[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
السلام بيضاء للناظرين وانفلاق البحر وافردت لاتحاد المدلول
وما كان أكثرهم مؤمنين
76
- أي أكثر قوم فرعون الذين أمر موسى عليه السلام أن يأتيهم وهم القبط على ما استظهره أبو حيان حيث لم يؤمن منهم سوى مؤمن آل فرعون وآسية امرأة فرعون وبعض السحرة على القول بأن بعضهم من القبط لأكلهم كما عليه أهل الكتاب وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام بعض منا والعجوز التي دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام ليلة الخروج من مصر ليحمل عظامه معه وقيل المراد بالآية ما كان في البحر من إنجاء موسى عليه السلام ومن معه واغراق الآخرين وضمير أكثرهم للناس الموجودين بعد الاغراق والانجاء من قوم فرعون الذين لم يخرجوا معه لعذر ومن بني اسرائيل والمراد بالايمان المنفي عنهم التصديق اليقيني الجازم الذي لايقبل الزوال أصلا أي وما كان أكثر الناس الموجودين بعد تحقق هذه الآية العظيمة وظهورها مصدقين تصديقا يقينيا جازما لايقبل الزوال فان الباقين في مصر من القبط لم يؤمن أحد منهم مطلقا وأكثر بني اسرائيل كانوا غير متيقنين ولذا سألوا بقرة يعبدونها وعبدوا العجل فلا يقال لهم مؤمنون بالمعنى المذكور ويكفي في ايمان البعض الذي يدل عليه المفهوم كون البعض المؤمن من بني اسرائيل وحيث كان المراد وما كان أكثرهم بعد تحقق آيتي الاغراق والانجاء وظهورهما مؤمنين لايصح جعل الضمير للقبط إلا ببيان الاقل المؤمن والاكثر الكافر منهم بعد تحقق الآيتين وما ذكر في بيان الاقل المؤمن منهم ليس كذلك إذ ايمان من ذكر كان ابتداء الرسالة على أن العجوز من بني اسرائيل كما جاء في حديث اخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى مرفوعا بل أخرج ابن عبد الحكم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما انها شارح ابنة أشير بن يعقوب عليه السلام فهي بنت أخي يوسف عليه السلام فتكون أقرب من موسى عليه السلام إلى إسرائيل
وأجيب بأن من يرجع الضمير على القبط لايلزمه أن يفسر الآية بالاغراق والانجاء بل يقول : المراد بها المعجزات من العصا واليد وانفلاق البحر ويقول : إن إيمان الأقل بعد تحقق بعضها كاف لاتحاد مدلولها في تحقق المفهوم وأما إرجاع الضمير على الناس الموجودين بعد الأغراق والانجاء من بني اسرائيل وقوم فرعون الذين لم يخرجوا معه فخلاف الظأهر وكذا حمل الايمان على ما ذكر وجعل أكثر بني اسرائيل المخصوصين بالانجاء غير مؤمنين وإن حصل منهم عند وقوع بعض الآيات ما لاينبغي صدوره من المؤمنين فانهم لم يستمروا عليه فقد أخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء جعل النبي صلى الله عليه و سلم يصفق بيديه ويعجب من بني اسرائيل وتعنتهم لما حضروا البحر وحضر عدوهم جاؤا موسى عليه السلام فقالوا : قد حضرنا العدو فماذا أمرت قال : إن أنزل ههنا فاما أن يفتح لي ربي ويهزمهم وإما أن يفرق لي هذا البحر فانطلق نفر منهم حتى وقعوا في البحر فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع فقالوا هذا عن غير سلطان موسى فجازوا البحر فلم يسمع بقوم أعظم ذنبا ولا أسرع توبة منهم
ومتى حمل الايمان على ما ذكر وصح نفي الايمان عمن صدر منه ما يدل على عدم رسوخه جاز ارجاع الضمير
(19/90)

على بني اسرائيل فان أكثرهم لم يكونوا راسخين فيه وظاهر عبارة بعضهم يوهم ارجاعه اليهم وليس ذاك بشيء وقد سلك شيخ الاسلام في تفسير الآية مسلكا تفرد في سلوكه فيما أظن فقال : إن في ذلك أي في جميع ما فصل مما صدر عن موسى عليه السلام وظهر على يديه من المعجزات القاهرة ومما فعل فرعون وقومه من الأقوال والأفعال وما فعل بهم من العذاب والنكال لآية أي آية أية وآية عظيمة لاتكاد توصف موجبة لأن يعتبر بها المعتبرون ويقيسوا شأن النبي صلى الله عليه و سلم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ويؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله صلى الله عليه و سلم كيلا يحل بهم ما حل بأولئك أو إن فيما فصل في القصة من حيث حكايته عليه السلام إياها على ماهي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآية عظيمة على أن ذلك بطريق الوحي الصادق موجبة للايمان بالله تعالى وحده وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم وما كان أكثرهم أي أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم منه عليه الصلاة و السلام مؤمنين لابأن يقيسوا شأنه صلى الله عليه و سلم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المكذبين المهلكين ولا بأن يتدبروا في حكايته عليه الصلاة و السلام لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد مع كون كل من الطريقين مما يؤدي إلى الايمان قطعا ومعنى ما كان أكثرهم مؤمنين ما أكثرهم مؤمنين على أن كان زائدة كما هو رأي سيبويه فيكون كقوله تعالى وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وهو اخبار منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد سماع الآيات الناطقة بالقصة تقريرا لما مر من قوله تعالى ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا الخ وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرارهم على عدم الايمان واستمرارهم عليه
ويجوز أن تجعل كان بمعنى صار كما في وقله تعالى وكان من الكافرن فالمعنى وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للايمان بما ذكر من الطريقين فيكون الاخبار بعدم الصيرورة قبل الحدوث للدلالة على كمال تحققه وتقرره كقوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه وادعى إن هذا التفسير هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم من مطلع السورة الكريمة إلى آخر القصص السبع بل إلى آخر السورة الكريمة اقتضاء بينا ثم قال : وأما ما قيل من أن ضمير أكثرهم لأهل عصر فرعون من القبط وغيرهم وأن المعنى وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين حيث لم يؤمن منهم إلا ءاسية ومؤمن ءال فرعون والعجوز التي دلت على قبر يوسف عليه السلام وبنوا اسرائيل بعدما نجوا سألوه بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فبمعزل عن التحقيق كيف لا ومساق كل قصة من القصص الواردة في السورة الكريمة سوى قصة إبراهيم عليه السلام إنماهو لبيان حال طائفة معينة قد عتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله كما يفصح عنه تصدير القصص بتكذيبهم المرسلين بعد ما شاهدا ما بأيديهم من اةيات العظام ما يوجب عليهم الايمان ويزجرهم عن الكفر والعصيان وأصروا على ما هم عليه من التكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعقوبة الدنيوية وقطع دابرهم بالكلية فكيف يمكن أن يخبر عنهم بعدم ايمان أكثرهم لاسيما بعد الاخبار بهلاكهم وعد المؤمنين من جملتهم أولا واخراجهم منها ءاخرا مع عدم مشاركتهم لهم في شيء مما حكي عنهم من الجنايات أصلا مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله ورجوع ضمير أكثرهم في قصة ابراهيم
(19/91)

عليهعليه السلام إلى قومه مما لاسبيل اليه أيضا أصلا لظهور أنهم ما ازدادوا بما سمعوه منه إلا طغيانا وكفرا حتى اجترؤا على تلك العظيمة التي فعلوها به فكيف يعبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم وإنما ءامن له لوط فنجاهم الله تعالى الى الشام فتدبر اه
وتعقب بأن فيها محذورا من عدة أوجه أما أولا فلأن حمل كان على الصلة مع ظهور الوجه الصحيح غير صحيح وقد لزم هنا بعد هذا حمل الجملة الاسمية باعتبار الاستمرار على انهم لايكونون بعد نزول هذه الآية مؤمنين وإن جعل بمعنى صار يلزم جعله مضارعا لكن عدل عنه للدلالة على كمال التحقق وهذا أيضا مع إمكان المعنى العاري عن الاحتياج لذلك غير مناسب وأما ثانيا فلأن إرجاع ضمير أكثرهم إلى قوم نبينا صلى الله عليه و سلم صرف عن مرجعه المتقدم المذكور لفظا سيما في القصص اةتية المصدرة بكذبت وأما ثالثا فلأن قوله : لابأن يقيسوا شأنه عليه الصلاة و السلام بشأن موسى عليه السلام الخ لايخلوا عن صعوبة إد الأمر المشترك بينهما عليهما الصلاة والسلام ليس إلا أن ان كلا منهما نبي مؤيد بالمعجزات مطلقا وأما ان نظر إلى خصوصيات المعجزات فلا يخفى أنه لا مشاركة بينهما وكذأ قياس حالهم على حال فرعون وقومه لايخلو عنها على هذا القياس وأما رابعا فلأن قوله تعالى إن في ذلك لآية الخ قد ذكر على هذا النسق في سبعة مواضع ولا بد من تنسيق تفسيره على نظام واحد فيها مهما أمكن ومن جملة ذلك ما في قصة نبي الله تعالى لوط عليه السلام وقد ذكر فيها من حال قومه فعلهم الشنيع المعهود ثم إهلاك جميعهم وما في قصة نبي الله تعالى شعيب عليه السلام وقد ذكر فيها من حال أصحاب الايكة عملهم المتعلق بالكيل والوزن ثم إهلاك جميعهم من غير تصريح بحيثية كفر كل قوم فلا يناسب فيهما ان يقال : إن في ذلك لآية موجبة لايمان قريش بان يقيسوا حال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطون من المعاصي هذا على الطريق الاول وأما الطريق الثاني ففيه أيضا عدة محذورات
أما أولا وثانيا فلما ذكر أولا وثانيا وأما ثالثا فلأن كلا من كلتا القصتين ذكر هنا على وجه الاجمال وذكر مفصلا في سورة أخرى وكل منهما ذكر محذث بحسب نزوله فلا وجاهة في أن يقال : وما أكثرهم مؤمنين بك بأن يتدبروا في حكايتك لقصتهم من غير أن تسمعها من أحد بناء على أنهم قد سمعوها منه عليه الصلاة و السلام مفصلة قبل نزول الآية مع أن كون حكايته صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك من غير أن يسمعه من أحد مما يؤدي إلى ايمانهم قطعا محل تردد وأما رباعا فلان آخر هذه القصة قوله تعالى : وأنجينا ثم أغرقنا وكذا آخر قصة لوط عليه السلام قوله تعالى : فنجيناه ثم دمرنا وأمطرنا فالمتبادر أن تكون الاشارة إلى نفس المحكي المشتمل على الافعال العجيبة الالهية لا إلى حكايتها وأما ما قاله في تزييف ما قيل فليس بشيء أيضا لأن نسبة التكذيب إلى كل قوم من الاقوام الذين نسب اليهم إنما هي باعتبار الأكثر كما يرشد اليه قوله تعالى في قصة قوم نوح عليه السلام حكاية عنهم بعد أن قال سبحانه : كذبت قوم نوح المرسلين قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون وقوله عز و جل بعد ذلك حكاية عن نوح عليه السلام ما قال في حوابهم وما أنا بطارد المؤمنين فيكون ضمير أكثرهم راجعا إلى القوم غير ملاحظ فيهم ذلك ومثله كثير في الكلام ويراد بالأكثر في المواضع السبعة جمع موصوفون بزيادة الكثرة سواء كان البعض المؤمن واحد أو أكثر فلا يرد أنه كيف يعبر عن قوم ابراهيم عليه السلام بعدم إيمان أكثرهم وانما آمن
(19/92)

له لوط عليه السلام فتأمل انتهى ولايخفى ما فيه من الغث والسمين
وأنا أختار كما اختار شيخ الاسلام رجوع الضمير إلى قوم نبينا عليه الصلاة و السلام وأول السورة الكريمة وآخرها في الحديث عنهم وتسليته صلى الله عليه و سلم عما قالوه في شأن كتابه الاكرم ونهيه صريحا واشارة ان يذهب بنفسه الشريفة عليهم حسرات وكل ذلك يقتضي اقتضاء لاريب فيه رجوع الضمير الى قومه عليه الصلاة و السلام ويهون أمر عدم رجوعه إلى الأقرب لفظا ويكن الارتباط على هذا بين لآيات أقوى
وأختار أن الاشارة إلى ما تضمنته القصة وان المعنى ان فيما تضمنته هذه القصة لآية عظيمة دالة على ما يجب على قومك الايمان به من شؤنه عز و جل وما كان أكثرهم مؤمنين بذلك وكذا يقال في جميع ما يأتي أن شاء الله تعالى وكل ذلك على نمط ما تقدم وكذا الكلام في كان وما يتعلق بالجملة
والكلام في قوله تعالى وإن ربك لهو العزيز الرحيم
86
- كالكلام فيما تقدم أيضا ولعل تخريج ما ذكر على هذا الوجه أحسن من تخريج شيخ الاسلام فتأمل والله تعالى أعلم بحقائق ما أنزل من الكلام
واتل عليهم عطف على المضمر العامل في إد نادى الخ أي أذكر ذلك لقومك وأتل عليهم نبأ ابراهيم
96
- أي خبره العظيم الشأن حسبما أوحي اليك ليتأكد عندك لعدم تأثرهم بما فيه العلم بشدة عنادهم وتغيير الاسلوب لمزيد الاعتناء بامر هذه القصة لأن عدم الايمان بعد وقوفهم على ما تضمنته أقوى دليل على شدة شكيمتهم لما أن ابراهيم عليه السلام جدهم الذي يفتخرون بالانتساب اليه والتأسي به عليه السلام إذ قال منصوب على الظرفية لنبأ على ماذهب اليه أبو البقاء أي نبأه وقت وقوله لأبيه وقومه أو على المفعولية لاتل على أنه بدل من نبأ على ما يقتضيه كلام الحوفي أي اتل عليهم وقت قوله لهم ماتعبدون
7
- على أن المتلو ما قاله عليه السلام في ذلك الوقت وضمير قومه عائد على ابراهيم وقيل : عائد على أبيه ليوافق قوله تعالى إني أراك وقومك في ضلال مبين ويلزم عليه التفكيك
وسألهم عليه السلام عما يعبدون ليبني على جوابهم أن ما يعبدون بمعرل عن استحقاق العبادة بالكلية لا للاستعلام إذ ذلك معلوم مشاهد له عليه السلام قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين
17
- لم يقتصروا على الجواب الكافي بأن يقولوا أصناما كما في قوله تعالى ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو إلى غير ذلك بل أطنبوا فيه باظهار الفعل وعطف دوام عكوفهم على أصنامهم مع أنه لم يسأل عنه قصدا إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بذلك وهو على ما في الكشف من الاسلوب الأحمق والمراد بالظلول الدوام كما في قولهم : لو ظل الظلم هلك الناس وتكون ظل على هذا تامة وقد قال بمجيئها كذلك ابن مالك وأنكره بعض النحاة وقيل : فعل الشيء نهارا فقد كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل فتكون ظل على هذا ناقصة دالة على ثبوت خبرها لاسمها في النهار
واختار بعض الأجلة الأول لتبادر الدوام وكونه أبلغ مناسبا لمقام الابتهاج والافتخار واختار الزمخشري الثاني لأنه أصل المعنى وهو مناسب للمقام أيضا لأنه يدل على اعلانهم الفعل لافتخارهم به و عاكفين على الأول حال وعلى الثاني خبر والجار متعلق به وايراد اللام دون على لافادة معنى زائد كأنهم قالوا : نظل لأجلها
(19/93)

مقبلين على عبادتها أو مستديرين حولها وهذا أيضا على ما قيل من جملة اطنابهم قال استئناف مبني على سؤال نشأ من تفصيل جوابهم هل يسمعونكم دخل فعل السماع على غير مسموع ومذهب الفارسي أنه حينئذ يتعدى إلى إثنين ولابد أن يكون الثاني مما يدل على صوت فالكاف هنا عنده مفعول أول والمفعول الثاني محذوف والتقدير هل يسمعونكم تدعون وحذف لدلالة قووله تعالى : إد تدعون
27
- عليه ومذهب غيره أنه حينئذ متعد إلى واحد وإذا وقعت بعده ملفوظة أو مقدرة فهي في موضع الحال منه إن كان معرفة وفي موضع الصفة له إن كان نكرة
وجوز فيه البدلية أيضا واذا دخل على مسموع تعدى إلى واحد اتفاقا ويجوز أن يكون ما هنا داخلا على ذلك على أن التقدير هل يسمعون دعاءكم فحذف المضاف لدلالة إذ تدعون أيضا عليه وقيل : السماع هنا بمعنى الاجابة كما في قوله صلى الله عليه و سلم اللهم انى أعوذ بك من دعاء لايسمع ومنه قوله عز و جل إنك سميع الدعاء أي هل يجيبونكم وحينئذ لانزاع في أنه متعد لواحد ولا يحتاج الى تقدير مضاف والأولى ابقاؤه على ظاهر معناه فانه أنسب بالمقام نعم ربما يقال : ان ما قيل أوفق بقراءة قتادة ويحيى بن يعمر يسمعونكم بضم الياء وكسر الميم من أسمع والمفعول الثاني محذوف تقديره الجواب و إذ ظرف لما مضى وجيء بالمضارع لاستحضار الحال الماضية وحكايتها واما كون هل تخلص المضارع للاستقبال فلا يضر هنا لأن المعتبر زمان الحكم لازمان التكلم وهو هنا كذلك لأن السماع بعد الدعاء وقال أبو حيان : لابد من التجوز في إذ بأن تجعل بمعنى إذا أو التجوز في المضارع بأن يجعل بمعنى الماضي واعتبار الاستحضار أبلغ في التبكيت وقريء بادغام ذال إذ في تاء تدعون وذلك بقلبها تاء وادغامها في التاء
أوينفعونكم بسبب عبادتكم لهم أو يضرون
37
- أي يضرونكم بترككم لعبادتهم إذ لابد للعبادة لاسيما عند كونها على ما وصفتم من المبالغة فيها من جلب نفع أو دفع ضر وترك المفعول للفاصلة ويدل عليه ما قبله وقيل المراد أو يضرون من أعرض عن عبادتهم كائنا من كان وهو خلاف الظاهر الذي يقتضيه العطف
قالوا بل وجدنا ءاباءنا كذلك يفعلون
47 - أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو نفع أو ضرا اعترافا بما لاسبيل لهم إلى انكاره واضطروا إلى إظهار أن لاسند لهم سوى التقليد فكأنهم قالوا لايسمعون ولاينفعوننا ولايضرون وإنما وجدنا آباءنا يفعلون مثل فعلنا ويعبدونهم مثل عبادتنا فاقتدينا بهم وتقديم المفعول المطلق للفاصلة
قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون
57
- أي انظرتم فأبصرتم أو تاملتم فعلمتم أي شيء استدمتم على عبادته أو أي شيء تعبدونه أنتم وءاباؤكم الأقدمون
67
- والكلام انكار وتوبيخ يتضمن بطلان آلهتهم وعبادتها وأن عبادتها ضلال قديم لافائدة في قدمه الا ظهور بطلانه كما يؤذن بهذا وصف آبائهم بالاقدمين وقوله تعالى فانهم عدو لي قيل : تعليل لما يفهم من ذلك من إني لاأعبدهم أو لاتصح عبادتهم وقيل : خبر لما كنتم إذ المعنى أفأخبركم وأعلمكم قيل : تعليل لما يفهم من ذلك من إني لاأعبدهم أو لاتصح عبادتهم وقيل : خبر لما كنتم إذ المعنى أفاخبركم وأعلمكم بمضمون هذا واختار بعض الاجلة أنه بيان وتفسير لحال ما يعبدونه التي لو أحاطوا بها علما لما عبدوه أي فاعلموا أنهم أعداء لعابديهم الذين يحبونهم كحب الله تعالى لما أنهم يتضررون من جهتهم تضرر الرجل من جهة عدوه فاطلاق العد عليهم من باب التشبيه البليغ
(19/94)

وجوز أن يكون من باب المجاز العقلي باطلاق وصف السبب على المسبب من حيث أن المغري والحامل على عبادتهم هو الشيطان الذي هو عدو مبين للانسان والأول أظهر والداعي للتأويل أن الأصنام لكونها جمادات لاتصلح للعداوة وما قيل : إن الكلام على القلب والاصل فاني عدو لهم ليس بشيء
وقال النسفي : العدو اسم للمعادي والمعادي جميعا فلا يحتاج إلى تأويل ويكون كقوله وتالله لأكيدن أصنامكم وصور الأمر في نفسه تعريضا لهم كما في قوله تعالى ومالي لا أعبد الذي فطرني واليه ترجعون ليكون أبلغ في النصح وأدعى للقبول ومن هنا استعمل الأكابر التعريض في النصح ومنه يحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أن رجلا واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال : ما هو بيتي ولا بيتكم وضمير إنهم عائد على ما وجمع مراعاة لمعناها وإفراد العدو مع أنه خبر عن الجمع إما لأنه مصدر في الأصل فيطلق على الواحد المذكر وغيره أو لاتحاد الكل في معنى العداوة أو لأن الكلام بتقدير فان كلا منهم أو لأنه بمعنى النسب أي ذو كذا فيستوي فيه الواحد وغيره كما قيل
وقوله سبحانه إلا رب العالمين
77
- استثناء منقطع من ضمير إنهم عند جماعة منهم الفراء واختاره الزمخشري أي لكن رب العالمين ليس كذلك فانه جل وعلا ولي من عبده في الدنيا والآخرة لايزال يتفضل عليه بالمنافع
وقال الزجاج : هو استثناء متصل من ذلك الضمير العائد على ما تعبدون ويعتبر شموله لله عر وجل وفي آبائهم الأقدمين من عبد الله جل وعلا من غير شك أو يقال : إن المخاطبين كانوا مشركين وهم يعبدون الله تعالى والأصنام وتخصيص الأصنام هنا بالذكر للرد لا لأن عبادتهم مقصورة عليها ولو سلم أنه لذلك فهو باعتبار دوام العكوف وذلك لاينافي عبادتهم إياه عز و جل أحيانا وقال الجرجاني : إن الاستثناء من ماكنتم تعبدون و إلا 9 بمعنى دون وسوى وفي الآية تقديم وتأخير والأصل أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم واباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين أي دون رب العالمين فانهم عدو لي ولا يخفى ما فيه الذي خلقني صفة لرب العالمين ووصفه تعالى بذلك وبما عطف عليه مع اندراج الكل تحت ربوبيته تعالى للعالمين زيادة في الايضاح في مقام الارشاد وقيل : تصريحا بالنعم الخاصة به عليه السلام وتفصيلا لها لكونها أدخل في اقتضاء تخصيص العبادة به تعالى وقصر الالتجاء في جلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضار العاجلة والآجلة عليه تعالى
فهو يهدين
87
- عطف على الصلة أي فهو يهديني وحده جل شأنه إلى كل ما يهمي ويصلحني من أمور المعاش والمعاد هداية متصلة بحين الخلق له هداية متدرجة من مبتدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب منافعه ودفع مضاره إما طبعا وإما اختيارا مبدؤها بالنسبة الى الانسان هداية الجنين لامتصاص دم الطمث في المشهور ومنهاها الهداية الى طريق الجنة والتنعم بنعيمها المقيم وجوز الحوفي وغيره كون الموصول مبتدأ وجملة هو يهديني خبره ودخلت الفاء في خبره لتضمنه معنى الشرط نحو ذلك الذي يأتيني فله
وتعقبه أبو حيان بأن الفاء انما يؤتى بها في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط اذا كان عاما وهنا لايتخيل فيه العموم فليس ما نحن فيه نظير المثال وأيضا الفعل الذي هو خلق مما لايمكن فيه تجدد بالنسبة الى ابراهيم عليه السلام فلعل ذلك على مذهب الأخفش من جواز زيادة الفاء في الخبر مطلقا نحو زيد فاضربه واجيب بأن اشتراط
(19/95)

العموم غير مسلم كما فصله الرى وإنما هو أغلبي وبأن مطلق الخلق مما يمكن فيه التجدد وهو ممكن الارادة وإن ظهر في صورة المخصوص وتسبب الخلق للهداية بمقتضى الحكمة وقيل : إنه سبب للاخبار بها لتحققها وليس بشيء ويلزم على الاعراب المذكور أن يكون الموصول في قوله سبحانه : والذي هو يطعمني ويسقيني
97
- مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده ولايخفى ما في ذلك لفظا ومعنى فاللائق بجزالة التنزيل الاعراب الأول وعليه يكون الموصول عطفا على الموصول الأول وإنما كرر الموصول في المواضع الثلاثة مع كفاية عطف ما حيز الصلة من الجمل الست على صلة الموصول الأول للايذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى مستقل في استيجاب الحكم حقيق بأن تجري عليه عز و جل بحيالها ولا تجعل من روادف غيرها والظأهر أن المراد الاطعام والسقي إلى غيره عز و جل بخلاف الخلق وعلى هذا القياس فيما جيء فيه بهو وما ترك مما يأتي ان شاء الله تعالى
وعن أبي بكر الوراق أن المعنى يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب كما جاء أني أبيت يطعمني ربي ويسقين وهو مشرب صوفي وأتي بهذين الصفتين بعدما تقدم لما أن دوام الحياة وبقاء نظام خلق الانسان بالغذاء والشراب ما سلك فيهما مسلك العدل وهو أشد احتياجا اليهما منه الى غيرهما ألا ترى أن أهل النار وهم في النار لم يشغلهم ماهم فيه من العذاب عن طلبهما فقالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله
وإذا مرضت فهو يشفين
8
- عطف على يطعمني ويسقين نظم معهما في سلك الصلة لموصول واحد لما أن الصحة والمرض من متفرعات الأكل والشرب غالبا فان الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب وقال الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا : التخم ونسبة المرض الذي هو نقمة الى نفسه والشفاء الذي هو نعمة الى الله جل شأنه لمراعاة حسن الأدب كما قال الخضر عليه السلام : فاردت أن أعيبها وقال : فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ولايرد اسناده الاماتة وهي أشد من المرض اليه عز و جل في قوله : والذي يميتني ثم يحيين
18
- لامكان الفرق بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاء محتوم من الله عز و جل على سائر البشر وحكم عام لايخص ولا كذلك المرض فكم من معافى منه الى أن يبغته الموت فالتأسي بعموم الموت يسقط أثر كونه نقمة فيسوغ الأدب نسبته اليه تعالى وأما المرض فلما كان يخص به بعض البشر دون بعض كان نقمة محققة فاقتضى العلو في الادب أن ينسبه الانسان الى نفسه باعتبار السبب الذي لايخلو منه
ويؤيد ذلك أن كل ما ذكر مع غير المرض أخبر عن وقوعه بتا وجزما لأنه أمر لابد منه واما المرض فلما كان قد يتفق وقد لا أورده مقرونا بشرط اذا فقال : وإذا مرضت وكان يمكنه أن يقول : والذي أمرض فيشفيني كما قال في غيره فما عدل عن المطابقة والمجانسة المأثورة الا لذلك قاله ابن المنير
وقال الزمخشري : إنما قال مرضت دون أمرضني لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الانسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك وكأنه انما عدل في التعليل عن حسن الأدب لما رأى أنه عليه السلام أضاف الاماتة اليه عز و جل وهي أشد من المرض ولم يخطر له الفرق بما مر أو نحوه وغفل عن أن المعنى الذي ابدأه في المرض ينكسر بالموت أيضا فان المرض كما يكون بسبب تفريط
(19/96)

الانسان في المطعم وغيره كذلك الموت الناشيء عن سبب هذا المرض الذي يكون بتفريط الانسان وقد أضاف عليه السلام الاماتة مطلقا اليه عز شأنه
وقال بعض الأجلة بعد التعليل بحسن الأدب في وجه إسناد الاماتة اليه تعالى : إنها حيث كانت معظم خصائصه عز و جل كالاحياء بدءا وإعادة وقد نيطت أمور الآخرة جميعا بها وبما بعدها من البعث نظمهما في سمط واحد في قوله : والذي يميتني ثم يحيين على أن الموت لكونه ذريعة الى نيله عليه السلام للحياة الأبدية بمعرل من أن يكون غير مطبوع عنده عليه السلام انتهى وأولى من هذه العلاوة ما قيل : إن الموت لأهل الكمال وصلة نيل المحاب الأبدية التي يستحقر دونها الحياة الدنيوية وفيه تخليص العاصي من اكتساب المعاصي ثم ان حمل المرض والشفاء على ما هو الظاهر منهما هو الذي ذهب اليه المفسرون وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن المعنى وإذا مرضت بالذنوب فهو يشفيني بالتوبة ولعله لايصح وإن صح فهو من باب الاشارة لا العبارة و ثم في قوله ثم يحيين للتراخي الزماني لأن المراد بالاحياء للبعث وهو متراخ عن الاماتة في الزمان في نفس الأمر وإن كان كل آت قريب وأثبت ابن أبي إسحق ياء المتكلم في يهديني وما بعده وهي رواية عن نافع والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين
28
- استعظم عليه السلام ماعسى يندر منه من فعل خلاف الاولى حتى سماه خطيئة وقيل : أراد بها قوله : إني سقيم وقوله : بل فعله كبيرهم هذا وقوله لسارة هي أختي ويدل على أنه عليه السلام عدها من الخطايا ما ورد في حديث الشفاعة من امتناعه عليه السلام من أن يشفع حياء من الله عز و جل لصدور ذلك عنه وفيه أنه وإن صح عدها من الخطايا بالنظر اليه عليه السلام لما قالوا : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين إة أنه لايصح إرادتها هنا لما أنها إنما صدرت عنه عليه السلام بعد هذ المقاولة الجارية بينه وبين قومه أما الثالثة فظاهرة لوقوعها بعد مهاجرته عليه السلام الى الشام وأما الاوليان فلأنهما وقعتا مكتنفتين بكسر الأصنام ومن البين أن جريان هذ المقالات فيما بينهم كان في مباديء الأمر وهذا أولى مما قيل : انها من المعاريض وهي لكونها في صورة الكذب يمتنع لها من تصدر عنه من الشفاعة ولكونها ليست كذبا حقيقة لاتفتقر الى الاستغفار فلا يصح إرادتها هنا لأن ذلك الامتناع ليس إلا لعده إياها من الخطايا ومتى عدت منها افتقرت الى الاستغفار وقيل : أراد بها ما صدر عنه عند رؤية الكوكب والقمر والشمس من قوله : هذا ربي وكان ذلك قبل هذه المقاولة كما لايخفى وقد تقدم أن ذلك ليس من الخطيئة في شيء وقيل : أراد بها ما عسى يندر منه من الصغائر وهو قريب مما تقدم وقيل : أراد بها خطيئة من يؤمن به عليه السلام كما قيل نحوه في قوله تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وهو كما ترى والطمع على ظاهره ولم يجزم عليه السلام لعلمه أن لاوجوب على الله عز و جل وعن الحسن أن المراد به اليقين وليس بذاك والظرفان متعلقان بيغفر
والاتيان بالأول للاشارة الى أن نفع مغفرته تعالى إنما يعود اليه عليه السلام وتعليق المغفرة بيوم الدين مع أن الخطيئة إنما تغتفر في الدنيا لأن أثرها يتبين يومئذ ولأن في ذلك تهويلا لذلك اليوم وإشارة الى وقوع الجزاء فيه إن لم تغفر وفي هذه الجملة من التلطف بأبيه وقومه في الدعوة الى الايمان ما فيها وقرأ الحسن
(19/97)

خطاياي خطاياي على الجمع رب هب لي حكما لما ذكر لهم من صفاته عز و جل مما يدل على كمال لطفه تعالى به ما ذكر حمله ذلك على مناجاته تعالى ودعائه لربط العتيد وجلب المزيد والمراد بالحكم على ما اختاره الامام الحكمة التي هي كمال القوة العلمية بأن يكون عالما بالخير لأجل العمل به وقيل : الأولى أن يفسر بكمال العلم المتعلق بالذات والصفات وسائر شؤنه عز و جل وأحكامه التي يتعبد بها وقيل : هي النبوة ورد بأنها كانت حاصلة له عليه السلام فالمطلوب إما عين الحاصل وهو محال ضرورة امتناع تحصيل الحاصل أو غيره وهو محال أيضا لان الشخص الواحد لايكون نبيا مرتين وأجيب بمنع كونها حاصلة وقت الدعاء سلمنا ذلك إلا أنه لامحذور لجواز أن يكون المراد طلب كمالها ويكون بمزيد القرب والوقوف على الاسرار الالهية والأنبياء عليهم السلام متفاوتون في ذلك وجوز أن يكون المراد طلب الثبات ولا يجب على الله تعالى شيء والمراد بقوله وألحقني بالصالحين
38
- طلب كمال القوة العلمية بأن يكون موفقا لاعمال ترشحه للانتظام في زمرة الكاملين الراسخين في الصلاح المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها وقدم الدعاء الأول على الثاني لأن القوة العلمية مقدمة على القوة العملية لأنه يمكن أن يعلم الحق وأن يعمل به وعكسه غير ممكن ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن فكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أشرف من العمل وقيل : المراد بالحكم الحكمة التي هي الكمال في العلم والعمل والمراد بقوله : وألحقني الخ طلب الكمال في العمل وذكره بعد ذلك تخصيص بعد تعميم اعتناء بالعمل من حيث انه النتيجة والثمرة للعلم وقيل : المراد بالاول ما يتعلق بالمعاش وبالثاني ما يتعلق بالمعاد وقيل : المراد بالحكم رياسة الخلق وبالالحاق بالصالحين التوفيق للعدل فيما بينهم مع القيام بحقوقه تعالى وقيل : المراد بهذا الجمع بينه عليه السلام وبين الصالحين في الجنة وأنت تعلم أنه لايحسن بعد هذا الدعاء طلبه أن يكون من ورثة جنة النعيم والأولى عندي أن يفسر الحكم بالحكمة بمعنى الكمال في العلم والعمل والالحاق بالصالحين بجعل منزلته كمنزلتهم عنده عز و جل والمراد بطلب ذلك أن يكون علمه وعمله مقبولين إذ مالم يقبلا لايلحق صاحبهما بالصالحين ولا تجعل منزلته كمنزلتهم وكأنه لذلك عدل عن قول : رب هب لي حكما وصلاحا أو رب هب لي حكما واجعلني من الصالحين إلى ما في النظم الكريم فتأمل ولا تغفل واجعل لي لسان صدق في االآخرين
48
- أي اجعل لنفعي ذكرا صادقا في جميع الأمم إلى يوم القيامة وحاصله خلد صيتي وذكري الجميل في الدنيا وذلك بتوفيقه للاآثار الحسنة والسنن المرضية لديه تعالى المستحسنة التي يقتدي بها الآخرين ويذكرونه بسببها بالخير وهم صادقون فاللسان مجاز عن الذكر بعلاقة السببية واللام للنفع ومنه يستفاد الوصف بالجميل وتعريف الآخرين للاستغراق والكلام مستلزم لطلب التوفيق للآثار الحسنة التي أشرنا اليها وكأنه المقصود بالطلب على أبلغ وجه ولا بأس بأن يريد تخليد ذكره بالجميل ومدحه بما كان عليه عليه السلام في زمانه ولكون الثاناء الحسن مما يدل على مجبة الله تعالى ورضائه كما ورد في الحديث يحسن طلبه من الأكابر من هذه الجهة والقصد كل القصد هو الرضا
ويحتمل أن يراد بالآخرين آخر أمة يبعث فيها نبي وأنه عليه السلام طلب الصيت الحسن والذكر الجميل فيهم ببعثه نبي فيهم يجدد أصل دينه ويدعو الناس إلى ما كان يدعوهم اليه من التوحيد معلما لهم أن ذلك ملة
(19/98)

ابراهيم عليه السلام فكأنه طلب بعثة نبي كذلك في آخر الزمان لاتنسخ شريعته إلى يوم القيامة وليس ذلك إلا نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم وقد طلب بعثته عليهما الصلاة والسلام بما هو أصرح مما ذكر أعني قوله : وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك الخ ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : أنا دعوة ابراهيم عليه السلام
وقيل إدا أريد ذلك فلابد من تقدير مضاف في كلامه عليه السلام أي أجعل لي صاحب لسان صدق في الآخرين أو جعل اللسان مجازا عن الداعي باطلاق الجزء على الكل لأن الدعوة باللسان فكأنه قال : اجعل لي داعيا إلى الحق صادقا في الآخرين ولايخفى أن فيما ذكرناه غني عن ذلك كله وفي تعليقات شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طاب ثراه على تفسير البيضاوي في هذه الآية كلام ناشيء من قلة امعان النظر فلا تغتر به
واستدل الامام مالك بهذه الآية على أنه لابأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا وفائدة ذلك بعد الموت على ما قاله بعض الآجلة انصراف الهمم الي ما به يحصل له عند الله تعالى زلفى وأنه قد يصير سببا لاكتساب المثنى أو غيره نحو ما أثنى به فيثاب فيشاركه فيه المثنى عليه كما هو مقتضى من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ولا يخفى عليك أن الأمور بمقاصدها واجعلني في الآخرة من ورثة جنة النعيم
58
- قد مر معنى وراثة الجنة فتذكر واستدل بدعائه عليه السلام بهذا بعدما تقدم منالادعية على أن العمل الصالح لايوجب دخول الجنة وكذا كون العبد ذا منزلة عند الله عز و جل والا لاستغنى عليه السلام بطلب الكمال في العلم والعمل وكذا بطلب الالحاق بالصالحين ذوي الزلفى عنده تعالى عن طلب ذلك وأنت تعلم أنه تحسن الاطالة في مقام الابتهال ولا يستغني بملزوم عن لازم في المقال فالأولى الاستدلال على ذلك بغير ما ذكر وهو كثير مشتهر هذا وفي بعض اةثار ما يدل على مزيد فضل هذه الأدعية
أخرج ابن أبي الدنيا في الذكر وابن مردويه من طريق الحسن عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا توضأ العبد لصلاة مكتوبة فأسبغ الوضوء ثم خرج من باب داره يريد المسجد فقال حين يخرج بسم الله الذي خلقني فهو يهدين هداه الله تعالى للصواب ولفظ ابن مردويه م لصواب الأعمال والذي هو يطعمني ويسقين أطعمه الله تعالى من طعام الجنة وسقاه من شراب الجنة وإذا مرضت فهو يشفين شفاه الله تعالى وجعل مرضه كفارة لذنوبه والذي يميتني ويحيين أحياه الله تعالى حياة السعداء وأماته ميتة الشهداء والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين غفر الله تعالى له خطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر رب هب لي حكما والحقني بالصالحين وهب الله تعالى له حكما وألحقه بصالح من مضى وصالح من بقي واجعل لي لسان صدق في الآخرين كتب في ورقة بيضاء أن فلان بن فلان من الصادقين ثم يوفقه الله تعالى بعد ذلك للصدق واجعلني من ورثة جنة النعيم جعل الله تعالى له القصور والمنازل في الجنة وكان الحسن رضي الله تعالى عنه يزيد فيه واغفر لوالدي كما ربياني صغيرا وكأنه أخذ من قوله واغفر لأبي قال ابن عباس كما أخرج عنه ابن أبي حاتم أي امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك وحاصله وفقه للايمان كما يلوح به تعليله بقوله انه كان من الضالين
68
- وهذا ظاهر إذا كان هذا الدعاء قبل موته وإن كان بعد الموت فالدعاء بالمغفرة على ظأهره وجاز الدعاء بها لمشرك والله تعالى لايغفر أن يشرك به لأنه لم يوح اليه عليه السلام بذلك إذ ذاك والعقل لايحكم بالامتناع وفي شرح مسلم للنووي
(19/99)

أنأن كونه عز و جل لايغفر الشرك مخصوص بهذه الأمة وكان قبلهم قد يغفر وفيه بحث وقيل : لأنه كان يخفي الايمان تقية من نمرود ولذلك وعده بالاستغفار فلما تبين عداوته للايمان في الدنيا بالوحي أو في الآخرة تبرأ منه
وقوله على هذا : من الضالين بناء على ما ظهر لغيره من حاله أو معناه من الضالين في كتم إيمانه وعدم اعترافه بلسانه تقية من نمروذ والكلام في هذا المقال طويل وقد تقدم منه فتذكر ولاتخزني بتعذيب أبي ببعثه في عداد الضالين بعدم توفيقه للايمان أو بمعاتبتي على ما فرطت أو بنقص رتبتي عن بعض الوراث أو بتعذيبي
وكيث كانت العاقبة مجهولة وتعذيب من لاذنب له جائز عقلا صح هذا الطلب منه عليه السلام وقيل : يجوز أن يكون ذلك تعليما لغيره وهو من الخزي بمعنى الهوان أو من الخزاية بفتح الخاء بمعنى الحياء يوم يبعثون
78
- أي الناس كافة والاضمار وإن لم يسبق ذكرهم لما في عموم البعث من الشهرة الفاشية المغنية عنه وقيل الضمير للضالين والكلام من تتمة الدعاء لأبيه كأنه قال : لاتخزني يوم يبعث الضالون وأبي فيهم ولايخفى أنه يجوز على الأول أن يكون من تتمة الدعاء لأبيه أيضا واستظهر ذلك لأن الفصل بالدعاء لأبيه بين الدعوات لنفسه خلاف الظاهر وعلى ما ذكر يكون قد دعا لأشد الناس التصاقا به بعد أن فرغ من الدعاء لنفسه
يوم لاينفع مال ولا بنون
88 - بدل من يوم يبعثون جيء به تأكيدا لتهويل ذلك اليوم وتمهيدا لما يعقبه من الاستثناء وهو إلى قوله تعالى إن في ذلك لآية الخ من كلام ابراهيم عليه السلام وابن عطية بعد أن أعرب الظرف بدلا من الظرف الأول قال : إن هذه الآيات عندي منقطعة عن كلام ابراهيم عليه السلام وهي اخبار من الله عز و جل تتعلق بصفة ذلك اليوم الذي طلب ابراهيم أن لايخزيه الله تعالى فيه ولا يخفى عدم صحة ذلك مع البدلية والمراد بالنون معناه المتبادر وقيل : المراد بهم جميع الاعوان وقيل : المعنى يوم لاينفع شيء من محاسن الدنيا وزينتها واقتصر على ذكر المال والبنين لأنهما معظم المحاسن والزينة وقوله تعالى : إلا من أتى الله بقلب سليم
98
- استثناء من أعم المفاعيل و من محل نصب أي يوم لاينفع مال وإن كان مصروفا في الدنيا إلى وجوه البر والخيرات ولا بنون وإن كانوا صلحاء مستأهلين للشفاعة أحدا إلا من أتى الله بقلب سليم عن مرض الفكر والنفاق ضرورة اشتراط نفع كل منهما بالايمان وفي هذا تأييد لكون استغفاره عليه السلام لابيه طلبا لهدايته إلى الايمان لاستحالة طلب مغفرته بعد موته كافرا مع علمه عليه السلام بعدم نفعه لأنه من باب الشفاعة وقيل : هو استثناء من فاعل ينفع ومن في محل رفع بدل منه والكلام على تقدير مضاف إلى من أي لاينفع مال ولا بنون الا مال وبنو من أتى الله بقلب سليم حيث أنفق ماله في سبيل البر وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عبادا لله تعالى مطيعين شفعاء له يوم القيامة وقيل : هو استثناء مما دل عليه المال والبنون دلالة الخاص على العام أعني مطلق الغنى والكلام بتقدير مضاف أيضا كأنه قيل : يوم لاينفع غنى الا غنى من أتى الله بقلب سليم وغناه سلامة قلبه وهو من الغنى الديني وقد أشير اليه في بعض الأخبار
أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة عن ثوبان قال : لما نزلت والذين يكنزون الذهب والفضة الآية قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو علمنا أي المال خير أتخذناه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أفضله لسان ذاكرا وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على ايمانه وقيل : هو استثناء منقطع من مال والكلام أيضا على تقدير مضاف
(19/100)

أي لاينفع مال ولا بنون الا حال من أتى الله بقلب سليم والمراد بحاله سلامة قلبه قال الزمخشري : ولابد من تقدير المضاف ولو لم يقدر لم يحصل للاستثناء معنى ومنع ذلك ابو حيان بانه لو قدر مثلا لكن من أتى الله بقلب سليم يسلم أو ينتفع يستقيم المعنى وأجاب عنه في الكشف بأن المراد أنه على طريق الاستثناء من مال لايتحصل المعنى بدون تقدير المضاف وما ذ : ره المانع استدراك من مجموع الجملة إلى جملة أخرى وليس من المبحث في شيء ولما لم يكن هذا مناسبا للمقام جعله الزمخشري مفروغا عنه فلم يلم عليه بوجه وقد جوز أتصال الاستثناء بتقدير الحال على جعل الكلام من باب
تحية بينهم ضرب وجيع
ومثاله أن يقال : هل لزيد مال وبنون فتقول ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب بدلا عن ذلك هذا وكون المراد من القلب السليم القلب السليم عن مرض الكفر والنفاق هو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن سيرين وغيرهم وقال الامام : هو الخالي عن العقائد الفاسدة والميل الى شهوات الدنيا ولذاتها ويتبع ذلك الأعمال الصالحات إذ من علامة سلامة القلب تأثيرها في الجوارح
وقال سفيان : هو الذي ليس فيه غير الله عز و جل وقال الجنيد قدس سره : هو اللديغ من خشية الله تعالى القلق المنزعج من مخافة القطيعة وشاع إطلاق السليم في لسان العرب على اللديغ وقيل : هو الذي سلم من الشرك والمعاصي وسلم نفسه لحكم الله تعالى وسالم أولياءه وحارب أعداءه وأسلم حيث نظر فعرف واستسلم وانقاد لله تعالى وأذعن لعبادته سبحانه والأنسب بالمقام المعنى المأثور وما ذ : ره من تأويلات الصوفية وقال في الكشاف فيما نقل عن الجنيد قدس سره وما بعده : إنه من بدع التفاسير وصدقه أبو حيان بذلك في شأن الأول
وأزلفت الجنة للمتقين
9
- عطف على لاينفع وصيغة الماضي فيه وفيما بعده من الجمل المنتظمة معه في سلك العطف للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره كما أن صيغة المضارع في المعطوف عليه للدلالة على الاستمرار وهو متوجه إلى النفع فيدل الكلام على استمرار انتفاء النفع واستمراره حسبما يقتضيه مقام التهويل أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر وقيل : عنه وعن سائر المعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون بأنهم المحشرون اليها
وبرزت الجحيم للغايون
19
- الضالين عن طريق الحق وهو التقوى والايمان أي جعلت بارزة لهم بحيث يونها مع ما فيها من أنواع الأحوال الهائلة ويتحسرون على أنهم المسوقون اليها وفي اختلاف الفعلين على ماذكره بعض المحققين ترجيح لجانب الوعد لأن التعبير بالازلاف وهو غاية التقريب يشير إلى قرب الدخول وتحققه ولذا قدم لسبق رحمته تعالى بخلاف الابراز وهو الاراءة ولو من بعد فانه مطمع في النجاة كما قيل من العمود إلى العمود فرج وقال ابن كمال في اختلاف الفعلين دلالة على أن أرض الحشر قريبة من الجحيم وحاصله أن الجنة بعيدة من أرض المحشر بعدا مكانيا والنار قريبة منها قربا مكانيا فلذا أسند الأرلاف أي التقريب إلى الجنة دون الجحيم وقيل : ولعله مبني على أن الجنة في السماء وأن النار تحت الأرض وأن تبديل الأرض يوم القيامة بمدها واذهاب كربتها إذ حينئذ يظهر أمر البعد والقرب لكن لايخفى أن كون الجنة في السماء مما يعتقده أهل السنة وليس في ذلك خلاف بينهم يعتد به وأما كون النار تحت الأرض ففيه توقف قال الجلال السيوطي في إتمام الدراية : نعتقد أن الجنة في السماء ونقف عن النار ونقول : محلها حيث
(19/101)

