوة وحرب عن طلحة علام بالنصب فقال الزمخشري : صفة لربى وقال أبو الفضل الرازي وإبن عطية : بدل وقال الحوفي : بدل أو صفة وقيل نصب على المدح وقرأ إبن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي الغيوب بالكسر كالبيوت والباقون بالضم كالعشور وهو فيهما جمع وقريء بالفتح كصبور على أنه مفرد للمبالغة قل جاء الحق أي الإسلام والتوحيد أو القرآن وقيل السيف لأن ظهور الحق به وهو كما ترى وما يبديء الباطل أي الكفر والشرك وما يعيد 94 اي ذهب وأضمحل بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء أي فعل أمر إبتداء ولا إعادة أي فعله ثانيا كما يقال لا يأكل ولا يشرب أي ميت فالكلام كناية عما ذكر أو مجاز متفرع على الكناية وأنشدوا لعبيد بن الأبرص أقفر من أهله عبيد
فاليوم لا يبدي ولا يعيد وقال جماعة : الباطل إبليس وإطلاقه عليه لأنه مبدؤه ومنشؤه ولا كناية في الكلام عليه والمعنى لا ينشيء خلقا ولا يعيد أو لا يبديء خيرا لأهله ولا يعيد أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة وقيل هو الصنم والمعنى ما سمعت وعن أبي سليمان أن المعنى إن الصنم لا يبتدي من عنده كلاما فيجاب ولا يرد ما جاء من الحق بحجة
و ما على جميع ذلك نافية وقيل : هي على ما عدا القول الأول للإستفهام الإنكاري منتصبة بما بعدها أي أي شيء يبدي الباطل وأي شيء يعيد ومآله النفي والكلام جوز أن يكون تكميلا لما تقدم وأن يكون من باب العكس والطرد وأن يكون تذييلا مقررا لذلك فتأمل قل إن ضللت عن الحق فإنما أضل على نفسي أي عائدا ضرر ذلك ووباله عليها فإنها الكاسبة للشرور والأمارة بالسوء وإن أهتديت إلى الحق فبما يوحى إلى ربي فإن الأهتداء بهدايته تعالى وتوفيقه عزوجل وما موصولة أو مصدرية وكان الظاهر وأن أهتديت فلها كقوله تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها أو إن ضللت فإنما أضل بنفسي ليظهر التقابل لكنه عدل عن ذلك إكتفاء بالتقابل بحسب المعنى لأن الكلام عليه أجمع فإن كل ضرر فهو من النفس وبسببها وعليها وباله وقد دل لفظ على في القرينة الأولى على معنى اللام في الثانية والباء في الثانية على معنى السببية في الأولى فكأنه قيل : قل إن ضللت فإنما أضل بسبب نفسي على نفسي وإن أهتديت فإنما أهتدي لنفسي بهداية الله تعالى وتوفيقه سبحانه وعبر عن هذا بما يوحى إلى ربي لأنه لازمه وجعل على التعليل وإن ظهر عليه التقابل إرتكاب لخلاف الظاهر من غير نكتة
وجوز أن يكون معنى القرينة الأولى قل إن ضللت فإنما أضل على لا على غيري ولا يظهر عليه أمر التقابل مطلقا والحكم على ما قال الزمخشري عام وإنما أمر أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل
(22/156)
تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به وقال الإمام : اي إن ضلال نفسي كضلالكم لأنه صادر من نفسي ووباله عليها وأما أهتدائي فليس كإهتدائكم بالنظر والإستدلال وإنما هو بالوحي المنير فيكون مجموع الحكمين عنده مختصا به عليه الصلاة و السلام وفيما ذكره دلالة على ما قال الطيبي على أن دليل النقل أعلى وأفخم من دليل العقل وفيه بحث وقرأ الحسن وإبن وثاب وعبدالرحمن المقري ضللت بكسر اللام و أضل بفتح الضاد وهي لغة تميم وكسر عبدالرحمن همزة أضل وقريء ربي بفتح الياء إنه سميع قريب 05 فلا يخفى عليه سبحانه قول كل من المهتدي والضال وفعله وإن بالغ في إخفائهما فيجازي كلا بما يليق
ولو ترى إذ فزعوا أي إعتراهم إنقباض ونفار من الأمر المهول المخيف والخطاب في ترى للنبي أو لكل من تصح منه الرؤية و مفعول ترى محذوف أي الكفار أو فزعهم أو هو إذ على التجوز إذ المراد برؤية الزمان رؤية ما فيه أو هو متروك لتنزيل الفعل منزلة اللازم أي لو تقع منك رؤية وجواب لو محذوف أي لرأيت أمرا هائلا وهذا الفزع على ما أخرج إبن أبي حاتم عن مجاهد يوم القيامة والظاهر عليه أنه فزع البعث وهو مروى عن الحسن وأخرج إبن المنذر وغيره عن قتادة أنه في الدنيا عند الموت حين عاينوا الملائكة عليهم السلام وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه يوم بدر فقيل هو فزع الحرب وعن السدي وإبن زيد فزع ضرب أعناقهم ومعاينة العذاب وقيل في آخر الزمان حين يظهر المهدي ويبعث إلى السفياني جندا فيهزمهم ثم يسير السفياني إليه حتى إذا كان ببيداء من الأرض خسف به وبمن معه فلا ينجو منهم إلا المخبر عنهم فالفزع فزع ما يصيبهم يومئذ فلا فوت فلا يفوتون الله عزوجل بهرب أو نحوه عما يريد سبحانه بهم وأخذوا من مكان قريب 15 من الموقف إلى النار أو من ظهر الأرض إلى بطنها أو من صحراء بدر إلى القليب أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم والمراد بذكر قرب المكان سرعة نزول العذاب بهم والإستهانة بهم وبهلاكهم وإلا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى الله عزوجل والجملة عطف على فزعوا على ما ذهب إليه جماعة قال في الكشف : وكأن فائدة التأخير أن يقدر فلا فوت ثانيا إما تأكيدا وأما أن أحدهما غير الآخر تنبيها على أن عدم الفوت سبب للأخذ وأن الأخذ سبب لتحققه وجودا وفيه مبالغة حسنة وقيل على لا فوت على معنى فلم يفوتوا وأخذوا وأختاره إبن جني معترضا على ما تقدم بأنه لا يراد ولو ترى وقت فزعهم وأخذهم وإنما المراد ولو ترى إذ فزعوا ولم يفوتوا وأخذوا وبما نقل عن الكشف يتحصل الجواب عنه
وجوز كونها حالا من فاعل فزعوا أو من خبر لا المقدر وهو لهم بتقدير قد أو بدونه والفاء في فلا فوت قيل إن كانت سببيلا فهي داخلة على المسبب لأن عدم فوتهم من فزعهم وتحيرهم وإن كانت تعليلية فهي تدخل على السبب لترتب ذكره على ذكر المسبب وإذا عطف أخذوا عليه أو جعل حالا من الخبر يكون هو المقصود بالتفريع وقرأ عبدالرحمن مولى بني هاشم عن أبيه وطلحة فلا فوت وأخذ مصدرين منونين
وقرأ أبي فلا فوت مبنيا وأخذ مصدرا منونا وإذا رفع أخذ كان خبر مبتدأ محذوف أي وحالهم أخذ أو مبتدأ خبره محذوف أي وهناك أخذ وإلى ذلك ذهب أبو حيان وقال الزمخشري : قريء وأخذ بالرفع على أنه معطوف على محل لا فوت ومعناه فلا فوت هناك وهناك أخذ وقالوا آمنا به أي بالله عزوجل على ما أخرجه جمع
(22/157)
عن مجاهد وقالت فرقة : أي بمحمد وقد مر ذكره في قوله سبحانه ما بصاحبكم من جنة وقيل الضمير للعذاب وقيل للبعث ورجح رجوعه إلى محمد عليه الصلاة و السلام لأن الإيمان به شامل للإيمان بالله عزوجل وبما ذكر من العذاب والبعث وأنى لهم التناوش التناوش التناول كما قال الراغب وروى عن مجاهد
وقال الزمخشري : هو تناول سهل لشيء قريب يقال ناشه ينوشه وتناوشه القوم وتناوشوا في الحرب ناش بعضهم بعضا بالسلاح وقال الراجز : فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا وأبقاؤه على عمومه أولى أي من أين لهم أن يتناولوا الإيمان من مكان بيعد 25 فإنه في حيز التكليف وهم منه بمعزل بعيد ونقل في البحر عن إبن عباس تفسير التناوش بالرجوع أي من أين لهم الرجوع إلى الدنيا وأنشد إبن الأنباري : تمنى أن تؤوب إلى مي وليس إلى تناوشها سبيل ولا يخفى أنه ليس بنص في ذلك والمراد تمثيل حالهم في الإستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم وبعد بحال من يريد أن يتناول الشيء بعد أن بعد عنه وفات في الإستحالة وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وأبو بكر التناوش بالهمز وخرج على قلب الواو همزة قال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت بالخيار فيها إن شئت أبقيتها وإن شئت قلبتها همزة فتقول ثلاث أدور بلا همز وثلاث أدؤر بالهمز وتعقب ذلك أبو حيان فقال إنه ليس على إطلاقه بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كانت مدغما فيها نحو تعود وتعوذ مصدرين وقد صرح بذلك في التسهيل ولا إذا صحت في الفعل نحو ترهوك ترهوكا وتعاون تعاونا وعلى هذا لا يصح التخريج المذكور لأن التناوش كالتعاون في أن واوه قد صحت في الفعل إذ تقول تناوش فلا يهمز وقال الفراء : هو من نأشت أي تأخرت وأنشد قول نهشل : تمنى نئيشا أن يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأمور أمور أي تمنى أخيرا والضمير للمولى في قوله : ومولى عصاني وأستبد برأيه كما لم يطع فيما أشاء قصير فالهمزة فيه أصلية واللفظ ورد من مادتين وقال بعضهم : هو من نأشت الشيء إذا طلبته قال رؤبة : أقحمني جار أبي الخابوش إليك نأش القدر النؤش فالهمزة أصلية أيضا قيل والتناؤش على هذين القولين بمعنى التناول من بعد لأن الأخير يقتضي ذلك والطلب لا يكون للشيء القريب منك الحاضر عندك فيكون من مكان بعيد تأكيدا أو يجرد التناوش لمطلق التناول وحمل البعد في قيده على البعد الزماني بحث فيه الشهاب بأنه غير صحيح لأن المستعار منه هو في المكان وما ذكر من أحوال المستعار له وقد كفروا به حال أو معطوف أو مستأنف والأول أقرب والضمير المجرور لما عاد عليه الضمير الضمير السابق في آمنا به من قبل أي من قبل ذلك في أوان التكليف
ويقذفون بالغيب أي كانوا يرجمون بالمظنون ويتكلمون بما لم يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق في شأن
(22/158)
الله عزوجل فينسبون إليه سبحانه الشريك ويقولون الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أو في شأن الرسول عليه الصلاة و السلام فيقولون فيه وحاشاه : شاعر وساحر وكاهن أو في شأن العذاب أو البعث فيبتون القول نفيه من مكان بعيد 35 من جهة بعيدة من أمر من تكلموا في شأنه والجملة عطف على وقد كفروا وكان الظاهر وقذفوا إلا أنه عدل إلى صيغة المضارع حكاية للحال الماضية والكلام قيل لعله تمثيل لحالهم من التكلم بما يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه وجوز الزمخشري كونه عطفا على قالوا آمنا به على أنهم مثلوا في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه شاحطا وقرأ مجاهد وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو يقذفون مبنيا للمفعول قال مجاهد : أي ويرجمهم الوحي بما يكرهون مما غاب عنهم من السماء وكأن الجملة في موضع الحال من ضمير كفروا كأنه قيل : وقد كفروا به من قبل وهم يقذفون بالحق الذي غاب عنهم وخفى عليهم ولمراد تعظيم أمر كفرهم وجوز أن يراد بالغيب ما خفى من معايبهم أي وقد كفروا وهم يقذفهم الوحي من السماء ويرميهم بما خفى من معايبهم
وقال أبو الفضل الرازي : أي ويرمون بالغيب من حيث لا يعلمون ومعناه يجازون بسوء أعمالهم ولا علم لهم بمأتاه إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت وإما في الآخرة إنتهى وفي حالية الجملة عليه نوع خفاء
وقال الزمخشري : أي وتقذفهم الشياطين بالغيب ويلقنونهم إياه وكان الجملة عطف على قد كفروا وقيل أي يلقون في النار وهو كما ترى وحيل بينهم وبين ما يشتهون قال إبن عباس : هو الرجوع إلى الدنيا وقال الحسن : هو الإيمان المقبول وقال قتادة : طاعة الله تعالى وقال السدي : التوبة وقال مجاهد : الأهل والمال والولد
وقيل أي حيل بين الجيش والمؤمنين بالخسف بالجيش أو بينهم وبين تخريب الكعبة أو بينهم وبين النجاة من العذاب أو بينهم وبين نعيم الدنيا ولذتها وروى ذلك عن مجاهد أيضا و حيل مبني للمجهول ونائب الفاعل كما قال أبو حيان ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحول وحاصله وقعت الحيلولة ولا ضماره لم يكن مصدرا مؤكدا فناب مناب الفاعل وعلى ذلك يخرج قوله : وقالت متى يبخل عليك ويعتلل يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب أي يعتلل هو أي الإعتلال وقال الحوفي : قام الظرف مقام الفاعل وتعقبه في البحر بأنه لو كان كذلك لكان مرفوعا والإضافة إلى الضمير لا تسوغ البناء وإلا لساغ جاء غلامك بالفتح ولا يقوله أحد نعم للبناء للإضافة إلى المبني مواضع أحكمت في النحو وماذا يقول الحوفي في قوله
وقد حيل بين العير والنزوان
فإنه نصب بين مع إضافتها إلى معرب وقرأ إبن عامر والكسائي بإشمام الضم للحاء
كما فعل بأشياعهم من قبل أي بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة و من قبل متعلق بأشياعهم على أن المراد من أتصف بصفتهم من قبل أي في الزمان الأول ويرجحه أن ما يفعل بجميعهم في الآخرة إنما هو في وقت واحد أو متعلق بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا وعن الضحاك أن المراد بأشياعهم أصحاب الفيل والظاهر أنه جعل الآية في السفياني ومن معه
(22/159)
إنهم كانوا في شك مريب 45 أي موقع في ريبة على أنه من أرابه أوقعه في ريبة وتهمة أو ذي ريبة من أراب الرجل صار ذا ريبة فأما أن يكون قد شبه الشك بإنسان يصح أن يكون مريبا على وجه الإستعارة المكنية التخييلية أو يكون الإسناد مجازيا أسند فيه ما لصاحب الشك للشك مبالغة كما يقال شعر شاعر وكأنه من هنا قال إبن عطية : الشك المريب أقوى ما يكون من الشك وضمير الجمع للأشباع وقيل : لأولئك المحدث عنهم والله تعالى أعلم ومن باب الإشارة في بعض آيات السورة ما قيل ولقد آتينا داؤد منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير أشير بالجبال إلى عالم الملك وبالطير إلى عالم الملكوت وقد ذكروا أنه إذا تمكن الذكر سري في جميع أجزاء البدن فيسمع الذاكر كل جزء منه ذاكرا فإذا ترقى حاله يسمع كل ما في عالم الملك كذلك فإذا ترقى يسمع كل ما في الوجود كذلك وإن من شيء إلا يسبح بحمده وألنا له الحديد القلب أن أعمل سابغات وهي الحكم البالغة التي تظهر من القلب على اللسان وقدر في السرد أي في سرد الحديث بأن تتكلم بالحكمة على قدر ما يتحمله عقل مخاطبك وقد ورد كلموا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله
ومن هنا يصعب الجواب عمن تكلم من المتصوفة بما ينكره أكثر من يسمعه من العلماء وبه ضل كثير من الناس ولسليمان الريح ريح العناية غدوها شهر ورواحها شهر فكان يتصرف بالهمة وقذف الأنوار في قلوب متبعيه من مسافة شهر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه إشارة إلى قوة باطنه حيث إنقاد له من جبل على المخالفة وفعل الشرور وقليل من عبادي الشكور وهو من شكره بالأحوال أعني التخلق بأخلاق الله تعالى فلما قضينا عليه الموت مادلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فيه إشارة إلى أن الضعيف قد يفيد القوي علما وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها وهي مقامات أهل الباطن من العارفين قرى ظاهرة وهي مقامات أهل الظاهر من الناسكين سيروا فيها ليالي في ليالي البشرية وأياما في أيام الروحانية آمني في خفارة الشريعة
وقال بعض الفرقة الجديدة الكشفية : القرى المبارك فيها الأئمة رضي الله تعالى عنهم والقرى الظاهرة الدعاة إليهم والسفراء بينهم وبين شيعتهم وظلموا أنفسهم بميلهم إلى الدنيا وترك السير لسوء إستعدادهم حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم فيه إشارة إلى أن الهيبة تمنع الفهم وما أرسلناك أي ما أخرجناك من العدم إلى الوجود إلا كافة للناس الأولين والآخرين بشيرا ونذيرا وهذا حاله عليه الصلاة و السلام في عالم الأرواح وفي عالم الأجساد ولكن أكثر الناس لا يعلمون إذ لا نور لهم يهتدون به وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم هؤلاء قطاع الطريق على عباد الله تعالى ومثلهم المنكرون على أولياء الله تعالى الذين ينفرون الناس عن الإعتقاد بهم وإتباعهم قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي إن النفس لأمارة بالسوء وإن أهتديت فبما يوحى إلي ربي من القرآن وفيه إشارة إلى أنه نور لا يبقى معه ديجور أو مراتب الإهتداء به متفاوتة حسب تفاوت الفهم الناشيء من تفاوت صفاء الباطن وطهارته وقد ورد أن للقرآن ظاهرا وباطنا ولا يكاد يصل الشخص إلى باطنه إلا بتطهير باطنه كما يرمز سليه قوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم ظاهرة وباطنه إلى ما شاء من البطون فإنه جل وعلا القادر الذي يقول للشيء كن فيكون
(22/160)
سورة فاطر
وتسمى سورة الملائكة وهي مكية كما روى عن إبن عباس وقتادة وغيرهما وفي مجمع البيان قال الحسن : مكية إلا آيتين إن الذين يتلون كتاب الله الآية ثم أورثنا الكتاب الآية وآيها ست وأربعون في المدني الأخير والشامي وخمس وأربعون في الباقين والمناسبة على ما في البحر أنه عزوجل لما ذكر في آخر السورة المتقدمة هلاك المشركين أعداء المؤمنين وإنزالهم منازل العذاب تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره كما في قوله تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين وينضم إلى ذلك تواخي السورتين في الإفتتاح بالحمد وتقاربهما في المقدار وغير ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله فاطر السموات والأرض أي موجدهما من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه فالفطر الإبداع وقال الراغب : هو إيجاده تعالى الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال
وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن إبن عباس قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يعني إبتدأتها وأصل الفطر الشق وقال الراغب : الشق طولا ثم تجوز فيه عما تقدم وشاع فيه حتى صار حقيقة أيضا ووجه المناسبة أن السموات والأرض والمراد بهما العالم بأسره لكونهما ممكنين والأصل في الممكن العدم كما يشير إليه قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه وقوله عليه الصلاة و السلام ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وصرح بذلك فلاسفة الإسلام قال رئيسهم : الممكن في نفسه ليس وهو عن علته ليس كان العدم كامن فيهما وبإيجادهما يشقان ويخرج العدم منهما
وقيل في ذلك : كأنه تعالى شق العدم بإخراجهما منه وقيل : لا مانع من حمله على أصله هنا ويكون إشارة إلى الأمطار والنبات فكأنه قيل : الحمد لله فاطر السموات بالأمطار وفاطر الأرض بالنبات وفيه نظر ستأتي الإشارة إليه قريبا وقوله تعالى : جاعل الملائكة رسلا على القولين يحتمل أن يكون معناه جاعل الملائكة عليهم السلام وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالته سبحانه بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه عزوجل يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه كالأمطار والرياح وغيرهما وهم الملائكة الموكلون بأمور العالم وهذا أنسب بالقول الثاني لكن يرد عليه أنه لا معنى لكون الأمطار شاقة للسموات وقال الإمام : إن الحمد يكون على النعم ونعمه تعالى عاجلة وآجلة وهو في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر ودليله يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وقوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة والحمد في هذه السورة إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ودليله جاعل الملائكة رسلا أي يجعلهم سبحانه رسلا يتلقون عباد الله تعالى كما قال سبحانه تتلقاهم الملائكة فيجوز أن يكون المعنى الحمد لله شاق السموات والأرض يوم القيامة لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض وجاعل الملائكة رسلا في ذلك اليوم يتلقون عباده وعليه فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى لأن قوله تعالى كما فعل بأشياعهم بيان لإنقطاع رجاء من كان في شك مريب ولما ذكر سبحانه حالهم ذكر حال المؤمنين وبشرهم بإرسال الملائكة إليهم وأنه تعالى يفتح أبواب الرحمة لهم إنتهى وفيه من البعد ما فيه و فاطر صفة لله وإضافته
(22/161)
محضة قال أبو البقاء : لأنه للماضي لا غير وقال غيره : هو معرف بالإضافة إذ لم يجر على الفعل بل أريد به الإستمرار والثبات كما يقال زيد مالك العبيد جاء أي زيد الذي من شأنه أن يملك العبيد جاء ومن جعل الإضافة غير محضة جعله بدلا وهو قليل في المشتقات وكذا الكلام في جاعل ورسلا على القول بأن إضافته غير محضة منضوب به بالإتفاق وأما على القول الآخر فكذلك عند الكسائي وذهب أبو علي إلى أنه منصوب بمضمر يدل هو عليه لأن أسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عنده كسائر البصريين إلا معرفا باللام وقال أبو سعيد السيرافي : أسم الفاعل المتعدي إلى إثنين يعمل بالثاني لأنه بإضافته إلى الأول تعذرت إضافته إلى الثاني فتعين نصبه له
وعلل بعضهم ذلك بأنه بالإضافة أشبه المعرف بللام فعمل عمله هذا على تقدير كون الجعل تصييريا أما على تقدير كونه إبداعيا فرسلا حال مقدرة وقرأ الضحاك والزهري فطر جعل فعلا ماضيا ونصب ما بعده قال أبو الفضل الرازي : يحتمل أن يكون ذلك على إضمار الذي نعتا لله تعالى أو على تقدير قد فتكون الجملة حالا
وأنت تعلم أن حذف الموصول الأسمي لا يجوز عند جمهور البصريين وذهب الكوفيون والأخفش إلى إجازته وتبعهم إبن مالك وشرط في بعض كتبه كونه معطوفا على موصول آخر ومن حجتهم آمنوا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وقول حسان : أمن يهجو رسول الله منكم وينصره ويمدحه سواء وقول آخر : ما الذي دأبه إحتياط وحزم وهواه أطاع يستويان وأختار أبو حيان كون الجملة خبر مبتدأ محذوف أي هو فطر وقرأ الحسن جاعل بالرفع على المدح وجر الملائكة وقرأ عبدالوارث عن أبي عمرو جاعل بالرفع بلا تنوين ونصب الملائكة وخرج حذف التنوين على أنه لإلتقاء الساكنين ونصب الملائكة إذا كان جاعل للمضي على مذهب الكسائي وهشام في جواز أعمال الوصف الماضي النصب وقرأ إبن يعمر وخليد جعل فعلا ماضيا الملائكة بالنصب وذلك بعد قراءته فاطر كالجمهور كقراءة من قرأ فالق الأصباح وجعل الليل سكنا وفي الكشاف قريء فطر وجعل كلاهما بلفظ الفعل الماضي
وقرأ الحسن : وحميد بن قيس رسلا بسكون السين وهي لغة تميم وقوله تعالى أولي أجنحة صفة لرسلا وأولو أسم جمع لذو كما إن أولاه أسم جمع لذا ونظير ذلك من الأسماء المتمكنة المخاض قال الجوهري : هي الحوامل من النوق واحدتها خلفة و أجنحة جمع جناح صيغة جمع القلة ومقتضى المقام أن المراد به الكثرة
وفي البحر قياس جمع الكثرة فيه جنح فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملا في القليل والكثير والظاهر أن الجناح بالمعنى المعروف عند العرب بيد أنا لا نعرف حقيقته وكيفيته ولا نقول إنه من ريش كريش الطائر
نعم أخرج إبن المنذر عن إبن جريج أن أجنحة الملائكة عليهم السلام زغبة ورأيت في بعض كتب الإمامية أن الملائكة تزدحم في مجالس الأئمة فيقع من ريشها ما يقع وأنهم يلتقطونه ويجعلون منه ثيابا لأولادهم
وهذا عندي حديث خرافة والكشفية منهم يؤولونه بما لا يخرجه عن ذلك وقوله تعالى : مثنى وثلاث ورباع الظاهر أنه صفة لأجنحة والمنع من الصرف على المشهور للصفة والعدل عن
(22/162)
إثنين إثنين وثلاثة وثلاثة وأربعة أربعة
وقال الزمخشري : إنما لم تنصرف هذه الألفاظ لتكرار العدل فيها وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد من صيغ إلى صيغ آخر كما عدل عمر عن عامر وحزام عن حازمة وعن تكرير إلى غير تكرير ففيها عدلان وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها ألا تراك تقول مررت بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها وتعقبه أبو حيان بأنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أربع وثلاثة وليس بصحيح لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة بل أشترطوا أن تكون الوصفية غير عارضة كما في أربع وأن لا يقبل تاء التأنيث أو تكون فيه كثلاث وثلاثة وقال صاحب الكشف فيه : إن العدول عن التكرر لا يعتبر فيه للصيغة وأعتبر في تحقق العدل ذلك ثم العدول عن الصيغة الأصلية لإفادة التكرر فلا عدولين بوجه وبعد تسليم أن المعتبر في الوصف مقارنته لوضع المعدول فلا يضر عروضه في المعدول عنه لا إتجاه للمنع ولا معول على السند وهو قول سيبويه على ما نقله الجوهري وهو المنصور على ما نبهت إليه إنتهى وتعقبه أيضا صاحب الفرائد وصاحب التقريب بعروض الوصفية في المعدول عنه وعدمه في المعدول لكن قال الطيبي : وجدت لبعض المغاربة كلاما يصلح أن يكون جوابا عنه وهو أن ثلاث مثلا لا يخلو من أن يكون موضوعا للصفة من غير إعتبار العدد أو لا يكون فإن كان الأول لم يكن فيه العدد والمقدر خلافه وإن كان الثاني كان الوصف عارضا لثلاث كما كان عارضا لثلاثة فيمكن أن يقال إن هذه الأعداد غير منصرفة للعدل المكرر كالجمع وألفي التأنيث إنتهى وفيه ما لا يخفى
وقال إبن عطية : إن هذه الألفاظ عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل فهي لا تنصرف للعدل والتعريف وهذا قول غريب ذكر في البحر لبعض الكوفيين وفي الكشاف هي نكرات يعرفن بلام التعريف تقول فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع وقيل مثنى إلخ حال من محذوف والعامل فيه محذوف يدل عليه رسلا أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع والمعول عليه ما تقدم والمراد ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد حسب تفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون أو يسرعون بها حين يؤمرون ويجوز أن تكون كلا أو بعضا لأمور أخر كالزينة فيما بينهم وكالأرخاء على الوجه حياء من الله تعالى إلى غير ذلك والمعنى أن من الملائكة خلقا لكل واحد منهم جناحان وخلقا لكل منهم ثلاثة أجنحة وخلقا لكل منهم أربعة أجنحة ولا دلالة في الآية على نفي الزائد بل قال بعض المحققين : إن ما ذكر من العدد للدلالة على التكثير والتفاوت لا للتعيين ولا لنفي النقصان عن أثنين
وقد أخرج الشيخان والترمذي عن إبن مسعود في قوله تعالى لقد رأى من آيات ربه الكبرى رأى جبريل له ستمائة جناح والترمذي عن مسروق عن عائشة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سد الأفق وقال الزمخشري : مر بي في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة عليهم السلام لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم وجناحان يطيرون بهما في أمر من أمور الله تعالى وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله عزوجل
والبحث عن كيفية وضع الأجنحة شفعا كانت أو وترا فيما أرى مما لا طائل تحته ولم يصح عندي في ذلك شيء
(22/163)
ولقياس الغائب على الشاهد قال بعضهم : إن المعنى إن في كل جانب لبعض الملائكة عليهم السلام جناحين ولبعضهم ثلاثة ولبعضهم أربعة وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد لما أعتدلت ومو كما ترى
وقال قوم : إن الجناح إشارة إلى الجهة وبيانه أن الله تعالى ليس فوقه شيء وكل شيء سواه فهو تحت قدرته سبحانه والملائكة عليهم السلام لهم وجه إلى الله تعالى يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذنه سبحانه كما قال تعالى نزل به الروح الأمين على قلبك وقال تعالى علمه شديد القوى وقال تعالى فالمدبرات أمرا وهما جناحان وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة وفيهم من يفعله لا بواسطة فالفاعل بواسطة منهم من له ثلاث جهات ومنهم من له أربع جهات وأكثر وهذا خلاف الظاهر جدا ولا يحتاج إليه السني القائل بأن الملائكة عليهم السلام أجسام لطيفة نورية يقدرون على التشكل بالصور المختلفة وعلى الأفعال الشاقة وإنما يحتاج إليه أو إلى نحوه الفلاسفة وأتباعهم فإن الملائكة عندهم هي العقول المجردة ويسميها أهل الأشراق بالأنوار الظاهرة وبعض المتصوفة بالسرادقات النورية وقد ذكر بعض متأخريهم أن لها ذوات حقيقية وذوات إضافية مضافة إلى ما دونها إضافة النفس إلى البدن فأما ذواتها الحقيقية فإنما هي أمرية قضائية قولية وأما ذواتها الإضافية فإنما هي خلفية قدرية تنشأ منها الملائكة اللوحية وأعظمهم إسرافيل عليه السلام وتطلق الملائكة عندهم على غير العقول كالمدبرات العلوية والسفلية من النفوس والطبائع وأطالوا الكلام في ذلك وظواهر الآيات والأخبار تكذبهم والله تعالى الموفق للصواب
يزيد في الخلق ما يشاء إستئناف مقرر لما قبله من تفاوت الملائكة عليهم السلام في عدد الأجنحة ومؤذن بأن ذلك من أحكام مشيئته تعالى لا لأمر راجع إلى ذواتهم ببيان حكم كلي ناطق بأنه عزوجل يزيد في أي خلق كان كل ما يشاء أن يزيده بموجب مشيئته سبحانه ومقتضى حكمته من الأمور التي لا يحيط بها الوصف وقال الفراء والزجاج : هذا في الأجنحة التي للملائكة أي يزيد في خلق الأجنحة للملائكة ما يشاء فيجعل لكل ستة أجنحة أو أكثر وروى ذلك عن الحسن وكأن الجملة لدفع توهم عدم الزيادة على الأربعة
وعن إبن عباس يزيد في خلق الملائكة والأجنحة ما يشاء وقيل الخلق خلق الإنسان و ما يشاء الخلق الحسن أو الصوت الحسن أو الحظ الحسن أو الملاحة في العينين أ في الأنف أو في الوجه أو خفة الروح أو جعودة الشعر وحسنه أو العقل أو العلم أو الصنعة أو العفة في الفقراء أو حلاوة النطق وذكروا في بعض ذلك أخبارا مرفوعة والحق أن ذلك من باب التمثيل لا الحصر والآية شاملة لجميع ذلك بل شاملة لما يستحسن ظاهرا ولما لا يستحسن وكل شيء من الله عزوجل حسن
إن الله على كل شيء قدير 1 تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور فإن شمول قدرته لجميع الأشياء مما يوجب قدرته سبحانه على أن يزيد في كل خلق ما يشاؤه تعالى إيجابا بينا ما يفتح الله للناس من رحمة أي ما يطلقها ويرسلها فالفتح مجاز عن الإرسال بعلاقة السببية فإن فتح المغلق سبب لإطلاق ما فيه وإرساله ولذا قوبل بالإمساك والإطلاق كناية عن الإعطاء كما قيل أطلق السلطان للجند أرزاقهم فهو كناية متفرعة على المجاز
وفي إختيار لفظ الفتح رمز إلى أن الرحمة من أنفس الخزائن وأعزها منالا وتنكيرها للإشاعة والإبهام أي أي شيء يفتح الله تعالى من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة وأمن وعلم وحكمة إلى غير ذلك مما
(22/164)
لا يحاط به حتى أن عروة كان يقول كما أخرج إبن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير عنه في ركوب المحمل هي والله رحمة فتحت للناس ثم يقول ما يفتح الله للناس من رحمة إلخ
وأخرج إبن أبي حاتم عن السدي الرحمة المطر وعن إبن عباس التوبة والمراد التمثيل والجار والمجرور في موضع الحال لا في موضع الصفة لأن أسم الشرط لا يوصف فلا ممسك لها أي فلا أحد يقدر على إمساكها وما يمسك أي أي شيء يمسك فلا مرسل له أي فلا أحد يقدر على إرساله وإختلاف الضميرين لما أن مرجع الأول مبين بالرحمة ومرجع الثاني مطلق يتناولها وغيرها وفي ذلك مع تقديم أمر فتح الرحمة إشعار بأن رحمته تعالى سبقت غضبه عزوجل كما ورد في الحديث الصحيح وقيل المراد وما يمسك من رحمة إلا أنه حذف المبين لدلالة ما قبل عليه والتذكير بإعتبار اللفظ وعدم ما يقوى إعتبار المعنى في التلفظ
وأيد بأنه قريء فلا مرسل لها بتأنيث الضمير من بعده أي من بعد إمساكه وهو العزيز الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي من جملتها الفتح والإمساك الحكيم 2 الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة تذييل مقرر لما قبلها ومعرب عن كون كل من الفتح والإمساك بموجب الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين وما أدعى هذه الآية إلى الإنقطاع إلى الله تعالى والإعراض عما سواه عزوجل وإراحة البال عن التخيلات الموجبة للتهويش وسهر الليال
وقد أخرج إبن المنذر عن عامر بن عبد قيس : قال أزبع آيات من كتاب الله تعالى إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسى ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وأن يردك بخير فلا راد لفضله وسيجعل الله بعد عسر يسرا وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وبعد ما بين سبحانه أنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس قاطبة أو أهل مكة كما روى عن إبن عباس وأختاره الطيبي بشكر نعمه عزوجل فقال تعالى : ياأيها الناس أذكروا نعمت الله عليكم أي أنعامه تبارك وتعالى عليكم إن جعلت النعمة مصدرا أو كائنة عليكم أن جعلت أسما أي راعوها وأحفظوها بمعرفة حقها والإعتراف بها وتخصيص العبادة والطاعة بموليها فليس المراد مجرد الذكر باللسان بل هو كناية عما ذكر وعن إبن عباس وقد جعل الخطاب لمن سمعت أذكروا نعمة الله عليكم حيث أسكنكم حرمه ومنعكم من جميع العالم والناس يتخطفون من حولكم وعنه أيضا نعمة الله تعالى العافية والأولى عدم التخصيص ولما كانت نعم الله تعالى مع تشعب فنونها منحصرة في نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء نفى سبحانه أن يكون في الوجود شيء غيره سبحانه يصدر عنه إحدى النعمتين بطريق الإستفهام الذي هو لإنكار التصديق وتكذيب الحكم فقال عزوجل هل من خالق غير الله وهل تأتي لذلك كما في المطول وحواشيه وقول الرضى : إن هل لا تستعمل للإنكار أراد به الإنكار على مدعي الوقوع كما في قوله تعالى أفأصفاكم ربكم بالبنين ويلزمه النفي ولإنكار على من أوقع الشيء كما في قولك أتضرب زيدا وهو أخوك أي هل خالق مغاير له تعالى موجود لكم أو للعالم على أن خالق مبتدأ محذوف الخبر زيدت عليه من لتأكيد العموم و غير الله صفة له بإعتبار محله وصحت الوصفية به مع إضافته إلى أعرف المعارف لتوغله في التنكير فلا يكتسب تعريفا في
(22/165)
مثل هذا التركيب وجوز أن يكون بدلا من خالق بذلك الإعتبار ويعتبر الإنكار في حكم النفي ليكون غير الله هو الخالق المنفي ولأن المعنى على الإستثناء أي لا خالق إلا الله تعالى والبدلية في الإستثناء بغير إنما تكون في الكلام المنفيس وبهذا الإعتبار زيدت من عند الجمهور وصح الإبتداء بالنكرة وكذا جوز أن يكون فاعلا بخالق لإعتماده على أداة الإستفهام نحو أقائم زيد في أحد وجههيه وهو حينئذ ساد مسد الخبر وتعقبه أبو حيان بقوله فيه نظر وهو أن أسم الفاعل أو ما يجري مجراه إذا أعتمد على أداة الإستفهام وأجرى مجرى الفعل فرفع ما بعده هل يجوز أن تدخل عليه من التي للإستغراق فيقال هل من قائم الزيدون كما تقول هل قائم الزيدون والظاهر أنه لا يجوز ألا ترى أنه إذا أجرى مجرى الفعل لا يكون فيه عموم بخلافه إذا دخلت عليه من ولا أحفظ مثله في لسان العرب وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا لا بسماع من كلامهم وفيه أن شرط الزيادة والأعمال موجود ولم يبد مانعا يعول عليه فالتوقف تعنت من غير توقف وفي الكشف لا مانع من أن يكون غير خبرا ومنعه الشهاب بأن المعنى ليس عليه وقرأ إبن وثاب وشقيق وأبو جعفر وزيد بن علي وحمزة والكسائي غير بالخفض صفة لخالق على اللفظ وهذا متعين في هذه القراءة ولأن توافق القراءتين أؤلى من تخالفهما كان الأظهر في القراءة الأولى كونه وصفا لخالق أيضا وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي غير بالنصب على الإستثناء وقوله تعالى يرزقكم من السماء والأرض بالمطر والنبات كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب لا صفة خالق بإعتبار لفظه أو محله قال في الكشف : لأن المعنى على التقريع والتذكير بما هم معترفون به فكأنه قيل : هل من خالق لتلك النعم التي أمرتم بذكرها أو مطلقا وهو أولى وتدخل دخولا أوليا غير الله ثم تمم ذلك بأنه يرزقكم من السماء والأرض وذلك أيضا يقتضي إختصاصه تعالى بالعبادة كما أن الخالقية تقتضي ذلك وفيه أن الخالق لا يكون إلا رازقا ولو قيل هل من خالق رازق من السماء والأرض غير الله يخرج الكلام عن سننه المقصود
وجوز أن يكون خالق فاعلا لفعل مضمر يفسره المذكور والأصل هل يرزقكم خالق و من زائدة في الفاعل وتعقب بأن ما في النظم الجليل إن كان من باب هل رجل عرف فقد صرح السكاكي بقبح هذا التركيب لأن هل إنما تدخل على الجملة الخبرية فلا بد من صحتها قبل دخول هل ورجل عرف لا يصح بدون إعتبار التقديم والتأخير لعدم مصحح الإبتدائية سواه وإذا أعتبر التقديم والتأخير كان الكلام مفيدا لحصول التصديق بنفس الفعل فلا يصح دخول هل عليه لأنها لطلب التصديق وما حصل لا يطلب لئلا يلزم تحصيل الحاصل ولإحتمال أن يكون رجل فاعل محذوف قال بالقبح دون الإمتناع وإن كان من باب هل زيد عرف فقد صرح العلامة الثاني السعد التفتازاني بأنه قبيح بإتفاق النحاة وأن ما ذكره صاحب المفصل من أن نحو هل زيد خرج على تقدير الفعل تصحيح للوجه القبيح البعيد لا أنه شائع حسن غاية ما في الباب أن س بب قبحه ليس ما ذكر في قبح هل زيد عرف عند السكاكي لعدم تأتيه فيه بل السبب أن هل بمعنى قد في الأصل وأصله أهل كقوله
أهل عرفت الدار بالغرتين
وترك الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الإستفهام فأقيمت هي مقام الهمزة وتطفلت عليها في الإستفهام وقد من لوازم الأفعال فكذا ما هي بمعناها ولم يقبح دخولها على الجملة الأسمية التي طرفاها أسمان لأنها إذا لم تر الفعل في حيزها تتسلى عنه ذاهلة وهذا بخلاف ما إذا رأته فإنها حينئذ تتذكر
(22/166)
عهودا بالحمى وتحن إلى الألف المألوف وتطلب معانقته ولم ترض بإفتراق الأسم بينهما ويعلم من هذا أنه لا فرق عند النحاة بين هل رجل عرف وهل زيد عرف في القبح لذلك وأجاب بعضلهخم بأن مجوز هذا الوجه الزمخشري ومتابعوه وهو لا يسلم ما ذكر لأن حرف الشرط كان مثلا ألزم للفعل من هل لأنه لا يجوز دخوله على الجملة الأسمية التي طرفاها أسمان كما دخلت عليها هل وقد جاز بلا قبح عمل الفعل بعده على شريطة التفسير كقوله تعالى وإن أحد من المشركين أستجارك فيجوز في هل بالطريق الأولى وقيل : يجوز أن يكون يرزقكم إلخ مستأنفا في جواب سؤال مقدر تقديره أي خالق يسأل عنه وأن يكون هو الخبر لخالق ولا يخفى على متأمل أن ما نقل عن الكشف قاض بمرجوحية هذه الأوجه جميعها فتأمل وفي الآية على ما هو الأولى في تفسيرها وإعرابها رد على المعتزلة في قولهم : العبد خالق لأفعاله ونصرة لأهل السنة في قولهم لا خالق إلا الله تعالى لا إله إلا هو إستئناف مقرر للنفي المفهوم مما تقدم قصدا ولم يجوز جار الله أن يجعل صفة لخالق كما جعل يزقكم صفة له حيث قال : ولو وصلت جملة لا إله إلا هو كما وصلت يرزقكم لم يساعد عليه المعنى لأن قولك هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق غير مستقيم لأن قولك هل من خالق سوى الله إثبات لله تعالى فلو ذهبت تقول ذلك كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات وبين صاحب الكشف وجه المناقضة على تقدير أن يكون غير الله صفة بأن الكلام مسوق لنفي المشاركة في الصفة المحققة أعني الخلق فقولك هل من خالق آخر سوى الله إثبات لله تعالى ونفي المشارك له فيها ثم وصف الآخر بإنحصار الألهية فيه يكون لنفي خالقيته دون تفرد بالإلهية والتفرد بالإلهية مع مغايرته لله تعالى متناقضان لأن الأول ينفيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا والثاني يثبته مع الغير جل عن كل شريك ونقص ثم قال : والتحقيق في هذا أن هل لإنكار ما يليها وما تلاه إن كان من تتمته ينسحب عليه حكم الإنكار بالبقية وإلا كان مبقي على حاله نفيا وإثباتا ولما كان الكلام في الخالقية على ما مر لم يكن الوصفان أعني تفرد الآخر بالإلهية ومغايرته للقيوم الحق مصبا له وهما متناقضان في أنفسهما على ما بين فيلزم ما ذكره جار الله لزوما بينا وقد دفع بتقريره ذلك كثيرا من القال والقيل بيد أنه لا يخلو عن بحث ويمكن تقرير المناقضة على تقدير الوصفية بوجه أظهر لعله لا يخفى على المتأمل ويجوز أن يكون المانع من الوصفية النظم المعجز وحاكمه الذوق السليم والكلام في ذلك طويل فتأمل والفاء في قوله تعالى فأنى تؤفكون 3 لترتيب إنكار عدولهم عن التوحيد إلى الإشراك على ما قبلها كأنه قيل : وإذا تبين تفرده تعالى بالألوهية والخالقية والرازقية فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك وقوله تعالى وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك إلخ تسلية له عليه الصلاة و السلام بعموم البلية والوعد له والوعيد لأعدائه والمعنى وإن أستمروا على أن يكذبوك فيما بلغت إليهم من الحق المبين بعد ما أقمت عليهم الحجة وألقمتهم الحجر فتأس بأولئك الرسل في الصبر فقد كذبهم قومهم وصبروا فجملة قد كذبت رسل من قبلك قائمة مقام جواب الشرط والجواب في الحقيقة تأس وأقيمت تلك الجملة مقامه إكتفاء بذكر السبب عن ذكر المسبب وجوز أن تجعل هي الجواب من غير تقدير ويكون المترتب على الشرط الإعلام والأخبار كما في قوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله وتنكير رسل للتعظيم والتكثير الموجبين لمزيد التسلية والحث على التأسي والصبر على ما أصابه عليه الصلاة و السلام من
(22/167)
قومه أي رسل أولو شأن خطير وعدد كثير وإلى الله ترجع الأمور 4 لا إلى غيره عزوجل فيجازي سبحانه كلا منك ومنهم بما يليق به وفي الإقتصار على ذكر إختصاص المرجع به تعالى مع إبهام الجزاء ثوابا وعقابا من المبالغة في الوعد والوعيد ما لا يخفى وقريء ترجع بفتح التاء من الرجوع والأول أدخل في التهويل
ياأيها الناس إن وعد الله المشار إليه بقوله سبحانه وإلى الله ترجع الأمور من البعث والجزاء حق ثابت لا محالة من غير خلف فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأن يذهلكم التمتع بمتاعها ويلهيكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد والمراد نهبهم عن الإغترار بها وإن توجه النهي صورة إليها نظير قوله تعالى لا يجرمنكم شقاقي وقولك لا أرينك هنا ولا يغرنكم بالله حيث أنه جل شأنه عفو كريم رؤف رحيم الغرور 5 أي المبالغ في الغرور وهو على ما روى عن إبن عباس والحسن ومجاهد الشيطان فالتعريف للعهد ويجوز التعميم أي لا يغرنكم كل من شأنه المبالغة في الغرور بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية قائلا إن الله يغفر الذنوب جميعا فإن ذلك وإن أمكن لكن تعاطي الذنوب بهذا التوقع من قبيل تناول السم تعويلا على دفع الطبيعة وتكرير فعل النهي للمبالغة فيه ولإختلاف الغرورين في الكيفية
وقرأ أبو حيوه وأبو السمال الغرور بالضم على أنه مصدر غره يغره وإن قل في المتعدي أو جمع غار كقعود وسجود مصدرين وجمعين وعلى المصدرية الإسناد مجازي إن الشيطان لكم عدو عداوة عامة قديمة لا تكاد تزول ويشعر بذلك الجملة الأسمية و لكم وتقديمه للإهتمام فأتخذه عدوا بمخالفتكم إياه في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير 6 تقرير لعداوته وتحذير من طاعته بالتنبيه على أن غرضه في دعوة شيعته إلى إتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا ليس إلا توريطهم والقاءهم في العذاب المخلد من حيث لا يشعرون فاللام ليست للعاقبة وزعم إبن عطية أنها لها
الذين كفروا لهم عذاب شديد بسبب كفرهم وإجابتهم لدعوة الشيطان وإتباعهم لخطواته ولعل تنكير عذاب لتعظيمه بحسب المدة فكأنه قيل : لهم عذاب دائم شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة عظيمة وأجر كبير 7 لا غاية بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح و الذين كفروا مبتدأ خبره لهم عذاب وكذا الذين آمنوا ولهم مغفرة إلخ وجوز بعضهم كون الذين كفروا في موضع خفض بدلا من أصحاب السعير أو صفة له أو في موضع نصب بدلا من حزبه أو صفة له أو في موضع رفع بدلا من ضمير ليكونوا والكل مفوت لجزالة التركيب كما لا يخفى على الأريب أفمن زين له سوء عمله أي حسن له عمله السيء فرآه فأعتقده بسبب التزيين حسنا فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف و من موصولة في موضع رفع على الإبتداء والجملة بعدها صلتها والخبر محذوف والفاء للتفريع والهمزة للإنكار فإن كانت مقدمة من تأخير كما هو رأي سيبويه والجمهور في نظير ذلك فالمراد تفريع إنكار على ما قبلها من الحكمين السابقين أي إذا كانت عاقبة كل من الفريقين ما ذكر فليس الذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فأعتقده
(22/168)
حسنا وأنهمك فيه كمن أستقبحه وأجتنبه وأختار الإيمان والعمل الصالح وإن كانت في محلها الأصلي وكان العطف على مقدر تكون هي داخلة إليه كما ذهب إليه جمع فالمراد ما في حيزها ويكون التقدير أهما أي الذين كفروا والذين آمنوا وعملوا الصالحات متساويان فالذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فأعتقده حسنا وأنهمك فيه كمن أستقبحه وأجتنبه وأختار الإيمان والعمل الصالح أي ماهما متساويان ليكون الذي زين له الكفر كمن أستقبحه وحذف هذا الخبر لدلالة الكلام عليه وإقتضاء النظم الجليل إياه وقد صرح بالجزأين في نظير الآية الكريمة من قوله تعالى : أمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله وقوله سبحانه : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى وقوله عزوجل : أو من كان ميتا فأحييناه وجعلناه له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات وفي التعبير عن الكافر بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا إشارة إلى غاية ضلاله حتى كأنه غلب على عقله وسلب تمييزه فشأن المغلوب على عقله ذلك كما يشير إليه قول أبي نواس : أسقني حتى تراني حسنا عندي القبيح وظاهر كلام الزجاج أن من شرطية حيث قال : الجواب على ضربين أحدهما ما يدل عليه قوله تعالى : فلا تذهب نفسك إلخ ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليهم حسرة وثانيهما ما يدل عليه قوله تعالى : فإن الله إلخ ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله تعالى وإلى ذلك ذهب إبن مالك أيضا وأعترض إبن هشام على التقدير الثاني بأن الظرف لا يكون جوابا وإن قلنا إنه جملة ووجهه أن الرضى صرح بأنه لا يكون مستقرا في غير الخبر والصفة والصلة والحال ولم يذكر الجواب لا أن ذلك لعدم الفاء وتقديرها داخلة على مبتدأ يكون الظرف خبره والجملة بتمامها جزاء غير جائز لما فيه من التكلف كما قيل
وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون الزجاج قد ذهب إلى أن من موصولة وأطلق على خبرها الجواب لشبهه به في المعنى ألا تراهم يدخلون الفاء في خبر الموصول الذي صلته جملة فعلية كما يدخلونها في جواب الشرط فيقولون الذي يأتيني فله درهم وفيه أنه خلاف الظاهر ولا قرينة على إرادته سوى عدم صحة الجزائية وضعف التقدير الأول بالفصل بين ما فيه الحذف ودليل المحذوف مع خفاء ربط الجملة بما قبلها عليه ولا ينبغي أن تكون من شرطية جوابها فرآه لما في ذلك من الركاكة الصناعية فإن الماضي في الجواب لا يقترن بالفاء بدون قد مع خفاء أمر إنكار رؤية سوء العمل حسنا بعد التزيين وتفريعه على ما قبله من الحكمين وكون الإنكار لما أن المزين هو الشيطان العدو والتفريع على قوله تعالى إن الشيطان لكم عدو فأتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير لا يخفى حاله فالوجه المعول عليه ما تقدم جعل عليه وقوله تعالى : فإن الله يضل من يشآء ويهدي من يشاء تعليلا لسببية التزيين لرؤية القبيح حسنا و فيه دفع إستبعاد أن يرى الشخص القبيح حسنا بتزيين العدو إياه ببيان أن ذلك بمشيئة الله عزوجل التابعة للعلم المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وإيذان بأن أولئك الكفرة الذين زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا ممن شاء الله تعالى ضلالهم وقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات تفريع عليه أي إذا كان الأمر كذلك فلا تذهب نفسك إلخ وذكر المولى سعدي جلبي أن الهمزة في أفمن على التقدير الأول من التقديرين اللذين
(22/169)