لايعلمه إلا الله تعالى فلم يثبت عندي حديث أعتمده في ذلك : وقيل تحت الأرض انتهى وكون ابديل الأرض بمدها وإذهاب كريتها قول لبعضهم واختار الامام القرطبي بعد ان نقل في التذكرة أحاديث كثيرة ان تبديل الأرض بمعنى أن الله سبحانه يخلق أرضا أخرى بيضاء من فضة لم يسفك عليها دم حرام ولا جرى فيها ظلم قط والأولى أن يقال في بعد الجنة وقرب النار من أرض المحشر : إن الوصول الى الجنة بالعبور على الصراط وهو منصوب على متن جهنم كما نطقت به الاخبار فالوصول الى جهنم أولا وسلى الجنة آخرا بواسطة العبور وهو ظاهر في القرب والبعد ثم أن ظاهر الآية يقتضي أن الجنة تنقل عن مكانها اليوم يوم القيامة إد التقريب يستدعي النقل وليس في الأحاديث على مانعلم ما يدل على ذلك نعم جاء فيها ما يدل على نقل النار
ففي التذكرة أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف رمام مع كل زمام سبعون ألف ملك والظأهر أن معنى يؤتى بها يجاء بها من المحل الذي خلقها الله تعالى فيه وقد صرح بذلك في التذكرة وقال أبو بكر الرازي في أسئلته فان قيل : قال الله تعالى وأزلفت الجنة للمتقين أي قربت والجنة لاتنتقل عن مكانها ولا تحول قلنا : معناه وأزلفت المتقون إلى الجنة وهذا كما يقال الحاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا وقيل : معناه أنها كانت محجوبة عنهم فلما رفعت الحجب بينها وبينهم كان ذلك تقريبا انتهى ويرد على ألاخير أنه يمكن أن يقال مثله في الجحيم وحينئذ يسئل عن وجه اختلاف الفعلين ويرد على القول بأن الجنة لاتنتقل عن مكانها أنه خلاف ظاهر الآية ولا يلزم لصحة القول به نقل حديث يدل على نقلها يومئذ فلا مانع من القول به وتفويض الكيفية إلى علم من لايعجزه شيء وهو بكل شيء عليم وإذا أريد التأويل فليكن ذلك بحمل التقريب على التقريب بحسب الرؤية وإن لم يكن هناك نقل فقد يرى الشيء قريبا وإن كان في نفس الأمر في غاية البعد كما يشاهد ذلك في النجوم وقد يقرب البعيد في الرؤية بواسطة المناظر والآلات الموضوعة لذلك وقد ينعكس الحال بواسطتها أيضا فيرى القريب بعيدا ومتى جاز وقوع ذلك بواسطة الآلات في هذه النشأة جاز أن يقع في النشأة الأخرى بما لايعلمه إلا اللطيف الخبير فتأمل والله تعالى أعلم
وقرأ الأعمش وبرزت بالفتح والتخفيف والجحيم بالرفع على الفاعلية وقيل لهم أين ما كنتم في الدنيا تعبدون
29
- استمرون على عبادته من دون الله أي أين آلهتكم الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاؤكم في هذه الموقف هل ينصرونكم بدفع ما تشاهدون من الجحيم وما فيها من العذاب أو ينتصرون
39
- بدفع ذلك عن أنفسهم وهذا سؤال تقريع لايتوقع له جواب ولذلك قيل : فكبكبوا فيها أي القوا في الجحيم على وجوههم مرة بعد أخرى إلى أن يستقروا في قعرها فالكبكبة تكرير الكب وهو مما ضوعف فيه الفاء كما قال الزجاج وجمهور البصريين وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني فأصل كبكب عندهم كبب فابدل من الباء الثانية كاف وضمير الجمع لما يعبدون من دون الله وهم الاصنام وأكد بالضمير المنفصل أعنى هم وكلا الضميرين للعقلاء واستعملا
(19/102)

في الأصنام تهكما أو بناء على إعطائها الفهم والنطق أي كبكب فيها الاصنام والغاوون
49
- الذين عبدوها
والتعبير عنهم بهذا العنوان دون العابدون للتسجيل عليهم بوصف الغواية وفي تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم يؤخرون في الكبكبة عنها ليشاهدوا سوء حالها فينقطع رجاؤهم قبل دخول الجحيم
وعن السدي أن ضمير كبكبوا مؤكدة لمشركي العرب والغاوون سائر المشركين وقيل : الضمير للمشركين مطلقا ويراد بهم التبعة والغاوون هم القادة المتبعون وقيل الضمير لمشركي الانس مطلقا و الغاوون الشياطين والكل كما ترى ويبعد الأخير قوله تعالى : وجنود ابليس فان الأظهر أن المراد منه الشياطين وإنه عطف على ما قبله والعطف يقتضي المغايرة بالذات في الأغلب ولا حاجة إلى تخريجه على الاقل وجعله من باب :
إلى الملك الندب وابن الهمام
وقيل : المراد بجنود ابليس متبعوه من عصاة الثقلين واختار بعض الأجلة الأول وادعى أنه الوجه لأن السياق والسباق في بيان سوء حال المشركين في الجحيم وقد قال ذلك إبراهيم عليه السلام لقومه المشركين فلا وجاهة لذكر حال قوم آخرين في هذا الحال بل لا وجود لهم في القصة وذكر الشياطين مع المشركين لكونهم المسولين لهم عبادة الاصنام ولايخفى أن للتعميم وجها أيضا من حيث أن فيه مزيد تهويل لذلك اليوم وقوله تعالى : أجمعون
59
- تأكيد للضمير وما عطف عليه
قوله سبحانه قالوا الخ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عما قبله كأنه لما قيل كبكب الآلهة والغاوون عبدتها والشياطين الداعون اليها قيل : فما وقع فقيل : قالوا أي العبدة الغاوون وهم أي الغاوون فيها يختصمون
69
- أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين والجملة في موضع الحال والمراد قالوا معترفين بخطئهم وانهماكهم في الضلالة متحسرين معيرين لأنفسهم والحال أنهم بصدد مخاصمة من معهم مخاطبين لآلهتهم حيث يجعلها الله تعالى أهلا للخطاب تالله إن كنا لفي ضلال مبين
79
- إن مخففة من المثقلة واسمها على ما قيل ضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية كما ذهب اليه البصريون أي إنه أي الشأن كنا في ضلال مبين وذهب الكوفيون إلى أن ان نافية واللام بمعنى إلا أي ما كنا إلا في ضلال واضح لاخفاء فيه ووصفهم له بالوضوح للمبالغة في اظهار ندمهم وتحسرهم وبيان خطئهم في رأيهم مع وضوح الحق كما ينبيء عنه تصديرهم بحرف التاء المشعرة بالتعجب على ما قيل
وقوله سبحانه إذنسويكم برب العالمين
89
- ظرف لكونهم في ضلال مبين وقيل : لمحذوف دل عليه الكلام أي ضللنا وقيل : للضلال المذكور وان كان فيه ضعف صناعي من حيث أن المصدر الموصوف لايعمل بعد الوصف ويهون أمر ذلك كون المعمول ظرفا وقيل : ظرف لمبين وجوز أن تكون إذ تعليلية كما قيل به في قوله تعالى ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية أي تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أولأنا سويناكم أيها الأصنام في استحقاق العبادة برب العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأذلهم وأعجزهم وما أضلنا الا المجرمون
99
- الظأهر بناء على ما تقدم من أن الاختصام مع الأصنام والشياطين أن يكون المراد بالمجرمين الشياطين ليكون ذلك من الاختصام معهم وإن لم يورد على وجه الخطاب كما ان ما تقدم من الاختصام مع الأصنام وكون
(19/103)

المراد بهم ذلك مروي عن مقاتل وفي ارشاد العقل السليم انه بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافهم بصدوره عنهم والمراد بالمجرمين رؤساؤهم وكبراؤهم وفي قوله تعالى ربنا انا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فاضلونا السبيلا وعن السدي هم الأولون الذين اقتدوا بهم وقيل : من دعاهم إلى عبدة الأصنام من الجن والانس وعن ابن جريج أنهم ابليس وابن آدم القاتل لأنه أول من سن القتل والمعاصي والقصر قيل بالنسبة الى الأصنام ولعلهم أرادوا بنفي الاضلال عنها اهانتها بأنها لاقدرة لها وفيه تأكيد لكونهم في ضلال مبين ولعل الأولى كونه قصرا حقيقيا بادعاء أنهم الأوحديون في سببية الاضلال حتى أن سببية غيرهم له كلا سببية وهذا واضح في الشياطين لأن اضلال غيرهم من الكبرياء ونحوهم بواسطة اضلالهم لأنهم الذين يزينون الباطل للمتبوع والتابع ويمكن أن يعتبر في غيرهم بضرب من التأويل وذلك اذا أريد بالمجرمين غيرهم ثم ان المشركين لايزالون في حيرة يوم القيامة لايدرون بم يتشبثون فلا يضر اسنادهم الاضلال تارة الى شيء وأخرى الى غيره على ان الاسناد الى كل باعتبار هذا
وجوز أن يكون الاختصام بين العبدة بعضهم مع بعض والخطاب في نسويكم للاصنام من غير التزام القول بجعلهم أهلا له بل هو كخطاب المضطر للحجر والشجر وفيه مبالغة في التحسر والندامة والمعنى أن العبدة مع تخاصم بعضهم مع بعض بأن يقول أحدهم للآخر : أنت مبدأ ضلالي ولولا أنت لكنت مؤمنا اعترفوا بجرمهم وتعجبوا وبينوا سببه وجوز أيضا أن يكون من الأصنام ينطقهم الله تعالى فيخاصمون العبدة فضميرهم هم عائد عليهم والمعنى قال العبدة معترفين بضلالهم متعجبين منه مبينين سببه : ان كنا الخ والحال ان الأصنام يخاصمونهم قائلين : نحن جمادات متبرئون عن جميع المعاصي وأنتم اتخذتمونا ءالهة فالقيتمونا في هذه الورطة وهدا كله على تقدير كون جملة قالوا مستأنفة كما هو الظاهر وجوز أن يكون جنود ابليس مبتدأ وجملة قالوا الخ خبره وضمير قالوا وكذا ما بعده عائد عليه
وأنت تعلم أنه مع كونه خلاف الظاهر لايتسنى على تقدير أن يراد بجنود ابليس الشياطين لما أن المقول المذكور لايصح أن يكون وإذا أريد بهم متبعه من عصاة الثقلين عبدة الاصنام وغيرهم يرد أن المقول المذكور قول فرقة منهم وهي العبدة فاسناده الى الجميع خلاف الظاهر ويبعد كل البعد بل لو قيل بفساده لم يبعد احتمال كون كل شخص سواء كان من عبدة الأصنام أو غيره يخاصم مع كل من يصادفه من غير صلاحية الآخر للاختصام ويقول ما ذكر للأصنام لغاية الحيرة والضجرة نعم لو أريد بجنود ابليس على تقدير كونه مبتدأ للاختصام ويقول ما ذكر للأصنام لغاية الحيرة والضجرة نعم لو أريد بجنود ابليس على تقدير كونه مبتدأ ورجوع الضمائر اليه الغاوون بعينهم وتكون الاضافة للعهد والتعبير عنهم بهذا العنوان بعد التعبير عنهم العنوان السابق لتذليلهم لم يبعد جدا ومن الناس من جوز الابتدائية والخبرية المذكورتين وفسر الجنود باعصاة مطلقا وجعل ضمير قالوا للغوون وضمير هم ويختصمون للجنود أو للأصنام وفيه مع خروج الآية عليه عن حسن الانتظام مالايخفى على ذوي الأفهام
وقوله تعالى فمالنا شافعين
1
- ولا صديق حميم
101
- مرتب على ما اعترفوا به من عظم الجناية وظهور الضلالة والمراد المتلهف والتأسف على فقد شفيع يشفع لهم مما هم فيه أو صديق شفيق يهمه ذلك وقد ترقوا لمزيد انحطاط حالهم في التأسف حيث نفوا أولا أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعته
(19/104)

ونفوا ثانيا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وان لم يخلصهم وأتي بالشافع في سياق النفي جمعا وإن كان حكم هذا الجمع في الاستغراق لمكان من الزائدة حكم المفرد بلا خلاف إنما الخلاف فيما إذا لم تزد من بعد النفي داخلة على الجمع رعاية لما كانوا يأتون به في الاثبات من الجمع
وقال في الكشاف : جمع الشافع لكثرة الشفعاء ووحد الصديق لقلته ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بارهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده رجمة له وحسبه ان لم تسبق له بأكثرهم معرفة وأما الصديق الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فهو أعز من بيض الانوق ويجوز أن يريد بالصديق الجمع أي فانه يطلق عليه لما أنه على زنة المصدر بخلاف الشافع وذكر البيضاوي في توحيد الصديق وجها آخر أيضا وهو أن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء وحاصله أن الواحد في معنى الجمع بحسب العادة فلذا اكتفى به لما فيه من المطابقة المعنوية كما قيل : الناس الف منهمو كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا وقال بعض الكملة : إن ايراد الشافعين بصيغة الجمع لمجرد مصلحة الفاصلة وأما إيراد الصديق مفردا فلأن المقام مقام المفرد ومصلحة الفاصلة حصلت قبله وهو كما ترى وقال سعد افندي لايبعد أن يكون جمع الأول وافراد الثاني إشارة إلى أنه لافرق بين الاستغراقين وفيه أن إيثار صيغة لافادة مسئلة عربية ليس من دأب القرآن المجيد والذي أميل اليه أن الافراد على الأصل والجمع وإن أدى مؤداه على سنن ما كانوا يقولونه ويزعمونه في الدنيا من تعدد الشفعاء ولا يضر في ذلك كون المنفي هنا أعم من المثبت هناك من حيث شموله للاصنام والكبراء والملائكة والانبياء عليهم السلام كما هو المتبادر إلى الفهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة عن ابن جريج أن المعنى فما لنا من شافعين من أهل السماء ولا صديق حميم من أهل الأرض
وزعم بعضهم أنهم عنوا بالشافعين هنا ما عنوا بالمجرمين من كبرائهم وساداتهم وفرعوا النفي على قولهم ما أضلنا الا المجرمون فكأنهم قالوا : سادتنا وكبراؤنا الذين أضلونا مجرمون معذبون مثلنا فلم يقدروا على السعي في نفعنا والشفاعة لنا وفي الكشاف فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين ولا صديق كما نرى لهم أصدقاء فانه لايتصادق في الآخرة إلا المؤمنون قال تعالى الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين أو فما لنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى وكان لهم الأصدقاء من شياطين الانس أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والاصدقاء لاينفعونهم ولا يدفعون عنهم فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق من النفع لأن مالا ينفع حكمه حكم المعدوم انتهى
والظاهر على هذا الأخير أن الكلام كناية عن شدة الأمر بحيث لاينفع فيه أحد ولو ادنى نفع وهو وجه وجيه والوجه الأول لايكاد يتسنى على مذهب المعتزلة الذين لايجوزون الشفاعة في الخلاص من النار بعد دخولها أو قبله لأن الظاهر من قولهم فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبين فما لنا من شافعين يخلصونا من النار كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين يخلصونهم منها فارتضاه الزمخشري لهذا الوجه غريب اللهم إلا أن يقال : المراد التشبيه باعتبار مطلق الشفاعة والمعتزلة
(19/105)

يجوزون بعض أصنافها كالشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لكن لايخلو عن بعد والله تعالى أعلم و لو في قوله تعالى فلو أن لنا كرة مستعملة في التمني بدليل نصب قوله سبحانه فنكون من المؤمنين
201
- في جوابها وأصلها لو الامتناعية وحيث أن التمني يكون لما يمتنع أريد أريد بها ذلك مجازا مرسلا أو استعارة تبعية ثم شاع حتى صارت كالحقيقة في ذلك وقيل : هي حقيقة فيما ذكر وقيل : أصلها المصدرية وليس بشيء
والمعنى فليت لنا رجعة إلى الدنيا فان نكون من المؤمنين فلا ينالنا إذا متنا فبعثنا مثل ما نحن فيه من العذاب الذي لاينفع فيه أحد وجوز كون لو شرطية وجوابها محذوف والتقدير لفعلنا من الخيرات كيت وكيت أو لخلصنا من العذاب أو لكان لنا شفعاء وأصدقاء أو ما أضلنا المجرمون والتقدير الأول أجزل ويقدر المحذوف بعد فنكون الخ لأن المصدر المتحصل منه معطوف على كرة أي فلو أن لنا كرة فنكونا من المؤمنين لفعلنا الخ
وتعقب شيخ الاسلام ذلك بأنه إنما يفيد تحقق مضمون الجواب على تقدير تحقق كرتهم وإيمانهم معا من غير دلالة على استلزام الكرة للايمان أصلا مع أن المقصود حتما وفي قوله : من غير دلالة الخ بحث على ما قيل حيث يمكن أن يقال : حاصل الآية إن تيسر لنا الرجعة والايمان المتعقب إياها لفعلنا من عبادات أهل الأيمان ما يقصر عنه العبارة والتزام ثمرات الايمان التزام للايمان أولا ومقصودهم بيان استلزام الرجعة لفعل الخيرات كلها وأما نفس الايمان بعد هذه المشاهدة فلا يحتاج إلى البيان
وقال بعض الناس : إن قولهم فنكون من المؤمنين بمعنى فنكون من المقبول ايمانهم وقبول الله تعالى إيمانهم لايترتب على رجعتهم البتة بل يجوز أن يتخلف فلابد أن يكون مرادهم ان تيسر لنا الرجعة وان قبل ايماننا لفعلنا الخ فليس المقصود الدلالة على استلزام الكرة للايمان كما زعم شيخ الاسلام ونوقش فيه بان تيسر الرجعة إنما يكون لرحمة الله تعالى وعفوه وهي تستلزم قبول ايمانهم والحق أنه لاينبغي الالتفات الى احتمال شرطية لو والتكلف له مع جزالة المعنى الأظهر المتبادر والكلام في قوله تعالى : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين
301
- وإن ربك لهو العزيز الرحيم
401
- قد تقدم آنفا فلا حاجة الى اعادته وقد علمت مختارنا في ذلك فتذكر فما في العهد من قدم ولشيخ الاسلام كلام في هذه الآية لايخفى ما فيه على المتأمل فتأمل كذبت قوم نوح المرسلين
501
- القوم كما في المصباح يذكر ويؤنث وكذلك كل أسم جمع ولا واحد له من لفظه نحو رهط ونفر ولذا يصغر على قويمة وقيل : هو مذكر ولحقت فعله علامة التأنيث على إرادة الأمة والجماعة منه تكذيبهم المرسلين باعتبار إجماع الكل على التوحيد وأصول الشرائع التي لاتختلف باختلاف الأزمنة والاعصار وجوز أن يراد بالمرسلين نوح عليه السلام بجعل اللام للجنس فهو نظير قولك : فلان يركب الدواب ويلبس البرود وماله إلا دابة واحدة وبرد واحد و إذ في قوله تعالى : إذ قال لهم ظرف للتكذيب على أنه عبارة عن زمان مديد وقع فيه ما وقع من الجانبين الى تمام الأمر كما أن تكذيبهم عبارة عما ثدر منهم حين ابتداء دعوته عليه السلام الى انتهائها وزعم بعضهم أن إذ للتعليل أي كذبت لأجل أن قال لهم : أخوهم نوح أي نسيبهم كما يقال : يا أخا العرب ويا أخا تميم وعلى ذلك قوله :
(19/106)

لايسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا والضمير لقوم نوح وقيل : هو للمرسلين والأخوة المجانسة وهو خلاف الظاهر ألا تتقون
601
- الله عز و جل حيث تعبدون غيره اني لكم رسول من الله تعالى أرسلني لمصلحتكم أمين
701
- مشهور بالامانة فيما بينكم وقيل : أمين على أداء رسالته جل شأنه فاتقوا الله وأطيعون
801
- فيما أمركم من التوحيد والطاعة لله تعالى وقدم الامر بتقوى الله تعالى على الأمر بالطاعة لأن تقوى الله تعالى سبب لطاعته عليه السلام وما أسئلكم عليه أي على ما أنا متصد له من الدعاء والنصح من أجر أي ما أطلب منكم على ذلك أجرا أصلا لا مالا ولا غيره إن أجري فيما أتولاه إلا على رب العالمين
901
- فهو سبحانه الذي يؤجرني في ذلك تفضلا من لا غيره والفاء في قوله تعالى : فاتقوا الله وأطيعون
11
- لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزهه عليه السلام من الطمع كما أن نظيرتها السابقة لترتيب ما بعدها على كونه رسولا من الله تعالى بما فيه نفع الدارين مع أمانته والتكرير للتأكيد والتنبيه على أن كلا منهما مستقل في إيجاب التقوى والطاعة فكيف إذا اجتمعا وقريء إن أجري بسكون الياء وهو والفتح لغتان مشهورتان في مثل ذلك اختلف النحاة في أيتهما الأصل
قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون
111
- أي وقد أتبعك على أن الجملة في موضع الحال وقد لازمه فيها إذا كان فعلها ماضيا وكثير من الأجلة لايوجب ذلك وقرأ عبد الله وابن عباس والاعمش وأبو حيوة والضحاك وابن السميقع وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري وطلحة ويعقوب واتبعك جمع تابع كصاحب وأصحاب وقيل : جمع تبيع كشريف واشراف وقيل : جمع تبع كبطل وأبطال وهو مرفوع على الابتداء و الارذلون خبره والجملة في موضع الحال أيضا وقيل : معطوف على الضمير المستتر في نؤمن وحسن ذلك للفصل بلك و الارذلون صفته ولايخفى أنه ركيك معنى وعن اليماني واتباعك بالجر عطفا على الضمير في لك وهو قليل وقاسه الكوفيون و الارذلون رفع باضمارهم وهو جمع الارذل على الصحة والرذالة الخسة والدناءة والظاهر انهم إنما استرذلوا المؤمنين به عليه السلام أعمالهم يدل عليه قوله في الجواب : قال وما علمي بما كانوا يعملون
211
- أي ما وظيفتي الا اعتبار الظواهر وبناء الأحكام عليها دون التجسس والتفتيش عن البواطن وما استفهامية وقال الحوفي والطبرسي نافية وعليه يكون في الكلام حذف أي وما علمي بما كانوا يعملون ثابت ان حسابهم أي محاسبتهم عل ما يعملون إلا على ربي فاعتبار البواطن من شؤنه عز و جل وهو المطلع عليها لو تشعرون
311
- أي بشيء من الأشياء أولو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك لكنكم لستم كذلك فلذا قلتم ما قلتم وأل على هذا الوجه للجنس وقال جمع : إن استرذالهم إياهم لقلة نصيبهم من الدنيا وقيل : لكونهم من أهل الصناعات الدنيئة وقد كانوا كما روي عن عكرمة حاكة وأساكفة وقيل : لاتضاع نسبهم ومنشأ ذلك على الجميع سخافة عقولهم وقصور أنظارهم لأن الفقر ليس من الرذالة في شيء
(19/107)

قد يدرك المجد الفتى ورداؤه خلق وجيب قميصه مرقوع وكذا خسة الصناعة لاتزري بالشرف الأخروي ولا تلحق التقى نقيصة عند الله عز و جل وقد أنشد أبو العتاهية : وليس على عبد تقي نقيصة إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم ومثلها صفة النسب فقد قيل : أبي الاسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم وما ذ : ره الفقهاء من باب الكفاءة مبني على عرف العامة لانتظام أمر المعاش ونحوه على أنه روي عن الامام مالك عدم اعتبار شيء من ذلك أصلا وأن المسلمين كيفما كانوا أكفاء بعضهم لبعض وأل على هذه الاقوال للعهد
والجواب بما ذكر عما أشاروا اليه بقولهم ذلك من أن إيمانهم لم يكن عن نظر وبصيرة وإنما كان لحظ نفساني كحصول شوكة بالاجتماع ينتظمون بها في سلك ذوي الشرف ويعدون بها في عدادهم وحاصله وما وظيفتي الا اعتبار الظواهر دون الشق عن القوب والتفتيش عما في السرائر فما يضرني عدم اخلاصهم في ايمانهم كما تزعمون وجوز أن يقال : إنهم لما قالوا واتبعك الارذلون وعنوا الذين لانصيب لهم من الدنيا أو الذين اتضعت انسابهم أو كانوا من أهل الصنائع الدنيئة تغابى عليه السلام عن مرادهم وخيل لهم أنهم عنوا بالارذلين من لا اخلاص له في العمل ولم يؤمن عن نظر وبصيرة فأجابهم بما ذكر كأنه ما عرف من الأرذلين إلا ذلك ولو جعل هذا نوعا من الاسلوب الحكيم لم يبعد عندي وفيه من لطف الرد عليهم وتقبيح ما هم عليه ما لايخفى وزعم بعضهم أنهم عنوا بالارذلين نساءه عليه السلام وبنيه وكناته وبني بنيه واسترذالهم لعضة النسب لايتصور في جميعهم حقيقة كما لايخفى فلابد عليه من اعتبار التغليب ونحوه وقرأ الأعرج وأبو زرعة وعيسى بن عمر الهمداني يشعرون بباء الغيبة وقوله تعالى وما أنا بطارد المؤمنين
411
- جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك حيث جعلوا اتباعهم مانعا عنه وقد نزلوا لذلك منزلة من يدعي أنه عليه السلام ممن يطرد المؤمنين وأنه ممن يشترك معه فيه فقدم المسند اليه وأولى حرفي النفي لافادة أن ذلك ليس شأنه بل شأن المخاطبين
وجوز أن يكون التقديم للتقوى وهو أقل مؤنة كما لايخفى وقيل : انهم طلبوا منه عليه السلام طردهم فاجابهم بذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه و سلم طرد من آمن به من الضعفاء فنزلت ولاتطرد الذين يدعون ربهم الآية وقوله تعالى إن أنا إلا نذير مبين
511
- كالعلة أي ما أنا إلا رسول مبعوث لانذار المكلفين وزجرهم عما لايرضيه سبحانه وتعالى سواء كانوا من الأشرفين أو الأرذلين فكيف يتسنى لي طرد من زعمتم أنهم أرذلون
وحاصله أنا مقصور علئ انذار المكلفين لا اتعداه إلى طرد الارذلين منهم أو ما علي إلاانذاركم بالبرهان الواضح وقد فعلته وما علي استرضاء بعضكم بطرد الآخرين وحاصله أنا مقصور علي انذاركم لااتعداه إلى استرضائكم
وقيل : إن مجموع الجملتين جواب وإن ايلاء الضمير حرف النفي يدل على أنهم زعموا أنه عليه السلام موصوف بصفتين إحداهما اتباع أهوائهم بطرد المؤمنين لأجل أن يؤمنوا وثانيتهما أنه نذير مبين فقصر الحكم على الثاني دون الأول ولا يخلو عن بحث قالوا لئن لم تنته يا نوح عما أنت عليه لتكونن من المرجومين
611
- أي المرميين بالحجارة كما روي عن قتادة وهو توعد بالقتل كما روي عن الحسن وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن المعنى من المشتومين على أن الرجم مستعار للشتم كالطعن وفي ارشاد العقل السليم أنهم قاتلهم
(19/108)

الله تعالى قالوا ذلك في أواخر الأمر ومعنى قوله تعالى : قال رب ان قومي كذبون
711
- استمروا على تكذيبي وأصروا عليه بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة ولم يزدهم دعائي إلا فرارا وهذا ليس باخبار بالاستمرار على التكذيب لعلمه عليه السلام أن عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد اظهار ما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لاتخويفهم له واستخفافهم به في قولهم لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين تلطفا في فتح باب الاجابة وقيل : لدفع توهم الخلق فيه المتجاوز أو الحدة وقيل : إنه خبر لم يقصد منه الاعلام أصلا وإنما أورد لغرض التحزن والتفجع كما في قوله : قومي هم قتلوا أميم أخي فلئن رميت يصيبني سهمي ويبعد ذلك في الجملة تفريع الدعاء عليهم بقوله تعالى : فافتح بيني وبينهم فتحا على ذلك أي احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا من الفتاحة بمعنى الحكومة و فتحا مصدر وجوز أن يكون مفعولا به على أنه بمعنى مفتوحا هذه حكاية إجمالية لدعائه عليه السلام المفصل في سورة نوح ونجني ومن معي من المؤمنين
811
- أي من قصدهم أو شؤم أعمالهم وفيه إشعار بحلول العذاب بهم فأنجيناه ومن معه على حسب دعائه عليه السلام في الفلك المشحون
911
- أي المملوء بهم وبما يحتاجون اليه حالا كالطعام أو مالا كالحيوان
والفلك يستعمل واحد وجمعا وحيث أتى في اقرآن الكريم فاصلة استعمل مفردا أو غير فاصلة استعمل جمعا كما في البحر ثم أغرقنا بعد أي بعد إنجائهم و ثم للتفاوت الرتبي ولذا قال سبحانه بعد بعد الباقين
21
- أي من قومه
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين
121
- وإن ربك لهو العزيز الرحيم
221
- الكلام فيه نظير الكلام فيما تقدم وكذا الكلام في قوله تعالى كذبت عاد المرسلين
321
- بيد أن تأنيث الفعل هنا باعتبار أن المراد بعاد القبيلة وهو أسم أبيهم الأقصى وكثير ما يعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة بالأب وقد يعبر عنها ببني أو بآل مضافا اليه فيقال : بنو فلان أو ءال فلان وكذأ الكلام في قوله سبحانه : إد قال لهم أخوهم هود ألا تتقون
421
- اني لكم رسول أمين
521
- فاتقوا الله وأطيعون
621
- وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
721
- وحكاية الأمر بالتقوى والاطاعة ونفي سؤال الأجر في القصص الخمس وتصديرها بذلك للتنبيه على ان مبنى البعثة هو الدعاء الى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب وأن الأنبياء عليهم السلام مجتمعون على ذلك وإن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة والاعصار وأنهم عليهم السلام منرهون عن المطامع الدنيوية بالكلية
ولعله لم يسلك هدا المسلك في قصتي موسى وابراهيم عليهما السلام تفننا مع ذكر ما يشعر بذلك وقيل : ان ما ذكر ثمة أهم وكانت منازل عاد بين عمان وحضرموت وكانت أخصب البلاد وأعمرها فجعلها الله تعالى مفاوز ورمالا ويشير الى عمارتها قوله تعالى أتبنون بكل ريع أي طريق كما روي عن ابن عباس وقتادة
وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن الريع الفج بين الجبلين وعن أبي صخر أنه الجبل والمكان
(19/109)

المرتفع عن الأرض وعن عطاء أنه عين الماء والأكثرون على أنه المكان المرتفع وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومنه ريع النبات وهو ارتفاعه بالزيادة والنماء
وقرأ ابن أبي عبلة ريع بفتح الراء ءاية أي علما كما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه وقيل : قصرا عاليا مشيدا كأنه علم واليه ذهب النقاش وغيره واستظهره ابمن المنير ويمكن حمل ما روي عن الحبر عليه وحينئذ فقوله تعالى : تعبثون
821
- على معنى تعبثون ببنائها لما أنهم لم يكونوا محتاجين اليها وانما بنوها للفخر بها
والعبث مالا فائدة فيه حقيقة أو حكما وقد ذم رفع البناء لغير غرض شرعي في شريعتنا أيضا وقيل : ان عبثهم في ذلكمن حيث أنهم بنوها ليهتدوا بها في اسفارهم والنجوم تغني عنها واعترض بأن الحاجة تدعو لذلك لغيم مطبق أو ما يجري مجراه وأجيب بأن الغيم نادر لاسيما في ديار العرب مع أنه لو احتيج اليها لم يحتج الي أن تجعل في كل ريع فيكون بناؤها كذلك عبثا
وقال الفاضل اليمني : إن أماكنها المرتفعة تغني عنها فهي عبث وقيل : كانوا يبنون ذلك ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم : روي ذلك عن الكلبي والضحاك وعن مجاهد وابن جبير أن الآية برج الحمام كانوا يبنون البروج في كل ريع ليلعبوا بالحمام ويلهوا به وقيل : بيت العشار يبنونه بكل رأس طريق فيجلسون فيه ليعشروا مال من يمر بهم وله نظير في بلادنا اليوم ولا مستعان إلا بالله العلي العظيم
والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة على بعض الأقوال وتتخذون أي تعملون مصانع أي مآخذ للماء ومجاري تحت الأرض كما روي عن قتادة وفي رواية أخرى عنه أنها برك الماء وعن مجاهد أنها القصور المشيدة وقيل : الحصون المحكمة وأنشدوا قول لبيد :
وتبقى جبال بعدنا ومصانع
وليس بنص في المدعى لعلكم تخلدون
921
- أي راجين أن تخلودوا في الدنيا أو عاملين عمل من يرجو الخلود فيها فلعل على بابها من الرجاء وقيل : هي للتعليل وفي قراءة عبد الله كي تخلدون
وقال ابن زيد : هي للاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم أي هل أنتم تخلدون وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : المعنى كأنكم خالدون وقريء بذلك كما روي عن قتادة وفي حرف أبي كأنكم تخلدون وظاهر ما ذكر أن لعل هنا للتشبيه وحكى ذلك صريحا الواقدي عن البغوي
وفي البرهان هو معنى غريب لم يذكره النحاة ووقع في صحيح البخاري أن لعل في الآية للتشبيه انتهى
وقرأ قتادة تخلدون مبنيا للمفعول مخففا ويقال : خلد الشيء أخلده غيره وقرأ أبي وعلقمة تخلدون مبنيا للمفعول مشددا كما قال الشاعر : وهل يعمن الا سعيد مخلد قليل هموم ما يبيت بأوجال وإذا بطشتم أي أردتم البطش بسوط أو سيف بطشتم جبارين
31
- مسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العاقبة وأول الشرط بما ذكر ليص التسبب وتقييد الجزاء بالحال لايصححه لأن المطلق ليس سببا للمقيد وقيل : لايضر الاتحاد لقصد المبالغة وقيل : الجزائية باعتبار الاعلام والاخبار وهو كما ترى نظير الآية قوله
متى تبعثوها تبعثوها دميمة
ودل توبيخه عليه السلام إياهم بما ذكر على استيلاء حب
(19/110)

الدنيا والكبر على قلوبهم حتى أخرجهم ذلك عن حد العبودية فاتقوا الله واتركوا هذه الأفعال وأطيعون
131
- فيما أدعوكم اليه فانه أنفع لكم وأتقوا الذي أمدكم بما تعملون
231
- أي بالذي تعرفونه من النعم فما موصولة والعائد محذوف والعلم بمعنى المعرفة وقوله تعالى أمدكم بأنعام وبنين
331
- منزل منزلة بدل البعض كما ذ : ره غير واحد من أهل المعاني ووجهه عندهم أن المراد التنبيه على نعم الله تعالى والمقام بمقتضى اعتناء بشأنه لكونه مطلوبا في نفسه أو ذريعة إلى غيره من الشكر بالتقوى وقوله سبحانه أمدكم بانعام الخ أو في بتأدية ذلك المراد لدلالته على النعم بالتفصيل من غير إحالة على علم المخاطبين المعاندين فوازنه وزان وجهه في أعجبني زيد وجهه لدخول الثاني في الأول لأن ما تعلمون يشمل الانعام وما بعدها من المعطوفات ولا يخفى ما في التفصيل بعد الاجمال من المبالغة وفي البحر أن قوله تعالى بانعام على مذهب بعض النحويين بدل من قوله سبحانه بما تعلمون وأعيد العامل كقوله تعالى اتبعوا المرسلين اتبعوا من لايسألكم أجرا والاكثرون لايجعلون مثل هذا ابدالا وإنما هو عندهم من تكرار الجمل وإن كان المعنى واحد ويسمى التتبيع وإنما يجوز أن يعاد العامل عندهم إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به نحو مررت بزيد بأخيك انتهى
ونقل نحوه عن السفاقسي وقال أبو حيان : الجملة مفسرة لما قبلها ولا موضع لها وبدأ بذكر الانعام لأنها تحصل بها للرياسة والقوة على العدو والغنى الذي لاتكمل اللذة بالبنينوغيرهم في الأغلب إلا به وهي أحب الاموال إلى العرب ثم البنين لأنهم معينوهم على الحفظ والقيام عليها ومن ذلك يعلم وجه قرنها ووجه قرن الجنات والعيون في قوله تعالى : وجنات وعيون
431
- ظاهر وكذا وجه قرنها مع الأنعام وقوله سبحانه إني أخاف عليكم الخ في موضع التعليل أي إني أخاف عليكم إن لم تتقوا وتقدموا بشكر هذ النعم : عذاب يوم عظيم
531
- في الدنيا والآخرة فان كفران النعمة مستببع للعذاب كما أن شكرها مستلزم لزيادتها قال تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد وعلل بما ذكر دون استلزام التقوى للزيادة لأن زوال النعمة يحزن فوق ما تسر زيادتها ودرء المضار مقدم على جلب المنافع : قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين
631
- فانا لانرعوي عما نحن عليه قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به عليه السلام وعدولوا عن أم لم تعظ الذي يقتضيه الظاهر للمبالغة في بيان قلة اعتدادهم بوعظه عليه السلام لما في كلامهم على ما في النظم الجليل من استواء وعظه والعدم الصرف البليغ وهو عدم كونه من عداد الواعظين وجنسهم وقيل : في وجه المبالغة افادة كان الاستمرار و الواعظين الكمال باعتبارهما بقرينة المقام بعد النفي أي سواء علينا أوعظت أم استمر انتفاء كونك من زمرة من يعظ انتفاء كاملا بحيث لايرجى منه نقيضه وقال في البحر إن المقابلة بما ذكر لأجل الفاصلة كما في قوله تعالى سواء عليكم أدعوتموهم أم انتم صامتون وكثير ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه وليس بشيء كما لايخفى وروي عن أبي عمرو والكسائي ادغام الظأء في التاء في وعظت وبالادغام قرأ ابن محيصن والاعمش إلا أن الاعمش زاد ضمير المفعول فقرأ أوعظتنا وينبغي أن يكون اخفاء لأن الظاء مجهورة مطبقة والتاء مهموسة منفتحة فالظاء أقوى منها والادغام إنما يحسن في المتماثلين أو في المتقاربين إذا كان الأول أنقص من الثاني
(19/111)

وأماوأما ادغام الاقوى في الأضعف فلا يحسن وإدا جاء شيء من ذلك في القرآن بنقل الثقات وجب قبوله وإن كان غيره أفصح وأقيس وقوله تعالى : إن هذا الا خلق الأولين
731
- تعليل لما ادعوه من المساواة أي ما هذا الذي جئتنا به الاعادة الاولين يلفقون مثله ويدعون اليه أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة الأولين الذين تقدمونا من اةباء وغيرهم ونحن بهم مقتدون وقرأ أبو قلابة والاصمعي عن نافع خلق بضم الخاء وسكون اللام والمعنى عليه كما تقدم
وقرأ عبد الله وعلقمة والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكسائي خلق بفتح الخاء وسكون اللام أي ما هذا إلا اختلاق الاولين وكذبهم ويؤيد هذا المعنى ماروى علقمة عن عبد الله أنه قرأ إلا اختلاق الاولين ويكون هذا كقول سائر الكفرة أساطير الاولين أو ما خلقنا هذا إلا خلق الاولين نحيى كما حيوا ونموت كما ماتوا ومرادهم إنكار البعث والحساب المفهوم من تهديدهم بالعذاب ولعل قولهم : وما نحن بمعذبين
831
- أي على ما نحن عليه من الأعمال أصرح في ذلك فكذبوه أي أصروا على تكذيبه عليه السلام فأهلكناهم بسببه بريح صرصر
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين
931
- وإن ربك لهو العزيز الرحيم
41
- كذبت ثمود المرسلين
141
- هو اسم أعجمي عند بعض والاكثرون على أنه عربي وترك صرفه لأنه اسم قبيلة وهو مفعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لامادة له ومنه قيل فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفد مادة ماله أو ما يبقى في الجلد أو ما يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف وفي القاموس ثمود قبيلة ويصرف وتضم الثاء وقريء به أيضا وفي سبئك الذهب أنه في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم نقل وجعل اسما لها ووجه تأنيث الفعل هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى : كذبت عاد وكذا الكلام في قوله سبحانه : إذ قاله لهم أخوهم صالح ألا تتقون
241
- إني لكم رسول أمين
341
- فاتقوا الله وأطيعون
441
- وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
541
- كالكلام فيما تقدم وقوله تعالى أتتركون في ما ههنا آمنين
641
- انكار لأن يتركوا فيما هم فيه من النعمة آمنين عن عذاب يوم عظيم فالاستفهام مثله في قوله تعالى السابق : أتبنونوقوله تعالى اللاحق : أتأتون وكأن القوم اعتقدوا ذلك فانكره عليه السلام عليهم وجوز أن يكون الاستفهام للتقرير تذكيرا للنعمة في تخليه تعالى إياهم وأسباب نفعهم آمنين من العدو ونحوه واستدعاء لشكر ذلك الايمان
وفي الكشف أن هذا أوفق في هذا المقام وما موصولة وههنا اشارة إلى المكان الحاضر القريب أي أتتركون في الذي استقر في مكانكم هذا من النعمة وقوله تعالى في جنت وعيون
741
- وزروع ونخل طلعها هضيم
841
- بدل من ما ههنا باعادة الجار كما قال أبو البقاء وغيره وفي الكلام اجمال وتفصيل نحو ما تقدم في قصة عاد
وجوز أن يكون ظرفا لآمين الواقع حالا وليس بذاك والهضيم الداخل بعضه في بعض كأنه هضم أي شدخ وسال عنه نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال له : المنضم بعضه إلى بعض فقال : وهل تعرف العرب ذلك قال نعم أما سمعت قول امريء القيس : دار لبيضاء العوارض طفلة مهضومة الكشحين ريا المعصم
(19/112)

وقال الزهري : هو اللطيف أول ما يخرج وقال الزجاج : هو الذي رطبه بغير نوى وروي عن الحسن
وقيل : هو المتدلي لكثرة ثمره وقيل : هو النضيج من الرطب وروي عن عكرمة وقيل : الرطب المذنب وروي عن يزيد بن أبي زياد فوصف الطلع بالهضيم إما حقيقة أو مجازا وهو حقيقة وصف لثمره وجعل بعضهم على بعض ألاقوال الطلع مجازا عن الثمر لأوله اليه والنخل اسم جنس جمعي يذكر كما في قوله تعالى كأنهم أعجاز نخل منقعر ويؤنث كما هنا وليس ذلك لأن المراد به الاناث فانه معلوم بقرينة المقام ولو ذكر الضمير
وافراده بالذكر مع دخوله في الجنات لفضله على سائر أشجارها أو لأن المراد بها غيره من الاشجار
وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين
941
- أي أشرين بطرين كما روي عن ابن عباس ومحمد بن العلاء وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس تفسيره بنشطين مهتمين وقال أبو صالح : أي حاذقين وبذلك فسره الراغب
وقال ابن زيد : أي اقوياء وأنت تعلم أن هذه الجملة داخلة في حيز الاستفهام السابق والأوفق به على القول الأول القول الأول وعلى القول الثاني كل من الأقوال الباقية وكلها سواء في ذلك إلا أنه يفهم من كلام بعضهم أن الفراهة حقيقة في النشاط مجاز في غيره وعليه يترجح تفسيره بنشطين إذا أريد التذكير
وقرأ ابو حيوة وعيسى والحسن تنحتون بفتح الحاء وقريء تنحاتون بألف بعد الحاء إشباعا وعن عبد الرحمن بن محمد عن ابيه أنه قرأ ينحتون بالياء آخر الحروف وكسر الحاء وعن أبي حيوة والحسن أيضا أنهما قرآ بالياء التحتية وفتح الحاء وقرأ عبد الله وابن عباس وزيد بن علي والكوفيون وابن عامر فارهين بألف بعد الفاء وقراءة الجمهور أبلغ لما ذكروا في حاذر وحذر وقرأ مجاهد متفرهين فاتقوا الله وأطيعون
51
- ولا تطيعوا أمر المسرفين
151
- كأنه عنى بالخطاب جمهور قومه وبالمسرفين كبراءهم واعلامهم في الكفر والاضلال وكانوا تسعة رهط ونسبة الاطاعة إلى الامر مجاز وهي للآمر حقيقة وفي ذلك من المبالغة ما لايخفى وكونه لايتناسب المقام فيه بحث ويجوز أن تكون الاطاعة مستعارة للامتثال لما بينهما من الشبه في الافضاء إلى فعل ما أمر به أو مجازا مرسلا عنه للزومه له ويحتمل أن يكون هناك استعارة مكنية وتخييلية وجوز عليه أن يكون الأمر واحد الأمور وفيه من البعد ما فيه والاسراف تجاوز الحد في كل ما يفعله الانسان وإن كان ذلك في الانفاق أشهر والمراد به هنا زيادة الفساد وقد أوضح ذلك على ما قيل بقوله تعالى : الذين يفسدون في الأرض ولعل المراد ذمهم بالضلال في أنفسهم بالكفر والمعاصي وإضلالهم غيرهم بالدعوة لذلك وللايماء إلى عدم اختصاص شؤم فعلهم بهم حثا على امتثال النهي قيل في الأرض والمراد بها أرض ثمود وقيل : الأرض كلها ولما كان يفسدون لاينافي إصلاحهم احيانا أردف بقوله تعالى : ولايصلحون
251
- لبيان كمال افسادهم وأنه لم يخالطه إصلاح أصلا قالوا إنما أنت من المسحرين
351
- أي الذين سحروا كثيرا حتى غلب على عقولهم وقيل : أي من ذوي السحر أي الرئة فهو كناية عن كونه من الاناسي فقوله تعالى : ما أنت إلا بشر مثلنا على هذا تأكيد له وعلى الأول هو مستأنف للتعليل أي أنت مسحور لأنك بشر مثلنا لاتميز لك علينا فدعواك إنما هي لخلل في عقلك فأت
(19/113)

على صحة دعواك إن كنت من الصادقين
451
- فيها قال هذه ناقة أي بعد ما أخرجها الله تعالى بدعائه
روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من صخرة عينوها ثم تلد سقبا فقعد عليه السلام يتذكر فقال له جبريل عليه السلام صل ركعتين وسل ربك ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم فعند ذلك قال لهم : هذه ناقة لها شرب أي نصيب مشروب من الماء كالسقي والقيت للنصيب من السقي والقوت وكان هذا الشرب من عين عندهم
وفي مجمع البيان عن علي كرم الله تعالى وجهه أن تلك العين أول عين نبعت في الأرض وقد فجرها الله عز و جل لصالح عليه السلام ولكم شرب يوم معلوم
551
- فاقتنعوا بشربكم ولاتزاحموها على شربها
وقرأ ابن أبي عبلة شرب بضم الشين فيهما واستدل بالآية على جواز قسمة ماء نحو الآبار على هذا الوجه ولا تمسوها بسوء كضرب وعقر فيأخذكم عذاب يوم عظيم
651
- وصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه وهو أبلغ من عظم العذاب وهذا من المجاز في النسبة وجعل عظيم صفة عذاب والجر للمجاورة نحو هذا جحر ضب خرب ليس بشيء فعقروها نسب العقر اليهم كلهم مع أن عاقرها واحد منهم وهو قدار بن سالف وكان نساجا على ما ذ : ره غير واحد وجاء في رواية أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت ثم ضربها قدار لما روي أن عاقرها قال : لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين فكانوا يدخلون على المرأة في خدرهافيقول أترضين فتقول : نعم وكذلك الصبيان فرضوا جميعا وقيل : لأن العقر كان بأمرهم ومعاونتهم جميعا كما يفصح عنه قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر وفيه بحث فأصبحوا نادمين
751
- خوفا من حلول العذاب كما قال جمع وتعقب بأنه مردود بقوله تعالى : وقالوا أي بعد ما عقروها : يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين وأجيب بأن قوله بعدما عقروها في حيز المنع إد الواو لاتدل على الترتيب فيجوز أن يريدوا بما تعدنا من المعجزة أو الواو حالية أي والحال أنهم طلبوها من صالح ووعدوه الايمان بها عند ظهورها مع أنه يجوز ندم بعض وقول بعض آخر ذلك باسناد ما صدر من البعض إلى الكل لعدم نهيهم عنه أو نحو ذلك أو ندموا كلهم اولا خوفا ثم قست قلوبهم وزوال خوفهم أو على العكس وجوز أن يقال : إنهم ندموا على عقرها ندم توبة لكنه كان عند معاينة العذاب وعند ذلك لاينفع الندم وقيل : لم ينفعهم ذلك لأنهم لم يتلافوا ما فعلوا بالايمان المطلوب منهم
وقيل : ندموا على ترك سقبها ولا يخفى بعده ومثله ما قيل : إنهم ندموا على عقرها لما فاتهم به من لبنها فقد روي أنه إذا كان يومها أصدرتهم لبنا ماشاءوا فأخذهم العذاب الموعود وكان صيحة خمدت لها أبدانهم وانشقت قلوبهم وماتوا عن آخرهم وصب عليهم حجارة خلال ذلك
إن في ذلك آية وما كان أكثرهم مؤمنين
851
- وإن ربك لهو العزيز الرحيم
951
- كذبت قوم لوط المرسلين
61
- إذ قال لهم أخوهم لوط وكانوا من أصهاره عليه السلام ألا تتقون
161
- إني لكم رسول أمين
261
- فاتقوا الله وأطيعون
361
- وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
461
- أتأتون الذكران من العلمين
561
(19/114)

إنكارإنكار وتوبيخ والاتيان كناية عن الوطء و الذكران جمع ذكر مقابل الانثى والظاهر أن من العالمين متصل به أي أتأتون الذكران من اولاد بني آدم على فرط كثرتهم وتفاوت أجناسهم وغلبة اناثهم على ذكرانهم كأن الاناث قد اعوزتكم فالمراد بالعالمين الناس لأن المأتي الذكور منهم خاصة والقرينة ايقاع الفعل والجمع بالواو والنون من غير نظر الى تغليب وأما خروج الملك والجن فمن الضرورة العقلية ويجوز أن يكون متصلا بتأتون أي أتأتون من بين عداكم من العالمين الذكران لايشارككم فيه غيركم فالمراد بالعالمين كل من يتأتى منه الاتيان والعالم على هذا ما يعلم به الخالق سبحانه والجمع للتغليب وخروج غيره لما مر ولايضر كون الحمار والخنزير يأتيان الذكور في أمر الاختصاص للندرة أو لاسقاطهما عن حيز الاعتبار وجوز أن يراد بالعالمين على الوجه الثاني الناس أيضا وإذا قيل بشمولهم لمن تقدم من العالمين تفيد الآية أنهم أول من سن هذ السنة السئة كما يفصح عنه قوله تعالى : ماسبقكم بها أحد من العالمين
وتذرون ما خلق لكم ربكم لأجل استمتاعكم وكلمة من في قوله تعالى من أزواجكم للبيان إن أريد بما جنس الاناث ولعل في الكلام حينئذ مضافين محذوفين أي وتذرون اتيان فروج ما خلق لكم أو للتبعيض إن أريد بما العضو المباح من الأزواج ويؤيد قراءة ابن مسعود ماأصلح لكم ربكم من أزواجكم وحينئذ يكفى بتقدير مضاف واحد أي وتذرون اتيان ما خلق ويكون في الكلام على ما قيل تعريض بأنهم كأنوا يأتون نساءهم أيضا في محاشهن ولم يصرح بانكاره كما صرح بانكار اتيان الذكران لأنه دونه في الاثم
وهو على المشهور عند أهل السنة حرام بل كبيرة وقيل : هو مباح وقد تقدم الكلام في ذلك مبسوطا عند الكلام في قوله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقيل : ليس في الكلام مضاف محذوف أصلا والمراد ذمهم بترك ما خلق لهم وعدم الالتفات اليه بوجه من الوجوه فضلا عن الاتيان وأنت تعلم أن المعنى ظاهر على التقدير وقوله تعالى : بل أنتم قوم عادون
661
- اضراب انتقالي والعادي المتعدي في ظلمه المتجاوز فيه الحد ومتعلقة مقدر وهو اما عام أو خاص أي بل أنتم قوم متعدون متجاوزون الحد في جميع المعاصي وهذا من جملتها أو متجاوزون عن حد الشهوة حيث زدتم على سائر الناس بل أكثر الحيوانات
وقيل : متجاوزون الحد في الظلم حيث ظلمتم باتيان مالم يخلق للاتيان وترك اتيان ما خلق له وفي البحر أن
(19/115)

تصديرتصدير الجملة بضمير الخطاب تعظيما لفعلهم وتنبيها على أنهم مختصون بذلك كأنه قيل : بل أنتم قوم عادون لاغيركم قالوا لئن لم تنته يالوط عن توبيخنا وتقبيح أمرنا أو عما أنت عليه من دعوى الرسالة ودعوتنا إلى الايمان وإنكار ما أنكرته من أمرنا لتكونن من المخرجين
761
- أي من المنفيين من قريتنا المعهودين وكأنهم كانوا يخرجون من غضبوا عليه بسبب من الاسباب وقيل : بسبب إنكار تلك الفاحشة من بينهم على عنف وسوء حال ولهذا هددوه عليه السلام بذلك وعدلوا عن لنخرجنك الأخصر الى ما ذكر ولا يخفى ما في الكلام من التأكيد
قال إني لعملكم من القالين
861
- أي من المبغضين غاية البغض قال الراغب ويقليه فمن جعله من الواو فهو من القو أي الرمي من قولهم : قلت الناقة براكبها قلوا وقلوت بالقة إذا رميتها فكأن المقلو يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله ومن جعله من الياء فهو من قليت السويق على المقلاة فكأن شدة البغض تقلي الفؤاد والكبد وتشعويهما فقول أبي حيان : إن قلي بمعنى أبغض يائي والذي بمعنى طبخ وشوى واوي ناش من قلة الاطلاع والعدول عن قالي إلى مافى النظم الجليل لأنه أبلغ إدا قيل : قالي لم يفد اكثر من تلبسه بالفعل بخلاف قوله من القالين إذ يفيد أنه مع تلبسه من قوم عرفوا واشتهروا به فيكون راسخ القدم عريق العرف فيه وقد صرح بذلك ابن جني وغيره واللام في لعملكم قيل للتبيين كما في سقيا لك فهو متعلق بمحذوف أعنى اعني وقيل : هي للتقوية ومتعلقها عند من يرى تعلق حرف التقوية محذوف أي اني من القالين لعملكم من القالين وقيل : هي متعلقة بالقالين المذكور ويتوسع في الظروف مالايتوسع في غيرها فتقدم حيث لايقدم غيرها والمراد بعملهم إما ما أنكره عليه السلام عليهم من إتيان الذكران وترك ما خلق ربهم سبحانه لهم وإما ما يشمل ذلك وسائر ما نهاهم عنه وأمرهم بضده من الأعمال القلبية والقالبية وقابل عليه السلام تهديدهم ذلك بما ذكر تنبيها على عدم الاكتراث به وأنه راغب في الخلاص من سوء جوارهم لشدة بغضه لعملهم ولذلك أعرض عن محاورتهم وتوجه إلى الله تعالى قائلا : رب نجني وأهلي مما يعملون
961
- أي من شؤم عملهم أو الذي يعملونه وعذابه الدنيوي وقيل : يحتمل أن يكون دعاء بالنجاة من التلبس بمثل عملهم وهو بالنسبة إلى الأهل دونه عليه السلام إذ لايخشى تلبسه بذلك لمكان العصمة واعترض بان العذاب كذلك إد لايعذب من لم يجن وفيه منع ظاهر كيف وقد قال سبحانه : واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وقيل : قد يدعو المعصوم بالحفظ عن الوقوع فيما عصم عنه كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن ابراهيم عليه السلام واجنبني وبني أن نعبد الأصنام وهو مسلم إلا أن الظاهر أن المراد النجاة مما ينالهم بسبب عملهم من العذاب الدنيوي ويؤيده ظاهر قوله تعالى فنجيناه وأهله أجمعين
71
- إلا عجوزا في الغابرين
171
-
والظأهر أن المراد بأهله أهل بيته وجوز أن يكون المراد بهم من تبع دينه مجازا فيشمل أهل بيته المؤمنين وسائر من آمن به وقيل : لاحاجة إلى هذا التعميمإذ لم يؤمن به عليه السلام إلا أهل بيته والمراد بهذ العجوز امرأته عليه السلام وكانت كافرة مائلة إلى القوم راضية بفعلهم والتعبير عنها بالعجوز للايماء
(19/116)

إلى أنه مما لايشق أمر هلاكها على لوط عليه السلام وسائر أهله بمقتضى الطبيعة البشرية وقيل : للايماء إلى أنها قد عسيت في الكفر ودامت فيه إلى أن صارت عجوزا والغابر الباقي بعد مضي من معه وأنشد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في ذلك قول عبيد بن الأبرص : ذهبوا وخلفي المخلف فيهم فكأنني في الغابرين غريب والمراد فنجيناه وأهله من العذاب باخراجهم من بينهم ليلا عند مشارفة حلوله بهم إلا عجوزا مقدرة في الباقين في العذاب بعد سلامة من خرج وإنما اعتبر البقاء في العذاب دون البقاء في الدار لما روي أنها خرجت مع لوط عليه السلام فأصابها حجر في الطريق فهلكت وقيل : المراد من الباقين في الدار بناء على أنها لهلاكها كأنها ممن بقي فيها أو أنها خرجت ثم رجعت فهلكت كما في بعض الروايات أو أنها لم تخرج مع لوط عليه السلام أصلا كما في البعض الآخر منها وقيل : الغابر طويل العمر وكأنه إنما اطلق عليه ذلك لبقائه مع مضي من كان معه والمراد وصف العجوز بانها طاعنة في السن وقرأ عبد الله كما روى عنه مجاهد وواعدنا أنه نؤتيه أهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين
271
- أهلكناهم أشد اهلاك وأفظعه وكان ذلك الائتفاك والظاهر العطف على نجينا والتدمير متراخ عن التنجية من مطلق العذاب فلا حاجة إلى القول بأن المراد أردنا تنجيته أو حكمنا بها او معنى فنجيناه فاستجبنا دعاءه في تنجيته وكل ذلك خلاف الظاهر
وجوز الطيبي كون ثم للتراخي في الرتبة وأمطرنا عليهم مطرا أي نوعا من المطر غير معهود فقد كان حجارة من سجيل كما صرح به في قوله تعالى : ولما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل
وجمع الأمران لهم زيادة في اهانتهم وقيل : كان الائتفاك لطائفة والامطار لأخرى منهم وكانت هذه على ما روي عن مقاتل للذين كانوا خارجين من القرية لبعض حوائجهم ولعله مراد قتادة بالشذاذ فيما روي عنه فساء مطر المنذرين
371
- اللام فيه للجنس وبه يتسنى وقوع المضاف اليه فاعل ساء بناء على أنها بمعنى بئس والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم وإذا لم تكن ساء كذلك جاز كونها للعهد
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين
471
- وإن ربك لهو العزيز الرحيم
571
- كذب أصحاب الأيكة المرسلين
671
- الأيكة الغيضة التي تنبت ناعم الشجر وهي غيضة من ساحل البحر إلى مدين يسكنها طائفة وكانوا ممن بعث اليهم شعيب عليه السلام وكان أجنبيا منهم ولذلك قيل : إد قال لهم شعيب ألا تتقون
771
- ولم يقل أخوهم وقيل الأيكة الشجر الملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل وعلى القولين أصحاب الأيكة غير أهل مدين ومن غريب النقل عن ابن عباس أنهم هم أصحاب مدين
وقرأ الحرميان وابن عامر ليكة بلام مفتوحة بعدها ياء بغير الف ممنوع الصرف هنا وفي ص قال أبو عبيدة : وجدنا في بعض كتب التفسير ان ليكة اسم للقرية والأيكة البلاد كلها كمكة وبكة ورأيتها في الامام مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه في الحجر و ق الأيكة وفي الشعراء وص ليكة واجتمعة مصاحف الامصار كلها بعد ذلك ولم تختلف وفي الكشاف من قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة
(19/117)

اسماسم بلد فتوهم قاد اليه خط المصحف حيث وجد مكتوبا هنا وفي بغير الف وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف الخط المصطلح عليه وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ كما يكتب أصحاب النحو الان لان والأولىلولي لبيان لفظ المخفف وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة على أن ليكة اسم لايعرف انتهى وتعقب بانه دعوى من غير ثبت وكفى ثبتا للمخالف ثبوت القراءة في السبعة وهي متواترة كيف وقد انظم اليه ما سمعت عن بعض كتب التفسير وإن لم تعول عليه فما روى البخاري في صحيحه 0 الأيكة وليكة الغيضة هذا وأن الاسماء المرتجلة لامنع منها وفي البحر أن كون مادى ل ي ك مفقودة في لسان العرب كما تشبث به من أنكر هذه القراءة المتواترة إن صح لايضر وتكون الكلمة عجمية ومواد كلام العجم مخالفة في كثير مواد كلام العرب فيكون قد اجتمع على منع صرفها العلمية والعجمية والتأنيث وبالجملة انكار الزمخشري صحة هذه القراءة يقرب من الردة والعياذ بالله تعالى وقد سبقه في ذلك المبرد وابن قتيبة والزجاج والفارسي والنحاس وقريء ليكة بحذف الهمزة والقاء حركتها على اللام والجر بالكسرة وتكتب على حكم لفظ اللافظ بدون همزة وعلى الأصل بالهمزة وكذا نظائرها
إني لكم رسول أمين
871
- فاتقوا الله وأطيعون
971
- وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
81
- أوفوا الكيل أي اتموه ولا تكونوا من المخسرين
181
- أي حقوق الناس بالتطفيف ولعل المبالغة المستفاد من التركيب متوجهة إلى النهي أو أنه لايعتبر المفهوم لنحو ما قيل في قوله تعالى : لاتأكلوا الربا أضعافا مضاعفة وأياما كان ففي النهي المذكور تأكيد للامر السابق عليه وزنوا الموزونات
بالقسطاس المستقيم
281
- أي بالميزان السوي وقيل : القسطاس القبان وروي ذلك عن الحسن وهو عند بعض معرب رومي الأصل ومعناه العدل وروي ذلك عن مجاهد وعند آخرين عربي فقيل : هو من القسط ووزنه فعلاع بتكرير العين شذوذا إد هي لاتكرر وحدها مع الفصل باللام وقيل : من قسطس وهو رباعي ووزنه فعلال والمراد الأمر بوفاء الوزن وإتمامه والنهي عن النقص دون النهي عن الزيادة والظاهر أنه لم ينه عنها ولم يؤمر بها في الكيل والوزن وكأن ذلك دليل على أن من فعلها فقد أحسن ومن لم يفعلها فلا عليه
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى وزنوا الخ وعدلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله الله تعالى لعباده والأظهر إد عادل سبحانه به أوفوا الكيل ما تقدم
وقرأ أكثر السبعة بالقسطاس بضم القاف ولاتبخسوا الناس أشياءهم أي لاتنقصوهم شيئا من حقوقهم أي حق كان فاضافة أشياء جنسية ويجوز أن تكون للاستغراق والمراد مقابلة الجمع بالجمع فيكون المعنى لاتبخسوا أحدا شيئا وجوز أن يكون الجمع للاشارة إلى الانواع فانهم كانوا يبخسون كل شيء جليلا كان أو حقيرا وهذا تعميم بعد تخصيص بعض المراد بالذكر لغاية انهماكهم فيه وقيل : المراد بأشيائهم الدراهم والدنانير وبخسها بالقطع من اطرافها ولولاه لم يجمع وبخس مما يتعدى إلى اثنين فالمنصوبان مفعولاه وقيل هو متعد لواحد فالثاني بدل اشتمال ولا تعثوا في الأرض مفسدين
381
- بالقتل والغارة وقطع الطريق ونحو ذلك والعثو الفساد أو أشده ومفسدين حال مؤكدة وجوز أن يكون المراد مفسدين
(19/118)

آخرتكم فتكون حالا مؤسسة واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين
481
- أي وذوي الجبلة أي الخلقة والطبيعة أو والمجبولين على أحوالهم التي بنوا عليها وسبلهم التي قيضوا لسلوكها المتقدمين عليكم من الأمم وجاء في رواية عن ابن عباس أن الجبلة الجماعة إدا كانت عشرة آلاف كأنها شبهت على ما قيل بالقطعة العظيمة من الجبل وقيل : هي الجماعة الكثيرة مطلقا كأنها شبهت بما ذكر أيضا
وقرأ أبو حصين والاعمش والحسن بخلاف عنه الجبلة بضم الجيم والباء وشد اللام وقرأ السلمي الجبلة بكسر الجيم وسكون الباء كالخلقة وفي نسخة عنه بفتح الجيم وسكون الباء وتشديد اللام في القراءتين للمبالغة قالوا إنما أنت من المسحورين
581
- وما أنت إلا بشر مثلنا الكلام فيه نظير ما تقدم في قصة ثمود بيد أنه ادخل الواو بين الجملتين هنا للدلالة على أن كلا التسحير والبشرية مناف للرسالة فكيف إدا اجتمعا وأرادوا بذلك المبالغة في التكذيب ولم تدخل هناك حيث لم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا ثم قرر بكونه بشرا مثلهم كذا في الكشاف وفي الكشف أن فيه ما يلوح إلى اختصاص كل بموضعه وإن الكلام هنالك في كونه مثلهم غير ممتاز بما يوجب الفضيلة ولهذا عقبوه بقولهم : فأت بآية فدل على أنهم لم يجعلوا البشرية منافية للنبوة وإنما جعلوا الوصف تمهيدا للاشتراك وأنه أبدع في دعواه وههنا ساقوا ذلك مساق ما ينافي النبوة فجعلوا كل واحد صفة مستقلة في المنافاة ليكون أبلغ وجعلوا إنكار النبوة أمرا مفروغا ولذا عقبوه بقولهم : وإن نظنك الخ وقال النيسابوري في وجه الاختصاص إن صالحا عليه السلام قلل في الخطاب فقللوا في الجواب وأكثر شعيب عليه السلام في الخطاب ولهذا قيل له : خطيب الانبياء فأكثروا في الجواب ولعله أراد أن شعيبا عليه السلام بالغ في زجرهم فبالغوا في تكذيبه ولا كذلك صالح عليه السلام مع قومه فتأمل و إن في قوله سبحانه وإن نظنك لمن الكاذبين
681
- هي المخففة من الثقيلة واللام في لمن هي الفارقة وقال الكوفيون : إن نافية واللام بمعنى إلا وهو خلاف مشهور أي وإن الشأن نظنك من الكاذبين في الدعوى أو ما نظنك إلا من الكاذبين فيها ومرادهم أنه عليه السلام وحاشاه راسخ القدم في الكذب في دعواه الرسالة أو فيها وفي دعوى نرول العذاب الذي يشعر به الأمر بالتقوى من التهديد
وظاهر حالهم إنهم عنوا بالظن الادراك الجازم وقوله عز و جل فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين
781
- من الاقتراح الذي تحته كل الانكار على نحو إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ولعلهم قابلوا به ما أشعر به الأمر بالتقوى مما ذكرنا وكسفا أي قطعا كما روي عن ابن عباس وقتادة جمع كسفة كقطعة
وقرأ الأكثرون كسفا بكسر الكاف وسكون السين وهو أيضا جمع كسفة مثل سدرة وسدر وقيل : الكسف والكسفة كالريع والريعة وهي القطعة والمراد بالسماء اما المظلة وهو الظاهر وإما السحاب والظاهر أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله وتعلقه بأسقط في غاية السقوط وجوز عليه أن يراد بالسماء جهة العلو وجواب ان محذوف دل عليه فأسقط ومن جوز تقدم الجواب جعله الجواب
قال ربي أعلم بما تعملون
881
- أي هو تعالى أعلم بأعمالكم من الكفر والمعاصي وبما تستوجبون عليها من العذاب
(19/119)

فسينرله عليكم حسبما تستوجبون في وقته المقدر له لامحالة فكذبوه فاستمروا على تكذيبه وكذبوه تكذيبا بعد تكذيب فأخذهم عذاب يوم الظلة وذلك على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس أن الله تعالى بعث عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم فخرجوا منها هرابا إلى البرية فبعث الله تعالى عليهم سحابة فاظلهم من الشمس وهي الظلة فوجدوا لها بردا ولذة فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحتها أسقطها الله عز و جل عليهم نارا فأكلتهم جميعا وجاء في كثير من الروايات أن الله عز و جل سلط عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم كان ما كان من الخروج إلى البرية وما بعده وكان ذلك على نحو ما اقترحوه لاسيما على القول بأنهم عنوا بالسماء السحاب وفي اضافة العذاب إلى يوم الظلة دون نفسها إيذأن بأن لهم عذابا آخر غير عذاب الظلة وفي ترك بيانه تعظيم لأمره
وقد أخرج ابن جرير واحاكم وأبن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : من حدثك من العلماء ما عذاب يوم الظلة فكذبه وكأنه أراد بذلك مجموع عذاب الظلة الذي ذكر في الخبر السابق والعذاب الآخر الذي آذنت به الاضافة إلى اليوم إنه كان عذاب يوم عظيم
981
- أي في الشدة والهول وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين
91
- وإن ربك لهو العزيز الرحيم
191
- هذا آخر القصص السبع التي سيقت لما علمته سابقا ولعل الاقتصار على هذا العدد على ما قيل لأنه عدد تام وأنا أفوض العلم بسر ذلك وكذا العلم بسر ترتيب القصص على هذا الوجه لحضرة علام الغيوب جل شأنه وقوله سبحانه وإنه لتنزيل رب العالمين
291
- الخ عود لما في مطلع السورة الكريمة من التنويه بشأن القرآن العظيم ورد مال قال المشركون فيه فالضمير راجع الى القرآن وقيل : هو تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على اعجاز القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه و سلم فان الأخبار عنها ممن لم يتعلمها لايكون إلا وحيا من الله عز و جل فالضمير لما ذكر من الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص المحكية وجوز أن يكون للقرآن الذي هي من جملته والاخبار عن ذلك بتنزيل للمبالغة والمراد انه لمنزل من الله تعالى ووصفه سبحانه بربوبية العالمين للايذان بأن تنزيله من احكام تربيته عز و جل ورأفته بالكل نزل به أي أنزله على أن الباء للتعدية
وقال أبو حيان وابن عطية : هي للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال كما في قوله تعالى وقد دخلوا بالكفر أي نزل مصاحبا له الروح الأمين
391
- يعني جبريل عليه السلام وعبر عنه بالروح لأنه يحيي به الخلق في باب الدين أو لأنه روح كله لا كالناس في ابدانهم روح ووصف عليه السلام بالأمين لأنه أمين وحيه تعالى وموصله إلى ما شاء من عباده جل شأنه من غير تغيير وتحريف أصلا وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن عامر نزل به الروح الأمين بتشديد الزاي ونصب الروح والأمين أي جعل الله تعالى الروح الامين نازلا به على قلبك 9 متعلق بنزل لا بالأمين والمراد بالقلب إما الروح وهو أحد إطلاقاته كما قال الراغب وكون الانزال عليه على ما قال غير واحد لأنه المدرك والمكلف دون
(19/120)

الجسد 121121 الجالجسد
121121 - وقد يقال : لما كان له صلى الله عليه و سلم جهتان جهة ملكية يستفيض بها وجهة بشرية يفيض بها جعل الانزال على روحه صلى الله عليه و سلم لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين
وللاشارة الى ذلك قيل على قلبك دون عليك الأخصر وقيل : إن هذا لأن القرآن لم ينزل في الصحف كغيره من الكتب وأما العضو المخصوص وهو الاطلاق المشهور وتخصيصه بالانزال عليه قبل للاشارة إلى كمال تعقله صلى الله عليه و سلم وفهمه ذلك المنزل حيث لم تعتبر واسطة في وصوله إلى القلب الذي هو محل العقل كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات والأحاديث ويشهد له العقل على مالا يخفى على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وقد أطال في الانتصار لذلك الامام في تفسيره
ورد على من ذهب إلى أن الدماغ محل العقل وقيل : للاشارة إلى صلاح قلبه عليه الصلاة و السلام وتقدسه حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم منه حال سائر أجزائه صلى الله عليه و سلم فان القلب رئيس جميع الأعضاء وملكها ومتى صلح صلحت الرعية وفي الحديث ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب وقد يقال : يجوز أن يكون التخصيص لأن الله تعالى جعل لقلب رسوله صلى الله عليه و سلم سمعا مخصوصا يسمع به ما ينزل عليه من القرشن تمييزا لشأنه على سائر ما يسمعه ويعيه على حد ما قيل وذكره النووي في شرح صحيح مسلم في قوله تعالى ماكذب الفؤاد ما رأى من أن الله عز و جل جعل لفؤاده عليه الصلاة و السلام بصرا فرآه به سبحانه ليلة المعراج وهذا كله على القول بأن جبرائيل عليه السلام ينزل بالالفاظ القرآنية المحفوظة بعد أن نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة أو التي يحفظها من اللوح عند الأمر بالانزال أو التي يوحى بها اليه أو التي يسمعها منه سبحانه على ما قاله بعض أجلة السلف عنده فيلقيها إلى النبي صلى الله عليه و سلم على ما هي عليه من غير تغيير أصلا وكذا على القول بأن جبرائيل عليه السلام ألقى عليه المعاني القرآنية وأنه عبر عنها بهذه الالفاظ العربية ثم نزل بها كذلك فالقاها إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأما القول بانه عليه السلام إنما نزل بالمعاني خاصة إلى النبي عليه الصلاة و السلام وأنه عليه الصلاة و السلام علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب فقيل : إن القلب بمعنى العضو المخصوص لاغير وتخصيصه لأن المعاني إنما تدرك بالقوة المودعة فيه وقيل : يجوز أن يراد به الروح وروحه عليه الصلاة و السلام لغاية تقدسها وكمالها في نفسها تدرك المعاني من غير توسط آلة ومن الناس من ذهب إلى هدا القول وجعل الآية دليلا له وهو قول مرجوح ومثله القول بأن جبريل عليه السلام القى عليه المعاني فعبر عنها بالفاظ فنزل بما عبر هو به والقول الراجح أن الألفاظ منه عز و جل كالمعاني لامدخل لجبرائيل عليه السلام فيها أصلا وكان النبي صلى الله عليه و سلم يسمعها ويعيها بقوى إلهية قدسية لاكسماع البشر إياها منه عليه الصلاة و السلام وتنفعل عند ذلك قواه البشرية ولهذا يظهر على جسده الشريف صلى الله عليه و سلم ما يظهر ويقال ذلك : برحاء الوحي حتى يظن في بعض الاحايين أنه أغمى عليه عليه الصلاة و السلام وقد يظن أنه صلى الله عليه و سلم أغفى
وعلى هذا يخرج مارواه مسلم عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله فقال : أنزل علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر ولا يحتاج من قال الأشبه
(19/121)

أن القرآن كله نزل في اليقظة إلى تأويل هذا الخبر بأنه عليه الصلاة و السلام خطر له في تلك الاغفاءة سورة الموثر التي نزلت قبلها في اليقظة أو عرض عليه الكوثر الذئ أنزلت فيه السورة فقرأها عليهم ثم أنه على ما قيل من أن بعض القرآن نزل عليه عليه الصلاة و السلام وهو نائم استدلالا بهذا الخبر يبقى ما قلناه من سماعه عليه الصلاة و السلام ما ينزل اليه صلى الله عليه و سلم ووعيه إياه بقوى الهية قدسية ونومه عليه الصلاة و السلام لايمنع من ذلك كيف وقد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : تنام عيني ولا ينام قلبي
وقال بعض المتصدرين في محافل الحكمة المتأخرين في بيان كيفية نزول الكلام وهبوط الوحي من عند الله تعالى بواسطة الملك على قلب النبي صلى الله عليه و سلم أن الروح الانساني إدا تجرد من البدن وخرج عن وثاقه من بيت قالبه وموطن طبعه مهاجرا إلى ربه سبحانه لمشاهدة آياته الكبرى وتطهر عن درن المعاصي واللذات والشهوات والوساوس العادية والمتعلقات لاح له نور المعرفة والايمان بالله تعالى وملكوته الاعلى وهذا النور إذا تأكد وتجوهر كان جوهرا قدسيا يسمى في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعال وفي لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعال وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي وبهذا النور الشديد العقلي يتلألأ فيه اسرار ما في الأرض والسماء ويتراءى منه حقائق الأشياء كما يتراءى بالنور الحسي البصري الاشباح المثالية في قوة البصر إذا لم يمنع حجاب والحجاب ههنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذه الاولى فاذا عريت النفس عن دواعي الطبيعة والاشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحس والتخيل وتوجهت بوجهها شطر الحق وتلقاء عالم الملكوت الاعلى اتصلت بالسعادة القصوى فلاح لها سر الملكوت وانعكس عليها قدس اللاهوت ورأت عجائب آيات الله تعالى الكبرى ثم ان هذه الروح إدا كانت قدسية شديدة القوى قوية الآثار لقوة اتصالها بما فوقها فلا يشغلها شأن عن شأن ولايمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها فتضبط الطرفين وتسع قوتها الجانبين لشدة تمكنها في الحد المشترك بين الملك والملكوت كالارواح الضعيفة التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ذهلت عن المشعر الآخر وإذا توجهت هذه الروح القدسية التي لايشغلها شأن عن شأن ولاتصرفها نشأة عن نشأة وتلقت المعارف الالهية بلا تعلم بشري بل من الله تعالى يتعدى تأثيرها إلى قواها ويتمثل لروحه البشري صورة ما شاهده بروحه القدسي وتبرز منها إلى الظاهر الكون فتتمثل للحواس الظاهرة سيما السمع والبصر لكونهما أشرف الحواس الظاهرة فيرى ببصره شخصا محسوسا في غاية الحسن والصبحاة ويسمع بسمعه كلاما منظوما في غاية الجودة والفصاحة فالشخص هو الملك النازل باذن الله تعالى الحامل للوحي الالهي والكلام هو كلام الله تعالى وبيده لوح فيه كتاب هو كتاب الله تعالى وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه ليس مجرد صورة خيالية لاوجود لها في خارج الذهن والتخيل كما يقوله من لاحظ له من علم الباطن ولا قدم له في أسرار الوحي والكتاب كبعض أتباع المشائين معاذ الله تعالى عن هذه العقيدة الناشئة عن الجهل بكيفية الانزال والتنزيل ثم قال : إنارة قلبية واشارة عقلية عليك أن تعلم أن للملائكة ذوات حقيقية وذوات إضافية مضافة إلى مادونها اضافة النفس إلى البدن الكائن في النشأة الآخرة فاما ذواتها الحقيقية فانما هي أمرية قضائية قولية وأما ذؤاتها الاضافية فانما هي خلقية قدرية تنشأ منها الملائكة اللوحية وأعظمهم اسرافيل عليه السلام وهؤلاء الملائكة اللوحية يأخذون الكلام الالهي والعلوم اللدنية من الملائكة القلمية ويثبتونها في صحائف الواحهم القدرية الكتابية وإنما كان
(19/122)

يلاقي النبي صلى الله عليه و سلم في معراجه الصنف الأول من الملائكة ويشاهد روح القدس في اليقظة فاذأ اتصلت الروح النبوية بعالمهم عام الوحي الرباني يسمع كلام الله تعالى وهو اعلام الحقائق بالمكالمة الحقيقية وهي الافاضة والاستفاضة في مقام قاب قوسين أو أدنى وهو مقام القرب ومقعد الصدق ومعدن الوحي والهام وكذا إذا عاشر النبي الملائكة الاعلين يسمع صريف أقلامهم والقاء كلامهم وهو كلام الله تعالى النازل في محل معرفتهم وهي ذواتهم وعقولهم لكونهم في مقام القرب ثم إذا نزل عليه الصلاة و السلام إلى ساحة الملكوت السماوي يتمثل له صورة ما عقله وشاهده في لوح نفسه الواقعة في عالم الأرواح القدرية السماوية ثم يتعدى من الاثر إلى الظاهر وحينئذ يقع للحواس شبه دهش ونوم لما أن الروح القدسية لضبطها الجانبين تستعمل المشاعر الحسية لكن لافي الاغراض الحيوانية بل في سبيل السلوك إلى الرب سبحانه فهي تشائع الروح في سبيل معرفته تعالى وطاعته فلا جرم إدا خاطبه الله تعالى خطابا من غير حجاب خارجي سواء كان الخطاب بلا وسطة أو بواسطة الملك واطلع على الغيب فانطبع في فص نفسه النبوية نقش الملكوت وصورة الجبروت تنجذب قوة الحس الظاهر إلى فوق ويتمثل لها صورة غير متفكة عن معناها وروحها الحقيقي لا كصورة الاحلام والخيالات العاطلة عن المعنى فيتمثل لها حقيقة الملك بصورته المحسوسة بحسب ما يحتملها فيرى ملكا على غير صورته التي كانت له في عالم الأمر لأن الأمر إذا نزل صار خلقا مقدرا فيرى صورته الخلقية القدرية ويسمع كلاما مسموعا بعدما كان وحيا معقولا أو يرى لوحا بيده مكتوبا فالموحي اليه يتصل بالملك اولا بروحه العقلي ويتلقى منه المعارف الالهية ويشاهد ببصره العقلي آيات ربه الكبرى ويسمع بسمعه العقلي كلام رب العالمين من الروح الأعظم ثم إدا نرل عن هذا المقام الشامخ الالهي يتمثل له الملك بصورة محسوسة ثم ينحدر إلى حسه الظاهر ثم إلى الهواء وهكذا الكلام في كلامه فيسمع أصواتا وحروفا منظومة مسموعةيختص هو بسماعها دون غيره فيكون كل من الملك وكلامه وكتابه قد تأدى من غيبه الى شهادته ومن باطن سره إلى مشاعره وهذه التأدية ليست من قبيل الانتقال والحركة للملك الموحي من موطنه ومقامه إذ كل له مقام معلوم لايتعداه ولاينتقل عنه بل مرجع ذلك إلى انبعاث نفسي النبي عليه الصلاة من نشأة الظهور ولهذا كان يعرض له شبه الدهش والغشي ثم يرى ويسمع ثم يقع منه الانباء والاخبار فهذا تنزيل الكتاب وانزال الكلام من رب العالمين انتهى
وفيه ما تأباه الاصول الاسلامية مما لايخفى عليك وقد صرح غير واحد من المحدثين والمفسرين وغيرهم بانتقال الملك وهو جسم عندهم ولم يؤول أحد منهم نزوله فيما نعلم أولوا نزول القرآن وانزاله
قال الاصفهاني في أوائل تفسيره : اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله تعالى منزل واختلفوا في معنى الانزال فمنهم من قال : إظهار القرءة ومنهم من قال : إن الله تعالى الهم كلامه جبريل عليه السلام وهو في السماء وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان وفي ذلك طريقتان إحداهما أن النبي صلى الله عليه و سلم أنخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل عليه السلام وثانيتها أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منه والاولى أصعب الحالين انتهى وقال الطيبي : لعل نزول القرآن على الرسول عليه الصلاة و السلام أن يتلقفه الملك تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينرل به الى الرسول ويلقيه عليه
(19/123)

وقالوقال القطب في حواشي الكشاف الانزال في اللغة الايواء وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل وكلاهما لايتحققان في الكلام فهو مستعمل بمعنى مجازي فمن قال : القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فانزاله أن توجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ ومن قال : القرآن هو الألفاظ الدالة على المعنى القائم بذأته تعالى فانزاله مجرد اثباته في اللوح المحفوظ وهذا المعنى مناسب لكونه مجازا عن أول المعنيين اللغويين
ويمكن أن يكون المراد بانزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الاثبات في اللوح المحفوظ وهذا مناسب للمعنى الثاني والمراد بانزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيا عليهم انتهى وفيه بحث لايخفى وعندي أن إنزاله إظهاره في عالم الشهادة بعد أن كان في عالم الغيب ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن جميع القرآن نزل به الروح الأمين على قلبه الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا ينافي ما قيل : إن آخر سورة البقرة كلمه الله تعالى بها ليلة المعراج حيث لا واسطة احتجاجا بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود لما أسري برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى الى سدرة المنتهى الحديث وفيه فأعطي رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لايشرك من أمته بالله تعالى شيئا المقحمات وأجيب بعد تسليم أن يكون ما ذكر دليلا لذلك يجوز أن يكون قد نزل جبريل عليه السلام بما ذكر أيضا تأكيدا وتقريرا أو نحو ذلك وقد ثبت نزوله عليه السلام بالآية الواحدة مرتين لما ذكر وجوز أن تكون الآية باعتبار الأغلب واعتبر بعضهم كونها كذلك لأمر آخر وهو أن من القرآن ما نزل به اسرافيل عليه السلام وهو ما كان في أول النبوة وفيه أن ذلك لم يثبت أصلا
وفي الاتقان أخرج الامام أحمد في تأريخه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال : أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم النبوة وهو أبن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرءان على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام فنزل عليه القرءان على لسانه عشر سنين أنتهى وهو صريح في خلاف ذلك وإن كان فيه ما يخالف الصحيح المشهور من أن جبريل عليه السلام هو الذي نزل عليه عليه الصلاة و السلام بالوحي من أول الأمر إلا أنه نزل عليه صلى الله عليه و سلم غيره عليه السلام من الملائكة أيضا ببعض الأمور وكثيرا ما ينزلون لتشييع اةيات القرءانية مع جبريل عليه وعليهم السلام
ومن الناس من اعتبر كونها باعتبار الأغلب لأن إنزال جبريل عليه السلام قد لايكون على القلب بناءا على ما ذكره الشيخ محي الدين قدس سره في الباب الرابع عشر من الفتوحات من قوله : إعلم أن الملك يأتي النبي عليه الصلاة و السلام بالوحي على حالتين تارة ينزل بالوحي على قلبه وتارة يأتيه في صورة جسدية من خارج فيلقي ما جاء به إلى ذلك النبي على أذنه فيسمعه أو يلقيه على بصره فيبصره فيحصل له من النظر ما يحصل من السمع سواء
وتعقب بانه لاحاجة إلى ما ذكر وما نقل عن محي الدين قدس سره لايدل على أن نرول الوحي إلى كل نبي يكون على هذين الحالين فيجوز أن يكون نرول الوحي إلى نبينا صلى الله عليه و سلم على الحال الأولى فقط سلمنا دلالته على العموم وأن نزول الوحي إلى نبينا عليه الصلاة و السلام قد يكون بتمثل الملك بناء على بعض الأخبار الصحيحة في ذلك لكن لانسلم أنه يدل على أن نرول الوحي إذا كان الموحى قرآنا يكون على الحال الثانية سلمنا دلالته على ذلك لكن لانسلم صحة جعله مبني لتأويل الآية وكيف يؤول كلام الله تعالى لكلام
(19/124)

مناف لظاهره صدر من غير معصوم ويكفي محي الدين قدس سره من علماء الشريعة أن يؤولوا كلامه ليوافق كلام الله عز و جل فيسلم من الطعن ولعل من يؤول في مثل ذلك يحسن الظن بمحي الدين قدس سره ويقول : إنه لم يقل ذلك إلا لدليل شرعي فقد قال قدس سره في الكلام على الاذن من الفتوحات : اعلم اني لم أقرر بحمد الله تعالى في كتابي هذا ولا غيره قط أمرا غير مشروع وما خرجت عن الكتاب والسنة في شيء من تصانيفي وقال في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الكتاب المذكور جميع ما أتكلم به في مجالسي وتأليفي انما هو من حضرة القرآن العظيم فاني اعطيت مفاتيح العلم فيه فلا استمد قط في علم من العلوم إلا منه كل ذلك حتى لا أخرج عن مجالسة الحق تعالى في مناجاته بكلامه أو بما تضمنه كلامه سبحانه إلى غير ذلك فالداعي للتأويل في الحقيقة ذلك الدليل لانفس كلامه قدس سره العزيز وهو اللائق بالمسلمين الكاملين
وقوله تعالى : لتكون من المنذرين
491
- متعلق بنزل أي نزل به لتنذرهم بما في تضاعيفه من العقوبات الهائلة وايثار ما في النظم الكريم للدلالة على انتظامه صلى الله عليه و سلم في سلك اولئك المنذرين المشهورين في حقية الرسالة وتقرر العذاب المنذر به وكذا قوله سبحانه بلسان عربي مبين
591
- متعلق بنزل عند جمع من الأجلة ويكون حينئذ على ما قاله الشهاب بدلا من به باعادة العامل وتقديم لتكون الخ للاعتناء بأمر الانذار ولئلا يتوهم أن كونه عليه الصلاة و السلام من جملة المنذرين المذكورين متوقف على كون الانزال بلسان عربي مبين واستحسن كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير به أي نزل به متلبسا بلغة عربية واضحة المعنى ظأهرة المدلول لئلا يبقى لهم عذر وقيل : بلغة مبينة لهم ما يحتاجون اليه من أمور دينهم ودنياهم على أن مبين من أبا المتعدي والأول أظهر
وجوز أن تعلق الجار والمجرور بالمنذرين أي لتكون من الذين أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح واسمعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه و سلم وزاد بعضهم خالد بن سنان وصفوان بن حنظلة عليهما السلام وتعقب بأنه يؤدي الى أن غاية الانذار كونه عليه السلام من جملة المنذرين باللغة العربية فقط من هود وصالح وشعيب عليهم السلام ولا يخفى فساده كيف لا والطامة الكبرى في باب الانذار ما أنذره نوح وموسى عليهما السلام وأشد الزواجر تأثيرا في قلوب المشركين ما أنذره ابراهيم عليه السلام لانتمائهم اليه وادعائهم أنهم على ملته عليه السلام وذكر بعضهم ان المراد على هدا الوجه أنك أنذرتهم كما أنذر آباؤهم الأولون وأنك لست بمبتدع بهذا فكيف كذبوك والحق أن الوجه المذكور دون الوجه السابق وأما أنه فاسد معنى كما يقتضيه كلام المتعقب فلا
وأنه لفي زبر الأولين
691
- أي وان ذكر القرآن لفي الكتب المتقدمة على أن الضمير للقرآن والكلام على حذف مضاف وهذا كما يقال : ان فلانا في دفتر الأمير وقيل : المراد وان معناه لفي الكتب المتقدمة وهو اعتبار الأغلب فان التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات وكثيرا من المواعظ والقصص مسطور في الكتب السابقة فلا يضران منه ماليس في ذلك بحسب الظن الغالب كقصة الافك وما كان في نكاح أمرأة زيد وما تضمنه صدر سورة التحريم وغير ذلك واشتهر عن الامام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه جوز قراءة القرءان بالفارسية والتركية والهندية وغير ذلك من اللغات مطلقا استدلالا بهذه الآية وفي رواية
(19/125)

تخصيص الجواز بالفارسية لأنها أشرف اللغات بعد العربية لخبر لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدري وفي رواية أخرى انها انما تجوز بالفارسية إذا كان ثناء كسورة الاخلاص أما إدا كان غيره فلا تجوز وفي أخرى أنها إنما تجوز بالفارسية في الصلاة إذا كان المصلي عاجزا عن العربية وكان المقروء ذكرا وتنزيها أما القراءة بها في غير الصلاة أو في الصلاة وكان القاريء يحسن العربية أو في الصلاة وكان القاريء عاجزا عن العربية لكن كان المقروء من القصص والأوامر والنواهي فانها لاتجوز وذكر أن هذا قول صاحبيه وكان رضي الله تعالى عنه قد ذهب إلى خلافه ثم رجع عنه اليه وقد صحح رجوعه عن القول بجواز القراءة بغير العربية مطلقا جمع من الثقات المحققين وللعلامة حسن الشرنبلالي رسالة في تحقيق هذ المسالة سماها النفحة القدسية في أحكام قراءة القرءان وكتابته بالفارسية فمن أراد التحقيق فليرجع اليها وكان رجوع الامام عليه الرحمة عما اشتهر عنه لضعف الاستدلال بهذه الآية عليه كما لايخفى على المتأمل
وفي الكشف أن القرءان كان هو المنرل للاعجاز الى ءاخر ما يذكر في معناه فلا شك أن الترجمة ليست بقرآن وان كان هو المعنى القائم بصحابه فلاشك أنه غير ممكن القراءة فان قيل : هو المعنى المعبر عنه بأي لغة كان قلنا لاشك في اختلاف الاسامي باختلاف اللغات وكا لايسمى القرآن بالتوراة لايسمى التوراة بالقرآن فالأسماء لخصوص العبارات فيها مدخل لا أنها لمجرد المعنى المشترك اه وفيه بحث فان قوله تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا يستلزم تسميته قرآنا أيضا لو كان أعجميا فليس لخصوص العبارة العربية مدخل في تسميته قرآنا والحق أن قرآنا المنكر لم يعهد فيه نقل عن المعنى اللغوي فيتناول كل مقروء أما القرآن باللام فالمفهوم منه العربي في عرف الشرع فلخصوص العبارة مدخل في التسمية نظرا اليه وقد جاء كذلك في اةية الدالة على وجوب القراءة أعني قوله سبحانه فاقرؤا ما تيسر من القرآن وبذلك تم المقصود وجعل من فيه للتبعيض وإرادة المعنى من هذا البعض لايخفى ما فيه وقيل : إنه عائد على رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس بواضح وقرأ الأعمش زبر بسكون الباء
أو لم يكن لهم ءاية الهمزة للتقرير أو للانكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل : أغفلوا عن ذلك ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين وإنه لفي زبر ألاولين على أن لهم متعلق بالكون قدم على اسمه الذي هو قوله تعالى أن يعلمه علميؤا بني إسرائيل
791
- لما مرارا من اسرائيل القرءان بنعوته المذ : ورة في كتبهم وعن قتادة أن الضمير للنبي صلى الله عليه و سلم وقيل : العلم على معناه المشهور والضمير للحكم السابق في قوله تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك الخ وفيه بعد كما لايخفى وذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي فقالوا : هذا زمانه وذكروا نعته وخلطوا في أمر محمد صلى الله عليه و سلم فنرلت اةية في ذلك وهو ظاهر في أن الضمير له عليه الصلاة و السلام ويؤيده كون الآية مكية وقال مقاتل : هي مدنية وعلماء بني إسرائيل عبد الله بن سلام ونحوه كما روي عن ابن عباس ومجاهد وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والانجيل
(19/126)