نقلا عن الزجاج لإنكار ذهاب نفسه عليه عليهم حسرة والفاء في قوله سبحانه فإن الله إلخ تعليل لما يفهمه النظم الجليل من أنه لا جدوى للتحسر وفي الكشاف أنه تعالى لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا قال سبحانه لنبيه أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا يعني أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فكأن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال لا فقال تعالى فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ويفهم من كلام الطيبي أن فاء فلا تذهب جزائية وفاء فإن الله للتعليل وأن الجملة مقدمة من تأخير فقد قال : إنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان حريصا على إيمان القوم وأن يسلك الضالين في زمرة المهتدي فقيل له عليه الصلاة و السلام على سبيل الإنكار لذلك : أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فلا بد أن يقر بالنفي ويقول لا فحينئذ يقال له فإذا كان كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فقدم وأخر إنتهى وفيه نظر وفي الآيات على ما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري لف ونشر وبذلك صرح الطيبي ثم قال : الأحسن أن تجعل الآيات من الجمع والتقسيم والتفريق فقوله تعالى ياأيها الناس إن وعد الله حق جمع الفريقين معافى حكم نداء الناس وجمع مالهما من الثواب والعقاب في حكم الوعد وحذرهما معا عن الغرور بالدنيا والشيطان وأما التقسيم فهو قوله تعالى الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير وأما التفريق فقوله تعالى أفمن زين له سوء عمله لأنه فرق فيه وبين التفاوت بين الفريقين كما قال الزمخشري أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له وفرع على ذلك ظهور أن الفاء في أفمن للتعقيب والهمزة الداخلة بين المعطوف والمعطوف عليه لإنكار المساواة وتقرير البون العظيم بين الفريقين وأن المختار من أوجه ذكرها السكاكي في المفتاح تقدير كمن هداه الله تعالى فحذف لدلالة فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولهم في نظم الآيات الكريمة كلام طويل غير ما ذكرناه من أراده فليتبع كتب التفاسير و العربية ولعل فيما ذكرناه مقنعا لمن أوتي ذهنا سليما وفهما مستقيما
والحسرات جمع حسرة وهي الغم على ما فاته والندم عليه كأنه أنحسر عنه ما حمله على ما أزتكبه أو أنحسر قواه من فرط غم أو أدركه أعياء عن تدارك ما فرط منه وأنتصبت على أنها مفعول من أجله أي فلا تهلك نفسك للحسرات والجمع مع أن الحسرة في الأصل مصدر صادق على القليل والكثير للدلالة على تضاعف إغتمامه عليه الصلاة و السلام على أحوالهم أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر و عليهم صلة تذهب كما يقال هلك عليه حبا ومات عليه حزنا أو هو بيان للمتحسر عليه فيكون ظرفا مستقرا ومتعلقه مقدر كأنه قيل : على من تذهب فقيل : عليهم وجوز أن يتعلق بحسرات بناء عل أنه يغتفر تقديم معمول المصدر عليه إذا كان ظرفا وهو الذي أختاره والزمخشري لا يجوز ذلك وجوز أن يكون حسرات حالا من نفسك كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر كما قال جرير : مشق الهواجر لحمهن مع السرى حتى ذهبن كلاكلا وصدورا يريد رجعهن كلاكلا وصدورا أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها وهو الذي ذهب إليه سيبويه في البيت وقال المبرد : كلاكلا وصدورا تمييز محول عن الفاعل أي حتى ذهب كلا كلها وصدورها ومن هذا قوله : فعلى أثرهم تساقط نفسي حسرات وذكرهم لي سقام
(22/170)
وفيه مبالغات ثلاث وقرأ عبيد بن عمير زين مبنيا للفاعل ونصب سوأ وعنه أيضا أسوأ على وزن أفعل وأريد بأسوأ عمله الشرك وقرأ طلحة أمن بغير فاء قال صاحب اللوامح : فالهمزة للإستخبار والتقرير ويجوز أن تكون للنداء وحذف ما نودي لأجله أي تفكر وأرجع إلى الله فإن الله إلخ والظاهر أنها للإنكار كما في قراءة الجمهور وقرأ أبو جعفر وقتادة وعيسى والأشهب وشيبة وأبو حيوة وحميد والأعمش وإبن محيصن تذهب من أذهب مسندا إلى ضمير المخاطب نفسك بالنصب على المفعولية ورويت عن نافع
إن الله عليم بما يصنعون 8 في موضع التعليل لما قبله وفيه للكفرة أي أنه تعالى عليم بما يصنعونه من القبائح فيجازيهم عليه والآيات من قوله تعالى أفمن زين له سوء عمله إلى هنا نزلت على ما روى عن إبن عباس في أبي جهل ومشركي مكة وأخرج جوبير عن الضحاك أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه وأبي جهل حيث هدى الله تعالى عمر وأضل أبا جهل والله الذي أرسل الرياح مبتدأ وخبر وقرأ حمزة والكسائي وإبن كثير الريح وصيغة المضارع في قوله تعالى فتثير سحابا لحكاية الحال الماضية إستحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة وكثيرا ما يفعلون ذلك بفعل فيه نوع تميز وخصوصية بحال تستغرب أوتهم المخاطب أو غير ذلك ومنه قول تأبط شرا : إلا من مبلغ فتيان فهم بما لا قيت عند رحى بطان بأني قد رأيت الغول تهوى بسهب كالصحيفة صحصحان فقلت لها كلانا نضو أرض أخو سفر فخلى لي مكاني فشدت شدة نحوي فأهوت لها كفي بمصقول يماني فأضربها بلا دهش فخرت صريعا لليدين وللجران ولأن الإثارة خاصية للرياح وأثر لاينفك في الغالب عنها فلا يوجد إلا بعد إيجادها فيكون مستقبلا بالنسبة إلى الإرسال وعلى هذا يكون إستعمال المضارع على ظاهره وحقيقته من غير تأويل لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم والفاء دالة على عدم تراخي ذلك وهو شيء آخر وجوز أن يكون الإتيان بما يدل على الماضي ثم بما يدل على المستقبل إشارة إلى إستمرار الأمر وأنه لا يختص بزمان دون زمان إذ لا يصح المضي والإستقبال في شيء واحد سلا إذا قصد ذلك وقال الإمام : إختلاف الفعلين لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى الله تعالى وما يفعل سبحانه يكون بقوله عزوجل كن فلا يبقى في العدم زمانا ولا جزء زمان جيء بلفظ الماضي دون المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ولأنه تعالى فرغ من كل شيء فهو سبحانه قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال ولما أسند فعل الإثارة إلى الرياح وهي تؤلف في زمان قال سبحانه : تثير بلفظ المستقبل
وأورد عليه قوله تعالى : في سورة الروم الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا وفي سورة الأعراف وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حيث جيء في الإرسال فيها بالمضارع فتأمل
فسقناه إلى بلد ميت قطعة من الأرض لا نبات فيها وقريء ميت بالتخفيف وهما بمعنى واحد في المشهور
(22/171)
وفي كليات أبي البقاء الكفوي الميت بالتخفيف هو الذي مات والميت بالتشديد والمائت هو الذي لم يمت بعد وأنشد ومن يك ذا روح فذلك ميت وما الميت إلا من إلى القبر يحمل والمعول عليه هو المشهور فأحيينا به الأرض أي بالمطر النازل منه المدلول عليه بالسحاب فإن بينهما تلازما في الذهن كما في الخارج أو بالسحاب فإنه سبب السبب وإحياء الأرض إنبات الشجر والكلأ فيها بعد موتها يبسها وخلوها عن ذلك وإيراد الفعلين بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق وأسنادهما إلى نون العظمة المنبيء عن الإختصاص به تعالى لما فيهما من مزيد الصنع ولتكميل المماثلة بين أحياء الأرض وبين البعث الذي شبه به بقوله تعالى : كذلك النشور 9 في كمال الإختصاص بالقدرة الربانية وقال الإمام عليه الرحمة : اسند أرسل إلى الغائب وساق وأحيي إلى المتكلم لأنه في الأول عرف سبحانه نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال تعالى : انا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض ففي الأول كان تعريفا بالفعل العجيب وفي الثاني كان تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمتي الرياح والسحب بالسوق والأحياء وهو كما ترى
وقال سبحانه : فأحيينا به الأرض دون فأحييناه أي البلد الميت به تعليقا للأحياء بالجنس المعلوم عند كل أحد وهو الأرض ولأن دلك أوفق بأمر البعث وقال تعالى : بعد موتها مع أن الأحياء مؤذن بذلك لما فيه من الإشارة إلى أن الموت للأرض الذي تعلق بها الأحياء معلوم لهم وبذلك يقوى أمر التشبيه فليتأمل
والنشور على ما في البحر مصدر نشر الميت إذا حيي قال الأعشى : حتى يقول الناس مما رأوا ياعجبا للميت الناشر وفي نهاية إبن الأثير يقال نشر الميت ينشر نشورا إذا عاش بعد الموت وأنشره الله تعالى أحياه وقال الراغب : قيل نشر الله تعالى الميت وأنشره بمعنى والحقيقة أن نشر الله تعالى الميت مستعار من نشر الثوب أي بسطه كما قال الشاعر : طوتك خطوب دهرك بعد نشر كذاك خطوبه طيا ونشرا والمراد بالنشور هنا إحياء الأموات في يوم الحساب وهو مبتدأ والجار والمجرور قبله في موضع الخبر وقيل الكاف في حيز الرفع على الخبرية أي مثل ذلك الأحياء الذي تشاهدونه إحياء الأموات يوم القيامة في صحة المقدورية وسهولة التأتي من غير تفاوت بينهما أصلا سوى الألف في الأول دون الثاني وقال أبو حيان : وقع التشبيه بجهات لما قبلت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة أو كما أن الريح تجمع قطع السحاب كذلك يجمع الله تعالى أجزاء الأعضاء وأبعاض الموتى أو كما يسوق سبحانه السحاب إلى البلد الميت يسوق عزوجل الروح والحياة إلى البدن وقال بعضهم : التشبيه بإعتبار الكيفية
فقد أخرج إبن جرير وغيره عن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فلا يبقى خلق لله في السموات إلا من شاء الله تعالى إلا مات ثم يرسل الله تعالى من تحت العرش ماء كمني الرجال فتنبت أجسامهم من ذلك الماء وقرأ الآية ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إل جسدها وفي حديث مسلم مرفوعا ينزل الله تعالى مطرا كأنه الطل فينبت أجساد الناس
(22/172)
ونبات الأجساد من عجب الذنب على ما ورد في الآثار وقد جاء أنه لا يبلى وهو العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز وقال أبو زيد الوقواقي : هو جوهر فرد يبقى من هذه النشأة لا يتغير ولا حاجة إلى إلتزام أنه جوهر فرد ووراء ذلك أقوال عجيبة في هذا العجب فقيل هو العقل الهيولاني وقيل بل الهيولي وعن الغزالي إنما هو النفس وعليها تنشأ الآخرة وعن الشيخ الأكبر أنه العين الثابت من الإنسان وعن بعض المتكلمين أنه الأجزاء الأصلية وقال الملأ صدرا الشيرازي في أسفاره : هو عندنا القوة الخيالية لأنه آخر الأكوان الحاصلة في الإنسان من القوى الطبيعية والحيوانية والنباتية المتعاقبة في الحدوث للمادة الإنسانية في هذا العالم وهي أول الأكوان الحاصلة في النشأة الآخرة ثم بين ذلك بما بين وأنه لأضعف من بيت العنكبوت وأوهن والمعول عليه ما يوافق فهم أهل اللسان وأي حاجة إلى التأويل بعد التصديق بقدرة الملك الديان جل شأنه وعظم سلطانه
من كان يريد العزة الشرف والمنعة من قولهم أرض عزاز أي صلبة وتعريفها للجنس والآية في الكافرين كانوا يتعززون بالأصنام كما قال تعالى : وأتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطاة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال سبحانه : الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة ومن أسم شرط وما بعده فعل الشرط والجمع بين كان ويريد للدلالة على دوام الإرادة وإستمرارها وقوله تعالى : فلله العزة جميعا دليل الجواب ولا يصح جعله جوابا من حيث الصناعة لخلوه عن ضمير يعود على من وقد قالوا : لا بد أن يكون في جملة الجواب ضمير يعود على أسم الشرط إذا لم يكن ظرفا والتقدير من كان يريد العزة فليطلبها من الله تعالى فلله وحده لا لغيره العزة فهو سبحانه يتصرف فيها كما يريد فوضع السبب موضع المسبب لأن الطلب ممن هي له وفي ملكه جميعها مسبب عنه وتعريف العزة للإستغراق بقرينة جميعا وإنتصابه على الحال والمراد عزة الدنيا والآخرة وتقديم الخبر على المبتدأ للإختصاص كما أشرنا إليه
ولا ينافي ذلك قوله تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين لأن ما لله تعالى وحده العزة بالذات وما للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم العزة بواسطة قربه من الله تعالى وما للمؤمنين العزة بواسطة الرسول عليه الصلاة و السلام وكأنه للإشارة إلى ذلك أعيد الجار وقدر بعضهم الجواب فليطع الله تعالى وأيد بما رواه أنس كما في مجمع البيان عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز ومن قدر فليطلبها من الله تعالى قال : إن الطلب منه تعالى إنما يكون بالطاعة والإنقياد وعن الفراء المعنى من كان يريد علم العزة أي القدرة على القهر لمن هي فلينسبها إلى الله تعالى فهي له تعالى وحده وقيل : المعنى من كان يريد العزة أي الغلبة فهو مغلوب لأن الغلبة لله تعالى وحده ولا تتم إلا به عزوجل ونسب هذا إلى مجاهد وقيل : تعريف العزة الأولى للإستغراق أيضا أو للعهد والمراد الفرد الكامل والمعنى من كان يريد العزة جميعها أو الفرد الكامل منها وهي العزة التي لا يشوبها ذلة من وجه فهو لا ينالها فإنها لله تعالى وحده وهذا القول أحسن من القولين قبله وأظهر الأقوال عندي الأول وهو منسوب إلى قتادة وقوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب إلى آخره كالبيان لطريق تحصيل العزة وسلوك السبيل إل نيلها وهو الطاعة القولية والفعلية وقيل : بيان لكون
(22/173)
العزة كلها لله تعالى وبيده سبحانه لأنها بالطاعة وهي لا يعتد بها ما لم تقبل وقيل : إستئناف كلام وعلى الأول المعول و الكلم أسم جنس جمعي عند جمع واحده كلمة والمراد بالكلم الطيب على ما في الكشاف والبحر عن إبن عباس لا إله إلا الله ومعنى كونه طيبا على ما قيل أن العقل السليم يسيطيبه ويستلذه لما فيه من الدلالة على التوحيد الذي هو مدار النجاة والوسيلة إلى النعيم المقيم أو يستلذه الشرع أو الملائكة عليهم السلام وقيل : إنه حسن يقبله العقل ولا يرده وإطلاق الكلم على ذلك إن كان واحده الكلمة بالمعنى الحقيقي ظاهر لتضمنه عدة كلمات لكن في وصفه بالطيب بالنظر إلى غير الأسم الجليل خفاء ولعل ذلك بإعتبار خصوصية التركيب وإن كان واحده هنا الكلمة بالمعنى المجازي كما في قوله تعالى وتمت كلمة ربك وكلا إنها كلمة هو قائلها وقوله عليه الصلاة و السلام : أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد وقولهم لا إله إلا الله كلمة التوحيد إلى ما لا يحصى كثرة فإطلاق الكلم على ذلك لتعدده بتعدد القائل : وكأن القرينة على إرادة المعنى المجازي للكلمة الصادق على الكلام الوصف بالطيب بناء على أن ما يستطيب ويستلذ هو الكلام دون الكلمة العرية عن إفادة حكم تنبسط منه النفس أو تنقبض
أو يقال : إن كثرة إطلاق الكلمة على الكلام وشيوعه فيما بينهم حتى قال بعضهم كما نقل الحمصي في حواشي التصريح عن بعض شراح الآجرومية أنه حقيقية لغوية تغني عن القرينة وأخرج إبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن الحبر أنه فسر الكلم الطيب بذكر الله تعالى وقيل : هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهو ظاهر أثر أخرجه إبن مردويه والديلمي عن أبي هريرة
وقيل : هو سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله وهو ظاهر أثر أخرجه جماعة عن إبن مسعود وأخرجه إبن أبي حاتم عن شهر بن حوشب أنه القرآن وقيل : هو الثناء بالخير على صالحي المؤمنين وقيل : هو الدعاء الذي لا ظلم فيه وقال الإمام وبه أقتدي : المختار أنه كل كلام هو ذكر الله تعالى أو هو لله سبحانه كالنصيحة والعلم وأما ما أفاده كلام الملا صدرا في أسفاره من أنه النفوس الطاهرة الزكية فإنه تطلق الكلمة على النفس إذا كانت كذلك كما قال تعالى في عيسى عليه السلام وكلمته ألقاها إلى مريم فلا ينبغي أن يعد في عداد أقوال المفسرين كما لا يخفى وصعود الكلم إليه تعالى مجاز مرسل عن قبوله بعلاقة اللزوم أو إستعارة بتشبيه القبول بالصعود وجوز أن يجعل الكلم مجازا عما كتب فيه بعلاقة الحلول أو يقدر مضاف أي إليه يصعد صحيفة الكلم الطيب أو يشبه وجوده الخارجي هنا ثم الكتابي في السماء بالصعود ثم يطلق المشبه به على المشبه ويشتق منه الفعل على ما هو المعروف في الإستعارة التبعية وقيل : لا مانع من إعتبار حقيقة الصعود للكلم فلله تعالى تجسيد المعاني وكون الصعود إليه عزوجل من المتشابه والكلام فيه شهير والكلام بعد ذلك كناية عن قبوله والإعتناء بشأن صاحبه وتقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وإبن مسعود رضي الله تعالى عنه والسلمي وإبراهيم يصعد من أصعد للكلام الطيب بالنصب وقال إبن عطية : وقرأ الضحاك يصعد بضم الياء ولم يذكر مبنيا للفاعل ولا مبنيا للمفعول ولا إعراب ما بعده وفي الكشاف وقريء إليه يصعد الكلم الطيب على البناء للمفعول و إليه يصعد الكلم الطيب من أصعد والمصعد هو الرجل أي يصعد إلى الله عزوجل الكلم الطيب وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما إليه يصعد من صعد الكلام بالرفع
والعمل الصالح يرفعه مبتدأ وخبر عل ىالمشهور وأختلف في فاعل يرفع فقيل ضمير يعود على العمل
(22/174)
الصالح وضمير النصب يعود على الكلم أي والعمل الصالح برفع الكلم الطيب وروى ذلك عن إبن عباس والحسن وإبن جبير ومجاهد والضحاك : وشهر بن حوشب على ما أخرجه عنه سعيد بن منصور وغيره
وأخرج إبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن إبن عباس أنه فسر العمل الصالح بأداء الفرائض ثم قال : فمن ذكر الله تعالى وأدى فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى فصعد به إلى الله تعالى ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله وكان عمله أولى به وتعقب ذلك إبن عطية فقال : هذا قول يرد معتقد أهل السنة ولا يصح عن إبن عباس والحق أن العاصي بترك فرائضه إذا ذكر الله تعالى وقال كلاما طيبا كتب له ذلك وتقبل منه وعليه وزر ترك الفرائض والله تعالى يتقبل من كل من إتقى الشرك إنتهى
ولعل المراد برفع العمل الصالح الكلم الطيب رفع قدره وجعله بحيث يترتب عليه من الثواب ما لم يترتب عليه إذا كان بلا عمل وحديث لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصالة السنة المذكور في الكشاف لا أظن صحته وقيل : إنه لو سلم صحته فالمراد نفي القبول التام ويجوز أن يكون المراد برفعه إياه تحقيقه وتقويته وذلك بإعتبار أن الكلام الطيب هو الإيمان فإنه لا شك أن العمل الصالح يثبت الإيمان ويحققه بإظهار آثاره إذ به يعلم التصديق القلبي وقيل : الفاعل ضمير يعود على الكلم الطيب وضمير النصب يعود على العمل الصالح أي يرفع الكلم الطيب العمل الصالح
ونسب أبو حيان هذا القول إلى أبي صالح وشهر بن حوشب وأيد بقراءة عيسى وإبن أبي عبلة والعمل الصالح بالنصب على الإشتغال وفيه بحث لعدم تعين ضمير الكلم للفاعلية عليها ومعنى رفع الكلم الطيب العمل الصالح قيل أن يزيده بهجة وحسنا ومن فسر الكلم الطيب بالتوحيد قال : معنى ذلك جعله مقبولا فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد وقيل : الفاعل ضميره تعالى وضمير النصب يعود على العمل وأخرج ذلك إبن المبارك عن قتادة أي والعمل الصالح يرفعه الله تعالى ويقبله قال إبن عطية : هذا أرجح الأقوال عندي وقيل : ضمير الفاعل يعود على العمل وكذا الضمير المنصوب والكلام على حذف مضاف أي والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه ونسب ذلك أبو حيان إلى إبن عباس ثم قال : ويجوز عندي أن يكون العمل معطوفا على الكلم و يرفعه إستئناف إخبار أي يرفعهما الله تعالى ووحد الضمير لإشتراكهما في الصعود والضمير قد يجري مجرى أسم الإشارة فيكون لفظه مفردا والمراد به التثنية فكأنه قيل : ليس صعودهما من ذاتهما بل ذلك برفع الله تعالى إياهما وهو خلاف الظاهر جدا ومثله ما نسبه إلى إبن عباس وأنا لا أظن صحة نسبته إليه وعلى التسليم يحتمل أنه رضي الله تعالى عنه أراد بقوله العمل الصالح يرفع عامله ويشرفه بيان ما تشير إليه الآية في الجملة والذي يتبادر إلى ذهني من الآية ما روى عن قتادة وأختاره إبن عطية وتخصيص العمل الصالح برفع الله تعالى إياه على ذلك قيل لما فيه من الكلفة والمشقة إذ هو الجهاد الأكبر وظاهر هذا أن العمل أشرف من الكلام ولا كلام في ذلك إذا أريد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي كالتصديق ولعل الكلام عليه نظير قوله تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا وقوله سبحانه سبحان الذي أسرى بعبده وكلام الإمام صريح في أن الكلم الطيب المفسر بالذكر أشرف من العمل حيث جعل صعود الكلم بنفسه دليل ترجيحه على العمل الذي يرفعه غيره وقال في وجه ذلك : الكلام شريف فإن إمتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة
(22/175)
أمن من عذاب الدارين إن كان ذلك عن صدق وأمن في نفسه ودمه وحرمه في الدنيا إن كان ظاهرا ولا كذلك العمل بالجوارح وأيضا أن القلب هو الأصل وما فيه لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يبين صدقه إلا بالفعل فالقول أقرب إلى القلب من الفعل فيكون أشرف منه وفي القلب منه شيء فتدبر
والذين يمكرون السيآت أي المكرات السيآت أو أصناف المكرات السيآت على أن السيآت صفة لمحذوف وليس مفعولا به ليمكرون لأن مكر لازم وجوز أن يكون مفعولا على تضمين يقصدون أو يكسبون وعلى الأول فيه مبالغة للوعيد الشديد على قصد المكر أو هو إشارة إلى عدم تأثير مكرهم والموصول مبتدأ وجملة قوله تعالى لهم عذاب شديد خبره أي لهم بسبب مكرهم عذاب شديد لا يقادر قدره ولا يعبأ بالنسبة إليه بما يمكرون والآية على ما روى عن أبي العالية في الذين مكروا برسول الله في دار الندوة كما قال تعالى وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك والمضارع لحكاية الحال الماضية ووضع أسم الإشارة موضع ضميرهم في قوله سبحانه ومكر أولئك للإيذان بكمال تميزهم بما هم عليه من الشر والفساد عن سائر المفسدين وإشتهارهم بذلك وما فيه من معنى البعد للتنبيه على ترامي أمرهم في الطغيان وبعد منزلتهم في العدوان أي ومكر أولئك المفسدين المشهورين هو يبور 01 أي يفسد وأصل البوار فرط الكساد أو الهلاك فأستعير هنا للفساد عدم التأثير لأن فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد أو لأن الكاسد يكسد في الغالب لفساده ولأن الهالك فاسد لا أثر له و مكر مبتدأ خبره جملة هو يبور وتقديم الضمير للتقوى أو الإختصاص أي مكرهم هو يفسد خاصة لا مكرنا بهم وأجاز الحوفي وأبو البقاء كون الخبر جملة يبور و هو ضمير فصل وتعقبه في البحر بأن ضمير الفصل لا يكون ما بعده فعلا ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمنا إلا عبدالقاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلا ورد ذلك عليه
وجوز أبو البقاء أيضا كون هو تأكيدا للمبتدأ والظاهر ما قدمناه وقد أبار الله تعالى أولئك الماكرين بعد إبارة مكرهم حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي أكتفوا في حقه عليه الصلاة و السلام بواحدة منهن وحقق عزوجل فيهم قوله سبحانه : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين وقوله تعالى : ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ووجه إرتباط الآية بم قبلها على ما ذكره شيخ الإسلام أنها بيان لحال الكلم الخبيث والعمل السيء وأهلمها بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح
وقال في الكشف : كأنه لما حصر سبحانه العزة وخصها به تعالى يعطيها من يشاء وأرشد إلى نيل ما به ينال ذلك المطلوب ذكر على سبيل الإستطراد حال من أراد العزة من عند غيره عزوجل وأخذ في إهانة من أعزه الله تعالى فوق السماكين قدرا وما رجع إليهم من وبال ذلك كالإستشهاد لتلك الدعوى وهو خلاصة ما ذكره الطيبي في وجه الإنتظام وروى عن مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب أن الآية في أصحاب الرياء وهي متصلة بما عندها على ما روى عن شهر حيث قال : والذين يمكرون السيآت أي يراؤن ومكر أولئك هو يبور هم أصحاب الرياء عملهم لا يصعد وقال الطيبي : إن الجملة على هذه الرواية عطف على جملة الشرط والجزاء أعني قوله تعالى : من كان يريد العزة إلخ فيجب حينئذ مراعاة التطابق بين القرينتين والتقابل بين الفقرتين بحسب الإمكان بأن يقدر في كل منهما ما يحصل به التقابل بدلالة المذكور في الأولى على المتروك في الأخرى وبالعكس
(22/176)
ولا يخفى بعده وأياما كان فالمضارع للإستمرار التجددي والله خلقكم من تراب دليل آخر على صحة البعث والنشور أي خلقكم إبتداء في ضمن خلق آدم عليه السلام خلقا إجماليا ثم من نطفة أي ثم خلقكم منها خلقا تفصيليا ثم جعلكم أزواجا أي أصنافا ذكرانا وإناثا كما قال سبحانه : أو يزوجهم ذكرانا وإناثا وأخرجه إبن أبي حاتم عن السدى وأخرج هو وغيره عن قتادة أنه قال قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم بعضا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه حال من الفاعل ومن زائدة أي إلا ملتبسة بعلمه تعالى ومعلومية الفاعل راجعة إلى معلومية أحواله مفصلة ومنها حال ما حملته الأنثى ووضعته فجعله من ذلك أبلغ معنى وأحسن لفظا من جعله من المفعول أعني المحمول والموضوع لأن المفعول محذوف متروك كما صرح به الزمخشري في حم السجدة وجعله حالا من الحمل والوضع أنفسهما خلاف الظاهر وما يعمر من معمر أي من أحد أي وما يمد في عمر أحد وسمى معمرا بإعتبار الأول نحو إني أراني أعصر خمرا ومن قتل قتيلا على ماذكر غير واحد وذا لئلا يلزم تحصيل الحاصل وجوز أن يقال لأن يعمر مضارع فيقتضي أن لا يكون معمرا بعد ولا ضرورة للحمل على الماضي ولا ينقص من عمره الضمير عائد على معمر آخر نظير ما قال إبن مالك في عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر ولا يضر في ذلك إحتمال أن يكون المراد مثل نصفه لأنه مثال وهو إستخدام أو شبيه به وإلى ذلك ذهب الفراء وبعض النحويين ولعله الأظهر وفسروا المعمر بالمزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله تعالى : ولا ينقص إلخ وهو الذي دعاهم إلى إرجاع الضمير إلى نظير المذكور دون عينه ضرورة أنه لا يكون المزيد في عمره منقوصا من عمره وقيل : عليه هب أن مرجع الضمير معمر آخر أليس قد نسب النقص في العمر إلى معمر وقد قلتم إنه المزاد عمره أجيب بأن الأصل وما يعمر من أحد فسمى معمرا بإعتبار ما يؤول إليه وعاد الضمير بإعتبار الأصل المحول عنه فمآل ذلك ولا ينقص من عمر أحد أي ولا يجعل من إبتداء الأمر ناقصا فهو نظير قولهم ضيق فم الركية وقال آخرون : الضمير عائد على المعمر الأول بعينه والمعمر هو الذي جعل الله تعالى له عمرا طال أو قصر ولا مانع أن يكون المعمر ومن ينقص من عمره شخصا واحدا والمراد بنقص عمره ما يمر منه وينقضي مثلا يكتب عمره مائة سنة ثم يكتب تحته مضى يوم مضى يومان وهكذا حتى يأتي إلخ وروى هذا عن إبن عباس وأبي مالك وحسان بن عطية والسدي وقيل بمعناه : حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منها أنتقصت به جزأ وقيل الزيادة والنقص في عمر واحد بإعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح كما ورد في الخبر الصدقة تزيد في العمر فيجوز أن يكون أحد معمرا أي مزادا في عمره إذا عمل عملا وينقص من عمره إذا لم يعمله وهذا لا يلزم منه تغيير التقدير لأنه في تقديره تعالى معلق أيضا وإن كان ما في علمه تعالى الأزلي وقضائه المبرم لا يعتريه محو على ما عرف عن السلف ولذا جاز الدعاء بطول العمر
وقال كعب : لو أن عمر رضي الله تعالى عنه دعا الله تعالى أخر أجله ويعلم من هذا أن قول إبن عطية : هذا قول
(22/177)
ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين كما ذهبت إليه المعتزلة ليس بشيء ومن العجيب قول إبن كمال : النظر الدقيق بحكم بصحة أن المعمر أي الذي قدر له عمر طويل يجوز أن يبلغ ذلك العمر وأن لا يبلغ فيزيد عمره على الأول وينقص على الثاني ومع ذلك لا يلزم التغيير في التقدير لأن المقدر في كل شخص هو الأنفاس المعدودة لا الأيام المحدودة والأعوام الممدودة ثم قال : فأفهم هذ السر العجيب وكتب في الهامش حتى ينكشف لك سر إختيار حبس النفس ويتضح وجه صحة قوله عليه الصلاة و السلام إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار وتعقبه الشهاب الخفاجي بأنه مما لا يعول عليه عاقل ولم يقل به أحد غير بعض جهلة الهنود مع أنه مخالف لما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم والنسائي وإبن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عبدالله بن مسعود من قول النبي لأم حبيبة وقد قالت : اللهم أمتعني بزوجي النبي وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية سألت الله تعالى لآجال مضروبة وأيام معدودة الحديث وأطال الجلبي في رده وهو غني عنه
وقال بعضهم : يجوز أن لا يبلغ من قدر له عمر طويل ما قدر له بأن يغير ما قدر أولا بتقدير آخر ولا حجر على الله تعالى ويشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة و السلام في حديث التراويح خشيت أن تفرض عليكم وقوله في دعاء القنوت وقني شر ما قضيت وخوفه عليه من الله تعالى آلاف آلاف صلاة وسلام من قيام الساعة إذا أشتدت الريح مع إخباره بأن بين يديها خروج المهدي والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما لم يحدث بعد وغاية ما يلزم من ذلك تغير المعلوم ولا يلزم منه تغير العلم على ما بين في موضعه وعلى هذا لا إشكال في خبر الصدقة تزيد في العمر ويتضح أمر فائدة الدعاء وما يحكي عن بعضهم من نفي القضاء المبرم يرجع إليه وقد رأيت كراسة لبعض الأفاضل أطال الكلام فيها لتشييد هذا القول وتثبيت أركانه والحق عندي أن ما في العلم الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر لا يتغير ويجب أن يقع كما علم وإلا يلزم الإنقلاب وما يتبادر منه خلاف ذلك إذا صح مؤول وخبر الصدقة تزيد في العمر قيل إنه خبر آحاد فلا يعارض القطعيات وقيل المراد أن الصدقة وكذا غيرها من الطاعات تزيد فيما هو المقصود الأهم من العمر وهو إكتساب الخير والكمال والبركة الي بها تستكمل النفوس الإنسانية فتفوز بالسعادة الأبدية والدعاء حكمه حكم سائر الأسباب من الأكل والشرب والتحفظ من شدة الحر والبرد مثلا ففائدته كفائدتها وقيل هو لمجرد إظهار الإحتياج والعبودية فليتدبر
وقيل الضمير للمعمر والنقص لغيره أي ولا ينقص من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره وقيل الضمير للمنقوص من عمره وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور كما قيل
وبضدها تتبين الأشياء
فيكون عائدا على ما علم من السياق أي ولا ينقص من عمر المنقوص من عمره بجعله ناقصا
وقرأ الحسن وإبن سيرين وعيسى ولا ينقص بالبناء للفاعل وفاعله ضمير المعمر أو عمره و من زائدة في الفاعل وإن كان متعديا جاز كونه ضمير الله تعالى وقرأ الأعرج من عمره بسكون الميم إلا في كتاب عن إبن عباس هو اللوح المحفوظ وجوز أن يراد به صحيفة الإنسان فقد أخرج إبن المنذر وإبن أبي حاتم عن حذيفة بن اسيد الغفاري قال قال : رسول الله : يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول يارب أشقي أم سعيد أذكر أم أنثى فيقول الله تعالى ويكتب ثم يكتب عمله
(22/178)
ورزقه وأجله وأثره ومصيبته ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها وجوز أيضا أن يراد به علم الله عزوجل وذكر في ربط الآيات أن قوله تعالى : والله خلقكم من تراب إلخ مساق للدلالة على القدرة الكاملة وقوله سبحانه : وما تحمل من أنثى إلخ للعلم الشامل وقوله عزوجل : وما يعمر من معمر إلخ لإثبات القضاء والقدر والمعنى وما يعمر منكم خطابا لأفراد النوع الإنساني وأيد بذلك الوجه الأول من أوجه وما يعمر إلخ إن ذلك أي ما ذكر من الخلق وما بعده مع كونه محارا للعقول والأفهام على الله يسير 11 لإستغنائه تعالى عن الأسباب فكذلك البعث والنشور وما يستوي البحران هذا عذب طيب فرات كاسر العطش ومزيله
وقال الراغب : الفرات الماء العذب يقال للواحد والجمع ولعل الوصف على هذا على طرز أسود حالك وأصفر فاقع سائغ شرابه سهل إنحداره لخلوه مما تعافه النفس وقرأ عيسى سيغ كميت بالتشديد وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم وقرأ عيسى أيضا سيغ كميت بالتخفيف وهذا ملح متغير طعمه التغير المعروف وقرأ أبو نهيك وطلحة ملح بفتح الميم وكسر اللام قال أبو الفتح الرازي : وهي لغة شاذة وجوز أن يكون مقصورا من مالح للتخفيف وهو مبني على ورود مالح والحق وروده بقلة وليس بلغة رديئة كما قيل
وفرق الإمام بين الملح والمالح بأن الملح الماء الذي فيه الطعم المعروف من أصل الخلقة كماء البحر والمالح الماء الذي وضع فيه ملح فتغير طعمه ولا يقال فيه إلا مالح ولم أره لغيره وقال بعضهم : لم يرد مالح أصلا وهو قول ليس بالمليح أجاج شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار وأجتها ومن هنا قيل هو الذي يحرق بملوحته وهذا مثل ضرب للمؤمن والكافر وقوله تعالى : ومن كل أي من كل واحد منهما تأكلون لحما طريا أي غضا جديدا وهو السمك على ما روى عن السدي وقيل الطير والسمك وأختار كثير الأول والتعبير عن السمك باللحم مع كونه حيوانا قيل للتلويح بإنحصار الإنتفاع به في الأكل ووصفه بالطراوة للأشعار بلطافته والتنبيه على المسارعة إلى أكله لئلا يتسارع إليه الفساد كما ينبيء عنه جعل كل من البحرين مبدأ أكله
وأستدل مالك والثوري بالآية حيث سمى فيها السمك لحما على حنث من حلف لا يأكل لحما وأكل سمكا وقال غيرهما : لا يحنث لأن مبني الأيمان على العرف وهو فيه لا يسمى لحما ولذلك لا يحنث من حلف لا يركب دابة فركب كافرا مع أن الله تعالى سماه دابة في قوله سبحانه : إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ولا يبعد عندي أن يراد بلحما لحم السمك ودعوى التوليح بإنحصار الإنتفاع بالسمك في الأكل لا أظنها تامة وتستخرجون ظاهره ومن كل تستخرجون حلية تلبسونها والحلية التي تستخرج من البحر الملح اللؤلؤ والمرجان ويلبس ذلك الرجال والنساء وإن أختلفت كيفية اللبس أو يقال عبر عن لبس نسائهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لبسهن لأجلهم ولا نعلم حلية تستخرج من البحر العذب ولا يظهر هنا إعتبار إسناد ما للبعض إلى الكل كما أعتبر ذلك في قوله تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وكون بعض الصخور التي في مجاري السيول قد تكسر فيوجد فيها ماس وهو حلية تلبس إن صح لا ينفع إعتباره هنا إذ ليس فيه إستخراج الحلية من البحر العذب ظاهرا وقيل : لا يبعد أن تكون الحلية المستخرجة من ذلك عظام السمك التي يصنع منها قبضات للسيوف
(22/179)
والخناجر مثلا فتحمل ويتحلى بها وفيه ما فيه لا سيما إذا كانت الحلية كالحلى ما يتزين به من مصنوع المعدنيات أو الحجارة وقال الخفاجي : لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره ولا يخفى ما فيه من البعد
وذهب بعض الأجلة للخلاص من القيل والقال أن المراد وتستخرجون من البحر الملح خاصة حلية تلبسونها ويشعر به كلام السدي يحتمل ثلاثة أوجه الأول أنه أستطرد في صفة البحرين وما فيهما من النعم والمنافع
والثاني أنه تتميم وتكميل للتمثيل لتفضيل المشبه به على المشبه وليس من ترشيح الإستعارة كما زعم الطيبي في شيء بل إنما هو إستدراك لدعوى الإشتراك بين المشبه والمشبه به يلزم منه أن يكون المشبه أقوى وهذا الإستدراك مخصوص بالملح وإيضاحه أنه شبه المؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل الأجاج على الكافر بأنه قد شارك الفرات في منافع والكافر خلو من النفع فهو على طريقة قوله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ثم قال سبحانه : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله والثالث أنه من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن أشتركا في بعض الفوائد تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما لم يبقه على صفاء فطرته كذلك المؤمن والكافر وإن أتفق إتفاقهما في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر فجملة ومن كل إلخ حالية وعندي خير الأوجه الثلاثة أوسطها وعلى كل يحصل الجواب عما قيل كيف يناسب ذكر منافع البحر الملح وقد شبه به الكافر وقال أبو حيان : إن قوله تعالى : وما يستوي البحران إلخ لبيان ما يستدل به كل عاقل على أنه مما لا مدخل لصنم فيه
وقال الإمام : الأظهر أنه دليل لكمال قدرة الله عزوجل وما ذكرنا أولا من أنه تمثيل للمؤمن والكافر هو المشهور رواية ودراية وفيه من محاسن البلاغة ما فيه وترى الفلك السفن فيه أي في كل منهما وانظر هل يحسن رجوع الضمير للبحر الملح لإنسياق الذهن إليه من قوله سبحانه : وتستخرجون حلية تلبسونها بناء على أن المعروف إستخراجها منه خاصة وأمر الفلك فيه أعظم من أمرها في البحر العذب ولذا أقتصر على رؤية الفلك فيه على الحال التي ذكر الله تعالى وأفرد ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق وما لحق لأن الخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط مواخر شواق للماء يجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة فالمخر الشق
قال الراغب : يقال مخرت السفينة مخرا ومخورا إذا شقت الماء بجوجئها وفي الكشاف يقال : مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب بنات مخر لأنها تمخر الهواء والسفن الذي أشتقت منه السفينة قريب من المخر لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره وقيل المخرصوت جرى الفلك وجاء في سورة النحل وترى الفلك مواخر فيه بتقديم مواخر وتأخير فيه وعكس ههنا فقيل في وجهه لأنه علق فيه هنا بتري وثمت بمواخر ولا يحسم مادة السؤال
والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذاك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق إستطرادا او تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه فيه إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك وكأن الإهتمام بما هناك أقتضى أن يقال في تلك الآية ولتبتغوا بالواو ومخالفة ما هنا لذلك
(22/180)
أقتضت ترك الواو في قوله سبحانه : لتبتغوا من فضله أي من فضل الله تعالى بالنقلة فيها وهو سبحانه وإن لم يجر له ذكر في الآية فقد جرى له تعالى ذكر فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه عز شأنه
واللام متعلقة بمواخر وجوز تعلقها بمحذوف دل عليه الأفعال المذكورة كسخر البحرين وهيأهما أو فعل ذلك لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون 21 تعرفون حقوقه تعالى فتقومون بطاعته عزوجل وتوحيده سبحانه
ولعل للتعليل على ما عليه جمع من الأجلة وقد قدمنا ذلك وقال كثير : هي للترجي ولما كان محالا عليه تعالى كان المراد إقتضاء ما ذكر من النعم للشكر حتى كأن كل أحد يترجاه من المنعم عليه بها فهو تمثيل يؤل إلى أمره تعالى بالشكر للمخاطبين يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل بزيادة أحدهما ونقص الآخر بإضافة بعض أجزاء كل منهما إلى الآخر وسخر الشمس والقمر عطف على يولج وإختلافهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد حينا فحينا وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه وإنما المتعدد والمتجدد آثاره وقد أشير إليه بقوله تعالى : كل من الشمس والقمر يجري أي بحسب حركته على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة أو بحسب حركتيه الخاصة وهي من المغرب إلى المشرق والقسرية التي هي من المشرق إلى المغرب جريانا مستمرا لأجل مسمى قدره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما روى عن الحسن
وقيل جريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما والأجل المسمى عبارة عن مجموع مدة دورتيهما أو منتهاها وهي للشمس سنة وللقمر شهر وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا ذلكم إشارة إلى فاعل الأفاعيل المذكورة وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمة وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم العظيم الشأن الذي أبدع هذه الصنائع البديعة الله ربكم له الملك وفيه من الدلالة على أن إبداعه تعالى لتلك البدائع مما يوجب ثبوت الأخبار له تعالى وفي الكشاف ويجوز في حكم الأعراب إيقاع أسم الله تعالى صفة لأسم الإشارة أو عطف بيان و ربكم خبرا لولا أن المعنى يأباه
قال في الكشف : فيه نظر لأن الأسم الجليل جار مجرى العلم فلا يجوز أن يقع وصفا لأسم الإشارة البتة لا لفظا ولا معنى وكأنه فرض على تقدير عدم الغلبة وأما إباء المعنى على تقدير تجويز الوصف فقد قيل : إن المقصود أنه تعالى المنفرد بالألهية لا أن المنفرد بالألهية هو ربكم لأن المشركين ما كانوا معترفين بالمنفرد على الإطلاق وأما عطف البيان فقيل لأنه يوهم تخييل الشركة ألا ترى أنك إذا قلت ذلك الرجل سيدك عندي ففيه نوع شركة لأن ذا أسم مبهم وكأنه أراد أن البيان حيث يذهب الوهم إلى غيره ويحتمل الشركة مناسب لا في مثل هذا المقام وأفاد الطيبي أن ذلك يشار به إلى ما سبق للدلالة على جدارة ما بعده بسبب الأوصاف السابقة ولو كان وصفا أو بيانا لكان المشار إليه ما بعده وهذا في الأول حسن دون الثاني اللهم إلا أن يكون قوله : أو عطف بيان إشارة إلى المذهب الذي يجعل الجنس الجاري على المبهم غير وصف فيكون حكمه حكم الوصف إذ ذاك وبعد أن تبين أن المقام للإشارة إلى السابق فأسم الإشارة قد يجاء به لأغراض آخر
وأبو حيان : منع صحة الوصف ية للعلمية ثم قال لا يظهر إباء المعنى ذلك ويجوز أن يكون قوله تعالى : لإه الملك
(22/181)
جملة مبتدأة واقعة في مقابلة قوله تعالى والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير 31 ويكون ذلك مقررا لما قبله من التفرد بالألهية والربوبية وإستدلالا عليه إذ حاصله جميع الملك والتصرف في المبدأ والمنتهي له تعالى وليس لغيره سبحانه منه شيء ولذا قيل إن فيه قياسا منطقيا مطويا وجوز أن يكون مقررا لقوله تعالى : والله خلقكم إلخ وقوله تعالى : يولج إلخ فجملة الذين تدعون إلخ عليه إما إستئنافية أيضا وهي معطوفة على جملة له الملك وإما حال من الضمير المستقر في الظرف أعني له وعلى الوجه الأول هي معطوفة على جملة ذلكم الله إلخ أو حال أيضا والقطمير على ما أخرج إبن جرير وغيره عن مجاهد لفافة النواة وهي القشر الأبيض الرقيق الذي يكون بين التمر والنواة وهو المعنى المشهور
وأخرج إبن جرير وإبن المنذر أنه القمع الذي هو على رأس التمرة وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القشرة على رأس النواة وهو ما بين القمع والنواة وقال الراغب إنه الأثر على ظهر النواة وقيل هو قشر الثوم وأياما كان فهو مثل للشيء الدنيء الطفيف قال الشاعر :
وأبوك يخصف نعله متوركا ما يملك المسكين من قطمير وقرأ عيسى وسلام ويعقوب يدعون بالياء التحتانية إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم إستئناف مقرر لما قبله كاشف عن جلية حال ما يدعونه بأنه جماد ليس من شأنه السماع هذا إذا كان الكلام مع عبدة الأصنام ويحتمل أن يكون مع عبدتها وعبدة الملائكة وعيسى وغيرهم من المقربين وعدم السماع حينئذ إما لأن المعبود ليس من شأنه ذلك كالأصنام وإما لأنه في شغل شاغل وبعد بعيد عن عابده كعيسى عليه السلام وروى هذا عن البلخي أو لأن الله عزوجل حفظ سمعه من أن يصل إليه مثل هذا الدعاء لغاية قبحه وثقله على سمع من هو في غاية العبودية لله سبحانه فلا يرد أن الملائكة عليهم السلام يسمعون وهم في السماء كما ورد في بعض الآثار دعاء المؤمنين ربهم سبحانه وفي نظم ذي النفوس القدسية في سلك الملائكة عليهم السلام من حيثية السماع وهم في مقار نعيمهم توقف عندى بل في سماع كل من الملائكة عليهم السلام وهم في السماء وذوي النفوس القدسية وهم في مقار نعيمهم نداء من ناداهم غير معتقد فيهم الآلهية توقف عندى أيضا إذ لم أظفر بدليل سمعي على ذلك والعقل يجوزه لكن لا يكتفي بمجرد تجويزه في القول به
ولو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ما أستجابوا لكم لأنهم لم يرزقوا قوة التكلم والسماع لا يستلزم ذلك فالمراد بالإستجابة الإستجابة بالقول ويجوز أن يراد بها الإستجابة بالفعل أي ولو سمعوا ما نفعوكم لعجزهم عن الأفعال بالمرة هذا إذا كان المدعون الأصنام وأما إذا كانوا الملائكة عليهم السلام أو نحوهم من المقربين فعدم الإستجابة القولية لأن دعاءهم من حيث زعم أنهم آلهة وهم بمعزل عن الآلهية فكيف يجيبون زاعم ذلك فيهم وفيه من التهمة ما فيه وعدم الإستجابة الفعلية يحتمل أن يكون لهذا أيضا ويحتمل أن يكون لأن نفع من دعاهم ليس من وظائفهم وقيل لأنهم يرون ذلك نقصا في العبودية والخضوع لله عزوجل
ويجوز أن يكون هذا تعليلا للأول أيضا فتأمل ويوم القيامة يكفرون بشرككم فضلا عن أن يستجيبوا لكم إذا دعوتموهم وشرك مصدر مضاف إلى الفاعل أي ويوم القيامة يجحدون إشراككم إياهم
(22/182)
وعبادتكم إياهم وذلك بأن يقدر الله تعالى الأصنام على الكلام فيقولون لهم ما كنتم إيانا تعبدون أو يظهر من حالها ظهور نار القرى ليلا على علم ما يدل على ذلك ولسان الحال أفصح من لسان المقال ومن هذا القبيل قول ذي الرمة : وقفت على ربع لمية ناطق يخاطبني آثاره وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه وإن كان المدعوون الملائكة ونحوهم فأمر التكلم ظاهر وقد حكى الله تعالى قول الملائكة للمشركين في السورة السابقة بقوله سبحانه ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ولا ينبئك مثل خبير 41 أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبيرا خبرك به يعني به تعالى نفسه كما روى عن قتادة وغيره فإنه سبحانه الخبير بكنه الأمور وهو خطاب للنبي ويجوز أن يكون غير مختص أي لا يخبرك أيها السامع كائنا من كنت مخبر هو مثل الخبير العالم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء والمراد تحقيق ما أخبر سبحانه به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم من الآلهية
وقال إبن عطية : يحتمل أن يبكون ذلك من تمام ذكر الأصنام كأنه قيل : ولا يخبرك مخبر مثل من يخبرك عن نفسه وهي قد أخبرت عن أنفسها بأنها ليست بآلهة وفيه من البعد ما فيه
ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله في أنفسكم وفيما يعن لكم من أمر مهم أو خطب ملم وتعريف الفقراء للجنس أو للإستغراق إذ لا عهد وعرف كذلك للمبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة إفتقارهم وشدة إحتياجهم هم الفقراء فحسب وأن إفتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم ولذلك قال تعالى وخلق الإنسان ضعيفا ولا يرد الجن إذ هم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الإنسان وضعفهم ليس كضعفه فلا حاجة إلى إدخالهم في الناس تغليبا على أنه قيل لا يضر ذلك إذ الكلام مع من يظهر القوة والعناد من الناس والقول أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا يخفى ما فيه وقال صاحب الفرائد : الوجه أن يقال والله تعالى أعلم المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب وأولى العلم على غيرهم وهو بعيد جدا
وقال العلامة الطيبي : الذي يقتضيه النظم الجليل أن يحمل التعريف في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لأن المخاطبين هم الذي خوطبوا في قوله تعالى ذلكم الله ربكم له الملك الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق إحتياجا إليه عزوجل ولا يخلو عن حسن والله هو الغني عن كل شيء لا غيره الحميد 51 المنعم على جميع الموجودات المستحق بأنعامه سبحانه للحمد وأصله المحمود وأريد به ذلك على طريق الكناية ليناسب ذكره بعد فقرهم إذ الغني لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادا منعما ومثله مستحق للحمد وهذا كالتكميل لما قبله كما في قول كعب الغنوي : حليم إذا ما الحلم زين أهله مع الحلم في ين العدو مهيب ويدخل في عموم المستغنى عنه المخاطبون وعبادتهم وفي كلام الطيبي رائحة التخصيص حيث قال ما سمعت
(22/183)
نقله وهو سبحانه غني عنكم وعن عبادتكم لأنه تعالى حميد له عباد يحمدونه وإن لم تحمدوه وأنتم والأولى التعميم
وما روى في سبب النزول من أنه لما كثر من النبي الدعاء وكثر الإصرار من الكفار قالوا لعل الله تعالى محتاج لعبادتنا فنزلت لا يقتضي شيئا من التخصيص في الآية كما لا يخفى إن يشأ يذهبكم أي إن يشأ سبحانه إذهابكم أيها الناس والإتيان بخلق جديد يذهبكم ويأت بخلق جديد 61 بعالم غير الناس لا تعرفونه هذا إذا كان الخطاب عاما أو إن يشأ يذهبكم أيها المشركون أو العرب ويأت بخلق جديد ليسوا على صفتكم بل مستمرون على طاعته وتوحيده وهذا إذا كان الخطاب خاصا وتفسير الجديد بما سمعت مروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وأياما كان فالجملة تقرير لإستغنائه عزوجل وما ذلك أي ما ذكر من إذهابهم والإتيان بخلق جديد على الله بعزيز 71 أي بصعب فإن أمره تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