فيها ذكر الرسول صلى الله عليه و سلم وقيل : علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم وقيل : انبياؤهم فانهم نبهوا على ذلك وهو خلاف الظاهر ولعل أظهر الأقوال كون المراد به معاصريه صلى الله تعالى عليه وسلم من علماء أهل الكتابين المسلمين وغيرهم
وقرأ ابن عامر والجحدري تكن بالتأنيث وءاية بالرفع وجعلت اسم تكن وأن يعلمه خبرها وضعف بأن فيه الاخبار عن النكرة بالمعرفة ولا يدفعه كون النكرة ذات حال بناء على أحد الاحتمالين في لهم متعلقا بمحذوف هو الخبر وأن يعلمهبدلا من الاسم أو خبر مبتدأ محذوف وأن يكون الاسم ضمير القصة ولهم ءاية مبتدأ وخبر والجملة خبر تكن وأن يعلمه بدلا أو خبر مبتدأ محذوف وأن يكون الاسم ضمير القصة وءاية خبر ان يعلمه والجملة خبر تكن وأن تكون تكن تامة وءاية فاعلا وأن يعلمه بدلا أو خبرا لمحذوف و لهم إما حالا أو متعلقا بتكن وقرأ ابن عباس تكن بالتأنيث وءاية بالنصب كقراءة من قرأ ثم لم تكن بالتأنيث فتنتهم بالنصب إلا أن قالوا وكقول لبيد يصف العير والاتان : فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت اقدامها وذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر وإما لتأويل أن يعلمه بالمعرفة وتأويل أن قالوا بالمقالة وتأويل الاقدام بالمتقدمة ودعوى اكتساب التأنيث فيه من المضاف اليه ليس بشيء لفقد شرطه المشهور
وقرأ الجحدري تعلمه بالتأنيث على أن المراد جماعة علماء بني إسرائيل وكتب في المصحف علمؤا بواو بين الميم والألف ووجه ذلك بانه على لغة من يميل الف علماء إلى الواو كما كتبوا الصلوة والزكوة والبو بالواو على تلك اللغة ولو نزلناه أي القرءان كما هو بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين
891
- الذين لايقدرون على التكلم بالعربية وهو جمع اعجمي كما في التحرير وغيره إلا أنه حذف ياء النسب منه تخفيفا ومثله الاشعرين جمع أشعري في قول الكميت : ولو جهزت قافية شرودا لقد دخلت بيوت الاشعرينا وقد قرأه الحسن وابن مقسم بياء النسب على الأصل وقال ابن عطية : هو جمع اعجم وهو الذي لايفصح وإن كان عربي النسب والعجمي هو الذي نسبته في العجم خلاف العرب وإن كان أفصح الناس انتهى
واعترض بأن أعجم مؤنثه عجماء وأفعل فعلاء لايجمع جمع سلامة وأجيب بأن الأعجم في الأصل البهيمة العجماء لعدم نطقها ثم نقل أو تجوز به عما ذكر وهو بذلك المعنى ليس له مؤنث على فعلاء فلذلك جمع جمع السلامة وتعقب بأنه قد صرح العلامة محمد بن أبي بكر الرازي في كتابه غرائب القرآن بأن الأعجم هو الذي لايفصح والأنثى العجماء ولو سلم أنه ليس له بذلك المعنى مؤنث فالأصل مراعاة أصله وفيه أن كون ارتفاع المانع لعارض مجوزا مما صرح به النحاة ثم إن كون أفعل فعلاء لايجمع جمع سلامة مذهب البصريين والفراء وغيره من الكوفيين يجوزونه فلعل من قال : إنه جمع أعجم قاله بناء على ذلك وظاهر الجمع المذكور يقتضي أن يكون المراد به العقلاء وعن بعضهم أنه جمع أعجم مرادا به مالا يعقل من الدواب العجم وجمع جمع العقلاء لأنه وصف بالتنزيل عليه وبالقراءة في قوله تعالى : فقرأه عليهم فان الظأهر رجوع ضمير الفاعل إلى بعض الأعجمين وهما من صفات العقلاء والمراد بيان فرط عنادهم وشدة شكيمتهم في
(19/127)

المكابرة كأنه قيل : ولو نزلناه بهذأ النظم الرائق المعجز على من لايقدر على التكلم بالعربية او على ماليس من شأنه التكلم أصلا من الحيوانات العجم فقرأه عليهم صحيحة خارقة للعادة ما كانوا به مؤمنين
991
- مع انظمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء وقيل : المراد بالاعجمين جمع أعجم أعم من أن يكون عاقلا أو غيره ونقل ذلك الطبرسي عن عبد الله بن مطيع وذكر أنه روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية وهو على بعير فأشار اليه وقال : هذا من الأعجمين والطبري على ما في البحر يروي نحو هذا عن ابن مطيع والمراد أيضا بيان فرط عنادهم وقيل : هو جمع أعجم مرادا به مالا يعقل وضمير الفاعل في قرأه للنبي صلى الله عليه و سلم وضمير عليهم لبعض الأعجمين وكذأ ضمير كانوا والمعنى لو نزلنا هذا القرءان على بعض البهائم فقرأه محمد صلى الله عليه و سلم على أولئك البهائم ما كانوا أي أولئك البهائم مؤمنين به فكذلك هؤلاء لأنهم كالانعام بل هم أضل سبيلا ولا يخفى ما فيه وقيل : المراد ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقراه عليهم ماكانوا به مؤمنين لعدم فهمهم ما فيه وأخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة وهو بعيد عما يقتضيه مقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد واستند بعضهم بالآية عليه في منع أخذ العربية في مفهوم القرءان إذ لايتصور على تقدير أخذها فيه تنزيله بلغة العجم إذ يستلزم ذلك كون الشيء الواحد عربيا وعجميا وهو محال
وأجيب بأن ضمير نزلناه ليس راجعا إلى القرءان المخصوص المأخوذ في مفهوم العربية بل إلى مطلق القرآن ويراد منه ما يقرأ أعم من أن يكون عربيا أو غيره وهذا نحو رجوع الضمير للعام في ضمن الخاص في قوله تعالى : مايعمر من معمر ولاينقص من عمره الآية فان ضمير عمره راجع إلى شخص بدون وصفه بمعمر إذ لايتصور نقص عمر المعمر كما لايخفى
وقال بعضهم في الجواب : إن الكلام على حذف مضاف والمراد ولو نزلنا معناه بلغة العجم على بعض الأعجمين فتدبر وفي لفظ بعض على كل الأقوال إشارة إلى كون ذلك المفروض تنزيله عليه واحدا من عرض تلك الطائفة كائنا من كان به متعلق بمؤمنين ولعل تقديمه عليه للاهتمام وتوافق رؤس الآي
والضمير في قوله تعالى : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين
2
- على ما يقتضيه انتظام الضمائر السابقة واللاحقة في سلك واحد للقرءان واليه ذهب الرماني وغيره والمعنى على ما قيل مثل ذلك السلك البديع المذكور سلكناه أي أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين ففهموا معانيه وعرفوا فصاحته وأنه خارج عن القوى البشرية وقد أنضم اليه علم أهل الكتابين بشأنه وبشارة الكتب المنزلة بانراله فقوله تعالى : لايؤمنون به جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنهم لايتأثرون بامثال تلك الأمور الداعية الى الايمان به بل يستمرون على ماهم عليه حتى يروا العذاب الأليم
102
- الملجيء الى الايمان به وحينئد لاينفعهم ذلك
والمراد بالمجرمين المشركون الذين عادت عليهم الضمائر من لهم وعليهم وكانوا وعدل عن ضميرهم الى ما ذكر تأكيدا لذمهم وقال الزمخشري في معنى ذلك : أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وهكذا مكناه وقررناه فيها وعلى مثل هذه الحال وهذ الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها فكيف ما فعل بهم وصنع وعلى أي وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عماهم عليه من جحوده وانكاره كما قال سبحانه ولو نرلنا
(19/128)

عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وموقع قوله تعالى لايؤمنون بهالخ مما قبله موقع الموضح والملخص لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لايزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد ويجوز أن يكون حالا أي سلكناه فيها غير مؤمن به اه
وتعقب بان الأول هو الانسب بمقام بيان غاية عنادهم ومكابرتهم مع تعاضد أدلة الايمان وتناجد مبادي الهداية والارشاد وانقطاع أعذارهم بالكلية وقد يقال : إن هذا التفسير أوفق بتسليته صلى الله عليه و سلم التي هي كالمبنى لهذه السورة الكريمة وبها صدرت حيث قال سبحانه : لعلك باخع نفسك أن لايكونوا مؤمنين كأنه جل وعلا بعد أن ذكر فرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة وهو تفسير واضح في نفسه فهو عندي أولى مما تقدم
وفي المطلع أن الضمير للتكذيب والكفر المدلول عليه بقوله تعالى : ماكانوا به مؤمنين وبه قال يحيى بن سلام وروي عن ابن عباس والحسن والمعنى وكذلك سلكنا التكذيب بالقرآن والكفر به في قلوب مشركي مكة ومكناه فيها وقوله تعالى لايؤمنون الخ واقع موقع الايضاح لذلك ولا يظهر على هذا الوجه كونه حالا ولا أرى لهذا المعنى كثرة بعد عن قول من قال أي على مثل هذا السلك سلكنا القرآن وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه في قلوبهم وحاصل الأول كذلك سلكنا التكذيب بالقرآن في قلوبهم
وحاصل هذا وكذلك سلكنا القرآن بصفة التكذيب به في قلوبهم فتأمل وجوز جعل الضمير للبرهان الدال عليه قوله تعالى : أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل وهو بعيد لفظا ومعنى هذا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمجرمين غير الكفرة المتقدمين الذين عادت عليهم الضمائر وهم مشركو مكة من المعاصرين لهم وممن يأتي بعدهم وذلك اشارة إلى السلك في قلوب اولئك المشركين أي مثل ذلك السلك في قلوب مشركي مكة سلكناه في قلوب المجرمين غيرهم لاشتراكهم في الوصف وقوله سبحانه : لايؤمنون به الخ بيان لحال المشركين المتقدمين الذين اعتبروا في جانب المشبه به أو ايضاح لحال المجرمين وبيان لما يقتضيه التشبيه وهو كما ترى ونقل في البحر عن ابن عطية أنه أريد مجرمي كل أمة أي إن سنة الله تعالى فيهم انهم لايؤمنون حتى يروا العذاب فلا ينفعهم الايمان بعد تلبس العذاب بهم وهذا على جهة المثال لقريش أي هؤلاء كذلك وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر انتهى وكأنه جعل ضمير سلكناه لمطلق الكفر لا للكفر بالقرآن وضمير به لله تعالى أو لما أمروا بالايمان به للقرآن والا فلا يكاد يتسنى ذلك وعلى كل حال لاينبغي أن يعول عليه
فيأتيهم أي العذاب بغتة أي فجأة وهم لايشعرون
202
- أي باتيانه فيقولوا أي تحسروا على ما فات من الايمان وتمنيا للامهال لتلافي ما فرطوه هل نحن منظرون
302
- أي مؤخرون والفاء في الموضعين عاطفة وهي كما يدل عليه كلام الكشاف للتعقيب الرتبي دون الوجودي كأنه قيل : حتى يكون رؤيتهم للعذاب الأليم فما هو أشد منها وهو مفاجأته فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة نظير ما في قولك إن أسأت مقتك الصالحون فمتك الله تعالى فلا يرد أن البغت من غير شعور لايصح تعقبه للرؤية في الوجود وقال سري الدين المصري عليه الرحمة في توجيه ما تدل عليه الفاء من التعقيب : إن رؤية العذاب تكون تارة بعد تقدم
(19/129)

أماراته وظهور مقدماته ومشاهدة علاماته وأخرى بغتة لايتقدمها شيء من ذلك فكانت رؤيتهم العذاب محتاجة إلى التفسير فعطف عليها بالفاء التفسيرية قوله تعالى : يأتيتهم بغتة وصح بينهما معنى التعقيب لأن مرتبة المفسر في الذكر أن يقع بعد المفسر كما فعل في التفصيل بالقياس إلى الاجمال كما يستفاد من تحقيقات الشريف في شرح المفتاح ويمكن ان تكون الآية من باب القلب كما هو أحد الوجوه في قوله تعالى : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا للمبالغة في مفاجأة رؤيتهم العذاب حتى كأنهم رأوه قبل المفاجأة والمعنى حتى يأتيهم العذاب الاليم بغتة فيروه انتهى وجعلها بعضهم للتفصيل واعترض على ما قال صاحب الكشاف بأن العذاب الاليم منطو على شدة البغت فلا يصح الترتيب والتعقيب الرتبي وهو وهم كما لايخفى
والظاهر أن جملة وهم لايشعرون حال مؤكدة لما يفيده بغتة فانها كما قال الراغب مفاجأة الشيء من حيث لايحتسب
ثم ان هذه الرؤية وما بعدها إن كانت في الدنيا كما قيل فاتيان العذاب الأليم فيها بغتة مما لاخفاء فيه لأنه قد يفاجئهم فيها ما لم يكن يمر بخاطرهم على حين غفلة وإن كانت في الآخرة فوجه اتيانه فيها بغتة على ما زعمه بعضهم أن المراد به أن يأتيهم من غير استعداد له وانتظار فافهم واختار بعضهم أن ذلك أعم من أن يكون في الدنيا أو في الآخرة
وقرأ الحسن وعيسى تأتيهم بتاء التأنيث وخرج ذلك الزمخشري على أن الضمير للساعة وأبو حيان عن أنه للعذاب بتأويل العقوبة وقال أبو الفضل الرازي : للعذاب وأنث لاشتماله على الساعة فاكتسى منها التأنيث وذلك لأنهم كانوا يسالون عذاب القيامة تكذيبا بها انتهى وهو في غاية الغرابة وكأنه اعتبر إضافة العذاب إلى الساعة معنى بناء على أن المراد بزعمه حتى يروا عذاب الساعة الاليم وقال : باكتسائه التأنيث منها بسبب إضافته اليها لأن الاضافة إلى المؤنث قد تكتسي المضاف المذكر التأنيث كما في قوله : كما شرقت صدر القناة من الدم
ولم أر أحدا سبقه إلى ذلك وقرأ الحسن بغتة بالتحريك وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه ويروه بغتة أفبعذابنا يستعجلون
402
- أي يطلبونه قبل أوانه وذلك قولهم : أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وقولهم : فائتنا بما تعدنا ونحوها أفرأيت أي فاخبر إن متعناهم سنين
502
- أي مدة من الزمان بطول الأعمار وطيب المعاش أو عمر الدنيا على ماروي عن عكرمة وعبر عن ذلك بما ذكر إشارة إلى قلته ثم جاءهم ما كانوا يوعدون
602
- أي الذين كانوا يوعدون من العذاب ما أغنى عنهم أي أي شيء أو أي غناء عنهم ما كانوا يمتعون
702
- أي كونهم ممتعين ذلك التمتيع المديد على أن ما مصدرية كما هو الأولى أو الذي كانوا يمتعونه من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها وأياما كان فالاستفهام للنفي والانكار
وقيل : ما نافية أي لم يغن عنهم ذلك في دفع العذاب أو تخفيفه والاول أولى لكونه أوفق لصورة الاستخبار وأدل على انتفاء الاغناء على أبلغ وجه وآكده وفي ربط النظم الكريم ثلاثة اوجه كما في الكشاف الأول أن قوله سبحانه أفرأيت الخ متصل بقوله تعالى : هل نحن منظرون وقوله جل وعلا : أفبعذابنا يستعجلون معترض للتبكيت وإنكار أن يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه النظرة والامها طرفة عين فلا يجاب
(19/130)

اليها والمعنى على هذا كما في الكشف أنه لما ذكر أنهم لايؤمنون دون مشاهدة العذاب قال سبحانه : إن هذا العذاب الموعود وإن تأخر أياما قلائل فهو لاحق بهم لامحالة وهنالك لاينفعهم ما كانوا فيه من الاغترار المثمر لعدم الايمان وأصل النظم الكريم لايؤمنون حتى يروا العذاب وكيت وكيت فان متعناهم سنين ثم جاءهم هذا العذاب الموعود فأي شيء أو فأي غناء يغني عنهم تمتيعهم تلك الايام القلائل فجيء بفعل الرؤية والاستفهام ليكون في معنى أخبر افادة لمعنى التعجب والانكار وأن من حق هذه القصة أن يخبر بها كل أحد حتى يتعجب
ووسط أفبعذابنا يستعجلون للتبكيت والهمزة فيه للانكار وجيء بالفاء دلالة على ترتبه على السابق كأنه لما وصف العذاب قيل : أيستعجل هذا العذاب عاقل وفي الارشاد اختياران قوله تعالى أفرأيت متصل بقوله سبحانه هل نحن منظرون وجعل الفاء لترتيب الاستخبار على ذلك القول وهي متقدمة على الهمزة معنى وتأخيرها عنها صورة لاقتضاء الهمزة الصدارة وإن أفبعذابنا يستعجلون معترض للتوبيخ والتبكيت وجعل الفاء فيه للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الاليم فيستعجلون بعذابنا وبينهما من التنافي مالايخفى على أحد أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون الخ وصاحب الكشف بعد أن قرر كما ذكرنا قال : إن للعطف على مقدر في هذا الوجه لا وجه له ولعل المنصف يقول لكل وجهة
والثاني أن قوله تعالى أفبعذابنا يستعجلون كلام يوبخون به يوم القيامة عند قولهم فيه هل نحن منظرون حكى لنا لطفا ويستعجلون كلام يوبخون به يوم القيامة عند قولهم فيه هل نحن منظرون حكي لنا لطفا ويستعجلون عليه في معنى استعجلتم إد كذلك يقال لهم ذلك اليوم وكأن أمر الترتيب أو العطف على مقدر وارتباط أفرأيت الخ بقولهم هل نحن منظرون على نحو ما تقدم في الوجه السابق
والثالث أن قوله تعالى أفبعذابنا يستعجلون متصل بما بعده غير مترتب على ما قبله وذلك أن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم وأنهم ممتعون باعمار طوال في سلامة وأمن فقال عز و جل : أفبعذابنا يستعجلون أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل ثم قال سبحانه : هب أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم فاذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم
وعلى هذا يكون فبعذابنا الخ عطفا على مقدر بلا خلاف نحو ايستهزؤن فبعذابنا يستعجلون
وقوله تعالى أفرأيت الخ تعجبا من حالهم مترتبا على الاستهزاء والاستعجال والكلام نظير ما تقول لمخاطبتك : هل تغتر بكثرة العشائر والاموال فاحسب أنها بلغت فوق ما تؤمل اليس بعده الموت وتركهما على حسرة
وهذا الوجه أظهر من الوجه الذي قبله وأياما كان فقوله سبحانه : فبعذابنا متعلق بيستعجلون قدم عليه للايذان بأن مصب الانكار والتوبيخ كون المستعجل به عذابه جل جلاله مع ما فيه على ما قيل من رعاية الفواصل وقريء يمتعون من الامتاع وفي الآية موعظة عظيمة لمن له قلب روي عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية فقال ميمون لقد وعظت فأبلغت وما أهلكنا من قرية من القرى المهلكة إلا لها منذرون
802
- قد أنذروا أهلها الزاما للحجة والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما و منذرون مبتدأ والجملة في موضع الحال من قرية قاله أبو حيان ثم قال : الاعراب أن يكون لها في موضع الحال وارتفع منذرون بالجار والمجرور أي الا كائنا لها منذرون فيكون من مجيء الحال مفردا لا جملة ومجيء الحال من المنفي كقولك ما مررت بأحد
(19/131)

إلا قائما فصبح انتهى وفي الوجهين مجيء الحال من النكرة حسن ذلك على ما قيل عمومها لوقوعها في حيز النفي مع زيادة من قبلها وكأن هذا القائل جعل العموم مسوغا لمجيء الحال قياسا على جعلهم إياه مسوغا للابتداء بالنكرة لاشتراك العلة وذهب الزمخشري إلى أن لها منذرون جملة في موضع الصفة لقرية ولم يجوز أبو حيان كون الجملة الواقعة بعد إلا صفة ثم قال : مذهب الجمهور إنه لاتجيء الصفة بعد إلا معتمدة على اداة الاستثناء نحو ما جاءني أحد إلا راكب وإذا سمع خرج على البدل أي إلا رجل راكب ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : مامررت بأحد إلا قائما ولا يحفظ من كلامها ما مررت باحد إلا قائم فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة لورد المفرد بعد إلا صفة لها فان كانت الصفة غير معتمدة على الاداة جاءت الصفة بعد إلا نحو ما جاءني إلا زيد خير من عمرو فان التقدير ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد انتهى فتذكر وأيا ماكان فضمير لها للقرية التي هي لما سمعت في معنى الجمع فكأنه قيل وما أهلكنا القرى إلا لها منذرون على معنى أن للكل منذرين أعم من أن يكون لكل قرية منها منذر واحد أو أكثر
وقوله تعالى : ذكرى منصوب على الحال من الضمير في منذرون عند الكسائي وعلى المصدر عند الزجاج فعلى الحال إما أن يقدر ذوي ذكرى أو يقدر مذكرين أو يبقى على ظاهره اعتبارا للمبالغة وعلى المصدر فالعامل منذرون لأنه في معند مذكورون ذكرى أي تذكرة وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولا له على معنى أنهم ينذرون لاجل الموعظة والتذكرة وأن يكون مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى أو مذكرين أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة لامعانهم في التذكرة وأطنابهم فيها وجوز أيضا أن يكون متعلقا باهلكنا على أنه مفعول له والمعنى ما أهلكنا من قرية ظالمين الا بعد ما ألزمناهم الحجة بارسال المنذرين اليهم ليكون اهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم ثم قال وهذا هو الوجه المعول عليه وبين ذلك في الكشف بقوله : لأنه وعيد للمستهزئين وبانهم يستحقون أو يجعلوا نكالا وعبرة لغيرهم كالامم السوالف حيث فعلوا مثل فعلهم من الاستهزاء والتكذيب فجوزوا وحينئذ يتلائم الكلام انتهى وتعقب بأن مذهب الجمهور أن ما قيل إلا لايعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا له غير معتمد على الأداة والمفعول له ليس واحدا من هذه الثلاثة فلا يجوز أن يتعلق باهلكنا ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والاخفش وإن كانا لم ينصبا على المفعول له هنا وكان ذلك لما في نصبه عليه من التكلف وأمر الالتئام سهل كما لايخفى وما كنا ظالمين
902
- أي ليس شأننا أن يصدر عنا بمقتضى الحكمة ما هو في صورة الظلم لو صدر من غيرنا بأن نهلك أحدا قبل انذاره أوبأن نعاقب من يظلم ولارادة نفي أن يكون ذلك من شأنه عز شأنه قال وما كنا دون وما نظلم وما تنزلت به الشياطين
12
- متعلق بقوله تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين الخ وهو رد لقول مشركي قريش إن لمحمد صلى الله عليه و سلم تابعا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة وأن القرآن مما ألقاه اليه عليه الصلاة و السلام والتعبير بالتفعيل لأن النزول لو وقع لكان بالاستراق التدريجي وقرأ الحسن وابن السميقع الشياطون فقال أبو حاتم : هو غلط من الحسن أو عليه وقال النحاس هو غلط عند جميع النحويين وقال المهدوي هو غير جائز في العربية وقال الفراء : غلط الشخ ظن أنها النون التي على هجائين وقال الضر بن شميل : إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة فهلا جاز أن يحتج
(19/132)

بقول الحسن وصاحبه مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به الا وقد سمعا فيه وقال يونس بن حبيب سمعت اعرابيا يقول دخلت بساتين من روائها بساتون فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن انتهى ووجت هذه القراءة بانه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين وقد قيل فيهما يبون وفلسطون اجري فيه نحو ما أجري فيهما فقيل الشياطون
وحقه على هذا على مافي الكشاف أن يشتق من الشيطوطة وهي الهلاك وفي البحر نقلا عن بعضهم إن كان اشتقاقه من شاط أي احترق يشيط شوطة كان لقراءتهما وجه قيل : ووجهها أن بناء المبالغة من شياط وجمعه الشياطون فخففا الياء وقد روي عنهما بالتشديد وقرأ به غيرهما وقال بعض : إنه جمع شياط مصدر شاط كخاط خياطا كأنهما ردا الوصف إلى المصدر بمعناه مبالغة ثم جمعا والكل كما ترى وقال صاحب الكشف لا وجه لتصحيح هذه القراءة البتة وقد أطنب ابن جني في تصحيحها ثم قال : وعلى كل حال فالشياطون غلط وأبو حيان لايرضى بكونه غلطا ويقول : قرأ به الحسن وابن السميقع والاعمش ولايمكن أن يقال غلطوا لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان والله تعالى أعلم والذي أراه أنه متى صح رفع هذه القراءة إلى هؤلاء الاجلة لزم توجيهها فانهم لايقرؤن إلا عن روياة كغيرهم من القراء في جميع ما يقرؤنه عندنا وزعم المعتزلة أن بعض القراءات بالرأي
وما ينبغي لهم أي وما يصح وما يستقيم لهم ذلك وما يستطيعون
112
- أي وما يقدرون على ذلك أصلا
إنهم أي الشياطين عن السمع لما يتكلم به الملائكة عليهم السلام في السماء لمعزولون
212
- أي ممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكنين كما يدل عليه قوله تعالى وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا والمراد تعليل ما تقدم على أبلغ وجه لأنهم إذا كانوا ممنوعين عن سماع ما تتكلم به الملائكة في السماء كانوا ممنوعين من أخذ القرآن المجيد من اللوح المحفوظ أو من بيت العزة أو من سماعه إذ يظهره الله عز و جل لمن شاء في سمائه من باب أولى وقيل : المعنى انهم لمعزولون عن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام لأنه مشروط بالمشاركة في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لاتقبل ذلك والقرآن الكريم مشتمل على حقائق ومغيبات لايمكن تلقيها الا من الملائكة عليهم السلام وتعقب بانه إن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام مطلقا مشروط بصفات هم متصفون بنقائضها فهو غير مسلم كيف وقد ثبت أن الشياطين كانوا يسترقون السمع وظاهر الآيات أنهم إلى اليوم يسترقونه ويخطفونه الخطفة فيتبعهم شهاب ثاقب وأيضا لو كان ما ذكر شرطا للسمع وهو منتف فيهم فأي فائدة للحرس ومنعهم عن السمع بالرجوم
وأيضا لو صح ما ذكر بم يتأت لهم سماع القرآن العظيم من الملائكة عليهم السلام سواء كان مشتملا على الحقائق والمغيبات أم لا فما فائدة في قوله : والقرآن مشتمل الخ إلى غير ذلك وإن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام إذا كان وحيا منزلا على الأنبياء عليهم السلام مشروط بما ذكر فهو مع كونه خلاف ظاهر الكلام غير مسلم أيضا كيف وقد ثبت أن جبريل عليه السلام حين ينزل بالقرآن ينزل معه رصد حفظا للوحي من الشيطان وقد قال عز و جل لايظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأيضا ظاهر العزل عن السمع يقتضي انهم كانوا ممكنين منه قبل ثم منعوا عنه فيلزم على ما ذكر أنهم كانوا يسمعون الوحي من قبل مع أن نفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات
(19/133)

فيبطل كون المشاركة المذكورة شرطا للسمع فان ادعي أن الشرط كان موجودا إذ ذاك ثم فقد والتزم القول بجواز تغير ما بالذات فهو مما لم يقم عليه دليل وقياس جميع الشياطين على ابليس عليه اللعنة ممالايخفى حاله فتدبر
وبالجملة الذي أميل اليه في معنى الآية ما ذكرته أولا وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك وجوز كون ضمير انهم للمشركين والمراد أنهم لايصغون للحق لعنادهم وفي الآية شمة من قوله تعالى والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات وهو بعيد جدا
فلا تدع مع الله الها ءاخر فتكون من المعذبين
312
- خوطب به النبي صلى الله عليه و سلم مع استحالة صدور المنهي عنه عليه الصلاة و السلام تهييجا وحثا لازدياد الاخلاص فهو كناية عن اخلاص في التوحيد حتى لاترى معه عز و جل سواه وفيه لطف لسائر المكلفين ببيان أن الاشراك من القبح والسوء بحيث ينهى عنه من لم يكن صدوره عنه فكيف بمن عداه وكأن الفاء فصيحة أي إذا علمت ما ذكر فلا تدع مع الله الها آخر وأنذر العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي عشيرتك الأقربين
412
- أي ذوي القرابة القريبة أو الذين هم أكثر قربا اليك من غيرهم
والعشيرة على ما قال الجوهري : رهط الرجل الأدنون وقال الراغب هم أهل الرجل الذين يتكثر بهم أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل وهو العشرة واشتهر ان طبقات الانساب ست الأولى الشعب بفتح الشين وهو النسب الأبعد كعدنان الثانية القبيلة وهي ما أنقسم فيه الشعب كربيعة ومضر والثالثة العمارة بكسر العين وهي ما انقسم فيه انساب القبيلة كقريش وكنانة الرابعة البطن وهو ما انقسم فيه انساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم والخامسة الفخذ وهو ما أنقسم فيه انساب البطن كبني هاشم وبني أمية السادسة الفصيلة وهي ما أنقسم فيه أنساب الفخذ كبني العباس وبني عبد المطلب وليس دون الفصيلة إلا الرجل وولده
وحكى ابو عبيد عن ابن الكلبي عن ابيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة في ذكرها بعد القبيلة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يحك ما يخالفه ولم يذكر في الترتيبين العشيرة وفي البحر أنها تحت الفخذ فوق الفصيلة والظاهر أن ذلك على الترتيب الأول
وحكى بعضهم بعد أن نقل الترتيب المذكور عن النووي عليه الرحمة أنه قال في تحرير التنبيه : وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة ويفهم من كلام البعض أن العشيرة إذا وصفت بالأقرب اتحدت مع الفصيلة التي هي سادسة الطبقات وأنت تعلم أن الأقربية إدا كانت مأخوذة في مفهومها كما يفهم من كلام الجوهري تستغني دعوى الاتحاد عن الوصف المذكور
وفي كليات أبي البقاء كل جماعة كثيرة من الناس يرجعون إلى أب مشهور بامر زائد فهو شعب كعدنان ودونه القبيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب الشعب كربيعة ومضر ثم العمارة وهي ما انقسمت فيها أنساب القبيلة كقريش وكنانة ثم البطن وهي ما انقسمت فيها أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم ثم الفخذ وهي ما انقسمت فيها أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية ثم العشيرة وهي ما انقسمت فيها أنساب الفخذ كبني العباس وبني أبي طالب والحي يصدق على الكل لأنه للجماعة المتنازلين بمربع منهم انتهى
ولم يذكر فيه الفصيلة وكأنه يذهب إلى اتحادها بالعشيرة ووجه تخصيص عشيرته صلى الله تعالى عليه وسلم الأقربين بالذكر مع عموم رسالته
(19/134)

عليه الصلاة و السلام دفع توهم المحاباة وأن الأهتمام بشأنهم وأن البداءة تكون بمن يلي ثم بعده كما قال سبحانه : قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وفي كيفية الانذار أخبار كثيرة منها ما أخرجه البخاري عن أبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه و سلم على الصفا فجعل ينادي يابني فهر يابني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالواودي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال : فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تبالك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب ومنها ما أخرجه أحمد وجماعة عن أبي هريرة قال : لما نزلت وأنذر عشيرتك الاقربين دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا وعم وخص فقال : يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار فاني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يامعشر بني كعب ابن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فاني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فاني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم فاني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا فاطمة بنت محمد انقذي نفسك من النار فاني لاأملك لك ضرا ولا نفعا ألا أن لكم رحما وسأبلها ببلاها
وجاء في بعض الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما نزلت الآية جمع عليه الصلاة و السلام بني هاشم فأجلسهم على الباب وجمع نساءه وأهله فاجلسهم في البيت ثم اطلع عليهم فأنذرهم وجاء في بعض ءاخر منها أنه عليه الصلاة و السلام أمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يصنع طعاما ويجمع له بني عبد المطلب ففعل وجمعهم وهم يومئذ أربعون رجلا فبعد أن أكلوا أراد صلى الله عليه و سلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم فتفرقوا ثم دعاهم منن الغد إلى مثل ذلك ثم بدرهم بالكلام فقال : يا بني عبد المطلب إني أنا النذير اليكم من الله تعالى والبشير قد جئتكم بما لم يجيء به أحد جئتكم بالدنيا والآخرة فاسلموا تسلموا وأطيعوا تهتدوا إلى غير ذلك من الأخبار والروايات وإدا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الأنذار
ومن الروايات ما يتمسك به الشيعة فيما يدعونه في أمر الخلافة وهو مؤول أو ضعيف أو موضوع وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين واخفض جناحك لما اتبعك من المؤمنين
512
- أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بالتواضع على سبيل الاستعارة التبعية أو التمثيلية أو المجاز المرسل وعلاقته اللزوم ويستعمل في التكبر رفع الجناح وعلى ذلك جاء قول الشاعر : وأنت الشهير بخفض الجناح فلا تك في رفعة أجدلا و من قيل : بيانية لأن من اتبع في أصل معناه أعم ممن أتبع لدين أو غيره ففيه إبهام وبذكر المؤمنين المراد بهم المتبعون للدين زال ذلك وقيل : للتبعيض بناء على شيوع من اتبع فيمن اتبع للدين وحمل المؤمنين على من صدق باللسان ولو نفاقا ولا شك أن المتبعين للدين بعض المؤمنين بهذا المعنى وجوز أن يحمل على من شارف وإن لم يؤمن ولا شك أيضا أن المتبعين المذكورين بعضهم وفي الآية على القولين أمر بالتواضع لمن اتبع للدين
(19/135)

وقال بعضهم : على تقدير كونها بيانية أن المؤمنين يراد بهم الذين لم يؤمنوا بعد وشارفوا لأن يؤمنوا كالمؤلفة مجاز باعتبار الأول وكان من اتبعك شائعا في من آمن حقيقة ومن آمن مجازا فبين بقوله تعالى : من المؤمنين ان المراد بهم المشارفون أي تواضع للمشارفين استمالة وتأليفا وعلى تقدير كونها تبعيضية يراد بالمؤمنين الذين قالوا ءامنا وهم صنفان صنف صدق واتبع وصنف ما وجد منهم إلا التصديق فقيل : من المؤمنين وأريد بعض الذين صدقوا واتبعوا أي تواضع لبعض المؤمنين وهم الذين اتبعوك محبة ومودة وعلى هذا يكون أمر صلى الله عليه و سلم بالتواضع لهم على تقدير البيان غير الذي أمر عليه الصلاة و السلام بالتواضع لهم على تقدير التبعيض وقال بعض الأجلة الاتباع والايمان توأمان إذ المتبادر من اتباعه عليه الصلاة و السلام اتباعه الديني وكذا المتبادر من الايمان الايمان الحقيقي وذكر من المؤمنين لافادة التعميم كذكر يطير بجناحيه بعد طائر في قوله تعالى ولا طائر يطير بجناحيه وتفيد الآية الأمر بالتواضع لكل من ءامن من عشيرته صلى الله عليه و سلم وغيرهم
وقال الطيبي : الاجراء على أفانين البلاغة أن يحمل الكلام على أسلوب وضع المظهر موضع المضمر وان الأصل وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك منهم فعدل الى المؤمنينليعم ويؤذن أن صفة الايمان هي التي يستحق أن يكرم صاحبها ويتواضع لأجلها من اتصف بها سواء كان من عشيرتك أو غيرهم وليس هذا بالبعيد لكني أختار كون بيانية وان عموم من اتبعك باعتبار أصل معناه وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين بدأ صلى الله عليه و سلم بأهل بيته وفصيلته فشق ذلك على المسلمين فانزل الله تعالى واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين
فان عصوك فقل إني بريء مما تعملون
612
- الظاهر أن الضمير المرفوع في عصوك عائد على من أنذر صلى الله عليه و سلم بانذارهم وهم العشيرة أي فان عصوك ولم يتبعوك بعد أنذارهم فقل : إني بريء من عملكم أو الذي تعملونه من دعائكم مع الله تعالى إلها ءاخر وجوز أن يكون عائدا على الكفار المفهوم من السياق وقيل : هو عائد على من اتبع من المؤمنين أي فان عصوك يا محمد في الاحكام وفروع الاسلام بعد تصديقك والايمان بك وتواضعك لهم فقل : إني بريء مما تعملون من المعاصي أي أظهر عدم رضاك بذلك وانكاره عليهم وذكر على هذا أنه صلى الله عليه و سلم لو أمر بالبراءة منهم ما بقي شفيعا للعصاة يوم القيامة والآية على غير هذا القول منسوخة
أخرج ابن ابي حاتم عن ابن زيد أنه قال : أمره سبحانه بهذا ثم نسخه فامره بجهادهم وفي البحر هذه موادعة نسختها ءاية السيف وتوكل على العزيز الرحيم
712
- فهو سبحانه يقهر من يعصيك منهم ومن غيرهم بعزته وينصرك برحمته وتقديم وصف العزة قيل لأنه أوفق بمقام التسلي عن المشاق اللاحقة من القوم اليه صلى الله عليه و سلم وجوز أن يكون ذلك لأن العزة كالعلة المصححة للتوكل والرحمة كالعلة الداعية اليه وفسره غير واحد بتفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على أن ينفعه ويضره وقالوا : المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله تعالى وذكر بعضهم أن هذا من أحط مراتب التوكل وأدناه ونقل عن بعض العارفين أنه فيما بين الناس على ثلاث درجات الاولى التوكل مع الطلب ومعاطاة السبب على نية شغل النفس ونفع الخلق وترك الدعوى والثانية التوكل مع اسقاط الطلب وغض العين عن السبب اجتهادا في تصحيح التوكل وقمع تشرف النفس تفرغا إلى حفظ الواجبات والثالثة التوكل مع معرفة التوكل النازعة
(19/136)

الىالى الخلاص من علة التوكل وذلك أن يعلم أن الله تعالى لم يترك أمرا مهملا بل فرغ من الأشياء كلها وقدرها وشأنه سبحانه سوق المقادير إلى المواقيت فالمتوكل من أراح نفسه من كد النظر ومطالعة السبب سكونا إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين وهو أن يعلم أن الطلب لاينفع والتوكل لايمنع ومتى طالع بتوكله عوضا كان توكله مدخولا وقصده معلولا واذا خلص من رق الأسباب ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الله تعالى كفاه الله تعالى كل منهم وبين العلامة الطيبي أن في قوله تعالى : وتوكل الخ اشارة الى المراتب الثلاث بما فيه خفاء
وفي مصاحف أهل المدينة والشام فتوكل بالفاء وبه قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة وخرج على الابدال من جواب الشرط وجعل في الكشاف الفاء للعطف وما بعده معطوفا على فقل أو فلاتدع وما ذكر أولا أظهر الذي يريك حين تقوم
812
- أي إلى الصلاة وتقلبك أي ويرى سبحانه تغيرك من حال كالجلوس والسجود إلى ءاخر كالقيام في الساجدين
912
- أي فيما بين المصلين إذا أممتهم وعبر عنهم بالساجدين لأن السجود حالة مزيد قرب العبد من ربه عز و جل وهو أفضل الأركان على ما نص عليه جمع من الأئمة وتفسير هذه الجملة بما ذكر مروي عن ابن عباس وجماعة من المفسرين الا أن منهم من قال : المراد حين تقوم الى الصلاة بالناس جماعة وقيل : المعنى يراك حين تقوم للتهجد ويرى تقلبك أي ذهابك ومجيئك فيما بين المتهجدين لتتصفح أحوالهم وتطلع عليهم من حيث لايشعرون وتستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم كما روي أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلى الله تعالى عليه وسلم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعتهم فوجدها كبيوت النحل لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى والتلاوة وعن مجاهد أن المراد بقوله سبحانه : وتقلبك في الساجدين تقلب بصره عليه الصلاة و السلام فيمن يصلي خلفه فانه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرى من خلفه ففي صحيح البخاري عن أنس قال : أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بوجهه فقال : أقيموا صفوفكم وتراصوا فاني أراكم منن وراء ظهري
وفي رواية أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول : استووا استووا استووا والذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي ولا يخفى بعد حمل ما في الآية على ما ذكر
وقيل : المراد بالساجدين المؤمنون والمعنى يراك حين تقوم لأداء الرسالة ويرى تقلبك وترددك فيما بين المؤمنين أو معهم فيما فيه إعلان أمر الله تعالى وإعلاء كلمته سبحانه وتفسير الساجدين بالمؤمنين مروي عن ابن عباس وقتادة إلا أن كون المعنى ما ذكر لايخلو عن خفاء
وعن ابن جبير أن المراد بهم الانبياء عليهم السلام والمعنى ويرى تقلبك كما يتقلب غيرك منن الانبياء عليهم السلام في تبليغ ما أمروا بتبليغه وهو كما ترى وتفسير الساجدين بالأنبياء رواه جماعة منهم الطبراني والبزار وأبو نعيم عن ابن عباس أيضا إلا أنه رضي الله تعالى عنه فسر التقلب فيهم بالتنقل في اصلابهم حتى ولدته أمه عليه الصلاة و السلام وجوز على حمل التقلب على التنقل في الأصلاب أن يارد بالساجدين
(19/137)

المؤمنون واستدل بالآية على إيمان أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم كما ذهب اليه كثير من أجلة أهل السنة وأنا أخشى الكفر على من يقول فيهما رضي الله تعالى عنهما على رغم أنف على القاريء واضرابه بضد ذلك إلا أني لا أقول بحجية اةية على هذا المطلب ورؤية الله تعالى انكشاف لائق بشأنه عز شأنه غير الانكشاف العلمي ويتعلق بالموجود والمعدوم الخارجي عند العارفين وقالوا : إن رؤية الله تعالى للمعدوم نظير رؤية الشخص القيامة ونحوها في المنام وكثير من المتكلمين أنكروا تعلقها بالمعدوم ومنهم من أرجعها إلى صفة العلم وتحقيق ذلك في محله وفي وصفه تعالى برؤيته حاله صلى الله عليه و سلم التي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بما تقدم تحقيق للتوكل وتوطين لقلبه الشريف عليه الصلاة و السلام عليه
وقرأ جناح بن حبيش ويقلبك مضارع قلب مشددا وخرج ذلك أبو حيان على العطف على يراك وجوز العطف على تقوم وفي الكلام على هذه القراءة إشارة الى وقوع تقلبه صلى الله عليه و سلم في الساجدين على وجه الكمال وكمال التقلب في الصلاة كونه بخشوع يغفل معه عما سوى الله تعالى إنه هو السميع بكل ما يصح تعلق السمع به ويندرج فيه ما يقوله صلى الله عليه و سلم العليم
22
- بكل ما يصح تعلق العلم به ويندرج فيه ما يعمله أو ينويه عليه الصلاة و السلام وفي الجملة الاسمية إشارة إلى أنه سبحانه متصف بما ذكر أزلا وأبدا ولا توقف لذلك على وجود المسموعات والمعلومات في الخارج والحصر فيها حقيقي أي هو تعالى كذلك لاغيره سبحانه وتعالى
وكأن الجملة متعلقة بالجملتين الواقعتين في حيز الجزاء جيء بها للتحريض على القول السابق والتوكل وجوز أن تكون متعلقة بما في حيز الصلة والمراد منها التحريض على ايقاع الأقوال والأفعال التي في الصلاة على أكمل وجه فتأمل
وقوله تعالى هل انبئكم على من تنزل الشياطين
122
- الخ مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد بيان امتناع تنزلهم بالقرآن وهذه الجملة وقوله تعالى وانه لتنزيل رب العالمين الخ وقوله سبحانه : وما تنزلت به الشياطين الخ أخوات وفرق بينهن بآيات ليست في معناهن ليرجع الى المجيء بهن وتطرية ذكر ما فيهن كرة بعد كرة فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت عناية الله تعالى بها ومثاله أن يحدث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع اليه والاستفهام للتقرير و على من متعلق بتنزل قدم عليه لصدارة المجرور وتقديم الجار لايضر كما بين في النحو وقال الزمخشري في ذلك : ان من متضمنة معنى الاستفهام وليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا معنى الاسم ومعنى الحرف وإنما معناه أن الأصل أمن فحذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال على حذفه كما حذف من هل والأصل أهل كما قال : سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم فاذا أدخلت حرف الجر على من فقدر الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك كأنك تقول : أعلى من تنزل الشياطين كقولك : أعلى زيد مررتاه وتعقبه صاحب الفرائدبقوله : يشكل ما ذكر بقولهم : من أين أنت ومن أين جئت وقوله تعالى : من أي شيء خلقه وقوله فيم : وبم ومم وحتام ونحوها وأجاب صاحب الكشف بأنه لا إشكال في نحو من أين أنت لأن التقدير أمن البصرة أم من الكوفة مثلا ولا يخفى أنه
(19/138)

لايحتاج على ما حققه النحاة الى جميع ذلك وجملة على من تنزل الخ في موضع نصب بأنبئكم لأنه معلق بالاستفهام وهي إما سادة مسد المفعول الثاني ان قدرت الفعل متعديا لأثنين ومسد مفعولين ان قدرته متعديا لثلاثة والمراد هل أعلمكم جواب هذأ الاستفهام اعني على من تنزل الشياطين م وأصل تنزل تتنزل فحذف أحدى التاءين والكلام على معنى القول عند أبي حيان كأنه قيل : قل يا محمد هل انبئكم على من انزل الشياطين تنزل على كل أفاك أي كثير الافك وهو الكذب أثيم
222
- كثير الاثم و كل للتكثير وجوز أن تكون للاحاطة ولا بعد في تنزلها على كل كامل في الافك والاثم كالكهنة نحو شق بن رهم بن نذير وسطيح بن ربيعة ابن عدي والمراد بواسطة التخصيص في معرض البيان أو السياق أو مفهوم المخالفة عند القائل به قصر تنزلهم على كل من اتصف بما ذكر من الصفات وتخصيص له بهم لايتخطاهم إلى غيرهم وحيث كانت ساحة رسول الله صلى الله عليه و سلم منزهة من أن يحوم حولها شائبة شيء من تلك الأوصاف اتضح استحالة تنرلهم عليه عليه الصلاة و السلام يلقون أي الافاكون السمع أي سمعهم الى الشياطين والقاء السمع مجاز عن شدة الاصغاء للتلقي فكأنه قيل : يصغون إصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون وأكثرهم أي الأفاكون كاذبون
322
- فيما يقولونه من الاقاويل والأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون في أقوالهم وإنما هم في أكثرها كاذبون ومآله وأكثر أقوالهم كاذبة لاباعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقين على الاطلاق ويلتزم لذلك كون الأكثر بمعنى الكل
وليس معنى الافاك من لاينطق إلا بالافك حتى يمتنع منه الصدق بل يكثر الافك فلا ينافيه ان يصدق نادرا في بعض الأحايين وجوز أن يكون السمع بمعنى المسموع والقاؤه مجاز عن ذكره أن يلقي الافاكون إلى الناس المسوع من الشياطين وأكثرهم كاذبون فيما يحكون عن الشياطين ولم يرتضه بعضهم لبعده أو لقلة جدواه على ما قيل واختلف في سبب كون اكثر أقوالهم كاذبة فقيل : هو بعد البعثة كونهم يتلقون منهم ظنونا وأمارات إذ ليس لهم من علم الغيب نصيب وهم محجوبون عن خبر السماء ولعدم صفاء نفوسهم قلما تصدق ظنونهم ومع ذلك يضم الافاكون اليها لعدم وفائها بمرادهم على حسب تخيلاتهم أشياء لايطابق أكثرها الواقع وقيل البعثة إذ كانوا غير محجوبين عن خبر السماء وكانوا يسمعون من الملائكة عليهم السلام ما يسمعونه من الأخبار الغيبية يحتمل أن يكون كثرة غلط الأفاكين في الفهم لقصور فهمهم عنهم ويحتمل أن يكون ضمهم إلى ما يفهمونه من الحق أشياء من عند أنفسهم لايطابق أكثرها الواقع ويحتمل أن يكون كثرة غلط الشياطين الذين يوحون اليهم في الفهم عن الملائكة عليهم السلام لقصور فهمهم عنهم ويحتمل أن يكون ضم الشياطين إلى ما يفهمونه من الحق من الملائكة عليهم السلام أشياء من عند انفسهم لايطابق أكثرها الواقع ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر وقيل : هو قبل البعثة يحتمل أن يكون أحد هذه الأمور وأما بعد البعثة فهو كثرة خلطهم الكذب فيما تخطفه الشياطين عند استراقهم السمع من الملائكة ويلقونه اليهم
فقد أخر البخاري ومسلم وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : سأل أناس النبي صلى الله عليه و سلم عن الكهان فقال : إنهم ليسوا بشيء فقالوا : يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا قال : تلك
(19/139)

الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقذفها في اذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة وقيل : هو قبل البعثة وبعدها كثرة خلط الأفاكين الكذب فيما يتلقونه من الشياطين أما كثرته قبل البعثة فلظاهر الخبر المذكور وأما كثرته بعد البعثة فلما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية : كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتستمع ثم تنرل إلى الكهنة فتخبرهم فتحدث الكهنة بما أنزلت به الشياطين من السمع وتخلط به الكهنة كذبا كثيرا فيحدثون به الناس فأما ما كان من سمع السماء فيكون حقا وأما ما خلطوه به من الكذب فيكون كذبا ولايخفى أن القول بأن الشياطين بعد البعثة يلقون ما يسترقونه من السمع إلى الكهنة غير مجمع عليه ومن القائلين به من يجوز أن يكون الضمير يلقون في اةية راجعا الى الشياطين والمعنى يلقي الشياطين المسوع من الملأ الأعلى قبل أن يرجموا من بعض المغيبات إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به اليهم إد لايسمعونهم على نحو ما تكلمت به الملائكة عليهم السلام لشرارتهم أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم وقيل : المعنى عليه ينصت الشياطين ويستمعون إلى الملأ الأعلى قبل الرجم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إلى أوليائهم بعد لشرارتهم أو لأنهم لايسمعون في أنفسهم أو لايسمعون أولياءهم بعد ذلك السمع كلام الملائكة عليهم السلام على وجه وجملة يلقون على تقدير كون الضمير للافاكين صفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع سواء أريد بالفاء السمع الاصغاء إلى الشياطين أو القاء المسوع إلى الناس وجوز أن تكون استئنافا اخبارا بحالهم على كلا التقديرين لما أن كلا من تلقيهم من الشياطين وإلقائهم إلى الناس يكون بعد التنزل واستظهر تقدير المبتدأ على هذا وأن تكون استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل : مايفعلون عند تنزل الشياطين أو ما يفعلون بعد تنزلهم فقيل : يلقون اليهم أسماعهم ليحفظوا ما يوحون به اليهم أو يلقون ما يسمعونه منهم إلى الناس وجوز أن تكون حالا منتظرة على التقديرين أيضا
وهي على تقدير كون الضمير للشياطين والمعنى ما سمعت أولا قيل : تحتمل أن تكون استئنافا مبينا للغرض من التنزل مبنيا على السؤال عنه كأنه قيل لم تنزل عليهم فقيل : يلقون اليهم ما سمعوه وأن تكون حالا منتظرة من ضمير الشياطين أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين مايسمعونه من الملأ الأعلى اليهم وعلى ذلك التقدير والمعنى ما سمعت ثانيا قيل : لايجوز أن تكون استئنافا نظير ما ذكر آنفا ولا أن تكون حالا أيضا لأن القاء السمع بمعنى الانصات مقدم على التنزل المذكور فكيف يكون غرضا منه أو حالا مقارنة أو منتظرة ويتعين كونها استئنافا للاخبار بحالهم
وتعقب بأنه غير سديد لأن ذكر حالهم السابقة على تنزلهم المذكور قبله غير خليق بجزالة التنزيل ومن هنا قيل : ان جعل الضمير للشياطين وحمل القاء السمع على أنصاتهم وتسمعهم إلى الملأ ألاعلى مما لاسبيل اليه وفيه نظر وجملة هم كاذبون استئنافية أو تحتمل الاستئنافية والحالية وهذا وأعلم أن ههنا اشكالا واردا على بعض الاحتمالات في الآية لأنها عليه تفيد ان الشياطين يسمعون الملائكة عليهم السلام ما يسمعونه ويلقونه إلى الأفاكين وقد تقدم ما يدل على منعهم عن السمع أعني قوله تعالى إنهم عن السمع لمعزولون
وأجيب بأن المراد بالسمع فيما تقدم السمع المعتد به وفيما ههنا السمع في الجملة ويراد به
(19/140)

الخطفة المذكورة في قوله سبحانه إلا من خطف الخطفة والكلمة المذكورة في خبر الصحيحين وابن مردويه السابق آنفا واعترض بأن من خطف لايبقى حيا إلى أن يوصل ما خطفه إلى وليه لظاهر قوله تعالى إلا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب فان ظاهره أنه يهلك بالشهاب الذي لحقه
وأجيب بأن نفي بقائه حيا غير مسلم ولا نسلم أن الآية ظاهرة فيما ذكر إذ ليس فيها أكثر من اتباع الشهاب الثاقب إياه وهو يحتمل الزجر كما يحتمل الاهلاك فليرد اتباعه للزجر مع بقائه حيا فان الخبر المذكور يقتضي بقاءه كذلك وجاء عن ابن عباس أن الشياطين كانوا لايحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون إلى الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات فلما ولد محمد صلى الله عليه و سلم منعوا من السموات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب وهو الشعلة من النار فلا يخطيء أبدا فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البراري وقيل : إن المراد بالسمع فيما تقدم سمع الوحي وفيما هنا سمع المغيبات غيره وهم غير ممنوعين عنه قبل البعثة وبعدها وهذا مأخوذ من كلام عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة تأريخه التي لم ينسج على منوالها وان كان للطعن فيها مجال قال : إن الآيات إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو مايتعلق بخبر البعثة ولم يمنعوا مما سوى ذلك بل ربما يقال : إن في كلامه بعد اشعارا بأن المنع إنما كان بين يدي النبوة فقط لاقبل ذلك ولا بعده
ولايخفى أن الظواهر تشهد بمنعهم مطلقا الى يوم القيامة بل قد يدعي ان في الآيات ما يدل على أن حفظ السماء بالكواكب لم يحدث وان خلقها لذلك وهو ظاهر في أنهم كانوا ممنوعين أيضا قبل ولادته صلى الله تعالى عليه وسلم من خبر السماء ويشكل هذا على ظاهر العزل الا أن يدعي أن المنع قبل لم يكن بمثابة المنع بعد فالعزل عما كان يجعل المنع شديدا بالنسبة اليه وفي اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر لمولانا عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة الصحيح أن الشياطين ممنوعون من السمع منذ بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الى يوم القيامة وبتقدير استراقهم فلا يتوصلون الى الانس ليخبروهم بما استرقوه بل تحرقهم الشهب وتفنيهم انتهى
قيل ويلزم القائلين بهذا حمل ما في خبر الصحيحين على كهان كانوا قبل البعثة وقد أدركهم السائلون وهو الذي يقتضيه كلام القاضي أيضا فقد نقل النووي عنه في شرحه صحيح مسلم أنه قال : كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب أحدها أن يكون للانسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ءاخر ما قال وهو ظاهر كلام البوصيري حيث يقول : بعث الله عند مبعثه الشه ب حراسا وضاق عنها الفضاء تطرد الجن عن مقاعد للسم ع كما يطرد الذئاب الرعاء فمحت ءاية الكهانة ءايا ت من الوحي مالهن انمحاء وقد قيل في الجواب عن الاشكال نحو هذا وهو أن تنزل الشياطين والقاءهم ما يسمعونه من السماء إلى أوليائهم حسبما تفيده الآية المذكورة في أحد محاملها إنما كان قبل البعثة حيث لم يكن حينئذ منع أو كان لكنه لم يكن شديدا والمنع من السمع الذي يفيده قوله تعالى : انهم عن السمع لمعزولون إنما كان
(19/141)

بعدبعد البعثة وكان على أتم وجه وهذا مشكل عندي بابن الصياد وما كان منه فانهم عدوه عدوه من الكهان وقد صح أنه قال للنبي عليه الصلاة و السلام حين سأله عن أمره : يأتيني صادق وكاذب وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم امتحنه فاضمر له ءاية الدخان وهي قوله تعالى فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين وقال صلى الله عليه و سلم : خبأت لك خبأ فقال ابن الصياد : هو الدخ أي الدخان وهي لغة فيه كما ذهب اليه الجمهور فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : اخسأ فلن تعدو قدرك
وقد قال القاضي كما نقل النووي عنه أيضا : أصح الأقوال أنه لم يهتد من الآية التي أضمرها النبي عليه الصلاة و السلام إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان اليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ويدل عليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم إخسأ فلن تعدو قدرك أي القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء الى بعض الشيء وما لايبين منه حقيقته ولا يصل به إلى بيان وتحقيق امور الغيب وقد يقال في دفع هذا الاشكال : إن ابن الصياد كان من الضرب الثاني من الكهان وهم الذين تخبرهم الشياطين بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنهم مما قرب أو بعد والصحيح جواز وجودهم بعد البعثة خلافا للمتزلة وبعض المتكلمين حيث قالوا باستحالة وجود هذا الضرب وكذا الضرب السابق آنفا وأنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد أسر إلى بعض أصحابه الذين كانوا معه ما أضمره أو كانت سورة الدخان مكتوبة في يده صلى الله عليه و سلم أو كتب الآية وحدها في يده عليه الصلاة و السلام وكلا القولين الاخيرين حكاهما الداودي عن بعض العلماء كما في شرح صحيح مسلم
وأيا ما كان يكون ابن الصياد قد اخبر بامر طاريء تطلع عليه الشياطين بدون استراق السمع من السماء وليس ذلك من الاطلاع على ما في القلب في شيء ومع ذلك لم يخبر به تاما بل أخبر به على نحو إخبار الكهان السابقين على زمن البعثة الذين هم من الضرب الأول في النقص
ولعل مراد القاضي بقوله : إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها صلى الله عليه و سلم إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا القى الشيطان اليهم بقدر ما يخطف الخ تشبيه حاله مع أنه من الضرب الثاني بحمل من تقدمه من الكهان الذين هم من الضرب الأول وإلا لاشكل كلامه هذا مع ما نقلناه عنه أولا كما لايخفى وكأنه يقول برجم المسترقين للسمع قبل البعثة أيضا إلا أنه لم يكن بمثابة ما كان بعد البعثة وقد ذهب إلى هذا جمع من المحدثين
ومن الناس من قال : إن الشيطان إذا خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب ألقى ما يخطفه إلى من تحته قبل أن يدركه الشهاب ثم ان من تحته يوصل ذلك إلى الكاهن ولا يكاد يصح ذلك وقيل : إن ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة بعد البعثة هو ما يسمعونه من الملائكة عليهم السلام في العنان وهو المراد بقوله تعالى يلقون السمع وما هم ممنوعون عنه هو السمع من الملائكة عليهم السلام وهو المراد بقوله تعالى إنهم عن السمع لمعزولون واستدل لذلك بما أخرجه البخاري وابن المنذر عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر في الارض فيسمع الشيطان الكلمة فيقرها في أذن الكاهن كما يقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة ولايخفى أنه ليس في الخبر تعرض للسمع من الملائكة عليهم السلام في السماء بالمعنى المعروف لانفيا ولا إثباتا وقد يختار القول بأن الشياطين إنما منعوا بعد البعثة عن سمع ما يعتد به من علم الغيب من ملائكة السماء أو العنان ومن خطف خطفة يعتد بها من ذلك اتبعه الشهاب وأهلكه ولم يدعه يوصلها بوجه من الوجوه إلى الكهنة وأما سمع مالا يعتد به فقد يقع
(19/142)

لهم ويوصلونهإلى الكهنة فيخلطون به من الكذب ما يخلطون فحيث حكم عليهم بالعزل عن السمع أريد بالسمع السمع الكامل المعتد به وحيث حكم عليهم بالقاء السمع أريد بالسمع السمع في الجملة وأذنى ما يصدق عليه أنه سمع والظاهر أن ما حصل لابن الصياد كان من هذا السمع ولا يكاد يعدل عن ذلك ويقال : إنه كان من الضرب الثاني للكهانة إلا أن ثبت أحد الشقوق الثلاثة وفي ثبوت ذلك كلام نعم قوله صلى الله عليه و سلم خبأت ظاهر في أن هناك ما يخبأ في كف أو كم أو نحوهما والآية مالم تكتب لاتكون كذلك ولهذا احتاج القائلون بأنه صلى الله عليه و سلم إنما أضمر له الآية في قلبه إلى تأويل خبأت باضمرت ويمكن أن يقال على بعد : إن الشياطين قد منعوا بعد البعثة عن السمع مطلقا بالشهب المحرقة لهم وارجاع ضمير يلقون إلى الشياطين ضعيف لأن المقام في بيان من يتنزلون عليه لاببيان حالهم أو إلقاء سمعهم بمعنى إصغائهم إلى الملأ الأعلى و أكثرهم بمعنى كلهم والتعبير به للاشارة إلى أن الأكثرية المذكورة كافية في المقصود والمراد يصغون ليسمعوا فلا يسمعون إلا أنه أقيم وأكثرهم كاذبون مقام يسمعون أو إلقاء السمع بمعنى إلقاء ما يسمعه الناس من الافاكين إليهم ولا يلزم من ذلك أن يكونوا سمعوه من الملائكة عليهم السلام إذ يجوز أن يكونوا اخترعوه من عند أنفسهم ظنا وتخمينا وألقوه إلى أوليائهم ولا يبعد صدقهم في بعضه والأمر في تسميته مسموعا حين وما ورد في حديث الصحيحين وابن مردويه محمول على ما كان قبل البعثة ويقال : إنهم كانوا يسمعون في الجملة وقد يحمل ما في الآية على ذلك وإليه ذهب بعضهم وحمل خطف الكلمة فيه على حدسها بواسطة بعض الاوضاع الفلكية ونحو ذلك ليجوز اعتبار كونه بعد البعثة مما لا أظن أحدا يرتضيه وليس في قصة ابن الصياد ما هو نص في أن ما قاله كان عن سمع من الملائكة عليهم السلام ألقاه الشيطان إليه وكأني بك تستبعد تحدث الملائكة عليهم السلام في السماء بما أضمره صلى الله تعالى عليه وسلم وصعود الشياطين حين السؤال من غير ريث واستراقهم ونزولهم في أسرع وقت بما أجاب به ابن الصياد وما هو الاضرب من ضروب الكهانة
وتحقيق أمرها على ما ذكره الفاضل عبد الرحمن بن خلدون أن للنفس الانسانية استعدادا للانسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها ويحصل من ذلك لمحة للبشر من صنف الاتقياء بما فطروا عليه من ذلك ولايحتاجون فيه إلى اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الافعال البدنية كلاما أو حركة ولا بأمر من الأمور ويعطي التقسيم العقلي إن ههنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة هذا الصنف نقصان الضد عن ضده الكامل وهو صنف من البشر مفطور على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالارادة عند من يتبعها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه فيتشبث لاعمال الحيلة بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالاجسام الشفافة وعظام الحيوان وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان ويديم ذلك الاحساس والتخيل مستعينا به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي هي مبدأ في هذا الصنف لذلك الادراك هي الكهانة ولكون هذ النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان ادراكها الجزئيات أكثر من ادراكها الكليات وتكون مشتغلة بها غافلة عن الكليات ولذلك كثيرا ما تكون المتخيلة فيهم في غاية القوة وتكون الجزئيات عندها حاضرة عتيدة وهي لها كالمرآة تنظر فيها دائما ولا يقوى الكاهن على الكمال في ادراك المعقولات لأن نقصانه فطري ووحيه شيطاني وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة
(19/143)

ليشتغلليشتغل به عن الحواس ويقوى في الجملة على ذلك الانسلاخ الناقص فيهجس في قلبه من تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذف على لسانه وبما صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم أمر نقصه بأجنبي عن ذات المدارك ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعا ويكون غير موثوق به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصا على الظفر بالادراك بزعمه وتمويها على السائلين ولما كان انسلاخ النبي عليه الصلاة و السلام عن البشرية واتصاله بالملأ الأعلى من غير مشيع ولا استعانة بأجنبي كان صادقا في جميع ما يأتي به وكان الصدق من خواص النبوة ولهذا قال صلى الله عليه و سلم لابن الصياد حين سأله كاشفا عن حاله بقوله عليه الصلاة و السلام كيف يأتيك هذا الأمر فقال : يأتيني صادق وكاذب : خلط عليك الأمريريد عليه الصلاة و السلام نفي النبوة عنه بالاشارة إلى أنها مما لايعتبر فيه الكذب بحال وإنما قيل : أرفع أحوال هذا الصنف السجع لأن معين السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات وتدل خفة المعين على قرب ذلك الانسلاخ والاتصال والبعد فيه عن العجز في الجملة ولا انحصار لعلوم الكهان فيما يكون من الشياطين بل كما تكون من الشياطين تكون من أنفسهم بانسلاخها انسلاخا غير تام واتصالها في الجملة بواسطة بعض الأسباب بعالم لاتحجب عنه الحوادث المستقبلة وغيرها فانقطاع خبر السماء بعد البعثة عن الشياطين بالرجم إن سلم لايدل على انقطاع الكهانة
ثم ان هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فانهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة ولا يصدهم عن الايمان ويدعوهم إلى العناد إلا وساوس المطامع بحصول النبوة لهم كما وقع لأمية ابن ابي الصلت فانه كان يطمع أن يكون نبيا وكذا وقع لابن الصياد ومسيلمة وغيرهما وربما تنقطع تلك الاماني فيؤمنون أحسن ايمان كما وقع لطليحة الأسدي وقارب بن الاسود وكان لهما في الفتوحات الاسلامية من الآثار ما يشهد بحسن الايمان وذكر في بيان استعداد بعض الاشخاص أعم من أن يكونوا كهانا أو غيرهم للاخبار بالامور الغيبية قبل ظهورها كلاما طويلا حاصله أن النفس الانسانية ذات روحانية ولها بذاتها الادراك من غير واسطة لكنها محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وشواغلها لأن الحواس أبدا جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه من الادراك الجسماني وربما تنغمس عن الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إما بالخاصة التي هي للانسان على الاطلاق مثل النوم أو بالخاصة الموجودة في بعض الاشخاص كالكهنة أهل السجع وأهل الطرق بالحصى والنوى والناظرين في الاجسام الشفافة من المرايا والمياه وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وقد يلحق بهم المجانين أو بالرياضة الدينية مثل أهل الكشف من الصوفية أو السحرية مثل أهل الكشف من الجوكية فتلتفت حينئذ إلى الذؤات التي فوقها من الملأ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود وتلك الذوات ادراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما قرر في محله فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علما وربما وقعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المتعادة ثم تراجع الحس بما أدركت اما مجردا أو في قوالبه فتخبر به انتهى ولايخفى أن فيه ذهابا إلى ما يقوله الفلاسفة في الملأ الأعلى وكثيرا ما يسمونه عالم المجردات وقد يسمونه عالم العقول وهي محصورة في المشهور عنهم في عشرة ولا دليل لهم على هذا الحصر ولذا قال بعض متأخريهم بانها لاتكاد تحصى وللمتكلمين والمحققين من السلف في ذلك كلام لايتسع هذا الموضع لذكره وأنا أقول ولاينكره الا جهول : لله عز و جل
(19/144)

خواص في الأزمنة والامكنة والاشخاص ولايبعد انقطاع خبر السماء عن الشياطين بالرجم أن يجعل لبعض النفوس الانسانية خاصية التكلم بما يصدق كلا أو بعضا مع اطلاع وكشف يفيد العلم بما أخبر به أو بدون ذلك بان ينطقه سبحانه بشيء فيتكلم به من غير علم بالمخبر به ويوافق الواقع
وقد اتفق لي ذلك وعمري نحو خمس سنين وذلك اني رجعت من الكتاب إلى البيت وشرعت ألعب فيه على عادة الاطفال فنهتني والدتي رحمها الله تعالى عن ذلك وأمرتني بالنوم لاستيقظ صباحا فاذهب الى الكتاب فقلت لها : غدا يقتل الوزير ولا أذهب إلى الكتاب وهو مما لايكاد يمر بفكر فلم تلتفت إلى ذلك وأنامتني فلما أصبحت تأهبت للذهاب فجاء ابن أخت لها وأسر اليها كلاما لم أسمعه فتغير حالها ومنعتني عن الذهاب ولا أدري لم ذلك فاردت الخروج إلى الدرب لألعب مع أمثالي فمنعتني أيضا فقعدت وهي مضطربة البال تطلب أحدا يخبرها عن حال والدي عليه الرحمة حيث ذهب قبيل طلوع الشمس إلى المدرسة فخرجت إلى الدرب على حين غفلة منها فوجدت الناس بين راكض ومسرع يتحدثون بأن الوزير قتله بعض خدمه وهو في صلاة الفجر فرجعت اليها مسرعا مسرورا بصدق كلامي وكنت قد انسيته ولم يخطر ببالي حتى سمعت الناس يتحدثون بذلك وفي اليواقيت والجواهر للشعراني عليه الرحمة في بحث الفرق بين المعجزة والكهانة أن الكهانة كلمات تجري على لسان الكاهن ربما توافق وربما تخالف وفيه شمة مما ذكرنا هذا والله تعالى أعلم
والأظهر على ما قيل أن قوله تعالى : هل انبئكم الخ كلام مسوق منه تعالى لبيان تنزيه النبي صلى الله عليه و سلم عن أن يكون وحاشاه ممن تتنزل عليه الشياطين وإبطال لقولهم في القرآن إنه من قبيل ما يلقى إلى الكهنة وفي البحر ما هو ظاهر في أنه على معنى القول أي قل يا محمد هل أنبئكم الخ وهو مسوق للتنزيه والابطال المذكورين وقوله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون
422
- مسوق لتنزيهه عليه الصلاة و السلام أيضا عن أن يكون حاشاه من الشعراء وإبطال زعم الكفرة أن القرآن من قبيل الشعر والمتبادر منه الكلام المنظوم المقفى ولذلك قال كثير من المفسرين : إنهم رموه عليه الصلاة و السلام بكونه آتيا بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا عليه ما جاء في القرآن مما يكون موزونا بادنى تصرف كقوله تعالى ولاتقتلوا النفس التي حرم الله ويكون بهذا الاعتبار شطرا من الطويل وكقوله سبحانه إن قارون كان من قوم موسى ويكون من المديد وكقوله عز و جل فاصبحوا لايرى إلا مساكنهم ويكون من البسيط وقوله تبارك وتعالى : ألا بعدا لعاد قوم هود ويكون من الوافر وقوله جل وعلا صلوا عليه وسلموا تسليما ويكون من الكامل إلى غير ذلك مما استخرجوه منه من سائر البحور وقد استخرجوا منه ما يشبه البيت التام كقوله تعالى ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين
وتعقب ذلك بانهم لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به صلى الله عليه و سلم إد لايخفى على الاغبياء من العجم فضلا عن بلغاء العرب ان القرآن الذي جاء به صلى الله عليه و سلم ليس على أساليب الشعر وهم ما قالوا فيه عليه الصلاة و السلام شاعر إلا لما جاءهم بالقرآن واستخراج ما ذكر ونحوه منه ليس الا لمزيد فصاحته وسلاسته ولم يؤت به لقصد النظم ولو اعتبر في كون الكلام شعرا إمكان استخراج كلام منظؤم منه لكان كثير من الاطفال شعراء فان كثيرا
(19/145)

منمن كلامهم يمكن فيه ذلك والظأهر أنهم إنما قصدوا رميه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه وحاشاه ثم حاشاه يأتي بكلام مخيل لاحقيقة له ولما كان ذلك غالبا في الشعراء الذين يأتون بالمنظوم من الكلام عبروا عنه عليه الصلاة و السلام بشاعر وعما جاء به بالشعر ومعنى الآية والشعراء يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن الحائرون فيما يأتون وما يذرون ولايستمرون على وتيرة واحدة في الافعال والاقوال والأحوال لاغيرهم من أهل الرشد المهتدين إلى طريق الحق الثابتين عليه والحصر مستفاد من بناء يتبعهم الخ على الشعراء عند الزمخشري كما قرره في تفسير قوله تعالى الله يستهزيء بهم وقوله سبحانه والله يقدر الليل والنهار ومن لايرى الحصر في مثل هذا التركيب يأخذه من الوصف المناسب أعني أن الغوياة جعلت علة الاتباع فاذا انتفى وقوله تعالى ألم تر أنهم في كل واد يهيمون
522
- استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية للاشارة إلى أن حالهم من الجلاء والظهور بحيث لايختص برؤيته راء دون راء وضمير الجمع للشعراء أي ألم تر أن الشعراء في كل واد من أودية القيل والقال وفي كل شعب من شعاب الوهم والخيال وفي كل مسلك من مسالك الغي والضلال يهيمون على وجوههم لايهتدون إلى سبيل معين من السبل بل يتحيرون في سباسب الغواية والسفاهة ويتيهون في تيه الصلف والوقاحة ديدنهم تمزيق الاعراض المحمية والقدح في الانساب الطاهرة السنية والنسيب بالحرم والغزل والابتهار والتردد بين طرفي الافارط والتفريط في المدح والهجاء وأنهم يقولون ما يفعلون
622
- من الافاعيل غير مكترثين بما يستتبعه من اللوم فكيف يتوهم أن يتبعهم من مسلكهم ذلك ويلحق بهم وينتظم في سلكهم من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة واتصف بمحاسن الصفات الجليلة وتخلق بمكارم الاخلاق الجميلة وحاز جميع الكمالات القدسية وفاز بجملة الملكات السنية الانسية مستقرا على أقوم منهاج مستمرا على صراط مستقيم لايرى له العقل السليم من هاج ناطقا بكل أمر رشيد داعيا إلى صراط الله تعالى العزيز الحميد مؤيدا بمعجزات قاهرة وآيات ظاهرة مشحونة بفنون الحكم الباهرة وصنوف المعارف الباهرة مستقلة بنظم رائق وأسلوب فائق أعجز كل منطق ماهر وبكت كل مفلق ساحر هذا وقد قيل في تنزيهه صلى الله تعالى عليه وسلم عن أن يكون من الشعراء : إن اتباع الشعراء الغاوون واتباعه عليه الصلاة و السلام ليسوا كذلك وتعقب بانه لاريب في أن تعليل عدم كونه صلى الله تعالى عليه وسلم منهم بكون اتباعه عليه الصلاة و السلام غير عاوين مما لايليق بشأنه العالي وقيل : ضمير الجمع للغاوين وتعقب بأن المحدث عنهم الشعراء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الغاوين هم الرواة الذين يحفظون شعر الشعراء ويروونه عنهم مبتهجين به وفي رواية أخرى عنه أنهم الذين يستحسنون اشعارهم وإن لم يحفظوها وعن مجاهد وقتادة أنهم الشياطين
وروي عن ابن عباس أيضا أن الآية نزلت في شعراء المشركين عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة الجمحي وأمية بن أبي الصلت قالوا : نحن نقول مثل قول محمد وكانوا يهجونه ويجمع اليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم وهم والغاوون الذين يتبعونهم
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا أنه قال : تهاجى رجلان على عهد رسول
(19/146)

الله صلى الله عليه و سلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فانزل الله تعالى والشعراء الآيات وفي القلب من صحة الخبر شيء والظاهر من السياق أنها نزلت للرد على الكفرة الذين قالوا في القرآن ما قالوا
وقرأ عيسى بن عمرو الشعراء بالنصب على الاشتغال وقرأ السلمي والحسن بخلاف عنه يتبعهم مخففا وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو يتبعهم بالتشديد وتسكين العين تخفيفا وقد قالوا : عضد بسكون الضاد فغيروا الضمة واقعة بعد الفتحة فلأن يغيروها واقعة بعد الكسرة أولى وروى هرون فتح العين عن بعضهم واستشكله أبو حيان وقيل : إنه للتخفيف أيضا واختياره على السكون لحصول الغرض به مع أن فيه مراعاة الأصل في الجملة لما بين الحركتين من المشاركة الجنسية ولا كذلك ما بين الضم والسكون وهو غريب كما لايخفى
إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله عز و جل ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله سبحانه وتعالى والحث على الطاعة والحكمة والموعظة والزهد في الدنيا والترهيب عن الركون اليها والاغترار بزخارفها والافتتان بملاذها الفانية والترغيب فيما عند الله تعالى ونشر محاسن رسوله صلى الله عليه و سلم ومدحه وذكر معجزاته ليتغلغل حبه في سويداء قلوب السامعين وتزداد رغباتهم في اتباعه ونشر مدائح آله وأصحابه وصلحاء أمته لنحو ذلك ولو وقع منهم في بعض الاوقات هجو وقع بطريق الانتصار ممن هجاهم من غير اعتداء ولا زيادة كما يشير اليه قراءة بعضهم وانتصروا بمثل ما ظلموا وقيل : المراد بالمستثنين شعراء المؤمنين الذين كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ويكافحون هجاة المشركين واستدل لذلك بما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة إن هذ الآية نزلت في رهط من الانصار هاجوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وعن السدي نحوه وبما أخرج جماعة عن أبي حسن سالم البراد أنه قال : لما نرلت والشعراء اةية جاء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وهم يبكون فقالوا : يارسول الله لقد أنزل الله تعالى هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء هلكنا فأنزل الله تعالى إلا الذين آمنوا الخ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فتلاها عليهم
وأنت تعلم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وأخرج ابن مردويه : واين عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ قوله تعالى : إلا الذين آمنوا إلى آخر الصفات فقال : هم أبو بكر وعمر وعي وعبد الله بنرواحة ولعله من باب الاقتصار على بعض ما يدل عليه اللفظ فقد جاء عنه في بعض الروايات ما يشعر بالعموم هذا واستدل بالآية على ذم الشعر والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم انتصارا كذا قيل واعلم أن الشعر باب من الكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وفي الحديث إن من الشعر لحكمة وقد سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأجاز عليه وقال عليه الصلاة و السلام لحسان رضي الله تعالى عنه : أهجهم يعني المشركين فان روح القدس سيعينك وفي رواية أهجهم وجبريل معك
(19/147)

وأخرجوأخرج ابن سعد عن ابن بريدة أن جبريل عليه السلام أعان حسانا على مدحته النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسبعين بيتا واخرج احمد والبخاري في التأريخ وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك ان قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه فقال : إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين قال : رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة وهم في سفر أين حسان بن ثابت فقال لبيك يا رسول الله وسعديك قال : خذ فجعل ينشده ويصغي اليه حتى فرغ من نشيده فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لهذا أشد عليهم من وقع النبل ويورى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنى لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ينشد عليه الشعر واخرج الديلمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا الشعراء الذين يموتون في الاسلام يأمرهم الله تعالى أن يقولوا شعرا يتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار وقد أنشد كل من الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين الشعر وكذا كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فمن شعر أبي بكر رضي الله تعالى عنه : أمن طيف سلمة بالبطاح الدمائث أرقت وأمر في العشيرة حادث ترى من لؤي فرقة لايصدها عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذبوا عليه وقالوا لست فينا بماكث ولما دعوناهم إلى الحق أدبروا وهروا هرير المجحرات اللواهث فكم قد مثلنا فيهم بقرابة وترك التقي شيء لهم غير كارث فان يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم فما طيبات الحل مثل الخبائث وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم فليس عذاب الله عنهم بلابث ونحن أناس من ذوابة غالب لنا العز منها في الفروع الأثائث فأولى برب الراقصات عشية حراجيج تخدى في السريح الرثائث كأدم ظباء حول مكة عكف يردن حياض البئر ذات النبائث لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم ولست إذا ءاليت يوما بحانث لتبتدرنهم غارة ذات مصدق تحرم أطهار النساء الطوامث تغادر قتلى يعصب الطير حولهم ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث فأبلغ بني سهم لديك رسالة وكل كفور يبتغي الشر باحث فان تشعثوا عرضي على سوء رأيكم فاني من اعراضكم غير شاعث ومن شعر عمر رضي الله تعالى عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة : توعدني كعب ثلاثا يعدها ولاشك أن القول ما قاله كعب وما بي خوف الموت إني لميت ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب
(19/148)

وقوله ويورى للأعور الثني : هون عليك فان الأمور بكف الاله مقاديرها فليس بآتيك منهيها ولا قاصرا عنك مأمورها ومنه وقد لبس بردا جديدا فنظر الناس اليه ويورى لورقة بن نوفل من أبيات : لاشيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الاله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه والخلد حاوله عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له والانس والجن فيما بينها ترد حوض هنالك مورود بلا كذب لابد من ورده يوما كما وردوا ومن شعر عثمان رضي الله تعالى عنه : غني النفس بغنى النفس حتى يكفها وان عضها حتى يضر بها الفقر ومن شعر علي كرم الله تعالى وجهه وكان مجودا حتى قيل : إنه أشعر الخلفاء رضي الله تعالى عنهم يذكر همدان ونصرهم إياه في صفين : ولما رأيت الخيل تزحم بالقنا نواصيها حمر النحور دوامي وأعرض نقع في السماء كأنه عجاجة دجن ملبس بقتام ونادى ابن هند في الكلاع وحمير وكندة في لخم وحي جذام تيممت همدان الذين هم هم إذا ناب دهر جنتي وسهامي فجاوبني من خيل همدان عصبة فوارس من همدان غير لئام فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها لقلت لهمدان ادخلوا بسلام وقد جمعوا ما نسب اليه رضي الله تعالى عنه من الشعر في ديوان كبير ولا يصح منه إلا اليسير ومن شعر ابنه الحسن رضي الله تعالى عنهما على اصحابه مختضبا : نسود اعلاها وتأبى أصولها فليت الذي يسود منها هو الأصل ومن شعر الحسين رضي الله تعالى عنه وقد عاتبه أخوه الحسن رضي الله تعالى عنه في امرأته : لعمرك إنني لاحب دارا تحل بها سكينة والرباب احبهما وأبذل جل مالي وليس للائمي عندي عتاب ومن شعر فاطمة رضي الله تعالى عنها قالته يوم وفاة أبيها عليه الصلاة و السلام : ماذا على من شم تربة أحمد أن لايشم مدى الزمان غواليا صبت علي مصائب لو أنها صبت على الأيام صرن لياليا ومن شعر العباس رضي الله تعالى عنه يوم حنين يفتخر بثبوته مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا هل أتى عرسي مكري وموقفي بوادي حنين والاسنة تشرع وقولي إذا ما النفس جاشت لها قري وهام تدهدي والسواعد تقطع
(19/149)

وكيف رددت الخيل وهي مغيرة بزوراء تعطي باليدين وتمنع نصرنا رسول الله في الحرب سبعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا ومن شعر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما : إدا طارقات الهم ضاجعت الفتى وأعمل فكر الليل والليل عاكر وباكرني في حاجة لم يجد لها سواي ولا من نكبة الدهر ناصر فرجت بمالي همه من مقامه وزيله هم طروق مسامر وكان له فضل علي بظنه بي الخير أني للذي ظن شاكر وهلم جرا إلى حيث شئت وليس من بني عبد المطلب كما قيل رجالا ولا نساء من لم يقل الشعر حاشا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون ذلك أبلغ في أمره عليه الصلاة و السلام ولأجله التابعين ومن بعدهم من أئمة الدين والفقهاء المسلمين شعر كثير أيضا ومن ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه : ومتعب العيس مرتاح إلى بلد والموت يطلبه في ذلك البلد وضاحك والمنايا فوق هامته لو كان يعلم غيبا مات من كمد من كان لم يؤت علما من بقاء غد فما يفكر في رزق لبعد غد والاستقصاء في هذا الباب يحتاج إلى إفراده بكتاب وفيما ذكر كفاية وقد مدحه أيضا غير واحد من الأجلة فعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري مر من قبلك بتعلم الشعر فان يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب وعن علي كرم الله تعالى وجهه الشعر ميزان العقول
وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول : إذا قرأتم شيئا من كتاب الله تعالى فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب فان الشعر ديوان العرب وما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : لأن يمتلي جوف أحدكم قيحا خيرا من أن يمتليء شعرا حمله الشافعي عليه الرحمة على الشعر المشتمل على الفحش وروي نحوه عن عائشة رضي الله تعالى عنها فقد أخرج الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن عائشة أنه بلغها أن أبا هريرة يروي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأن يمتليء جوف أحدكم الحديث فقالت رحم الله تعالى أبا هريرة إنما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لأن يمتلي جوف أحدكم قيحا خيرا له من أن يمتليء شعرامن الشعر الذي هجيت به يعني نفسه الشريفة عليه الصلاة و السلام ذكر ذلك المرشدي في فتاواه نقلا عن كتاب بستان الزاهدين ولايخفى أنه يبعد الحمل المذكور التعبير بيمتليء فان الكثير والقليل مما فيه فحش أو هجو لسيد الخلق صلى الله تعالى عليه وسلم سواء وما أحسن قول الماوردي : الشعر في كلام العرب مستحب ومباح ومحظور فالمستحب ما حذر من الدنيا ورغب في الآخرة وحث على مكارم الأخلاق والمباح ما سلم من فحش أو كذب والمحظور نوعان كذب وفحش وهما جرح في قائله وأما نشده فان حكاه اضطرارا لم يكن جرحا أو اختيارا أجرح وتبعه على ذلك الروياني وجعل الروياني ما فيه الهجو لمسلم سواء كان بصدق أو كذب من المحظور أيضا ووافقه جماعة إلا أن إثم الصادق أخف من إثم الكاذب كما قال القمولي وإثم الحاكي
(19/150)

على ما قال الرافعي دون إثم المنشد وقال الأذرعي : ليس على هذا على إطلاقه بل إذا استوى الحاكي والمنشد أما إذا أنشده ولم يذعه فأذاعه الحاكي فاثمه أشد بلا شك واحترز بقيد المسلم عما فيه الهجو الكافر فان فيه تفصيلا
وفصل بعضهم ما فيه الهجو لمسلم أيضا وذلك أن كثير من العلماء اظلقوا جواز هجو الكافر استدلالا بأمره صلى الله تعالى عليه وسلم حسانا ونحوه بهجو المشركين وقال بعضهم : محل ذلك الكفار على العموم وكذأ المعين الحربي ميتا كان أو حيا حيث لم يكن قريب معصوم يتأذى به وأما الذمي أو المعاهد أو الحربي الذي له قريب ذمي أو مسلم يتأذى به فلا يجوز هجوه كما قاله الأذرعي وابن العماد وغيرهما وقالوا : إن هجو حسان وإن كان في معين لكنه في حربي وعلى التنزل فهو ذب عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيكون من القرب فضلا عن المباحات والحق الغزالي وتبعه جمع المبتدع بالحربي فيجوز هجوه ببدعته لكن لمقصد شرعي كالتحذير من جهته وجوز ابن العماد هجو المرتد دون تارك الصلاة والزاني المحصن وما قاله في المرتد واضح لأنه كالحربي بل أقبح وفي الأخيرين محله حيث لم يتجاهر أما المتجاهر بفسقه فيجوز هجوه بما تجاهر به فقط لجواز غيبته بذلك فقط
وقال البلقيني : الأرجح تحريم هجو المتجاهر المذكور لا لقصد زجره لأنه قد يتوب وتبقى وصمة الشعر السائر عليه ولا كذلك الكافر إذا أسلم ورد بأن مجاهرته بالمعصية وعدم مبالاته بالناس وكلامهم فيه صيراه غير مجترم ولا مراعي فهو المهدر لحرمة نفسه بالنسبة لما تجاهر به فلم يبال ببقاء تلك الوصمة عليه
نعم لو قيل بحرمة إنشاده بعد التوبة إذا كان يتأذى به هو أو قريبه المسلم أو الذمي أو بعد موته إدا كان يتأذى به من ذكر لم يبعد وذكر جماعة أن من جملة المحظور أيضا ما فيه تشبيب بغلام ولو غير معين مع ذكر أنه يعشقه أو بامرأة أجنبية معينة وإن لم يذكرها بفحش أو بأمرأة مبهمة مع ذكرها بالفحش ولم يفرقوا بين إنشاء ذلك وانشاده واعتبر بعضهم التعيين في الغلام كالمرأة فلا يحرم التشبيب بمبهم
قال الأذرعي وهو الأقرب والأول ضعيف جدا وقال أيضا : يجب القطع بانه إذا شبب بحليلته ولم يذكر سوى المحبة والشوق أو ذكر شيئا من التشبيهات الظأهرة أنه لايضر وكذا إذا ذكر امرأة مجهولة ولم يذكر سوءا
وفي الاحياء في حرمة التشبيب بنحو وصف الخدود والاصداغ وسائر أوصاف النساء نظر والصحيح أنه لايحرم نظمه ولا انشاده بصوت وغير صوت وعلى المستمع أن ينزله على أمرأة معينة فان نزله على حليلته جاز أو على غيرها فهو العاصي بالتنزيل ومن هذا وصفه فينبغي أن يجتنب السماع وذكر بعض الفضلاء أن ما يحرم انشاؤه قد لاتحرم روايته فان المغازي روي فيها قصائد الكفار الذين هاجوا فيها الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكر ذلك أحد وقد روي أنه صلى الله عليه و سلم اذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يومي بدر وأحد وغيرهما إلا قصيدة ابن أبي الصلت الحائية انتهى قال الاذرعي ولاشك في هذا إذا لم يكن فيه فحش ولا أذى لحي ولا ميت من المسلمين ولم تدع حاجة اليه وقد ذم العلماء جريرا والفرزدق في تهاجيهما ولم يذموا من استشهد بذلك على اعراب وغيره من علم اللسان ويجب حمل كلام الأئمة على غير ذلك مما هو عادة أهل اللعب والبطالة وعلى انشاد شعر شعراء العصر إدا كان إنشاؤه حراما إد ليس فيه إلا أذى أو وقيعة في الأحياء
(19/151)

أو اساءة الاحياء في أمواتهم أو ذكر مساويء الاموات وغير ذلك وليس مما يحتج به في اللغة ولا غيرها فلم يبق الا اللعب بالاعراض وزاد بعض حرمة شعر فيه تعريض وجعل التعريض في الهجو كالتصريح وله وجه وجيه
وقال آخر : إن ما فيه فخر مذموم وقليله ككثيره والحق إن ذلك ان تضمن غرضا شرعيا فلا بأس به وللسلف شعر كثير من ذلك وقد تقدم لك بعض منه وحمل الاكثرون الخبر السابق على ما إذا غلب عليه الشعر وملك نفسه حتى اشتغل به عن القرآن والفقه ونحوهما ولذلك ذكر الامتلاء والحاصل أن المذموم امتلاء القلب من الشعر بحيث لايتسع لغيره ولايلتفت اليه وليس في الخبر ذم انشائه ولا انشاده لحاجة شرعية والا لوقع التعارض بينه وبين الاخبار الصحيحة الدالة على حل ذلك وهي أكثر من أن تحصى وبعد من أن تقبل التأويل كما لايخفى
وما روي عن الامام الشافعي من قوله : ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد محمول على نحو ما حمل الاكثرون الخبر عليه والا فما قاله شعر وفي معناه قول شيخنا علاء الدين علي أفندي تغمده الله تعالى برحمته مخاطبا خاتمة الوزراء في الزوراء داود باشا من أبيات
ولو لداعيه يرضى الشعر منقبة لقمت ما بين منشيه ومنشده هذا وسيأتي إن شاء الله تعالى كلام يتعلق بهذا البحث أيضا عند الكلام في قوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له ومن اللطائف أن سليمان بن عبد الملك سمع قول الفرزدق : فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام فقال له قد وجب عليك الحد فقال يا أمير المؤمنين : قد درأ الله تعالى عني الحد بقوله سبحانه : وانهم يقولون مالا يفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
722
- تهديد شديد ووعيد أكيد لما في سيعلم من تهويل متعلقة وفي الذين ظلموا من الاطلاق والتعميم وقد كان السلف الصالح يتواعظون بها وختم بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وصيته حين عهد لعمر رضي الله تعالى عنه وذلك أنه أمر عثمان رضي الله تعالى عنه أن يكتب في مرض موته حينئذ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر ويصدق فيها الكاذب اني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فان يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وأن يجر ويبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امريء ما اكتسبت وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وتفسير الظلم بالكفر وإن كان شائعا في عدة مواضع من القرءان الكريم إلا أن الأنسب على ما قيل هنا الاطلاق لمكان قوله تعالى من بعد ما ظلموا وقال الطيبي : سياق الآية بعد ذكر المشركين الذين ءاذوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومالقي منهم من الشدائد كما مر من أول السورة يؤيد تفسير الظلم بالكفر
وروى محي السنة الذين ظلموا أشركوا وهجوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقرأ ابن عباس وابن أرقم عن الحسن أي منفلت ينفلتون بالفاء والتاء الفوقية من الانفلات بمعنى النجاة والمعنى أن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله الله تعالى وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وسيعلم هنا معلقة وأي استفهام مضاف إلى منقل والناصب له ينقلبون والجملة سادة مسد المفعولين كذا في البحر
(19/152)