وإن كان في الناس تغليب الحاضر على الغائب وأولى العلم على غيرهم وكان الخطاب هنا على ذلك الطراز وقلنا إن الآية تشعر بأن ما يأتي به سبحانه من العالم أبدع أشكل بحسب الظاهر قول حجة الإسلام ليس في الإمكان أبدع مما كان وأجيب بأن ذلك على فرض وقوعه داخل في حيز ما كان وهو مع هذا العالم كبعض أجزاء هذا العالم مع بعض أو بأن الأبدعية المشعور بها بمعنى والأبدعية في كلام حجة الإسلام بمعنى آخر فتدبر
ولا تزر وازرة أي لا تحمل نفس آثمة وزر أخرى أي إثم نفس أخرى بل تحمل كل نفس وزرها
ولا منافاة بين هذا وقوله تعالى في سورة العنكبوت وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم فإنه في الضالين المضلين وهم يحملون أثم إضلالهم مع إثم ضلالهم وكل ذلك آثامهم ليس فيها شيء من آثام غيرهم ولا ينافيه قوله سبحانه مع أثقالهم لأن المراد بإتفاقهم ما كان بمباشرتهم وبما معها ما كان بسوقهم وتسببهم فهو للمضلين من وجه وللآخرين من آخر وإن تدع مثقلة أي نفس أثقلتها الأوزار إلى حملها الذي أثقلها ووزرها الذي بهضها ليحمل شيء منه ويخفف عنها وقيل : أي إلى حمل حملها لا يحمل منه شيء لم تجب بحمل شيء منه والظاهر أن ولا تزر إلخ نفي للحمل الإختياري تكرما من نفس الحامل ردا لقول المضلين ولنحمل خطاياكم ويؤيده سبب النزول فقد روى أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين أكفروا بمحمد وعلى وزركم فنزلت
وهذا نفي للحمل بعد الطلب من الوازرة أعم من أن يكون إختيارا أو جبرا وإذا لم يجبر أحد على الحمل بعد الطلب والإستعانة علم عدم الجبر بدونه بالطريق الأولى فيعم النفي أقسام الحمل كلها وكذا الحامل أعم من أن يكون وازرا أم لا وجاء العموم من عدم ذكر المدعو ظاهرا وقد يقال مع ذلك : إن في الأولى نفي حمل جميع الوزر بحيث يتعرى منه المحمول عنه وفي الثاني نفي التخفيف فلا إتحاد بين مضموني الجملتين كما لا يخفى وقيل في الفرق بينهما : إن الأول نفي الحمل إجبارا والثاني نفي له إختيارا وتعقب بأن المناسب على هذا ولا يوزر على وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها أحدا لا يحمل منه شيئا وأيضا حق نفي الإجبار أن يتعرض له بعد نفي الإختيار وقيل : أن الجملة الأولى كما دلت على أن المثقل بالذنوب لا يحمل أحد من ذنوبه شيئا دلت على عدله تعالى الكامل والجملة الثانية دلت على أنه لا مستغاث من هول ذلك اليوم أيضا وهما المقصودان من الآيتين
(22/184)
فالفرق بإعتبار ذلك ولعل ما ذكرناه أولا أولى وذكر بعض الأفاضل في الجملة الأولى ثلاثة أسئلة قال في الأخيرين منها : لم أر من تفطن لهما وقد أجاب عن كل الأول أن عدم حمل الغير على الغير عام في النفس الآثمة وغير الآثمة فلم خص بالآثمة مع أن التصريح بالعموم أتم في العدل وأبلغ في البشارة وأخصر في اللفظ وذلك بأن يقال : ولا تحمل نفس حمل أخرى وجوابه أن الكلام في أرباب الأوزار المعذبين لبيان أن عذابهم إنما هو بما أقترفوه من الأوزار لا بما أقترفه غيرهم الثاني أن معنى وزر حمل الوزر لا مطلق الحمل على ما في النهاية الأثيرية حيث قال : يقال وزر يزر فهو وازر إذا حمل ما يثقل ظهره من الأشياء المثقلة ومن الذنوب فكيف صح ذكر وزر مع يرر وجوابه أنه من باب التجريد الثالث أن وازرة يفهم من تزر كما يفهم ضارب من يضرب مثلا فأي فائدة في ذكره وجوابه أنه إذا قيل ضرب ضارب زيدا فالذي يستفاد من ضرب إنما هو ذات قام بها ضرب حدث من تعلق هذا الفعل بتلك الذات ولما عبر عن ش يء بما فيه معنى الوصفية وعلق به معنى مصدري في صيغة فعل أو غيرها فهم منه في عرف اللغة أن ذلك الشيء موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسبب كما حققه بعض أجلة شراح الكشاف فيجب أن يكون معنى ضارب في المثال متصفا بضرب سابق على تعلق ضرب به وكذا يقال في ولا تزر وازرة وهذه فائدة جليلة ويزيدها جلالة إستفادة العموم إذا أورد أسم الفاعل نكرة في حيز نفي وبذلك يسقط قول العلامة التفتازاني إن ذكر فاعل الفعل بلفظ أسم فاعله نكرة قليل الجدوى جدا إنتهى
وأنت تعلم أنه من مجموع الجملتين يستفاد ما ذكره في السؤال الأول من العموم وفي خصوص هاتين الجملتين وذكرهما معا ما لا يخفى من الفائدة وفي القاموس وزره كوعده وزرا بالكسر حمله وفي الكشاف وزر الشيء إذا حمله ونحوه في البحر وعلى ذلك لا حاجة إلى التجريد فلا تغفل وأصل الحمل ما كان على الظهر من ثقيل فأستعير للمعاني من الذنوب والآثام وقرأ أبو السمال عن طلحة وإبراهيم عن الكسائي لا تحمل بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الميم وتقتضي هذه القراءة نصب شيء على أنه مفعول به لتحمل وفاعله ضمير عائد على مفعول تدعو المحذوف أي وإن تدع مثقلة نفسا إلى حملها لم تحمل منه شيئا ولو كان أي المدعو المفهوم من الدعوة ذا قربى ذا قرابة من الداعي وقال إبن عطية : أسم كان ضمير الداعي أي ولو كان الداعي ذا قرابة من المدعو والأول أحسن لأن الداعي هو المثقلة بعينه فيكون الظأهر عود الضمير عليه وتأنيثه
وقول أبي حيان ذكر الضمير حملا على المعنى لأن قوله تعالى مثقلة لا يراد بها مؤنث المعنى فقط بل كل شخص فكأنه قيل وإن يدع شخص مثقل لا يخفى ما فيه وقريء ولو كان ذو قربى بالرفع وخرج على أن كان ناقصة أيضا و ذو قربى مدعوا وجوز أن تكون تامة وتعقب بأنه لا يلتئم معها النظم الجليل لأن الجملة الشرطية كالتتميم والمبالغة في أن لا غياث أصلا فيقتضي أن يكون المعنى أن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يجيبها إلى ما دعته إليه ولو كان ذو القربى مدعوا ولو قلنا إن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يحمل مدعوها شيئا ولو حضر ذو قربى لم يحسن ذلك الحسن وملاحظة كون ذي القربى مدعوا بقرينة السياق أو تقدير فدعته كما فعل أبو حيان خلاف الظاهر فيخفي عليه أمر الإنتظام إنما تنذر إلخ إستئناف مسوق لبيان من يتعظ بما ذكر أي إنما تنذر بهذه الإنذارات ونحوها الذين يخشون ربهم بالغيب أي يخشونه
(22/185)
تعالى غائبين عن عذابه سبحانه أو عن الناس في خلواتهم أو يخشون عذاب ربهم غائبا عنهم فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول وأقاموا الصلاة أي راعوها كما ينبغي وجعلوها منارا منصوبا وعلما مرفوعا أي إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والعناد ونكتة إختلاف الفعلين تعلم مما مر في قوله تعالى الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فتذكر ما في العهد من قدم
ومن تزكى تطهر من أدناس الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذا الإنذارات فإنما يتزكى لنفسه لإقتصار نفعه عليها كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة فهذا تقرير وحث عليهما
وقرأ العباس عن أبي عمرو ومن يزكى فإنما يزكي بالياء من تحت وشد الزاي فيهما وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى فإنما يتزكى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في يذكرون وقرأ إبن مسعود وطلحة ومن أزكى بإدغام التاء في الزاي وإجتلاب همزة الوصل في الإبتداء وطلحة أيضا فإنما تزكى بإدغام التاء في الزاي وإلى الله المصير 81 لا إلى أحد غيره إستقلالا أو إشتراكا فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء وما يستوي الأعمى والبصير 91 عطف عل قوله تعالى وما يستوي البحران والأعمى والبصير مثلان للكافر والمؤمن كما قال قتادة والسدي وغيرهما وقيل هما مثلان للصنم ولله عزوجل فهو من تتمة قوله تعالى ذلكم الله ربكم له الملك والمعنى لا يستوي الله تعالى مع ما عبدتم ولا الظلمات ولا النور 02 أي ولا الباطل ولا الحق ولا الظل ولا الحرور 12 ولا الثواب ولا العقاب وقيل : ولا الجنة ولا النار والحرور فعول من الحر وأطلق كما خحكى عن الفراء على شدة الحر ليلا أو نهارا وقال أبو البقاء : هو شدة حر الشمس وفي الكشاف الحرور السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار وقيل : بالليل وما يستوي الأحياء ولا الأموات تمثيل آخر للمؤمنين الذين دخلوا في الدين بعد البعثة والكافرين الذين أصروا وأستكبروا فالتعريف كما قال الطيبي للعهد وقيل : للعلماء والجهلاء
والثعالبي جعل الأعمى والبصير مثلين لهما وليس بذاك إن الله يسمع من يشاء أي سمعه ويجعله مدركا للأصوات وقال الخفاجي وغيره : ولعل في الآية ما يقتضي أن المراد يسمع من يشاء سماع تدبر وقبول لآياته عزوجل وما أنت بمسمع من في القبور 22 ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات وأشباع في إقناطه عليه الصلاة و السلام من إيمانهم والباء مزيدة للتأكيد أي وما أنت مسمع والمراد بالسماع هنا ما أريد به في سابقه ولا يأبى إرادة السماع المعروف ماورد في حديث القليب لأن المراد نفي الأسماع بطريق العادة وما في الحديث من باب وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وإلى هذا ذهب البعض وقد مر الكلام في ذلك فلا تغفل
وما ألطف نظم هذه التمثيلات فقد شبه المؤمن والكافر أولا بالبحرين وفضل البحر الأجاج على الكافر لخلوه من النفع ثم بالأعمى والبصير مستتبعا بالظلمات والنور والظل والحرور فلم يكتف بفقدان نور البصر حتى ضم إليه فقدان ما يمده من النور الخارجي وقرن إليه نتيجة ذلك العمى والفقدان فكان فيه ترق من التشبيه الأول إليه ثم بالأحياء والأموات ترقيا ثانيا وأردف قوله سبحانه وما أنت بمسمع من في القبور
وذكر الطيبي أن إخلاء الثاني من لا المؤكدة لأنه كالتمهيد لقوله تعالى وما يستوي الأحياء ولا الأموات
(22/186)
ولهذا كرر وما يستوي وأما ذكرها في التمثيلين بعده فلأنهما مقصودان في أنفسهما إذ ما فيهما مثلان للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب دون المؤمن والكافر كما في غيرهما وإنما حملت على أنها زائدة للتأكيد إذ ليس المراد أن الظلمات في نفسها لا تستوي بل تتفاوت فمن ظلمة هي أشد من أخرى مثلا وكذا يقال فيما بعد بل المراد أن الظلمات لا تساوي النور والظل لا يساوي الحرور والأحياء لا تساوي الأموات
وزعم إبن عطية أن دخول لا على نية التكرار كأنه قيل : ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات وهكذا فأستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور الكلام على متروكه والقول بأنها مزيدة لتأكيد النفي يغني عن إعتبار هذا الحذف الذي لا فائدة فيه
وقال الإمام : كررت لا فيما كررت لتأكيد المنافاة فالظلمات تنافي النور وتضاده والظل والحرور كذلك لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد بخلاف الأعمى والبصير فإن الشخص الواحد قد يكون بصيرا ثم يعرض له العمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف وأما الأحياء والأموات فيهما وإن كانا كالأعمى والبصير من حيث أن الجسم الواحد قد يكون حيا ثم يعرض له الموت لكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير فإنهما قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت كيف والميت مخالف الحي في الحقيقة على ما تبين في الحكمة الآلهية وقيل لم تكر قيل وكررت بعد لأن المخاطب في أول الكلام لا يقصر في فهم المراد وقيل كررت فيما عدا الأخير لأنه لو قيل وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور مثلا لتوهم نفي الإستواء بين مجموع الأعمى والبصير ومجموع الظلمات والنور وفي الأخير للإعتناء وإدخال لا على المتقابلين لتذكير نفي الإستواء وقدم الأعمى على البصير مع أن البصير أشرف لأنه إشارة إلى الكافر وهو موجود قبل البعثة والدعوة إلى الإيمان ولنحو هذا قدم الظلمات على النور فإن الباطل كان موجودا فدمغه الحق ببعثته عليه الصلاة و السلام ولم يقدم الحرور على الظل ليكون على طرز ما سبق من تقديم غير الأشرف بل قدم الظل رعاية لمناسبته للعمى والظلمة من وجه أو لسبق الرحمة مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة
وقدم الأحياء على الأموات ولم يعكس الأمر ليوافق الأولين في تقديم غير الأشرف لأن الأحياء إشارة إلى المؤمنين بعد الدعوة والأموات إشارة إلى المصرين على الكفر بعدها ولذا قيل بعد إن الله يسمع من يشاء إلخ ولوجود المصرين بوصف الأصرار بعد وجود المؤمنين وقيل قدم ما قدم فيما عدا الأخير لأنه عدم وله مرتبة السبق وفي الأخير لأن المراد بالأموات فاقدو الحياة بعد الإتصاف بها كما يشعر به أرداف ذلك بقوله تعالى وما أنت بمسمع من في القبور فيكون للحياة مع أنها وجودية رتبة السبق أيضا وقيل أن تقديم غير الأشرف مع إنفهام أنه غير أشرف على الأشرف للإشارة إلى أن التقديم صورة لا يخل بشرف الأشرف
فالنار يعلوها الدخان وربما يعلو الغبار عمائم الفرسان وجمع الظلمات مع أفراد النور لتعدد فنون الباطل وإتحاد الحق وقيل لأن الظلمة قد تتعدد فتكون في محال قد تخلل بينهما نور والنور في هذا العالم وإن تعدد إلا أنه يتحد وراء محل تعدده وجمع الأحياء والأموات على بابه لتعدد المشبه بهما ولم يجمع الأعمى والبصير لذلك لأن القصد إلى الجنس والمفرد أظهر فيه مع أن في البصراء ترك رعاية الفاصلة وهو على الذوق السليم دون البصير فتدبر جميع ذلك والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وهو العليم الخبير
(22/187)
وقرأ الأشهب والحسن بمسمع من بالإضافة إن أنت إلا نذير 32 أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذز فإن كان المنذر ممن أراد الله تعالى هدايته سمع وأهتدى وإن كان ممن أراد سبحانه ضلاللاه وطبع على قلبه فما عليك منه تبعة إنا أرسلناك بالحق أي محقين على أنه حال من الفاعل أو محقا على أنه حال من المفعول أو إرسالا مصحوبا بالحق على أنه صفة لمصدر محذوف وجوز الزمخشري تعلقه بقوله سبحانه بشيرا ومتعلق قوله تعالى ونذيرا محذوف لدلالة المقابل على مقابله أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق
وإن من أمة أي ما من جماعة كثيرة أهل عصر وأمة من الأمم الدارجة في الأزمنة الماضية إلا خلا مضى فيها نذير 42 من نبي أو عالم ينذرها والإكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قريبة البشارة لا سيما وقد أقترنا آنفا مع أن الإنذار أنسب بالمقام وقيل خص النذير بالذكر لأن البشارة لا تكون إلا بمسمع فهو من خصائص الأنبياء عليهم السلام فالبشير نبي أو ناقل عنه بخلاف النذارة فإنها سمعا وعقلا فلذا وجه النذير في كل أمة وفيه بحث
وأستدل بعض الناس بهذه الآية مع قوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم على في البهائم وسائر الحيوانات أنبياء أو علماء ينذرون والإستدلال بذلك باطل لا يكاد نفي بطلانه على أحد حتى على البهائم ولم نسمع القول بنبوة فرد من البهائم ونحوها إلا عن الشيخ محيي الدين ومن تابعه قدس الله سره ورأيت في بعض الكتب أن القول بذلك كفر والعياذ بالله تعالى
وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم العاتية فلا تحزن من تكذيب هؤلاء إياك
جاءتهم رسلهم في موضع الحال على ما قال أبو البقاء إما بدون تقدير قد أو بتقديرها أي كذب الذين من قبلهم وقد جاءتهم رسلهم بالبينات أي بالمعجزات الظاهرة الدالة على صدقهم فيما يدعون وبالزبر كصحف إبراهيم عليه السلام وبالكتاب المنير 52 كالتوراة والإنجيل على إرادة التفصيل يعني أن بعضهم جاء بهذا وبعضهم جاء بهذا لا على إرادة الجمع وأن كل رسول جاء بجميع ما ذكر حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب وعدد الرسل أكثر بكثير من عدد الكتب كما هو معروف ومآل هذا إلى منع الخلو ويجوز أن يراد بالزبر والكتاب واحد والعطف لتغاير العنوانين لكن فيه بعد ثم أخذت الذين كفروا وضع الظاهر موضع ضميرهم لذمهم بما حيز الصلة والإشعار بعلة الأخذ فكيف كان نكير 62 أي إنكاري عليهم بالعقوبة وفيه مزيد تشديد وتهويل وقد تقدم الكلام في نظير هذا في سبأ فتذكر
وفي الآية من تسليته ما فيها ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء إلخ إستئناف مسوق على ما يخطر بالبال لتقرير ما أشعر به قوله تعالى ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير من عظيم قدرته عزوجل وقال شيخ الإسلام : هو لتقرير ما قبله من إختلاف الناس ببيان أن الإختلاف والتفاوت أمر مطرد في جميع المخلوقات من النبات والجماد والحيوان
وقال أبو حيان : تقرير لوحدانيته تعالى بأدلة سماوية وأرضية أثر تقريرها بأمثال ضربها جل شأنه وهذا
(22/188)
كما ترى والإستفهام للتقرير والرؤية قلبية لأن إنزال المطر وإن كان مدركا بالبصر لكن إنزال الله تعالى إياه ليس كذلك والخطاب عام أي ألم تعلم أن الله تعالى أنزل من جهة العلو ماء فأخرجنا به أي بذلك الماء على أنه سبب عادي للإخراج وقيل أي أخرجنا عنده والإلتفات لإظهار كمال الإعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبيء عن كمال القدرة والحكمة ثمرات مختلفا ألوانها أي أنواعها من التفاح والرمان والعنب والتين وغيرها مما لا يحصر وهذا كما يقال فلان أتى بألوان من الأحاديث وقدم كذا لونا من الطعام وإختلاف كل نوع بتعدد أصنافه كما في التفاح فإن له أصنافا متغايرة لذة وهيئة وكذا في سائر الثمرات ولا يكاد يوجد نوع منها إلا وهو ذو أصناف متغايرة ويجوز أن يراد إختلاف كل نوع بإختلاف أفراده
وأخرج عبد بن حميد وإبن جرير عن قتادة أنه حمل الألوان على معناها المعروف وإختلافها بالصفرة والحمرة والخضرة وغيرها وروى ذلك عن إبن عباس أيضا وهو الأوفق لما في قوله تعالى
ومن الجبال جدد بيض وحمر وهو إما عطف على ما قبله بحسب المعنى أو حال وكونه إستئنافا مع إرتباطه بما قبله غير ظاهر و جدد جمع جدة بالضم وهي الطريقة من جده إذا قطعه
وقال أبو الفضل : هي من الطرائق ما يخالف لونه لون ما يليه ومنه جدة الحمار للخط الذي في وسط ظهره يخالف لونه وسأل إبن الأزرق إبن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الجدد فقال طرائق طريقة بيضاء وطريقة خضرا وأنشد قول الشاعر : قد غادر السبع في صفحاتها جددا كأنها طرق لاحت على أكم والكلام على تقدير مضاف إن لم تقصد المبالغة لأن الجبال ليست نفس الطرائق أي ذو جدد وقرأ الزهري جدد بضمتين جمع جديدة كسفينة وسفن وهي بمعنى جدة وقال صاحب اللوامح هو جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان وقال أبو عبيدة لا مدخل لمعنى الجديدة في هذه الآية ولعل من يقول بتجدد حدوث الجبال وتكونها من مياه تنبع من الأرض وتتحجر أولا فأولا ثم تنبع من موضع قريب مما تحجر فتتحجر أيضا وهكذا حتى يصل جبل لا يأبى حمل الآية على هذه القراءة على ما ذكر والظاهر من الآيات والأخبار أن الجبال أحدثها الله تعالى بعيد خلق الأرض لئلا تميد بسكانها والفلاسفة يزعمون أنها كانت طينا في بحار أنحسرت ثم تحجرت وقد أطال الإمام الكلام على ذلك في كتابه المباحث المشرقية وأستدل على ذلك بوجود أشياء بحرية كالصدف بين أجزائها وهذا عند تدقيق النظر هباء وأكثر الأدلة مثلة ومن أراد الإطلاع على ما قالوا فليرجع إلى كتبهم وروى عنه أيضا أنه قرأ جدد بفتحتين ولم يجذ ذلك أبو حاتم وقال : إن هذه القراءة لا تصح من حيث المعنى وصححها غيره وقال : الجدد الطريق الواضح المبين إلا أنه وضع المفرد موضع الجمع ولذا وصف بالجمع وقيل هو من باب نطفة أمشاج وثوب أخلاق لإشتمال الطريق على قطع وتعقب بأنه غير ظاهر ولا مناسب لجمع الجبال مختلف ألوانها أي أصنافها بالشدة والضعف لأنها مقولة بالتشكيك فمختلف صفة بيض وحمر و ألوانها فاعل له وليس بمبتدأ و مختلف خبره لوجوب مختلفة حينئذ وجوز أن يكون صفة جدد وغرابيب عطف على بيض فهو من تفاصيل الجدد والصفات القائمة بها أي ومن
(22/189)
الجبال ذو جدد بيض وحمر وغرابيب والغربيب هو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب وكثر في كلامهم إتباعه للأسود على أنه صفة له أو تأكيد لفظي فقالوا أسود غربيب كما قالوا أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قاني
وظاهر كلام الزمخشري أن غرابيب هنا تأكيد لمحذوف والأصل وسود غرابيب أي شديدة السواد
وتعقب بأنه لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ومن النحاة من منع ذلك وهو إختيار إبن مالك لأن التأكيد يقتضي الإعتناء والتقوية وقصد التطويل والحذف يقتضي خلافه ورده الصفار كما في شرح التسهيل لأن المحذوف لدليل كالمذكور فلا ينافي تأكيده وفي بعض شروح المفصل أنه صفة لذلك المحذوف أقيم مقامه بعد حذفه وقوله تعالى سود 72 بدل منه أو عطف بيان له وهو مفسر للمحذوف ونظير ذلك قول النابغة : والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسند وفيه التفسير بعد الإبهام ومزيد الإعتناء بوصف السواد حيث دل عليه من طريق الإضمار والإظهار
ويجوز أن يكون العطف على جدد على معنى ومن الجبال ذو جدد مختلف االون ومنها غرابيب متحدة اللون كما يؤذن به المقابلة وإخراج التركيب على الأسلوب الذي سمعته وكأنه لما أعتنى بأمر السواد بإفادة أنه في غاية الشدة لم يذكر بعده الإختلاف بالشدة والضعف
وقال الفراء : الكلام على التقديم والتأخير أي سود غرابيب وقيل ليس هناك مؤكد ولا موصوف محذوف وإنما غرابيب معطوف على جدد أو عغلى بيض من أول الأمر و سود بدل منه قال في البحر : وهذا حسن ويحسنه كون غربيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيدا ومنه ما جاء في الحديث إن الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب وهو الذي يخضب بالسواد وفسره إبن الأثير بالذي لا يشيب أي لسفاهته أو لعدم إهتمامه بأمر آخرته وحكى ما في البحر بصيغة قيل وقول الشاعر : العين طامحة واليد شامخة والرجل لائحة والوجه غربيب ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه أي ومنهم بعض مختلف ألوانه أو بعضهم مختلف ألوانه على ما ذكروا في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله والجملة عطف على الجملة التي قبلها وحكمها حكمها
وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الجملتين أسميتين مع مشاركتهما لما قبلهما من الجملة الفعلية في الإستشهاد بمضمونها على تباين الناس في الأحوال الباطنة لما أن إختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الإستمرار وأما إخراج الثمرات المختلفة فحيث كان أمرا حادثا عبر عنه بما يدل على الحدوث ثم لما كان فيه نوع خفاء علق به الرؤية بطريق الإستفهام التقريري المبنيء عن الحمل عليها والترغيب فيها بخلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما فإنها مشاهدة غنية عن التأمل فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية فتدبر وما ذكره من أمر تعليق الرؤية مخالف لما في البحر حيث قال : وهذا إستفهام تقرير ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جدا فتأمل
وقرأ الزهري والدواب بتخفيف الباء مبالغة في الهرب من إلتقاء الساكنين كما همز بعضهم ولا الضالين لذلك
(22/190)
وقرأ إبن السميقع ألوانها وقوله تعالى : كذلك في محل نصب صفة لمصدر مختلف المؤكد والتقدير مختلف إختلافا كائنا كذلك أي كإختلاف الثمرات والجبال فهو من تمام الكلام قبله والوقف عليه حسن بإجماع أهل الأداء وقوله سبحانه : إنما يخشى الله من عباده العلماء تكملة لقوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب بتعيين من يخشاه عزوجل من الناس بعد الإيماء إلى بيان شرف الخشية ورداءة ضدها وتوعد المتصفين به وتقرير قدرته عزوجل المستدعي للخشية على ما نقول أو بعد بيان إختلاف طبقات الناس وتباين مراتبهم أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان وقيل كذلك في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك أي كما بين ولخص ثم قيل : إنما يخشى الله إلخ وسلك به مسلك الكناية من باب العرب لا تخفر الذمم ولا دلالة على أن العلم يقتضي الخشية ويناسبها وهو تخلص إلى ذكر أوليائه تعالى مع إفادة أنهم الذين تقع فيهم الإنذار وأن لك بهم غنية عن هؤلاء المصرين قال صاحب الكشف : والرفع أظهر ليكون من فصل الخطاب
وقال إبن عطية يحتمل أن يكون كذلك متعلقا بما بعده خارجا مخرج السبب أي كذلك الإعتبار والنظر في مخلوقات الله تعالى وإختلاف ألوانها يخشى الله العلماء ورده السمين بأن إنما لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وبأن الوقف على كذلك عند أهل الأداء جميعا وأرتضاه الخفاجي وقال : وبه ظهر ضعف ما قيل أن المعنى الأمر كذلك أي كما بين ولخص على أنه تخلص لذكر أولياء الله تعالى وفيه أنه ليس في هذا المعنى عمل ما بعد إنما فيما قبلها وإجماع أهل الأداء على الوقف على كذلك أن سلم لا يظهر به ضعف ذلك وفي بعض التفاسير المأثورة عن السلف ما يشعر بتعلق كذلك بما بعده
أخرج إبن المنذر عن إبن جريج أنه قال في الآية كما أختلفت هذه الأنعام تختلف الناس في خشية الله تعالى كذلك وهذا عندى ضعيف والأظهر ما عليه الجمهور وما قيل أدق وألطف والمراد بالعلماء العالمون بالله عزوجل وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الحميدة وسائر شؤونه الجميلة لا العارفون بالنحو والصرف مثلا فمدار الخشية ذلك العلم لا هذه المعرفة فكل من كان أعلم به تعالى كان أخشى روى الدارمي عن عطاء قال : قال موسى عليه السلام يارب أي عبادك أحكم قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال : يارب أي عبادك أغنى قال : أرضاهم بما قسمت له قال : يارب أي عبادك أخشى قال : أعلمهم بي وصح عنه أنه قال أنا أخشاكم لله وأتقاكم له ولكونه المدار ذكرت الخشية بعد ما يدل على كمال القدرة ولهذه المناسبة فسر إبن عباس كما أخرج عنه إبن المنذر وإبن جرير العلماء في الآية بالذين يعلمون أن الله تعالى على كل شيء قدير وتقديم المفعول لأن المقصود بيان الخاشين والأخبار بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم ولو أخر لكان المقصود بيان المخشى والأخبار بأنه الله تعالى دون غيره كما في قوله تعالى : ولا يخشون أحدا إلا الله والمقام لا يقتضيه بل يقتضي الأول ليكون تعريضا بالمنذرين المصرين على الكفر والعناد وأنهم جهلاء بالله تعالى وبصفاته ولذلك لا يخشون الله تعالى ولا يخافون عقابه
وأنكر بعضهم إفادة إنما هنا للحصر وليس بشيء وروى عن عمر بن عبدالعزيز وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنهما قرءا إنما يخشى الله بالرفع العلماء بالنصب وطعن صاحب النشر في هذه القراءة وقال أبو حيان :
(22/191)
لعلها لا تصح عنهما وقد رأينا كتبا في الشواذ ولم يذكروا هذه القراءة وإنما ذكرها الزمخشري وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة في كتابه الكامل وخرجت على أن الخشية مجاز عن التعظيم بعلاقة اللزوم فإن المعظم يكون مهيبا وقيل الخشية ترد بمعنى الإختيار كقوله
خشيت بني عمي فلم أر مثلهم
إن الله عزيز غفور 82 تعليل لوجوب الخشية لأن العزة دالة على كمال القدرة على الإنتقام ولا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة وقيل ذكر غفور من باب التكميل نظير ما في بيت الغنوي المذكور آنفا
والآية على ما في بعض الآثار نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه إن الذين يتلون كتاب الله أي يداومون على قراءته حتى صارت سمة لهم وعنوانا كما يشعر به صيغة المضارع ووقوعه صلة وإختلاف الفعلين والمراد بكتاب الله القرآن فقد قال مطرف بن عبدالله بن الشخير : هذه آية القراء
وأخرج عبدالغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن إبن عباس أنها نزلت في حصين بن الحرث بن عبدالمطلب القرشي ثم إن العبرة بعموم اللفظ فلذا قال السدي في التالين : هم أصحاب رسول الله وقال عطاء هم المؤمنون أي عامة وهو الأرجح ويدخل ألأصحاب دخولا أوليا وقيل معنى يتلون كتاب الله يتبعونه فيعملون بما فيه وكأنه جعل يتلو من تلاه إذا تبعه أو حمل التلاوة المعروفة على العمل لأنها ليس فيها كثير نفع دونه وقد ورد رب قاريء للقرآن والقرآن يلعنه ويشعر كلام بعضهم بإختيار المعنى المتبادر حيث قال : إنه تعالى لما ذكر الخشية وهي عمل القلب ذكر بعدها عمل اللسان والجوارح والعبادة المالية وجوز أن يراد بكتاب الله تعالى جنس كتبه عزوجل الصادق على التوراة والإنجيل وغيرهما فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد إقتصاص حال المكذبين بقوله تعالى وإن يكذبوك إلخ والمضارع لحكاية الحال الماضية والمقصود من الثناء عليهم وبيان ما لهم حث هذه الأمة على إتباعهم وأن يفعلوا نحو ما فعلوا والوجه الأول أوجه كما لا يخفى وعليه الجمهور
وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية أي مسرين ومعلنين أو في سر وعلانية والمراد ينفقون كيفما أتفق من غير قصد إليهما وقيل السر في الإنفاق المسنون والعلانية في الإنفاق المفروض وفي كون الإنفاق مما رزقوا إشارة إلى أنهم لم يسرفوا ولم يبسطوا أيديهم كل البسط ومقام التمدح مشعر بأنهم تحروا الحلال الطيب وقيل جيء بمن لذلك والمعتزلة يخصون الرزق بالحلال وهو أنسب بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة ومن لا يخصه بالحلال يقول هو التعظيم والحث على الإنفاق يرجون بما آتوا من الطاعات تجارة أي معاملة مع الله تعالى لنيل ربح الثواب على أن التجارة مجاز عما ذكر والقرينة حالية كما قال بعض الأجلة وقوله تعالى : لن تبور 92 أي لن تكسد وقيل لن تهلك بالخسران صفة تجارة وترشيح للمجاز وجملة يرجون إلخ على ما قال الفراء وأبو البقاء خبر إن وفي إخباره تعالى عنهم بذلك إشارة إلى أنهم لا يقطعون بنفاق تجارتهم بل يأتون ما آتوا من الطاعات وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم وجعل بعضهم التجارة مجازا عن تحصيل الثواب بالطاعة وأمر الترشيح على حاله وإليه ذهب أبو السعود ثم قال : والأخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة
(22/192)
قطعية بحصول مرجوهم
وظاهر ما روى عن قتادة من تفسيره التجارة بالجنة أنها مجاز عن الربح وفسر لن تبور بلن تبيد وهو كما ترى وقوله تعالى ليوفيهم أجورهم متعلق عند بعض بما دل عليه لن تعلق بنعمة ربك في قوله تعالى ما أنت بنعمة ربك بمجنون بما دل عليهمالا بالحرف إذ لا يتعلق الجار به على المشهور أي ينتفي الكساد عنها وتنفق عند الله تعالى ليوفيهم أجور أعمالهم ويزيدهم من فضله على ذلك من خزائن رحمته ما يشاء وعن أبي وائل زيادته تعالى إياهم بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم
وقال الضحاك : بتفسيح القلوب وفي الحديث بتضعيف حسناتهم وقيل بالنظر إلى وجهه تعالى الكريم
والظاهر أن من فضله راجع لما عنده ففيه إشارة إلى أن توفية أجورهم كالواجب لكونه جزاء لهم بوعده سبحانه ويجوز أن يكون راجعا إليهما أو متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وهو ما عد من أفعالهم المرضية أي فعلوا ذلك ليوفيهم أجورهم إلخ وجوز تعلقه بما قبله على التنازع وصنيع أبي البقاء يشعر بإختيار تعلقه بيرجون وجعل اللام عليه لام الصيرورة ويعقب بأنه لا مانع من جعلها لام العلة كما هو الشائع الكثير ولا يظهر للعدول عنه وجه
ووجه ذلك الطيبي بأن غرضهم فيما فعلوا لم يكن سوى تجارة غير كاسدة لأن صلة الموصول هنا علة وإيذان بتحقق الخبر ولما أدى ذلك إلى أن وفاهم الله تعالى أجورهم اتى باللام وإنما لم يذهب إليه بعض الأجلة كالزمخشري لأن هذه اللام لا توجد إلا فيما يترتب الثاني الذي هو مدخولها على الأول ولا يكون مطلوبا نحو تعالى فألتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وقوله تعالى إنه غفور شكور 03 تعليل لما قبله من التوفية والزيادة عند الكثير أي غفور لفرطات المطيعين شكور لطاعاتهم أي مجازيهم عليها أكمل الجزاء فيوفي هؤلاء أجورهم ويزيدهم من فضله وجوز أن يكون خبرا بعد خبر والعائد محذوف أي لهم وجوز أن يكون هو الخبر بتقدير العائد وجملة يرجعون حال من ضمير أنفقوا بناء على أن القيد المتعقب لأمور متعددة يختص بالأخير كما هو مدهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أو على أن رجاء التجارة النافقة أوفق بالإنفاق أو من مقدر أي فعلوا جميع ذلك راجين
وأستظهره الطيبي والجملة عليه معترضة فلا يرد أن فيه الفصل بين المبتدأ وخبره بأجنبي وجوز أن يكون حالا من ضمير الذين على سبيل التنازع ولم يشتهر التنازع في الحال وأنا لا أرى فيه بأسا وأستظهر بعض المعاصرين جعل الجملة المذكورة حالا من ضمير أنفقوا لقربه وشدة الملاءمة بين الإنفاق ورجاء تجارة لها نفاق ولا يبعد أن يكون قد حذف فيما تقدم نظيرها لدلالتها عليه وجعل ليوفيهم متنازعا فيه للأفعال الثلاثة المتعاطفة أو جعل الجملة حالا من مقدر كما سمعت آنفا و ليوفيهم متعلقا بيرجون وجملة إنه غفور شكور خير المبتدأ والرابط محذوف وفي جملة يرجون إلخ إحتمال الإستعارة التمثيلية ولو على بعد ولم أر من أشار إليه فتدبر
والذي أوحينا إليك من الكتاب وهو القرآن و من للتبيين إذ القرآن أخص من الذي أوحينا مفهوما وإن أتحدا ذاتا أو جنس الكتاب ومن للتبعيض إذ المراد من الذي أوحينا هو القرآن وهو بعض جنس الكتاب وقيل هو اللوح ومن للإبتداء هو الحق إذا كان المراد الحصر فهو من قصر المسند إليه على المسند
(22/193)
لا العكس لعدم إستقامة المعنى إلا أن يقصد المبالغة قاله الخفاجي والمتبادر الشائع في أمثاله قصر المسند على المسند إليه وهو ههنا أن لم تقصد المبالغة قصر إضافي بالنسبة إلى ما يفتريه أهل الكتاب وينسبونه إلى الله تعالى
مصدقا لما بين يديه أي لما تقدمه من الكتب السماوية ونصب مصدقا على الحالية والعامل فيه مقدر يفهم من مضمون الجملة قبله أي أحققه مصدقا وهو حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته الكتب الآلهية المتقدمة عليه بالزمان في العقائد وأصول الأحكام واللام للتقوية إن الله بعباده لخبير بصير 13 محيط ببواطن أمورهم وظواهرها فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب وتقديم الخبير للتنبيه على أن العمدة هي الأمور الروحانية وإلى ذلك أشار بقوله إن الله لا ينظر إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ثم أورثنا الكتاب أي القرآن كما عليه الجمهور والعطف قيل على الذي أوحينا وقيل على أوحينا بإقامة الظاهر مقام الضمير العائد على الموصول وأستظهر ذلك بالقرب وتوافق الجملتين أي ثم أعطيناه من غير كد وتعب في طلبه الذين أصطفينا من عبادنا وهم كما قال إبن عباس وغيره أمة محمد فإن الله تعالى أصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس وخصهم بالإنتماء إلى أكرم رسله وأفضلهم عليهم الصلاة والسلام و ثم للتراخي الرتبي فإن إيحاء الكتاب إليه أشرف من الإيراث المذكور كأنه كالعلة له وبه تحققت نبوته عليه الصلاة و السلام التي هي منبع كل خير وليست للتراخي الزماني إذ زمان إيحائه إليه عليه الصلاة و السلام هو زمان إيرائه وإعطائه أمته بمعنى تخصيصه بهم وجعله كتابهم الذي إليه يرجعون وبالعمل بما فيه ينتفعون وإذا أريد بإيراثه إياهم إيراثه منه وجعلهم منتفعين به فاهمين ما فيه بالذات كالعلماء أو بالواسطة كغيرهم بعده عليه الصلاة و السلام فهي للتراخي الزماني والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه وجوز أن يكون معنى أورثنا الكتاب حكمنا بإيراثه وقدرناه على أنه مجاز من إطلاق السبب على المسبب فتكون ثم للتراخي الرتبي وإلا فزمان الحكم سابق على زمان الإيحاء
ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر وفي شرح الرضى أن ثم قد تجيء في عطف الجمل خاصة لإستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له كما في قوله تعالى أستغفروا ربكم ثم توبوا إليه فإن بين توبة العباد وهي إنقطاع العبد إليه تعالي بالكلية وبين طلب المغفرة بونا بعيدا وهذا المعنى فرع التراخي ومجازه
وإبن الشيخ جعل ما هنا كما في هذه الآية وجوز أن يكون ثم أورثنا إلخ متصلا بما سبق من قوله تعالى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير والمراد ثم أورثنا الكتاب من الأمم السالفة وأعطيناه بعدهم الذين أصطفيناهم من الأمة المحمدية والكتاب القرآن كما قيل وإنه لفي زبر الأولين وقيل لا يحتاج إلى إعتبار ذلك ويجعل المعنى ثم أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناه هذه الأمة ووجه النظم أنه تعالى قدم إرساله في كل أمة رسولا وعقبه بما ينبيء أن تلك الأمم تفرقت حزبين حزب كذبوا الرسل وما أنزل معهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى : فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير وحزب صدقوهم وتلوا كتاب الله تعالى وعملوا بمقتضاه وهم المشار إليهم بقوله سبحانه إن
(22/194)
الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة إلخ وبعد أن أثنى سبحانه على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم جاء بما يختص برسوله من قوله سبحانه : والذي أوحينا إليك من الكتاب إلخ إستطرادا معترضا ثم أخبر سبحانه بإيراثه هذا الكتاب الكريم هذه الأمة بعد إعطاء تلك الأمم الزبر والكتاب المنير وعلى هذا يكون المعنى في أورثنا على ظاهره وثم للتراخي في الأخبار أو للتراخي في الرتبة إيذانا بفضل هذا الكتاب على سائر الكتب وفضل هذه الأمة على سائر الأمم وفي هذا الوجه حمل الكتاب في قوله سبحانه : إن الذين يتلون كتاب الله على الجنس وجعل الآية ثناء على الأمم المصدقين بعد إقتصاص حال المكذبين منهم فإن دفع ما فيه فهو من الحسن بمكان وجوز أن يكون عطفا على إن الذين يتلون كتاب الله وإذا كان إيراث الكتاب سابقا على تلاوته فالمعنى على ظاهره وثم للتفاوت الرتبي أو للتراخي في الأخبار والذي أوحينا إلخ إعتراض لبيان كيفية الإيراث لأنه إذا صدقها بمطابقته لها في العقائد والأصول كان كأنه هي وكأنه أنتقل إليهم ممن سلف وهو كما ترى وجوز على هذا وما قبله أن يراد بالكتاب الجنس ولا يخفى أن إرادة القرآن هو الظاهر وقيل المراد بالمصطفين علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ممن يسير بسيرتهم وإيراثهم القرآن جعلهم فاهمين معناه واقفين على حقائقه ودقائقه أمناء على أسراره
وروى الأمامية عن الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا : هي لنا خاصة وإيانا عني أرادا أن أهل البيت أو الأئمة منهم هم المصطفون الذين أورثوا الكتاب وأختار هذا الطبرسي الإمامي قال في تفسيره مجمع البيان : وهذا أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الإصطفاء والإجتباء وإيراث علم الأنبياء عليهم السلام
وربما يستأنس له بقوله عليه الصلاة و السلام إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض وحملهم على علماء الأمة أولى من هذا التخصيص ويدخل فيهم علماء أهل البيت دخولا أوليا ففي بيتهم نزل الكتاب ولن يفترقا حتى يردا الحوض يوم الحساب وإذا كانت الإضافة في عبدنا للتشريف وأختص العباد بمؤمني هذه الأمة وكانت من للتبعيض كأن حمل المصطفين على العلماء كالمتعين وعن الجبائي أنهم الأنبياء عليهم السلام أختارهم الله تعالى وحبارهم برسالته وكتبه وعليه يكون تعريف الكتاب للجنس والعطف على قوله تعالى : والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق وثم للتراخي في الأخبار أخبر سبحانه أولا عما أوتيه نبينا وهو متضمن للأخبار بإيتائه عليه الصلاة و السلام الكتاب على أكمل وجه ثم أخبر سبحانه بتوريث إخوانه الأنبياء عليهم السلام وإيتائهم الكتب ومما يرد عليه أن إيتاء الأنبياء عليهم السلام الكتب قد علم قبل من قوله تعالى : فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير
وعن أبي مسلم أنهم المصطفون المذكورون في قوله تعالى : إن الله أصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين وهو ددون ما قبله وأياما كان فالموصول مفعول أول لأورثنا و الكتاب مفعول ثان له قدم لشرفه والإعتناء به وعدم اللبس ومن للبيان أو للتبعيض فمنهم ظالم لنفسه الفاء للتفصيل لا للتعليل كما قيل وضمير الجمع على ما سمعت أولا في تفسير الموصول للموصول والظالم لنفسه من قصر في العمل بالكتاب وأسرف على نفسه وهو صادق على من ظلم غيره لأنه بذلك ظالم لنفسه والمشهور مقابلته بالظالم لغيره واللام للتقوية
ومنهم مقتصد يتردد بين العمل به ومخالفته فيعمل تارة ويخالف أخرى وأصل معنى الإقتصاد التوسط
(22/195)
في الأمر ومنهم سابق متقدم إلى ثواب الله تعالى وجنته بالخيرات أي بسبب الخيرات أي الأعمال الصالحة وقيل : سابق على الظالم لنفسه والمقتصد في الدرجات بسبب الخيرات وقيل : أي محرز الفضل بسببها بإذن الله أي بتيسيره تعالى وتوفيقه عزوجل وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها وفسر بمن غلبت طاعته معاصيه وكثر عمله بكتاب الله تعالى وما ذكر في تفسير الثلاثة مما يشير إليه كلام الحسن فقد روى عنه أنه قال : الظألم من خفت حسناته والمقتصد من أستوت والسابق من رجحت ووراء ذلك أقوال كثيرة فقال معاذ : الظالم لنفسه الذي مات على كبيرة لم يتب منها والمقتصد من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها والسابق من مات تائبا من كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك وقيل الظالم لنفسه العاصي المسرف والمقتصد متقي الكبائر والسابق المتقي على الإطلاق وقيل الأول المقصر في العمل والثاني العامل بالكتاب في أغلب الأوقات ولم يخل عن تخليط والثالث السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار
وقيل الأولان كما ذكر والثالث المداوم على إقامة مواجب الكتاب علما وعملا وتعليما وقيل : الأول من أسلم بعد الفتح والثاني من أسلم قبله والثالث من أسلم قبل الهجرة وقيل : هم من لا يبالي من أين ينال ومن قوته من الحلال ومن يكتفي من الدنيا بالبلاغ وقيل : من همه الدنيا ومن همه العقبى ومن همه المولى وقيل : طالب النجاة وطالب الدرجات وطالب المناجاة وقيل : تارك الزلة وتارك الغفلة وتارك العلاقة وقيل : من شغله معاشه عن معاده ومن شغله بهما ومن شغله معاده عن معاشه وقيل : من يأتي بالفرائض خوفا من النار ومن يأتي بها خوفا منها ورضا وإحتسابا ومن يأتي بها رضا وإحتسابا فقط وقيل : الغافل عن الوقت والجماعة والمحافظة على الوقت دون الجماعة والمحافظ عليهما وقيل : من غلبت شهوته عقله ومن تساويا ومن غلب عقله شهوته وقيل : من لا ينهي عن المنكر ويأتيه ومن ينهى عن المنكر ويأتيه ومن يأمر بالمعروف ويأتيه وقيل : ذو الجور وذو العدل وذو الفضل وقيل : ساكن البادية والحاضرة والمجاهد وقيل : من كان ظاهره خيرا من باطنه ومن أستوى باطنه وظاهره ومن باطنه خير من ظاهره
وقيل : التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه والتالي العالم غير العامل والتالي العالم العامل وقيل : الجاهل والمتعلم والعالم وقيل : من خالف الأوامر وأرتكب المناهي ومن أجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك ومن لم يخالف تكاليف الله تعالى
وروى بعض الإمامية عن ميسر بن عبدالعزيز عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه الظألم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام والمقتصد العارف بحق الإمام والسابق هو الإمام وعن زياد بن المنذر عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه الظالم لنفسه منا من عمل صالحا وآخر سيئا والمقتصد المتعبد المجتهد والسابق بالخيرات علي والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم ومن قتل من آل محمد شهيدا وقيل : هم الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه والموحد الذي يمنع جوارحه بالتكليف والموحد الذي ينسيه التوحيد وقيل : من يدخل الجنة بالشفاعة ومن يدخلها بفضل الله تعالى ومن يدخلها بغير حساب وقيل : من أوتي كتابه من وراء ظهره ومن أوتي كتابه بشماله ومن أوتي كتابه بيمينه وقيل : الكافر مطلقا والفاسق والمؤمن التقي وفي معناه ما جاء في رواية عن إبن عباس وقتادة وعكرمة الظالم لنفسه أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق بالخيرات السابقون المقربون والظاهر أن هؤلاء ومن قال نحو قولهم يجعلون ضمير منهم للعباد لا للموصول ولا شك
(22/196)
أن منهم الكافر وغيره وكون العباد المضاف إلى الله تعالى مخصوصا بالمؤمنين ليس بمطرد وإنما يكون كذلك إذا قصد بالإضافة التشريف والقول برجوع الضمير للموصول وإلتزام كون الإصطفاء بحسب الفطرة تعسف كما لا يخفى وقيل : في تفسير الثلاثة غير ما ذكر وذكر في التحرير ثلاثة وأربعين قولا في ذلك ومن تتبع التفاسير وجدها أكثر من ذلك لكن لا يجد في أكثرها كثير تفاوت والذي يعضده معظم الروايات والآثار أن الأصناف الثلاثة من أهل الجنة فلا ينبغي أن يلتفت إلى تفسير الظالم بالكافر إلا بتأويل كافر النعمة وإرادة العاصي منه
أخرج الإمام أحمد والطيالسي وعبد بن حميد وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم وإبن مردويه والبيهقي والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال في هذه الآية : ثم أورثنا الكتاب إلىالخيرات هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة وقوله عليه الصلاة و السلام وكلهم إلخ عطف تفسيري
وأخرج الطبراني وإبن مردويه في البعث عن أسامة بن ريد أنه قال في الآية : قال رسول الله كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة وأخرج إبن النجار عن أنس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له وأخرج العقيلي وإبن مردويه والبيهقي عن عمر بن الخطاب مرفوعا نحوه
وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم والطبراني والحاكم وإبن مردويه والبيهقي عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله يقول قال الله تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين أصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب وأما الذين أقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحسبون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله تعالى برحمته فهم الذين يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الآية قال البيهقي : إذا كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث اصلا والأخبار في هذا الباب كثيرة وفيما ذكر كفاية وقدم الظالم لنفسه لكثرة الظالمين لأنفسهم وعقب بالمقتصد لقلة المقتصدين بالنسبة إليهم وأخر السابق لأن السابقين أقل من القليل قاله الزمخشري وحكى الطبرسي أن هذا الترتيب على مقامان الناس فإن أحوال العباد ثلاث معصية ثم توبة ثم قربة فإذا عصى العبد فهو ظالم فإذا تاب فهو مقتصد فإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته فهو سابق وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله تعالى وأخر السابق لئلا يعجب بعمله فتعين توسيط المقتصد وقال قطب الدين : النكتة في تقديم الظالم أنه أقرب الثلاثة إلى بداية حال العبد قبل أصطفائه بإيراث الكتاب فإذا باشره الإصطفاء فمن العباد من يتأثر قليلا وهو الظالم لنفسه ومنهم من يتأثر تأثرا وسطا وهو المقتصد ومنهم من يتأثر تأثرا تاما وهو السابق وقريب منه ما قيل : إن الإصطفاء مشكك تتفاوت مراتبه وأولها ما يكون للمؤمن الظالم لنفسه وفوقه ما يكون للمقتصد وفوق الفوق ما يكون للسابق بالخيرات فجاء الترتيب كالترقي في المراتب وقيل : أخر السابق لتعدد ما يتعلق به فلو قدم أو وسط لبعد في الجملة ما بين الأقسام المتعاطفة ولما كان الإقتصاد كالنسبة بين الظلم والسبق أقتضى ذلك تقديم الظالم وتأخير المقتصد ليكون المقتصد بين الظالم والسابق لفظا كما هو بينهما معنى وقد يقال : رتب هذه الثلاثة هذا الترتيب ليوافق حالهم في الذكر بالنسبة إلى ما وعدوا به من الجنات في قوله سبحانه جنات عدن الآية حالهم في الحشر عند تحقق الوعد فأخر السابق الداخل في الجنان أولا ليتصل ذكره بذكر الجنات الموعود بها وذكر قبله المقتصد
(22/197)