وقال أبو البقاء : أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف والعامل ينقلبون أي ينقلبون انقلابا أي منقلب ولا يعمل فيه يعلم لأن الاستفهام لايمعمل فيه ما قبله : وتعقب بأنه تخليط لأن أيا إذا وصف بها لم تكن استفهاما وقد صرحوا بأن الموصوف بها قسيم الاستفهامية وتحقيق انقسام أي يطلب من كتب النحو والله تعالى أعلم
ومما قيل في بعض الآيات من الاشارة طسم قال الجنيد الطاء طرب التائبين في ميدان الرحمة والسين سرور العارفين في ميدان الوصلة والميم مقام المحبين في ميدان القربة وقيل : الطاء طهارة القدم من الحدثان والسين سناء صفاته تعالى التي تكشف في مرايا البرهان والميم مجده سبحانه الذي ظهر بوصف البهاء في قلوب أهل العرفان وقيل : الطاء طهارة قلب نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن تعلقات الكونين والسين سيادته صلى الله تعالى عليه وسلم على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والميم مشاهدته عليه الصلاة و السلام جمال رب العالمين وقيل : الطاء شجرة طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل غير ذلك لعلك باخع نفسك أن لايكونوا مؤمنين الخ فيه إشارة إلى كمال شفقته صلى الله عليه و سلم على أمته وان الحرص على ايمان الكافر لايمنع سوابق الحكم وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون إلى ءاخر القصة فيه اشارة إلى حسن التعاضد في المصالح الدينية والتلطف بالضال في الزامه بالحجج القطعية وأنه لاينبغي عدم الاحتفال بمن ربيته صغيرا ثم رأيته وقد منحه الله تعالى ما منحه من فضله كبيرا وقال بعضهم : إن فيه اشارة إلى ما في الأنفس وجعل موسى إشارة إلى موسى القلب وفرعون إشارة فرعون النفس وقومه اشارة الى الصفات النفسانية وبني اسرائيل إشارة الى الصفات الروحانية والعفلة إشارة إلى قتل قبطي الشهوة والعصا إشارة إلى عصا الذكر أعنى لا إله إلا الله واليد إشارة إلى يد القدرة وكونها بيضاء إشارة الى كونها مؤيدة بالتأييد الالهي والناظرين إشارة إلى أرباب الكشف الذين ينظرون بنور الله تعالى والسحرة إشارة إلى الأوصاف البشرية والأخلاق الردية إشارة إلى الصفات الناسوتية والأجر إشارة إلى الحظوظ الحيوانية والحبال إشارة إلى حبال الحيل والعصي إلى عصي التمويهات والمخيلات والمدائن اشارة إلى أطوار النفس وهكذا
وعلى هدا الطريق سلكوا في الاشارة في سائر القصص فجعلوا ابراهيم إشارة إلى القلب وأباه وقومه اشارة الى الروح وما يتولد منها والاصنام اشارة الى ما يلائم الطباع من العلويات والسفليات وهكذا مما لايخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وللشيخ الأكبر قدس سره في هذه القصص كلام عجيب من أراده فليطلبه في كتبه وهو قدس سره ممن ذهب الى أن خطيئة ابراهيم عليه السلام التي أرادها بقوله والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين كانت اضافة المرض الى نفسه في قوله واذأ مرضت فهو يشفين وقد ذكر قدس سره إنه اجتمع مع ابراهيم عليه السلام فسأله عن مراده بها فاجابه بما ذكر وقال في باب أسرار الزكاة من الفتوحات إن قول الرسول إن أجري إلا على رب العالمين لايقدح في كمال عبوديته فان قوله : ذلك لأن يعلم أن كل عمل خالص يطلب الاجر بذاته وذلك لايخرج العبد عن أوصاف العبودية فان العبد في صورة الاجير وليس بأجير حقيقة إذ لايستأجر السيد عبده بل يستأجر
(19/153)

الأجنبي الأجنبي وإنما العمل نفسه يقتضي الأجرة وهو لايأخذها وانا يأخذها العامل وهو العبد فهو قابض الأجرة من الله تعالى فأشبه الأجير في قبض الأجرة وخالفه بالاستئجار اه
وحقق أيضا ذلك في الباب السادس عشر والثلاثمائة من الفتوحات وذكر في الباب السابع عشر والاربعمائة منها أن أجر كل نبي يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فيه إشارة إلى أنه ليس للشيطان قوة حمل القرآن لأنه خلق من نار وليس لها قوة حمل النور ألا ترى أن نار الجحيم كيف تستغيث عند مرور المؤمن عليها وتقول : جز يامؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ولنحو ذلك ليس له قوة على سمعه وهذا بالنسبة إلى أول مراتب ظهوره فلا يرد أن يلزم على ماذكر أن الشياطين لايسمعون آيات القرآن إذا تلوناها ولا يحفظونها وليس كذلك
نعم ذكر أنهم لايقدرون أن يسمعوا آية الكرسي وآخر البقرة وذلك لخاصية فيهما وأنذر عشيرتك الأقربين فيه إشارة إلى أن النسب إدا لم ينظم اليه الايمان لاينفع شيئا ولما كان حجاب القرابة كثيفا أمر صلى الله عليه و سلم بإنذار عشيرته الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين هم أهل النسب المعنوي الذي هو أقرب من النسب الصوري كما أشار اليه ابن الفارض قدس سره بقوله : نسب أقرب في شرع الهوى بيننا من نسب من أبوي وأنا أحمد الله تعالى كما هو أهله على أن جعلني من الفائزين بالنسبين حيث وهب لي الايمان وجعلني من ذرية سيد الكونين صلى الله تعالى عليه وسلم فها أنا من جهة أم أبي من ذرية الحسن ومن جهة أبي من ولد الحين رضي الله تعالى عنهما
نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن فاق الصباح عمودا والله عز و جل هو ولي الاحسان المتفضل بصنوف النعم على نوع الانسان والصلاة والسلام على سيد العالمين وآله وصحبه أجمعين
سورة النمل
72 - وتسمى أيضا كما في الدر المنثور سورة سليمان وهي مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وذهب بعضهم إلى مدنية بعض آياتها كما سيأتي إنشاء الله تعالى وعدد آياتها خمسة وتسعون ءاية حجازي وأربع بصري وشامي وثلاث كوفي ووجه اتصالها بما قبلها أنها كالتتمة لها حيث زاد سبحانه فيها ذكر داود وسليمان وبسط فيها قصة لوط عليه السلام أبسط مما هي قبل وقد وقع فيها إد قال موسى لأهله إني ءانست نارا الخ وذلك كالتفصيل لقوله سبحانه فيما قبل : فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وقد اشتمل كل من السورتين على ذكر القرآن وكونه من الله تعالى وعلى تسليته صلى الله عليه و سلم إلى غير ذلك وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص
بسم الله الرحمن الرحيم
(19/154)

طس قريء بالامالة وعدمها والكلام فيه كالكلام في نظائره من الفواتح
تلك إشارة إلى السورة المذكورة وأداة البعد للاشارة إلى بعد المنزلة في الفضل والشرف أو إلى
(19/0)

الآيات التي تتلى بعد نظير الاشارة في قوله تعالى : الم ذلك الكتاب أو الى مطلق الآيات ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى : ءايات القرءان والجملة مستأنفة أو خبر لقوله تعالى : طس وإضافة آيات الى القرءان لتعظيم شأنها فان المراد به المنزل المبارك المصدق لما بين يديه الموصوف بالكمالات التي لانهاية لها ويطلق على كل المنزل عليه صلى الله عليه و سلم للاعجاز وعلى بعض منه وجوز هنا إرادة كل من المعنيين وإذا أريد الثاني فالمراد بالبعض جميع المنرل عند نزول السورة وقوله تعالى : وكتاب مبين
1
- عطف على القرآن والمراد به القرآن وعطفه عليه مع اتحاده معه في الصدق كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما في قولهم : هذا فعل السخي والجواد الكريم وتنوينه للتفخيم و المبين إما من أبان المتعدي أي مظهر ما في تضاعيفه من الحكم والأحكام وأحوال القرون الأولى وأحوال الآخرة التي من جملتها الثواب والعقاب أو سبيل الرشد والغي أو نحو ذلك والمشهور في أمثال هذا الحذف أنه يفيد العموم وأما م أبان اللازم بمعنى بان أي ظاهر الاعجاز أو ظاهر الصحة للاعجاز وهو على الاحتمالين صفة مادحة لكتاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة
ولما كان في التنكير نوع من الفخامة وفي التعريف نوع آخر وكان الغرض الجمع للاستيعاب الكامل عرف القرآن ونكر الكتاب وعكس في الحجر وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص ههنا قدم كونه قرآنا لأنه أدل على خصوص المنرل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للاعجاز كذا في الكشف
وقال بعض الأجلة : قدم الوصف الأول ههنا نظرا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية وعكس هنالك لأن المراد تفخيمه من حيث اشتماله على كمال جنس الكتب الألهية حتى كأنه كلها ومن حيث كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه والاشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل في المدح لئلا يتوهم من أولا الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله باوصاف خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وفي هذا حمل أل على الجنس في الكتاب والظاهر أنها في القرآن للعهد فيختلف معناها في الموضعين واليه يشير ظاهر كلام الكشاف كما قيل واعتذر له بانه إذا رجع المعنيان إلى التفخيم فلا بأس بمثل هذا الاختلاف وجوز أن تكون في الموضعين للعهد وأن تكون فيهما للجنس فتأمل وقيل : إن اختصاص كل من الموضعين بما اختص به من تعيين الطريق
وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ وابانته أنه خط فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة فهو يبينه للناظرين فيه وتأخيره هنا عن القرآن باعتبار تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر عليه باعتبار الوجود الخارجي فان القرآن بمعنى المقروء لنا مؤخر عن اللوح المحفوظ ولا يخفى أن إرادة اللوح منه ههنا إضافة الآيات اليه إد لاعهد باشتماله على الآيات ولا وصفه بالهداية والبشارة إذ هما باعتبار إبانته فلابد من اعتبارها بالنسبة إلى الناس الذين من جملتهم المؤمنون لا إلى الناظرين فيه
وقرأ ابن أبي عبلة وكتاب مبين برفعهما وخرج على حذف المضاف وإقامة المضاف اليه مقامه أي وآيات كتاب وقيل : يجوز عدم اعتبار الحذف والكتاب لكونه مصدرا في الأصل يجوز الاخبار به عن المؤمنث وقيل : رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا ألا ترى أنهم حظروا جاءتني زيد وأجازوا جاءتني
(19/155)

هندهند وزيد وقوله تعالى : هدى وبشرى في حيز النصب على الحالية من آيات على إقامة المصدر مقام الفاعل فيه للمبالغة كأنها نفس الهدى والبشارة والعامل معنى الاشارة وهو الذي سمته النحاة عاملا معنويا
وجوز أبو البقاء على قراءة الرفع في كتاب كون الحال منه ثم قال : ويضعف أن يكون من المجرور ويجوز أن يكون حالا منن الضمير في مبين على القرءتين وجوز أبو حيان كون النصب على المصدرية أي تهدي هدى وتبشر بشرى أو الرفع على البدلية من آيات واشتراط الكوفيين في إبدال النكرة من المعرفة شرطين اتحاد اللفظ وأن تكون النكرة موصوفة نحو قوله تعالى لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة غير صحيح كما في شرح التسهيل لشهادة السماع بخلافه أو على أنه خبر لتلك أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي هدى وبشرى للمؤمنين
2
- يحتمل أن يكون قيدا للهدى والبشرى معا ومعنى هداية الآيات لهم وهم مهتدون أنها تزيدهم هدى قاله سبحانه : فأما الذين آنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما معنى تبشيرها إياهم فظاهر لأنها تبشرهم برحمة الله تعالى ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم كذا قيل وفي الحواشي الشهابية أن الهدى على هذا الاحتمال إما بمعنى الاهتداء أو على ظاهره وتخصيص المؤمنين لأنهم المنتفعون به وإن كانت هدايتها عامة وجعل المؤمنين بمعنى الصائرين للايمان تكلف كحمل هداهم على زيادته ويحتمل أن يكون قيدا للبشرى فقط ويبقى الهدى على العموم وهو بمعنى الدلالة والارشاد أي هدى لجميع المكلفين وبشرى قيدا للبشرى فقط ويبقى الهدى على العموم وهو بمعنى الدلالة والارشاد أي هدى لجميع المكلفين وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة صفة مادحة للمؤمنين وكني باقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عن عمل الصالحات مطلقا وخصا لأنهما على ما قيل أما العبادة البدنية والمالية والظاهر أنه حمل الزكاة على الزكاة المفروضة
وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة وقيل كان في مكة زكاة مفروضة إلا أنها لم تكن كالزكاة المفروضة بالمدينة فلتحمل الآية عليها وقيل : الزكاة هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الاخلاق وهو خلاف المشهور في الزكاة المقرونة بالصلاة ويبعده تعليق الايتاء بها وقوله تعالى : وهم بالآخرة هم يوقنون
3
- يحتمل أن يكون معطوفا على جملة الصلة ويحتمل أن يكون في موضع الحال من ضمير الموصول ويحتمل أن يكون استئنافا جيء به للقصد إلى تأكيد ما وصف المؤمنون به من حيث أن الايقان بالآخرة يستلزم الخوف المستلزم لتحمل مشاق التكليف فلابد من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وقد أقيم الضمير فيه مقام اسم الاشارة المفيد لاكتساب الخلاقة بالحكم باعتبار السوابق فكأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة وسمى الزمخشري هذا الاستئناف اعتراضا وكونه لايكون إلا بين شيئين يتعلق أحدهما بالآخر كالمبتدأ والخبر غير مسلم عنده
واختار هذا الاحتمال فقال : إنه الوجه ويدل عليه أنه عقد الكلام جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هم حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الايقان إلا هؤلاء الجامعون بين الايمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق انتهى وأنكر ابن المنير افادة نحو هذا التركيب الاختصاص وادعى ان تكرار الضمير للتطرية لمكان الفصل بين الضميرين بالجار والمجرور والحق أنه يفيد ذلك كما صرحوا به
(19/156)

في نحو هو عرف وكذا يفيد التأكيد لما فيه من تكرار الضمير
وزعم أبو حيان أن فيما ذكره الزمخشري دسيسة الاعتزال ولايخفى أنه ليس في كلامه أكثر من الاشارة إلى أن المؤمن العاصي لم يوقن بالآخرة حق الايقان ولعل جعل ذلك دسيسة مبني على أنه بنى ذلك على مذهبه في أصحاب الكبائر وقوله فيهم بالمنزلة بين المنزلتين وأنت تعلم أن القول بما أختاره في الآية لايتوقف على القول المذكور وتغيير النظم الكريم على الوجهين الأولين لما لايخفى وتقديم بالآخرة في جميع الأوجه لرعاية الفاصلة وجوز أن يكون للحصر الاضافي كما في الحواشي الشهابية إن الذين لايؤمنون بالأخرة بيان لأحوال الكفرة بعد أحوال المؤمنين أي لايؤمنون بها وبما فيها من الثواب على الأعمال الصالحة والعقاب على الأعمال السيئة حسبما ينطق به القرآن زينا لهم أعمالهم القبيحة بما ركبنا فيهم من الشهوات والأماني حتى رأوها حسنة فهم يعمهون
4
- يتحيرون ويترددون والاستمرار في الاشتغال بها والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يتبعها والفاء لترتيب المسبب على السبب ونسبة التزيين اليه عز و جل عند الجماعة حقيقة وكذا التزيين نفسه وذهب الزمخشري إلى أن التزيين إما مستعار للتمتيع بطول العمر وسعة الرزق وإما حقيقة واسناده اليه سبحانه وتعالى مجاز وهو حقيقة للشيطان كما في قوله تعالى زين لهم الشيطان أعمالهم
والمصحح لهذا المجاز إمهاله تعالى الشيطان وتخليته حتى يزين لهم والداعي له إلى أحد الأمرين إيجاب رعاية الاصلح عليه عز و جل ونسب الى الحسن أن المراد بالأعمال الحسنة وتزيينها بيان حسنها في أنفسها حالا واستتباعها لفنون المنافع مآلا أي زينا لهم الاعمال الحسنة فهم يترددون في الضلال والاعراض عنها
والفاء عليه لترتيب ضد المسبب على السبب كما في قولك : وعظته فلم يتعظ وفيه إيذان بكمال عتوهم ومكابرتهم وتعكيسهم الأمور وتعقب هذا القول بأن التزيين قد ورد غالبا في غير الخير نحو قوله تعالى : زين للناس حب الشهوات زين للذين كفروا الحياة الدنيا زين لكثير من المشركين الخ ووروده في الخير قليل نحو قوله تعالى : حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم ويبعد حمل الاعمال على الاعمال الحسنة إضافتها إلى ضميرهم وهم لم يعملوا حسنة أصلا وكون إضافتها إلى ذلك باعتبار أمرهم بها وإيجابها عليهم لايدفع البعد
وذكر الطيبي أنه يؤيد ما ذكر أولا أن وزان فاتحة هذه السورة إلى ههنا وزان فاتحة البقرة فقوله تعالى : إن الذين لايؤمنون بالآخرة كقوله تعالى : ان الذين كفروا وقوله سبحانه زينا لهم أعمالهم كقوله جل وعلا ختم الله على قلوبهم
وقد سبق بيان وجه دلالة ذلك على مذهب الجماعة هناك وان التركيب من باب تحقيق الخبر وان المعنى استمرارهم على الكفر وانهم بحيث لايتوقع منهم الايمان ساعة فساعةأمارة لرقم الشقاء عليهم في الأزل والختم على قلوبهم وانه تعالى زين لهم سوء اعمالهم فهم لذلك في تيه الضلال يترددون وفي بيداء الكفر يعمهون ودل على هذا التأويل ايقاع لفظ المضارع في صلة الموصول والماضي في خبره وترتيب قله تعالى : فهم يعمهون بالفاء عليه واختصاص الخطاب بما يدل على الكبرياء والجبروت من باب تحقيق الخبر نحو قول الشاعر : ان التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند غالت ودها غول
(19/157)

وفيوفي الاخبار الصحيحة ما ينصر هذا التأويل أيضا اولئك اشارة الى المذكورين الموصوفين بالكفر والعمه وهو مبتدأ خبره الذين لهم سوء العذاب يحتمل أن يكون المراد لهم ذلك في الدنيا بان يقتلوا أو يؤسروا أو تشدد عليهم سكرات الموت لقوله تعالى وهم في الآخرة هم الأخسرون
5
- ويحتمل أن يكون المراد لهم ذلك في الدارين وهو الذي استظهره أبو حيان ويكون قوله تعالى وهم الخ لبيان أن ما في الآخرة أعظم العذابين بناء على أن الأخسرين أفعل تفضيل والتفضيل باعتبار حاليهم في الدارين أي هم في الآخرة أخسر منهم في الدنيا لاغيرهم كما يدل عليه تعريف الجزأين على معنى أن خسرانهم في الآخرة أعظم من خسرانهم في الدنيا من حيث أن عذابهم في الآخرة غير منقطع أصلا وعذابهم في الدنيا منقطع ولا كذلك غيرهم من عصاة المؤمنين لأن خسرانهم في الآخرة ليس أعظم من خسرانهم في الدنيا من هذه الحيثية فان عذابهم في الآخرة ينقطع ويعقبه نعيم الأبد حتى يكادوا لايخطر ببالهم أنهم عذبوا كذا قيل
وقال بعضهم : إن التفضيل باعتبار ما في الآخرة أي هم في الآخرة أشد الناس خسرانا لاغيرهم لحرمانهم الثواب واستمرارهم في العقاب بخلاف عصاة المؤمنين ويلزم من ذلك كون عذابهم في الآخرة أعظم من عذابهم في الدنيا ويكفي هذا في البيان وقال الكرماني : إن أفعل هنا للمبالغة لا للشركة قال أبو حيان : كأنه يقول : ليس للمؤمن خسران البتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه ولم يتفطن لكون المراد أن خسران الكافر في الآخرة أشد من خسرانه في الدنيا فالاشتراك الذي يدل عليه أفعل إنما هو بين ما في الآخرة وما في الدنيا اه كلامه وكأنه يسلم أن ليس للمؤمنن خسران البتة وفيه بحث لايخفى وتقديم في الآخرة إما للفاصلة أو للحصر وقوله تعالى وإنكا لتلقى القرءان كلام مستأنف سيق بعد بيان بعض شؤن القرآن الكريم تمهيدا لما يعقبه من الأقاصيص وتصديره بحرفي التأكيد لابراز كمال العناية بمضمونه وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل وهو جبريل عليه السلام للدلالة عليه في قوله تعالى : نزل به الروح الأمين ولقى المخفف يتعدى لواحد والمضاعف يتعدى لأثنين وهما هنا نائب الفاعل والقرآن والمراد وإنك لتعطى القرآن تلقنه من لدن حكيم عليم
6
- أي أي حكيم وأي عليم وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن وتنصيص على علو طبقته عليه الصلاة و السلام في معرفته والاحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق والحكمة كما قال الراغب من الله عز و جل معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الاحكام ومن الانسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وجمع بينهما وبين العلم مع أنه داخل في معناها لغة كما سمعت لعمومه إذ هو يتعلق بالمعدومات ويكون بلا عمل ودلالة الحكمة على احكام العمل واتقانه وللاشعار بان ما في القرآن من العلوم منها ما هو حكمة كالشرائع ومنها ما هو ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية
وقوله تعالى إد قال موسى لأهله منصوب على المفعولية بمضمر خوطب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر بتلاوة بعض القرءان الذي تلقاه صلى الله عليه و سلم من لدنه عز و جل تقريرا لما قبله وتحقيقا له أي اذكر
(19/158)

لهم وقت قول موسى عليه السلام لأهله وجوز أن تكون إذ ظرفا لعليم وتعقبه في البحر بان ذلك ليس بواضح إذ يصير الوصف مقيدا بالمعمول وقال في الكشف : مايتوهم من دخل التقييد بوقت معين مندفع إذ ليس مفهوما معتبرا عند المعتبر ولأنه لما كان تمهيد القصة حسن أن يكون قيدا لها كانه قيل : ما أعلمه حيث فعل بموسى عليه السلام ما فعل ولما كان ذلك من دلائل العلم والحكمةعلى الاطلاق لم يضر التقييد بل نفع لرجوعه بالحقيقة إلى نوع من التعليل والتذكير اه ولايخفى أن الظاهر مع هذا هو الوجه الأول ثم أن قول موسى عليه السلام إني ءانست نارا سآتيكم منها بخبر كان في أثناء سيره خارجا من مدين عند وادي طوى وكان عليه السلام قد حاد عن الطريق في ليلة باردة مظلمة فقدح فاصلد زنده فبدا له من جانب الطور نارا والمراد بالخبر الذي يأتيهم به من جهة النار الخبر عن حال الطريق لأن من يذهب لضوء نار على الطريق يكون كذلك ولم يجرد الفعل عن السين إما للدلالة على بعد مسافة النار في الجملة حتى لايستوحشوا إن أبطأ عليه السلام عنهم أو لتأكيد الوعد بالاتيان فانها كما ذكره الزمخشري تدخل في الوعد لتأكيده وبيان أنه كائن لامحالة وإن تأخر وما قيل من أن السين للدلالة على تقريب المدة دفعا للاستيحاش إنما ينفع على ما قيل في اختياره على سوف دون التجريد الذي يتبادر من الفعل معه الحال الذي هو أتم في دفع الاستيحاش
ولعل الأولى اعتبار كونه للتأكيد ولا يقال : أنه عليه السلام لم يتكلم بالعربية وما ذكر من مباحثها لانا نقول : مالمانع من أن يكون في غير اللغة العربية ما يؤدي مؤداها بل حكاية القول عنه عليه السلام بهذه الالفاظ يقتضي أنه تكلم في لغته مما يؤدي ذلك ولابد وجمع الضمير إن صح انه لم يكن معه عليه السلام غير امرأته للتعظيم وهو الوجه في تسمية الله تعالى شأنه امرأة موسى عليه السلام بالأهل مع أنه جماعة الاتباع أو ءاتيكم بشهاب قبس أي بشعلة نار مقبوسة أي ماخوذة من أصلها فقبس صفة شهاب أو بدل منه وهذه قراءة الكوفيين ويعقوب وقرأ باقي السبعة بشهاب قبس بالاضافة واختارها ابو الحسن وهي إضافة بيانية لما بينهما من العموم والخصوص كما في ثوب خز فان الشهاب يكون قبسا وغير قبس والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في سورة طه فلا تدافع بين ما وقع هنا وما وقع هناك والترديد للدلالة على أنه عليه السلام ان لم يظفر بهما لم يعدم احدهما بناء على ظاهر الأمر وثقة بسنة الله عز و جل انه لايكاد يجمع حرمانين على عبده
وقيل : يجوز أن يقال الترديد لأن احتياجه عليه السلام إلى أحدهما لالهما لأنه كان في حال الترحال وقد ضل عن الطريق فمقصوده أن يجد احدا يهدي الى الطريق فيستمر في سفره فان لم يجده يقتبس نارا ويوقدها ويدفع ضرر البرد في الاقامة
وتعقب بأنه قد ورد في القصة أنه عليه السلام كان قد ولد له عند الطور ابن في ليلة شاتية وظلمة مثلجة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته فرأى النار فقال لأهله ما قال وهو يدل على احتياجه لهما معا لكنه تحرى عليه السلام الصدق فاتى باو لعلكم تصطلون
7
- أي رجاء أو لأجل أن تستدفئوا بها والصلاء بكسر الصاد والمد ويفتح بالقصر الدنو من النار لتسخين البدن وهو الدفؤ ويطلق على النار نفسها أو هو بالكسر الدفؤ
(19/159)

وبالفتحوبالفتح النار فلما جاءها أي النار التي قال فيها إني ءانست نارا وقيل : الضمير للشجرة وهو كما ترى وما ظنه داعيا ليس بداع لما أشرنا اليه نودي أي موسى عليه السلام من جانب الطور أن بورك معناه أي بورك على أن ان مفسرة لما في النداء من معنى القول دون حروفه
وجوز أن تكون أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ومنعه بعضهم لعدم الفصل بينها وبين الفعل بقد أو السين أو سوف أو حرف النفي وهو مما لابد منه إذا كانت مخففة لما في الحجة لأبي علي الفارسي أنها لما كانت لايليها إلا الاسماء استقبحوا أن يليها الفعل من غير فاصل وأجيب بأن ما ذكر ليس على اطلاقه فقد صرحوا بعدم اشتراط الفصل في مواضع منها ما يكون الفعل فيه دعاء فلعل من جوز كونها المخففة ههنا جعل بورك دعاء على أنه يجوز أن يدعى أن الفصل باحدى المذكورات في غير ما استثنى أعلبي لقوله : علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسألوا باعظم سؤل وجوز أن يكون المصدرية الناصبة للافعال و بورك حينئذ اما خبر أو إنشاء للدعاء وادعى الرضى أن بورك إذا جعل دعاء فان مفسرة لاغير لأن المخففة لايقع بعدها فعل انشائي اجماعا وكذا المصدرية وهو مختلف لما ذ : ره النحاة ودعوى الاجماع ليست بصحيحة والقول بأنه يفوت معنى الطلب بعد التأويل بالمصدر قد تقدم ما فيه وفي الكشف يمنع عن جعلها مصدرية عدم سداد المعنى لأن بورك إذ ذاك ليس يصلح بشارة وقد قالوا : إن تصدير الخطاب بذلك بشارة لموسى عليه السلام بأنه قد قضي له أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشأم كلها البركة وهذا بخلاف ما إذا كان بورك تفسيرا للشأن اه وفيه نظر وعلى الوجهين الكلام على حذف حرف الجر أي نودي بأن الخ والجار والمجرور متعلق بما عنده وليس نائب الفاعل بل نائب الفاعل ضمير موسى عليه السلام وقيل : هو نائب الفاعل ولا ضمير
وقال بعضهم في الوجه الأول أيضا إن الضمير القائم مقام الفاعل ليس لموسى عليه السلام بل هو لمصدر الفعل أي نودي هو أي النداء وفسر النداء بما بعده والأظهر في الضمير رجوعه لموسى وفي أن أنها مفسرة وفي بورك أنه خبر وهو من البركة وقد تقدم معناها وقيل : هنا المعنى قدس وطهر وزيد خيرا من في النار ومن حولها ذهب جماعة إلى أن في الكلام مضافا مقدرا في موضعين أي من في مكان النار ومن حول مكانها قالوا : ومكانها البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : نودي من شاطيء الوادي الأيمن في القعة المباركة وتدل على ذلك قراءة أبي تباركت الأرض ومن حولها واستظهر عموم من لكل من في ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الانبياء عليهم السلام وكفاتهم أحياء أو أمواتا ولاسيما تلك البقعة التي كلم الله تعالى موسى عليه السلام فيها
وقيل : من في النار موسى عليه السلام ومن حولها الملائكة الحاضرون عليهم السلام وأيد بقراءة أبي فيما نقل أبو عمرو الداني وابن عباس ومجاهد وعكرمة ومن حولها من الملائكة وهي عند كثير تفسير لاقراءة لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه وقيل : الأول الملائكة والثاني موسى عليه السلام واستغنى بعضهم عن تقدير المضاف بجعل الظرفية مجازا عن القرب التام وذهب الى القول الثاني في المراد
(19/160)

بالموصولين وأيا ما كان فاملارد بذلك بشارة موسى عليه السلام والمراد بقوله تعالى على ما قيل : وسبحان الله رب العالمين
8
- تعجيب له عليه السلام من ذلك وايذان بأن ذلك مريده ومكونه رب العالمين تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤن ومن أحكام تربيته تعالى للعالمين أو خبر له عليه السلام بتنزيهه سبحانه لئلا يتوهم من سماع كلامه تعالى التشبيه بما للبشر أو طلب منه عليه السلام لذلك
وجوز أن يكون تعجبا صادرا منه عليه السلام بتقدير القول أي وقال سبحان الله الخ وقال السدي : هو من كلام موسى عليه السلام قاله لما سمع النداء من الشجرة تنزيها لله تعالى عن سمات المحدثين وكأنه على تقدير القول أيضا وجعل المقدر عطفا على نودي وقال ابن شجرة : هو من كلام الله تعالى ومعناه وبورك من سبح الله تعالى رب العالمين وهذا بعيد من دلالة اللفظ جدا وقيل : هو خطاب لنبينا صلى الله عليه و سلم مراد به التنزيه وجعل معترضا بين ما تقدم وقوله تعالى : يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم
9
- فانه متصل معنى بذلك والضمير للشأن وقوله سبحانه أنا الله مبتدأ وخبر و العزيز الحكيم نعتان للاسم الجليل ممهدتان لما أريد إظهاره على يده من المعجزة أي أنا الله القوي القادر على مالا تناله الأوهام من الأمر العظام التي من جملتها أمر العصا واليد الفاعل كل ما افعله بحكمة بالغة وتدبير رصين والجملة خبران مفسرة لضمير الشأن
وجوز أن يكون الضمير راجعا إلى ما دل عليه الكلام وهو المكلم المنادى و أنا خبر أي ان مكلمك المنادي لك أنا والاسم الجليل عطف بيان لانا وتجوز البدلية عند من جوز ابدال الظاهر من ضمير المتكلم بدل كل ويجوز أن يكون أنا توكيدا للضمير و الله الخبر وتعقب أبو حيان ارجاع الضمير للمكلم المنادي بانه إذا حذف الفاعل وبني فعله للمفعول لايجوز عود ضمير على ذلك المحذوف لأنه نقض للغرض من حذفه والعزم على أن لايكون محدثا عنه وفيه أنه لم يقل أحد أنه عائد على الفاعل المحذوف بل على مادل عليه الكلام ولو سلم فلاامتناع في ذلك إذا كان في جملة أخرى وأيضا قوله على أن لايكون محدثا عنه غير صحيح لأنه قد يكون محدثا عنه ويحذف للعلم به وعدم الحاجة إلى ذكره ثم ان الحمل مفيد من غير رؤية لأنه عليه السلام علمه سبحانه علم اليقين بما وقر في قلبه فكأنه رآه عز و جل هذا وفي قوله تعالى : أن بورك من في النار الخ أقوال أخر الاول ان المراد بمن في النار نور الله تعالى وبمن حولها الملائكة عليهم السلام وروي ذلك عن قتادة والزجاج
والثاني أن المراد بمن في النار الشجرة التي جعلها الله محلا للكلام وبمن حولها الملائكة عليهم السلام أيضا ونقل هذا عن الجبائي وفي ما ذكر إطلاق من على غير العالم
والثالث ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال في قوله تعالى : أن بورك من في النار يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها يعني الملائكة عليهم السلام واشتهر عنه كون المراد بمن في النار نفسه تعالى وهو مروي أيضا عن الحسن وابن جبير وغيرهما في البحر وتعقب ذلك الامام بأنا نقطع بأن هذه الرواية عن ابن عباس موضوعة مختلقة
وقال أبو حيان : إذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف أي بورك من قدرته وسلطانه في النار وذهب الشيخ ابراهيم الكوراني في رسالته تنبيه العقول على تنزيه الصوفية عن اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول
(19/161)

الى صحة الخبر عن الحبر رضي الله تعالى عنه وعدم احتياجه الى التأويل المذكور فان الذي دعا المؤولين أو الحاكمين بالوضع إلى التأويل أو الحكم بالوضع ظن دلالته على الحلول المستحيل عليه تعالى وليس كذلك بل ما يدل عليه هو ظهوره سبحانه في النار وتجليه فيها وليس ذلك من الحلول في شيء فان كون الشيء مجلي لشيء ليس كونه محلا له فان الظأهر في المرآة مثلا خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فانه حاصل فيه ثم إن تجليه تعالى وظهوره في المظاهر يجامع التنزيه ومعنى الآية عنده فلما جاءها نودي أن بورك أي قدس أو نحو ذلك من تجلى وظهر في صورة النار لما اقتضته الحكمة لكونها مطلوبة لموسى عليه السلام ومن حولها من الملائكة أو منهم ومن موسى عليه السلام وقوله تعالى وسبحان الله دفع لما يتوهمه التجلي في مظهر النار من التشبيه أي وسبحان الله عن التقيد بالصورة والمكان والجهة وإن ظهر فيها بمقتضى الحكمة لكونه موصوفا بصفة رب العالمين الواسع القدوس الغني عن العالمين ومن هو كذلك لايتقيد بشيء من صفات المحدثات بل هو جل وعلا باق على إطلاقه حتى عن قيد الاطلاق في حال تجليه وظهوره فيما شاء من المظاهر
ولهذا ورد في الحديث الصحيح سبحانك حيث كنت فاثبت له تعالى التجلي في الحيث ونزهه عن أن يتقيد بذلك ياموسى إنه أي المنادي المتجلي في النار أنا الله العزيز فلا أتقيد بمظهر للعزة الذاتية لكني الحكيم ومقتضى الحكم الظهور في صورة مطلوبك وذكر أن تقدير المضاف كما فعل بعض المفسرين عدول عن الظاهر لظن المحذور فيه وقد تبين أن لامحذور فلا حاجة إلى العدول انتهى وكأني بك تقول : هذا طور ما وراء طور العقول ثم إنه لامانع على أصول الصوفية أن يريدوا بم حولها الله عز و جل أيضا إد ليس في الدار عندهم غيره سبحانه ديار ولا بعد في أن تكون الآية عند ابن عباس إن صح عنه ما ذكر من المتشابه والمذاهب في معلومة عندك والأوفق بالعامة التأويل بأن يقال : المراد أن بورك من ظهر نوره في النار
ولعل في خبر الحبر السابق ما يشير اليه وإضافة النور اليه تعالى لتشريف المضاف وهو نور خاص كان مظهرا لعظيم قدرته تعالى وعظمته وسمعت من بعض أجلة المشايخ يقول : إن هذا النور لم يكن عينا ولا غيرا على نحو قول الأشعري في صفاته عز و جل الذاتية وهو أيضا منزع صوفي يرجع بالآخرة إلى حديث التجلي والظهور كما لايخفى فتأمل
والق عصاك عطف على بورك منتظم معه في سلك تفسير النداء أو نودي أن بورك وأن الق عصاك ويدل عليه قوله تعالى : وان الق عصاك بعد قوله سبحانه : ان ياموسى إني أنا الله بتكرير أن فان القرآن يفسر بعضه بعضا وهذا ما اختاره الزمخشري وأورد عليه أن تجديد النداء في قوله تعالى ياموسى الخ يأباه ورد بانه ليس بتجديد نداء لأنه من جملة تفسير النداء المذكور وقيل : لايأباه لأنه جملة معترضة وفيه بحث واعترض أيضا بأن بورك اخبار والق إنشاء ولا يعطف الانشاء على الاخبار ومن هنا قيل : إن العطف على ذلك بتقدير وقيل له : الق أو العطف على مقدر أي افعل ما آمرك والق وفيه إنه في مثلهذا يجور عطف الانشاء على الاخبار لكون النداء في معنى القول بل أجاز سيبويه جاء زيد ومن عمرو بالعطف
ولايرد هذا أصلا على من يجعل بورك انشاء ويرد على من جعل العطف على أفعل محذوفا أن الظأهر حينئذ فالق بالفاء واختار أبو حيان كون العطف على جملة إنه أنا الله العزيز الحكيم ولم يبال باختلاف
(19/162)

الجملتين اسمية وفعلية واخبارية وانشائية لما ذكر أن الصحيح عدم اشتراط تناسب الجملتين المتعاطفتين في ذلك لما سمعت آنفا عن سيبويه والفاء في قوله تعالى فما رءاها تهتز فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بظهورها ودلالة على سرعة وقوع مضمونها كأنه قيل : فالقاها فانقلبت حية فلما أبصرها تتحرك بشدة اضطراب وجملة تهتز في موضع الحال من مفعول رأى فانها بصرية كما أشرنا اليه لاعلمية كما قيل
وقوله تعالى : كأنها جان في موضع حال أخرى منه أو هو حال من ضمير تهتز على طريقة التداخل والجان الحية الصغيرة السرية الحركة شبهها سبحانه في شدة حركتها واضطرابها مع عظم جثتها بصغار الحيات السريعة الحركة فلا ينافي هذا قوله تعالى في موضع آخر : فاذا هي ثعبان مبين
وقيل : يجوز أن يكون الاخبار عنها بصفات مختلفة باعتبار تنقلها فيها وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد جأن بهمزة مفتوحة هربا من التقاء الساكنين وإن كان على حده كما قيل : دأبة وشأبة
ولى مدبرا أي انهزم ولم يعقب أي ولم يرجع على عقبه من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار قال الشاعر : فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا وهذا مروي عن مجاهد وقريب منه قول قتادة : أي لم يتلفت وهو الذي ذكره الراغب وكان ذلك منه عليه السلام لخوف لحقه قيل : لمقتضى البشرية فان الانسان إذا رأى أمرا هائلا جدا يخاف طبعا أو لما أنه ظن أن ذلك لأمر أريد وقوعه به ويدل على ذلك قوله سبحانه : ياموسى لاتخف أي من غيري أي مخلوق كان حية أو غيرها ثقة بي واعتمادا علي أو لاتخف مطلقا على تنزيل الفعل منزلة اللازم وهذا إما لمجرد الايناس دون إرادة حقيقة النهي وإما للنهي عن منشأ الخوف وهو الظن الذي سمعته وقوله تعالى : إني لايخاف لدي المرسلون
1
- تعليل للنهي عن الخوف وهو على ما قيل يؤيد أن الخوف كان للظن المذكور وأن المراد لاتخف مطلقا والمراد من لدي في حضرة القرب مني وذلك حين الوحي
والمعنى أن الشأن لاينبغي للمرسلين أن يخافوا حين الوحي اليهم بل لايخطر ببالهم الخوف وإن وجد ما يخاف منه لفرط استغراقهم إلى تلقي الأوامر وانجذاب أورواحهم إلى عالم الملكوت والتقييد بلدي لأن المرسلين في سائر الأحيان أخوف الناس من الله عز و جل فقد قال تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء ولا أعلم منهم بالله تعالى شأنه وقيل : المعنى لاتخف من غيري أو لاتخف مطلقا فان الذي ينبغي أن يخاف منه أمثالك المرسلون إنما هو العاقبة وأن الشأن لايكون للمرسلين عندي سوء عاقبة ليحافوا منه
والمراد بسوء العاقبة ما في الآخرة لا ما في الدنيا لئلا يرد قتل بعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام والمراد بلدي على ما قاله الخفاجي : عند لقائي وفي حكمي على ما قاله ابن الشيخ وأيا ما كان يلزم مما ذكر أن المرسلين عليهم السلام لايخافون سوء العاقبة لأن الله تعالى آمنهم من ذلك فلو خافوا لزم أن لايكونوا واثقين به عز و جل وهذا هو الصحيح كما في الحواشي الشهابية عند الاشعري وظاهر اةثار يقتضي أنهم عليهم السلام كانوا يخافون ذلك فقد روي أنه عليه الصلاة و السلام كان يكثر أن يقول : يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك
(19/163)

فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوما : يارسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد يقلب قلب عبده وظاهر بعض الآيات يقتضي ذلك أيضا مثل قوله تعالى : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وكون الله تعالى آمنهم من ذلك إن أريد به ما جاء في ضمن تبشيرهم بالجنة فقد صح أن المبشرين بالجنة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخافون من سوء العاقبة مع علمهم ببشارته تعالى إياهم بالجنة ويعلم منه أن الخوف يجتمع مع البشارة ولا يلزم من ذلك عدم الوثوق به عر وجل لأنه احتمال أن يكون هناك شرط لم يظهره الله تعالى لهم للابتلاء ونحوه من الحكم الالهية وإن أريد به ما كان بصريح ءامنتكم من سوء العاقبة كان هذا الاحتمال قائما أيضا فيه يحصل الخوف من ذلك وإن أريد به ما اقتضاه جعله الله تعالى إياهم معصومين من الكفر ونحوه ورد أن الملائكة عليهم السلام جعلهم الله تعالى معصومين من ذلك أيضا وهم يخافون
ففي الأثر لما مكر بابليس بكى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام فقال الله عز و جل لهما : ما يبكيكما قالا : يارب ما نأمن مكرك فقال تعالى : هكذا كونا لاتأمنا مكري ولعل ذلك لأن العصمة عندنا على ما يقتضيه أصل استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء كما في المواقف وشرحه الشريف الشريفي أن لايخلق الله تعالى في الشخص ذنبا وعند الحكماء بناء على ما ذهبوا اليه من القول بالايجاب واعتبار استعداد القوابل ملكة تمنع الفجور وتحصل ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكد بتتابع الوحي بالأوامر والنواهي وهي بكلا المعنيين لاتقتضي استحالة الذنب أما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الأول فلأن عدم خلقه تعالى إياه ليس بواجب عليه سبحانه ليكون خلقه مستحيلا عليه تعالى ومتى لم يكن الخلق مستحيلا عليه تعالى فكيف يحصل الأمن من المكر وأما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الثاني فلأن زوال تلك الملكة ممكن أيضا واقتضاء العلم بالمثالب والمناقب إياها ابتداء وتأكدها بتتابع الوحي ليس من الضرورات العقلية ومتى كان الأمر كذلك لايحصل الامن بمجرد حصول الملكة نعم قال قوم : العصمة تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه وقد يستند اليه من يقول بالأمن ولايخفى أنه لو سلم تمام الاستدلال به على هذا المطلب فهو في حد ذاته غير صحيح
ففي المواقف وشرحه أنه يكذب هذا القول أنه لو كان صدور الذنب ممتنعا لما استحق النبي عليه الصلاة و السلام المدح بترك الذنب إذ لا مدح بترك ما هو ممتنع لأنه ليس بمقدور داخلا تحت الاختيار وأيضا فالاجماع على أن الأنبياء عليهم السلام مكلفون بترك الذنوب مثابون به ولو كان صدور الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك وأيضا فقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى الي يدل على مماثلتهم عليهم السلام لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما لايمتنع صدوره عن سائر البشرية اه وذكر الخفاجي في شرح الشفاء عن ابن الهمام أنه قال في التحرير : العصمة عدم القدرة على المعصية وخلق مانع عنها غير ملجيء ثم قال : وهو مناسب لقول الماتريدي العصمة لاتزيل المحنة أي الابتلاء المقتضي لبقاء الاختيار ومعناه كما في الهداية أنها لاتجبره على الطاعة ولا تعجزه عن المعصية بل هي لطف من
(19/164)

اللهالله تعالى على فعله وتزجره عن الشر مع بقاء الاختيار وتحقيق للابتلاء اه وهو ظاهر على عدم الاستحالة الذاتية لصدور الذنب ولعل ما وقع في كلام بعض الاجلة من استحالة وقوع الذنب منهم عليهم السلام محمول على الاستحالة الشرعية كما يؤذن به كلام العلامة ابن حجر في شرح الهمزية وبالجملة الذي تقتضيه الظواهر ويشهد له العقل أن الأنبياء عليهم يخافون ولايأمنون مكر الله تعالى لأنه وإن استحال صدور الذنب عنهم شرعا لكنه غير مستحيل عقلا بل هو من الممكنات التي يصح تعلق قدرة الله تعالى بها ومع ملاحظة امكانه الذاتي وأن الله تعالى لايجب عليه شيء وقيام احتمال تقييد المطلق بمالم يصرح به لحكمة كالمشيئة لايكاد يأمن معصوم من مكر الملك الحي القيوم فالأنبياء والملائكة كلهم خائفون ومن خشيته سبحانه عز و جل مشفقون وليس لك أن تخص خوفهم بخوف الاجلال إذ الظاهر العموم ولا دليل على الخصوص يعول عليه عند فحول الرجال نعم قد يقال بامكان حصول الامن من المكر وذلك بخلق الله تعالى علما ضروريا في العبد بعدم تحقق ما يخاف منه في وقت من الأوقات أصلا لعلم الله تعالى عدم تحققه كذلك وإن كان ممكنا ذاتيا ولعله يحصل لأهل الجنة لتتم لذتهم فيها فقد قيل : فان شئت ان تحيا حياة هنيئة فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا ولايبعد حصوله لمن شاء الله تعالى من عباده يوم القيامة قبل دخولها أيضا ولم تقم أمارة عندي على حصوله في هذه النشأة لأحد والله تعالى أعلم فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك وروى الامام عن بعضهم أنه قال معنى الآية : إني إذا أمرت المرسلين باظهار معجز فينبغي أن لايخافوا فيما يتعلق باظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لامحالة وقوله تعالى : إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فاني غفور رحيم
11
- الاستثناء فيه منقطع عند كثير إلا أنه روي عن الفراء والزجاج وغيرهما أن المراد بمن ظلم من أذنب من غير الأنبياء عليهم السلام قال صاحب المطلع : والمعنى عليه لكن من ظلم من سائر العباد ثم تاب فاني أغفر له وقال جماعة : إن المراد به من فرطت منه صغيرة ما وصدر منه خلاف الأولى بالنسبة إلى شأنه من المرسلين عليهم السلام
والمراد استدراك ما يختلج في الصدور من نفي الخوف عن كلهم وفيهم من صدر منه ذلك والمعنى عليه لكن من صدر منهم ما هو في صورة الظلم ثم تاب فاني أغفر له فلا ينبغي أن يخاف أيضا وهو شامل على مقيل لمن فعل منهم شيئا من ذلك قبل رسالته وخصه بعضهم بمن صدر منه شيء من ذلك قبل النبوة وقال : يؤيده لفظة ثم فانها ظاهرة في التراخي الزماني ولعل الظاهر كونه خاصا بمن صدر منه بعد الرسالة لظهور المرسل في المتلبس بالرسالة لافيمن يتلبس بها بعد أو الأعم وكأن فيما ذكر على الوجهين الأولين تعريضا بما وقع من موسى عليه السلام من وكزه القبطي واستغفاره وتسميته ظلما مشاكلة لقوله عليه السلام ظلمت نفسي ولم يجعلوه على هذا متصلا مع دخول المستثني في المستثنى منه أعني المرسلين مطلقا لأنه لو كان متصلا لزم إثبات الخوف لمن فرطت منه صغيرة ما منهم لاستثنائه من الحكم وهو نفي الخوف عنهم ونفي النفي إثبات وذلك خلاف المراد فلايكون متصلا بل هو شروع في حكم آخر
ورجح الطيبي ما قاله الجماعة بأن مقام تلقي الرسالة وابتداء المكالمة مع الكليم يقتضي إزالة الخوف بالكلية وهو ظاهر على ما قالوه وروي عن الحسن ومقاتل وابن جريج والضحاك ما يقتضي أنه استثناء متصل
(19/165)

والظاهر أنهم أرادوا بمن من اراده الجماعة وفي اتصاله على ما سمعت خفاء وربما يقال : إن من يطلق الاتصال عليه في رأي الجماعة يكتفي في الاتصال بمجرد كون المستثنى من جنس المستثنى منه فان كفى فذاك وإلا يلتزم إثبات الخوف ويجعل بدل عطفا على مستأنف محذوف كأنه قيل : إلا من فرطت منه صغيرة فانه يخاف فمن فرط ثم تاب غفر له فلا يخاف وحاصله إلا من ظلم فانه يخاف أولا ويزول عنه الخوف بالتوبة آخرا وعن الفراء في رواية أخرى عنه أنه استثناء متصل من جملة محذوفة والتقدير وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم ورده النحاس بأن الاستثناء من محذوف لايجوز ولو جاز هذا لجاز أن يقال : لاتضرب القوم إلا زيدا على معنى وإنما اضرب غيرهم إلا زيدا وهذا ضد البيان والمجيء بما لايعرف معناه انتهى وهو كما قال ولايجدي نفعا القول باعتبار مفهوم المخالفة وقالت فرقة : إن إلا بمعنى الواو والتقدير ولا من ظلم الخ
وتعقبه في البحر بأنه ليس بشيء للمباينة التامة بين إلا والواو فلا تقع أحداهما موقع الأخرى وحسن الظن يجوز أنهم لم يصرحوا بكون إلا بمعنى الواو وإنما فهم من نسبة اليهم من تقديرهم وهو يحتمل أن يكون تقدير معنى لا اعراب فلا تغفل والظاهر انقطاع استثناء ولعل الأوفق بشأن المرسلين أن يراد بمن ظلم من ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا من غيرهم وثم يحتمل أن تكون للتراخي الزماني فتفيد الآية المغفرة لمن بدل على الفور من باب أولى ويحتمل أن تكون للتراخي الرتبي وهو ظاهر بين الظلم والتبديل المذكور والتبديل قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه نحو بدلناهم جلودا غيرها وقد يتعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى اةخر بالباء أو بمن وهو المذهوب به والمبدل منه نحو بدله بخوفه أو من خوفه أمنا وقد يتعدى إلى واحد نحو بدلت الشيء أي غيرته ومنه فمن بدله بعدما سمعه والمعنى هنا على المتعدي الى مفعولين وقد تعدى إلى أحدهما وهو المبدل منه بالباء أو بمن فكأنه قيل : ثم بدل بظلمه أو من ظلمه حسنا ويشير اليه قوله تعالى : بعد سوء وحاصله ثم ترك الظلم وأتى بحسن والمراد به التوبة فيكون المعنى في الآخرة إلا من ظلم ثم تاب وعدل عنه إلى ما في النظم الجليل لأنه أوفق بمقام الايناس كذا قيل والظاهر عليه أن إسناده التبديل إلى من ظلم حقيقي وقيل : ان المعنى ثم رفع الظلم والسوء ومحاه من صحيفة أعماله ووضع مكانه الحسن بسبب توبته نظير ما في قوله تعالى : يبدل الله سيآتهم حسنات واسناد التبديل الى من ظلم على هذا مجازي لأنه سبب لتبديل الله تعالى له بتوبته وكأني بك تختار الأول ومحل من على كل من تقديري انقطاع الاستثناء واتصاله ظاهر والظاهر أنها موصولة في التقديرين ولا يخفى إنها إدا اعتبرت منصوبة المحل على الاستثناء أو مرفوعته على البدل تكون جملة فانى الخ مستأنفة ومن قدر في الكلام محذوفا وعطف عليه بدل وقال : التقدير من ظلم ثم بدل جعل الجملة خبر من وجوز بعضهم أن تكون شرطية وجملة فاني الخ جوابها فتأمل ولا تغفل وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم ألا من ظلم بفتح الهمزة وتخفيف اللام على أن ألا حرف استفتاح وجعل ابو حيان من على هذه القراءة شرطية ولا أراه واجبا وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني حسنى على وزن فعلى ممنوع الصرف
وقرأ ابن القاسم حسنا بضم الحاء والسين منونا
وقرأ مجاهد وأبو حيوة وابن أبي علي والأعمش وأبو عمرو في رواية الجعفي وعصمة وعبد الوارث وهرون وعياش حسنابفتح الحاء والسين مع التنوين وأدخل يدك في جيبك أي جيب
(19/166)

قميصك وهو مدخل الرأس منه المفتوح الى الصدر لا ما يوضع فيه الدراهم ونحوها كما هو معروف الآن لأنه مولد ولم يقل سبحانه في كمك لأنه عليه السلام كان لابسا إذ ذاك مدرعة من صوف لاكم لها وقيل : الجيب القميص نفسه لأن يجاب أي يقطع فهو فعل بمعنى مفعول وقال السدي : في جيبك أي تحت إبطك ولعل مراده أن المعنى أدخلها في جيبك وضعها تحت ابطك وكانت مدرعته عليه السلام على روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أزرار لها وقد ورد في بعض اةثار أن نبينا صلى الله عليه و سلم كان مطلق القميص في بعض الأوقات ففي سنن أبي داود باب في حل الأزرار ثم أخرج فيه من طريق معاوية بن قرة قال : حدثني أبي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في رهط من مزينة فبايعناه وان قميصه لمطلق وفي رواية البغوي ثم في معجم الصحابة لمطلق الأزرار قال : فبايعته ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم قال عروة فما رأيت معاوية ولا أباه قط إلا مطلقي أزرارهما ولا يزرانها أبدا وجاء أيضا أنه عليه الصلاة و السلام أمر بزر الأزرار
فقد أخرج الطبراني عن زيد بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نظر إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فاذا أزراره محلولة فزرها رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده وقال : أجمع عطفي ردائك على نحرك وفي هذين الأثرين ما هو ظاهر في أن جيب القميص كان إذ ذاك على الصدر كما هو اليوم عند العرب وهو يبطل القول بأنه خلاف السنة وأنه من شعائر اليهود وأمره تعالى إياه عليه السلام بادخال يده في جيبه مع أنه سبحانه قادر على أن يجعلها بيضاء من غير إدخال للامتحان وله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء والظاهر أن قوله تعالى : تخرج جواب الأمر لأن خروجها مترتب على إدخالها وقيل : في الكلام حذف تقديره وأدخل يدك في جيبك تدخل وأخرجها تخرج فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول فيكون في الكلام صنعة الاحتباك وهو تكلف لاحاجة اليه وقوله تعالى بيضاء حال وكذا قوله تعالى : من غير سوء وهو احتراس وقد تقدم الكلام فيه وكذا قوله سبحانه في تسع ءايات أي آية معدودة من جملة تسع ءايات أو معجزة لك معها على أن التسع هي الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة وهي جعل أسبابهم حجارة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الجدب والنقصان في المزارع واحدا ولا يعد الفلق منها لأنه عليه السلام لم يبعث به إلى فرعون وان تقدمه بيسير ومن عده يقول يكفي معاينته له في البعث به أو هو بعث به لمن ءامن من قومه ولمن تخلف من القبط ولم يؤمن وفي التقريب أن الطمسة والجدب والنقصان يرجع الى شيء واحد فالتسع هذا الواحد والعصا واليد وما بقي من المذكورات
وذهب صاحب الفرائد الى أن الجراد والقمل واحد والجدب والنقصان واحد وجوز أن يكون في تسع منقطعات عما قبله متعلقا بمحذوف أي اذهب في تسع ءايات ويدل على ذلك قوله تعالى بعد : فلما جاءتهم ءاياتنا وفي بمعنى مع ونظير هذا الحذف ما في قوله : أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما وقلت الى الطعام فقال منهم فريق يحسد الانس الطعاما فان التقدير هلموا إلى الطعام ويتعلق بهذا المحذوف قوله تعالى : إلى فرعون وقومه وعلى ما تقدم يتعلق
(19/167)

بمحذوف وقع حالا أي مبعوثا أو مرسلا إلى فرعون وأيا ما كان فقوله تعالى : إنهم كانوا قوما فاسقين
21
- مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل لم ارسلت اليهم بماذكر فقيل : إنهم الخ والمراد بالفسق إما الخروج عما الزمهم الشرع إياه إن قلنا بأنهم قد أرسل قبل موسى عليه السلام من يلزمهم اتباعه وهو يوسف عليه السلام وأما الخروج عما ألزمه العقل واقتضاء الفطرة ان قلنا بانه لم يرسل اليهم أحد قبله عليه السلام
فلما جاءتهم ءاياتنا أي ظهرت لهم على يد موسى عليه السلام فالمجيء مجاز عن الظهور وإسناده إلى الآيات حقيقي وقال بعض الأجلة : المجيء حقيقة واسناده إلى الآيات مجازي وهو حقيقة لموسى عليه السلام ولما بينهما من الملابسة لكونها معجزة له عليه السلام ساغ ذلك
ولعل النكتة في العدول عن فلما جاءهم موسى بآياتنا إلى ما في النظم الجليل الاشارة إلى أن تلك اةيات خارجة عن طوقه عليه السلام كسائر المعجزات وأنه لم يكن له عليه السلام تصرف في بعضها وكونه معجزة له لأخباره به ووقوعه بدعائه ونحوه ولا ينافي هذا الاسناد اليه لكونها جارية على يديه للاعجاز في قوله سبحانه فلما جاءهم موسى بآياتنا في محل ءاخر وقد بين بعضهم وجها لاختصاص كل منهما بمحله بأن ثمة ذكر مقاولته عليه السلام ومجادلتهم معه فناسب الاسناد اليه وهنا لما لم يكن كذلك ناسب الاسناد اليها لأن المقصود بيان جحودهم بها واضافة الآيات للعهد وفي اضافتها إلى ضمير العظمة ما لايخفى من تعظيم شأنها مبصرة حال من الآيات أي بينة واضحة وجعل الابصار لها وهو حقيقة لمتأمليها للملابسة بينها وبينهم لأنهم إنما يبصرون بسبب تأملهم فيها فاسناد مجازي من باب الاسناد إلى السبب ويجوز أن يراد مبصرة من كل نظر اليها من العقلاء أو من فرعون وقومه لقوله تعالى : واستيقنتها أنفسهم أي جاعلته بصيرا من أبصره المتعدي بهمزة النقل من بصر والاسناد أيضا مجازي
ويجوز أن تجعل الآيات كأنها تبصر فتهدي لأن العمي لاتقدر على الاهتداء فضلا أن تهدي غيرها فيكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية مرشحة قال في الكشف : وهذا الوجه أبلغ وقيل : إن فاعلا أطلق للمفعول فالمجار إما في الطرف أو في الاسناد فتأمل
وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما مبصرة بفتح الميم والصاد على وزن مسبعة وأصل هذه الصيغة أن تصاغ في الأكثر لمكان كثر فيه مبدأ الاشتقاق فلا يقال : مسبعة مثلا إلا لمكان يكثر فيه السباع لا لما فيه سبع واحد ثم تجوز بها عما هو سبب لكثرة تبصر الناظرين فيها وقال أبو حيان : هو مصدر أقيم مقام الاسم وانتصب على الحال أيضا قالوا هذا أي الذي نراه أو نحوه سحر مبين
31
- أي واضح سحريته على أن مبين من أبان اللازم وجحدوا بها أي وكذبوا بها واستيقنتها أنفسهم أي علمت علما يقينيا أنها ءايات من عند الله تعالى والاستيقان أبلغ من الايقان
وفي البحر أن استفعل هنا بمعنى تفعل كاستكبر بمعنى تكبر والأبلغ أن تكون الواو للحال والجملة بعدها حالية إما بتقدير قد أو بدونها ظلما أي للآيات كقوله تعالى بما
(19/168)

أي ظلم حيث حطوها عن رتبتها العالية وسموها سحرا وقيل : ظلما لأنفسهم وليس بذاك وعلوا أي ترفعا واستكبارا عن الايمان بها كقوله تعالى : والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها وانتصابها إما على العلية من جحدوا وهي على ما قيل باعتبار العاقبة والادعاء كما في قوله :
لدوا للموت وابنوا للخراب
وأما على الحال من فاعله أي جحدوا بها ظالمين عالين ورجح الأول بأنه أبلغ وأنسب بقوله تعالى : فانظر كيف كان عاقبة المفسدين
41
- أي ما ءال اليه فرعون وقومه من الاغراق على الوجه الهائل الذي هو عبرة للظالمين وإنما يذكر تنبيها على أنه عرضة لكل ناظر مشهور لدى كل باد وحاضر وادخل بعضهم في العاقبة حالهم في الآخرة من الاحراق والعذاب الأليم وفي إقامة الظاهر مقام الضمير ذم لهم وتحذير لأمثالهم
وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة وابا بن تغلب وعليا بقلب الواو ياء وكسر العين واللام وأصله فعول لكنهم كسروا العين اتباعا وروي ضمها عن ابن وثاب والاعمش وطلحة
ولقد ءاتينا داوود وسليمن علما كلام مستأنف مسوق لقرير ما سبق من أنه عليه السلام تلقى القرآن من لدن حكيم عليم كقصة موسى عليه السلام وتصديره بالقسم لأظهار كمال الاعتناء بمضمونه أي آتينا كل واحد منهما طائفة من العلم لائقة به من علم الشرائع والاحكام وغير ذلك مما يختص بكل منهما كصنعة لبوس ومنطق الطير وخصها مقاتل بعلم القضاء وابن عطاء بالعلم بالله عز و جل ولعل الأولى ما ذكر أو علما سنيا غزيرا فالتنوين على الاول للتقليل وهو أوفق بكون القائل هو الله عز و جل فان كل علم عنده سبحانه قليل وعلى الثاني للتعظيم والتكثير وهو أوفق باتنانه جل جلاله فانه سبحانه الملك العظيم فاللائق بشأنه الامتنان بالعظيم الكثير فلكل وجهة وربما يرجح الثاني ومما ينبغي أن لا يلتفت اليه كون التنوين للنوعية أي نوعا من العلم والمراد به علم الكيمياء وقالا أي قال كل منهما شكرا لما أوتيه من العلم الحمد لله الذي فضلنا بما آتانا من العلم على كثير من عباده المؤمنين
51
- على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازا وحكاية الأقوال المتعددة سواء كانت صادرة عن المتكلم أو عن غيره بعبارة جامعة للكل مما ليس بعزيز ومن ذلك قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات قيل وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو دون الفاء إد المتبادر من العطف بالفاء ترتب جمل كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما لا على إيتاء ما أوتي نفسه فقط
وتعقب بأنه إدا سلم ما ذكر فالعطف بالواو أيضا يتبادر معه كون حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما فما يمنع من ذلك مع الواو يمنع نحوه مع الفاء وقال العلامة الزمخشري عطف بالواو دون الفاء مع أن الظاهر العكس كما في قولك : أعطيته فشكر إشعارا بأن ما قالاه بعض ما احدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه فاضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد كأنه قال سبحانه : ولقد آتيناهما علما فعملا فيه وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة وقالا : الحمد لله الذي فضلنا وحاصله أن إيتاء العلم من جلائل النعم وفواضل المنح
(19/169)

يستدعييستدعي إحداث الشكر أكثر مما ذكر فجيء بالواو لأنها تستدعي إضمارا فيضمر ما يقتضيه موجب الشكر من قوله : فعملا به وعلماه فانه شكر فعلى وقوله : وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة فانه شكر قلبي وبقوله تعالى : وقالا الخ تتم أنواع الشكر لأنه شكر لساني وفي الطي إيماء بأن المطوي جاوز حد الاحصاء ويعلم مما ذكر أن هذا الوجه لاختبار العطف بالواو أولى مما ذهب اليه السكاكي من تفويض الترتب إلى العقل لأن المقام يستدعي الشكر البالغ وهو ما يستوعب الانواع وعلى ماذهب اليه يكون بنوع القولي منها وحده وهو أولى مما قيل أيضا : إنه لم يعطف بالفاء لأن الحمد على نعم عظيمة من جملتها العلم ولو عطف بالفاء لكان الحمد عليه فقط لأن السياق ظاهر في أن الحمد عليه لا على ما يدخل هو في جملته وهل هناك على ما ذكره العلامة تقدير حقيقة أم لا قولان وممن ذهب إلى الأول من يسمي هذه الواو الفصيحة والظاهر أن المراد من الكثير المفضل عليه من لم يؤت مثل علمها عليهما السلام وقيل : ذاك ومن لم يؤت علما أصلا
وتعقب بأنه يأباه تبيين الكثير بعباده تعالى المؤمنين فان خلوهم عن العلم بالمرة مما لايمكن وفي تخصيصهما الكثير بالذكر إشارة إلى أن البعض مفضلون عليهما كذا قيل والمتبادر من البعض القليل وفي الكشاف أن في قوله تعالى على كثير أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وتعقب بأن فيه نظرا إذ يدل بالمفهوم على أنهما لم يفضلا على القليل فأمل أن يفضل القليل عليهما أو يساوياه فلا بل يحتمل الأمرين
ورده صاحب الكشف بأن الكثير لايقابله القليل في مثل هذا المقام بل يدل على أن حكم الأكثر بخلافه ولما بعد تساوي الأكثر من حيث العادة ولاسيما والأصل التفاوت حكم صاحب الكشاف بأنه يدل على أنه فضل عليهما أيضا كثير على أن العرف طرح التساوي في مثله عن الاعتبار وجعل التقابل بين المفضل والمفضل عليه ألا ترى أنهم إذا قالوا : لا أفضل من زيد فهم أنه أفضل من الكل انتهى
وفي الآية أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه مما أوتياه من الملك العظيم وتحريض العلماء على أن يحمدوا الله تعالى على ما آتاهم من فضله وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن في عباد الله تعالى من يفضلهم في العلم ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين نهى على المنبر عن التغالي في المهور فاعترضت عليه عجوز بقوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا الآية : كل الناس أفقه من عمر وفيه من جبر قلب العجوز وفتح باب الاجتهاد ما فيه وجعل الشيعة له من المثالب من أعظم المثالب وأعجب العجائب ولعل في الآية إشارة إلى جواز أن يقول العالم : أنا عالم وقد قال ذلك جملة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وما شاع من حديث من قال أنا عالم فهو جاهل إنما يعرف من كلام يحيى ابن أبي كثير موقوفا عليه على ضعف في اسناده ويحيى هذا من صغار التابعين فانه رأى أنس بن مالك وحده وقدوهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتحقيقه في أعذب المناهل للجلال السيوطي
وورث سليمان داوود أي قام مقامه في النبوة والملك وصار نبيا ملكا بعد موت أبيه داود عليهما السلام فوراثته إياه مجاز عن قيامه مقامه فيما ذكر بعد موته وقيل : المراد وراثة النبوة فقط وقيل : وراثة الملك فقط وعن الحسن ونسبه الطبرسي إلى أئمة أهل البيت أنها وراثة المال وتعقب بأنه قد صح نحن
(19/170)

معاشر الأنبياء لانورث وقد ذكره الصديق والفاروق رضي الله تعالى عنهما بحضرة جميع الصحابة وهم الذين لايخافون في الله تعالى لومة لائم ولم ينكره أحد منهم عليهما
وأخرج أبو داود والترمذي ن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر وروى محمد بن يعقوب الرازي في الكافي عن أبي البحتري عن عبد الله جعفر الصادق أنه قال ذلك أيضا ومما يدل على أن هذه الوراثة ليست وراثة المال ما روى الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان صلى الله تعالى عليه وسلم وأيضا وراثة المال لاتختص بسليمان عليه السلام فانه كان لداود عدة أولاد غيره كما رواه الكليني عنه أيضا وذكر غيره أنه عليه السلام توفي عن تسعة عشر ابنا فالاخبار بها عن سليمان ليس فيه كثير نفع وان كان المراد الاخبار بما يلزمها من بقاء سليمان بعد داود عليهما السلام فما الداعي للعدول عما يفيده من غير خفاء مثل وقال سليمان بعد موت أبيه داود يا أيها الناس الخ
ؤايضا السياق والسباق يأبيان أن يكون المراد وراثة المال كما لايخفى على منصف والظاهر أن الرواية عن الحسن غير ثابتة وكذا الرواية عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم فقد سمعت في رواية الكليني عن الصادق رضي الله تعالى عنه ما ينافي ثبوتها ووراثة غير المال شائعة في الكتاب الكريم فقد قال عز من قائل : ثم أورثنا الكتاب وقال سبحانه : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ولايضر تفاوت القرينة فافهم
وكان عمره يوم توفي داود عليهما السلام اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة وكان داود قد أوصى له بالملك فلما توفي ملك وعمره ما ذكر وقيل : ان داود عليه السلام ولاه على بني إسرائيل في حياته حكاه في البحر
وقال تشهيرا لنعمة الله وتعظيما لقدرها ودعاء للناس إلى التصديق بنبوته بذكر المعجزات الباهرات التي أوتيها لا افتخارا يا أيها الناس الظاهر عمومه جميع الناس الذين يمكن عادة مخاطبتهم
وقال بعض الأجلة : المراد به رؤساء مملكته وعظماء دولته من الثقلين وغيرهم والتعبير عنهم بما ذكر للتغليب وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال : الناس عندنا أهل العلم علمنا منطق الطير أي نطقه وهو في المتعارف عليه كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا أو مركبا وقد يطلق على كل من يصوت به على سبيل الاستعارة المصرحة ويجوز أن يعتبر تشبيه المصوت بالانسان ويكون هناك استعارة بالكناية واثبات النطق تخييلا وقيل : يجوز أيضا أن يراد بالنطق مطلق الصوت على أنه مجاز مرسل وليس بذاك
ويحتمل الأوجه الثلاث قوله : لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال وقد يطلق ذلك للمشاكلة كما في قولهم : الناطق والصامت للحيوان والجماد والذي علمه عليه السلام من منطق الطير هو على ما قيل ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه ويحكى أنه عليه السلام مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول قالوا : الله تعالى ونبيه أعلم قال : يقول أكلت نصف ثمرة فعل الدنيا العفاء وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا وصاح طاوس فقال يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال : يقول استغفروا الله تعالى يا مذنبون وصاح طيطوي فقال : يقول : كل حي ميت وكل جديد
(19/171)

بال وصاح خطاف فقال : يقول قدموا خيرا تجدوه وصاحت رخمة فقال : يقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه وصاح قمري فاخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى وقال الحدأة : يقول كل شيء هالك إلا الله تعالى والقطاة تقول : من سكت سلم والببغاء يقول : ويل لمن الدنيا همه والديك يقول : اذكروا الله تعالى يا غافلون والنسر يقول : يا أبن آدم عش ما شئت آخرك الموت والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس والقنبرة تقول : اللهم العن مبغض محمد وال محمد والزرزور يقول : الله إني أسألك قوت يوم بيوم يارزاق والدراج يقول : الرحمن على العرش استوى انتهى ونظم الضفدع في سلك المذ : ورات من الطير ليس في محله ومع هذا الله تعالى اعلم بصحة هذه الحكاية وقيل : كانت الطير تكلمه عليه السلام معجزة له نحو ما وقع من الهدهد في القصة الآتية وقيل : علم عليه السلام ماتقصده الطير في أصواتها في سائر أحوالها فيفهم تسبيحها ووعظها وما تخاطبه به عليه السلام وما يخاطب به بعضها بعضا وبالجملة علم من منطقها ما علم الانسان من منطق بني صنفه ولايستبعد أن يكون للطير نفوس ناطقة ولغات مخصوصة تؤدي بها مقاصدها كما في نوع الانسان إلا أن النفوس الانسانية أقوى وأكمل ولايبعد أن تكون متفاوتة تفاوت النفوس الانسانية الذي قال به من قال
ويجوز أن يعلم الله تعالى منطقها من شاء من عباده ولا يختص ذلك بالأنبياء عليهم السلام ويجري ما ذكرناه في سائر الحيوانات وذهب بعض الناس إلى أن سليمان عليه السلام علم منطقها أيضا إلا أنه نص على الطير لأنها كانت جندا من جنوده يحتاج اليها في التظليل من الشمس وفي البعث في الأمور ولايخفى أن الآية لاتدل على ذلك فيحتاج القول به إلى نقل صحيح وزعم بعضهم أنه عليه السلام علم أيضا منطق النبات فكان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها ولم أجد في ذلك خبرا صحيحا وكثير من الحكماء من يعرف خواص النبات بلونه وهيئته وطعمه وغير ذلك ولايحتاج في معرفتها إلى نطقه بلسان القال والضمير في علمنا وأوتينا قيل : له ولأبيه عليهما السلام وهو خلاف الظاهر والاولى كونه عليه السلام ولما كان ملكا مطاعا خاطب رعيته على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة من التمهيد لما يراد من الرعية من الطاعة والانقياد في الأوامر والنواهي ولم يكن ذلك تعاظما وتكبرا منه عليه السلام ومراعاة قواعد السياسة للتوصل بها إلى ما فيه رضا الله عز و جل من الأمور المهمة
وقد أمر نبينا صلى الله عليه و سلم العباس بحبس أبي سفيان حتى تمر عليه الكتائب يوم الفتح لذلك و كل في الأصل للاحاطة وترد للتكثير كثيرا نحو قولك : فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء وهي كناية في ذلك أو مجاز مشهور وهذا المعنى هو المراد هنا إذا جعلت من صلة وهو المناسب لمقام التحدث بالنعم وإن لم تجعل صلة فهي على أصلها فيما قيل وأنت تعلم أنه لايتسنى ذلك إلا إذا أريد الكل المجموعي وهو كما ترى
وفي البحر أن قوله تعالى علمنا منطق الطير اشارة إلى النبوة وقوله سبحانه : وأوتينا من كل شيء اشارة الى الملك والجملتان كالشرح للميراث وعن مقاتل أنه أريد بما أوتيته النبوة والملك وتسخير الجن والانس والشياطين والريح وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو ما يهمه عليه السلام من أمر الدنيا وأةخرة وقد يقال : إنه يحتاجه الملك من ءآلات الحرب وغيرها إن هذا إشارة الى ما ذكر من
(19/172)

التعليم والايتاء لهو الفضل والاحسان من الله تعالى المبين
61
- الواضح الذي لايخفى على أحد أو أن هذا الفضل الذي أوتيته لهو الفضل المبين فيكون من كلامه عليه السلام قطعا ذيل به ما تقدم منه ليدل على أنه إنما قال ما قال على سبيل الشكر كما قال صلى الله عليه و سلم : أنا سيد ولد آدم ولافخر بالراء المهملة آخره كما في الرواية المشهورة أي أقول هذا القول شكرا لافخرا ويقرب من هذا المعنى ولا فخز بالزاي كما في الرواية الغير المشهورة
وحشر لسليمان جنوده أي جمع له عساكره من الأماكن المختلفة من الجن والانس والطير بيان للجنود كما في البحر وغيره ولا يلزم من ذلك أن يكون الجنود المحشورون له عليه السلام جميع الجن وجميع الأنس وجميع الطير إذ يأبى ذلك مع قطع النظر عن العقل قصة بلقيس اةتية بعد وكذا قصة الهدهد
ونقل عن بعضهم أنه عليه السلام كان يأتيه من كل صنف من الطير واحد وهو نص في أن المحشور ليس جميع الطير ولايكاد يصح ارادة الجميع في الجميع على ما ذكره الامام في الآية أيضا وهو أن المعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده لأنه وان لم يستدع الحضور والاجتماع في موضع واحد بل يكفي فيه مجرد الانقياد والدخول في حيطة تصرفه والاتباع له حيث كانوا لاباء قصة بلقيس أيضا عنه فان المناسب الاخبار بهذا الجعل بعد الاخبار بدخولها ومن معها في حيطة تصرفه
والظأهر أن هذا الحشر ليس الا جمع العساكر ليذهب بهم الى محاربة من لم يدخل في ربقة طاعته عليه السلام وكونه ليذهب بهم إلى مكة شكرا على ما وفق له من بناء بيت المقدس خلاف الظاهر لكن إذا صح فيه خبر قبل وأن المجموع من الأنواع المذكورة ما يليق بشأنه وأبهته وعظمته سواء جعلت من بيانية أو تبعيضية وكونه عليه السلام أحد المؤمنين الذي ملكا المعمورة بأسرها إذا سلمنا صحة الخبر الدال عليه وسلامته من المعارض وانه نص في المطلوب لايستدعي سوى دخول سكان المعمورة في عداد رعيته وحيطة ملكته وليس ذلك دفعيا بل هو إن صح كان بحسب التدريج وقد ذكر بعض المؤرخين أن بلقيس انما دخلت تحت طاعته في السنة الخامسة والعشرين من ملكه وكانت مدة ملكه عليه السلام أربعين سنة وكذا كانت مدة ملك أبيه داود عليهما السلام
والظاهر ان الحاشر لكل نوع من الانواع الثلاثة أشخاص منهم فيكون من كل نوع أشخاص مأمورون بذلك معدون له ولا تستبعد ذلك في الطير إذا كنت من المؤمنين بقصة الهدهد ولا يلزمك التزام ما قاله الامام من أن الله تعالى جعل للطير عقلا في أيام سليمان عليه السلام ولم يجعل لها ذلك في أيامنا فما عليه بأس إذا قلت بانها على حالة واحدة اليوم وذلك اليوم ولا نعني بعقلها الا ما تهتدي به لأغراضها ووجود ذلك اليوم فيها وكذا في غيرها من سائر الحيوانات مما لاينكره الا مكابر وما علينا ان نقول : ان عقولها من حيث هي كعقول الانسان من حيث هي ولعل فيها من يهتدي الى مالا يهتدي اليه الكثير من بني آدم كالنحل ولعمري انها لو كانت خالية من العقل كما يقال وفرض وجود العقل فيها لااظن أنها تصنع بعد وجوده أحسن مما تصنعه اليوم وهي خالية منه ولا يجب أن يكون كل عاقل مكلفا فلتكن الطيور كسائر العقلاء الذين لم يبعث اليهم نبي يأمرهم وينهاهم ويجوز أيضا أن تكون عارفة بربها مؤمنة به جل وعلا من غير أن يبعث اليها نبي ينشأ بشاهق جبل وحده ويكون مؤمنا بربه سبحانه بل كونها مؤمنة
(19/173)

بالله تعالى مسبحة له وكذا سائر الحيوانات مما تشهد له ظواهر الآيات والاخبار وقد قدمنا بعضا من ذلك وليس عندنا ما يجب له التأويل وبالغ بعضهم فزعم أنها مكلفة وفيها وكذا غيرها من الحيوانات أنبياء لهم شرائع خاصة واستدل عليه بما استدل والمشهور أكفار منن زعم ذلك وقد نص على اكفاره جميع الفقهاء وتخصيص الانواع الثلاثة بالذكر ظاهر في أنه عليه السلام لم يسخر له الوحش وفي خبر أخرجه الحاكم عن محمد بن كعب ما هو ظاهر في تسخيره له عليه السلام أيضا وسنذكره قريبا انشاء الله تعالى لكنه لايعول عليه وتقديم الجن للمسارعة الى الايذان بكمال قوة ملكه عليه السلام وعزة سلطانه من اول الامر لما أن الجن طائفة عاتية وقبيلة طاغية ماردة بعيدة من الحشر والتسخير ولم يقدم الطير على الانس مع أن تسخيرها أشق أيضا وأدل على قوة الملك وعزة السلطان لئلا يفصل بين الجن والانس المتقابلين والمشتركين في كثير من الاحكام
وقيل في تقديم الجن : إن مقام التسخير لايخلو من تحقير وهو مناسب لهم وليس بشيء لأن التسخير للانبياء عليهم السلام شرف لانه في الحقيقة لله عز و جل الذي سخر كل شيء واذا اعتبر في نفسه فالتعليل بذلك غير مناسب للمقام ويكفي هذا في عدم قبوله فهم يوزعون
71
- أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونوا مجتمعين لايتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف كما هو المعتاد في العساكر والاول أولى وفيه مع الدلالة على الكثرة والاشعار بكمال مسارعتهم الى السير الدلالة على أنهم كانوا مسوسين غير مهملين لايتأذى أحد بهم وأصل الوزع الكف والمنع ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه : ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن وقول الحسن لا بد للقاضي من وزعه وقول الشاعر : ومن لم يزعه لبه وحياؤه فليس له من شيب فوديه وازع وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضا لأن في ذلك شفقة على الطائفتين أما الأوائل فمن جهة ان يستريحوا في الجملة بالوقوف عن السير وأما الأواخر فمن جهة ان لايجهدوا أنفسهم بسرعة السير وقيل : ان ذلك لما أن أواخرهم غير قادرين على مايقدر عليه اوائلهم من السير السريع وأخر الطبراني والطستي في مسائله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن يحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير والله تعالى أعلم بصحة الخبر والظأهر أن هذا الوزع إذا لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو والاخبار في قصته عليه السلام كثيرة
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال كان يوضع لسليمان ثلاثمائة ألف كرسي فيجلس مؤمني الانس مما يليه ومؤمني الجن من روائهم ثم يأمر الطير فتظله ثم يأمر الريح فتحمله فيمرون على السنبلة فلا يحركونها واخرج الحاكم عن محمد بن كعب قال بلغنا ان سليمان عليه السلام كان معسكره مائة فرسخ خمسة وعشرون للانس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير وكان له ألف بيت من قوارير الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به وأوحى الله عر وجل اليه وهو يسير بين السماء والارض اني قد زدتك في ملكك انه لايتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح اليك والقته في سمعك ويورى أن الجن نسجت له
(19/174)

عليه السلام بساطا من ذهب وابريسم فرسخا في فرسخ ومنبره في وسطه من ذهب فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الانبياء عليهم السلام على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن وهب بن منبه قال : مر سليمان عليه السلام وهو في ملكه وقد حملته الريح فوضعتها في اذنه فقال : ائتوني بالرجل قال : ماذا قلت فأخبره فقال سليمان : إني خشيت عليك الفتنةلثواب سبحان الله عند الله يوم القيامة أعظم مما رأيت ءآل داود أوتوا فقال الحراث أذهب الله تعالى همك كما أذهبت همي وفي بعض الروايات أنه عليه السلام نزل ومشى الى الحراث وقال : إنما مشيت اليك لئلا تتمنى ما تقدر عليه ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود وأكثر الاخبار في هذا الشأن لايعول عليها فعليك بالايمان بما نطق به القرآن ودلت عليه الاخبار الصحيحة وإياك من الانتصار لما لاصحة له مما يذكره كثير من القصاص والمؤرخين مما فيه مبالغات شنيعة بمجرد أنها أمور ممكنة يصح تعلق قدرته عز و جل بها فتفتح بذلك باب السخرية بالدين والعياذ بالله تعالى ولايبعد أن يكون أكثر ما تضمن مثل ذلك من وضع الزنادقة يريدون به التنفير عن دين الاسلام حتى إذا أتوا على وادي النمل حتى هي التي يبتدأ بها الكلام ومع ذلك هي غاية لما قبلها وهي ههنا غاية لما ينبيء عنه قوله تعالى : فهم يوزعون من السير كأنه قيل : فساروا حتى أتوا الخ ووادي النمل واد بأرض الشام كثير النمل على ما روي عن قتادة ومقاتل وقال كعب : هو وادي السدير من أرض الطائف وقيل : وادي بأقصى اليمن وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها وقيل : هو وادي تسكنه الجن والنمل مراكبهم وهذا عندي مما لايلتفت اليه
وتعدية الفعل اليه بكلمة على مع أنه يتعدى بنفسه أو بالى إما لأن اتيانهم كان من جانب عال فعدى بها للدلالة على ذلك كما قال المتنبي : ولشد ما جاوزت قدرك صاعدا ولشد ما قربت عليك الأنجم لما قرب الانجم وإن أراد بها أبيات شعره من فوق وإما لأن المراد بالاتيان عليه قطعة وبلوغ آخره من قولهم أتي على الشيء إذا انفده وبلغ آخره ثم الاتيان عليه بمعنى قطعه مجاز عن إرادة ذلك وإلا لم يكن للتحذير من الحطم الآتي وجه إذ لامعنى له بعد قطع الوادي الذي فيه النمل ومجاوزته والظاهر على الوجهين أنهم أتوا عليه مشاة ويحتمل أنهم كانوا يسيرون في الهواء فأرادوا أن ينرلوا هناك فاحست النملة بنزولهم فانذرت النمل قالت نملة جواب إذا والظاهر أنها صوتت بما فهم سليمان عليه السلام منه معنى يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمن وجنوده وهم لايشعرون
81
- وهذا كما يفهم عليه السلام من أصوات الطير ما يفهم ولا يقدح في ذلك أنه عليه السلام لم يعلم إلا منطق الطير اما لأنها كانت من الطير ذات جناحين كما أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي وهو وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة وكم رأينا نملة لها جناحان تطير بهما وكون ذلك لايقتضي عدها من الطير محل نظر وإما لأن فهم ما ذكر وقع له عليه السلام هذ المرة فقط ولم يطرد كفهم أصوات الطير وليس في الآية
(19/175)

السابقة ولا في الاخبار ما ينفي فهم ما يقصده غير الطير من الحيوانات بدون اطراد وقال ابن بحر : انها نطقت بذلك معجزة لسليمان عليه السلام كما نطق الضب والذراع لرسول الله صلى الله عليه و سلم قال مقاتل : وقد سمع عليه السلام قولها من ثلاثة أميال ويلزم على هذا أنها أحست بنزولهم من هذه المسافة والمسع من سليمان منها غير بعيد لأن الريح كما جاء في الآثار توصل الصوت اليه أو لأن الله تعالى وهبه إذ ذاك قوة قدسية سمع بها الا أن احساس النملة من تلك المسافة بعيد والمشهور عند العرب بالاحساس من بعيد القراد حتى ضربوا به المثل وأنت تعلم أنه لاضرر في إنكار صحة هذا الخبر وقيل : انه عليه السلام لم يسمع صوتا أصلا وانما فهم ما في نفس النملة الهاما من الله تعالى وقال الكلبي : أخبره ملك بذلك والى أنه لم يسمع صوتا يشير قول جرير : لو كنت أوتيت كلام الحكل علم سليمان كلام النمل فانه أراد بالحكل ما لايسمع صوته وقال بعضهم : كانها لما رأتهم متوجهين الى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها وصاحت صيحة تنبهت بها ما بحضرتها من النمل فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولا له فيكون الكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية
وأنت تعلم أنه لاضرورة تدعو إلى ذلك ومن تتبع أحوال النمل لايستبعد أن تكون له نفس ناطقة فانه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء ويشق ما يدخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس فانه يقطع الواحدة منها أربع قطع ولايكتفي بشقها نصفين لأنها تنبت كما تنبت إذا لم تشق وهذا وأمثاله يحتاج إلى علم كلي استدلالي وهو يحتاج إلى نفس ناطقة وقد برهن شيخ الاشراف على ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وظواهر الآيات والأخبار الصحيحة تقتضيه كما سمعت قديما وحديثا فلا حاجة بك إلى أن تقول : يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق في النملة إذ ذاك النطق وفيما عداها من النمل العقل والفهم وأما اليوم فليس في النمل ذلك ثم إنه ينبغي أن يعلم أن الظاهر أن علم النملة بأن الآتي هو سليمان عليه السلام وجنوده كان عن الهام منه عز و جل وذلك كعلم الضب برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين تكلم معه وشهد برسالته عليه الصلاة و السلام والظاهر أيضا أنها كانت كسائر النمل في الجثة وفيه اليوم ما يقرب من الذبابة ويسمى بالنمل الفارسي وبالغ بعض القصاص في كبرها ولا يصح له مستند
وفي بعض الآثار أنها كانت عرجاء واسمها طاخية وقيل : جرمي وفي البحر اختلف في أسمها العلم ما لفظه وليت شعري من الذي وضع لها لفظا يخصها أبنو آدم أم النمل انتهى والذي يذهب إلى أن للحيوانات نفوسا ناطقة لايمنع أن تكون لها أسماء وضعها بعضها لبعض لكن لا بالالفاظ كألفاظنا بل بأصوات تؤدى على نحو مخصوص من الأداء ولعله يشتمل على أمور مختلفة كل منها يقوم مقام حرف من الحروف المألوفة لنا إذا أراد أن يترجم عنها من عرفها من ذوي النفوس القدسية ترجمها بما نعرف ويقرب هذا لك أن بعض كلام الأفرنج وأشباههم لانسمع منه إلا كما نسمع من أصوات العصافير ونحوها وإذا ترجم لنا بما نعرفة ظهر مشتملا على الحروف المألوفة والظاهر أن تاء نملة للوحدة فتأنيث الفعل مراعاة ظاهر التأنيث فلا دليل في ذلك على أن النملة كانت أنثى قاله بعضهم
(19/176)

وعن قتادة أنه دخل في الكوفة فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه حاضرا وهو غلام حدث فقال : سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى فسألوه فافحم فقال أبو حنيفة : كانت أنثى فقيل له : من أين عرفت فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله تعالى : قالت نملة ولو كان ذكر لقال سبحانه قال نملة وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي كذا في الكشاف وتعقبه أبن المنير فقال : لاأدري العجب منه أم من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الانثى لأنه اسم جنس فيقال : نملة ذكر ونملة أنثى كما يقولون حمامة ذكر وحمامة أنثى وشاة ذكر وشاة انثى فلفظها مؤمنث ومعناها محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وإن كانت واقعة على ذكر بل هذا هو الفصيح المستعمل ألا ترى قوله صلى الله عليه و سلم : لايضحى بعوراء ولا عمياء ولا عجفاءكيف أخرج عليه الصلاة و السلام هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولايعني صلى الله عليه و سلم الاناث من الأنعام خاصة فحينئذ قوله تعالى : قالت نملة روعي فيه تأنيث اللفظ وأما المعنى فيحتمل التذكير والتأنيث على حد سواء وكيف يسأل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بهذا ويفحم به قتادة مع غزارة علمه والأشبه ان ذلك لايصح عنهما اه
وقال ابن الحاجب عليه الرحمة : التأنيث اللفظي هو أن لايكون بأزائه ذكر في الحيوان كظلمة وعين ولا فرق بين أن يكون حيوانا أو غيره كدجاجة وحمامة إذا قصد به مذكر فانه مؤنث لفظي ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالى : قالت نملة أنثى لورود تاء التأنيث في قالت وهما لجواز أن يكون مذكرا في الحقيقة وورود تاء التأنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي نحو جاءت الظلمة وأجاب بعض فضلاء ما وراء النهر وقال لعمري : أنه قد تعسف ههنا ابن الحاجب وترك الواجب حيث اعترض على امام أهل الاسلام واعتراضه يقوله : وورود تاء التأنيث كورودها الخ ليس بشيء إذ لو كان جائزا أن يؤتى بتاء التأنيث في الفعل لمجرد صورة التأنيث في الفاعل المذكر الحقيقي لكان ينبغي جوازا أن يقال : جاءتني طلحة مع أنه لايجوز وجوابه عن ذلك في شرحه بقوله : وليس ذلك كتأنيث أسماء الأعلام فانها لايعتبر فيها المدلول الثاني ولو اعتبروا تأنيثها لكان اعتبار للمدلول الأول فيفسد المعنى فلذلك لايقال : أعجبتني طلحة تناقض محض كأنه نسي ما أمضى في صدر كتابه من قوله فانه سمى به مذكر فشرطه الزيادة يعني فان سمي بالمؤمنث المعنوي فشرطه الزيادة على ثلاثة أحرف فلا يخفى على من له أدنى مسكة أن عقرب مع أن علامة التأنيث فيه مقدرة العلمية لاتمنعها عن اعتبار تأنثيها حتى تمنع من الصرف فكيف تمنع العلمية عن اعتبار التأنيث في طلحة مع أن علامة التأنيث فيه لفظية فاذن ليس طرح التاء عن الفعل إلا لأن التاء إنما يجاء بها علامة لتأنيث الفاعل والفاعل ههنا مذكر حقيقي فكذا النملة لو كان مذكرا لكان هو مع طلحة حذو القذة بالقذة
وينصر قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ما نقل عن ابن السكيت هذا بطة ذكر وهذا حمامة ذكر وهذا شاة إذا عنيت كبشا وهذا بقرة إذا عنيت ثورا فان عنيت به أنثى قلت : هذ بقرة اه وارتضاه الطيبي ثم قال فظهر أن القول ما قالت حذام والمذهب ماسلكه الامام وفي الكشف
(19/177)

أنأن التاء في النملة للوحدة فهي في حكم المؤمنث اللفظي جاز أن تعامل معاملته كتمر وتمرة على ما نص عليه في المفصل ولايشكل بنحو طلحة حيث لم يجز الحاق فعله التاء لأن أسماء الأعلام يعتبر فيها المعنى دون اللفظ خلافا للكوفيين إلى آخر ما ذكره ابن الحاجب ولا نقض باعتبار التأنيث في عقرب ان سمي به مذكر ولا في طلحة نفسه باعتبار منع الصرف على ما ظنه بعض فضلاء ما وراء النهر
وصوبه شيخنا الطيبي لأن اعتبار المعنى فيما هو يرجع الى المعنى لافيما يرجع الى اللفظ والحاق العلامة باعتبار الفاعل إما للتأنيث الحقيقي وأما لشبه التأنيث مع الوحدة أو الجمعية ونحوها فاذأ لم يبق المعنى أعني التأنيث وشبه التأنيث فلا وجه للالحاق وأما منع الصرف فلا نظر فيه إلى معنى التأنيث بل إلى هذه الزيادة لفظا أو تقديرا وذلك غير مختلف في المنقول عنه وكفاك دليلا لاعتبار اللفظ وحده في هذا الحكم تفرقتهم في سقر بين تسمية المذكر به والمؤنث دون عقرب فلو تأمل المناقض لكان ما أورده عليه لا له هذا وان الامام رضي الله تعالى عنه كوفي والقاعدة على أصله مهدومة انتهى وهو كلام متين
والحزم القول بعدم صحة هذ الحكاية فابو حنيفة رضي الله تعالى عنه من عرفت وان كان إذ ذاك غلاما حدثا وقتادة بن دعامة السدوسي باجماع العارفين بالرجال كان بصيرا بالعربية فيبعد كل البعد وقوع ما ذكر منهما والله تعالى أعلم
والحطم الكسر والمراد به الاهلاك والنهي في الظاهر لسليمان عليه السلام وجنوده وهو في الحقيقة نهي على طريق الكناية للنمل عن التوقف حتى تحطم لأن الحطم غير مقدور لها نحو قولك : لا أرينك ههنا فانه في الظأهر نهي المتكلم عن رؤية المخاطب والمقصود نهي المخاطب عن الكون بحيث يراه المتكلم فالجملة استئناف أو بدل اشتمال من جملة ادخلوا مساكنكم وقول بعضهم : إدا كان المعنى النهي عن التوقف حتى تحطم يحصل الاتحاد بين الجملتين يقتضي انه بدل كل من كل بناء على أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده وعلى ما ذكر لاحاجة اليه وبالجملة اعتراض أبي حيان على وجه الابدال باختلاف مدلولي الجملتين ليس في محله وجوز الزمخشري كون لايحطمنكم جوابا للأمر أعني ادخلوا و لا حينئذ نافية وتعقب بان دخول النون في جواب الشرط مخصوص بضرورة الشعر كقوله : مهما تشأ منه فزارة تعطه ومهما تشأ منه فزارة يمنعا وفي الكتاب وهو قليل في الشعر شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما غير واجب وأرادت النملة على ما في الكشاف لايحطمنكم جنود سليمان فجاءت بما هو أبلغ ونحو قوله
عجبت من نفسي ومن إشفاقها
حيث أراد عجبت من اشفاق نفسي فجاء بما هو أبلغ للاجمال والتفصيل وتعقب ذلك في البحر بان فيه القول بزيادة الأسماء وهي لاتجوز بل الظأهر اسناد الحطم اليه عليه السلام وإلى جنوده والكلام على حذف مضاف أي خيل سليمان وجنوده أو نحو ذلك مما يصح تقديره وللبحث فيه مجال وجملة وهم لايشعرون حال من مجموع المتعاطفين والضمير لهما
وجوز أن تكون حالا من الجنود والضمير لهم وأيا ما كان ففي تقييد الحطم بعدم الشعور بمكانهم المشعر بانه لو شعروا بذلك لم يحطموا ما يشعر بغاية أدب النملة مع سليمان عليه السلام وجنوده وليت من طعن في اصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ورضي الله تعالى عنهم تأسى بها فكف عن ذلك وأحسن الأدب وروي أن سليمان
(19/178)