وجعل السابق فاصلا بينه وبين الجنات لأنه إنما يدخلها بعده فيكون فاصلا بينه وبينها في الدخول وذكر قبلهما الظالم لنفسه لأنه إنما يدخلها ويتصل بها بعدد دخولهما فتأخير السابق في المعنى تقديم وتقديم الظالم في المعنى تأخير ويحتمل ذلك أوجها أخرى تظهر بالتأمل فتأمل وقرأ أبو عمران الجوني وعمر بن أبي شجاع ويعقوب في رواية والقزاز عن أبي عمر و سباق بصيغة المبالغة ذلك أي ما تقدم من الإيراث والإصطفاء هو الفضل الكبير 23 من الله عزوجل لا دخل للكسب فيه جنات عدن مبتدأ خبره قوله تعالى : يدخلونها ويؤيده قراءة الجحدري وهرون عن عاصم جنات بالنصب على الإشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها وإحتمال جره بدلا من الخيرات بعيد وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه بأجنبي فلا يلتفت إليه
وضمير الجمع للذين أصطفينا أو للثلاثة وقال الزمخشري : ذلك إشارة إلى السبق بالخيرات وجنات عدن بدل من الفضل الذي هو السبق ولما كان السبق بالخيرات سببا لنيل الثواب جعل نفس الثواب إقامة للسبب مقام المسبب ثم أبدل منه وضمير الجمع للسابق لأن القصد إلى الجنس فخص الوعد بالقسم الأخير مراعاة لمذهب الإعتزال وهو على ما سمعت للإقسام الثلاثة وذلك هو الأظهر في النظم الجليل ليطابقه قوله تعالى بعد والذين كفروا لهم نار جهنم وليناسب حديث التعظيم والإختصاص المدمج في قوله سبحانه ثم أورثنا الكتاب وإلا فأي تعظيم في ذلك الذكر بعد أن لز أكثر المصطفين في قرن الكافرين وليناسب ذكر الغفور بعد حال الظالم والمقتصد والشكور حال السابق ولتعسف ما ذكره من الأعراب وبعده عن الذوق وكيف لا يكون الأظهر وقد فسره كذلك أفضل الرسل ومن أنزل عليه هذا الكتاب المبين على ما مر آنفا وإليه ذهب الكثير من أصحابه الفخام ونجوم الهداية بين الأنام رضي الله تعالى عنهم وعد منهم في البحر عمر وعثمان وإبن مسعود وأبا الدرداء وأبا سعيد وعائشة رضي الله تعالى عنهم وقد أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب أنه قال بعد أن قرأ الآية : أشهد على الله تعالى أنه يدخلهم الجنة جميعا وأخرج غير واحد عن كعب أنه قرأ الآية إلى لغوب فقال دخلوها ورب الكعبة وفي لفظ كلهم في الجنة ألا ترى على أثره والذين كفروا لهم نار جهنم نعم أن أريد بالظالم لنفسه الكافر يتعذر رجوع المضير إلى ما ذكر ويتعين رجوعه إلى السابق وإليه وإلى المقتصد لأن المراد بهما الجنس لكن لا ينبغي أن يراد بعد هاتيك الأخبار وقرأ زر بن حبيش والزهري جنة عدن بالأفراد والرفع وقرأ أبو عمرو يدخلونها بالبناء للمفعول ورويت عن إبن كثير وقوله تعالى يحلون فيها خبر ثان لجنات أو حال مقدرة وقيل : إنها لقرب الوقوع بعد الدخول تعد مقارنة وقريء يحلون بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام من حليت المرأة فهي حالية إذا لبست الحلى ويقال جيد حال إذا كان عليه الحلى من أساور جمع سوار على ما في الإرشاد وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار بالضم جمعه أسورة وأساور وأساورة وسور وسوور وإطلاق الجمع على جمع الجمع كثير فلا مخالفة وسوار المرأة معرب كما قال الراغب وأصله دستواره ومن للتبعيض أي يحلون بعض أساور كأنه بعض له إمتياز وتفوق على سائر الأبعاض وجوز أن تكون للبيان لما أن ذكر التحلية مما ينبيء عن الحلى المبهم وقيل : زائدة بناء على ما يرى الأخفش من جواز زيادتها في الإثبات وقيل : نعت لمفعول محذوف ليحلون وأنه بمعنى يلبسون ومن في قوله تعالى من ذهب
(22/198)
بيانية ولؤلؤا عطف على محل من أساور أي ويحلون فيها لؤلؤا أخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري أن النبي تلا الآية فقال : إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وقيل : عطف على المفعول المحذوف أو منصوب بفعل مضمر يدل عليه يحلون أي ويؤتون لؤلؤا وقرأ جمع من السبعة ولؤلؤ بالجر عطفا على ذهب أي يحلون فيها بعض أساور من مجموع ذهب ولؤلؤ بأن تنظم حبات ذهب مع حبات لؤلؤ ويتخذ من ذلك سوار كما هو معهود اليوم في بلادنا أو بأن يرصع الذهب باللؤلؤ كما يرصع ببعض الأحجار وقيل : أي من ذهب في صفاء اللؤلؤ وفيه ما فيه من الكدر
ولعل من يقول بأنه لا إشتراك بين ذهب الدنيا ولؤلؤها وذهب الآخرة ولؤلؤها إلا بالأسم لا يلتزم النظم ولا الترصيع كما لا يخفى وقريء لؤلؤا بتخفيف الهمزة الأولى ولباسهم فيها حرير 33 أي إبريسم محض كما في مجمع البيان وقال الراغب : مارق من الثياب وتغيير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا قيل للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان إن لباسهم ماذا بخلاف الأساور واللؤلؤ فإنها ليست من اللوازم الضرورية ولذا لا يلزم العدل بين الزوجات فيها فجعل بيان تحليتهم مقصورا بالذات ولعل هذا هو الباعث على تقديم التحلية على بيان حال اللباس وقيل : إن ذلك للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة مع المحافظة على هيئة الفواصل وليس بذاك وقالوا أي ويقولون
وصيغة الماضي للدلالة على التحقق الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن حزن تقلب القلب وخوف العاقبة على ما روى عن القاسم بن محمد وقال أبو الدرداء : حزن أهوال القيامة وما يصيب من ظلم نفسه هنالك
وأخرج الحاكم وصححه : وإبن أبي حاتم وغيرهما عن إبن عباس حزن النار وقال الضحاك حزن الموت يقولون ذلك إذا ذبح الموت وقال مقاتل : حزن الإنتقال يقولون ذلك إذا أستقروا فيها وقال قتادة : حزن أن لا تنقبل أعمالهم وقال الكلبي : خوف الشيطان وقال سمرة بن جندب : حزن معيشة الدنيا الخبز ونحوه وعن إبن عباس حزن الآفات والأعراض وقيل : حزن كراء الدار والأولى أن يراد جنس الحزن المنتظم لجميع أحزان الدين والدنيا والآخرة وكل ما سمعت من باب التمثيل وقد تقدم في الحديث إن الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يقولون أي بعد أن يتلقاهم الله تعالى برحمته الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إلخ فلا تغفل وقريء الحزن بضم الحاء وسكون الزاي ذكره جناح بن حبيش إن ربنا لغفور للمذنبين شكور 43 للمطيعين
وأخرج إبن المنذر : وغيره عن إبن عباس أنه قال في ذلك غفر لنا العظيم من ذنوبنا وشكر لنا القليل من أعمالنا وفي الكشاف ذكر الشكور دليل على أن القوم كثيرو الحسنات وكان عليه أن ي قول : وذكر الغفور دليل على أنهم كثيرو الفرطات فينطبق على الفرق ولا ينفك النظم ولكن منعه المذهب الذي أحلنا دار المقامة أي دار الإقامة التي لا إنتقال منها أبدا وهي الجنة من فضله من إنعامه سبحانه وتفضله وكرمه فإن العمل وإن كان سببا لدخول الجنة في الجملة لكن سببيته بفضل الله عزوجل أيضا إذ ليس هناك إستحقاق ذاتي ومن علم أن العمل متناه زائل وثواب الجنة دائم لا يزول لم يشك في أن الله تعالى ما أحل من أحل دار الإقامة إلا من محض فضله سبحانه وقال الزمخشري : أي من إعطائه تعالى وإفضاله من قولهم لفلان فضول على قومه
(22/199)
وفواضل وليس من الفضل الذي هو التفضل لأن الثواب بمنزلة الأجر المستحق والتفضل كالتبرع وفيه من الإعتزال ما فيه لا يمسنا فيها نصب أي تعب ولا يمسنا فيها لغوب 53 كلال وفتور وهو نتيجة النصب وضمه إليه وتكرير الفعل المنفي للمبالغة في بيان إنتفاء كل منهما كذا قال جمع من الأجلة وقال بعضهم : النصب التعب الجسماني واللغوب التعب النفساني
وأخرج إبن جرير عن قتادة أنه فسر النصب بالوجع والكلام من باب
لاترى الضب بها ينجحر
والجملة حال من أحد مفعولي أحل وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي لغوب بفتح اللام قال الفراء : هو ما يغب به كالفطور والسحور وجاز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي لا يمسنا فيها لغوب لغوب نحو شعر شاعر كأنه وصف اللغوب بأنه قد لغب أي أعيى وتعب
وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون مصدرا كالقبول وإن شئت جعلته صفة لمضمر أي أمر لغوب
والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم أي لا يحكم عليهم بموت ثان فيموتوا ليستريحوا بذلك من عذابها بالكلية وإنما فسر لا يقضى بماذكر دون لا يموتون لئلا يلغوا فيموتوا ويحتاج إلى تأويله بيستريحوا
ونصب يموتوا في جواب النفي بإضمار أن والمراد إنتفاء المسبب لإنتفاء السبب أي ما يكون حكم بالموت فكيف يكون الموت وقرأ عيسى والحسن فيموتون بالنون عطفا كما قال أبو عثمان المازني على يقضى كقوله تعالى : لا يؤذن لهم فيعتذرون أي لا يقضى عليهم ولا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها المعهود لهم بل كلما خبت زيد إسعارها والمراد دوام العذاب فلا ينافي تعذيبهم بالزمهرير ونحوه ونائب فاعل يخفف عنهم ومن عذابها في موضع نصب ويجوز العكس وجوز أن تكون من زائدة فيتعين رفع مجرورها على أنه النائب عن الفاعل على ما قال أبو البقاء وقرأ عبدالوارث عن أبي عمرو ولا يخفف بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل كقوله
فاليوم أشرب غير مستحقب
كذلك أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كل كفور 63 مبالغ في الكفر أو الكفران لا جزاء أخف وأدنى منه
وقرأ أبو عمرو وأبو حاتم عن نافع يجزي بالياء مبنيا للمفعول و كل بالرفع على النيابة عن الفاعل وقريء نجازي بنون مضمومة وألف بعد الجيم وهم يصطرخون فيها إفتعال من الصراخ وهو شدة الصياح والأصل يصترخون فأبدلت التاء طاء ويستعمل كثيرا في الإستغاثة لأن المستغيث يصيح غالبا وبه فسره هنا قتادة فقال : يستغيثون فيها وإستغاثتهم بالله عزوجل بدليل ما بعده وقيل ببعضهم لحيرتهم وليس بذاك ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل بإضمار القول أي ويقولون بالعطف أو يقولون بدونه على أنه تفسير لما قبله أو قائلين على أنه حال من ضميرهم وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الإعتراف به والإشعار بأن إستخراجهم لتلافيه فهو وصف مؤكد ولأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا فكأنهم قالوا : نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله فالوصف مقيد
وذكر أبو البقاء إن صالحا وغير الذي يجوز أن يكونا صفتين لمصدر محذوف أو لمفعول محذوف وأن يكون صالحا نعتا لمصدر و غير الذي مفعول نعمل وأياما كان فالمراد أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا نعمل
(22/200)
صالحا وكأنهم أرادوا بالعمل الصالح التوحيد وإمتثال أمر الرسول عليه الصلاة و السلام والإنقياد له وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : نعمل صالحا نقل لا إله إلا الله أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر جواب من جهته تعالى وتوبيخ لهم في الآخرة حين يقولون ربنا إلخ فهو بتقدير فنقول لهم أو فيقال لهم أو لم نعمركم إلخ وفي بعض الآثار أنهم يجابون بذلك بعد مقدار الدنيا والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام وما موصولة أو موصوفة أي ألم نمهلكم ونعمركم الذي أي العمر الذي أو عمرا يتذكر فيه من تذكر أي يتمكن فيه من أراد التذكر وتحققت منه تلك الإرادة من التذكير والتفكر
وقال أبو حيان : ما مصدرية ظرفية أي ألم نعمركم في مدة تذكر وتعقب بأن ضمير فيه يأباه لأنها لا يعود عليها ضمير إلا على نظر الأخفش فإنه يرى أسميتها وهو ضعيف ولعله يجعل الضمير للعمر المفهوم من نعمر وفيه بعد
وجعل ما نافية لا يصح كما قال إبن الحاجب لفظا ومعنى وهذا العمر على ما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه وأخرجه جماعة وصححه الحاكم عن إبن عباس ستون سنة وقد أخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله أعذر الله تعالى إلى أمريء أخر عمره حتى بلغ ستين سنةوقيل : هو خمسون سنة وفي رواية عن إبن عباس أنه ست وأربعون سنة وأخرج عب بن حميد وإبن أبي حاتم عن الحسن أنه أربعون سنة وفي رواية أخرى عنه أنه سن البلوغ وقيل : سبع عشرة سنة وعن قتادة ثمان عشرة سنة وعن عمر بن عبدالعزيز عشرون سنة وعن مجاهد ما بين العشرين إلى الستين وقرأ الأعمش ما يذكر فيه من أذكر بالإدغام وإجتلاب همزة الوصل ملفوظا بها في الدرج وجاءكم النذير عطف على معنى الجملة الإستفهامية فكأنه قيل : عمرناكم وجاءكم النذير فليس من عطف الخبر على الإنشاء كما في قوله تعالى ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك وجوز أن يكون عطفا على نعمركم ودخول الهمزة عليهما فلا تغفل
والمراد بالنذير على ما روى عن السدي وإبن زيد رسول الله وقيل : ما معه من القرآن وقال أبو حيان : المراد جنس النذير وهم الأنبياء عليهم السلام فكل نبي نذير أمته ويويده أنه قريء النذر جمعا وعن إبن عباس وعكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل والفراء والطبري هو الشيب وفي الأثر ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها أستعدي فقد قرب الموت ومن هنا قيل : رأيت الشيب من نذر المنايا لصاحبه وحسبك من نذير وقائلة تخضب ياحبيبي وسود شعر شيبك بالعبير فقلت لها المشيب نذير عمري ولست مسودا وجه النذير وقيل : الحمى وقيل : موت الأهل والأقارب وقيل : كمال العقل والإقتصار على النذير لأنه الذي يقتضيه المقام والفاء في قوله تعالى فذوقوا لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيء النذير وفي قوله سبحانه فما للظالمين من نصير 73 للتعليل والمراد بالظلم هنا الكفر قيل كان الظاهر فمالكم لكن عدل إلى المظهر لتقريعهم والمراد إستمرار نفي أن يكون لهم نصير يدفع عنهم العذاب إن الله عالم غيب السموات والأرض أي كل غيب فيهما أي لا يخفى عليه سبحانه خافية فيهما فلا تخفى عليه جل شأنه أحوالهم التي أقتضت الحكمة
(22/201)
أن يعاملوا بها هذه المعاملة ولا يخرجوا من النار وقرأ جناح بن حبيش عالم بالتنوين غيب بالنصب على المفعولية لعالم إنه عليم بذات الصدور 83 قيل إنه تعليل لما قبله لأنه تعالى إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى ما يكون كان عزوجل أعلم بغيرها وفيه نوع خفاء وقال الإمام : إن قوله تعالى إن الله إلخ تقرير لدوامهم في العذاب مع أنهم ما كفروا إلا أياما معدودة فكأن سأئلا يسأل عن وجه ذلك فقيل : إن الله تعالى لا يخفى عليه غيب السموات والأرض فلا يخفى عليه ما في الصدور فكان يعلم سبحانه من الكافر أن الكفر قد تمكن في قلبه بحيث لوداء إلى الأبد لما أطاع الله تعالى ولا عبده إنتهى وظاهره أن الجملة الأولى تعليل للثانية على عكس ما قيل ويمكن أن يقال : إن قوله تعالى فما للظالمين من نصير متضمن نفي أن يكون لهم نصير على سبيل الإستمرار ومستدع خلودهم في العذاب فكان مظنة أن يقال : كيف ينفي ذلك على سبيل الإستمرار والعادة في الشاهد قاضية بوجود نصير لمن تطول أيام عذابه فأجيب بأن الله عالم غيب السموات والأرض على معنى أنه تعالى محيط بالاشياء علما فلو كان لهم نصير في وقت من الأوقات لعلمه ولما نفى ذلك على سبيل الإستمرار وكذا مظنة أن يقال : كيف يخلدون في العذاب وهم قد ظلموا في أيام معدودة فأجيب بأنه عليم بذات الصدور على معنى أنه تعالى يعلم ما أنطوت عليه ضمائرهم فيعلم أنهم صمموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد فكل من الجملتين مستأنف إستئنافا بيانيا فتأمل هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ملقى إليكم مقاليد التصرف والإنتفاع بما فيها أو جعلكم خلفاء ممن قبلكم من الأمم وأورثكم ما بأيديكم من متاع الدنيا لتشكروه بالتوحيد والطاعة أو جعلكم بدل من كان قبلكم من الأمم الذين كذبوا الرسل فهلكوا فلم تتعظوا بحالهم وما حل بهم من الهلاك والخطاب قيل عام وأستظهره في البحر وقيل : لأهل مكة والخلائف جمع خليفة وقد أطرد جمع فعيلة على فعائل وأما الخلفاء فجمع خليف ككريم وكرماء وجوز الواحدي كونه جمع خليفة أيضا وهو خلاف المشهور فمن كفر منكم مثل هذه النعمة السنية وغمطها أو فمن أستمر على الكفر وترك الإيمان بعد أن لطف به وجعل له ما ينبهه على ما يترتب على ذلك فعليه كفره أي وبال كفره وجزاؤه لا على غيره
ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا أشد الإحتقار والبغض والغضب
ؤلا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا 93 في الآخرة وجملة ولا يزيد إلخ بيان وتفسير لقوله سبحانه فعليه كفره ولزيادة تفصيله نزل منزلة النغاير له ولولا ذلك لفصل عنه والتكرير لزيادة التقرير والتنبيه على أن إقتضاء الكفر لكل واحد واحد من الأمرين الأمرين المقت والخسارة مستقل بإقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه بمعنى أنه لو لم يكن الكفر مستوجبا لشيء سوى مقت الله تعالى لكفى ذلك في قبحه وكذا لو لم يستوجب شيئا سوى الخسار لكفى قل تبكيتا لهم أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أي آلهتكم والإضافة إليهم لأدنى ملابسة حيث أنهم هم الذين جعلوهم شركاء الله تعالى وأعتقدوهم كذلك من غير أن يكون له أصل ما أصلا
وقيل : الإضافة حقيقية من حيث أنهم جعلوهم شركاء لانفسهم فيما يملكونه أو جعلهم الله تعالى شركاء لهم في النار كما قال سبحانه إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم والصفة عليهما مقيدة لا مؤكدة وسياق النظم الكريم وسباقه ظاهران فيما تقدم أروني ماذا خلقوا من الأرض بدل إشتمال من أرأيتم لأنه بمعنى
(22/202)
أخبروني كأنه قيل : أخبروني عن شركائكم أروني أي جزء خلقوا من الأرض حتى يستحقوا الآلهية والشركة
وجوز أن يكون بدل كل وقال أبو حيان : لا تجوز البدلية لأنه إذا أبدل مما دخل عليه فلا بد من دخول الأداة على البدل وأيضا إبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم ثم البدل عل ىنية تكرار العامل ولا يتأتى ذلك ههنا لأنه لا عامل لأرأيتم ثم قال : والذي أذهب إليه أن أرأيتم بمعنى أخبروني وهي تطلب مفعولين أحدهما منصوب والآخر مشتمل على الإستفهام كقول العرب أرأيت زيدا ما صنع فالأول هنا شركاؤكم والثاني ماذا خلقوا و أروني جملة إعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد ويحتمل أن يكون ذلك أيضا من باب الأعمال لأنه توارد على ماذا خلقوا أرأيتم وأروني لأن أروني قد تعلق عن مفعولها الثاني كما علقت رأي التي لم تدخل عليها همزة النقل عن مفعولها في قولهم : أما ترى أي برق ههنا ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين إنتهى وماذكره إحتمال في الآية الكريمة كما أن ما ذكر أولا إحتمال وما قاله في رده ليس بشيء أما الأول فلأن لزوم دخول الأداة على البدل فيما إذا كان الإستفهام باق على معناه أما إذا نسخ عنه كما هنا فليس بلازم وأما الثاني فلأن أهل العربية والمعاني نصوا على خلافه وقد ورد في كلام العرب كقوله : أقول له أرحل لا تقيمن عندنا وإلا فكن في السر والجهر مسلما وأما الثالث فلأن كون البدل على نية تكرار العامل إنما هو كما نقل الخفاجي عنهم في بدل المفردات
وليس لك أن تقول العامل هنا موجود وهو قل لأن العبرة بالمقول ولا عامل فيه إذ يقال وهو ظاهر وجوز أن لا يكون أرأيتم بمعنى أخبروني بل المراد حقيقة الإستفهام عن الرؤية وأروني أمر تعجيز للتبيين أي أعلمتم هذه التي تدعونها ما هي وعلى ما هي عليه من العجز أو تتوهمون فيها قدرة فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها أو كنتم توهمتم فيها قدرة فأروني أثرها وما تقدم أظهر أم لهم شرك في السموات أي بل ألهم شركة مع الله عزوجل في خلق السموات حتى يستحقوا ما زعمتم فيهم وقال بعضهم : الأولى أن لا يقدر مضاف على أن المعنى أم لهم شركة معه سبحانه في السموات خلقا وإبقاء وتصرفا لأن المقصود نفي آيات الآلهية عن الشركاء وليست محصورة في الخلق والتقدير أوفق بما قبله والكلام قيل من باب التدرج من الإستقلال إلى الشركة ثم منها إلى حجة وبينة مكتوبة بالشركة كأنه قيل : أخبروني عن الذين تدعون من دون الله هل أستبدوا بخلق شيء من الأرض حتى يكونوا معبودين مثل الله تعالى بل ألهم شركة معه سبحانه في خلق السموات أم آتيناهم كتابا أي بل آتيناهم كتابا ينطق بأنا أتخذناهم شركاء فهم على بينت منه أي حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة معنا
وقال في الكشف : الظاهر أن الكلام مبني على الترقي في إثبات الشركة لأن الإستبداد بخلق جزء من الأرض شركة ما معه عزوجل والإشتراك معه سبحانه في خلق السموات أدل على إثباتها ثم إيتاء كتاب منه تعالى على أنهم شركاؤه أدل وأدل وقيل : هم في آتيناهم للمشركين وكذا فيفهمكما في قوله تعالى : أم أنزلنا عليهم سلطانا إلخ ففي الكلام إلتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضا عن المشركين وتنزيلا لهم منزلة الغيب
والمعنى أن عبادة هؤلاء إما بالعقل ولا عقل يحكم بصحة عبادة من لا يخلق جزأ ما من الأرض دلالة شرك في السماء وإما بالنقل ولم نؤت المشركين كتابا فيه الأمر بعبادة هؤلاء وفيه تفكيك للضمائر وقال بعضهم : ضمير
(22/203)
آتيناهم للشركاء كالضمائر السابقة وضمير فهم على بينة للمشركين و أم منقطعة للإضراب عن الكلام السابق وزعم أن لا إلتفات حينئذ ولا تفكيك فتأمل
وقرأ نافع وإبن عامر ويعقوب وأبو بكر على بينات بالجمع فيكون إيماء إلى أن الشرك خطير لا بد فيه من تعاضد الدلائل وهو ضرب من التهكم بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا 04 لما نفى سبحانه ما نفى من الحجج في ذلك أضرب عزوجل عنه بذكر ما حملهم على الشرك وهو تقرير الأسلاف للأخلاف وإضلال الرؤساء للأتباع بأنهم شفعاء عند الله تعالى يشفعون لهم بالتقرب إليهم والآية عند الكثير في عبدة الأصنام وحكمها عام وقيل : في عبدة غير الله عزوجل صنما كان أو ملكا أو غيرهما
إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا إستئناف مقرر لغاية قبح الشرك وهوله أي إن الله تعالى يحفظ السموات والأرض كراهة زوالهما أو لئلا تزولا وتضمحلا فإن الممكن كما يحتاج إلى الواجب سبحانه حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه وقال الزجاج : يمسك بمعنى يمنع و أن تزولا مفعوله على الحذف والإيصال لأنه يتعدى بمن أي يمنعهما من أن تزولا وفي البحر يجوز أن يكون أن تزولا بدل إشتمال من السموات والأرض أي يمنع سبحانه زوال السموات والأرض وفسر بعضهم الزوال بالإنتقال عن المكان أي أن الله تعالى يمنع السموات من أن تنتقل عن مكانها فترتفع أو تنخفض ويمنع الأرض أيضا من أن تنتقل كذلك وفي أثر أخرجه عبد إبن حميد وجماعة عن إبن عباس ما يقتضيه وقيل : زوالهما دورانهما فهما ساكنتان والدائرة بالنجوم أفلاكها وهي غير السموات فقد أخرج سعيد بن منصور وإبن جرير وإبن المنذر وعبد بن حميد عن شقيق قال : قيل لإبن مسعود إن كعبا يقول : إن السماء تدور في قطبة مثل قطبة الرحى في عمود على منكب ملك فقال : كذب كعب إن الله تعالى يقول إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا وكفى بها زوالا أن تدور والمنصور عند السلف أن السموات لا تدور وإنها غير الأفلاك وكثير من الإسلاميين ذهبوا إلى أنها تدور وأنها ليست غير الأفلاك وأما الأرض فلا خلاف بين المسلمين في سكونها والفلاسفة مختلفون والمعظم على السكون ومنهم من ذهب إلى أنها متحركة وأن الطلوع والغروب بحركتها ورد ذلك في موضعه والأولى في تفسير الآية ما سمعت أولا وكذا كونها مسوقة لما ذكرنا وقيل إنه تعالى لما بين فساد أمر الشركاء ووقف على الحجة في بطلانها عقب بذلك عظمته عزوجل وقدرته سبحانه ليتبين الشيء بضده وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله عزوجل ولئن زالتا أي أن أشرفتا على الزوال على سبيل الفرض والتقدير ويؤيده قراءة إبن أبي عبلة ولو زالتا وقيل إن ذلك إشارة إلى ما يقع يوم القيامة من طي السموات ونسف الجبال
إن أمسكهما أي ما أمسكهما من أحد من بعده أي من بعد إمساكه تعالى أو من بعد الزوال والجملة جواب القسم المقدر قبل لام التوطئة في لئن وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه وأمسك بمعنى يمسك كما في قوله تعالى ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ومن الأول مزيدة لتأكيد العموم والثانية للإبتداء إنه كان حليما غفورا 14 فلذا حلم على المشركين وغفر لمن تاب منهم مع عظم جرمهم المقتضي لتعجيل العقوبة وعدم إمساك السموات والأرض وتخريب العالم الذي هم فيه فلا يتوهم أن
(22/204)
المقام يقتضي ذكر القدرة لا الحلم والمغفرة وأقسموا بالله جهد أيمانهم أي حلفوا وأجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم الضمائر لقريش وذلك أنهم بلغهم قبل مبعث النبي أن طائفة من أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله تعالى اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم فكان منهم بعد ما كان فأنزل الله تعالى هذه الآية ولئن جاءهم جاء على المعنى وإلا فهم قالوا : جاءنا وكذا ليكونن وإحدى بمعنى واحدة والظاهر أنها عامة وإن كانت نكرة في الإثبات لإقتضاء المقام العموم وتعريف الأمم للعهد والمراد الأمم الذين كذبوا رسلهم أي لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى من كل واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم فنؤمن جميعا ولا يكذب أحد منا أو المنى لنكونن أهدى من أمة يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها من الأمم كما يقال هو واحد القوم وواحد عصره وكما قالوا هو أحد الأحدين وهي إحدى الأحد يريدون التفضيل في الدعاء والعقل قال الشاعر : حتى أستشاروا بي إحدى الأحد ليثا هزبرا ذا سلاح معتد وقد نص إبن مالك في التسهيل على أنه قد يقال لما يستعظم مما لا نظير له هو إحدى الأحد لكن قال الدماميني في شرحه : إنما ثبت إستعماله في إحدى ونحوه المضاف إلى جمع مأخوذ من لفظه كأحدى الأحد وأحد الأحدين أو المضاف إلى وصف كأحد العلماء وإحدى الكبر أما في المضاف إلى أسماء الأجناس كالأمم فيحتاج إلى نقل وبحث فيه بأنه قد ثبت إستعمال إحدى في الإستعظام من دون إضافة أصلا فإنهم يقولون للداهية العظيمة هي إحدى من سبع أي إحدى ليالي عاد في الشدة وشاع واحد قومه وأوحدهم وأوحد أمه ولم يظهر فارق بين المضاف إلى الجمع المأخوذ من اللفظ والمضاف إلى الوصف وبين المضاف إلى أسماء الأجناس ولا أظن أن مثل ذلك يحتاج إلى نقل فليتدبر
وقال صاحب الكشف : أن دلالة إحدى الأمم على التفضيل ليست بواضحة بخلاف واحد القوم ونحوه ثم وجهها أنه على أسلوب
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
يعني أن البعض المبهم قد يقصد به التعظيم كالتنكير فإحدى مثله وفيه أنه متى ثبت إستعماله للإستعظام كانت دلالته على التفضيل في غاية الوضوح
فلما جاءهم نذير وأي نذير وهو أشرف الرسل محمد كما روى عن إبن عباس وقتادة وهو الظاهر وعن مقاتل هو إنشقاق القمر وهو أخفى من السها والمقام عنه يأبى مازادهم أي النذير أو مجيئه إلا نفورا 24 تباعدا عن الحق وهربا منه وإسناد الزيادة إلى ذلك مجاز لأنه هو السبب لها والجملة جواب لما
وأستدل بالآية على حرفيتها لمكان النفي المانع عن عمل ما بعده فيها وفيه بحث وقوله تعالى إستكبارا في الأرض بدل من نفورا وقال أبو حيان : الظأهر أنه مفعول من أجله ونقل الأول عن الأخفش وقيل : هو حال أي مستكبرين ومكر السيء هو الخداع الذي يرومونه برسول الله والكيد له وقال قتادة هو الشرك وروى ذلك عن إبن جريج وهو عطف على إستكبارا وأصل التركيب وأن مكروا السيء على أن السيء صفة لموصوف مقدر أي المكر المسيء ثم أقيم المصدر مقام أن والفعل وأضيف إلى ما كان صفة وجوز أن يكون
(22/205)
عطفا على نفورا وقرأ الأعمش وحمزة السيء بإسكان الهمزة في الوصل إجراء له مجرى الوقف أو لتوالي الحركات وإجراء المنفصل مجرى المتصل وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن لما فيها من حذف الإعراب كما قال أبو جعفر
وزعم محمد بن يزيد أن الحذف لا يجوز في نثر ولا شعر لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني وقد أعظم بعض النحويين ان يكون الأعمش قرأ بها وقال إنما كان يقف على هذه الكلمة فغلظ من أدى عنه والدليل على هذا أنها تمام الكلام ولذا لم يقرأ في نظيرها كذلك مع أن الحركة فيه أثقل لأنها ضمة بين كسرتين والحق أنها ليست بلحن وقد أكثر أبو علي في الحجة من الإستشهاد والإحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والوصل بنية الوقف وقال إبن القشيري : ما ثبت بالإستفاضة أو التواتر أنه قريء به فلا بد من جوازه ولا يجوز أن يقال لحن ولعمري أن الإسكان ههنا أحسن من الإسكان في بارئكم كما في قراءة أبي عمرو وروى عن إبن كثير ومكر السأي بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة وهو مقلوب السيء المخفف من السيء كما قال الشاعر : ولا يجزون من حسن بسيء ولا يجزون من غلظ بلين وقرأ إبن مسعود مكرا سيئا عطف نكرة على نكرة ولا يحيق المكر السيء أي لا يحيط إلا بأهله
وقال الراغب أي لا يصيب ولا ينزل وأياما كان فهو إنما ورد فيما يكره وزعم بعضهم أن أصل حاق حق فجيء بدل أحد المثلين بالألف نحو ذم وذام وزل وزال وهذا من إرسال المثل ومن أمثال العرب من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا وعن كعب أنه قال لإبن عباس : قرأت في التوراة من حفر مغواة وقع فيها قال : أنا وجدت ذلك في كتاب الله تعالى فقرأ الآية وفي الخبر لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فإن الله تعالى يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا فإن الله سبحانه يقول إنما بغيكم على أنفسكم وقد حاق مكر هؤلاء بهم يوم بدر
والآية عامة على الصحيح والأمور بعواقبها والله تعالى يمهل ولا يهمل ووراء الدنيا الآخرة وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وبالجملة من مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظأهر ففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك أسأل الله تعالى بحرمة حبيبه الأعظم أن يدفع ويرفع عنا مكر الماكرين وأن يعاملهم في الدارين بعدله إنه سبحانه القوى المتين وقريء ولا يحيق بضم الياء المكر السيء بالنصب على أن يحيق من أحاق المتعدي وفاعله ضمير راجع إليه تعالى و المكر مفعوله فهل ينظرون أي ما ينتظرون وهو مجاز بجعل ما يستقبل بمنزلة ما ينتظر ويتوقع إلا سنت الأولين أي إلا سنة الله تعالى فيهم بتعذيب مكذبيهم
فلن تجد لسنة الله تبديلا بأن يضع سبحانه موضع العذاب ولن تجد لسنت الله تحويلا 34 بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم والفاء لتعليل ما يفيده الحكم بإنتظارهم العذاب من مجيئه ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد إنتفائهما والخطاب عام أو خاص به عليه الصلاة و السلام
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم إستشهاد على ما قبله من جريان سنة الله تعالى على تعذيب المكذبين بما يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم في رحلتهم إلى الشام واليمن والعراق
(22/206)
من آثار الأمم الماضية وعلامات هلاكهم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يليق بالمقام على رأي أي أقعدوا ولم يسيروا وقوله تعالى وكانوا أشد منهم قوة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها
وما كان الله ليعجزه أي ليس من شأنه عز شأنه أن يسبقه ويفوته من شيء أي شيء ومن لإستغراق الأشياء في السموات ولا في الأرض هو نظير لا يغادر صغيرة ولا كبيرة والواو حالية أو عاطفة
وفي الإرشاد الجملة إعتراض مقرر لما يفهم مما قبله من إستئصال الأمم السلفة وظاهره أن الواو إعتراضية
إنه كان عليما قديرا 44 مبالغا في العلم والقدرة والجملة تعليل لنفي الإعجاز ولو يؤاخذ الله الناس جميعا بما كسبوا فعلوا من السيآت كما وأخذ أولئك ما ترك على ظهرها أي ظهر الأرض وقد سبق ذكرها في قوله تعالى في السموات ولا في الأرض فليس من الإضمار قبل الذكر كما زعمه الرضى وظهر الأرض مجاز عن ظاهرها كما قال الراغب وغيره وقيل : في الكلام إستعارة مكنية تخييلية والمراد ما ترك عليها من دابة أي من حيوان يدب على الأرض لشؤم المعاصي وقد قال سبحانه وأتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وهو المروى عن إبن مسعود وقيل : المراد بالدابة الأنس وحدهم وأيد بقوله تعالى : ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة فإن الضمير للناس لأنه ضمير العقلاء ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء نوعهم وقيل : هو لجميع من ذكر تغليبا ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء جنس المخلوقات فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا 54 فيجازي المكلفين منهم عند ذلك بأعمالهم إن شرا فشر وإن خيرا فخير وجملة فإن الله إلخ موضوعة موضع الجزاء والجزاء في الحقيقة يجازي كما أشرنا إليه هذا والله تعالى هو الموفق للخير ولا إعتماد إلا عليه
ومن باب الإشارة الحمد لله فاطر السموات والأرض إشارة إلى إيجاد عالمي اللطافة والكثافة وإلى أن إيجاد عالم اللطافة مقدم على إيجاد عالم الكثافة ويشير إلى ذلك ما شاع خلق الله تعالى الأرواح قبل الأبدان بأربعة آلاف سنة جاعل الملائكة رسلا في إيصال أوامره إلى من يشاء من عباده أو وسائط تجري إرادته سبحانه في مخلوقاته على أيديهم أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع إشارة إلى إختلافهم في الإستعداد يزيد في الخلق ما يشاء عام في الملك وغيره وفسرت الزيادة بهبة إستعداد رؤيته عزوجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ما يفتح الله للناس من رحمة الزيادة المشار إليها وغيرها فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده فيه إشارة إلى أن رحمته سبحانه سبقت غضبه عزوجل وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك تسلية لحبيبه وإرشاد لورثته إلى الصبر على إيذاء أعدائهم لهم وتكذيبهم إياهم وإنكارهم عليهم والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها جرت سنته تعالى في أحياء الأرض بهذه الكيفية كذلك إذا أراد سبحانه أحياء أرض القلب فيرسل أولا رياح الإرادة فتسير سحاب المحبة ثم يأتي مطر الجود والعناية فينبت في القلب رياحين الروح وأزهار البسط ونوار الأنوار ويطيب العيش
من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إشارة إلى أن العزة الحقيقية لا تحصل بدون الفناء ولا تغفل عن حديث لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل إلخ والله خلقكم من تراب وهو أبعد المخلوقات من الحضرة وأسفلها
(22/207)
وأكثفها ثم من نطفة وفيها نوع ما من اللطافة ثم جعلكم أزواجا إشارة إلى ما حصل لهم من أزدواج الروح اللطيف العلوي والقالب الكثيف السفلي وهو مبدأ إستعداد الوقوف على عوالم الغيب والشهادة وما يستوي البحران قيل أي بحر العلم الوهبي وبحر العلم الكسبي هذا أي بحر العلم الوهبي عذب فرات سائغ شرابه لخلوه عن عوارض الشكوك والأوهام وهذا أي بحر العلم الكسبي ملح أجاج لما فيه من مشقة الفكر ومرارة الكسب وعروض الشكوك والتردد والإضطراب ومن كل تأكلون لحما طريا إشارات لطيفة تتغذون بها وتتقون على الأعمال وتستخرجون حلية تلبسونها وهي الأخلاق الفاضلة والآداب الجميلة والأحوال المستحسنة التي تكسب صاحبها زينة وترى الفلك سفن الشريعة والطريقة فيه مواخر جارية لتبتغوا من فضله بالوصول إلى حضرته عزوجل فعل ذلك ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله في سائر شؤنكم ومراتب الفقر متفاوتة ولكما أزداد الإنسان قربا منه عزوجل أزداد فقره إليه لأزدياد المحبة حينئذ وكلما زاد العشق زاد فقر العاشق إلى المعشوق حتى يفنى والله هو الغني الحميد فيه من البشارة ما فيه إنما يخشى الله من عباده العلماء أي العلماء به تعالى وبشؤنه فهم كلما أزدادوا علما أزدادوا خشية لما يظهر لهم من عطمته عزوجل وأنهم بالنسبة إليه تعالى شأنه لا شيء ثم أورثنا الكتناب الذين أصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله قيل : الظالم لنفسه السالك والمقتصد السالك المجذوب والسابق المجذوب السالك والسالك هو المتقرب والمجذوب هو المقرب والمجذوب السالك هو المستهلك في كمالات القرب الفاني عن نفسه الباقي بربه عزوجل وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن حزن تخيل الهجر فلا حزن للعاشق أعظم من حزن تخيل هجر معشوقه له وجفوته إياه إن ربنا لغفور شكور فلا بدع إذا أذهب عنا ذلك وآمننا من القطيعة والهجران الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب هو نصب الأبدان وتعبها من أعمال الطاعة للتقرب إليه سبحانه ولا يمسنا فيها لغوب هو لغوب القلوب وإضطرابها من تخيل القطيعة والرد وهجر الحبيب وقيل : لا يمسنا فيها نصب السعي في تحصيل أي امر أردناه ولا يمسنا فيها لغوب تخيل ذهاب أي مطلوب حصلناه وقد أشاروا إلى أن كل ذلك من فضل الله تعالى والله عزوجل ذو الفضل العظيم هذا ونسأل الله تعالى من فضله الحلو ما تنشق منه مرارة الحسود وينفطر به قلب كل عدو وينتعش فؤاد كل محب ودود
سورة يس
صح من حديث الإمام أحمد وأبي داؤد والنسائي وإبن ماجه والطبراني وغيرهم عن معقل بن يسار أن رسول الله قال يس قلب القرآن وعد ذلك أحد أسمائها وبين حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة وجه إطلاق ذلك عليها بأن المدار على الإيمان وصحته بالإعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر فيها على أبلغ وجه وأحسنه ولذا شبهت بالقلب الذي به صحة البدن وقوامه وأستحسنه الإمام الرازي وأورد على ظاهره أن كل ما يجب الإيمان به لا يصح الإيمان بدونه فلا وجه لإختصاص الحشر والنشر بذلك وأجيب بأن المراد بالصحة في كلام الحجة ما يقابل السقم والمرض ولا شك أن من صح إيمانه بالحشر يخاف من النار ويرغب في الجنة دار الأبرار فيرتدع عن المعاصي التي هي كأسقام الإيمان إذ بها يختل ويضعف ويشتغل بالطاعات التي هي
(22/208)
كحفظ الصحة ومن لم يقو إيمانه به كان خحاله على العكس فشابه الإعتراف به بالقلب الذي بصلاحه يصلح البدن وبفساده يفسد وجوز أن يقال وجه الشبه بالقلب أن به صلاح البدن وفساده وهو غير مشاهد في الحس وهو محل لإنكشاف الحقائق والأمور الخفية وكذا الحشر من المغيبات وفيه يكون إنكشاف الأمور والوقوف على حقائق المقدور وبملاحظته وإصلاح أسبابه تكون السعادة الأبدية وبالإعراض عنه وإفساد أسبابه يبتلي بالشقاوة السرمدية وفي الكشف لعل الإشارة النبوة في تسمية هذه السورة قلبا وقلب كل شيء عليه وأصله الذي ما سواه إما من مقدماته وإما من متمماته إلى ما أسلفناه في تسمية الفاتحة بأم القرآن من أن مقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب إرشاد العباد إلى غايتهم الكمالية في المعاد وذلك بالتحقق والتخلق المذكورين هنالك وهو المعبر عنه بسلوك الصراط المستقيم ومدار هذه السورة الكريمة على بيان ذلك أتم بيان
ويعلم منه وجه إختصاص الحشر بما ذكر في كلام الحجة فلا وجه لقول البعض في الإعتراض عليه فلا وجه إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكلام في تفسير السورة الإشارة إلى ما أشتملت عليه من أمهات علم الأصول والمسائل المعتبرة بين الفحول وتقريرها إياها بأبلغ وجه وأتمه ولعل هذا هو السر في الأمر الوارد في صحيح الأخبار بقراءتها على الموتى أي المحتضرين وتسمى أيضا العظيمة عند الله تعالى
أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله إن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند الله تعالى ويدعى صاحبها الشريف عند الله تعالى يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس وذكر أنها تسمى أيضا المعمة والمدافعة القاضية
أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول الله قال سورة يس تدعى في التوراة المعمة تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة وتكابد عنه بلوى الدنيا والآخرة وتدفع عنه أهاويل الدنيا والآخرة وتدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة الخبر وتعقبه البيهقي فقال : تفرد به محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن دفاع وهو منكر وهي على ما أخرج إبن الضريس والنحاس وإبن مردويه والبيهقي عن إبن عباس مكية وأستثنى منها بعضهم قوله تعالى : إنا نحن نحيي الموتى الآية مدعيا أنها نزلت بالمدينة لما أراد بنو سمة النقلة إلى قرب مسجد النبي وكانوا في ناحية المدينة فقال عليه الصلاة و السلام إن آثاركم تكتب فلم ينتقلوا وسيأتي إن شاء الله تعالى ما قيل في ذلك وقوله سبحانه وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله الآية لأنها نزلت في المنافقين فتكون مدنية
وتعقب بأنه لا صحة له وأيها ثلاث وثمانون آية في الكوفي وإثنتان وثمانون في غيره وجاء مما يشهد بفضلها وعلو شأنها عدة أخبار وآثار وقد مر آنفا بعض ذلك وصح من حديث معقل بن يسار لا يقرؤها عبد يريد الله تعالى والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه
وأخرج الترمذي والدارمي من حديث أنس من قرأ يس كتب الله تعالى له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ولا يلزم من هذا تفضيل الشيء على نفسه إذ المراد بقراءة القرآن قراءته دون يس وقال الخفاجي : لا يلزم ذلك إذ يكفي في صحة التفضيل المذكور التغاير الإعتباري فإن يس من حيث تلاوتها فردة غير كونها
(22/209)
مقروءة في جملته كما إذا قلت : الحسناء في الحلة الحمراء أحسن منها في البيضاء وقد يكون للشيء مفردا ما ليس له مجموعا مع غيره كما يشاهد في بعض الأدوية ورجا أن يكون أقرب مما قدمنا وأنا لا أرجو ذلك والظاهر أنه يكتب له الثواب المذكور مضاعفا أي كل حرف بعشرة حسنات ولا بدع في تفضيل العمل القليل على الكثير فلله تعالى أن يمن بما شاء على من شاء ألا ترى ما صح أن هذه الأمة أقصر الأمم أعمارا وأكثرها ثوابا وإنكار الخصوصيات مكابرة ولله تعالى در من قال : فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال وذكر بعضهم أن من قرأها أعطى من الأجر كمن قرأ القرآن أثنتين وعشرين مرة وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي قلابةوهو من كبار التابعينأن من قرأها فكأنما قرأ القرآن إحدى عشرة مرة
وعن أبي سعيد أنه قال من قرأ يس مرة فكأنما قرأ القرآن مرتين
وحديث العشر مرفوع عن إبن عباس ومعقل بن يسار وعقبة بن عامر وأبي هريرة وأنس رضي الله تعالى عنهم فعليه المعول ووجه إتصالها بما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي أنه لما ذكر في سورة فاطر قوله سبحانه وجاءكم النذير وقوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانكم لئن جاءهم نذير إلى قوله سبحانه فلما جاءهم نذير وأريد به محمد وقد أعرضوا عنه وكذبوه أفتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته عليه الصلاة و السلام وأنه على صراط مستقيم لينذر قوما ما أنذر آباؤهم وقال سبحانه في فاطر وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل وفي هذه السورة والشمس تجري لمستقر لها والقمر قدرناه منازل إلى غير ذلك ولا يخفى أن أمر المناسبة يتم على تفسير النذير بغيره أيضا فتأمل
بسم الله الرحمن الرحيم يس 1 الكلام فيه كالكلام في ألم ونحوه من الحروف المقطعة في أوائل السور إعرابا ومعنى عند كثير وأخرج إبن أبي شيبة وعبد بن حميد وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم من طرق عن إبن عباس أنه قال : يس ياإنسان وفي رواية أخرى عنه زيادة بالحبشية وفي أخرى عنه أيضا في لغة طي
قال الزمخشري : إن صح هذا فوجهه أن يكون أصله ياأنيسين فكثر النداء به على ألسنتهم حتى أقتصروا على شطره كما في القسم م الله في أيمن الله وتعقبه أبو حيان بأن المنقول عن العرب في تصغير إنسان أنيسيان بياء قبل الألف وهو دليل على أن الإنسان من النسيان وأصله إنسيان فلما صغر رده التصغير إلى أصله ولا نعلمهم قالوا في تصغيره أنيسين وعلى تقدير أنه بقية أنيسين فلا يجوز ذلك إلا أن يبني على الضم ولا يبقى موقوفا لأنه منادى مقبل عليه ومع ذلك لا يجوز التصغير في أسماء الأنبياء عليهم السلام كما لا يجوز في أسماء الله عزوجل وما ذكره فيممن أنه شطر أيمن قول ومن النحويين من يقول محرف قسم وليس شطر أيمن إنتهى
قال الخفاجي : لزوم البناء عل ىالضم مما لا كلام فيه فلعل من فسره بذلك يقرؤه بالضم على الأوجه فيه وأما الإعتراضان الآخران فلا ورود لهما أصلا فأما الأول فلأن من يقول أنيسيان على خلاف القياس وهو الأصح لا يلزمه فيما غير منه ان يقدره كذلك وهو لم يلفظ به حتى يقال له : إنك نطقت بما لم تنطق به العرب بل هو أمر تقديري فإذا قال : المقدر مفروض عندي على القياس هل يتوجه عليه السؤال وأما الأخير فلأن
(22/210)
التصغير في نحو ذلك إنما يمتنع منا وأما من الله تعالى فله سبحانه أن يطلق عل ىنفسه عزوجل وعظماء خلقه ما أراد ويحمل حينئذ على ما يليق كالتعظيم والتحبيب ونحوه من معاني التصغير كما قال إبن الفارض : ما قلت حبيبي من التحقير بل يعذب أسم الشيء بالتصغير والذي قاله أبو حيان في توجيه ذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ويجمعون على أياسين فهذا منه ولا يخفى أنه يحتاج إلى إثبات وبعد ولا يخفى ما في التخريج عليه وقالت فرقة : ياحرف نداء والسين مقامة مقام إنسان أنتزع منه حرف فأقيم مقامه ونظيره ما جاء في الحديث كفى بالسيف شا أي شاهدا وأيد بما ذهب إليه إبن عباس في حم عسق ونحوه من أنها حروف من جملة أسماء له تعالى وهي رحيم وعليم وسميع وقدير ونحو ذلك وظاهر كلام بعضهم كإبن جبير أن يس بمجموعه أسم من أسمائه عليه الصلاة و السلام وهو ظاهر قول السيد الحميري : يانفس لا تمحضي بالود جاهدة على المودة إلا آل ياسينا ولتسميته بهذين الحرفين الجليلين سر جليل عند الواقفين على أسرار الحروف وقد تكلمت ولله تعالى الحمد فيما تعلق بهذه الكلمة الشريفة ثلاثة أيام أشرع كل يوم منها بعد العصر وأختم قبيل المغرب وذلك في مجلس وعظي في المسجد الجامع الداودي واليوم لا أستطيع أن أذكر من ذاك بنت شفة بل لا أتذكر منه إلا رسما هب عليه عاصف الزمان الغشوم فنسفه فحسبي الله عمن سواه فلا رب غيره ولا يرجي إلا خيره
وقريء بفتح الياء وإمالتها محضا وبين بين
وقرأ جمع بسكون النون مدغمة في الواو وآخرون بسكونها مظهرة والقراءتان سبعيتان وقرأ إبن أبي إسحاق وعيسى بفتح النون قال أبو حاتم قياس قول قتادة إنه قسم أن يكون على حدالله لأفعانبالنصب
ويجوز أن يكون مجرورا بإضمار باء القسم وهو ممنوع من الصرف وقال الزجاج : النصب على تقدير أتل يس وهذا على قول سيبويه أنه أسم للسورة وقيل هو مبني والتحريك للجد في الهرب من إلتقاء الساكنين والفتح للخفة كما في أين وسبب البناء غير خفي عليك إذا أحطت خبرا بما قرروا في ألم أول سورة البقرة
ولا تغفل عما قالوا في النصب بإضمار فعل القسم من أنه لا يسوغ لما فيه من جمع قسمين على مقسم عليه واحد وهو مستكره ولا سبيل إلى جعل الواو بعد للعطف لا للقسم لمكان الإختلاف إعرابا
وقرأ الكلبي بضم النون وخرج على أنه منادى مقصود بناء على أنه بمعنى إنسان أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ويقدر هذه إذا كان إسما للسورة وهذا إن كان أسما للقرآن وهو يطلق على البعض كما يطلق على الكل وجعله مبتدأ محذوف الخبر وهو قسم أي يس قسمي نحو أمانة الله لأفعلن بالرفع لا يخفى حاله وقيل الضمة فيه ضمة بناء كما في حيث
وقرأ أبو السمال وإبن أبي إسحاق أيضا بكسرها وخرج على أنه للجد في الهرب عن الساكنين بما هو الأصلي فتأمل وتذكر والقرآن إبتدأ قسم وجوز أن يكون عطفا على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم لا أنه قسم بعد قسم لما سمعت من كلامهم الحكيم 2 أي دي حكمة على أنه صيغة نسبة كلابن وتأمر أي متضمن إياها أو الناطق بالحكمة كالحي على أن يكون من الإستعارة المكنية أو المتصف
(22/211)
بالحكمة على أنالإسناد مجازي وحقيقته الإسناد إلى الله تعالى المتكلم به وفي البحر هو إما فعيل بمعنى مفعل كأعقدت العسل فهو عقيد أي معقد وإما للمبالغة من حاكم إنك لمن المرسلين 3 جواب للقسم والجملة لرد إنكار الكفرة رسالته عليه الصلاة و السلام فقد قالوا : لست مرسلا وتقدم ما يشعر بأنهم على جانب عظيم من الإنكار أعني قوله تعالى فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا إستكبارا في الأرض ومكر السيء وهذه الآية من جملة ما أشير إليه بقوله تعالى في جوابهم عن إنكارهم قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم وتخصيص القرآن بالأقسام به أولا وبوصفه بالحكيم ثانيا تنويه بشأنه على أكمل وجه
وقوله تعالى : على صراط مستقيم 4 خبر ثان لأن وأختاره الزجاج قائلا : إنه الأحسن في العربية أو حال من ضميره عليه الصلاة و السلام المستكن في الجار والمجرور أو الواقع أسم إن بناء على رأي من يجوز الحال من المبتدأ وجوز أن يكون متعلقا بالمرسلين وليس المراد به الحال أو الإستقبال أي لمن الذين أرسلوا على صراط مستقيم وأن يكون حالا من عائد الموصول المستتر في أسم الفاعل أو حالا من نفي المرسلين
والزمخشري لم يذكر من هذه الأوجه سوى كونه خبرا وكونه صلة للمرسلين وأياما كان فالمراد بالصراط المستقيم ما يعم العقائد والشرائع الحقة وليس الغرض من الأخبار الأعلام بتمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته ليقال إن ذلك حاصل قبله لما أن كل أحد يعلم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم بل الغرض الإعلام بأنه موصوف بكذا وأن ما جاء به الموصوف بكذا تفخيما لشأنهما فسلكا في مسلك سلوكا لطريق الإختصار وأيضا التنكير في صراط للتفخيم فهو دال على أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة على صراط لا يكتنه وصفه وهذا شيء لم يعلم قبل ولا يرد أن الطريق المستقيم واحد ليس إلا ألا ترى إلى قوله تعالى : فأتبعوه ولا تتبعوا السبل لأن لكل نبي شارع منهاجا هو مستقيم وبإعتبار الرجوع إلى المرسل تعالى شأنه الكل متحد وبإعتبار الإختصاص بالمرسل والشرائع مختلف فصح أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة إلخ وأيضا هو فرض والفرض تعظيم هذا الصراط بأنه لا صراط أقوم منه واقعا أو مفروضا ولا نظر إلى أن هنالك آخر أولا وهذا قريب من أسلوب مثلك لا يفعل كذا فأفهم ولا تغفل
وقوله تعالى : تنزيل العزيز الرحيم 5 نصب على المدح أو على المصدرية لفعل محذوف أي نزل تنزيل
وقرأ جمع من السبعة وأبو بكر وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والمصدر بمعنى المفعول أي هو تنزيل أي منزل العزيز الرحيم والضمير للقرآن ويجوز إبقاؤه على أصله بجعله عين التنزيل وجوز خبر يس إن كان المراد بها السورة والجملة القسمية معترضة والقسم لتأكيد المقسم عليه والمقسم به إهتماما فلا يقال : إن الكفار ينكرون القرآن فكيف يقسم به لالزامهم
وقرأ ابو حيوة واليزيدي والقورضي عن أبي جعفر وشيبة بالخفض على البدلية من القرآن أو الوصفية له
وأياما كان ففيه إظهار لفخامة القرآن الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية بوصفه بالحكمة وفي تخصيص الأسمين الكريمين المعربين عن الغلبة الكاملة والرحمة الفاضلة حث على الإيمان به ترهيبا وترغيبا وإشعارا بأن
(22/212)
تنزيله ناشيء عن غاية الرحمة حسبما أشار إليه قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين لتنذر متعلق بتنزيل أو بفعله المضمر على الوجه الثاني في إعرابه أي نزل تنزيل العزيز الرحيم لتنذر به أو بما يدل عليه لمن المرسلين أي أرسلت أو إنك مرسل لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم أي لم تنذر آباؤهم على ما روى عن قتادة فما نافية والجملة صفة قوما مبينة لغاية إحتياجهم إلى الإنذار والمراد بالإنذار الإعلام أو التخويف ومفعوله الثاني محذوف أي عذابا لقوله تعالى إنا أنذرناكم عذابا قريبا والمراد بآبائهم آباؤهم الأدنون وإلا فالأبعدون قد أنذرهم إسماعيل عليه السلام وبلغهم شريعة إبراهيم عليه السلام
وقد كان منهم من تمسك بشرعه على أتم وجه ثم تراخى الأمر وتطاول المدد فلم يبق من ش ريعته عليه السلام إلا الأسم وفي البحر الدعاء إلى الله تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة نبينا والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم ولا آباءهم القريبين وأما أن النذارة أنقطعت فلا ولما شرعت آثارها تندرس بعث النبي وما ذكره المتكلمون من حال أهل الفترات فهو على حسب الفرض
وعليه فالمعنى ما أنذر آباءهم رسول أي لم يباشرهم بالإنذار لا أنه لم ينذرهم منذر أصلا فيجوز أن يكون قد أنذرهم من ليس بنبي كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وليس في ذلك إنكار الفترة المذكورة في قوله تعالى على فترة من الرسل لأنها فترة إرسال وإنقطاعها زمانا لا فترة إنذار مطلقا وعن عكرمة ما بمعنى الذي وجوز أن تكون موصوفة وهي على الوجهين مفعول ثان لتنذر أي لتنذر قوما الذي أنذره أو شيئا أنذره الرسل آباءهم الأبعدين وقال إبن عطية : يحتمل أن تكون ما مصدرية فتكون نعتا لمصدر مؤكد أي لتنذر قوما ما إنذار الرسل آباءهم الأبعدين وقيل هي زائدة وليس بشيء فهم غافلون 6 هو على الوجه الأول متفرع على نفي الإنذار ومتسبب عنه والضمير للفريقين أي لم ينذر آباؤهم فهم جميعا لأجل ذلك غافلون وعلى الأوجه الباقية متعلق بقوله تعالى لتنذر أو بما يفيده إنك لمن المرسلين وارد لتعليل إنذاره عليه الصلاة و السلام أو إرساله بغفلتهم المحوجة إليه نحو أسقه فإنه عطشان على أن الضمير للقوم خاصة فالمعنى فهم غافلون عنه أي عما أنذر آباؤهم
وقال الخفاجي : يجوز تعلقه بهذا على الأول أيضا وتعلقه بقوله تعالى لتنذر على الوجوه وجعل الفاء تعليلية والضمير لهم أو لآبائهم ولا يخفى عليك أن المنساق إلى الذهن ما قرر أولا لقد حق جواب لقسم محذوف أي والله لقد ثبت ووجب القول الذي قلته لإبليس يوم قال لأغوينهم أجمعين وهو لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين على أكثرهم متعلق بحق والمراد سبق في علمي دخول أكثرهم فيمن أملأ منهم جهنم وهم تبعة إبليس كما يشير إليه تقديم الجنة على الناس وصرح به قوله تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين
ولا مانع من أن يراد بالقول لكن المشهور ما تقدم وظاهر كلام الراغب أن المراد بالقول علم الله تعالى بهم ولا حاجة إلى إلتزام ذلك وقيل : الجار متعلق بالقول ويقال قال عليه إذا تكلم فيه بالشر والمراد لقد ثبت في الأزل عذابي لهم وفيه ما فيه ويؤيد تعلقه بحق قوله تعالى إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ونقل
(22/213)
أبو حيان أن المعنى حق القول الذي قاله الله تعالى على لسان الرسل عليهم السلام من التوحيد وغيره وبان برهانه وهو كما ترى
فهم أي الأكثر لا يؤمنون 7 بإنذارك إياهم والفاء تفريعية داخلة على الحكم المسبب عما قبله فيفيد أن ثبوت القول عليهم علة لتكذيبهم وكفرهم وهو علة له بإعتبار سبق العلم بسوء إختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر فإن علمه تعالى لا يتعلق بالأشياء إلا على ما هي عليه في أنفسها ومآله إلى أن سوء إختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر علة لتكذيبهم وعدم إيمانهم بعد الإنذار فليس هناك جبر محض ولا أن المعلوم تابع للعلم
وقال بعضهم : الفاء إما تفريعية وكون ثبوت القول علة لعدم إيمانهم مبني على أن المعلوم تابع للعلم وإما تعليلية مفيدة أن عدم الإيمان علة لثبوت القول بناء على أن العلم تابع للمعلوم ولا يلزم الجبر على الوجهين أما على الثاني فظاهر وأما على الأول فلأن العلم ليس علة مستقلة عند القائل بذلك بل لإختيارهم وكسبهم مدخل فيه فتأمل
والتفريع هو الذي أميل إليه إنا جعلنا في أعناقهم جمع عنق بالضم وبضمتين وهو الجيد ويقال عنيق كامير وعنق كصرد أغلالا جمع غل بالضم وهو على ما قيل ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد وفي البحر الغل ما أحاط بالعنق على معنى التث قيف والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة
وذكر الراغب أنه ما يقيد به فتجعل الأعضاء وسطه وأصله من الغلل تدرع الشيء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر وقد يقال له الغيل وكأن في الكلام عليه قلبا أي جعلنا أعناقهم في إغلال كما تقول جعلت الخاتم في أصبعي أي جعلت أصبعي في الخاتم وجوز أن يكون على حد لأصلبنكم في جذوع النخل والتنوين للتعظيم والتهويل أي أغلالا عظيمة هائلة وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة مما يؤيد ذلك فهي أي الأغلال كما هو الظاهر إلى الأذقان جمع ذقن بالتحريك مجتمع اللحيين من أسفلهما وأل للعهد أو عوض عن المضاف إليه والظرف متعلق بكون خاص خبر هي أي فهي واصلة أو منتهية إلى أذقانهم والفاء للتفريع وقيل : لمجرد التعقيب بناء على عدم حمل التنوين على التعظيم والتهويل وقوله تعالى فهم مقمحون 8 نتيجة فهي إلى الأذقان فالفاء تفريعية ايضا والمقمح على ما في النهاية الذي يرفع رأسه ويغض بصره وكأنه أراد المجهول بحيث يرفع إلخ
وقال أبو عبيدة : يقال قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب والجمع قماح ومنه قول بشر يصف سفينة أخذهم الميد فيها : ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح وقال الليث : هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود ومنه قيل للكانونين شهرا قماح بضم القاف وكسرها لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤسها لشدة برده وقال الراغب القمح رفع الرأس لسف الشيء المتخذ من القمح أي البر إذا جرى في السنبل من لدن الإنضاج إلى حين الإكتناز ثم يقال لرفع الرأس كيفما كان قمح وقمح البعير رفع رأسه وأقمحت البعير شددت رأسه إلى خلف وقيل : المقمح الذي يجذب ذقنه حتى يصير في صدره ثم يرفع وقال مجاهد : القامخح الرافع الرأس الواضع يده على فيه وقال الحسن : هو الطامح ببصره إلى موضع قدمه وظاهره يقتضي أن يكون هناك نكس للرأس والمعروف في القمح الرفع ووجه التفريع
(22/214)
أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يطأطيء ويوطيء قذا له فلا يزال مقمحا لا سيما إذا كان الغل عظيما وقال إبن عطية : إن الأغلال عريضة تبلغ بحروفها الأذقان أي فيحصل القمح وكلام إبن الأثير يشعر أن القمح لضيق الغل وإن أريد جعلنا في كل من أعناقهم أغلالا كان أمر القمح أظهر وأظهر وقال البغوي والطبري والزجاج والطبرسي : ضمير هي للأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى لأن الغل يتضمن العنق واليد ولذلك سمى جامعة وما يكون في العنق وحده أو في اليد وحدها لا يسمى غلا فمتى ذكر مع العنق فاليد مرادة أيضا ومتى ذكر مع اليد كما في قراءة إبن عباس في أيديهم أغلالا وفي قراءة إبن مسعود في أيمانهم أغلالا فالعنق مراد أيضا وهذا ضرب من الإيجاز والإختصار ونظير ذلك قول الشاعر : وما أذري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي لا يأتيني حيث ذكر الخير وحده وقال أيهما أي الخير والشر وقد علم أن الخير والشر يعرضان للإنسان وأختار الزمخشري ما تقدم ثم قال : والدليل عليه قوله تعالى : فهم مقمحون ألا ترى كيف جعل الأقماح نتيجة فهي إلى الأذقان ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج وصاحب الإنتصاف أراد الإنتصار للجماعة فقال : يحتمل أن يكون الفاء في فهم مقمحون للتعقيب كسابقه أو للتسبب فإن ضغط اليد مع العنق يوجب الإقماح لأن اليد تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن رافعة لها ولأن اليد إذا كانت مطلقة كانت راحة للمغلول فربما يتحيل بها على فكاك الغل فيكون منبها على أنسداد باب الحيلة
قال صاحب الكشف : والجواب أنه لا فخامة للتعقيب المجرد ثم أن ما ذكره الزمخشري وقد أشرنا إليه نحن فيما سبق مستقل في حصول الأقماح فأين التعقيب وبه خرج الجواب عن التسبب وقوله ولأن اليد إلخ لا يستقل جوابا دون الأولين وعلى العلات رجوع الضمير إلى الأغلال هو الحري بالإعتبار وبلاغة الكتاب الكريم تقتضيه ولا تكاد تلتفت إلى غيره وجعلنا عطف على جعلنا السابق من بين أيديهم من قامهم سدا عظيما وقيل نوعا من السد ومن خلفهم من ورائهم سدا كذلك والقدام والوراء كناية عن جميع الجهات فأغشيناهم فغطينا بما جعلناه من السد أبصارهم وعن مجاهد فأغشيناهم فألبسنا أبصارهم غشاوة فهم بسبب ذلك لا يبصرون 9 لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلا
وقرأ جمع من السبعة وغيرهم سدا بضم السين وهي لغة فيه وقيل ما كان من عمل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله تعالى فهو بالضم وقيل بالعكس وقرأ إبن عباس وعمر بن عبدالعزيز وإبن يعمر وعكرمة والنخعي وإبن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وأبو حنيفة ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وإبن مقسم فأغشيناهم بالعين من الغشا وهو ضعف البصر ومجموع المتعاطفين من قوله تعالى : إنا جعلنا إلخ تأكيد وتقرير لما دل عليه قوله سبحانه : لقد حق القول على أكثرهم إلخ من
(22/215)
سوء إختيارهم وقبح حالهم فإن جعل الله تعالى إياهم بما أظهر فيهم من الإعجاب العظيم بأنفسهم مستكبرين عن إتباع الرسل عليم السلام شامخين برؤسهم غير خاضعين لما جاؤا به وسد أبواب النظر فيما ينفعهم عليهم بالكلية ليس إلا لأنهم سيئو الإختيار وقبيحو الأحوال قد عشقت ذواتهم ما هم عليه عشقا ذاتيا وطلبته طلبا إستعداديا فلم تكن لها قابلية لغيره ولم تلتفت إلى ما سواه وإذا قايست بين ذواتهم وما هم عليه وبين الجسم والحيز أو الثلاثة والفردية مثلا لم تكد تجد فرقا وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ففي الكلام تشبيهات متعددة كما لوحنا إليه وهذا الوجه هو الذي يقتضيه ما عليه كثير من الأجلة وإن لم يذكروه في الآية وفي الإنتصاف إذا فرق التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال وكان إستكبارهم عن قبول الحق والتواضع لإستماعه مشبها بالأقماح لأن المقمح لا يطأطأ رأسه وقوله تعالى : فهي إلى الأذقان تتمة للزوم الأقماح لهم وكان عدم النظر في أحوال الأمم الخالية مشبها بسد من خلفهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم وفي التيسير جمع الأيدي إلى الأذقان بالأغلال عبارة عن منع التوفيق حتى أستكبروا عن الحق لأن المتكبر يوصف برفع العنق والمتواضع بضده كما في قوله تعالى فظلت أعناقهم لها خاضعين ولم يذكر المراد بجعل السد وذكر الإمام أن المانع عن النظر في الآيات قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه وقسم يمنع عن النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن إبتلى بهما حرم عن النظر بالكلية وأختار بعضهم كون إنا جعلنا إلخ تمثيلا مسوقا لتقرير تصميمهم على الكفر وعدم أرعوائهم عنه فيكون قد مثل حالهم في ذلك بحال الذين غلت أعناقهم وجوز في قوله تعالى وجعلنا إلخ أن يكون تتمة لذلك وتكميلا له وأن يكون تمثيلا مستقلا فإن جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئا قطعا كاف في الكشف عن كمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات
وقال أبو حيان الظاهر أن قوله تعالى إنا جعلنا الآية على حقيقتها لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر سبحانه عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ولا يضعف هذا كما زعم إبن عطية قوله تعالى فأغشيناهم فهم لا يبصرون لأن بصر الكافر يومئذ حديد يرى قبح حاله ألا ترى إلى قوله سبحانه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وقوله سبحانه قال رب لم حشرتني أعمى فأما أن يكون ذلك حالين وإما أن يكون قوله تعالى : فبصرك اليوم حديد كناية عن إدراكه ما يؤول إليه حتى كأنه يبصره وأعترض بعضهم عليه بأنه يلزم أن يكون الكلام أجنبيا في البين وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله تعالى لقد حق القول على أكثرهم قد دغدغ فيه والإنصاف أنه خلاف الظاهر وقال الضحاك : والفراء في قوله تعالى : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا إستعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله تعالى كما قال سبحانه ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولعله جعل الجملة الثانية إستعارة لمنعهم عن رؤية الخير والسعي فيه ولا يخفى أن كون الكلام على هذا أجنبيا في البين في غاية الظهور وأخرج إبن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن إبن عباس قال : كان النبي يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة فتأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاؤا إلى النبي فقالوا : ننشدك الله تعالى والرحم يامحمد قال ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي فيهم قرابة
(22/216)
فدعا النبي عليه الصلاة و السلام حتى ذهب ذلك عنهم فنزلتيس والقرآن الحكيمإلى قوله سبحانه أم لم تنذرهم لا يؤمنون فلم ي ؤمن من ذلك النفر أحد وروى أن الألآيتين نزلتا في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حمل حجرا لينال بها ما يريد برسول الله وهو يصلي فأثبتت يده إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر قد لزق بيده فما فكوه إلا بجهد فأخذه مخزومي آخر فلما دنا من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم طمس الله تعالى بصره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه فقام ثالث فقال : لأشدخن أنا رأسه ثم أخذ الحجر وأنطلق فرجع القهقري ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه فقيل له : ما شأنك قال : عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه فإذا فحل ما رأيت فحلا أعظم منه حال بيني وبينه فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني فجعل الغل يكون إستعارة عن منع من أزاد أذاه عليه الصلاة و السلام وجعل السد إستعارة عن سلب قوة الأبصار كما قيل وقال السدي : السد ظلمة حالت فمنعت الرؤية وجاء في الآثار غير ذلك مما يقرب منه والربط عليها ير ظاهر ولعله بإعتبار إشارة الآيتين إلى ما هو عليه من التصميم على الكفر وشدة العناد ومع هذا الأرجح في نظر البليغ حمل الكلام على غير ما تقتضيه ظواهر الآثار مما سمعت وليبس فيها ما ينافيه عند التحقيق فتأمل وساوء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم أي مستو عندهم إنذارك إياهم وعدمه حسبما مر تحقيقه في أوائل سورة البقرة والظاهر أن العطف على إنا جعلنا وكأنه جيء به للتصريح بما هم عليه في أنفسهم بعد الإشارة إليه فيما تقدم بناء على أنه مما يستتبع الجعل المذكور
وقريب منه القول بأن ما تقدم لبيان حالهم المجعول وهذا لبيان حالهم من غير ملاحظة جعل وفيه تمهيد لقوله تعالى إنما تنذر إلخ وفي إرشاد العقل السليم هو بيان لشأنهم بطريق التصريح أثر بيانه بطريق التمثيل وفي الحواشي الخفاجية لم يورد بالفاء مع ترتبه على ما قبله إما تفويضا لذهن السامع أو لأنه غير مقصود هنا إنتهى
وأنظر هل تجد مانعا من العطف على لا يبصرون ليكون خبرا لهم أيضا داخلا في حيز الفاء والتفريع على ما تقدم كأنه قيل : فهم سواء عليهم إلخ وإختلاف الجملتين بالأسمية والفعلية لا أراك تعده مانعا وقوله تعالى : لا يؤمنون 01 إستئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من إجمال ما فيه الإستواء أو حال مؤكدة له أو بدل منه
ولما بين كون الإنذار عندهم كعدمه عقب ببيان من يتأثر منه فقال سبحانه إنما تنذر أي إنذارا مستتبعا للأثر من أتبع الذكر أي القرآن كما روى عن قتادة بالتأمل فيه والعمل به وقيل : الوعظ وأتبع بمعنى يتبع والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو المعنى إنما ينفع إنذارك المؤمنين الذين أتبعوا ويكون المراد بمن أتبع المؤمنين وبالإنذار الإنذار عما يفرط منهم بعد الإتباع فلا يلزم تحصيل الحاصل وقيل : المراد من أتبع في علم الله تعالى وهم الأقلون الذين لم يحق القول عليهم وخشي الرحمن أي عقابه ولم يغتر برحمته عزوجل فإنه سبحانه مع عظم رحمته أليم العذاب كما نطق به قوله تعالى نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم
ومما قرر يعلم سر ذكر الرحمن مع الخشية دون القهار ونحوه بالغيب حال من المضاف المقدر في نظم الكلام كما أشرنا إليه أي خشي عقاب الرحمن حال كون العقاب ملتبسا بالغيب أي غائبا عنه وحاصله خشي العقاب قبل حلوله ومعاينة أهواله ويجوز أن يكون حالا من فاعل خشي أي خشى عقاب الرحمن غائبا عن
(22/217)
العقاب غير مشاهد له أو خشي غائبا عن أعين الناس غير مظهر الخشية لهم لأنها علانية فلما تسلم عن الرياء وبعضهم فسر الغيب بالقلب وجعل الجار متعلقا بخشي أي خشي في قلبه ولم يكن مظهرا للخشية وليس بخاش قيل : ويجوز جعله حالا من الرحمن ولا يخفى حاله والكلام في خشي على طرز الكلام في أتبع فبشره بمغفرة عظيمة لما سلف وقيل : لما يفرط منه وأجر كريم 11 حسن لا يقادر قدره لما أن أسلف والفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من إتباع الذكر والخشية وفي البحر لما أجدت فيه النذارة فبشره إلخ فلا تغفل وعن قتادة تفسير الأجر الكريم بالجنة والمراد نعيمها الشامل لما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر عل ىقلب بشر وأجل جميع ذلك رؤية الله عزوجل
وقوله سبحانه : إنا نحن نحيي الموتى إلخ تذييل عام للفريقين المصممين على الكفر والمشفعين بالإنذار ترهيبا وترغيبا ووعيدا ووعدا وتكرير الضمير لإفادة الحصر أو للتقوية وما ألطف هذا الضمير الذي عكسه كطرده ههنا وضمير العظمة للإشارة إلى جلالة الفعل والتأكيد للإعتناء بأمر الخبر أو لرد الإنكار فإن الكفرة كانوا يقولون : إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين أي إنا نحن نحيي الأموات جميعا ببعثهم يوم القيامة ونكتب ما قدموا ما أسلفوه من الأعمال الصالحة والطالحة وآثارهم التي أبقوها بعدهم من الحسنات كعلم علموه أو كتاب القوه أو حبيس وقفوه أو بناء في سبيل الله تعالى بنوه وغير ذلك من وجوه البر ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان وترتيب مباديء الشر والفساد فيما بين العباد وغير ذلك من فنون الشرور التي أحدثوها وسنوها بعدهم للمفسدين
أخرج إبن أبي حاتم عن جرير بن عبدالله البجلي قال : قال رسول الله من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيئا ثم تلا ونكتب ما قدموا وآثارهم وعن أنس أنه قال في الآية : هذا في الخطو يوم الجمعة وفسر بعضهم الآثار بالخطا إلى المساجد مطلقا لما أخرج عبدالرزاق وإبن جرير وإبن المنذر والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله تعالى إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم فدعاهم رسول الله فقال : إنه يكتب آثاركم ثم تلا عليهم الآية فتركوا
وأخرج الإمام أحمد في الزهد وإبن ماجه وغيرهما عن إبن عباس قال كانت الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبا من المسجد فنزلت ونكتب ما قدموا وآثارهم فقالوا بل : نمكث مكاننا
وأنت تعلم أنه لا دلالة فيما ذكر على أن الآثار هي الخطا لا غير وقصارى ما يدل عليه أنها من الآثار فلتحمل الآثار على ما يعمها وغيرها وأستدل بهذين الخبرين ونحوهما على أن الآية مدنية
وقال أبو حيان : ليس ذلك زعما صحيحا وشنع عليه بما ورد مما يدل على ذلك وأنتصر له الخفاجي بأن الحديث الدال معارض بما في الصحيحين أن النبي قرأ لهم هذه الآية ولم يذكر أنها نزلت فيهم وقراءته عليه الصلاة و السلام لا تنافي تقدم النزول ومراد أبي حيان هذا لا أنه أنكر أصل الحديث ولا يخفى أن الحديثين
(22/218)
السابقين ظاهران في ان الآية نزلت يومئذ وليس في حديث الصحيحين ما يعارض ذلك والعجب من الخفاجي كيف خفى عليه هذا وقيل ما قدموا من النيات وآثارهم من الأعمال والظاهر أن المراد بالكتابة الكتابة في صحف الملائكة الكرام الكاتبين ولكونها بأمره عزوجل أسندت إليه سبحانه وأخرت في الذكر عن الأحياء مع أنها مقدمة عليه لأن أثرها إنما يظهر بعده وعلى هذا يضعف تفسير ما قدموا بالنيات بناء على ما يدل عليه بعض الأخبار من أن النيات لا تطلع عليها الملائكة عليهم السلام ولا يؤمرون بكتابتها
وفسر بعضهم الكتابة بالحفظ أي نحفظ ذلك ونثبته في علمنا لا ننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب ولعلك تختار أن كتابة ما قدموا وآثارهم كناية عن مجازاتهم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وحينئذ فوجه ذكرها بعد الأحياء ظاهر
وعن الحسن والضحاك أن أحياء الله تعالى الموتى أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان وجعلا الموت مجازا عن الجهل وتعريف الموتى للعهد والكلام عليه توكيد الموعد المبشر به كأنه قيل : إنما ينفع إنذارك في هؤلاء لأنا نحييهم ونكتب صالح أعمالهم وآثارهم ولا يخفى ما في ذلك من البعد وقرأ زر ومسروق ويكتب بالياء مبنيا للمفعول وآثارهم بالفرفع وكل شيء من الأشياء كائنا ما كان والنصب على الإشتغال أي وأحصينا كل شيء أحصيناه أي بيناه وحفظناه وأصل الإحصاء العد ثم تجوز به عما ذكر لأن العد لأجله
في إمام أي أصل عظيم الشأن يؤتم ويقتدي به ويتبع ولا يخالف مبين 21 مظهر لما كان وسيكون وهو على ما في البحر حكاية عن مجاهد وقتادة وإبن زيد اللوح المحفوظ وبيان كل شيء فيه إذا حمل العموم على حقيقته بحيث يشمل حوادث الجنة وما يتجدد لأهلها من دون إنقطاع على ما نحو ما يحكي من بيان الحوادث الكونية في الجفر الجامع لكنه على طرز أعلا وأشرف ونحو هذا ما يقال غير واحد من إشتمال القرآن الكريم على كل شيء حتى أسماء الملوك ومدد ملكهم أو يقال إن بيان ذلك فيه ليس دفعة واحدة بل دفعات بأن يبين فيه جملة من الأشياء كحوادث ألف سنة مثلا ثم تمحى عند تمام الألف ويبين فيه جملة أخرى كحوادث ألف أخرى وهكذا والداعي لما ذكر أن اللوح عند المسلمين جسم وكل جسم متناه الأبعاد كما تشهد به الأدلة وبيان كل شيء فيه على الوجه المعروف لنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي وهو محال بالبديهة
وأذا أريد بكل شيء الأشياء التي في هذه النشأة وأفعال العباد وأحوالهم فيها فلا إشكال في البيان على الوجه المعروف دفعة
والذي يترجح عندي أن ما كتب في اللوح ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وهو متناه وبعض الآثار تشهد بذلك والمطلق منها محمول على المقيد وحقيقة اللوح لم يرد فيها ما يفيد القطع ولذا تمسك عن تعيينها وكون أحد وجهيه ياقوتة حمراء والثاني زمردة خضراء جاء في بعض الآثار ولا جزم لنا بصحته وكونه أحد المجردات وما من شيء إلا وهو يعلمه بالفعل مما لم يذهب إليه أحد من المسلمين وإنما هو من تخيلات الفلاسفة ومن حذا حذوهم فلا ينبغي أن يعول عليه وفسر بعضهم الإمام المبين بعلمه تعالى الأزلي كما فسر أم الكتاب في قوله تعالى : وعنده أم الكتاب به وهو أصل لا يكون في صفوف صنوف الممكنات ما يخالفه كما يلوح به قول الشافعي : خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسن ووصفه بمبين لأنه مظهر فقد قالوا : العلم صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به أو لأن إظهار الأشياء من
(22/219)
خزائن العدم يكون بعد تعلقه فإن القدرة إنما تتعلق بالشيء بعد العلم فالشيء يعلم أولا ثم يراد ثم تتعلق القدرة بإيجاده فيوجد ولا يخفى ما في هذا التفسير من إرتكاب خلاف الظاهر وعليه فلا كلام في العموم نعم في كيفية وجود الأشياء في علمه تعالى كلام طويل محله كتب الكلام وعن الحسن أنه أريد به صحف الأعمال وليس بذاك وحكى لي عن بعض غلاة الشيعة أن المراد بالإمام المبين علي كرم الله تعالى وجهه وإحصاء كل شيء فيه من باب : ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد ومنهم من يزعم أن ذلك على معنى جعله كرم الله تعالى وجهه خزانة للمعلومات على نحو اللوح المحفوظ ولا يخفى ما في ذلك من عظيم الجهل بالكتاب الجليل نسأل الله تعالى العفو والعافية ويمكن أن يقال : إنهم أرادوا بذلك نحو ما أراده المتصوفة في إطلاقهم الكتاب المبين على الإنسان الكامل إصطلاحا منهم على ذلك فيهون أمر الجهل وكمال علي كرم الله تعالى وجهه لا ينكره إلا ناقص العقل عديم الدين
وقرأ أبو السمأل وكل بالرفع على الإبتداء وأضرب لهم مثلا أصحاب القرية إما عطف على ما قبله عطف القصة على القصة وأما عطف على مقدر أي فأنذرهم وأضرب لهم إلخ وضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بأخرى مثلها كما في قوله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا أمرأة نوح الآية وأخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله تعالى وضربنا لكم الأمثال في وجه أي بينا لكم أحوالا بديعة هي في الغرابة كالأمثال فالمعنى على الأول أجعل أصحاب القرية مثلا لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على التكذيب أي طبق حالهم بحالهم على أن مثلا مفعول ثان لا ضرب وأصحاب القرية مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه وعلى الثاني أذكر وبين لهم قصة هي في الغرابة كالمثل وقوله سبحانه أصحاب القرية بتقدير مضاف أي مثل أصحاب القرية وهذا المضاف بدل من مثلا بدل كل من كل أو عطف بيان له على القول بجواز إختلافهما تعريفا وتنكيرا وجوز أن يكون المقدر مفعولا وهذا حالا والقرية كما روى عن إبن عباس وبريدة وعكرمة إنطاكية وفي البحر إنها هي بلا خلاف إذ جاءها المرسلون 31 بل إشتمال من أصحاب القرية أو ظرف للمقدر وجوز أن يكون بدل كل من أصحاب مرادا بهم قصتهم وبالظرف ما فيه وهو تكلف لا داعي إليه وقيل إذ جاءها دون إذ جاءهم إشارة إلى أن المرسلين أتوهم في مقرهم والمرسلون عند قتادة وغيره من أجلة المفسرين رسل عيسى عليه السلام من الحواريين بعثهم حين رفع إلى السماء ونسبة إرسالهم إليه تعالى في قوله سبحانه : إذ أرسلنا إليهم إثنين بناء على أنه كان أمره تعالى لتكميل التمثيل وتتميم التسلية وقال إبن عباس وكعب هم رسل الله تعالى : وأختاره بعض الأجلة وأدعى أن الله تعالى أرسلهم ردءا لعيسى عليه السلام مقررين لشريعته كهرون لموسى عليهما السلام وأيد بظاهر إذ أرسلنا إليهم إثنين وقول المرسل إليهم ما أنتم إلا بشر مثلنا إذ البشرية تنافي على زعمهم الرسالة من الله تعالى لا من غيره سبحانه وأستدل البعض على ذلك بظهور المعجزة كإبراء الأكمه وأحياء الميت على أيديهم كما جاء في بعض الآثار والمعجزة مختصة بالنبي على ما قرر في
(22/220)
الكلام ومن ذهب إلى الأول أجاب عن الأول بما سمعت وعن الثاني بأنهم إما أن يكونوا دعوهم على وجه فهموا منه أنهم مبلغون عن الله تعالى دون واسطة أو أنهم جعلوا الرسل بمنزلة مرسلهم فخاطبوهم بما يبطل دسالته ونزلوه منزلة الحاضر تغليبا فقالوا ما قالوه وعن الثالث بأن ما ظهر على أيديهم أن صح الأثر كان كرامة لهم في معنى المعجزة لعيسى عليه السلام ولا يتعين كونه معجزة لهم إلا إذا كانوا قد أدعوا الرسالة من الله تعالى بدون واسطة وهو أول المسئلة و إذ بدل من إذ الأولى والإثنان قيل يوحنا وبولس وقال مقاتل تومان وبولس وقال شعيب الجبائي شمعون ويوحنا وقال وهب وكعب : صادق وصدوق وقيل نازوص وماروص
وقيل أرسلنا إليهم دون أرسلنا إليها ليطابق إذ جاءها لأن الإرسال حقيقة إنما يكون إليهم لا إليها بخلاف المجيء وأيضا التعقيب بقوله تعالى فكذبوهما عليه أظهر وهو هنا نظير التعقيب في قوله تعالى : فقلنا أضرب بعصاك الحجر فأنفجرت وسميت الفاء الفصيحة لأنها تفصح عن فعل محذوف وكان أصحاب القرية إذ ذاك عباد أصنام فعززنا أي قويناهما وشددنا قاله مجاهد وإبن قتيبة وقال يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب وقال غيره : يقال عزز المطر الأرض إذا لبدها وشدها ويقال للأرض الصلبة العزاز ومنه العز بمعناه المعروف ومفعول الفعل محذوف أي فعززناهما بثالث لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به
وهو على ما روى عن إبن عباس شمعون الصفا ويقال سمعان أيضا وقال وهب وكعب : شلوم وعند شعيب الجبائي بولص بالصاد وبعضهم يحكيه بالسين وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو بكر والمفضل وأبان فعززنا بالتخفيف وهو والتشديد لغتان كشدة وشدده فالمعنى واحد وقال أبو علي المخفف من عزه إذا غلبه ومنه قولهم من عزيز أي من غلب سلب وامعنى عليه فغلبناهم بحجة ثالث وقرأ عبدالله بالثالث فقالوا عطف على فكذبوهما فعززنا والفاء للتعقيب أي فقال الثلاثة بعد تكذيب الأثنين والتعزيز بثالث إنا إليكم مرسلون 41 ولا يضر في نسبة القول إلى الثلاثة سكوت البعض إذ يكفي الإتفاق بل قالوا طريقة التكلم مع الغير كون المتكلم واحدا والغير متفقا معه قالوا أي أصحاب القرية مخاطبين للثلاثة ما أنتم إلا بشر مثلنا من غير مزية لكم علينا موجبة لإختصاصكم بما تدعونه ورفع بشر لإنتقاض النفي بالأفانماعملت حملا على ليس فإذا أنتقض نفيها بدخول إلا على الخبر ضعف الشبه فيها فبطل عملها خلافا ليونس ومثل صفة بشر ولم يكتسب تعريفا بالإضافة كما عرف في النحو وما أنزل الرحمن من شيء مما تدعون من الوحي على أحد وظاهر هذا القول يقتضي إقرارهم بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام وكان تخصيص هذا الأسم الجليل من بين أسمائه عزوجل لزعمهم أن الرحمة تأبى إنزال الوحي لإستدعائه تكليفا لا يعود منه نفع له سبحانه ولا يتوقف إيصاله تعالى الثواب إلى العبد عليه وقيل ذكر الرحمن في الحكاية لا في المحكي وهم قالوا لا إله ولا رسالة لما في بعض الآثار أنهم قالوا ألنا أله سوى آلهتنا والتعبير به لحلمه تعالى عليهم ورحمته سبحانه إياهم بعدم تعجيل العذاب آن إنكارهم ولعل ما تقدم أولى وأظهر ولا جزم بصحة ما ينافيه من الأثر
إن أنتم إلا تكذبون 51 فيما تدعون وهذا تصريح بما قصدوه من الجملتين السابقتين وإختيار تكذبون
(22/221)
على كاذبون للدلالة على التجدد
قالوا أي المرسلون ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون 61 أستشهدوا بعلم الله تعالى وهو جار مجرى القسم في التأكيد والجواب بما يجاب به وذكر أن من أستشهد به كاذبا يكفر ولا كذلك القسم على كذب وفيه تحذيرهم معارضة علم الله تعالى وفي إختيار عنوان الربوبية رمز إلى حكمة الإرسال كما رمز الكفرة إلى ما ينافيه بزعمهم
وأضافه رب إلى ضمير الرسل لا يأبى ذلك ويجوز أن يكون إختياره لأنه أوفق بالحال التي هم فيها من إظهار المعجز على أيديهم فكأنهم قالوا ناصرنا بالمعجزات يعلم إنا إليكم لمرسلون وتقديم المسند إليه لتقوية الحكم أو للحصر أي ربنا يعلم لا أنتم لإنتفاء النظر في الآيات عنكم وما علينا إلا البلاغ المبين 71 إلا بتبليغ رسالته تعالى تبليغا ظاهرا بينا بحيث لا يخفى على سامعه ولا يقبل التأويل والحمل على خلاف المراد أصلا وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة علينا من جهة ربنا كذا قيل والأولى أن يفسر التبليغ المبين بما قرن بالآيات الشاهدة على الصحة وهم قد بلغوا كذلك بناء على ما روى من أنهم أبرؤا الأكمه وأحيوا الميت أو أنهم فعلوا خارقا غير ما ذكر ولم ينقل لنا ولم يلتزم في الكتاب الجليل ولا في الآثار ذكر خارق كل رسول كما لا يخفى ثم إن ذلك إما معجزة لهم على القول بأنهم رسل الله تعالى بدون واسطة أو كرامة لهم معجزة لمرسلهم عيسى عليه السلام على القول بأنهم رسله عليه السلام والمعنى ما علينا من جهة ربنا إلا التبليغ البين بالآيات وقد فعلنا فلا مؤاخذة علينا أو ما علينا شيء نطالب به من جهتكم إلا تبليغ الرسالة على الوجه المذكور وقد بلغنا كذلك فأي شيء تطلبون منا حتى تصدقونا بدعوانا ولكون تبليغهم كان بينا بهذا المعنى حسن منهم الإستشهاد بالعلم فلا تغفل وجاء كلام الرسل ثانيا في غاية التأكيد لمبالغة الكفرة في الإنكار جدا حيث أتوا بثلاث جمل وكل منها دال على شدة الإنكار كما لا يخفى على من له أدنى تأمل قال السكاكي : أكدوا في المرة الأولى لأن تكذيب الأثنين تكذيب للثالث لإتحاد المقالة فلما بالغوا في تكذيبهم زادوا في التأكيد وقال الزمخشري : إن الكلام الأول إبتداء أخبار والثاني جواب عن إنكاره ووجه ذلك السيد السند بأن الأول إبتداء أخبار بالنظر إلى أن مجموع الثلاثة لم يسبق منهم أخبار فلا تكذيب لهم في المرة الأولى فيحمل التأكيد فيها على الإعتناء والإهتمام منهم بشأن الخبر إنتهى وفيه أن الثلاثة كانوا عالمين بإنكارهم والكلام المخرج مع المنكر لا يقال له إبتداء أخبار وقال صاحب الكشف : أراد أنه غير مسبوق بأخبار سابق ولم يرد أنه كلام مع خالي الذهن أو جعل الإبتداء بإعتبار قول الثالث أو المجموع وقال الجلبي : لعل مراده أنه بمنزلة إبتداء أخبار بالنسبة إلى إنكارهم الثاني في عدم إحتياجه إلى مثل تلك المؤكدات فكان إنكارهم الأول لا يعد إنكارا بالنسبة إلى إنكارهم الثاني لا أنه إبتداء أخبار حقيقة ولا يخفى ضعف ذلك وقال الفاضل اليمني : إنما أكد القول الأول لتنزيلهم منزلة من أنكر إرسال الثلاثة لأنه قد لاح ذلك من إنكار الأثنين فعلى هذا يكون إبتداء إخبار بالنظر إلى إخراج الكلام على مقتضى الظاهر وإنكارها بالنظر إلى إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر فنظر الزمخشري أدق من نظر السكاكي وإن قال السيد السند بالعكس ويعلم ما فيه مما تقدم بأدنى نظر وقال أجل المتأخرين الفاضل عبد الحكيم السالكوتي : عندي أن ما ذكره السكاكي مبني على عطف فقالوا إنا إليكم مرسلون على فكذبوهما فعززنا والفاء للتعقيب فيكون الكلام صادرا عن الثلاثة بعد تكذيب الأثنين والتعزيز بثالث فكان كلاما مع المنكرين فجاء مؤكدا وقول الزمخشري
(22/222)
مبني على أنه عطف على إذ جاءها المرسلون وأنه تفصيل للقصة المذكورة إجمالا بقوله سبحانه إذ جاءها المرسلون إلى قوله تعالى فعززنا بثالث فالفاء للتفصيل فقوله تعالى فقالوا إنا إليكم مرسلون بيان لقوله عزوجل إذ أرسلنا إليهم أثنين فيكون إبتداء إخبار صدر من الأثنين قالوا بصيغة الجمع تقريرا لشأن الخبر وقوله تعالى قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا إلخ بيان لقوله تعالى فكذبوهما وقوله سبحانه ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين بيان لقوله عزشأنه فعززنا بثالث فإن البلاغ المبين هو إثباتهم الرسالة بالمعجزات وهو التعزيز والغلبة ثم قال : ولا يخفى حسن هذا التفسير لموافقته للقصة المذكورة في التفاسير وملاءمته لسوق الآية فإنها ذكرت أولا إجمالا بقوله تعالى وأضرب له مثلا أصحاب القرية ثم فصلت بعض التفصيل بقوله تعالى إذ جاءها المرسلون إلى قوله سبحانه فعزز بثالث ثم فصلت تفصيلا تاما بقوله تعالى قالوا إنا إليكم لمرسلون إلى قوله تعالى حامدون وعدم إحتياجه إلى جعل الفاء في فكذبوهما فصحية بخلاف تفسير السكاكي فإنه يحتاج إلى تقدير فدعوا إلى التوحيد
ولا يخفى على المنصف أنه تفسير في غاية البعد والكلام عليه واصل إلى رتبة الألغاز ومع هذا فيه ما فيه وأنا أقول : لا يبعد أن يكون الزمخشري أراد بكلامه أحد الإحتمالات التي ذكرت في توجيهه إلا أن ما ذهب إليه السكاكي أبعد عن التكلف وأسلم عن القيل والقال قالوا لما ضاقت عليهم الحيل وعييت بهم العلل إنا تطيرنا بكم أي تشاء منا بكم جريا على ديدن الجهلة حيث يتيمنون بكل ما يوافق شهواتهم وإن كان مستجلبا لكل شر ويتشاءمون بما لا يوافقها وإن كان مستتبعا لكل خير أو بناء على أن الدعوة لا تخلو عن الوعيد بما يكرهونه من إصابة ضر إن لم يؤمنوا فكانوا ينفرون عنه وقد قال مقاتل : إنه حبس عنهم المطر وقال آخر : اسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل عليهم السلام وقال إبن عطية : أن تطير هؤلاء كان بسبب ما دخل فيهم من إختلاف الكلمة وأفتتان الناس وأصل التطير التفاؤل بالطير البارح والسانح ثم عم وكان مناط التطير بهم مقالتهم كما يشعر به قوله تعالى لئن لم تنتهوا أي عن مقالتكم هذه
لنرجمنكم بالحجارة قاله قتادة وذكر فيه إحتمالان إحتمال أن يكون الرجم للقتل أي لنقتلنكم بالرجم بالحجارة وإحتمال أن يكون للأذى أي لنؤذينكم بذلك وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال : أي لنشتمنكم ثم قال : والرجم في القرآن كله الشتم
وليمسنكم منا عذاب أليم 81 قال في البحر : وهو الحريق وقيل عذاب غيره تبقى معه الحياة والمراد لنقتلنكم بالحجارة أو لنعذبنكم إذا لم نقتلكم عذابا أليما لا يقادر قدره تتمنون معه القتل وقيل أريد بالعذاب الأليم العذاب الروحاني وأريد بالرجم بالحجارة النوع المخصوص من الأذى الجسماني فكأنهم قد رددوا الأمر بين إيذاء جسماني وإيذاء روحاني وقيل أريد بالعذاب الأليم الجسماني وبالرجم العذاب والأذى الروحاني بناء على أن المراد به الشتم وقيل غير ذلك قالوا أي الرسل ردا عليهم طائركم أي سبب شؤمكم معكم لا من قبلنا كما تزعمون وهو سوء عقيدتكم وقبح أعمالكم
وأخرج إبن المنذر عن إبن عباس أنه فسر الطائر بنفس الشؤم أي شؤمكم معكم وهو الإقامة على الكفر
(22/223)
وأما نحن فلا شؤم معنا لأنا ندعوا إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وفيه غاية اليمن والخير والبركة وعن أبي عبيدة والمبرد طائركم أي حظكم ونصيبكم من الخير والشر معكم من أفعالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر
وقرأ الحسن وإبن هرمز وعمرو بن عبيد وزر بن حبيش طيركم بياء ساكنة بعد الطاء قال الزجاج : الطائر والطير بمعنى وفي القاموس الطير جمع طائر وقد يقع على الواحد وذكر أن الطير لم يقع في القرآن الكريم إلا جمعا كقوله تعالى : والطير صافات فإذا كان في هذه القراءة كذلك فطائر وإن كان مفردا لكنه بالإضافة شامل لكل ما يتطير به فهو في معنى الجمع فالقراءتان متوافقتان وعن الحسن أنه قرأ أطيركم مصدر اطير الذي أصله تطير فأدغمت التاء في الطاء فأجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر أئن ذكرتم بهمزتين الأولى همزة الإستفهام والثانية همزة إن الشرطية حققها الكوفيون وإبن عامر وسهلها باقي السبعة
وأختلف سيبويه ويونس فيما إذا أجتمع إستفهام وشرط أيهما يجاب فذهب سيبويه إلى إجابة الإستفهام أي تقدير المستفهم عنه وكأنه يستغنى به عن تقدير جواب الشرط فالمعنى عليه أئن ذكرتم ووعظتم بما فيه سعادتكم تتطيرون أو تتوعدون أو نحو ذلك ويقدر مضارع مرفوع وإن شئت قدرت ماضيا كتطيرتم
وذهب يونس إلى إجابة الشرط وكأنه يستغنى به عن إجابة الإستفهام وتقدير مصب له فالتقدير أئن ذكرتم تتطيروا أو نحوه مما يدل عليه ما قبل ويقدر مضارع مجزوم وإن شئت قدرت ماضيا مجزوم المحل وقرأ زر بهمزتين مفتوحتين وهي قراءة أبي جعفر وطلحة إلا أنهما لينا الثانيةبين بين وعلى تحقيقهما جاء قول الشاعر : إن كنت داؤد بن أحوى مرجلا فلست براع لإبن عمك محرما فالهمزة الأولى للإستفهام والثانية همزة أن المصدرية والكلام على تقدير حرف لام الجر أي الآن ذكرتم تطيرتم وقرأ الماجشون يوسف بن يعقوب المدني بهمزة واحدة مفتوحة فيحتمل تقدير همزة الإستفهام فتتحد هذه القراءة والتي قبلها معنى ويحتمل عدم تقديرها فيكون الكلام على صورة الخبر وهو على ما قيل مسوق للتعجب والتوبيخ وتقدير حرف الجر على حاله والجار متعلق بمحذوف على ما يشعر به كلام الكشاف أي تطيرتم لأن ذكرتم وقال إبن جني إن ذكرتم على هذه القراءة معمول طائركم معكم فإنهم لما قالوا إنا تطيرنا بكم أجيبوا بل طائركم معكم إن ذكرتم أي هو معكم لأن ذكرتم فلم تذكروا ولم تنتهوا فأكتفى بالسبب الذي هو التذكير عن المسبب الذي هو الإنتهاء كما وصفوا الطائر موضع مسببه وهو التشاؤم لما كانوا يألفونه من تكارههم نعيب الغراب أو بروحه وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسورة وفي ذلك إحتمالان تقدير الهمزة فتتحد هذه القراءة وقراءة الجمهور وعدم تقديرها فيكون الكلام على صورة الخبر والجواب محذوف لدلالة ما قبل عليه وتقديره كما تقدم وقرأ أبو عمرو في رواية وزر أيضا بهمزتين مفتوحتين بينهما مدة كأنه أستثقل إجتماعهما ففصل بينهما بألف وقرأ أيضا أبو جعفر والحسن وكذا قرأ قتادة والأعمش وغيرهما أين بهمزة مفتوحة وياء ساكنة وفتح النون ذكرتم بتخفيف الكاف على أن أين ظرف أداة شرط وجوابها محذوف لدلالة طائركم عليه على ما قيل أي أين ذكرتم صحبكم طائركم والمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم وفيه من المبالغة بشؤمهم ما لا يخفى
وفي البحر من جوز تقديم الجزاء على الشرط وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد يجوز أن يكون الجواب طائركم معكم وكان أصله أين ذكرتم فطائركم معكم فلما قدم حذفت الفاء بل أنتم قوم مسرفون 91 أي عادتكم
(22/224)
الإسراف ومجاوزة الحد في العصيان مستمرون عليه فمن ثم أتاكم الشؤم لا من قبل رسل الله تعالى وتذكيرهم فهو إضراب عما يقتضيه قوله تعالى : أئن ذكرتم من إنكار أن يكون ما هو سبب السعادات أجمع سبب الشؤم لأنه تنبيه وتعريك إلى البت عليهم بلزام الشؤم وإثبات الإسراف الذي هو أبلغ وهو جالب الشؤم كله أو بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من الهداة لدين الله تعالى فهو إضراب عن مجموع الكلام أجابوهم بأنهم جعلوا أسبابا للسعادة مدمجين فيه التنبيه على سوء صنيعهم في الحرمان عنها ثم أضربوا عنه إلى ما فعل القوم من التعكيس لما يقتضيه النظر الصحيح فتأمل
وجاء من أقصى المدينة أي من أبعد مواضعها رجل أي رجل عند الله تعالى فتنوينه للتعظيم وجوز أن يكون التنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطوأ معه وأسمهعل ىما روى عن إبن عباس وأبي مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل حبيب وهو إبن إسرائيل على ما قيل وقيل : إبن مري وكان على المشهور نجارا وقيل : كان حراثا وقيل : قصارا وقيل : إسكافا وقيل : نحاتا للأصنام ويمكن أن يكون جامعا لهذه الصفات وذكر بعضهم أنه كان في غار مؤمنا يعبد ربه عزوجل فلما سمع أن قومه كذبوا الرسل جاء يسعى أي يعدو ويسرع في مشيه حرصا على نصح قومه وقيل : إنه سمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصد وجه الله تعالى بالذب عنهم فسعى هنا مثلها في قوله تعالى : وسعى لها سعيها وهو مجاز مشهور وكونه في غار لا ينافي مجيئه من أقصى المدينة لجواز أن يكون في أقصاها غار نعم هذا القول ظاهر في أنه كان مؤمنا وهو ينافي أنه كان نحاتا للأصنام وأجيب بأن المراد ينحت التماثيل لا للعبادة وكان في تلك الشريعة مباحا وحكى القول بإيمانه عن إبن أبي ليلى ونقل في البحر عنه أنه قال : سباق الأمم ثلاثة لم يفكروا قط طرفة عين علي بن أبي طالب وصاحب يس ومؤمن آل فرعون
وذكر الزمخشري وجماعة هذا حديثا عن رسول الله وكذا ذكروا أنه ممن آمن برسول الله كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما ولم يؤمن أحد بنبي غيره عليه الصلاة و السلام قبل ظهوره
وقيل كان مجذوما وكان منزله أقصى باب من أبواب المدينة عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره فلم يكشف فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله تعالى قال : هل من آية قالوا : نعم ندعوا ربنا القادر يفرج عنك ما بك فقال : إن هذا لعجب لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع تفريجه فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة قالوا : ربنا على ما يشاء قدير وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر فآمن ودعوا ربهم سبحانه فكشف عزوجل ما به كأن لم يكن به بأس فأقبل على التكسب فإذا أمسى تصدق بنصف كسبه وأنفق النصف الآخر على نفسه وعياله فلما هم قومه بقتل الرسل جاء من أقصى المدينة يسعى وعلى هذا نحته للأصنام غير مشكل ولا يحتاج إلى ذلك الجواب البعيد نعم بين هذا وبين خبر سباق الأمم ثلاثة وأنه ممن آمن برسول الله كما آمن تبع منافاة وكون إيمانه به عليه الصلاة و السلام إنما كان على يد الرسل وإن كان خلاف الظاهر دافع للمنافاة بينه وبين الأخير فتبقى المنافاة بينه وبين الخبر الأول إلا أن يقال : المراد سباق الأمم إلى الإيمان بعد الدعوة ثلاثة لم يكفروا بعدها قط طرفة عين ومما يدل بظاهره أن الرجل لم يكن قبل مؤمنا ما حكى أن المرسلين اللذين أرسلا
(22/225)
أولا لما قربا إلى المدينة رأياه يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية فقالا : نشفي المريض ونبريء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فبريء فآمن وحمل آمن على أظهر الإيمان خلاف الظاهر والذي يترجح في نظري أنه كان مؤمنا بالمرسلين قبل مجيئه ونصحه لقومه ولا جزم لي بإيمانه ولا عدمه قبل إرسال الرسل وظواهر الأخبار في ذلك متعارضة ومع هذا لم يتحقق عندي صحة شيء منها والله أعلم تعالى أعلم بحقيقة الحال
وجاء من أقصى المدينة هنا مقدما على رجل عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة
وقال الخفاجي : قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بيانا لفضله إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم وإن بعده لم يمنعه عن ذلك ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وإن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد وقيل قدم للإهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين وقيل إنه لو أخرتوهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود وجملة يسعى صفة رجل وجوز كونها حالا منه من جوز مجيء الحال من النكرة وقوله تعالى قال إستئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال عند مجيئه فقيل : قال ياقوم أتبعوا المرسلين 02 وجوز كونه بيانا للسعي بمعنى قصد وجه الله عزوجل ولا يخفى ما فيه والتعرض لعنوان رسالتهم لحثهم على إتباعهم كما أن خطابهم بياقوم لتأليف قلوبهم وإستمالتها نحو قبول نصيحته وقوله تعالى : أتبعوا من لا يسألكم أجرا تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن إتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضى وقوله سبحانه : وهم مهتدون 12 أي ثابتون على الإهتداء بما هم عليه إلى خير الدنيا والآخرة جملة حالية فيها ما يؤكد كونهم لا يسألون الأجر ولا ما يتبعه من طلب جاه وعلو ولذا جعلت إيغالا حسنا نحو قول الخنساء : وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار والظاهر أن الرجل لم يقل ذلك إلا بعد سبق إيمانه وروى أنه لما بلغته الدعوة جاء يسعى فسمع كلامهم وفهمه ثم قال لهم : أتطلبون أجرا على دعوتكم هذه قالوا : لا فدعا عند ذلك قومه إلى إتباعهم والإيمان بهم قائلا ياقوم إلخ وللنحويين في مثل هذا التركيب وجهان أحدهما أن تكون من بدلا من المرسلين بإعادة العامل كما أعيد إذا كان حرف جر نحو قوله تعالى : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم وإليه ذهب بعضهم وثانيهما وإليه ذهب الجمهور أنه ليس ببدل فإنه مخصوص بما إذا كان العامل المعاد حرف جر أما إذا كان رافعا أو ناصبا فيسمون ذلك بالتتبيع لا بالبدل وأستدل بالآية على نقص من يأخذ أجرة على شيء من أفعال الشرع والبحث مستوفي في الفروع ومالي لا أعبد الذي فطرني تلطف في إرشاد قومه بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وأمحاض النصح حيث أراهم أنه أختار لهم ما يختار لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كما ينبيء عنه قوله وإليه ترجعون 22 مبالغة في تهديدهم بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب مواجهة وصريحا ولو قال : وإليه أرجع كان فيه تهديد بطريق التعريض وعد التعبير بإليه ترجعون بعد التعبير بما لي لا أعبد من باب الإلتفات لمكان التعريض بالمخاطبين في مالي لا أعبد إلخ فيكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا بناء على ما ذهب إليه الخطيب والسعد التفتازاني من أن التعريض إما مجاز أو كناية وهو ههنا مجاز لإمتناع
(22/226)
إرادة الموضوع له فيكون اللفظ مستعملا في غير ما وضع له فيتحد المعبر عنه وحقق السيد السند أن المعنى التعريضي من مستتبعات الترتيب واللفظ ليس بمستعمل فيه بل هو بالنسبة إلى المستعمل فيه إما حقيقة أو مجاز أو كناية وعليه فضمير المتكلم في مالي إلخ ليس مستعملا في المخاطبين فلا يكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا فلا إلتفات وجوز بعضهم كون الآية من الإحتباك والأصل ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه أرجع ومالكم لا تعبدون الذي فطركم وإليه ترجعون فحذف من الأول نظير ما ذكر في الثاني وبالعكس وهو مفوت لما سمعت وظاهر كلام الواحدي أنه لا تعريض في الآية حيث قال : لما قال الرجل ياقوم أتبعوا المرسلين إلخ رفعوه إلى الملك فقال له الملك : أفأنت تتبعهم فقال : مالي لا أعبد الذي فطرني أي أي شيء لي إذا لم أعبد خالقي وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم بكفركم ورد عليه بأنه إذا رجع الإنكار إليه دون القوم لم يكن لخطابهم يترجعون معنى وكان الظاهر أرجع وأجيب بأنه يمكن أن يقال : إن الرجل كان في غيظ شديد من تكذيبهم الرسل وتوعدهم إياهم فأنتهز الفرصة للإنتقام فلما تمكن من تهديدهم أوقع قوله وإليه ترجعون في البين أي مالي لا أعبد الذي من علي بنعمة الإيجاد ونعمة الإنتقام منكم والتشفي من غيظكم إذ ترجعون إليه فيجزيكم بكفركم وتكذيبكم الرسل وعنادكم وأنت تعلم أن النظم الجليل لا يساعد على هذا وهو ظاهر فيما تقدم وقد عاد إلى المساق الأول من التلطف بالإرشاد فقال : ءأتخذ من دونه آلهة إنكار ونفي لإتخاذ جنس الآلهة على الإطلاق وفيه من تحميق من يعبد الأصنام ما فيه
وقوله تعالى : إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا إستئناف سيق لتعليل النفي المذكور وجعله صفة لآلهة كما ذهب إليه البعض ربما يوهم أن هناك آلهة ليست كذلك ومعنى لا تغني إلخ لا تنفعني شيئا من النفع وهو إما على حد
لا ترى الضب بها ينجحر
أي لا شفاعة لهم حتى تنفعني وإما على فرض وقوع الشفاعة أي لا تغني عني شفاعتهم لو وقعت شيئا ولا ينقذون 32 يخلصون من ذلك الضر بالنصر والمظاهرة وهو ترق من الأدنى إلى الأعلى بدأ اولا بنفي الجاه وذكر ثانيا إنتفاء القدرة وعبر عنه بإنتماء الإنقاذ لأنه نتيجته وفتح ياء المتكلم في يردني طلحة السمان على ما قال إبن عطية وقال إبن خالويه : طلحة بن مصرف وعيسى الهمداني وأبو جعفر ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو وقال الزمخشري : وقريء إن يردني الرحمن بضر بمعنى إن يوردني ضرا أي يجعلني مردا للضر قال أبو حيان : كأنه والله تعالى أعلم رأى في كتب القراءات يردني بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعديا بالياء المعدية كالهمزة فلذلك أدخل عليه همزة التعدية ونصب به إثنين والذي في كتب الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطا ونطقا لإلتقاء الساكنين قال في كتاب إبن خالويه : بفتح الياء ياء الإضافة وقال في اللوامح : إن يردني الرحمن بالفتح وهو أصل الياء البصرية أي المثبتة بالخط الذي يرى بالبصر لكن هذه محذوفة كلامه وحسن الظن بالزمخشري يقتضي خلاف ما ذكره إني إذا أي إذا أتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين 42 فإن أشراك ما يصنع وليس من شأنه النفع ولا دفع الضر بالخالق المقتدر الذي لا قادر غيره ولا خير إلا خيره ضلال وخطأ بين لا يخفى على من له أدنى تمييز إني آمنت بربكم الظاهر أن
(22/227)
الخطاب لقومه شافههم بذلك وصدع بالحق إظهارا للتصلب في الدين وعدم المبالاة بما يصدر منهم والجملة خبرية لفظا ومعنى والتأكيد قيل إنهم لم يعلموا من كلامه أنه آمن بل ترددوا في ذلك لما سمعوا منه ما سمعوا
وإضافة الرب إلى ضميرهم لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من إتخاذ الأصنام أربابا أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم فأسمعون 52 أي فأسمعوا قولي فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك وقيل : مراده دعوتهم إلى الخير الذي أختاره لنفسه وقيل لم يرد بهذا الكلام إلأ أن يغضبهم ويشغلهم عن الرسل بنفسه لما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ وقد عزموا على الإيقاع بهم وليس بشيء وقدر بعضهم المضاف المحدوف عاما وفسر السماع بالقبول كما في سمع الله تعالى لمن حمده أي فأسمعوا جميع ما قلته وأقبلوه وهو مما يسمع
وجعل الخطاب للقوم في الجملتين هو المروى عن إبن عباس وكعب ووهب وأخرج الحاكم عن إبن مسعود أنه قال : لما قال صاحب يس ياقوم أتبعوا المرسلين خنقوه ليموت فألتفت إلى الأنبياء فقال إني آمنت بربكم فأسمعون أي فأشهدوا فالخطاب فيهما للرسل بطريق التلوين وأكد الخبر إظهارا لصدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط وأضاف الرب إلى ضميرهم روما لزيادة التقرير وإظهارا للإختصاص والإقتداء بهم كأنه قال : بربكم الذي أرسلكم أو الذي تدعوننا إلى الإيمان به وطلب السماع منهم ليشهدوا له بالإيمان عند الله عزوجل كما يشير إليه كلام إبن مسعود رضي الله تعالى عنه وقيل الخطاب الأول لقومه والثاني للرسل خاطبهم على جهة الإستشهاد بهم والإستحفاظ للأمر عندهم وقيل الخطابان للناس جميعا وروى عن عاصم أنه قرأ فأسمعون بفتح النون قال أبو حاتم : هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر فأما أن تحذف كما حذفت نون الإعراب ويقال فأسمعوا وإما أن تبقى وتكسر ومن الناس من وجهه بأن الأصل فأسمعونا أي فأسمعوا كلامنا أي كلامي وكلامهم لتشهدوا بما كان مني ومنهم
قيل أدخل الجنة إستئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك والظاهر أن الأمر إذن له بدخول الجنة حقيقة وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الدنيا فعن إبن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قصبه من دبره وألقى في بئر وهي الرس وقال السدي : رموه بالحجارة وهو يقول : اللهم أهد قومي حتى مات وقال الكلبي : رموه في حفرة وردوا التراب عليه فمات وعن الحسن حرقوه حتى مات وعلقوه في بر المدينة وقبره في سور إنطاكية وقيل : نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه
ودخوله الجنة بعد الموت دخول روحه وطوافها فيها كدخول سائر الشهداء وقيل الأمر للتبشير لا للإذن بالدخول حقيقة قالت له ملائكة الموت ذلك بشارة له بأنه من أهل الجنة يدخلها إذا دخلها المؤمنون بعد البعث وحكى نحو ذلك عن مجاهد
أخرج عبد بن حميد وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عنه أنه قال في قوله تعالى : قيل أدخل الجنة وجبت له الجنة وجاء في رواية عن الحسن أنه قال : لما أراد قومه قتله رفعه الله تعالى إلى السماء حيا كما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة فإذا أعاد الله تعالى الجنة أعيد له دخولها فالأمر كما في الأول والجمهور على أنه قتل وأدعى إبن عطية أنه تواترت الأخبار والروايات بذلك وقول قتادة أدخله الله تعالى الجنة وهو فيها حي يرزق ليس نصا في نفي القتل وفي البحر أنه أراد
(22/228)
بقوله وهو فيها حي يرزق قوله تعالى بل أحياء عند ربهم يرزقون وقال بعضهم : الجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما حاله عند لقاء ربه عزوجل بعد ذلك التصلب في دينه فقيل : قيل أدخل الجنة والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ولعل الأولى ما أشرنا إليه أولا وإنما لم يقل قيل له لأن الغرض المهم بيان المقول لا القائل والمقول له وقوله تعالى : قال ياليت قومي يعلمون 62 بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين 72 إستئناف بياني أيضا كأنه قيل بعد أن أخبر عنه بما أخبر : فماذا قال عند نيله تلك الكرامة السنية فقيل : قال إلخ وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على إكتساب مثله بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والطاعة جريا على سنن الأولياء في كظنم الغيظ والترحم على الأعداء وفي الحديث نصح قومه حيا وميتا
وقيل : يجوز أن يكون تمنيه ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا ولم تعقبه إلا سعادة لأن في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور والوجه الأول أولى والظأهر أن ما مصدرية ويجوز أن تكون موصولة والعائد مقدر أي ياليت قومي يعلمون بالذي غفر لي به أي بسببه ربي أو بالذي غفره أي بالغفران الذي غفره لي ربي والمراد تعظيم مغفرته تعالى له فتؤول إلى المصدرية وقال الزمخشري : أي بالذي غفره لي ربي من الذنوب وتعقب بأنه ليس بجيد إذ يؤل إلى تمني علمهم بذنوبه المغفورة ولا يحسن ذلك وكذا عطف وجعلني من المكرمين عليه لا ينتظم وما قيل من أن الغرض منه الإعلام بعظم مغفرة الله تعالى ووفور كرمه وسعة رحمته فلا يبعد حينئذ إرادة معنى الإطلاع عليها لذلك بل هو أوقع في النفس من ذكر المغفرة مجردة عن ذكر المغفور لإحتمال حقارته تكلف وأجاز الفراء أن تكون إستفهامية والجار صلة غفر أي بأي شيء غفر لي ربي يريد به المهاجرة عن دينهم والمصابرة على أذيتهم حتى قتل وتعقبه الكسائي بأنه لو صح ذلك لقيل بم بغير ألف فإن اللغة الفصيحة حذفها إذا جرت ما الإستفهامية بحرف جر نحو عم يتساءلون وقوله : علام أقول الرمح أثقل عاتقي إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت فرقا بينها وبين الموصولة وإثباتها نادر وقيل مختص بالضرورة نحو قوله : على ما قام يشتمني كخنزير تمرغ في رماد وقوله : إنا قتلنا بقتلانا سراتكم أهل اللواء ففيما يكثر القتل وقراءة عكرمة وعيسى عما يتساءلون وقرأ من المكرمين مشدد الراى مفتوحها مفتوح الكاف
تم والحمد لله الجزء الثاني والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث والعشرون وأوله وما أنزلنا 23
(22/229)
بسم الله الرحمن الرحيم وما أنزلنا على قومه أي قوم الرجل الذي قيل له ادخل الجنة من بعده أي من بعد قتله وقيل من بعد رفعه إلى السماء حيا من جند أي جندا فمن مزيدة لتأكيد النفي وقيل : يجوز أن تكون للتبعيض وهو خلاف الظاهر والجند العسكر لما فيه من الغلظة كأنه من الجند أي الأرض الغليظة التي فيها حجارة والظاهر أن المراد بهذا الجند جند الملائكة أي ما أنزلنا لأهلاكهم ملائكة من السماء وما كنا منزلين
28
- وما صح في حكمتنا أن ننزل الجند لإهلاكهم لما أنا قدرنا لكل شيء سببا حيث أهلكنا بعض من أهلكنا من الأمم بالحاصب وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالإغراق وجعلنا إنزال الجند من خصائصك في الإنتصار لك من قومك وكفينا أمر هؤلاء بصيحة ملك صاح بهم فهلكوا كما قال سبحانه : إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون
29
- وفي ذلك استحقار لهم وهلاكهم وإيماء إلى تفخيم شأن النبي صلى الله عليه و سلم وفسر أبو حيان الجند بما يعم الملائكة فقال : كالحجارة والريح وغير ذلك والمتبادر ما تقدم وقيل : الجند ملائكة الوحي الذين ينزلون على الأنبياء عليهم السلام أي قطعنا عنهم الرسالة حين فعلوا ما فعلوا ولم نعبأ بهم وأهلكناهم وعن الحسن ومجاهد قالا قطع الله تعالى عنهم الرسالة حين قتلوا رسله وهذا التفسير بعيد جدا وقتل الرسل الثلاثة محكي في البحر بقيل وهو ظاهر هذا المروي المعروف أنهم لم يقتلوا وإنما قتل حبيب فقط وذهبت فرقة إلى أن ما في قوله تعالى وما كنا منزلين موصولة معطوفة على جند والمراد ما أنزلنا على قومه من بعده جندا من السماء وما أنزلنا الذي كنا منزليه على الذين من قبلهم من حجارة وريح وغير ذلك
وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة من في المعرفة ومن هنا قيل الأولى جعلها نكرة موصوفة وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ولا يخفى أن هذا لا يدفع بعده ومن أبعد ما يكون قول أبي البقاء : يجوز أن تكون ما زائدة أي وقد كنا منزلين على غيرهم جندا من السماء بل هو ليس بشيء وإن نافية وكان ناقصة واسمها مضمر و صيحة خبرها أي ما كانت هي أي إلا خذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة روي أن الله تعالى بعث عليهم جبريل عليه السلام حتى أخذ بعضادتي باب المدينة فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا جميعا وإذا فجائية وفيها إشارة إلى سرعة هلاكهم بحيث كان مع الصيحة وقد شبهوا بالنار على سبيل الإستعارة المكنية والخمود تخييل وفي ذلك رمز إلى أن الحي كشعلة النار والميت كالرماد كما قال لبيد : وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ويجوز أن تكون الإستعارة تصريحية تبعية في الخمود بمعنى البرودة والسكون لأن الروح لفزعها عند الصيحة تندفع إلى الباطن دفعة واحدة ثم تنحصر فتنطفيء الحرارة الغريزية لانحصارها ولعل في العدول عن
(23/2)
هامدون إلى خامدون رمزا خفيا إلى البعث بعد الموت والظاهر أنه لم يؤمن منهم سوى حبيب وأنهم هلكوا عن آخرهم وفي بعض الآثار أنه آمن الملك وآمن قوم من حواشيه ومن لم يؤمن هلك بالصيحة وهذا بعيد فإنه كان الظاهر أن يظاهر أولئك المؤمنون الرسل كما فعل حبيب ولكان لهم في القرآن الجليل ذكر ما بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يقال : إنهم آمنوا خفية وكان لهم ما يعذرون به عن المظاهرة ومع هذا لا يخلو بعد عن بعد وقرأ أبو جعفر وشيبة ومعاذ بن الحرث القاري صيحة بالرفع على أن كان تامة أي ما حدثت ووقعت إلا صيحة وينبغي أن لا تلحق الفعل تاء التأنيث في مثل هذا التركيب فلا يقال ما قامت إلا هند بل ما قام إلا هند لأن الكلام على معنى ما قام أحد إلا هند والفاعل فيه مذكر ولم يجوز كثير من النحويين غلإلحاق إلا في الشعر كقول ذي الرمة : طوى التحز والأجراز ما في غروضها وما بقيت إلا الضلوع الجراشع وقول الآخر : ما برئت من ريبة وذم في حربنا إلا بنات العم ومن هنا أنكر الكثير كما قال أبو حاتم هذه القراءة ومنهم من أجاز ذلك في الكلام على قلة كما في قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء والجحدري وقتادة وأبي حيوة وابن أبي عبلة وأبي بحرية لا ترى إلا مساكنهم بالتاء الفوقية ووجه مراعاة الفاعل المذكور وكأني بك تميل إلى هذا القول وقرأ ابن مسعود إلا زقية من زقي الطائر يزقو ويزقي زقوا إذا صاح ومنه المثل من الزواقي وهي الديكة لأنهم كانوا يسمرون إلى أن تزقوا فإذا صاحت تفرقوا يا حسرة على العباد الحسرة على ما قال الراغب الغم على ما فات والندم عليه كأن المتحسر انحسر عنه قواه من فرط ذلك أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه وفي البحر هي أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية بعده حتى يبقى حسيرا والظاهر أن يا للنداء و حسرة هو المنادي ونداؤها مجاز بتنزيلها منزلة العقلاء كأنه قيل : يا حسرة أحضري فهذه الحال من الأحوال التي من حقها أن تحضري فيها وهي ما دل عليها قوله تعالى : ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون
30
- والمراد بالعباد مكذبو الرسل ويدخل فيهم المهلكون المتقدمون دخولا أوليا وقيل : هم المراد وليس بذاك وبالحسرة المناداة حسرتهم والمستهزؤن بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء بأن يتحسروا على أنفسهم حيث فوتوا عليها السعادة الأبدية وعوضوها العذاب المقيم ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي وعلي بن الحسين والضحاك ومجاهد والحسن يا حسرة العباد بالإضافة وكون المراد حسرة غيرهم عليهم والإضافة لأدنى ملابسة خلاف الظاهر وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القرآت يا حسرة العباد على أنفسها ما يأتيهم الخ
وجوز أن تكون حسرة الملائكة عليهم والمؤمنين من الثقلين وعن الضحاك تخصيصها بحسرة الملائكة عليهم السلام وزعم أن المراد بالعباد الرسل الثلاثة وأبو العالية فسر العباد بهذا أيضا لكنه حمل الحسرة على حسرة الكفار المهلكين قال : تحسروا حين رأوا عذاب الله تعالى وتلهفوا على ما فاتهم وقيل : المراد بالعباد المهلكون والمتحسر الرجل الذي جاء من أقصى المدينة تحسر لما وثب القوم لقتله وقيل : المراد بالعباد أولئك والمتحسر الرسل حين قتلوا ذلك الرجل وحل بهم العذاب ولم يؤمنوا ولا يخفى حال هذه الأقوال وكان مراد
(23/3)
من قال : المتحسر الرجل ومن قال المتحسر الرسل عنى أن القول المذكور قول الرجل أو قول الرسل وفي كلام أبي حيان ما هو ظاهر في ذلك ومع هذا لا ينبغي أن يعول على شيء مما ذكر وجوز أن يكون التحسر منه سبحانه وتعالى مجازا عن استعظام ما جنوه على أنفسهم وأيد بأنه قريء يا حسرتا على العباد فإن الأصل عليها يا حسرتي فقلبت الياء ألفا ونحوها قراءة ابن عباس كما قال ابن خالويه يا حسرة على العباد بغير تنوين فإن الأصل أيضا ياحسرتي فقلبت الياء ألفا ثم حذفت الألف واكتفى عنها بالفتحة وقرأ أبو الزناد وأبن هرمز وابن جندب يا حسرة على العباد بالهاء الساكنة المنتقي : وقف على حسره وقفا طويلا تعظيما للأمر ثم قيل على العباد
وفي اللوامح وقفوا على الهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التأهه كالتأوه ثم وصلوه على تلك الحال
وقال الطيبي : إن العرب إذا أخبرت عن الشيء غير معتد به أسرعت فيه ولم تأت على اللفظ المعبر عنه نحو قلت لها قفي لنا قاف أي وقفت فافتصرت من جملة الكلمة على حرف منها تهاونا بالحال وتثاقلا عن الإجابة ولا يخفى أن هذا لا يناسب المقام وينبغي على هذه القراءة أن لا يكون على العباد متعلقا بحسرة أو صفة له إذ لا يحسن الوقف حينئذ بل يجعل متعلقا بمضمر يدل عليه حسرة نحو يتحسر أو أتحسر على العباد وتقدير انظروا ليس بذاك أو خبر مبتدأ محذوف لبيان المتحسر عليه أي الحسرة على العباد وتخريج قراءة يا حسرتا بالألف على هذا الطرز بأن يقال : قدر الوقف على المنصوب المنون فإنه يوقف عليه بالألف ككان الله على كل شيء قديرا وضرب زيد عمرا ليس بشيء ولو سلم أنه شيء لا ينافي التأييد وقيل يا للنداء والمنادى محذوف و حسرة مفعول مطلق لفعل مضمر و على العباد متعلق بذلك الفعل أي يا هؤلاء تحسروا حسرة على العباد
ولعل الأوفق للمقام المتبادر إلى الأفهام أن المراد نداء حسرة كل من يتأتى منه التحسر ففيه من المبالغة ما فيه
وقوله تعالى ما يأتيهم الخ استئناف لبيان ما يتحسر منه و به متعلق بيسئهزؤن وقدم عليه للحصر الإدعائي وجوز أن يكون لمراعاة الفواصل
ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون الضمير لأهل مكة والإستفهام للتقرير وكم خبرية في موضع نصب بأهلكنا و القرون بيان لكم وجوز بعض المتأخرين كون كم مبتدأ والجملة بعده خبره وهو كلام من لا خبر عنده والجملة معمولة ليروا نافذ معناها فيها و كم معلقة لها عن العمل في اللفظ لأنها وإن كانت خبرية لها صدر الكلام كالإستفهامية فلا يعمل فيها عامل متقدم على اللغة الفصيحة إلا إذا كان حرف جر أو اسما مضافا نحو على كم فقير تصدقت أرجو الثواب وابن كم رئيس صحبته
وحكى الأخفش على ما في البحر جواز تقدم عامل عليها غير ذلك عن بعضهم نحو ملكت كم غلام أي ملكت كثيرا من الغلمان عاملوها معاملة كثير والرؤية علمية لا بصرية خلافا لابن عطية لأنها لا تعلق على المشهور ولأن أهل مكة لم يحضروا إهلاك من قبلهم حتى يروه بل علموه بالأخبار ومشاهدة الآثار والقرون جمع قرن المقترنون في زمن واحد كعاد وثمود وغيرهم أنهم الضمير عائد على معنى كم وهي القرون أي إن القرون المهلكين إليهم إي إلى أهل مكة لا يرجعون
31
- وأن وما بعدها في تأويل المفرد
(23/4)
بدل من جملة كم أهلكنا على المعنى كما نقل عن سيبويه وتبعه الزجاج أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم وكونهم غير راجعين إليهم
وقيل على المعنى لأن الكثرة المذكورة وعدم الرجوع ليس بينهما اتحاد بجزئية ولا كلية ولا ملابسة كما هو مقتضى البدلية لكن لما كان ذلك في معنى الذين أهلكناهم وأنهم لا يرجعون بمعنى غير راجعين اتضح فيه البدلية على أنه بدل اشتمال أو بدل كل من كل قاله الخفاجي : وأفاد صاحب الكشف على أنه من بدل الكل بجعل كونهم غير راجعين كثرة إهلاك تجوزا وعندي أن هذا الوجه وإن لم يكن فيه إبدال مفرد من جملة وتحقق مصحح البدلية على ما سمعت ولا يخلو عن تكلف وسيبويه ليس بنبي النحو ليجب اتباعه
وقال السيرافي : يجوز أن يجعل أنهم الخ صلة أهلكناهم أي أهلكناهم بأنهم لا يرجعون أي بهذا الضرب من الهلاك وجوز ابن هشام في المغنى أن يكون إن وصلتها معمول يروا وجملة كم أهلكنا معترضة بينهما وأن يكون معلقا عن كم أهلكنا وأنهم إليهم لا يرجعون مفعولا لأجله قال الشمني : ليروا والمعنى أنهم علموا لأجل أنهم لا يرجعون إهلاكهم ورد بأنه لا فائدة يعتد بها فيما ذكر في المغنى وتعقبه الخفاجي بقوله : لا يخفى أن ما ذكر وارد على البدلية أيضا والظاهر أن المقصود من ذكره إما التهكم بهم وتمحيقهم وإما إفادة ما يفيد تقديم إليهم من الحصر أي أنهم لا يرجعون إليهم بل إلينا فيكون ما بعده مؤكدا له أه وهو كما ترى وقال الجلبي : لعل الحق أن يجعل أول الضميرين لمعنى كم وثانيهما للرسل وإن وصلتها مفعولا لأجله لأهلكناهم والمعنى أهلكناهم لاستمرارهم على عدم الرجوع عن عقائدهم الفاسدة إلى الرسل وما دعوهم إليه فاختيار لا يرجعون على لم يرجعوا للدلالة على استمرار النفي مع مراعاة الفاصلة انتهى وهو على بعده ركيك معنى وأرك منه ما قيل الضميران على ما يتبادر فيهما من رجوع الأول لمعنى كم والثاني لمن نسبت إليه الرؤية وأن وصلتها علة لأهلكنا والمعنى أنهم لا يرجعون إليهم فيخبروهم بما حل بهم من العذاب وجزاء الإستهزاء حق ينزجر هؤلاء فلذا أهلناهم ونقل عن الفراء أنه يعمل يروا في كم أهلكنا وفي أنهم الخ من غير إبدال ولم يبين كيفية ذلك
وزعم ابن عطية أن أن وصلتها بدل من كم ولا يخفى أنه جعلها معمول أهلكنا كما هو المعروف لا يسوغ ذلك لأن البدل على نية تكرار العامل ولا معنى لقولك أهلكنا أنهم لا يرجعون ولعله تسامح في ذلك والمراد بدل من كم أهلكنا على المعنى كما حكي عن سيبويه وأما جعل كم معمولة ليروا والإبدال منها نفسها إذ ذاك فلا يخفى حاله وقال أبو حيان : اذلي تقتضيه صناعة العربية أن أنهم الخ معمول لمحذوف دل عليه المعنى وتقديره قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا يرجعون والجملة حال من فاعل أهلكنا على ما قال الخفاجي وأراه أبعد عن القيل والقال بيد أن في الدلالة على المحذوف خفاء فإن لم يلصق بقلبك لذلك فالأقوال بين يديك ولا حجر عليك
وكأني بك تختار ما نقل عن السيرافي ولا بأس به وجوز على بعض الأقوال أن يكون الضمير في أنهم عائدا على من أسند إليه يروا وفي إليهم عائدا على المهلكين والمعنى أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم ويحسن هذا على الوجه المحكي عن السيرافي وقرأ ابن عباس والحسن إنه بكسر الهمزة على الإستئناف وقطع الجملة عما قبلها من جملة الإعراب وقرأ عبد الله ألم يروا من أهلكنا فإنهم الخ على قراءة الفتح بدل اشتمال ورد بالآية على القائلين بالرجعة كما ذهب إليه الشيعة
(23/5)
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي إسحاق قال : قيل لابن عباس أن ناسا يزعمون أن عليا كرم الله تعالى وجهه مبعوث قبل يوم القيامة فسكت ساعة ثم قال : بئس القوم نحن إن نكحنا نساءه واقتسمنا ميراثه أما تقرؤن ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون
وإن كل لما جميع لدينا محضرون
32
- بيان لرجوع الكل إلى المحشر بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا و إن نافية و كل مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه و لما بمعنى إلا ومجيئها بهذا المعنى ثابت في لسان العرب بنقل الثقات فلا يلتفت إلى زعم الكسائي أنه لا يعرف ذلك وقال أبو عبد الله الرازي : في كونها بهذا المعنى معنى مناسب وهو أنها كأنها حرفا نفي أكد أولهما بثانيهما وهما لم وما وكذلك إلا كأنها حرفا نفي وهما إن النافية ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخر وهو عندي ضرب من الوساوس و جميع خبر المبتدأ وهو فعيل بمعنى مفعول فيفيد ما لا تفيده كل لأنها تفيد إحاطة الإفراد وهذا يفيد اجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض و لدينا ظرف له أو لمحضرون و محضورون خبر ثان أو نعت وجمع على المعنى والمعنى ما كلهم إلا مجموعون لدينا محضورن للحساب والجزاء
وقال ابن سلام : محضورون أي معذبون فكل عبارة عن الكفرة ويجوز أن يراد به هذا المعنى على الأول
وفي الآية تنبيه على أن المهلك لا يترك وقرأ جمع من السبعة لما بالتخفيف على أن إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة وما مزيدة للتأكيد والمعنى أن الشأن كلهم مجموعون الخ وهذا مذهب البصريين وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية واللام بمعنى إلا وما مزيدة والمعنى كما في قراءة التشديد وآية لهم الأرض الميتة بالتخفيف وقرأ نافع بالتشديد و آية خبر مقدم للإهتمام وتنكيرها للتفخيم و لهم إما متعلق بها لأنها بمعنى العلامة أو متعلق بمضمر هو صفة لها وضمير الجمع لكفار أهل مكة ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر و الأرض مبتدأ و الميتة صفتها وقوله تعالى أحييناها استئناف مبين لكيفية كونها آية وقيل في موضع الحال والعامل فيها آية لما فيها من معنى الإعلام وهو تكلف ركيك وقيل آية مبتدأ أول و لهم صفتها أو متعلق بها وكل من الأمرين مسوغ للإبتداء بالنكرة و الأرض الميتة مبتدأ ثان وصفة وجملة أحييناها خبر المبتدأ الثاني وجملة المبتدأ الثاني وخبره المبتدأ الأول ولكونها عين المبتدأ كخبر ضمير الشأن لم تحتج لرابط قال الخفاجي : وهذا حسن جدا إلا أن النحاة لم يصرحوا به في غير ضمير الشأن وقيل إنها مؤولة بمدلول هذا القول فلذا لم يحتج لذلك ولا يخفى بعده وقيل آية مبتدأ و الأرض خبره وجملة أحييناها صفة الأرض لأنها لم يرد بها أرض معينه بل الجنس فلا يلزم توصيف المعرفة بالجملة التي هي في حكم النكرة ونظير ذلك قوله : ولقد أمر على إللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني وأنكر جواز ذلك أبو حيان مخالفا للزمخشري وابن مالك في التسهيل وجعل جملة يسبني حالا من اللئيم وأنت تعلم أن المعنى على استمرار مروره على من يسبه وإغماضه عنه ولهذا قال : أمر وعطف عليه فمضيت والتقييد بالحال لا يؤدي هذا المؤدي ثم إن مدار الخبرية إرادة الجنس فليس هناك إخبار بالمعرفة عن النكرة ليكون مخالفا للقواعد كما قيل نعم أرجح الأوجه ما قرر أولا وقد مر المراد بموت الأرض وإحيائها فتذكر
وأخرجنا منها حبا أي جنس الحب من الحنطة والشعير والأرز وغيرها والنكرة قد تعم كما إذا كانت
(23/6)
في سياق الإمتنان أو نحوه وفي الإخراج وكذا الجعل تنبيه على كمال الأحياء فمنه أي من الحب بعد إخراجها إياه والفاء داخلة على المسبب ومن ابتدائية أو تبعيضية والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى يأكلون
33
- والتقديم للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به لما في ذلك من إيهام الحصر للإهتمام به حتى كأنه لا مأكول غيره وجعلنا فيها جنات من نخيل جمع نخل كعبيد جمع عبد كما ذهب إليه أكثر الأئمة وصرح به القاموس وقيل اسم جمع وقال الجوهري : النخل والنخيل بمعنى واحد وعلى الأول المعول وأعناب جمع عنب ويقال الكرم نفسه وعلى ثمرته كما قال الراغب : ولعله مشترك فيهما وقيل حقيقة في الثمرة مجاز في الشجرة وأيا ما كان فالمراد الأول بقرينة العطف على النخيل وجمعا دون الحب قيل لتدل الجمعية على تعدد الأنواع أي من أنواع النخل وأنواع العنب وذلك لأن النخل والعنب اسمان لنوعين فكل منهما مقول على إفراد حقيقة واحدة فلا يدلان على اختلاف ما تحتهما وتعدد أنواعه إلا إذا عبر عنهما بلفظ الجمع بخلاف الحب فإنه اسم جنس وهو يشعر باختلاف ما تحته لأنه المقول على كثرة مختلفة الحقائق قولا ذاتيا فلا يحتاج في الدلالة على الإختلاف إلى الجمعية وقولهم جمع العالم في قوله تعالى : الحمد لله رب العالمين وهو اسم جنس ليشمل ما تحته من الأجناس لا ينافي ذلك قيل لأن المراد ليشمل شمولا ظاهرا متعينا وأن حصل الإشعار بدونه وقيل جمعا للدلالة على مزيد النعمة وأما الحب ففيه قوام البدن وهو حاصل بالجنس
وامتن عز و جل في معرض الإستدلال على أمر الحشر بجعل الجنات من النخيل والأعناب المراد بها الأشجار ولم يمتن سبحانه وتعالى بجعل ثمرات تلك الأشجار من التمر والعنب كما امتن جل جلاله بإخراج الحب أعظاما للمنة لتضمن ذلك الإمتنان بالثمار وغيرها من منافع تلك الأشجار أنفسها بسائر أجزائها للإنسان نفسه بلا واسطة لا سيما النخيل ولا دلالة في الكلام على حصر ثمرة الجعل بأكل الثمرة وثمرة التصيص على ذلك من بين المنافع ظاهرة وهذا بخلاف أشجار الحبوب فإنها ليست بهذه المثابة ولذا غير الأسلوب ولم يعامل ثمر ذلك معاملة الحبوب وكلام البيضاوي عليه الرحمة ظاهر في أن المراد بالأعناب الثمار المعروفة لا الكروم وعلل ذكر النخيل دون ثمارها مع أنه الأوفق بما قبل وما بعد باختصاصها بمزيد النفع وآثار الصنع وتفسير الأعناب بالثمار دون الكروم بعيد عندي لمكان العطف مع أن الجار والمجرور في موضع الصفة لجنات والمعروف كونها من أشجار لا من ثمار
قال الراغب : الجنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعلى ذلك حمل قوله :
من النواضح تسقى جنة سحقا
على أن في الآية بعد ما يؤيد إرادة الثمار فتدبر
وفجرنا فيها أي شققنا في الأرض وقرأ جناح بن حبيشض فجرنا بالتخفيف والمعنى واحد بيد أن المشدد دال على المبالغة والتكثير من العيون
34
- أي شيئا من العيون على أن الجار والمجرور في موضع الصفة لمحذوف ومن بيانية وجوز كونها تبعيضية وليس بذاك وقيل المفعول محذوف و من العيون متعلق بفجر ومن ابتدائية على معنى فجرنا من المنابع ما ينتفع به من الماء وذهب الأخفش إلى زيادة من وجعل العيون مفعول فجرنا لأنه يرى جواز زيادتها في الإثبات مع تعريف مجرورها ليأكلوا من ثمره متعلق بجعلنا
(23/7)
وتأخيره عن تفجير العيون لأنه من مباديء الثمر أي وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب ورتبنا مباديء ثمرها ليأكلوا وضمير ثمره عائد على المجعول وهو الجنات ولذا أفرد وذكر ولم يقل من ثمرها أي الجنات أو من ثمرها أي النخيل والأعناب ومثله ما قيل عائد على المذكور والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة كما في قول رؤبة : فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق فإنه أراد كما قال لأبي عبيدة وقد سأله كأن ذاك وقيل عائد على الماء لدلالة العيون عليه أو لكون الكلام على حذف مضاف أي ماء العيون وقيل على النخيل واكتفى به للعلم باشتراك الأعناب معه في ذلك وقيل على التفجير المفهوم من فجرنا والمراد بثمره فوائده كما تقول ثمرة التجارة الربح أو هو ظاهره والإضافة لأدنى ملابسة والكل كما ترى وجوز أن يكون الضمير له عز و جل وإضافة الثمر إليه تعالى لأنه سبحانه خالقه فكأنه قيل : ليأكلوا مما خلقه الله تعالى من الثمر وكان الظاهر من ثمرنا لضمير العظمة على قياس ما تقدم إلا أنه التفت من التكلم إلى الغيبة لأن الأكل والتعيش مما يشغل عن الله تعالى فيناسب الغيبة فالإلتفات في قومه
وزعم بعضهم أن هذا ليس من مظانه لأنه أولى بضمير الواحد المطاع لأنه المقصود بالإحياء والجعل والتفجير وقد أسندت إليه ورد بأن ما سبق أفخم لأنها أفعال عامة النفع ظاهرة في كمال القدرة والثمر أحط مرتبة من الحب ولذا لم يورد على سبيل الإختصاص فلا يستحق ذلك التفخيم كيف وقد جعل بعضهم الثمر خلق الله تعالى وكماله بفعل الآدمي وبما تقدم يستغني عما ذكر وقرأ طلحة وأبو وثاب وحمزة والكسائي من ثمره بضمتين وهي لغة فيه أو هو جمع ثمار
وقرأ الأعمش من ثمره بضم فسكون وما عملته أيديهم ما موصولة في محل جر عطف على ثمره وجعله في محل نصب عطفا على محل من ثمره خلاف الظاهر أي وليأكلوا من الذي عملوه أو صنعوه بقواهم والمراد به ما يتخذ من الثمر كالعصير والدبس وغيرهما وقال الزمخشري : أي من الذي عملته أيديهم بالغرس والسقي والآبار وليس بذاك وجوز أن تكون ما نكرة موصوفة أي ومن شيء عملته أيديهم والأول أظهر وقيل : ما نافية وضمير عملته راجع إلى الثمر والجملة في موضع الحال والمراد من نفي عمل أيديهم إياه أنه بخلق الله تعالى لا بفعلهم ولا تقوم المشايخ بالتوليد وروي القول بأنها نافية عن ابن عباس والضحاك وظاهر كلام الحبر أن الضمير راجع إلى شيئا الموصوف المحذوف والجملة حال منه فقد روي سعيد بن منصور وابن المنذر عنه أنه قال : وجدوه معمولا لم تعمله أيديهم يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ وأشباهها وفيه بعد وأيد القول بالموصولية بقراءة طلحة وعيسى وحمزة والكسائي وأبي بكر وما عملت بلاها ووجه التأييد أن الموصول مع الصلة كاسم واحد فيحسن معه لاستطالته ولاقتضائه إياه دلالته عليه يكون كالمذكور وتقدير اسم ظاهر غير ظاهر وقال الطيبي : جعلها نافية أولى من جعلها موصولة لئلا يوهم استقلالهم بالعمل لأن ذكر الأيدي للتأكيد في هذا المقام كما في قوله تعالى ألم يروا أنا خلقناهم مما عملت أيدينا لأن التركيب من باب أخذته بيدي ورأيته بعيني وحينئذ لا يناسب أن يكون قوله تعالى أحييناها الخ تفسيرا لكون الأرض الميتة آية وتعقبه في الكشف بأنه ليس بشيء لأن
(23/8)
العمل من العباد بمعنى الكسب وقد جاء بما قدمت أيديكم وبما قدمت يداك فهذا التأكيد دافع للإيهام انتهى فلا تغفل
وجوز على هذه القراءة كون ما مصدرية أي وعمل أيديهم ويراد بالمصدر اسم المفعول أي معمول أيديهم فيعود إلى معنى الموصولة ولا يخفى ما فيه أفلا يشكرون
35
- إنكار واستقباح لعدم شكرهم للمنعم بالنعم المعدومة بالتوحيد والعبادة والفاء للعطف علة مقدر يقتضيه المقام أي أيرون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرون المنعم بها سبحان الذي خلق الأزواج كلها استئناف مسوق لتنزيهه تعالى عما فعلوه من ترك شكره عز و جل واستعظام ما ذكر في حيز الصلة من بدائع آثار قدرته وأسرار حكمته وروائع نعمائه الموجبة لشكره تعالى وتخصيص العبادة به سبحانه والتعجيب من إخلالهم بذلك والحال هذه وقد تقدم الكلام في سبحان وفي الإرشاد هنا أنه علم للتسبيح الذي هو التبعيد عن السوء اعتقادا وقولا أي اعتقاد البعد عنه والحكم به من سبح في الأرض والماء إذا بعد فيهما وأمعن وانتصابه على المصدرية أي أسبح سبحانه أي أنزهه عما لا يليق به عقدا وعملا تنزيها خاصا به حقيقا بشأنه عز شأنه وفيه مبالغة من جهة الإشتقاق وجهة العدول إلى التفعيل وجهة العدول عن المصدر الدال على الجنس إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما العلم وجهة إقامته مقام المصدر مع الفعل وقيل : هو مصدر كغفران أريد به التنزه التام والتباعد الكلي عن السوء ففيه مبالغة من جهة إسناد التنزه إلى الذات المقدس فالمعنى تنزه بذاته عن كل ما لا يليق به تعالى تنزها خاصا به سبحانه فالجملة على هذا اختبار منه تعالى بتنزهه وبراءته عن كل ما لا يليق به مما فعلوه وما تركوه وعلى الأول حكم منه عز و جل بذلك وتلقين للمؤمنين أن يقولوه ويعتقدوا ولا يخلوا به ولا يغفلوا عنه
وقدر بعضهم الفعل الناصب أمرا أي سبحوا سبحان والمراد بالأرواج الأنواع والأصناف وقال الراغب : الأزواج جمع زوج ويقال لكل واحد من القريتين ولكل ما يقترن بأخر ممثلا له أو مضادا وكل ما في العالم زوج من حيث أن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب صورة ومادة وجوهر وعرض
مما تنبت الأرض بيان للأزواج والمراد به كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها ومن أنفسهم أي وخلق الأزواج من أنفسهم أي الذكر والأنثى ومما لا يعلمون
36
- أي والأزواج مما لم يطلعهم الله تعالى ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته بخصوصياته وإنما أطلعهم سبحانه على ذلك بطريق الإجمال على منهاج ويخلق ما لا تعلمون لما نيط به وقوفهم على عظم قدرته وسعة ملكه وجلالة سلطانه عز و جل ولعله لما كان العلم من أخص صفات الربوبية لم يثبت على وجه الكمال والإحاطة لأحد سواه سبحانه ولو كان بطريق الفيض منه تبارك وتعالى على أن ظرف الممكن يضيق عن الإحاطة فما يجهله كل أحد أكثر مما يعلمه بكثير وقد يقال على بعض الإعتبارات : إن ما يعلمه كل أحد متناه وما يجهله غير متناه ولا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي أصلا فلا نسبة بين معلوم كل أحد ومجهوله وتأمل في هذا مع دعوى بعض الأكابر الوقوف على الأعيان الثابتة والإطلاع عليها وقل رب زدني علما وآية لهم الليل بيان لقدرته تعالى الباهرة في الزمان بعدما بينها سبحانه في المكان و آية خبر مقدم و الليل مبتدأ مؤخر وقوله تعالى نسلخ منه النهار استئناف لبيان كونه آية وفي التركيب احتمالات أخر تعلم مما مر أن الأرجح ما ذكر أي نكشف ونزيل الضوء من مكان الليل وموضع إلقاء ظله وظلمته وهو الهواء
(23/9)
فالنهار عبارة عن الضوء أما على التجوز أو على حذف المضاف وقوله تعالى منه على حذف مضاف ذلك لأن النهار والليل عبارتان عن زمان كون الشمس فوق الأفق وتحته ولا معنى لكشف أحدهما عن الآخر وأصل السلخ كشط الجلد على نحو الشاة فاستعير لكشف الضوء عن مكان الليل وملقى ظلمته وظله استعارة تبعية مصرحة والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر فإنه يترتب ظهور اللحم على كشط الجلد وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل وجوز أن يكون في النهار استعارة مكنية وفي السلخ استعارة تخييلية والجمهور على ما ذكرنا ومن ابتدائية وقيل : تبعيضية وجعلها سببية ليس بشيء وهذا التفسير محكي عن الفراء ونحوه تفسير السلخ بالنزع واستعمال الفاء في قوله تعالى : فإذا هم مظلمون
37
- أي داخلون في الظلام كما يفيده همزة الأفعال عليه ظاهر ووقع فيه عبارة الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي أن المستعار له في الآية ظهور النهار من ظلمة الليل والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلده وذلك على ما قال العلامة الطيبي والفاضل اليميني مأخوذ من قول الزجاج معنى نسلخ منه النهار نخرج منه النهار إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوئه فالظهور في عبارتهما بمعنى الخروج وهو يتعدى بمن فلا حاجة إلى جعلها بمعنى عن
وقد جاء بهذا المعنى كما في قول عمر لأبي عبيدة رضي الله تعالى عنهما أظهر بمن معك من المسلمين إليها أي الأرض يعني أخرج إلى ظاهرها وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها كان صلى الله عليه و سلم يصلي العصر ولم يظهر الفيء بعد من الحجرة أي لم يخرج إلى ظاهرها فسقط ما أورد عليه من أنه لو أريد الظهور لقيل فغذا هم مبصرون ولم يقل فإذا هم مظلمون لأن الواقع عقيب ظهورها النهار من ظلمة الليل إنما هو الإبصار لا الأظلام من غير حاجة إلى حمل العبارة على القلب أي ظهور ظلمة الليل من النهار وبعضهم رفع هذا الإيراد بأن النهار عبارة عن مجموع المدة من طلوع الفجر أو الشمس إلى الغروب لا عن بعضها فالواقع عقيب هذه المدة كلها الدخول في الظلام وتعقبه السالكوتي بأن الدخول في الظلام مترتب على السلخ لا على انقضاء مدة النهار
ولعل مراد البعض أن السلخ بمعنى ظهور النهار لا يتحقق إلا بظهور كل أجزائه ومتى ظهرت أجزاء النهار كلها انقضت مدته وذكر العلامة القطب أن السلخ قد يكون بمعنى النزع نحو سلخت الأهاب عن الشاة وقد يكون بمعنى الإخراج نحو سلخت الشاة من الأهاب والشاة مسلوخة فذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي إلى الثاني وغيرهما إلى الأول فاستعمال الفاء في فغذا هم ظاهر على قول الغير وأما على قولهما فإنما يصح من جهة أنها موضوعة لما يعد في العادة مرتبا غير متراخ وهذا يختلف باختلاف الأمور والعادات فقد يطول الزمان والعادة في مثله تقتضي عدم اعتبار المهلة وقد يكون بالعكس كما في هذه الآية فإن زمان النهار وإن توسط بين إخراج النهار من الليل وبين دخول الظلام لكن لعظم دخول الظلام بعد إضاءة وكونه مما ينبغي أن لا يحصل إلا في أضعاف ذلك الزمان عد الزمان قريبا وجعل الليل كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل بلا مهلة
ثم لا يخفى أن إذ المفاجئة إنما تصح إذا جعل السلخ بمعنى الإخراج كما يقال : أخرج النهار من الليل ففاجأه دخول الليل فإنه مستقيم بخلاف ما إذا جعل بمعنى النزع فإنه لا يستقيم أن يقال : نزع ضوء الشمس عن الهواء ففاجأه الظلام كما لا يستقيم أن يقال كسرت الكوز ففجأه الإنكسار لأن دخولهم في الظلام عين حصول الظلام فيكون نسبة دخولهم في الظلام إلى نزع ضوء النهار كنسبة الإنكسار إلى الكسر فلهذا جعل السلخ
(23/10)
بمعنىالإخراج دون النزع أه كلامه وقواه العلامة الثاني بأنه لا شك أن الشيء إنما يكون آية إذا اشتمل على نوع استغراب واستعجاب بحيث يفتقر إلى نوع اقتدار وذلك إنما هو مفاجأة الظلام عقيب ظهور النهار لا عقيب زوال ضوء النهار
وقال السالكوتي : إن عدم استقامة المفاجأة فيما ذكر لأنها إنما تتصور فيما لا يكون مترقبا بل يحصل بغتة وحينئذ يمكن أن يقال في الجواب : إن نزع الضوء عن الليل لكون ظهوره في غاية الكمال كان المترقب فيه أن يكون في مدة مديدة فحصول الظلام بعده في مدة قصيرة أمر غير مترقب ثم قال وبهذا ظهر الجواب عن التقوية وقيل أن الظلمة لكونها مما تنفر عنها الطباع وتكرهها النفوس يكون حصولها كأنه غير مترقب ويكفي نفس السلخ في الدلالة على الإقتدار والذي يقتضيه ما سبق عن الطيبي واليمنى أن الشيخ والسكاكي أرادا إخراج النهار من الليل إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوئه كما قال الزجاج ومآله إزالة ضوء النهار من مكان الليل وموضع ظلمته كما قال الفراء وجاء في كلامهم الظهور بمعنى الزوال كما في قول أبي ذؤيب : وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وحكى الجوهري يقال هذا أمر ظاهر عنك عاره أي زائل وقال المرزوقي في قول الحماسي :
وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
أيضا كذلك فلا مانع من أن يكون في كلام الشيخين بهذا المعنى ويراد بالظهور الإظهار والتعبير به مساهلة لظهور أن نسلخ متعد فيرجع الأمر إلى الإزالة فيتحد كلامهما بما قاله الفراء وكذا على ما قيل المراد بالظهور الخروج على وجه المفارقة لظهور الزوال فيه حينئذ وأمر المساهمة على حاله وعلى القول بالإتحاد يجيء اعتراض العلامة والجواب هو الجواب فتأمل والله تعالى الهادي إلى الصواب
وفي الآية على ما قال غير واحد دلالة على أن الأصل الظلمة والنور طاريء عليها يسترها بضوئه وفي الحديث ما يشعر بذلك أيضا وروي أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره اهتدى ومن أخطأه ضل
والشمس عطف على الليل أي وآية لهم الشمس
وقوله تعالى تجري الخ استئناف لبيان كونها آية وقيل الشمس مبتدأ وما بعده خبر والجملة عطف على الليل نسلخ وقيل غير ذلك فلا تغفل والجري المر السريع وأصله لمر الماء ولما يجري يجريه والمعنى تسير سريعا لمستقر لها لحد معين تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره من حيث أن في كل انتهاء إلى محل معين وإن كان للمسافر قرار دونها وروي هذا عن الكلبي واختاره ابن قتيبة والمستقر عليه اسم مكان واللام بمعنى إلى وقريء بها بدل اللام وجوز أن تكون تعليلية أو لمنتهى لها من المشارق اليومية والمغارب لأنها مشرقا مشرقا ومغربا مغربا حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع فذلك حدها ومستقرها لأنها لا تعدوه
وروي عن الحسن وهو متفق في أن المستقر اسم مكان واللام على ما سمعت ومختلف باعتبار أن الأول من استقرار المسافر تشبيها لانتهاء الدورة بالنتهاء السفرة وهذا باعتبار مقنطرات الإرتفاع وبلوغ
(23/11)
أقصاها ومقنطرات الإنخفاض كذلك والإستقرار باعتبار عدم التجاوز عن الأول في استقصاء المشارق وعن الثاني في استقصاء المغارب أو لحد لها من مسيرها كل يوم في رأي عيوننا وهو المغرب والمستقر عليه اسم مكان أيضا واللام كما سمعت أو لكبد السماء ودائرة نصف النهار فالمستقر واللام على نظير ما تقدم
وكون ذلك محل قرارها إما مجاز عن الحركة البطيئة أو هو باعتبار ما يتراءى قال ذو الرمة يصف فرسه وجريه في الظهيرة وشدة الحر : معروريا رمض الرضراض تركضه والشمس حيرى لها بالجو تدويم أو لا استقرار لها ومكث في كل برج من البروج الإثني عشر على نهج مخصوص فالمستقر مصدر ميمي واللام داخلة على الغاية أو الحامل وقيل تجري لبيتها وهو برج الأسد واستقرارها عبارة عن حسن حالها فيه وهذا غير مقبول إلا عند أهل الأحكام ولا يخفى حكمهم على محققي الإسلام وقال قتادة ومقاتل المعنى تجري إلى وقت لها لا تتعداه قال الواحدي : وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضا الدنيا وهذا اختيار الزجاج كما قال النووي : في شرح صحيح مسلم ومستقر عليه اسم زمان وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد عند غروب الشمس فقال يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس قلت الله تعالى ورسوله أعلم قال : تذهب لتسجد فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله عز و جل والشمس تجري لمستقر لها وفي رواية أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة وفي ذلك عدة روايات وقد روي مختصرا جدا
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : والشمس تجري لمستقر لها قال مستقرها تحت العرش فالمستقر اسم مكان والظاهر أن للشمس فيه قرارا حقيقة قال النووي : قال جماعة بظاهر الحديث قال الواحدي : وعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع ثم قال النووي : وسجودها بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها
وذكر ابن حجر الهيتي في فتاويه الحديثية أن سجودها تحت العرش إنما هو عند غروبها وحكى فيها عن بعضهم أنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تسجد تحت العرش وتقول : يا رب إن قوما يعصونك فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتنزل من سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق وبنزولها إلى سماء الدنيا يطلع الفجر وفيها أيضا أخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا غربت دخلت نهرا تحت العرش فتسبح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن الخروج فيقول سبحانه لم فتقول أني إذا خرجت عبدت من دونك والسجود تحت العرش قد جاء أيضا من روايات الأمامية ولهم في ذلك أخبار عجيبة منها أن الشمس عليها سبعون ألف كلاب وكل كلاب يجره سبعون ألف ملك من مشرقها إلى مغربها ثم ينزعون منها النور نتخر ساجدة تحت العرش ثم يسألون
(23/12)
ربهم هل نلبسها لباس النور أم لا فيجابون بما يريده سبحانه ثم يسألونه عز و جل هل نطلعها من مشرقها أو مغربها فيأتيهم النداء بما يريد جل شأنه ثم يسألون عن مقدار الضوء فيأتيهم النداء بما يحتاج إليه الخلق من قصر النهار وطوله
وفي الهيئة السنية للجلال السيوطي أخبار من هذا القبيل والصحيح من الأخبار قليل وليس لي على صحة أخبار الإمامية وأكثر ما في الهيئة السنية تعويل نعم ما تقدم عن أبي ذر مما لا كلام في صحته وماذا يقال في أبي ذر وصدق لهجته والأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والإستقرار كل ليلية تحت العرش سواء قيل إنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد أم قيل أنها تستقر وتسجد تحته من غير طلوع فقد صرح إمام الحرمين وغيره بأنه لا خلاف في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين ويبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الإستواء وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق الغروب وفي عرض تسعين لا نزال طالعة مادامت في البروج الشمالية وغاربة مادامت في البروج الجنوبية فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار على ما فصل في موضعه والأدلة على أنها لا تسكن عند غروبها وإلا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره وأيضا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش بل كون الأمر ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلا وكذا كونها تحت العرش دائما بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته وقد سألت كثيرا من أجلة المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان فلم أوفق لأن أفوز منهم بما يروي الغليل ويشفي العليل والذي يخطر بالبال في حل ذلك الإشكال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال أن الشمس وكذا سائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبيء عن ذلك قوله تعالى الآتي كل في فلك يسبحون حيث جيء بالفعل مسندا إلى ضمير جمع العقلاء وقوله تعالى إني رأيت أحدا عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين لنحو ما ذكر يدل وعليه ظاهر ما روي عن أبي ذر من أنها تسجد وتستأذن فإن المتبادر من الإستئذان ما يكون القال دون لسان الحال
وخلق الله تعالى الإدراك والتمييز فيها حال السجود والإستئذان ثم سلبه عنها مما لا حاجة إلى التزامه بل هو بعيد غاية البعد والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصى كثرة وبعض يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص وبعضها يدل على ثبوته لها باعتبار دخولها في العموم أو بالمقايسة إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة جدا والحكماء أثبتوا النفس للفلك وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضا وقالوا : كل ما في العالم العلوي من الكواكب والأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حي ناطق والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ عن الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما يتمثل جبريل عليه السلام ويظهر بصورة دحية أو بصورة بعض الأعراب كما جاء في صحيح الأخبار حيث يشاء الله تعالى عز و جل مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يحكى عن بعض الأولياء قدست أرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع وما ذاك إلا لقوة تجرد أنفسهم وغاية تقدسها فتمثل وتظهر في موضع وبدنها الأصلي في موضع آخر
(23/13)
لا تقل دارها بشرقي نجد كل نجد للعامرية دار وهذا أمر مقرر عند السادة الصوفية مشهور فيما بينهم وهو غير طي المسافة وإنكار من ينكر كلا منهما عليهم مكابرة لا تصدر إلا من جاهل أو معاند وقد عجب العلامة التفتازاني من بعض أهل السنة أي كابن مقاتل حيث حكم بالكفر على معتقد ما روي عن إبراهيم بن أدهم قدس سره أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية ورؤى ذلك اليوم بمكة ومبناه زعم أن ذلك من جنس المعجزات الكبار وهو مما لا يثبت كرامة لولي وأنت تعلم أن المعتمد عندنا جواز ثبوت الكرامة للولي مطلقا إلا فيما يثبت بالدليل عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل إحدى سور القرآن وقد أثبت غير واحد تمثل النفس وتطورها لنبينا صلى الله عليه و سلم بعد الوفاة وادعى أنه عليه الصلاة و السلام قد يرى في عدة مواضع في وقت واحد مع كونه في قبره الشريف يصلي وقد تقدم الكلام مستوفي في ذلك وصح أنه صلى الله عليه و سلم رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ورآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة وكونه عليه السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي صلى الله عليه و سلم مما لم يقل أحد جزما والقول به احتمال بعيد وقد رأى صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به جماعة من الأنبياء غير موسى عليه السلام في السماوات مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا منها إليها على قياس ما سمعت آنفا وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس الواحدة أكثر من بدن واحد بل هو أمر وراءه كما لا يخفى على من نور الله تعالى بصيرته فيمكن أن يقال : إن للشمس نفسا مثل تلك الأنفس القدسية وأنها تنسلخ عن الجرم المشاهد المعروف مع بقاء نوع من التعلق لها به فتعرج إلى العرش فتسجد تحته بلا واسطة وتستقر هناك وتستأذن ولا ينافي ذلك سير هذا الجرم المعروف وعدم سكونه حسبما يدعيه أهل الهيئة وغيرهم ويكون ذلك إذا غربت ولجاوزت الأفق الحقيقي وانقطعت رؤية سكان المعمور من الأرض إياها ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحوه لأن ما ذكرنا من كون السجود والسكون باعتبار النفس المنسلخة المتمثلة بما شاء الله تعالى لا ينافي سير الجرم المعروف بل لو كان نصف النهار في خط الإستواء لم يضر أيضا ويجوز أن يقال سجودها بعد غروبها عن أفق المدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر لما سمعت إلا أن الذي يغلب على الظن ما ذكر أولا وعلى هذا الطرز يخرج ما يحكى أن الكعبة كانت تزور واحدا من الأولياء بأن يقال إن الكعبة حقيقية غير ما يعرفه العامة وهي باعتبار تلك الحقيقة تزور والناس يشاهدونها في مكانها أحجارا مبنية
وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات كلاما طويلا ظاهرا في أن لها حقيقة غير ما يعرفه العامة وفيه أنه كان بينه وبينها زمان مجاورته مراسلات وتوسلات ومعاتبة دائمة وأنه دون بعض ذلك في جزء سماه تاج الوسائل ومنهاج الرسائل وقد سأل نجم الدين عمر النسفي الإنس والجمي عما يحكم أن الكعبة كانت تزور الخ يجوز القول به فقال نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة وارتضاه العلامة السعد وغيره لكن لم أر من خرج زيارتها على هذا الطرز وظاهر كلام بعضهم أن ذلك بذهاب الجسم المشاهد منها إلى المزور وانتقاله من مكانه ففي عدة الفتاوي وألولوالجية وغيرهما لو ذهبت الكعبة لزيارة بعض الأولياء فالصلاة إلى هوائها ويمكن أن يكون أريد به غير ما يحكى فإنه والله تعالى أعلم لم يكن بانتقال
(23/14)
الجسم المشاهد ثم الجمع بين الحديث في الشمس وبين ما يقتضيه الحس وكلام أهل الهيئة بهذا الوجه لم أره لأحد بيد أني رأيت في بعض مؤلفات عصرينا الرشتي رئيس الطائفة الإمامية الكشفية أن سجدة الشمس عند غروبها تحت العرش عبارة عن رفع الآنية ونزع جلباب الماهية وهو عندي نوع من الرطانة لا يفهمه من لا خبرة له بإصلاحاته ولو كان ذا فطانة : وقال في موضع آخر بعد أن ذكر حديث الكلاليب السابق إن ذلك لا ينافي كلام أهل الهيئة ولا بقدر سم الخياط ولم يبين وجه عدم المنافاة مع أنها أظهر من الشمس معتذرا بأن الكلام فيه طويل ولا أظنه لو كان آتيا به إلا من ذلك القبيل وهذا ما عندي فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل
وقرأ عبد الله وابن عباس وزين العبادين وابنه الباقر وعكرمة وعطاء بن أبي رباح لا مستقر لها بلا النافية للجنس وبناء مستقر على الفتح فتقتضي انتفاء كل مستقر حقيقي لجرمها المشاهد وذلك في الدنيا أي هي تجري في الدنيا دائما لا تستقر وقرأ ابن أبي عبلة بلا أيضا إلا أنه رفع مستقر ونونه على أعمالها أعمال ليس كما في قوله : تعز فلا شيء على الأرض باقيا ولا وزر مما قضى الله واقيا ذلك إشارة إلى الجري المفهوم من تجري أي ذلك الجري البديع الشأن المنطوي على الحكم الرائقة التي تحار في فهمها العقول والأذهان تقدير العزيز الغالب بقدرته على كل مقدرو العليم
38
- المحيط علمه بكل معلوم وذكر بعض في حكمة جريها حتى تسجد كل ليلة تحت العرش ما يقتضيه الخبر السابق تجدد اكتساب النور من العرش ويترتب عليه في عالم الطبيعة والعناصر ما يترتب وباكتسابها النور من العرش صرح به غير واحد ومن العجيب ما ذكره الرشتي أنها تستمد النور من ظاهر العرش وتمد فلك القمر ومن باطن العرش وتمد فلك زحل وتستمد من ظاهر الكرسي وتمد فلك عطارد ومن باطنه وتمد المشتري وتستمد من ظاهر تقاطع نقطتي المنطقتين وتمد فلك الزهرة ومن باطنه فلك المريخ وليت شعري من أين أستمد فقال ما قال وذلك مما لم نجد فيه نقلا ولا نظن أنه مر بخيال وقال الشيخ الأكبر : قدس سره إن نور الشمس ما هو من حيث عينها بل هو من تجل دائم لها من اسمه تعالى النور ونور سائر السيارات من نورها وهو في الحقيقة من تجلي اسمه سبحانه النور فما ثم إلا نوره عز و جل
وادعى كثير من أجلة المحققين أن نور جميع الكواكب ثوابتها وسياراتها مستفاد من ضوء الشمس وهو مفاض عليها من الفياض المطلق جل جلاله وعم نواله وفي الآية رد على القائلين بأن الشمس ساكنة وهي مركز العالم والكواكب والأرض كرات دائرة عليها والقمر قدرناه أي صيرنا مسيره أي محله الذي يسير فيه منازل فقدر بمعنى صير الناصب لمفعولين والكلام على حذف مضاف والمضاف المحذوف مفعوله الأول و منازل مفعوله الثاني واختار أبو حيان تقدير مصدر مضاف وقدر متعد إلى واحد و منازل منصوب على الظرفية أي قدرنا سيره في منازل وقدر بعضهم نورا أي قدرنا نوره في منازل فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الإجتماعية وينقص في المنازل الإستقبالية لما أن نوره مستفاد من ضوء الشمس تشكلاته
(23/15)
بالقرب والبعد منها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها وبهذا يتم الإستدلال والحق أنه لا قطع بذلك وليس هناك إلا غلبة الظن ويجوز أن يكون قدر متعديا لاثنين و منازل بتقدير ذا منازل وأن يكون متعديا لواحد وهو منازل والأصل قدرنا له منازل على الحذف والإيصال واختاره أبو السعود ونصب القمر بفعل يفسره المذكور أي وقدرنا القمر قدرناه وفي ذلك من الإعتناء بأمر التقدير ما فيه وكأنه لما أن شهرهم باعتباره ويعلم منه سر تغيير الأسلوب
وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه والقمر بالرفع قال غير واحد على الإبتداء وجملة قدرناه خبره ويجوز فيما أرى أن يجري في التركيب ما جرى في قوله تعالى : والشمس تجري من الإعراب تدبر والمنازل جمع منزل والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة وهي عند أهل الهند سبعة وعشرون لأن القمر يقطع فلك البوج في سبعة وعشرين يوم وثلث فحذفوا الثلث لأنه ناقص عن النصف كما هو مصطلح أهل التنجيم وعند العرب وساكني البدو وثمانية وعشرون لا لأنهم تمموا الثلث واحدا كما قال بعضهم بل لأنه لما كانت سنوهم باعتبار الأهلة مختلفة الأوائل لوقوعها في وسط الصيف تارة وفي وسط الشتاء أخرى وكذا أوقات تجارتهم وزمان أعيادهم احتاجوا إلى ضبط سنة الشمس لمعرفة فصول البسنة حتى يشتغلوا في استقبال كل فصل بما يهمهم في ذلك الفصل من الإنتقال إلى المراعي وغيرها فاحتالوا في ضبطها فنظروا أولا إلى القمر فوجدوه يعود إلى وضع له من الشمس في قريب من ثلاثين يوما ويختفي آخر الشهر لليلتين أو أقل أو أكثر فأسقطوا يومين من زمان الشهر فبقي ثمانية وعشرون وهو زمان ما بين أول ظهوره بالعشيات مستهلا أول الشهر وآخر رؤيته بالغدوات مستترا آخره فقسموا دور الفلك عليه فكان كل قسم اثنتي عشرة درجة وإحدى وخمسين دقيقة تقريبا وهو أسباع درجة فنصيب كل برج منه منزلان وثلث ثم انضبط الدور بهذه القسمة احتالوا في ضبط سنة الشمس بكيفية قطعها لهذه المنازل فوجدوها تستر دائما ثلاثة منازل ما هي فيه بشعاعها وما قبلها بضياء الفجر وما بعدها بضياء الشمس ورصدوا ظهور المستتر بضياء الفجر ثم بشعاعها ثم بضياء الشفق فوجدوا الزمان بين كل ظهوري منزلتين ثلاثة عشر يوما تقريبا فأيام جميع المنازل تكون ثلثمائة وأربعة وستين لكن الشمس تقطع جميعها في ثلثمائة وخمس وستين فزادوا يوما في أيام منزل غفر وزادوه ههنا اصطلاحا منهم أو لشرفه على ما تسمعه إن شاء الله تعالى وقد يحتاج إلى زيادة يومين ليكون انقضاء الثمانية والعشرين مع انقضاء السنة ويرجع الأمر إلى النجم الأول واعلم أن العرب جعلت علامات الأقسام الثمانية والعشرين من الكواكب الظاهرة القريبة من المنطقة مما يقارب طريقة القمر في ممره أو يحاذيه فيرى القمر كل ليلة نازلا بقرب أحدها وأحوال كواكب المنازل مع المنازل كأحوال كواكب البروج مع البروج عند أهل الهيئة من أنها مسامتة للمنازل وهي في فلك الأفلاك وإذا أسرع القمر في سيره فقد يخلى منزلا في الوسط وإن أبطأ فقد يبقى ليلتين في منزل أول الليلتين في أوله ووآخرهما في أخره وقد يرى في بعض الليالي بين منزلتين وما يقال في الشهور إن الظاهر من المنازل في كل ليلة يكون أربعة عشر وكذا الخفي وأنه إذا طلع منزل غاب رقيبه وهو الخامس عشر من الطالع سمي به تشبيها برقيب يرصده ليسقط في المغرب إذا ظهر ذلك في المشرق ظاهر الفساد لأنها ليست على نفس المنطقة ولا أبعاد ما بينها متساوية ولهذا
(23/16)
قد يكون الظاهر ستة عشر وسبعة عشر وقد يكون الخفي ثلاثة عشر وهذه الكواكب المسماة بالمنازل المسامتة للمنازل الحقيقية على ما روي عن ابن عباس وغيره أولها الشرطان بفتح الشين والراء مثنى شرط بفتحتين وهي العلامة وهما كوكبان نيران من القدر الثالث على قرني الحمل متعرضان بين الشمال والجنوب بينهما ثلاثة أشبار وبقرب الجنوبي منهما كوكب صغير سمت العرب الكل أشراطا لأنها بسقوطها علامات المطر والريح والقمر يحاذيهما وبقرب الشمالي منهما كوكب نير هو الشرطان عند بعض ويقال للشرطين الناطح أيضا ثم البطين تصغير وهو ثلاثة كواكب خفية من القدر الخامس على شكل مثلث حاد الزوايا على فخدي الحمل بينه وبين الشرطين قيد رمح والقمر يجتاز بها أحيانا ثم الثريا تصغير ثروى من الثراء وهو الكثرة ويسمى بالنجم وهو على المشهور عند المنجمين ستة كواكب مجتمعة كشكل مروحة مقبضها نحو المشرق وفيه انحناء في جانب الشمال وقيل هي شبيهة بعنقود عنب وعليه قول أحيحة بن الجلاح أو قيس بن الأسلت
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى كعنقود ملاحية حين نورا والمرصود منها أربعة كلها من القدر الخامس وموضعها سنام الثور وفي الكشف هي ألية الحمل وربما يكسفها القمر ثم الدبران بفتحتين سمي به لأنه دبر الثريا وخلفها وهو كوكب أحمر نير من القدر الأول على طرف صورة السبعة من رقوم الهند ويسمى المجدح وموقعه عين الثور والذي على طرفه الآخر من القدر الثالث على عينه الأخرى والثلاثة الباقية وهي من الثالث أيضا على وجهه وزاوية هذا الرقم على خطم الثور وبعضهم يسمي الدبران بقلب الثور وقد يكسفه القمر ثم الهقعة بفتح الهاء وسكون القاف وفتح العين المهملة وهي ثلاثة كواكب خفية شبيهة بنقط الثاء كأنها لطخه سحابية شبهت بالدائرة التي تكون في عرض زور الفرس أو بحيث تصيب رجل الفارس أو بلمعة بياض تكون في جنب الفرس الأيسر تسمى بذلك الأثافي أيضا وهي على رأس الجبار المسمى بالجوزاء والقمر يحاذيها ولا يقاربها ثم الهنعة بوزن الهقعة وثانيه نون وهي كوكبان من القدر الرابع والثالث شبهت بسمة في منخفض عنق الفرس وهما على رجل التوأمين مما يلي الشمال وفي الكشف هي منكب الجوزاء الأيسر والقمر يمر بهما ثم الذراع وهما كوكبان أزهران من القدر الثاني على رأسي التوأمين يعنون بهما ذراع الأسد المبسوطة إذ المقبوضة هي الشعري الشامية مع مرزمها والقمر يقارب المبسوطة ثم النثرة وهي الفرجة بين الشاربين حيال وترة الأنف وهو أنف الأسد وهما كوكبان خفيان من الرابع بينهما قيد ذراع ولطخه سحابية وهي على وسط السرطان ويقربها كوكبان يسميان بالحمارين واللطخة التي بينهما بالمعلف تشبيها لها بالتبن وبمحظة الأسد أي موضع استتاره ويكسب القمر كلا منهما ثم الطرف وهما كوكبان صغيران من الرابع أحدهما على رأس الأسد قدام عينيه والآخر قدام يده المقدمه والقمر يحاذي أشملهما ويكسف أجنبهما ويعنون بالطرف عين الأسد ثم الجبهة ويعنون بها جبهة الأسد وهي أربعة كواكب على سطر فيه تعويج آخذ من الشمال إلى الجوب أعظمها على طرف السطر مما يلي الجنوب يسمى قلب الأسد لكونه في موضعه ويسمى الملكي أيضا وهو من القدر الأول والقمر يمر به وبالذي يليه ثم الزبرة بضم الزاي
(23/17)
وسكون الباء وهما كوكبان نيران على أثر الجبهة بينهما أرجح من ذراع وهما على زبرة الأسد أي كاهله عند العرب وعند المنجمين عند مؤخره فزبرة الأسد شعره الذي عند الغضب في قفاه أجنبهما من الثالث وأشملهما من الثاني وتسمى ظهر الأسد والقمر يحاذيهما من جهة الجنوب ثم الصرفة وهو كوكب واحد على طريق ذنب الأسد يسمى ذنب الأسد والقمر يحاذيه من جهة الجنوب وسمي بذلك لأن البرد ينصرف عند سقوطه ثم العواء يمد ويقصر والقصر أجود وهي خمسة كواكب من الثالث على هيئة لام الخط العربي منها آخذة من منكب العذراء الأيسر إلى تحت ثديها الأيسر على سطر جنوبي من الصرفة ثم ينعطف اثنان على سطر يحيط مع الأول بزاوية منفرجة زعمت العرب أنها كلاب تعوي خلف الأسد ولذلك سميت العواء وقيل في ذلك كأنها تعوي في أثر البرد ولهذا سميت طاردة البرد وقيل من عوى الشيء عطفه فلما فيها من الإنعطاف سميت بذلك
وفي الكشف العوا سافلة الإنسان ويقال أنها ورك الأسد والقمر يخرقها ثم السماك الأعزل وهو كوكب نير من الأول على كتف العذراء اليسرى قريب من المنطقة والقمر يمر به ويكسفه ويقابل السماك الأعزل السماك الرامح وليس من المنازل وسمي رامحا لكوكب يقدمه كأنه رمحه وسمي سماكا لأنه سمك أي ارتفع ثم الغفر وهي ثلاثة كواكب من الرابع على ذيل العذراء ورجلها المؤخرة على سطر معوج حدبته إلى الشمال وقيل كوكبان والقمر يمر بجنوبيهما وقد يحاذي الشمالي وهو منزل خير بعد عن شرين مقدم الأسد ومؤخر العقرب ويقال إنه طالع الأنبياء والصالحين وسميت غفرا لسترها ونقصان نورها وذكر بعضهم أنها من كواكب الميزان ثم الزبانا بالضم وآخره ألف وهما كوكبان نيران من الثاني متباعد في الشمال والجنوب بينهما قيد رمح على كتفي الميزان
وقال غير واحد هما قرنا العقرب قد يكسف جنوبيهما ثم الإكليل وهي ثلاثة كواكب خفية معترضة من الشمال إلى الجنوب على سطر مقوس يشبه شكلها شكل الغفر الأوسط منها ولإثنان تاليان وهي من الرابع والقمر يمر بجميعهما وقيل هي أربعة كواكب برأس العقرب ولذا سميت به وأصل معناه التاج ثم القلب وهو العقرب كوكب أحمر نير أوسط الثلاثة التي بدن العقرب على استقامة من المغرب إلى المشرق وهو من الثاني واللذان قبله وبعده ويسميان نياطين من الثالث والقمر يمر به ويكسفه من المنطقة ثم الشولة بفتح الشين المعجمة واللام وتسمى إبرة العقرب عند الحجازيين كوكبان من الثاني أزهران متقاربان على طرفي ذنب العقرب في موضع الحملة والقمر يحاذيهما ثم النعائم أربعة كواكب من الثالث على منحرف تابع للشولة وتسمى النعائم الواردة أي إلى المجرة والقمر يمر باثنين منها ويحاذي الباقية ويقرب منها أربعة أخرى من الثالث على منحرف هي النعائم الصادرة أي المجردة وكلها من صورة الرامي وسميت نعائم تشبيها بالخشبات التي تكون على البئر ثم البلدة وهي قطعة من السماء خالية من الكواكب مستديرة شبهت ببلدة الثعلب وهي ما يكنسه بذنبه وتسمى أيضا بالمفازة والفرجة وقيل سميت بذلك تشبيها بالفرجة التي تكون بين الحاجبين وموضعها خلف الكواكب التي تسمى بالقلادة وهي عصابة الرامي ثم سعد الذابح كوكبان على قرني الجدي بينهما قدر باع جنوبيهما من الثالث والقمر يقاربه ولا يكسفه ويقرب الشمالي كوكب صغير يكاد يلتصق به يقال إنه شاته التي يريد أن يذبحها وقيل : إنه في مذبحه ولهذا يسمى بالذابح ثم سعد بلع كوكبان على كف ساكب
(23/18)
الماء اليسري فوق ظهر الجدي بينهما قدر باع غربيهما من الثالث وشرقيهما من الرابع ويقرب متقدمهما كوكب صغير كأنه ابتلعه فلهذا سمي به وفي القاموس سعد بلع كزفر معرفة منزل للقمر طلع لما قال الله تعالى يا أرض ابلعي ماءك وهو نجمان مستويان في المجرى أحدهما خفي والآخر مضيء يسمى بالعا كأنه بلع الآخر وقيل : لأنه ليس له ما لسعد الذابح فكأنه بلغ شاته والقمر يقارب أجنبهما ولا يكسفه ثم سعد السعود كوكبان وقيل : ثلاثة على خط مقوس بين الشمال والجنوب حدبته إلى المغرب أجنبهما والقمر يقرب منه من الخامس على طرف ذنب الجدي وأشملهما من الثالث وهو مع الآخر في القول الآخر من كواكب القوس والقمر يقارب أحنبهما وسمي بذلك لأنه في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيشون وتعيش مواشيهم ثم سعد الأخبية أربعة كواكب من الثالث ومن كواكب الرامي على يد ساكب الماء اليمنى ثلاثة على شكل مثلث حاد الزوايا والرابع وسطه وهو السعد والثلاث خباؤه ولذا سمي بذلك وقيل : لأنه يطلع قبل الدفء فيخرج من الهوام ما كان مختبئا والقمر يقاربها من ناحية الجنوب ثم الفزع المقدم ويقال الأعلى كوكبان نبران من الثاني بينهما قيد رمح أجنبهما على متن الفرس الأكبر المجنح وأشملهما على منكبه والقمر يمر بالبعد منهما ثم الفرغ المؤخر كوكبان نيران من الثاني بينهما قيد رمح أيضا أجنبهما على جناح الفرس وأشملهما مشترك بين سرته ورأس المسلسلة شبهت العرب الأربعة بفرغ الدلو وهو بفتح الفاء وسكون الراء المهملة وغين معجمة مصب الماء منها لكثرة الأمطار في وقتها ثم بطن الحوت ويقال له الرشاء بكسر الراء أي رشا الدلو وقلب الحوت أيضا كوكب نير من الثالث على جنب المرأة المسلسلة يحاذيه القمر ولا يقاربه وإنما سمي به لوقوعه في بطن سمكة عظيمة تحت نحر الناقة تصورها العرب من سطرين عليهما كواكب خفية من المسلسلة وبعضها من إحدى سمكتي الحوت
هذا واعلم أن هذه المنازل الثمانية والعشرين تسمى العرب الأربعة عشر الشمالية منها التي أولها الشرطان وآخرها السماك شامية والباقية منها التي أولها الغفر وآخرها بطن الحوت يمانية وأنها تسمي خروج المنزل من ضياء الفجر طلوعه وغروب رقيبه وقت الصبح سقوطه والمنازل التي يكون طلوعها في مواسم المطر الأنواء ورقباؤها إذا طلعت في غير مواسم المطر البوارح قاله القطب وقاله الجوهري : النوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى مضي ثلاثة عشر يوما ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما قال أبو عبيد : ولم يسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع والعرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها وقال الأصمعي : إلى الطالع في سلطانه فتقول مطرنا بنوء الثريا مثلا والجمع أنواء ونوآن مثل عبد وعبدان وذكر الطيبي عن المرزوقي أن نوء الشرطين ثلاثة أيام ونوء البطين ثلاثة ليال ونوء الثريا خمس ليال ونوء الدبران ثلاث ليال ونوء الهقمة ست ليال ولا يذكرون نوأها إلا بنوء الجوزاء ونوء الهنعة لا يذكر أيضا وإنما يكون في أنواء الجوزاء والذراع لا نوء له ونوء النثرة سبع ليال ونوء الطرف ثلاث ليال ونوء الجبهة سبع الزبرة أربع والصرفة ثلاث والعواء ليلة والسماك أربع والغفر ثلاث وقيل ليلة الزبانا ثلاث والإكليل أربع والقلب ثلاث والشولة كذلك والنعائم ليلة والبلدة ثلاث وقيل : ليلة وسعد الذابح ليلة وبلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم ثلاث والمؤخر أربع ولم يذكر في نسختي للرشاء نوءا ثم أن قول الإنسان مطرنا بنوء كذا إن أراد به أن النوء
(23/19)
نزل بالماء فهو كفر والقائل كافر حلال دمه إن لم يتب كما نص عليه الشافعي وغيره وفي الروضة من اعتقد أن النوء يمطر حقيقة كفر وصار مرتدا وإن أراد به أن النوء سبب ينزل الله تعالى به الماء حسبما علم وقدر فهو ليس بكفر الصحيحين بل مباح لكن قال ابن عبد البر : هو وإن كان مباحا كفر بنعمة الله تعالى وجهل بلطيف حكمته
وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أثر سماء : هل تدرون ما قال ربكم قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال : قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله تعالى ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فهو كافر بي مؤمن بالكواكب وظاهر أن الكفر مقابل الإيمان فيحمل على ما إذا أراد القائل ما سمعت أولا والله تعالى الحافظ من كل سوء لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره
والقمر في العرف العام هو الكوكب المعروف في جميع ليالي الشهر والمشهور عند اللغويين أنه بعد الإجتماع مع الشمس ومفارقته إياها لا يسمى قمرا إلا من ثلاث وست وعشرين ليلة وفيما عدا ذلك يسمى هلالا ولعل الأظهر في الآية حمله على المعنى الأول وهو الشائع إذا ذكر مع الشمس أي قدرنا هذا الجرم المعروف منازل ومسافات مخصوصة فسار فيها ونزلها منزلة منزلة حتى عاد أي صار في أواخر سيره وقربه من الشمس في رأى العين كالعرجون هو عود عزق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته منها وروي ذلك عن الحسن وقتادة وعن ابن عباس أنه أصل العذق وقيل الشمراخ وهو ما عليه البسر من عيدان العذق والكباسة والمشهور الأول ونونه على ما حكي عن الزجاج زائدة فوزنه فعلون من الإنعراج وهو الإعوجاج والإنعطاف وذهب قوم واختاره الراغب والسمين وصاحب القاموس إلى أنها أصلية فوزنه فعلول وقرأ سليمان التيمي كالعرجون بكسر العين وسكون الراء وفتح الجيم وهي لغة فيه كالبزيون والبزيون وهو بساط رومي أو السندس
القديم
39
- أي العتيق الذي مر عليه زمان يبس فيه ووجه الشبه الإصفرار والدقة والإعوجاج وقيل : أقل مدة القدم حول فلو قال رجل كل مملوك لي قديم فهو حر عتق منهم من مضى له حول وأكثر وقيل : ستة أشهر وحكاه بعض الإمامية عن أبي الحسن الرضا رضي الله تعالى عنه لا الشمس ينبغي لها أي يتسخر وينسهل كما في قولك النار ينبغي أن تحرق الثوب أو يحسن ويليق أي حكمة كما في قولك الملك ينبغي أن يكرم العالم واختار غير واحد المعنى الأول وأصل ينبغي مطاوع بغي بمعنى طلب وما طاوع وقبل الفعل فقد تسخر وتسهل والنفي راجع في الحقيقة إلى ينبغي فكأنه قيل : لا يتسهل للشمس ولا يتسخر أن تدرك القمر أي في سلطانه بأن تجتمع معه في الوقت الذي حده الله تعالى له وجعله مظهرا لسلطانه فإنه عز و جل جعل لتدبير هذا العالم بمقتضى الحكمة لكل من النيرين الشمس والقمر حدا محدودا ووقتا معينا يظهر فيه سلطانه فلا يدخل أحدهما في سلطان الآخر بل يتعاقبان إلى أن يأتي أمر الله عز و جل وهذه الجملة لنفي أن تدرك الشمس القمر فيما جعل له وقوله تعالى ولا الليل سابق النهار لنفي أن يدرك القمر الشمس فيما جعل لها أي ولا آية الليل سابقة آية النهار وظاهر سلطانها في وقت ظهور سلطانها وإلى هذا المعنى يشير كلام قتادة والضحاك وعكرمة وأبي صالح واختاره الزمخشري ليناسب قوله تعالى لا الشمس ينبغي لها ولأن الكلام في الآيتين دل عليه قوله تعالى والشمس تجري الآيتان واآخرا كل في فلك يسبحون وعبر بالإدراك أولا وبالسبق ثانيا على ما في الكشاف لمناسبة
(23/20)
حال الشمس من بطء السير وحال القمر من سرعته ولم يقل ولا القمر سابق الشمس ليؤذن على ما قال الطيبي بالتعاقب بين الليل والنهار وبنصوصية التدبير على المعاقبة فإنه مستفاد من الحركة اليومية التي مدار تصرف كل منهما عليها وفي الكشف التحقيق أن المقصود بيان معاقبة كل من الشمس والقمر في ترتب الإضاءة وسلطانه على الإستقلال وكذلك اختلاف الليل والنهار فقيل : ولا الليل سابق النهار كناية عن سبق آيته آيته فحصل الدلالة على الإختلاف أيضا إدماجا لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة وجاء من ضرورة التقابل هذا المعنى في النهار أيضا من قوله تعالى : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولما ذكر مع الشمس الإدراك المؤذن بأنها طالبة للحاق قيل لا ينبغي رعاية للمناسبة وجيء بالفعل المؤذن بالتجدد ولما نفي السبق في المقابل أكد ذلك بأن جيء بالجملة الإسمية المحضة من دون الإبتغاء لأنه مطلوب اللحوق أه
ولم يذكر السر في إدخال حرف النفي على الشمس دون الفعل المؤذن بصفتها ويوشك أن يكون أخفى من السها وكان ذلك ليستشعر منه في المقام الخطابي أن الشمس إذا خليت وذاتها تكون معدومة كما هو شأن سائر الممكنات وإنما يحصل لها ما يحصل من علته التي هي عبارة عن تعلق قدرته تعالى به على وفق إرادته سبحانه الكاملة التي لا يأبى عنها من أشياء عالم الإمكان ويفيد ذلك في غاية كونها مسخرة في قبضة تصرفه عز و جل لا شيء فوق تلك المسخرية وفيه تأكيد لما يفيده قوله تعالى ذلك تقدير العزيز العليم ورد بليغ لمن إليها يسند التأثير
وجوز أن يكون ذلك لإفادة كونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها من حيث تقديم المسند إليه على الفعل وجعله بعد حرف النفي نحو ما أنا قلت هذا وما زيد سعى في حاجتك يفيد التخصيص أي ما أنا قلت هذا بل غيري وما زيد سعى في حاجتك بل غيره على ما حققه علماء البلاغة والمقصود من نفي تسهيل إدراك القمر في سلطانه عن الشمس نفي أن يتسهل لها أن تطمس نوره وتذهب سلطانه ويرجع ذلك إلى نفي قدرتها على الطمس وإذهاب السلطان فيكون المعنى بناء على قاعدة التقديم أن الشمس لا تقدر على ذلك بل غيرها يقدر عليه وهو الله عز و جل وهذا بعد إثبات الجريان لها بتقدير العزيز العليم مشعر بكونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها
وقال بعض الفضلاء فيما كتبه على هامش تفسير البيضاوي عند قوله : وإيلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها وجه الدلالة أن الإيلاء المذكور يفيد التخصيص والإبتغاء بمعنى الصحة والتسهيل المساوقين للإقتدار فيفيد الكلام أن الشمس ليس لها قدرة على إدراك القمر وسرعة المسير التي هي ضد لحركتها الخاصة بل القدرة عليهما لله سبحانه فهو فاعل لحركتها حقيقة ولها مجرد المحلية للحركة فحصت الدلالة المذكورة ثم قال : وتفصيل الكلام أن الله سبحانه ذكر أولا أن الشمس تجري لمستقر لها إشارة إلى حركتها الخاصة ثم ذكر سبحانه أنه قدر القمر أيضا في منازل الشمس حتى عاد كالعرجون القديم أي رجع إلى الشكل الهلالي وذلك إنما يكون عند قربه إلى الشمس ورجوعه إليها ولما كان للوهم سبيل إلى أن يتوهم أن جري الشمس وسيرها وتقدير أنوار القمر وجرمه المرئي مما يستند إلى إرادتهما على سبيل إرادتنا التي تتعلق تارة بالشيء وأخرى بضده فيصح ويتيسر للنيرين الأمران كما يصحان لنا وأن يتوهم أن إسناد أمر
(23/21)
الشمس والقمر إلى التقدير الإلهي من قبيل إسناد أفعالنا إليه من حيث أن الأقدار والتمكين منه تعالى وأنه سبحانه المبدأ والمنتهي إلى غير ذلك من الإعتبارات
نبه جل شأنه بالخصيص المذكور على دفع هذا التوهم على سبيل التنبيه على كون الشيء مسخرا مضطرا في أمره بسلب اقتداراه على ضده وإن لم يذكر جميع أضداده فأشار سبحانه إلى أن الحركة السريعة المفضية إلى إدراك القمر التي هي ضد الحركة الخاصة للشمس لا يصح استنادها إليها والقدرة عليها مختصة بغيرها وهو العزيز العليم حتى يظر أن وجود الحركة الخاصة لها مستند إلى تقديره تعالى وتدبيره جل شأنه من غير مشاكة للشمس معه سبحانه ثم أردف ذلك بحكم القمر حيث قال تعالى ولا الليل سابق النهار فإن الأقرب كون المعنى فيه ليس لآية الليل القدرة على أن تسبق آية النهار بحيث تفوتها ولا تكون لها مراجعة إليها ولحوق بها تنبيها على أن تقدير القمر في المنازل على الوجه المرصود الذي يعود به إلى الشكل الهلالي الشبيه بالعرجون ويفضي إلى مقاربة الشمس مستند أيضا إلى تقديره تعالى وتدبيره سبحانه من غير مشاركة للقمر فيه فالجملتان في قوة التأكيد للآيتين السابقتين ولهذا فصلتا أه وفيه دغدغة لا تخفى على ذكي فتأمل
وما أشار إليه من أن معنى لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أن الشمس لا قدرة لها على أن تدرك القمر في سيره لبطء حركتها الخاصة وسرعة حركته كذلك قاله غير واحد وادعى النحاس أنه أظهر ما قيل في معناه وبينه ما تقدم في المعنى قرب ما بل قال بعضهم : الفرق بين الوجهين بالإعتبار وقال بعض من ذهب إليه في ولا الليل سابق النهار إن المراد أن القمر لا يسبق الشمس بالحركة اليومية وهي ما تكون له وكذا لسائر الكواكب بواسطة فلك الأفلاك فإن هذه الحركة لا يقع بسببها تقدم ولا تأخر وقيل المراد بقوله تعالى لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر إنه لا ينبغي لها أن تدركه في آثاره ومنافعه فإنه سبحانه خص كلا منهما بآثار ومنافع كالتلوين بالنسبة للقمر والنضج بالنسبة للشمس وعن الحسن أن المراد أنهما لا يجتمعان فيما يشاهد من السماء ليلة الهلال خاصة أي لا تبقى الشمس طالعة إلى أن يطلع القمر ولكن إذا غربت طلع وقال يحيى : ابن سلام : المراد لا تدركه ليلة البدر خاصة لأنه يبادر المغيبر قبل طلوعها وكلا القولين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما وقيل في معنى الجملة الثانية إن الليل لا يسبق النهار ويتقدم على وقته فيدخل قبل مضيه
وفي الدر المنثور عن بعض الأجلة أي لا ينبغي إذا كان ليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار وعليك بما تقدم فهو لعمري أقوم واستدل بالآية أن النهار سابق على الليل في الخلق وروي العياشي في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال كنت بخراسان حيث اجتمع الرشا رضي الله تعالى عنه والمأمون والفضل بن سهل في الإيوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا : إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة : فقال النهار خلق قبل أم الليل فما عندكم فأرادوا الكلام فلم يكن عندهم شيء فقال الفضل للرضا : أخبرنا بها أصلحك الله تعالى قال نعم من القرآن أم من الحساب قال له الفضل من جهة الحساب فقال رضي الله تعالى عنه : قد علمت يا فضل أن طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان والمشتري في السرطان والمريخ في الجدي والشمس في الحمل والزهرة في الحوت وعطارد في السنبلة والقمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل ومن القرآن قوله تعالى : ولا الليل سابق النهار أي الليل قد سبقه النهار أه
(23/22)
وفي الإستدلال بالآية بحث ظاهر وأما بالحساب فله وجه في الجملة ورأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضي أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه وفهم الإمام من قوله تعالى ولا الليل سابق النهار أن الليل مسبوق لا سابق ومن قوله سبحانه يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا أن الليل سابق لأن النهار يطلبه وأجاب عما يلزم عليه من كون الليل سابقا مسبوقا بأن المراد من الليل هنا آيته وهو القمر وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه وتعقبه أبو حيان بأن فيه جعل الضمير الفاعل في يطلبه عائدا على النهار وضمير المفعول عائدا على الليل والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل لأنه كان قبل دخول همزة النقل يغشي الليل النهار وضمير المفعول عائد على النهار لأنه المفعول قبل النقل وبعده وحينئذ كلتا الآيتين تفيد أن النهار سابق فلا سؤال انتهى فتأمل ولا تغفل
وقا عمار بن عقيل سابق بغير تنوين النهار بالنصر قال المبرد : سمعته يقرأ فقلت ما هذا قال : أردت سابق النهار بالتنوين فحذفت لأنه أخف وفي البحر حذف التنوين لا لتقاء الساكنين وكل أي كل واحد من الشمس والقمر إذ هما المذكوران صريحا والتنوين عوض عن المضاف إليه وقدره بعضهم ضمير جمع العقلاء ليوافق ما بعد أي كلهم وقدره آخر اسم إشارة أي كل ذلك أي المذكور والشمس والقمر في فلك هو كما قال الراغب مجرى الكوكب سمي به لاستدراكه كفلكة المغزل وهي الخشبة المستديرة في وسطه وفلكة الخيمة وهي الخشبة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا تتمزق الخيمة
يسبحون
40
- أي يسيرون فيه بانبساط وكل من بسط في شيء فهو يسبح فيه ومنه السباحة في الماء وهذا المجرى في السماء ولا مانع عندنا أن يجري الكوكب بنفسه في جوف السماء وهي ساكنة لا تدور أصلا وذلك بأن يكون فيها تجويف مملوء هواء أو جسما آخر لطيفا مثله يجري الكوكب فيه جريان السمكة في الماء أو البندقة في الأنبوب المستدير مثلا أو تجويف خال من سائر ما يشغله من الأجسام يجري الكوكب فيه أو بأن تكون السماء بأسرها لطيفة أو ما هو مجرى الكوكب منها لطيفا فيشق الكوكب ما يحاذيه وتجري كما تجري السمكة في البحر أو في ساقية منه وقد انجمد سائره وانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لمقعر فلك القمر عند الفلاسفة وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة الخرق والإلتئام عليها واستحالة وجود الخلاء لم يتم دليل على شيء منه وأقوى ما يذكر في ذلك شبهات أو هن من بيت العنكبوت وأنه ورب السماء لأوهن البيوت
ويجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير ويكون الكوكب فيه يجري بجريانه في ثخن السماء من غير دوران للسماء ولا مانع من أن يعتبر هذا الفلك لبعض الكواكب الفلك الكلي ويكون فيه نحو ما يثبته أهل الهيئة لضبط الحركات المختلفة من الأفلاك الجزئية لكن لا يضطر إلى ذلك بناء على القواعد الإسلامية كما لا يخفى إلا أن في نسبة السبح إلى الكوكب نوع أباء بظاهره عن هذا الإحتمال وفي كلام الأئمة من الصحابة وغيرهم إيماء إلى بعض ما ذكرنا
(23/23)
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية : كل في فلك فلكة كفلكة المغزل يسبحون ويدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل وأخرج الأخيران عن مجاهد أنه قال : لا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل والنجوم في فلكة كفلكة المغزل فلا يدرن إلا بها ولا تدور إلا بهن وفي الفتوحات المكية للشيخ الأكبر قدس سره جعل الله تعالى السماوات ساكنة وخلق فيها سبحانه نجوما وجعل لها في عالم سيرها وسباحتها في هذه السماوات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها عالقة سامعة مطيعة وأوحى في كل سماء أمرها ثم أنه عز و جل لما جعل السباحة للنجوم في هذه السماوات حدثت لسيرها طرق لكل كوكب طريق وهو قوله تعالى والسماء ذات الحبك فسميت تلك الطرق أفلاكا فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث لسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة قد علم بالرصد مقادير ودخول بعضها على بعض في السير وجعل سيرها للناظرين بين بطء وسرعة وجعل سبحانه لها تقدما وتأخرا في أماكن معلومة تعينها أجرام الكواكب لإضائتها إلى آخر ما قال : وقال الإمام : إن الله تعالى قادر على أن يجعل الكوكب بحيث يشق الشماء فيجعل دائرة متوهمة كما لو جرت سمكة في الماء على الإستدارة وهذا هو المفهوم من قوله تعالى في فلم يسبحون والظاهر أن حركة الكوكب على هذا الوجه
وأرباب الهيئة أنكروا ذلك للزوم الخرق والإلتئام أن انشق موضع الجري والتأم أو الخلاء أن انشق ولم يلتئم والكل محال عندهم وعندنا لا محالية في ذلك وما يلزم هنا الخرق والإلتئام لأنه المفهوم من يسبحون ولا دليل لهم على الإستحالة فيما عدا المحدد وهو هناك شبهة ضعيفة لا دليل وظاهر الآية أن كل واحد من من النيرين في فلك أي في مجرى خاص به و وهذا مما يشهد به الحس وذهب إلى نحوه فلاسفة الإسلام كغيرهم من الفلاسفة بيد أنهم يقولون باتحاد الفلك والسماء ولما سمعوا عمن قبلهم أن كلا من السبع السيارة في فلك وكل الكواكب الثوابت في فلك وفوق كل ذلك فلك يحرك الجميع إلى المشرق ويسمى فلك الأفلاك لتحريكه إياها والفلك الأعظم لاحاطته بها والفلك الأطلس لأنه كاسمه غير مكوكب وسمعوا عن الشارع ذكر السماوات السبع والكرسي والعرش أرادوا أن يطبقوا بين الأمرين فقالوا : السماوات السبع في كلام الشارع هي الأفلاك السبعة في كلام الفلاسفة فلكل من السيارات سماء من السماوات والكرسي هو فلك الثوابت والعرش هو الفلك المحرك للجميع المسمى بفلك الأفلاك وقد أخطؤا في ذلك وخالفوا سلف الأمة فيه فالفلك غير السماء وقوله تعالى مع ما هنا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا لا يدل على الإتحاد لما قلنا من أن الكوكب في الفلك والفلك في السماء فيكون الكوكب فيها بلا شبهة فلا يحوج الجمع إلى القول بالعينية ولم يقم دليل على كرية العرش بل ظاهر ما ورد في الأخبار من أن له قوائم يدل على عدم الكرية نعم ورد ما يدل بظاهره أنه مقبب وهذا شيء غير ما يزعمونه فيه وكذا الكرسي لم يدل دليل على كريته كما يزعمون ومع هذا ليس عندهم دليل تام على كون الثوابت كلها في فلك فيجوز أن تكون في أفلاك كممثلات وكلها فوق زحل أو بعضها فوقه وبعضها بين أفلاك العلوية وهي لا تكسف
(23/24)
الثوابت التي عروضها أكثر من عروضها ولا لها اختلاف منظر ليعرف بأحد الوجهين كون الجميع فوق العلوية أو كتداوير ولا يلزم اختلاف أبعاد بعضها من بعض لجواز تساوي أجرام التداوير وحركاتها ولااختلاف حركاتها بالسرعة والبطء للبعد والقرب وموافقة الممثل ومخالفته لأنا لا نسلم أن حركتها لا تختلف بذلك المقدار ولا اختلاف أبعادها من الأرض لأنها غير محققة ويجوز أيضا أن تكون كلها مركوزة في محدب ممثل زحل على أنه يتحرك الحركة البطيئة والمعدل الحركة السريعة وأيضا يجوز أن يكون فيما سموه الفلك الأطلس كواكب لا ترى لصغرها جدا أو ترى وهي سريعة الحركة ولم يرصد كل كوكب ليتحقق بطء حركة الجميع وأيضا يجوز أن تكون السيارات أكثر من سبع فيحتاج إلى أزيد من سبع سماوات ويقرب هذا ظفر أهل الأرصاد الجديدة بكوكب سيار غير السبع سموه باسم من ظفر به وأدركه وهو هرشل وبالجملة لا قاطع فيما قالوه وللشيخ الأكبر قدس سره في هذا الباب كلام آخر مبناه الكشف وهو أن العرش الذي استوى الرحمن سبحانه عليه سرير ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وهي على الماء الجامد وفي جوفه الكرسي وهو على شكله في التربيع لا في القوائم ومقره على الماء الجامد أيضا وبين مقعر العرش وبينه فضاء واسع وهواء مخترق وفي جوف الكرسي خلق الله تعالى الفلك الأطلسي جسما شفافا مستديرا مقسما إلى اثني عشر قسما هي البروج المعروفة وفي جوفه الفلك المكوكب وما بينهما الجنات وبعد أن خلق الله تعالى الأرضين واكتسى الهواء صورة الدخان خلق الله سبحانه السماوات السبع وجعل في كل منها كوكبا وهي الجواري وزعم الخفاجي أن المراد بالفلك في الآية الفلك الأعظم لأن الشمس والقمر وكذا سائر الكواكب تتحرك بحركته فالسباحة عنده عبارة عن الحركة القسرية وفي القلب من ذلك شيء ثم على ما هو الظاهر من أن لكل واحد فلكا يخصه ذهبوا إلى أن فلك الشمس فوق فلك القمر لما أنه يكسفها والمكسوف فوق الكاسف ضرورة وذكر معظم أهل الهيئة أن الفلك الأدنى فلك القمر وفوقه فلك عطارد وفوقه فلك الزهرة وفوقه فلك الشمس وفوقه فلك المريخ وفوقه فلك المشتري وفوقه فلك زحل واستدلوا على بعض ذلك بالكسف وعلى بعضه الآخر بأن فيه حسن الترتيب وجودة النظام ولا مانع فيما أرى من القول بذلك لكن لا على الوجه الذي قال به أهل الهيئة من كون السماوات هي الأفلاك الدائرة بل على وجه يتأتى معه القول بسكون السماوات ودوران الكواكب في أفلاكها ومجاريها بعضها فوق بعض وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فراجعه وجوز كون ضمير يسبحون عائدا على الكواكب ويشعر بها ذكر الشمس والقمر والليل والنهار ورجح على الأول بأن الإتيان بضمير الجمع عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف بخلافه على الأول فإنه محوج إلى أن يقال اختلاف أحوال الشمس والقمر في المطالع وغيرها نزل منزلة تعدد أفرادهما فكان المرجع شموسا وأقمارا وظني أنه لا يحتاج إلى ذلك بناء على أنه قد يعتبر الإثنان جمعا أو بناء على ما قال الإمام من أن لفظ كل يجوز أن يوحد نظرا إلى لفظه وأن يجمع نظرا إلى كونه بمعنى الجميع وأما التثنية فلا يدل عليها اللفظ ولا المعنى قال : فعلى هذا يحسن أن يقال زيد وعمرو كل جاء وكل جاؤا ولا يحسن كل جاءا بالتثنية واستدل بالإتيان بضمير جمع العقلاء على أن الشمس والقمر من ذوي العقول وأجيب بأن ذاك لما أن المسند إليهما فعل ذوي العقول كما في قوله تعالى في حق الأصنام ما لكم لا تنطقون وقوله سبحانه ألا تأكلون والظواهر غير ما ذكر مع المستدلين واستدل بالآية بعض فلاسفة الإسلام القائلين باتحاد السماء والفلك على استدارة السماء وجعلوا من اللطائف فيها أن كل في فلك
(23/25)
لا يستحيل بالإنعكاس نحو كلامك كمالك وسر فلا كبابك الفرس وقالوا : لا يعكر على ذلك أنه سبحانه سماها سقفا في قوله عز قائلا والسقف المرفوع لأن السقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفا بالتقبيب وأنت تعلم أن السماوات غير الأفلاك ومع هذا أقول باستدارة السماوات كما ذهب إليه بعض السلف وبعض ظواهر الأخبار يقتضي أنها أنصاف كرات كل سماء نصف كرة كالقبة على أرض من الأرضين السبع وإليه ذهب الشيخ الأكبر وقال بالإستدارة لفلك المنازل دون السماوات السبع وادعى أن تحت الأرضين السبع التي على كل منها سماء ماء وتحته هواء وتحته ظلمة وعليه فليتأمل في كيفية سير الكوكب بعد غروبه حتى يطلع
ثم إن الفلاسفة الذاهبين إلى استدارة السماء تمسكوا في ذلك بأدلة أقربها على ما قيل دليلان الأول أنا متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت رأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن وكذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسا فكذا سطح السماء الموازي له والثاني أن أصحاب الأرصاد دونوا في كتبهم مقادير أجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون جرم السماء كريا ونوقش في هذا بأنه إنما يصح أن لو كان الفلك ساكنا والكوكب متحركا إذ لو كان الفلك متحركا جاز أن يكون مربعا تكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلة وفي الأول بأنه إنما يصح لو كان الإعتبار المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض ولا يخفى جريان كل من المناقشتين في كل من الدليلين ولهم غير ذلك من الأدلة مذكورة بما لها وعليها في مطولات كتبهم وآية لهم أنا حملنا ذريتهم أي أولادهم قال الراغب : الذرية أصلها الصغار من الأولاد ويقع في التعارف على الصغار والكبار معا ويستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع وفيه ثلاثة أقوال فقيل هو من ذرأ الله الخلق فترك همزته نحو برية وروية وقيل : أصله ذروية وقيل : هو فعلية من الذر نحو قمرية واستظهر حمله على الأولاد مطلقا أبو حيان وجوز غير واحد أن يحمل على الكبار لأنهم المبعوثون للتجارة أي حملناهم حين يبعثونهم للتجارة في الفلك أي السفينة سميت بذلك على ما في مجمع البيان لأنها تدور في الماء المشحون
41
- أي المملوء وقيل : هو مستعمل على أصله وهم الأولاد الصغار الذين يستصحبونهم وقيل : المراد به النساء فإنه يطلق عليهن وفي الحديث أنه عليه الصلاة و السلام نهى عن قتل الذراري وفسر بالنساء
وفي الفائق قال حنظلة الكاتب : كنا في غزاة عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرأى امرأة مقتولة فقال : هاه ما كانت هذه تقاتل الحق خالدا وقل لا تقتلن ذرية ولا عسيفا وهي نسل الرجل وأوقعت على النساء كقولهم للمطر سماء ويراد بالنساء اللاتي يستصحبونهن وتخصيص الذرية على هذين القولين بالذكر لأن استقرارهم
(23/26)
وتماسكهم في الفلك أعجب وقيل : تطلق الذرية على الآباء وعلى الأبناء قاله أبو عثمان وتعقبه ابن عطية بأنه تخليط لا يعرف في اللغة وقيل : الذرية النطف والفلك المشحون بطون النساء ذكره الماوردي ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه والظاهر أنه لم يصح ذلك عنه رضي الله تعالى عنه وفي الآية ما يبعده وهو أشبه شيء بتأويلات الباطنية والمراد بالفلك جنسه والوصف بالمشحون أقوى في الإمتنان بسلامتهم فيه وقيل : لأنه أبعد من الخطر وإرادة الجنس مروية عن ابن عباس ومجاهد والسدي وفسر ما في قوله تعالى : وخلقنا لهم من مثله ما يركبون
42
- عليه بالإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل وقلة كلالها في المسير وإطلاق السفائن عليها شائع كما قيل
سفائن بر والسراب بحارها
وروي ذلك عن الحسن وعبد الله بن شداد وفسره مجاهد بالأنعام الإبل وغيرها وعن أبي مالك وأبي صالح وغيرهما وهي رواية عن ابن عباس أيضا أن المراد بالفلك سفينة نوح عليه السلام على أن التعريف للعهد فما عبارة عما سمعت أيضا عند بعض وعند آخرين هي السفن والزوارق التي كانت بعد تلك السفينة واستشكل حمل ذريتهم في سفينة نوح عليه السلام وأجيب بأن ذلك بحمل آبائهم الأقدمين وفي أصلابهم هؤلاء وذريتهم وتخصيص الذرية مع أنهم محمولون بالتبع لأنه أبلغ في الإمتنان حيث تضمن بقاء عقبهم وأدخل في التعجب ظاهر حيث تضمن حمل ما لا يكاد يحصى كثرة في سفينة واحدة مع الإيجاز لأنه كان الظاهر أن يقال حملناهم ومن معهم ليبقة نسلهم فذكر الذرية يدل على بقاء النسل وهو يستلزم سلامة أصولهم فدل بلفظ قليل على معنى كثير وقال الإمام : يحتمل عندي أن التخصيص لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم أي لم يكن الحمل حملا لهم وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين وقيل : الكلام حذف مضاف أي حملنا ذريات جنسهم وهو كما ترى وقيل : ضمير لهم لأهل مكة وضمير ذريتهم للقرون الماضية الذين هم منهم وحكى ذلك عن علي بن سليمان وليس بشيء وجوز الإمام كون الضمير للعبادة في قوله تعالى يا حسرة على العباد ولا يكون المراد في كل أشخاصا معينين بل ذلك على نحو هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم على معنى قتل بعضهم بعضا فالمعنى آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم أو ذرية بعض منهم وفيه من البعد ما فيه ورجح تفسير ما بالإبل ونحوها من الأنعام دون السفن بأن المتبادر من الخلق الإنشاء والإختراع فيبعد أن يتعلق بما هو مصنوع العباد وتعقب بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى عند أهل الحق وتبادر الإنشاء ممنوع وعليه يكون في الآية رد على المعتزلة كما قيل في قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون على تقدير كون ما موصولة و من تحتمل أن تكون للبيان وأن تكون للتبعيض وجوز زيادتها على نظر الأخفش ورأيه والظاهر أن ضمير لهم الثاني عائد على ما عاد عليه ضمير الأول وجوز عوده على الذرية وجوز أيضا عود ضمير مثله على معلوم غير مذكور تقديره مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله سبحانه سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض وهو أبعد من العيوق وإيا ما كان فلا يخفى مناسبة هذه الآية لقوله تعالى : كل في فلك يسبحون وإنما لم يؤت بها على أسلوب أخواتها بأن يقال وآية لهم الفلك حملنا ذريتهم فيه كما قال سبحانه وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وآية لهم الليل نسلخ منه النهار لأنه ليس الفلك نفسه عجبا وإنما حملهم فيه هو العجب وقرأ نافع وابن عامر والأعمش وزيد بن علي وأبان بن عثمان ذرياتهم بالجمع وكسر زيد وأبان الذال وإن نشأ إغراقهم نغرقهم في الماء مع ما حملناهم فيه من الفلك وما يركبون
(23/27)
من السفن والزوارق فالكلام من تمام ما تقدم فإن كان المراد بما هناك السفن والزوارق فالأمر ظاهر وإن كان المراد بها الإبل ونحوها كان الكلام من تمام صدر الآية أي نغرقهم مع ما حملناهم فيه من الفلك وكان حديث خلق الإبل ونحوها في البين استطراد للتماثل ولما في ذلك من نوع بعد بعد قيل إن قوله سبحانه وإن نشأ الخ يرجح حمل الفلك على الجنس و ما على السفن والزوارق الموجودة بين بني آدم إلى يوم القيامة وفي تعليق الإغراق بمحض المشيئة إشعار بأنه قد تكامل ما يستدعي إهلاكهم من معاصيهم ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به وقيل إن في ذلك إشارة إلى الرد على من يتوهم إن حمل الفلك الذرية من غير أن يغرق أمر تقتضيه الطبيعة ويستدعيه امتناع الخلاء وقرأ الحسن نغرقهم بالتشديد فلا صريخ لهم أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق وتفسير الصريخ بالمغيث مروي عن مجاهد وقتادة ويكون بمعنى الصارخ وهو المستغيث ولا يراد هنا ويكون مصدرا كالصراخ ويتجوز به عن الإغاثة لأن المستغيث ينادي به فيصرخ له ويقول جاءك العون والنصر قال المبرد في أول الكامل : قال سلامة بن جندل : كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له فزع المطانيب يقول إذا أتانا مستغيث كانت إغاثته الجد في نصرته وجوز إرادته هنا أي فلا إغاثة لهم ولا هم ينقذون
43
- أي ينجون من الموت به بعد وقوعه إلا رحمة منا ومتاعا استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم والغاية المتأخرة أي لا يغاثون ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة عظيمة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ وتمتيع بالحياة مترتب عليهما ويجوز أن يراد بالرحمة ما يقارن التمتيع بالحياة الدنيوية فيكون كلاهما غاية للإغاثة والإنقاذ أي لنوع من الرحمة وتمتيع وإلى كونه استثناء مفرغا مما يكون مفعولا لأجله ذهب الزجاج والكسائي والإستثناء ما يقتضيه الظاهر متصل وقيل : الإستثناء منقطع على معنى ولكن رحمة منا ومتاع يكونان سببا لنجاتهم وليس بذاك وجوز أن يكون النصب بتقدير الباء أي إلا برحمة ومتاع والجار متعلق بينقذون ولما حذف انتصب مجروره بنزع الخافض وقيل هو على المصدرية لفعل محذوف أي إلا أن نرحمهم رحمة ونمتعهم تمتيعا ولا يخفى حاله وكذا حال ما قبله إلى حين
44
- أي إلى زمان قدر فيه حسبما تقتضيه الحكمة آجالهم ومن هنا أخذ أبو الطيب قوله : ولم أسلم لكي أبقى ولكن سلمت من الحمام إلى الحمام والظاهر أن المحدث عنه من يشاء الله تعالى إغراقهم وقال ابن عطية : إن فلا صريخ لهم الخ استئناف أخبار عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين أي لا نجاة لهم إلا برحمة الله تعالى وليس مربوطا بالمغرقين وقد يصح ربطه به والأول أحسن فتأمله أه وقد تأملناه فوجدناه لا حسن فيه فضلا عن أن يكون أحسن
والفاء ظاهرة في تعلق ما بعدها بما قبلها وإذا قيل لهم الخ بيان لإعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إعراضهم عن الآيات الآفاقية التي كانوا يشاهدونها وعدم تأملهم فيها أي غذا قيل لأهل مكة بطريق الإنذار بما نزل من الآيات أو بغيره اتقوا ما بين أيديكم قال قتادة ومقاتل : أي عذاب الأمم التي قبلكم والمراد
(23/28)
اتقوا مثل عذابهم وما خلقكم أي عذاب الآخرة وقال مجاهد في رواية عكس ذلك وجاء عنه في رواية أخرى ما بين أيديهم ما تقدم من ذنوبهم وما خلفهم ما يأتي منها وعن الحسن مثله وقيل ما بين أيديهم نوازل السماء وما خلفهم نوائب الأرض وقيل ما بين أيديهم المكاره من حيث يحتسبون وما خلفهم المكاره من حيث لا يحتسبون وحاصل الأمر على ما قيل اتقوا العذاب أو اتقوا ما يترتب العذاب عليه لعلكم ترحمون
45
- حال من واو اتقوا أو غاية له راجين أن ترحموا أو كي ترحموا وفسرت الرحمة بالإنجاء من العذاب وجواب إذا محذوف ثقة بانفهامه من قوله تعالى وما يأتيهم من آية ربهم إلا كانوا عنها معرضين
46
- انفهاما بينا أما إذا كان الإنذار بالآية الكريمة فبعبارة النص وأما إذا كان بغيرها فبدلالته لأنهم حين أعرضوا عن آيات ربهم فلأن يعرضوا عن غيرها بطريق الأولى كأنه قيل : وإذا قيل لهم اتقوا العذاب أو اتقوا ما يوجبه أعرضوا لأنهم اعتادوا وتمرنوا عليه وما نافية وصيغة المضارع للدلالة على الإستمرار التجددي ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثانية تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لآية وإضافة الآيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترأوا عليه في حقها والمراد بها إما هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى وسوابغ آلائه تعالى الموجبة للإقبال عليها والإيمان وإيتاؤها نزول الوحي بها أي ما نزل الوحي بآية من الآيات الناطقة بذلك إلا كانوا عنها معرضين على وجه التكذيب والإستهزاء وإما ما يعمها والآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وتعاجيب المصنوعات التي من جملتها الآيات الثلاث المعدودة آنفا وإيتاؤها ظهورها لهم أي ما ظهرت لهم آية من الآيات التي من جملتها ما ذكر من شؤونه تعالى الشاهدة بوحدانيته سبحانه وتفرده تعالى بالألوهية إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان به عز و جل
وفي الكلام إشارة إلى استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات و عن متعلقة بمعرضين قدمت عليه للحصر الإدعائي مبالغة في تقبيح حالهم وقيل للحصر الإضافي أي معرضين عنها لا عماهم عليه من الكفر وقيل لرعاية الفواصل والجملة في حيز النصب على أنها حال من هفعول تأتي أو من فاعله المتخصص بالوصف لاشتمالها على ضمير كل منهما والإستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما يأتيهم آية من آيات ربهم في حال من أحوالهم إلا حال إعراضهم عنها أو ما تأتيهم آية منها في حال من أحوالها إلا حال إعراضهم عنها
وجملة وما تأتيهم الخ على ما يشعر به كلام الكشاف تذييل يؤكد ما سبق من حديث الإعراض وإلى كونه تذييلا ذهب الخفاجي ثم قال : فتكون معترضة أو حالا مسوقة لتأكيد ما قبلها لشمولها لما تضمنه مع زيادة إفادة التعليل الدال على الجواب المقدر المعلل به فليس من حقها الفصل لأنها مستأنفة كما توهم فتأمل وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله أي أعطاكم سبحانه بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال وعبر بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق على منهاج قوله تعالى وأحسن كما أحسن الله إليك وتنبيها على عظم جنايتهم في ترك الإمتثال بالأمر وكذلك الإتيان بمن التبعيضية والكلام على ما قيل لذمهم على ترك الشفقة على خلق الله تعالى أثر ذمهم على ترك تعظيمه عز و جل بترك التقوى وفي ذلك إشارة إلى أنهم أخلوا بجميع التكاليف لأنها كلها ترجع إلى أمرين التعظيم لله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه وقيل هو للإشارة إلى عدم مبالاتهم بنصح الناصح وإرشاده إياهم إلى ما يدفع
(23/29)
البلاء عنهم نظير قوله تعالى وإذا قيل لهم اتقوا الخ والمعنى عليه وإذا قيل لهم بطريق النصيحة والإرشاد إلى ما فيه نفعهم أنفقوا بعض ما آتاكم الله من فضله على المحتاجين فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه والأول أظهر والظاهر أن الذين كفروا هم الذين قيل لهم انفقوا وعدل عن ضميرهم إلى الظاهر إيماء إلى علة القول المذكور وفي كون القول للذين آمنوا إيماء إلى أنهم القائلون قيل : لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين قطعوا عنهم ما ما كانوا يواسونهم به وكان ذلك بمكة قبل نزول آيات القتال فندبهم المؤمنون إلى صلة حواشيهم فقالوا : أنطعم الخ وقيل : شحت قريش بسبب أزمة على المساكين من مؤمن وغيره فندبهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النفقة عليهم فقالوا هذا القول وقيل : قال فقراء المؤمنين أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله تعالى فحرموا وقالوا ذلك وروي هذا عن مقاتل وقال ابن عباس : كان بمكة زنادقة إذا أمروا بالصدقة قالوا لا والله أيفقره الله تعالى ونطعمه نحن وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله تعالى يقولون لو شاء الله تعالى لأغنى فلانا ولو شاء لأعزه ولو شاء سبحانه لكان كذا فأخرجوا هذا الجواب مخرج الإستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون
وقال القشيري أيضا : إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع وأنكروا وجوده فقولهم لو يشاء الله من باب الإستهزاء بالمسلمين وجوز أن يكون مبنيا على اعتقاد المخاطبين ويفهم من هذا أن الزنديق من ينكر الصانع وقد حقق الأمر فيه على الوجه الأكمل ابن الكمال في رسالة مستقلة فارجع إليها إن أردت ذلك وعن الحسن وأبي خالد أن الآية نزلت في اليهود أمروا بالإنفاق على الفقراء فقالوا ذلك
وظاهر ما تقدم يقتضي أنها في كفار مكة أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله تعالى وهو عام في الإطعام وغيره فأجابوا بنفي الإطعام الذي لم يزالوا يفتخرون به دلالة على نفي غيره بالطريق الأولى ولذا لم يقل أننفق
وقيل لم يقل ذلك لأن الإطعام هو المراد من الإنفاق أو لأن نعطم بمعنى نعطي وليس بذاك و أطعمه جواب لو وورود الموجب جوابا بغير لام فصيح ومنه أن لو نشاء أصبناهم لو نشاء جعلناه جاجا نعم الأكثر مجيئه باللام
والظاهر أن قوله تعالى إن أنتم إلا في ضلال مبين
47
- من تتمة قول الذين كفروا للذين آمنوا أي ما أنتم إلا في ضلال ظاهر حيث طلبتم منا ما يخالف مشيئة الله عز و جل ولعمري أن الإناء ينضح بما فيه فإن جوابهم يدل على غاية ضلالهم وفرط جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم سبحانه له ويجوز أن يكون جوابا من جهته تعالى زجر به الكفرة وجهلهم به أو حكاية لجواب المؤمنين لهم فيكون على الوجهين استئنافا بيانيا جوابا لما عسى أن يقال ما قال الله تعالى أو ما قال المؤمنون في جوابهم
وقوله تعالى ويقولون عطف على الشرطية السابقة مفيد لإنكارهم البعث الذي هو مبدأ كل قبيح والنبي صلى الله عليه و سلم لم يزل يعدهم بذلك ومما يستحضر في أذهانهم ما تقدم في الأوامر فلذا أتوا بالإشارة إلى القريب في قولهم متى هذا الوعد يعنون وعد البعث وجوز أن يكون ذلك من باب الإستهزاء وأراد متى يكون ذلك ويتحقق في الخارج إن كنتم صادقين
48
- فيما تقولون وتعدون فأخبرونا بذلك والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم
(23/30)
والمؤمنين لما أنهم أيضا كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه والآمرة بالإيمان به وكأنه لم يعتبر كونه شرا لهم ولذا عبروا بالوعد دون الوعيد وقيل : إذ ذاك لأنهم زعموا إن لهم الحسنى عند الله تعالى إن تحقق البعث بناء على أن الآية في غير المعطلة ما ينظرون جواب من جهته تعالى أي ما ينتظرون إلا صيحة عظيمة واحدة وهي النفخة الأولى في الصور التي يموت بها أهل الأرض وعبر بالإ لنظار نظرا إلى ظاهر قولهم متى هذا الوعد أو لأن الصيحة لما كانت لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها تأخذهم تقهرهم وتستولي عليهم فيهلكون وهم يخصمون
49
- أي يتخاصمون ويتنازعون في معاملاتهم ومتاجرهم لا يخطر ببالهم شيء من مخيلها كقوله تعالى أو تأتيهم الساعة بغتة وهو لا يشعرون فلا يغتروا بعدم ظهور علائمها حسبما يريدون ولا يزعمون أنها لا تأتي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : لينفخن في الصور والناس في طرقهم وأصواقهم ومجالسهم حتى أن الثواب بين الرجلين يتساومان فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور فيصعق به وهي التي قال الله تعالى ما ينظرون إلا صيحة واحدة الخ وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقي منه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها وأصل يخصمون يختصمون وبه قرأ أبي فسكنت التاء وأدغمت في الصاد بعد قلبها صادا ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين وجوز أن يكون الكسر لإتباع حركة الصاد الثانية والساكن لا يضر حاجزا
وقرأ الحرميان وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن قسطنطين بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها وهي الفتحة إلى الخاء وأبو عمرو أيضا وقالون بخلف باختلاف حركة الخاء وتشديد الصاد وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه إذا جادله والمفعول عليها محذوف أي يخصم بعضهم بعضا وقيل يخصمون مجادلتهم عن أنفسهم وبعضهم يكسر ياء المضارعة إتباعا لكسرة الخاء وشد الصاد وكسر ياء المضارعة لغة حكاها سيبويه عن الخليل في مواضع وعن نافع أنه قرأ بفتح ياء وسكون الخاء وتشديد الصاد المكسورة وفيها الجمع بين الساكنين على حذف المعروف وكأنه يجوز الجمع ببنهما إذا كان الثاني مدغما كأن الأول حرف مد أيضا أم لا وهذا ما اخترناه في نقل القراءات تبعا لبعض الأجلة والرواة في ذلك مختلفون
فلا يستطيعون توصية في شيء من أمورهم إذا كانوا فيما بين أهليهم ونصب توصية على أنه مفعول به ليستطيعون وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لمقدر ولا إلى أهلهم يرجعون
50
- إذا كانوا في خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيمرون حيثما كانوا ويرجعون إلى الله عز و جل لا إلى غيره سبحانه وقرأ ابن محيصن يرجعون بالبناء للمفعول والضمائر للقائلين متى هذا الوعد لا من حيث أعيانهم أعني أهل مكة الذين كانوا وقت النزول بل لمنكري البعث مطلقا ونفخ في الصور هي النفخة الثانية بينها وبين الأولى أربعون أي النفخ فيه وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع
وقرأ الأعرج الصور بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك فإذا هم من الأجداث أي القبور جمع
(23/31)
جدت بفتحتين وقريء بالفاء بدل الثاء والمعنى واحد إلى ربهم مالك أمرهم ينسلون
51
- يسرعون بطريق الإجبار لقوله تعالى لدينا محضرون قيل : وذكر الرب للإشارة إلى إسراعهم بعد الإساءة إلى من أحسن إليهم حين اضطروا إليه ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى فإذا هم قيام ينظرون لجواز اجتماع القيام والنظر والمشي أو لتقارب زمان القيام ناظرين وزمان الإسراع في المشي وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو عمرو بخلاف عنه بضم السين قالوا أي في ابتداء بعثهم من القبور يا ويلنا أي هلاكنا أحضر فهذا أوانك وقيل أي يا قومنا انظروا أنظروا ويلنا وتعجبوا منه وعلى هذا حذف المنادي قيل وي كلمة تعجب ولنا بيان ونسب للكوفيين وليس بشيء
وقرأ ابن أبي ليلى يا ويلتنا بتاء التأنيث وعنه أيضا يا ويلتي بتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة والمراد أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي من بعثنا من مرقدنا أي رقادنا على أنه مصدر ميمي أو محل رقادنا على أنه اسم مكان ويراد بالمفرد الجمع أي مراقدنا وفيه تشبيه الموت بالرقاد من حيث عدم ظهور الفعل والإستراحة من الأفعال الإختارية ويجوز أن يكون المرقد على حقيقته والقوم لاختلاط عقولهم ظنوا أنهم كانوا نياما ولم يكن لهم إدراك لعذاب القبر لذلك فاستفهموا عن موقظهم وقيل سموا ذلك مرقدا مع علمهم بما كانوا يقاسون فيه من العذاب لعظم ما شاهدوه فكأن ذلك مرقد بالنسبة إليه فقد روي أنهم إذا عاينوا جهنم وما فيها من ألوان العذاب يرون ما كانوا فيه مثل النوم جنبها فيقولون ذلك
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال : ينامون قبل البعث نومة وأخرج هؤلاء ما عدا ابن جرير عن مجاهد قال : للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم قبل يوم القيامة فإذا صيح بأهل القبور ويقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا وروي عن ابن عباس أن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بالنفخة الثانية وش \ اهدوا الأهوال قالوا : ذلك
وفي البحر أن هذا غير صحيح الإسناد واختار أن المرقد استعارة عن مضجع الموت
وقرأ أمير المؤمنين علي وابن عباس والضحاك وأبو نهيك من بعثنا بمن الجارة والمصدر المجرور وهو متعلق بويل أو بمحذوف وقع حالا منه ونحوه في الخبر
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
ومن الثانية متعلقة ببعث
وعن ابن مسعود أنه قرأ من أهبنا بمن الإستفهامية وأهب بالهمز من هب من نومه إذا انتبه وأهببته أنا أي أنبهته
وعن أبي أنه قرأ هبنا بلا همز قال ابن جني : وقراءة ابن مسعود أقيس فهبني بمعنى أيقظني لم أر لها أضلا ولا مر بنا في اللغة مهبوب بمعنى موقظ اللهم إلا أن يكون حرف الجر محذوفا أي هب بنا أي أيقظنا ثم حذف وأوصل الفعل وليس المعنى على من هب فهببنا معه وإنما معناه من أيقظنا وقال البيضاوي : هبنا بدون الهمز بمعنى أهبنا بالهمز وقريء من هبنا بمن الجارة والمصدر من هب يهب هذا ما وعد الرحمن جملة من مبتدأ وخبر وصدق المرسلون
52
- عطف على ما في حيز ما وعطفه على الجملة الإسمية أو جعله حالا بتقدير قد بدونه خلاف الظاهر وما موصولة محذوفة العائد أي هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون أي صدق فيه من قولهم صدقت زيدا الحديث أي صدقته فيه ومنه قولهم صدقني سن بكره أو مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدقون فيه بالوعد والصدق وهو على ما قيل جواب
(23/32)
من جهته عز و جل وعلى ما قال الفراء من قبل الملائكة وعلى ما قال قتادة ومجاهد من قبل المؤمنين وكان الظاهر أن يجابوا بالفاعل لأنه الذي سألوا عنه بأن يقال الرحمن أو الله بعثكم لكن عدل عنه إلى ما ذكر تذكيرا لكفرهم وتقيرعا لهم عليه مع تضمنه الإشارة إلى الفاعل وذكر غير واحد أنه من الأسلوب الحكيم على أن المعنى لا تسألوا عن الباعث فإن هذا البعث ليس كبعث النائم وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن وإنما الذي يهمكم أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال والأفزاع وفيه من تقريعهم ما فيه
وزعم الطيبي أن ذكر الفاعل ليس بكاف في الجواب لأن قولهم من بعثنا من مرقدنا حكاية عن قولهم ذلك عند البعث بعد ما سبق من قولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين فلا بد في الجواب من قول مضمن معنيين فكان مقتضى الظاهر أن يقال بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل لكن عدل إلى ما يشعر بتكذيبهم ليكون أهول وفي التقريع أدخل وهو وارد على الأسلوب الحكيم وفي دعوى عدم كفاية ذكر الفاعل في الجواب نظر وفي إيثارهم اسم الرحمن قيل إشارة إلى زيادة التقريع من حيث أن الوعد بالبعث من آثار الرحمة وهم لم يلقوا له بإلا ولم يلتفتوا إليه وكذبوا به ولم يستعدوا لما يقتضيه وقيل آثره المجيبون من المؤمنين لما أن الرحمة قد غمرتهم فهي نصب أعينهم واختصاص رحمة الرحمن بما يكون في الدنيا ورحمة الرحيم بما يكون في الأخرى ممنوع فقد ورد يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما
وقال ابن زيد : هذا الجواب من قبل الكفار على أنهم أجابوا أنفسهم حيث تذكروا ما سمعوه من المرسلين عليهم السلام أو أجاب بعضهم بعضا وآثروا اسم الرحمن طمعا في أن يرحمهم وهيهات ليس لكافر نصيب يومئذ من رحمته عز و جل وجوز الزجاج كون هذا صفة لمرقدنا لتأويله بمشتق فيصح الوقف عليه وقد روي عن حفص أنه عليه وسكت سكتة خفيفة فحكاية إجماع القراء على الوقف على مرقدنا غير تامة وما مبتدأ محذوف الخبر أي حق أو مبتدأ خبره محذوف أي هو أو هذا ما وعد وفيه من البديع صنعة التجاذب وهو أن تكون كلمة محتملة أن تكون من الساق وأن تكون من اللاحق ومثله كما قال الشيخ الأكبر قدس سره في تفسيره المسمى بإيجاز البيان في الترجمة عن القرآن ومن خطه الشريف نقلت الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه الآية بعد قوله تعالى ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين وقوله تعالى فيه هدى بعد لا ريب فليحفظ إن كانت أي ما كانت الفعلة أو النفخة التي حكيت آنفا إلا صيحة واحدة حصلت من نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور وقيل : هي قول إسرافيل عليه السلام أيتها العظام النخرة والأوصاف المتقطعة والشعور المتمزقة إن الله يأمركن أن تجمعن لفصل القضاء وقريء برفع صيحة ومر توجيهها فإذا هم جميع مجموع لدينا عندنا وفي محل حكمنا وانقطاع التصرف الظاهري من غيرنا محضرون
53
- لفصل الحساب من غير لبث ما طرفة عين وفيه من توهين أمر البعث والحشر والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى
فاليوم الحاضر أو المعهود وهو يوم القيامة الدال نفخ الصور عليه وانتصب على الظرف والعامل فيه قوله تعالى لا تظلم نفس من النفوس برة كانت أو فاجرة شيئا من الظلم فهو نصب على المصدرية أو شيئا
(23/33)
من الأشياء على أنه مفعول على الحذف والإيصال ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون
54
- أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الإستمرار من الكفر والمعاصي فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والإرتباط بينهما كأنهما شيء واحد أو إلا بما كنتم تعملونه أي بمقابلته أو بسببه وقيل : لا تجزون إلا نفس ما كنتم تعملونه بأن يظهر بصورة العذاب وهذا حكاية عمال يقال للكافرين حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقا للحق وتقريعا لهم واستظهر أبو حيان أن الخطاب يعم المؤمنين بأن يكون الكلام إخبارا من الله تعالى عما لأهل المحشر على العموم كما يشير إليه تنكير نفس واختاره السكاكي وقيل : عليه يأباه الحصر لأنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة ورد بأن المعنى أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه لأن الحكمة تأبى ما هو على صورة الظلم إما زيادة الثواب ونقص العقاب فليس كذلك أو المراد بقوله تعالى ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر
وقوله تعالى إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون
55
- على تقدير كون الخطاب السابق خاصا بالكفرة من جملة ما سيقال لهم يومئذ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الأخبار بحسن حال أعدائهم أثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة وفي حكاية ذلك مزجرة لهؤلاء الكفرة عما هم عليه ومدعاة إلى الإقتداء بسيرة المؤمنين وعلى تقدير كونه عاما ابتداء كلام وإخبار لنا بما يكون في يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب والشغل هو الشأن الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤنه لكونه أهم عنده من الكل أما لا يجابه كمال المسرة أو كمال المساءة والمراد ههنا هو الأول وتنكيره للتعظيم كأنه شغل لا يدرك كنهه والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما يخطر بالبال وعن ابن عباس وابن مسعود وقتادة هو افتضاض الأبكار وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وفي رواية أخرى عن ابن عباس ضرب الأوتار
وقيل السماع وروي عن وكيع وعن ابن كسيان التزاور وقيل ضيافة الله تعالى وهي الجمعة في الفردوس الأعلى عند كثيب المسك وهناك يتجلى سبحانه لهم فيرونه جل شأنه جميعا وعن الحسن نعيم شغلهم عما فيه أهل النار من العذاب وعن الكلبي شغلهم عن أهاليهم من أهل النار لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا ولعل التعميم أولى
وليس مراد أهل هذه الأقوال بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط بل بيان أنه جملة أشغالهم وتخصيص كل منهم كلا من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه وإفراد الشغل باعتبار أنه نعيم وهو واحد بهذا الإعتبار والجار مع مجروره متعلق بمحذوف وقع خبرا لإن و فاكهون خبر ثان لها وجوز أن يكون هو الخبر و في شغل متعلق به أو حال من ضميره والمراد بفاكهون على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عباس فرحون وأخرجوا عن مجاهد أن المعنى يتعجبون بما هم فيه
وقال أبو زيد : الفاكه الطيب النفس الضحوك ولم يسمع له فعل من الثلاثي وقال أبو مسلم : إنه مأخوذ من الفكاهة بالضم وهو التحدث بما يسر وقيل التمتع والتلذذ قيل فاكهون ذووا فاكهة نحو لابن وتأمر
وظاهر صنيع أبي حيان اختياره والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الإسمية قبل تحقفها لتنزيل المترقب والمتوقع منزلة الواقع للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها وفيه على تقدير خصوص الخطاب زيادة لمساءة المخاطبين
وقرأ الحرميان وأبو عمرو شغل بضم الشين وسكون الغين وهي لغة في شغل بضمتين للحجازيين كما قال الفراء
(23/34)
وقرأ مجاهد وأبو السمال وابن هبيرة فيما نقل عنه ابن خالويه بفتحتين ويزيد النحوي وابن هبيرة أيضا فيما نقل عنه أبو الفضل الرازي بفتح الشين وإسكان الغين وهما لغتان أيضا فيه
وقرأ الحسن وأبو جعفر وقتادة وأبو حيوة ومجاهد وسيبة وأبو رجاء ويحيى بن صبيح ونافع في رواية فاكهون جمع فكه كحذر وحذرون وهو صفة مشبهة تدل على المبالغة والثبوت وقرأ طلحة والأعمش فاكهين بالألف والياء نصبا على الحال و في شغل هو الخبر وقريء فاكهين بغير ألف وبالياء كذلك وقريء فاكهون بفتح الفاء وضم الكاف وفعل بضم العين من أوزان الصفة المشبهة كنحاس وهو الحاذق الدقيق النظر الصادق الفراسة وقوله تعالى : هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون
56
- استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسرورا من شركة أزواجهم فهم مبتدأ و أزواجهم عطف عليه و متكئون خبر والجار أن صلة له قيل قدما عليه لمراعاة الفواصل أو هو والجار أن بما تعلقا به من الإستقرار أخبار مترتبة وجوز أن يكون الخبر هو الظرف الأول والظرف الثاني متعلق بمتكئون وهو خبر مبتدأ محذوف أي هم متكئون على الأرائك أو الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم و متكئون مبتدأ مؤخر والجملة على الوجهين استئناف بياني وقيل هم تأكيد للمستكن في خبر إن أعني فاكهون أو في شغل
ومنعه بعضهم زعما منه أن فيه الفصل بين المؤكد بأجنبي و متكئون خبر آخر لها و على الأرائك متعلق به وكذا في ظلال أو هو متعلق بمحذوف هو حال من المعطوف والمعطوف عليه ومن جوز مجيء الحال من المبتدأ جوز هذا الإحتمال على تقدير أن يكون هم مبتدأ أيضا والظلال جمع ظل وجمع فعل على فعال كثير كشعب وشعاب وذئب وذئاب ويحتمل أن يكون جمع ظلة بالضم كقبة وقباب وبرمة وبرام وأيد بقراءة عبد الله والسلمي وطلحة وحمزة والكسائي في ظل بضم ففتح فإنه جمع ظلة لا ظل والأصل توافق القراءات ومنذر بن سعيد يقول : جمع ظلة بالكسر وهي لغة في ظلة بالضم فيكون كلقحة ولقاح وهو قليل
وفسر الإمام الظل بالوقاية عن مظان الألم ولأهل الجنة من ظل الله تعالى ما يقيهم الأسواء والجمع باعتبار ما لكل واحد منهم من ذلك أو هو متعدد للشخص الواحد باعتبار تعدد ما منه الوقاية ويحتمل أنه جمع باعتبار كونه عظيم الشأن جليل القدر كجمع اليد بمعنى القدرة على قول في قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد
وفسر أبو حيان الظلال جمع ظلة بالملابس ونحوها من الأشياء التي تظل كالستور وأقول قال ابن الأثير : الظل الفيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس أي شيء كان وقيل هو مخصوص بما كان منه إلى زوال الشمس وما كان بعده فهو الفيء وأنت تعلم أن الظل بالمعنى الذي تعتبر فيه الشمس لا يتصور في الجنة إذ لا شمس فيها ومن هنا قال الراغب : الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة وجاء في ظلها ما يدل على أنه كالظل الذي يكون في الدنيا قبل طلوع الشمس فقد روى ابن القيم في حادي الأرواح عن ابن عباس أنه سئل ما أرض الجنة قال : مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة قيل : ما نورها قال ما رأيت الساعة التي قبل طلوع الشمس فذلك نورها إلا أنها ليس فيها شمس ولا زمهرير وذكر ابن عطية نحو هذا لكن لم يعزه وتعقبه أبو حيان بأنه يحتاج إلى نقل صحيح وكيف يكون ذلك وفي الحديث ما يدل على أن حوراء من حور الجنة
(23/35)
لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا أو نحو من هذا ويمكن الجواب بأن المراد تقريب الأمر لفهم السائل وإيضاح الحال بما يفهمه أو بيان نورها في نفسها لا الأعم ومما يحصل فيها من أنوار سكانها الحور العين وغيرهم
نعم نورها في نفسها أتم من نور الدنيا قبل طلوع الشمس كما يوميء إليه ما أخرجه ابن ماجه عن أسامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها أي لا عدل ولا مثل وهي ورب الكعبة نور يتلألأ الحديث ويجوز حمل الظلال جمع ظل هنا على هذا المعنى وجمعه للتعدد الإعتباري ويجوز حمل الظل على العزة والمناعة فإنه قد يعبر به عن ذلك وبهذا فسر الراغب قوله تعالى : إن المتقين في ظلا وعيون وهو غير معنى الوقاية عن مظان الألم الذي ذكره الإمام ويجوز حمله على أنه جمع ظلة على الستور التي تكون فوق الرأس من سقف وشجر ونحوهما ووجود ذلك في الجنة مما لا شبهة فيه فقد جاء في الكتاب وصح في السنة أن فيها غرفا وهي ظاهرة فيما كان ذا سقف بل صرح في بعض الأخبار بالسقف وجاء فيها أيضا ما هو ظاهر في أن فيها شجرا مرتفعا يظل من تحته وقد صح من رواية الشيخين أنه صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطعها فاقرؤا إن شئتم وظل ممدود وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام في كل نواحيها يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها الخبر وابن الأثير يقول : معنى في ظلها في ذراها وناحيتها وكان هذا لدفع أنها تظل من الشمس أو نحوها و الأرائك جمع أريكة وهو السرير في قول وقيل : الوسادة حكاه الطبرسي وقال الزهري : كل ما أتكيء عليه فهو أريكة وقال ابن عباس لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة فإن كان سرير بغير حجلة لا تكون أريكة وإن كانت حجلة بغير سرير لم تكن أريكة فالسرير والحجلة أريكة وفي حادي الأرواح لا تكون أريكة إلا أن يكون السرير في الحجلة وأن يكون على السرير فراش وفي الصحاح الأريكة سرير منجد مزين في قبة أو بيت وقال الراغب : الأريكة حجلة على سرير والجمع آرائك وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكوثها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا وأصل الأروك الإقامة على رعى الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات
وبالجملة إن كلام الأكثرين يدل على أن السرير وحده لا يسمى أريكة نعم للمتكيء على أريكة متكيء على سرسر فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى : متكئين على سرر مصفوفة لجواز أن تكون السرر في الحجال فتكون أرائك ويجوز أن يقال : إن أهل الجنة تارة يتكئون على الأرائك وأخرى يتكئون على السرر التي ليست بأرائك وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ورد في وصف سررهم رزقنا الله تعالى وإياهم الجلوس على هاتيك السرر والإتكاء مع الأزواج على الأرائك والظاهر أن المراد بالأزواج أزواج المؤمنات اللاتي كن لهم في الدنيا وقيل أزواجهم اللاتي زوجهم الله تعالى إياهن من الحور العين ويجوز فيما يظهر أن يراد الأعم من الصنفين ومن المؤمنات اللاتي متن ولم يتزوجن في الدنيا فزوجهن الله تعالى في الجنة من شاء من عباده بل الأعم من ذلك كله ومن المؤمنات اللاتي تزوجن في الدنيا بأزواج ماتوا كفارا فأدخلوا النار مخلدين فيها وأدخلن الجنة كامرأة فرعون فقد جاء في الأخبار أنها تكون زوجة نبينا صلى الله عليه و سلم وجوز أن يكون المراد بازواجهم أشكالهم في الإحسان وأمثالهم في الإيمان كما قال سبحانه : وآخر من شكله أزواج وقريب منه ما قيل
(23/36)
المراد إخلاؤهم كما في قوله تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وقيل يجوز أن يراد به ما يعم الأشكال والإخلاء ومن سمعت أولا وأنت تعلم بعد إرادة ذلك وكذا إرادة الأشكال أو الإخلاء بالخصوص لهم فيها فاكهة بيان لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب وما يتلذذون به من الملاذ الجسمانية والروحانية بعد بيان مالهم فيها من مجالس الإنس ومحافل القدس تكميلا لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة كذا قيل ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا وقع جواب سؤال نشأ مما يدل عليه الكلام السابق من اشتغالهم بالإنس واتكائهم على الأرائك عدم تعاطيهم أسباب المأكل والمشرب فكأنه قيل : إذا كان حالهم ما ذكر فكيف يصنعون في أمر مأكلهم فأجيب بقوله سبحانه : لهم فيها فاكهة وهو مشير إلى أن لهم من المأكل مالهم على أتم وجه وأفيد أن فيه إشارة إلى أنه لا جوع هناك وليس الأكل لدفع ألم الجوع وإنما مأكولهم فاكهة ولو كان لحما والنتوين للتفخيم أي فاكهة جليلة الشأن وفي قوله سبحانه : لهم فيها فاكهة دون يأكون فيها فاكهة إشارة إلى كون زمام الإختيار بأيديهم وكونهم مالكين قادرين فإن شاؤا أكلوا وإن شاؤا أمسكوا
ولهم ما يدعون
57
- أي ما يدعون به لأنفسهم أي لهم كل ما يطلبه أحد لنفسه لا أنهم يطلبون فإنه حاصل كما إذا سألك أحد فقلت : لك ذلك تعنى فلم تطلب أو لهم ما يطلبون بالفعل على أن هناك طلبا وإجابة لأن الغبطة بالإجابة توجب اللذة بالطلب فإنه مرتبة سنية لا سيما والمطلوب منه والمجيب هو الله تعالى الملك الجليل جل جلاله وعم نواله فيدعون من الدعاء بمعنى الطلب وأصله يدتعيون على وزن يفتعلون سكنت الياء بعد أن ألقيت حركتها على ما قبلها وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها وقيل بل ضمت العين لأجل واو الجمع ولم يلق حركة الياء عليها وإنما حذفت استثقالا ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين فصار يدتعون فقلبت التاء دالا وأدغمت وافتعل بمعنى فعل الثلاثي كثير ومنه اشتوى بمعنى شوى واجتمل بمعنى جمل أي اذاب الشحم
قال لبيد : فاشتوى ليلة ريح واجتمل
و لهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وهي موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف وهو إما ضمير مجرور أو ضمير منصوب على الحذف والإيصال وجوز أن تكون ما نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية فالمصدر حينئذ مبتدأ وهو خلاف الظاهر والجملة عطف على الجملة قبلها وعدم الإكتفاء بعطف ما على فاكهة لئلا يتوهم كونها عبارة عن توابع الفاكهة ومتمماتها
وجوز أن يكون يدعون من الإفتعال بمعنى التفاعل كارتموه بمعنى تراموه أي لهم ما يتداعون والمعنى كل ما يصح أن يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل لهم أو ما يطلبه بعضهم من بعض بالفعل لما في ذلك من التحاب وأن يكون من الإفتعال على ما سمعت أولا إلا أن الإدعاء بمعنى التمني
قال أبو عبيدة : العرب تقول ادع على ما شئت بمعنى تمن علي وتقول فلان في خير ما ادعى أي تمنى أي لهم ما يتمنون قال الزجاج : وهو مأخوذ من الدعاء أي كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم قيل افتعل بمعنى فعل فيدعون بمعنى يدعون من الدعاء بمعناه المشهور أي لهم ما كان يدعون به الله عز و جل في الدنيا من الجنة ودرجاتها
وقوله تعالى : سلام جوز أن يكون بدلا من ما يبدل بعض من كل ولزوم الضمير غير مسلم وقوله تعالى :
(23/37)
قولا مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة صفة سلاما وقوله تعالى من رب رحيم
58
- صفة قولا أي سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم أي يسلم عليهم من جهته تعالى بلا واسطة تعظيما لهم فقد أخرج ابن ماجة وجماعة عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قول الله تعالى سلام قولا من رب رحيم قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقي نوره وبركته عليهم في ديارهم وقيل بواسطة الملائكة عليهم السلام لقوله تعالى والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم وروي ذلك عن ابن عباس وعلى الأول الأكثرون وأما ما قيل أن ذلك سلام الملائكة على المؤمنين عند الموت فليس بشيء والبداية المذكورة مبنية على ان ما عامة
وجوز أن يكون بدل كل من كل على تقدير أن يراد بها خاص أو على ادعاء الإتحاد تعظيما ولا بأس في إبدال هذه النكرة منها على تقدير موصوليتها لأنها نكرة موصوفة بالجملة بعدها على أنه يجوز أن يلتزم جواز إبدال النكرة من المعرفة مطلقا من غير قبح ويجوز أن يكون سلام خبر مبتدأ محذوف والجملة بعده صفته أي هو أو ذلك سلام يقال قولا من رب رحيم والضمير لما وكذا الإشارة وجوز أن يكون صفة لما أي لهم ما يدعون سالم أو ذو سلامة مما يكره و قولا مصدر مؤكد لقوله تعالى لهم ما يدعون سلام أي عدة من رب رحيم وهذه الوصفية على تقدير كون ما نكرة موصوفة ولا يصح على تقدير كونها موصولة للتخالف تعريقا وتنكيرا وأن يكون خبرا لما و لهم متعلق به لبيان الجهة كما يقال لزيد الشرف متوفر أي ما يدعون سالم لهم خالص لا شوب فيه ونصب قولا على ما سمعت آنفا
وفي الكشاف الأوجه أن ينتصب على الإختصاص وهو من مجازه فيكون الكلام جملة مفصولة عما سبق ولا ضمير في نصب النكرة على ذلك وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ولهم سلام يقال قولا من رب رحيم وقدر الخبر مقدما لتكون الجملة على أسلوب أخواتها لا ليسوغ الإبتداء بالنكرة فإن النكرة موصوفة بالجملة بعدها وظاهر كلامهم تقدير العاطف أيضا ويمكن أن لا يقدر وفصل الجملة على ما قيل لأنها كالتعليل لما تضمنته لآي قبلها فإن سلام الرب الرحيم منشأ كل تعظيم وتكريم وجوز على تقدير كونه مبتدأ تقدير الخبر المحذوف عليهم قال الإمام : فيكون ذلك إخبارا من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه حكى لنا وقال جل شأنه إن أصحاب الجنة في شغل ثم لما كمل بيان حالهم قال سلام عليهم وهذا كما قال سبحانه سلام على نوح وسلام على المرسلين فيكون جل وعلا قد أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين ثم قال : وهذا وجه مبتكر جيد ما يدل عليه فنقول : أو نقول تقديره سلام عليكم ويكون هذا نوعا من الإلتفات حيث قال تعالى لهم كذا وكذا ثم قال سبحانه سلام عليكم اه ووجه الإبتداء بسلام في مثل هذا التركيب موصوفا كان أم لا معروف عند أصاغر الطلبة وقرأ محمد بن كعب القرظي سلم بكسر السين وسكون اللام ومعناه سلام وقال أبو الفضل الرازي : مسالم لهم أي ذلك مسالم وليس بذاك
وقرأ أبي وعبد الله وعيسى والغنوي سلاما بالنصب على المصدر أي يسلم عليهم سلاما أو على الحال من ضمير ما في الخبر أو منها على القول بجواز مجيء الحال من المبتدأ أي ولهم مرادهم خالصا
(23/38)
وامتازا اليوم أيها المجرمون
59
- أي انفردوا على المؤمنين إلى مصيركم من النار وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أي اعتزلوا عن كل خير وعن الضحاك لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى أي على خلاف ما للمؤمنين من الإجتماع مع من يحبون ولعل هذا بعد زمان من أول دخولهم فلا ينافي عتاب بعضهم بعضا الوارد في آيات أخر كقوله تعالى وإذ يتحاجون في النار ويحتمل أنه أراد لكل صنف كافر كاليهود والنصارى وجوز الإمام كون الأمر امر تكوين كما في كن فيكون على معنى أن الله تعالى يقول لهم ذلك فتظهر عليهم سيماء يعرفون بها كما قال سبحانه يعرف المجرمون بسيماهم ولا يخفى بعده والجملة عطفا ما على الجملة السابقة المسوقة لبيان أحوال أصحاب الجنة من عطف القصة على القصة فلا يضر التخالف إنشائية وخبرية وكأن تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين الفريقين وحاليهما وإما على مضمر ينساق إليه حكاية حال أصحاب الجنة كأنه قيل أثر بيان كونهم في شغل عظيم الشأن وفوزهم بنعيم مقيم يقصر عنه البيان فليقروا بذلك عينا وامتازوا عنهم أيها المجرمون
قاله أبو السعود وقال الخفاجي : يجوز أن يكون بتقدير ويقال امتازوا على أنه معطوف على يقال المقدر العامل في قولا وهو أقرب وأقل تكلفا لأن حذف القول وقيام معموله مقامه كثير حتى قيل فيه هو الحبر حدث عنه ولا حرج وفيه يظهر بأدني تأمل وقيل : إن المذكور من قوله تعالى إن أصحاب الجنة إلى هنا تفصيل للمجمل السابق أعني قوله تعالى : ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون وبنى عليه أن المعطوف عليه متضمن لمعنى الطلب على معنى فليتميز المؤمنون عنكم يا أهل المحشر وامتازوا عنهم إلى النار وتعقبه في الكشف بأنه ليس بظاهر إذ باحد الأمرين غنية عن الآخر ثم قال : والوجه أن المقصود عطف قصة أصحاب النار على جملة قصة الجنة وأوثرها هنا زيادة للتهويل والتعنيف ألا ترى إلى قوله تعالى أصلوها اليوم وإن كان لا بد من التضمين فالمعطوف أولى بأن يجعل في معنى الخبر على معنى وإن المجرمون ممتازون منفردون
وفائدة العدول ما في الخطاب من النكتة أه وما ذكره من حديث إغناء أحد الأمرين عن الآخر سهل لكون الأمر تقديريا مع أن الإمتياز الأول على وجه الإكرام وتحقيق الوعد والآخر على وجه الإهانة وتعجيل الوعيد فيفيد كل منهما ما لا يفيده الآخر نعم قال العلامة أبو السعود في ذلك : إن اعتبار فليتميز المؤمنون وإضماره بمعزل عن السداد لما أن المحكي عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضية حتى يتسنى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنما هو استقرارهم عليها بالفعل وكون ذلك تنزيل المترقب منزلة الواقع الأيجدي نفعا لأن مناط الإعتبار والإضمار انسياق الإفهام إليه نظم الكلام عليه فبعد التنزيل المذكور وإسقاط الترقب عن درجة الإعتبار يكون التصدي لإضمار شيء يتعلق به إخراجا للنظم الكريم عن الجزالة بالمرة والظاهر أنه لا فرق في هذا بين التضمين والإضمار والذي يغلب على الظن ما ذكر لا يفيد أكثر من أولوية تقدير فليقروا عينا على تقدير فليمتازوا فليفهم وقال بعض الأذكياء : يجوز أن يكون امتازوا فعلا ماضيا والضمير للمؤمنين أي انفرد المؤمنون عنكم بالفوز بالجنة ونعيمها أيها المجرمون ففيه تحسير لهم والعطف حينئذ من عطف الفعلية الخبرية على الإسمية الخبرية ولا منع منه وتعقب بأنه مع ما فيه من المخالفة للأسلوب المعروف من وقوع النداء مع الأمر نحو يوسف أعرض عن هذا قليل الجدوي وما ذكره من التحسير يكفي فيه ما قبل من ذكر ما هم عليه من
(23/39)