عليه السلام لما سمع قول النملة : يا أيها النمل الخ قال ائتوني بها فأتو بها فقال : لم حذرت النمل ظلمي أما علمت إني نبي عدل فلم قلت لايحطمنكم سليمان وجنوده فقالت : أما سمعت قولي وهم لايشعرون ومع ذلك أني لم ارد حطم النفوس وانما أردت حطم القلوب خشيت أن يروا ما أنعم الله تعالى به عليك من الجاه والملك العظيم فيقعوا في كفران النعم فلا أقل من أن يشتغلوا بالنظر اليك عن التسبيح فقال لها سليمان عظيني فقالت أعلمت لم سمي أبوك داود قال : لا قالت : لأنه داوى جراح قلبه وهل تدري لم سميت سليمان قال : لا قالت : لأنك سليم القلب والصدر ثم قالت : أتدري لم سخر الله تعالى لك الريح قال لا قالت أخبرك الله تعالى بذلك أن الدنيا كلها ريح فمن اعتمد عليها فكأنما اعتمد على الريح وهذأ ظاهر الوضع كما لايخفى وفيه ما يشبه كلام الصوفية والله تعالى أعلم بصحة ما روي من أنها أهدت اليه نبقة وانه عليه السلام دعا للنمل بالبركة
وجوز أن تكون جملة هم لايشعرون في موضع الحال من النملة والضمير للجنود كالضمائر السابقة في قوله تعالى : فهم يوزعون وقوله سبحانه : حتى إذا أتوا وهي من كلامه تعالى أي قالت ذلك في حال كون الجنود لايشعرون به وليس بشيء وقد يقرب منه ما قيل أنه يجوز أن تكون الجملة معطوفة على مقدر وهي من كلامه عز و جل كأنه قيل : فهم سليمان ما قالت والجنود لايشعرون بذلك وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان التيمي نملة ونمل بضم النون والميم وقرأ شهر بن حوشب مسكنكم على الافراد وعن أبي ادخلن مساكنكن لايحطمنكن مخففة النون التي قبل الكاف
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي ونوح القاضي بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون مضارع حطم مشددا وعن الحسن بفتح الياء واسكان الحاء وشد الطاء وعنه كذلك مع كسر الحاء واصله يحتطمنكم من الاحتطام وقرأ ابن أبي اسحق وطلحة ويعقوب وأبو عمرو في رواية عبيد كقراءة الجمهور إلا أنهم سكنوا نون التوكيد وقرأ الأعمش بحذف النون وجزم الميم ولا خلاف على هذه القراءة في جواز أن يكون الفعل مجزوما في جواب الأمر فتبسم ضاحكا من قولها تفريع على ما تقدم فلا حاجة الى تقدير معطوف عليه أي فسمعها فتبسم وجعل الفاء فصيحة كما قبل ولعله عليه السلام أنما تبسم من ذلك سرورا بما ألهمت من حسن حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة وابتهاجا بما خصه الله تعالى به من ادراك ما هو همس بالنسبة الى البشر وفهم مرادها منه
وجوز أن يكون ذلك تعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها الى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها : والاول أظهر مناسبة لما بعد من الدعاء وانتصب ضاحكا على الحال أي شارعا في الضحك اعني قد تجاوز حد التبسم الى الضحك أو مقدر الضحك بناء على أنه حال مقدرة كما نقله الطيبي عن بعضهم وقال أبو البقاء هو حال مؤكدة وهو يقتضي كون التبسم والضحك بمعنى والمعروف الفرق بينهما قال ابن حجر التبسم مباديء الضحك من غير صوت والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الاسنان من السرور مع صوت خفي فان كان فيه صوت يسمع
(19/179)

من بعيد فهو القهقهة وكأن من ذهب الى أتحاد التبسم والضحك خص ذلك بما كان من الانبياء عليهم السلام فان ضحكهم تبسم وقد قال البوصيري في مدح نبينا صلى الله عليه و سلم :
سيد ضحكه التبسم والم شي الهوينا ونومه الاغفاء وروى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : ما رأيته صلى الله عليه و سلم مستجمعا قط ضاحكا أي مقبلا على الضحك بكليته انما كان يتبسم والذي يدل عليه مجموع الأحاديث أن تبسمه عليه الصلاة و السلام أكثر من ضحكه وربما ضحك حتى بدت نواجذه وكونه ضحك كذلك مذكور في حديث آخر أهل النار خروجا منها وأهل الجنة وقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وكذا في حديث أخرجه البخاري في المواقع أهله في رمضان وليس في حديث عائشة السابق أكثر من نفيها رؤيتها إياه صلى الله عليه و سلم مستجمعا ضاحكا وهو لاينافي وقوع الضحك منه في عبض الأوقات حيث لم تره
وأول الزمخشري ما روي من أنه صلى الله عليه و سلم ضحك حتى بدت نوجذه بأن الغرض منه المبالغة في وصف ما وجد منه عليه الصلاة و السلام من الضحك النبوي وليس هناك ظهور النواجذ وهي أواخر الأضراس حقيقة ولعله إنما لم يقل سبحانه : فتبسم من قولها بل جاء جل وعلا بضاحكا نصبا على الحال ليكون المقصود بالافادة التجاوز إلى الضحك بناء على أن المقصود من الكلام الذي فيه قيد إفادة القيد نفيا أو إثباتا وفيه إشعار بقوة تأثير قولها فيه عليه السلام حيث أداه ما عراه منه إلى أن تجاوز حد التبسم آخذا في الضحك ولم يكن حاله التبسم فقط
وكأنه لما لم قول فضحك من قولها في إفادة ما ذكرنا مثل ما في النظم الجليل لم يؤت به وفي البحر أنه لما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب كما يقولون : تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزيء وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح أتى سبحانه بقوله تعالى ضاحكا لبيان أن التبسم لم يكن استهزاء ولا غضبا انتهى
ولايخفى أن دعوى أن الضحك لايكون إلا للسرور والفرح يكذبها قوله تعالى إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون فان هذا الضحك كان من مشركي قريش استهزاء بفقرهم كعمار وصهيب وخباب وغيرهم كما ذكره المفسرون ولم يكن السرور والفرح وكذا قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون كما هو الظأهر وإن هرعت إلى التأويل قلنا الواقع يكذبها فان أنكرت ضحك منك أولوا الالباب وفيه أيضا غير ذلك فتأمل والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب وقرأ ابن السميقع ضاحكا على أنه مصدر في موضع الحال وجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول مطلق نحو شكرا في قولك حمد شكرا
وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك أي اجعلني أزع شكر نعمتك أي أكفه وارتبطه لاينفلت عني وهو مجاز عن ملازمة الشكر والمداومة عليه فكأنه قيل : رب اجعلني مداوما على شكر نعمتك وهمزة أوزع للتعدية ولا حاجة إلى اعتبار التضمين وكون التقدير رب يسر لي أن أشكر نعمتك وازعا إياه وعن ابن عباس أن المعنى أجعلني أشكر وقال ابن زيد : أي حرضني وقال أبو عبيدة أي أو لعني وقال الزجاج فيما قيل أي ألهمني وتأويله في اللغة كفني عن الأشياء التي تباعدني عنك قال الطيبي فعلى هذا هو كناية تلويحية فانه طلب أن يكفه عما يؤدي إلى كفران النعمة بأن يلهمه ما به تقيد النعمة من الشكر واضافة النعمة للاستغراق أي جميع نعمك وقريء
(19/180)

أوزعني بفتح الياء التي أنعمت أي أنعمتها وأصله أنعمت بها إلا أنه اعتبر الحذف والايصال لفقد شرط حذف العائد المجرور وهو أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى متعلقا ومن لايقول باطراد ذلك لايعتبر ما ذكر ولا أرى فيه بأسا علي وعلى والدي أدرج ذكر والديه تكثيرا للنعمة فان الانعام عليهما انعام عليه من وجه مستوجب للشكر أو تعميما لها فان النعمة عليه عليه السلام يرجع نفعها اليهما والفرق بين الوجهين ظاهر واقتصر على الثاني في الكشاف وهو أوفق بالشكر وكون الدعاء المذكور بعد وفاة والديه عليهما السلام قطعا ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى أعملوا آل داود شكرا بعد قوله سبحانه ولقد آتينا داود منا فضلا الخ وقوله ولسليمان الريح الخ فتدبر فانه دقيق وأن أعمل صالحا عطف على أن أشكر فيكون عليه السلام قد طلب جعله مداوما على عمل العمل الصالح أيضا وكأنه عليه السلام أراد بالشكر الشكر باللسان المستلزم للشكر بالجنان وأردفه بما ذكر تتميما له لأن عمل الصالح شكر بالاركان وفي البحر أنه عليه السلام سأل أولا شيئا خاصا وهو شكر النعمة وثانيا عاما وهو عمل الصالح وقوله تعالى : ترضيه قيل صفة مؤكدة أو مخصصة ان أريد به كمال الرضا واختير كونه صفة مخصصة والمراد بالرضا القبول وهو ليس من لوازم العمل الصالح أصلا لاعقلا ولا شرعا وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين
91
- أي جملتهم
والكلام عن الزمخشري كناية عن جعله من أهل الجنة وقدر بعضهم الجنة مفعولا ثانيا لأدخلني وعلى كونه كناية لاحاجة إلى التقدير والداعي لأحد الأمرين على ما قيل دفع التكرار مع ما قبل لأنه إذا عمل عملا صالحا كان من الصالحين البتة إذ لامعنى للصالح الا العامل عملا صالحا وأردف طلب المداومة على عمل الصالح بطلب ادخاله الجنة لعدم استلزام العمل الصالح بنفسه ادخال الجنة ففي الخبر لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته وكأن في ذكر برحمتك في هذا الدعاء إشارة الى ذلك
ولا يأبى ما ذكر قوله تعالى تلك الجنة التي اورثتموها بما كنتم تعملون لأن سببية العمل للايراث برحمة الله تعالى
وقال الخفاجي : لك أن تقول أنه عليه السلام عد نفسه غير صالح تواضعا فلا يحتاج إلى التقدير ولا إلى نظم الكلام في سلك الكناية ولا يخفى أن هذا لايدفع السؤال باغناء الدعاء بالمداومة على عمل الصالح عنه
وقيل : المراد أن يجعله سبحانه في عداد الأنبياء عليهم السلام ويثبت اسمه مع أسمائهم ولا يعزله عن منصب النبوة الذي هو منحة الهية لاتنال بالاعمال ولذا ذكر الرحمة في البين ونقل الطبرسي عن ابن عباس ما يلوح بهذا المعنى
وقيل : المراد ادخلني في عداد الصالحين واجعلني أذكر معهم إذا ذكروا وحاصله طلب الذكر الجميل الذي لايستلزمه عمل الصالح إد قد يتحقق من شخص في نفس الأمر ولا يعده الناس في عداد الصالحين وفي هذا الدعاء شمة من دعاء إبراهيم عليه السلام واجعل لي لسان صدق في الآخرين ومقاصد الأنبياء في مثل ذلك أخروية وقيل : يحتمل أنه أراد بعمل الصالح القيام بحقوق الله عز و جل وأراد بالصلاح في قوله في عبادك الصالحين القيام بحقوقه تعالى وحقوق عباده فيكون من قبيل التعميم بعد التخصيص وتعيين ما هو الأولى من هذه الأقوال مفوض إلى فكرك والله تعالى الهادي وكان دعاؤه عليه السلام على ما في بعض الآثار بعد
(19/181)

أن دخل النمل مساكنهن قال في الكشاف : روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان عليه السلام الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة وتفقد الطير أي أراد معرفة الموجود منها من غيره وأصل التفقد معرفة الفقد والظاهر أنه عليه السلام تفقد كل الطير وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا لاسيما الضعفاء منها قيل وكان يأتيه من كل صنف واحد فلم ير الهدهد وقيل : كانت الطير تظله من الشمس وكان الهدهد يستر مكانه الايمن فمسته الشمس فنظر إلى مكان الهدهد فلم يره وعن عبد الله بن سلام أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها وكان الهدهد يرى الماء في باطن الأرض فيخبر سليمان بذلك فيأمر الجن فتسلخ الأرض عنه في ساعة كما تسلخ الشاة فاحتاجوا إلى الماء فتقد لذلك الطير فلم ير الهدهد فقال مالي لاأرى الهدهد وهو طائر معروف منتن يأكل الدم فيما قيل : ويكنى بأبي الأخبار وأبي الربيع وأبي ثمامة وبغير ذلك مما ذكره الدميري وتصغيره على القياس هديهد وزعم بعضهم أنه يقال في تصغيره هداهد بقلب الياء الفا وأنشدوا
(19/182)

كهداهد كسر الرماة جناحه
ونظير ذلك دوابه وشوابه في دويبة وشويبة
والظاهر أن قوله عليه السلام ذلك مبني على أنه ظن حضوره ومنع مانع له من رؤيته أي عدم رؤيتي إياه مع حضوره لأي سبب ألساتر أم لغيره ثم لاح له أنه غائب فاضرب عن ذلك وأخذ يقول : أم كان من الغائبين
2
- كأنه يسأل عن صحة ما لاح له فأم هي المنقطعة كما في قولهم إنها لابل أم شاء
وقال ابن عطية : مقصد الكلام الهدهد غاب ولكنه أخذ اللازم من مغيبه وهو أن لايراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم وهذا ضرب من الايجاز والاستفهام الذي في قوله مالي ناب مناب الهمزة التي تحتاجها أم انتهى
وظاهره أن أم متصلة والهمزة قائمة مقام همزة الاستفهام فالمعنى عنده أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته والحق ما تقدم وقيل في الكلام قلب والأصل ما للهدهد لا أراه ولا يخفى أنه لاضرورة إلى ادعاء ذلك نعم قيل هو أوفق بكون التفقد للعناية وذكر أن اسم هدا الهدهد يعفور وكون الهدهد يرى الماء تحت الأرض رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج ابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عن يوسف بن ماهك أن ابن عباس حين قال ذلك اعترض عليه نافع بن الأزرق كعادته بأنه كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ ويوضع فيه الحبة وتستر بالتراب فيصطاد فقال رضي الله تعالى عنه إن البصر ينفع مالم يأت القدر فاذا جاء القدر حال دون البصر فقال ابن الأزرق : لاأجادلك بعدها بشيء ولا مانع من أن يقال يجوز أن يرى الحبة أيضا إلا أنه لايعرف أن التقاطها من الفخ يوجب اصطياده وكثير من الطيور وسائر الحيوانات يصطاد بما يراه بنوع حيلة
ويجوز أيضا أن يراها ويعرف المكيدة في وضعها الا أن القدر يغلب عليه فيظن أنه ينجو إذا التقطها باحد وجوه يتخيلها فيكون نظير من يخوض المهالك لظن النجاة مع مشاهدة هلاك الكثير ممن خاضها قبله وإذا أراد الله تعالى بقوم أمرا سلب من ذوي العقول عقولهم نعم ان رؤيته الماء تحت الأرض وان جاز على ماتقتضيه أصول الاشاعرة امر يستبعده العقل جدا ولا جزم لي بصحة الخبر السابق وتصحيح الحاكم
(19/0)

محكوم عليه عند المحدثين بما تعلم ومثله ما تقدم عن ابن سلام وكذا غيره من الاخبار التي وقفت عليها في هذا الشأن وليس في الآية اشارة الى ذلك بل الظاهر بناء على ما يقتضيه حال سليمان عليه السلام أن التفقد كان منه عليه السلام عناية بامور ملكه واهتماما بضعفاء جنده وكأنه عليه السلام أخرج كلامه كما حكاه النظم الجليل لغلبة ظنه انه لم يصبه ما أهلكه وليكون ذلك مع التفقد من باب الجمع بين صفتي الجمال والجلال وهو الاكمل في شأن الملوك ولعل ما وقع من حديث النملة كان كالحالة المذكورة له عليه السلام للتفقد
وعلى ما تقدم عن ابن سلام أن الحالة المذكرة بل الداعية هي النزول في المفازة التي لاماء فيها وكون الهدهد قناقنه ويحكمون في ذلك أن سليمان عليه السلام حين تم له بناء بيت المقدس تجهز ليحج بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كل يوم طول مقامه خمسة آلاف بقرة وخمسة آلاف ناقة وعشرين ألف شاة وقال الأشراف من معه ان هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا يعطى النصرة على من عاداه وينصر بالرعب من مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء في الحق لاتأخذه في الله تعالى لومة لائم قالوا : فبأي دين يدين يا نبي الله فقال : بدين الحنفية فطوبى لمن آمن به وأدركه فقالوا : كم بيننا وبين خروجه قال : مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فانه سيد الأنبياء وخاتم الرسل عليهم السلام ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلي فلم يجدوا الماء فكان ما كان
وفي بعض الآثار ما يعارض حكاية الحج فقد روي عن كعب الأحبار أن سليمان عليه السلام سار من اصطخر يريد اليمن فمر على مدينة الرسول عليه الصلاة و السلام فقال هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان طوبى لمن أتبعه ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناما تعبد فجاوزه فبكى البيت فأوحى الله تعالى اليه ما يبكيك قال يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا علي ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فاوحى الله تعالى اليه لاتبك فاني سوف أبكيك وجوها سجدا وأنزل فيك قرآنا جديدا وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني وأفرض عليهم فريضة يرفون اليك رفيف النسر إلى وكره ويحنون اليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان ثم مضى سليمان حتى أتى على وادي النمل ولايظهر الجمع بين الخبرين ولعل المقدار الذي يصح من الأخبار أنه عليه السلام لما تم له بناء بيت المقدس حج وأكثر من تقريب القرابين وبشر بالنبي صلى الله عليه و سلم وقصد اليمن وتفقد الطير فلم ير الهدهد فتوعده بقوله لأعذبنه عذابا شديدا قيل بنتف ريشه وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج
والظأهر أن المراد جميع ريشه وقال يزيد بن رومان بنتف ريش جناحيه وقال ابن وهب بنتف نصف ريشه وزاد بعضهم مع النتف القاءه للنمل وآخر تركه في الشمس وقيل : ذلك بطليه بالقطران وتشميسه وقيل بحبسه في القفص وقيل : بجمعه مع غير جنسه وقيل بابعاده من خدمة سليمان عليه السلام وقيل : بالتفريق بينه وبين الفه وقيل بالزامه خدمة أقرانه وفي البحر الأجود أن يجعل كل من الأقوال من باب التمثيل وهذا التعذيب للتأديب ويجوز أن يبيح الله تعالى له ذلك لما رأى فيه من المصلحة والنفعة كما أباح سبحانه
(19/183)

ذبحذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر من أجله إلا بالتأديب والسياسة جاز أن يباح له ما يستصطلح به وفي الاكليل للجلال السيوطي قد يستدل بالآية على جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي أو اسراعها أو نحو ذلك وعلى جواز نتف ريش الحيوان لمصلحة بناء على أن المراد بالتعذيب المذكور نتف ريشه
وذكر فيه أن ابن العربي استدل بها على أن العذاب على قدر الذنب لاعلى قدر الجسد وعلى أن الطير كانوا مكلفين إذ لايعاقب على ترك فعل إلا من كلف به أه فلا تغفل أو لأذبحنه كالترقي من الشديد إلى الأشد فان في الذبح تجريع كأس المنية وقد قيل :
كل شيء دون المنية سهل
أو ليأتيني بسلطان مبين
12
- أي بحجة تبين عذره في غيبته وما ألطف التعبير بالسلطان دون الحجة هنا لما أن ما أتى به من العذر أنجر إلى الاتيان ببلقيس وهي سلطان ثم أن هذا الشق وان قرن بحرف القسم ليس مقسما عليه في الحقيقة وإنما المقسم عليه حقيقة الأولان وأدخل هذا في سلكهما للتقابل وهذا كما في الكشف نوع من التغليب لطيف المسلك ومآل كلامه عليه السلام ليكونن أحد الأمور على معنى إن كان الاتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإن لم يكن كان أحدهما فاو في الموضعين للترديد وقيل : هي في الأول للتخيير بين التعذيب والذبح وفي الثاني للترديد بينهما وبين الاتيان بالسلطان وهو كما ترى
وزعم بعضهم أنها في الأول للتخيير وفي الثاني بمعنى إلا وفيه غفلة عن لام القسم وجوز أن تكون الأمور الثلاثة مقسما عليها حقيقة وصح قسمه عليه السلام على الاتيان المذكور لعلمه بالوحي أنه سيكون أو غلبة ظنه بذلك لأمر قام عنده يفيدها وإلا فالقسم على فعل الغير في المستقبل من دون علم أو غلبة ظن به لايكاد يسوغ في شريعة من الشرائع وتعقب بأن قوله سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ينافي حصول العلم وما حكاه له ودفع المنافاة بانه يجوز أن يأتي بحجة لايعلم سليمان عليه السلام ولايظن صدقها وكذبها غير سديد إذ قوله مبين يأباه وبالجملة الوجه ما ذكر أولا فتأمل وقرأ عيسى بن عمر لياتين بنون مشددة مفتوحة بغير ياء وكتب في الامام لاأذبحه بزيادة ألف بين الذال والالف المتصلة باللام ولايعلم وجهه كاكثر ماجاء فيه مما يخالف الرسم المعروف وقيل : هو التنبيه على أن الذبح لم يقع
وقال ابن خلدون في مقدمة تأريخه : إن الكتابة العربية كانت في غاية الاتقان والجودة في حمير ومنهم تعلمها مضر الا أنهم لم يكونوا مجيدين لبعدهم عن الحضارة وكان الخط العربي أول الاسلام غير بالغ الى الغاية من الاتقان والجودة وإلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع وما وقع في رسم المصحف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الرسوم المخالفة لما اقتضته أقيسة رسوم الخط وصناعته عند أهلها كزيادة الألف في لأأذبحنه من قلة الاجادة لصنعة الخط واقتفاء السلف رسمهم ذلك من باب التبرك وتوجيه بعض المغفلين تلك المخالفة بما وجهه بها ليس بصحيح والداعي له إلى ذلك تنزيه الصحابة عن النقص لما زعم أن الخط كمال ولم يتفطن لأن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية وذلك ليس بكمال في حقهم إد الكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق إد لايعود نقصه على الدات في الدين ونحوه وإنما يعود على أسباب المعاش وقد كان النبي عليه الصلاة و السلام أميا وكان ذلك كمالا في حقه وبالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة و السلام ومثل الأمية تنزهه عليه الصلاة و السلام عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران ولا يعد
(19/184)

ذلك كمالا في حقنا إذ هو صلى الله عليه و سلم منقطع إلى ربه عز و جل ونحن متعاونون على الحياة الدنيا ومن هنا قال عليه الصلاة و السلام : أنتم أعلم بأمور دنياكم انتهى ملخصا
وأنت تعلم أن كون زيادة الألف في لاأذبحنه لقلة اجادتهم رضي الله تعالى عنهم صنعة الكتابة في غاية البعد وتعليل ذلك بما تقدم من التنبيه على عدم وقوع الذبح كذلك وإلا لزادوهافي لأعذبنه لأن التعذيب لم يقع أيضا وما أشار اليه من أن الاجادة في الخط ليس بكمال في حقهم ان أراد به أن تحسين الخط واخراجه على صورة متناسبة يستحسنها الناظر وتميل اليها النفوس كسائر النقوش المستحسنة ليس بكمال في حقهم ولايضر بشأنهم فقده فمسلم لكن هذا شيء وما نحن فيه شيء وإن أراد به أن الاتيان بالخط على وجه المعروف عند أهله من وصل ما يصلونه وفصل ما يفصلونه ورسم ما يرسمونه وترك ما يتركونه ليس بكمال فهذا محل بحث ألا ترى أنه لايعترض على العالم بقبح الخط وخروجه عن الصورة الحسنة والهيآت المستحسنة ويعترض عليه بوصل ما يفصل وفصل ما يوصل ورسم مالايرسم وعدم رسم ما يرسم ونحو ذلك إن لم يكن ذلك لنكتة
والظأهر أن الصحابة الذين كتبوا القرآن كانوا متقنين رسم الخط عارفين ما يقتضي أن يكتب وما يقتضي أن لايكتب وما يقتضي أن يوصل وما يقتضي أن لايوصل الى غير ذلك لكن خالفوا القواعد في بعض المواضع لحكمة ويستأنس لذلك بما أخرجه ابن الأنباري في كتابه التكملة عن عبد الله بن فروخ قال : قلت لابن عباس يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي هل كنتم تكتبونه قبل ان يبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه و سلم تجمعون منه ما أجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام والنون قال : نعم قلت : وممن أخذتموه قال : من حرب بن أمية قلت : وممن أخذه حرب قال : من عبد الله بن جدعان قلت : وممن أخذه عبد الله بن جدعان قال : من أهل الأنبار قلت : وممن أخذه أهل الأنبار قال : من طار طرأ عليهم من أهل اليمن قلت : وممن أخذ ذلك الطاريء قال : من الخلجان ن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام وهو الذي يقول : في كل عام سنة تحدثونها ورأي على غير الطريق يعبر وللموت خير من حياة تسبنا بهاجرهم فيمن يسب وحمير انتهى وفي كتاب محاصرة الأوائل ومسامرة الأواخر أن أول من اشتهر بالكتابة في الاسلام من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم والظاهر أنهم لم يشتهروا بذلك الا لاصابتهم فيها والقول بأن هؤلاء الأجلة وسائر الصحابة لم يعرفوا مخالفة رسم الألف هنا لما يقتضيه قوانين أهل الخط وكذا سائر ما وقع من المخالفة مما لا يقدم عليه من له أدنى أدب وانصاف
ومثل هذا القول بانه يحتمل أنه عرف ذلك من عرف منهم إلا أنه ترك تغييره إلى الموافق للقوانين أو وافقه على الغلط للتبرك ومن الناس من جوز أن يكون ما وقع من الصحابة من الرسم المخالف بسبب قلة مهارة من أخذوا عنه صنعة الخط فيكون هو الذي خالف في مثل ذلك ولم يعلموا أنه خالف فالقصور إن كان ممن أخذوا عنه واما هم فلا قصور فيهم إذ لم يخلوا بالقواعد التي أخذوها واخلالهم بقواعد لم تصل اليهم ولم يعلموا بها
(19/185)

لايعدلايعد قصورا وهذا قريب مما تقدم إلا أنه ليس فيه ما فيه من البشاعة ثم ان الانصاف بعد كل كلام يقتضي الاقرار بقوة دعوى أن المخالفة لضعف صناعة الكتابة إذ ذاك إن صح أنها وقعت أيضا في غير الامام من المكاتبات وغيرها ولعله لم يصح والا لنقل فتأمل والله تعالى يتولى هداك فمكث غير بعيد الظاهر أن الضمير للهدهد و بعيد صفة زمان والكلام بيان لمقدر كأنه قيل : ما مضى من غيبته بعد التهديد فقيل : مكث غير بعيد أي مكث زمانا غير مديد ووصف زمان مكثه بذلك للدلالة على اسراعه خوفا من سليمان عليه السلام وليعلم كيف كان الطير مسخرا له وقيل : الضمير لسليمان وهو كما ترى وقيل : بعيد صفة مكان أي فمكث الهدهد في مكان غير بعيد من سليمان وجعله صفة الزمان أولى ويحكى أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد فرأى هدهدا واسمه فيما قيل عفير واقعا فانحط اليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس وذهب معه لينظر فما رجع الا بعد العصر وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما لم يره دعا عريف الطير وهو النسر فسأله فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب : علي به فارتفعت فنظرت فاذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى وقال : بحق الله الذي قواك وأقدرك علي الا رحمتني فتركته وقالت ثكلتك أمك إن نبي الله تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك قال : وما استثنى قالت : بلى قال : أو ليأتينني بسلطان مبين فقال : نجوت إذا فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا فلما دنا منه أخذ برأسه فمده اليه فقال : يا نبي الله تعالى اذكر وقوفك بين يدي الله عز و جل فارتعد سليمان وعفا عنه وعن عكرمة أنه إنما عفا عنه لأنه بارا بأبويه يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما ثم سأله : فقال أحطت بما لم تحط به أي علما ومعرفة وحفظته من جميع جهاته وابتداء كلامه بذلك لتريجه عنده عليه السلام وترغيبه في الاصغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فان النفس للاعتذار المنبيء عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل وأيد ذلك بقوله وجئتك من سبأ بنبأ يقين
22
- حيث فسر ابهامه السابق نوع تفسير وأراه عليه السلام أنه كان بصدد اقامة خدمة مهمة له حيث عبد عما جاء به بالنبأ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه وقال الزمخشري : إن الله تعالى ألهم الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والاحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ليتحاقر اليه نفسه ويصغر اليه علمه ويكون لطفا به في ترك الاعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة انتهى وتعقب بأن ما أحاط به من ألأمور المحسوسة التي لاتعد الاحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف ادراكها الا على مجرد احساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم وماذا صدر عنه عليه السلام مع ما حكي عنه ما حكي من الحمد والشكر والدعاء حتى يليق بالحكمة الالهية تنبيههعليه السم على تركه واعترض بان قوله : أحطت الخ ظاهر في أنه كلام مدل بعلمه مصغر لما عند صاحبه وأن العلم بالامور المحسوسة وإن لم يكن فضيلة إلا أن فقده بالنسبة إلى سليمان عليه السلام وملكه والقاء الريح الاخبار في سمعهيدل على ما يدل وفي التنبيه المذكور تثبيت منه تعالى له عليه السلام على الحمد والشكر وهو مما يناسب دعاؤه السابق بقوله : رب أوزعني أن أشكر نعمتك ولعل الأولى والأظهر مع هذا ما ذكر أولا وسبأ منصرف على أنه لحي من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
(19/186)

وفي حديث فروةوغيره عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن سبأ اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة والستة حمير وكندة والأزد وأشعر وخثعم والاربعة لخم وجذام وعاملة وغسان وقيل : سبأ لقب لأبي الحي من قحطان واسمه عبد شمس وقيل : عامر ولقب بذلك لأنه أول من سبى
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو من سبأ بفتح الهمزة غير مصروف على أنه اسم للقبيلة ثم سميت به مأرب سبأ وبينهما وبين صنعاء مسيرة ثلاث وجوز أن يراد به على الصرف الموضع المخصوص وعلى منع الصرف المدينة المخصوصة وأنشدوا على صرفه قوله : الواردون وتيم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس وقرأ قنبل من طريق النبال باسكان الهمزة وخرج على اجراء الوصل مجرى الوقف وقال مكي : الاسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي وقرأ الاعمش من سباء بكسر الهمزة من غير تنوين حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية وخرجت على أن الجر بالكسرة لرعاية ما نقل عنه فانه في الأصل اسم الرجل أو مكان مخصوص وحذف التنوين لرعاية ما نقل اليه فانه جعل اسما للقبيلة أو للمدينة وهو كما ترى وقرأ ابن كثير في رواية من سبى 9 بتنوين الباء على وزن رحى جعله مقصورا مصروفا وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأى بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة على وزن فعلى فهو ممنوع من الصرف للتأنيث اللازم
وروى ابن حبيب عن اليزيدي من سبأ بألف ساكنة كما في قولهم : تفرقوا أيدي سبأ وقرأت فرقة لنبا بالالف عوض الهمزة وكأنها قراءة من قرأ سبا بالألف لتتوازن اللمتان كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمزة المكسورة والتنوين وفي التحرير أن مثل من سبا بنبا يسمى تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل من الكلمتين بحرف كما في قوله تعالى : ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون وحديث الخيل معقود بنواصيها الخير
وقال الزمخشري : إن قوله تعالى من سبا بنبا من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعا أو يصيغه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده ولقد جاء ههنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى ألا ترى لو وضع مكانا بنبا بخبر لكان المعنى صحيحا وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال اه وهذه الزيادة كون الخبر ذا شأن وكون النبا بمعنى الخبر الذي له شأن مما صرح به غير واحد من اللغويين والظاهر أنه معنى وضعي له وزعم بعضهم أنه ليس بوضعي وليس بشيء وقول المحدثين : أنبأنا أحط درجة من أخبرنا غير وارد لأن اصطلاح لهم وقرأ الجمهور فمكث بضم الكاف والفتح قراءة عاصم وأب عمرو في رواية الجعفي وسهل وروح وقرأ أبي فمكث ثم قال وعبد الله فمكث فقال وكلتا القراءتين في الحقيقة على ما في البحر تفسير لاقراءة لمخالفتها سواد المصحف وقريء في السبعة أحطت بادغام التاء في الطاء مع بقاء صفة الاطباق وليس بادغام حقيقي
(19/187)

وقرأ ابن محيصن باغام حقيقي واعترض أبن الحاجب القراءة الأولى بان الاطباق وهو رفع اللسان إلى ما يحاذيه من الحنك للتصويت بصوت الحرف المخرج لايستقيم سلا بنفس الحرف وهو الطاء هنا والادغام يقتضي ابدالها تاء وهو ينافي وجود ذلك لأنه يقتضي ان تكون موجودة وغير موجودة وهو تناقض فالتحقيق ان نحو احطت بالاطباق ليس فيه ادغام ولكنه لما امكن النطق بالثاني مع الأول من غير ثقل على اللسان كان كالنطق بالمثل بعد المثل فاطلق عليه الادغام توسعا قاله الطيبي وفي النشر أن التاء تدغم في الطاء في قوله تعالى : أقم الصلاة طرفي النهار وفي التسهيل انه إذا ادغم المطبق يجوز ابقاء الاطباق وعدمه وقال سيبويه : كل كلام عربي كذا الحواشي الشهابية فتأمل
وفي قوله تعالى أحطت الخ دليل باشارة النص والادماج على بطلان قول الرافضة إن الامام ينبغى ان لايخفى عليه شيء من الجزئيات ولا يخفى أنهم إن عنوا بذلك أنه يجب أن يكون الامام عالما على التفصيل بأحكام جميع الحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها وأن يكون مستحضرا الجواب الصحيح عن كل ما يسأل عنه فبطلان كلامهم في غاية الظهور وقد سئل علي كرم الله تعالى وجهه وهو على منبر الكوفة عن مسألة فقال : لا أدري فقال السائل : ليس مكانك هذا مكان من يقول : لا أدري فقال الامام كرم الله تعالى وجهه بلى والله هذا مكان من يقول لاأدري وأما من لايقول ذلك فلا مكان له يعني به الله عز و جل وإن عنوا أنه يجب أن يكون عالما بجميع القواعد الشرعية وبكثير من الفروع الجزئية لتلك القواعد بحيث لو حدثت حادثة ولا يعلم حكمها يكون متمكنا من استنباط الحكم فيها على الوجه الصحيح فذاك حق وهو في معنى قول الجماعة يجب أن يكون الامام مجتهدا وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله وقوله تعالى : إني وجدت امرأة تملكهم أي تتصرف بهم ولا يعترض عليها أحد استئناف لبيان ما جاء به من النبأ وتفصيل له إثر إجمال وعنى بهذ المرأة بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان من نسل يعرب بن قحطان ويقال : من نسل تبع الحميري
وروى ابن عساكر عن الحسن أن اسم هذه المرأة ليلى وهو خلاف المشهور وقيل : اسم أبيها السرح بن الهداهد
ويحكى أن كان أبوها ملك أرض اليمن كلها وورث الملك من أربعين أبا ولم يكن له ولد غيرها فغلبت بعده على الملك ودانت لها الأمة وفي بعض الآثار انه لما مات أبوها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فاطاعها قوم وأبى آخرون فملكوا عليهم رجلا يقال : إنه ابن عمها وكان خبيثا فاساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يفجر بنساء رعيته فارادوا خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت اليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال : ما منعني أن ابتدئك بالخطبة إلا اليأس منك قالت : لاأرغب عنك لأنك كفؤ كريم فاجمع رجال أهلي واخطبني فجمعهم وخطبها فقالوا : لانراها تفعل فقال : بلى إنها رغبت في فذكروا لها ذلك فقالت : نعم فزوجوها منه فلما زفت اليه خرجت مع أناس كثير من حشمها وخدمها فلما خلت به سقته الخمر حتى سكر فقتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منرلها فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه واحضرتهم وقرعتهم وقالت : أما كان فيكم من يأنف من الفجور بكرائم عشيرته ثم أرتهم إياه قتيلا وقالت : اختاروا رجلا تملكوه عليكم فقالوا : لانرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرا وخديعة منها واشتهر أن أمها جنية
(19/188)

وقد أخرج ابن ابي شيبة وابن المنذر عن مجاهد والحكيم الترمذي وابن مردويه عن عثمان بن حاضر أن أمها من الجن يقال لها بلقمة بنت شيصا وابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أن أمها فارعة الجنية وفي التفسير الخازني أن أباها شراحيل كان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج فيهم فخطب الى الجن فزوجوه امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن وسبب وصوله الى الجن حتى خطب اليهم على ما قيل انه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن وهم على صور الظباء فيخلي عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقا فخطب ابنته فزوجه اياها وقيل : أنه خرج متصيدا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فقتل السوداء وحمل البضاء وصب عليها الماء فأفاقت فاطلقها فلما رجع الى داره جلس وحده منفردا فاذا هو معه شاب جميل فخاف منه فقال : لاتخف أنا الحية البيضاء الذي احييتني والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقل : لاحاجة لي به ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها فزوجه ابنته فولدت له بلقيس انتهى وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أحد أبوي بلقيس كان جنيا والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة هذا الخبر وفي البحر طولوا في قصصها يعني بلقيس بما لم يثبت في القرآن ولا الحديث الصحيح وأن ما ذكر من الحكايات أشبه شيء بالخرافات فان الظأهر على تقدير وقوع التناكح بين الانس والجن الذي قيل يصفع السائل عنه لحماقته وجهله أن لا يكون توالد بينهما وقد ذكر عن الحسن فيما روى ابن عساكر أنه قيل بحضرته : إن ملكة سبأ أحد أبويها جني فقال : لايتوالدون أي أن المرأة من الانس لاتلد من الجن والمرأة من الجن لاتلد من الانس نعم روي عن مالك ما يقتضي صحة ذلك
ففي الاشباه والنظائر لابن نجيم روى أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال : كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا : إن ههنا رجلا من الجن زعم أنه يريد الحلال فقال : ما أرى بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها من زوجك قالت : من الجن فيكثر الفساد في الاسلام بذلك انتهى ولعله لم يثبت عن مالك لظهور ما يرد على تعليل الكراهة ثم ليت شعري إدا حملت الجنية من الانسي هل تبقى على لطافتها فلا ترى والحمل على كثافته فيرى أو يكون الحمل لطيفا مثلها فلا يريان فاذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم أو تكون متشكلة بشكل نساء بني آدم مادام الحمل في بطنها وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل اليه من غذائها وكل من الشقوق لايخلوا عن استبعاد كما لايخفى وايثار وجدت على رأيت لما أشير اليه فيما سبق من الايذان بكونه عند غيبته بصدد خدمته عليه السلام بابراز نفسه في معرض من يتفقد أحوالها ويتعرفها كأنها طلبته وضالته ليعرضها على سليمان عليه السلام وقيل : للاشعار بأن ما ظفر به أمر غير معلوم أولا لأن الوجدان بعد الفقد وفيه رمز بغرابة الحال وضمير تملكهم لسبأ على أنه اسم للحي أو لأهلها المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنها اسم لها وليس في الآية ما يدل على جواز أن تكون المرأة ملكة ولا حجة في عمل قوم كفرة على مثل هذا المطلب وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح عنه وفي الأشباه لاينبغي أن تولى القضاء وإن صح منها بغير الحدود والقصاص وذكر أبو حيان أنه نقل عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنها تقضي فيما تشهد فيه لا على الاطلاق
(19/189)

ولا أن يكتب لها منشور بان فلانة مقدمة على الحكم وإنما على سبيل التحكيم لها وأوتيت من كل شيء أي من الأشياء التي تحتاج اليها الملوك بقرينة تملكهم وقد يقال : ليس الغرض إلا إفادة كثرة ما أوتيت
والجملة تحتمل أن تكون عطفا على جملة تملكهم وأن تكون حالا من ضمير تملكهم المرفوع بتقدير قد أو بدونه ولها عرش عظيم
32
- قال ابن عباس كما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر أي سرير كريم من ذهب قوائمه من جواهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالى الثمن وروي عنه أيضا أنه كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا وكان طوله في السماء ثلاثين ذراعا أيضا وقيل : كان طوله ثمانين في ثمانين وارتفاعه ثمانين
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه سرير من ذهب وصفحتاه مرصعتان بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا في عرض أربعين ذراعا وقيل : كان من ذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق وقيل : غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وبالجملة فالظاهر أن المراد بالعرش السرير وقال أبو مسلم : المراد به الملك ولاداعي اليه واستعظام الهدهد لعرشها مع ما كان يشاهده من ملك سليمان عليه السلام إما بالنسبة إلى حالها أو إلى عروش أمثالها من الملوك وجوز أن يكون ذلك لأنه لم يكن لسليمان عليه السلام مثله وإن كان عظيم الملك فانه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لايكون للملك الذي هم تحت طاعته وأياما كان فوصفه بذلك بين يديه عليه السلام لما ذكر أولا من ترغيبه عليه السلام في الاصغاء إلى حديثه وفيه توجيه لعزيمته عليه السلام نحو تسخيرها ولذلك عقبه بما يوجب غزوها من كفرها وكفر قومها حيث قال : وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله تعالى قال الحسن كانوا مجوسا يعبدون الانوار وقيل كانوا زنادقة
والظاهر أن هذه الجملة استئناف كلام وأن الوقف على عظيم قال صاحب المرشد ولا يوقف على عرش وقد زعم بعضهم جوازه وقال معناه عظيم عند الناس وقد أنكر هذا الوقف أبو حاتم وغيره من المتقدمين ونسبوا القائل به الى الجهل وقول من قال معناه عظيم عبادتهم للشمس من دون الله تعالى قول ركيك لايعتد به وليس في الكلام ما يدل عليه وفي الكشاف من نوكي القصاص من وقف على عرش يريد عظيم إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله تعالى وزين لهم الشيطن أعمالهم التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي والجملة تحتمل العطف على جملة يسجدون والحالية من الضمير على نحو ما مر آنفا فصدهم أي الشيطان وكوز كون الضمير للتزيين المفهوم من الفعل أي فصدهم تزيين الشيطان عن السبيل أي سبيل الحق والصواب فهم بسبب ذلك لايهتدون
42
- اليه وقوله تعالى ألايسجدوا لله أي لئلا يسجدوا واللام للتعليل وهو متعلق بصدهم أو بزين والفاء في فصدهم لايلزم أن تكون سببية لجواز كونها تفريعية أو تفصيلية أي فصدهم عن ذلك لأجل أن لايسجدوا لله عز و جل أو زين لهم ذلك لاجل أن لايسجدوا له تعالى وجوز أن تكون أن وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من أعمالهم وما بينها اعتراض كأنه قيل وزين لهم الشيطان عدم السجود لله تعالى وتعقب بانه ظاهر فد عد عدم السجود من الاعمال وهو بعيد وجوز أن يكون ذلك بدلا من السبيل و لا زائدة مثلها في قوله تعالى لئلا يعلم أهل
(19/190)

الكتاب كأنه قيل فصدهم عن السجود لله تعالى وجوز أن يكون بتقدير إلى و لا زائدة أيضا والجار والمجرور متعلق بيهتدون كأنه قيل فهم لايهتدون إلى السجود له عز و جل وأنت تعلم أن زيادة لا وان وقعت في الفصيح خلاف الظاهر وجوز أن لايكون هناك تقدير والمصدر خبر مبتدأ محذوف أي دأبهم عدم السجود وقيل : التقدير هي أي أعمالهم عدم السجود وفيه ما مر آنفا وقرأ ابن عباس وأبو جعفر والزهري والسلمي والحسن وحميد والكسائي ألا بالتخفيف على أنها للاستفتاح ويا حرف نداء والمنادى محذوف أي ألا يا قوم اسجدوا كما في قوله
ألا يا أسلمى ذات الدمالج والعقد
ونظائره الكثيرة وسقطت الألف يا وألف الوصل في اسجدوا وكتبت الياء متصلة على خلاف القياس ووقف الكسائي في هذه القراءة على ياء وابتداء باسجدوا وهو وقف اختيار وفي البحر الذي أذهب اليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء والمنادى محذوف لأن المنادى عندي لايجوز حذفه لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء وانحذف فاعله لحذفه فلو حذفنا المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء وحذف متعلقه وهو المنادى وإذا وإذا لم نحذفه كان دليلا على العامل فيه وهو جملة النداء وليس حرف الندا حرف جواب كنعم وبلى ولا وأجل فيجوز حذف الجملة بعده كما يجوز حذفها بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجملة المحذوفة فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به الا التي للتنبيه وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله
(19/191)

فاصبحن لايسألنني عن بما به
والمتفقي اللفظ العاملين أيضا في قوله : فلا والله لايلفي لما بي ولا للمابهم أبدا دواء وجاز ذلك وإن عدوه ضرورة أو قليلا فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يون جائزا وليس يا في قوله
يالعنة الله والاقوام كلهم
حرف نداء عندي بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ وليس مما حذف فيه المنادى لما ذكرناه انتهى وللبحث فيه مجال وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام استئنافا من كلام الهدهد إما خطابا لقوم سليمان عليه السلام للحث على عبادة الله تعالى أو لقوم بلقيس لتنزيلهم منرلة المخاطبين ويحتمل أن يكون استئنافا من جهة الله عز و جل أو من سليمان عليه السلام كما قيل وهو حينئذ بتقدير القول
ولعل الأظهر احتمال كونه استئنافا من جهته عز و جل خاطب سبحانه به هذ الأمة والجملة معترضة ويوقف على هذه القراءة على يهتدون استحسانا ويوجب ذلك ريادة عدة آيات هذ السورة على ما قالوه فيها عند بعض وقيل : لايوجبها فان الآيات توقيفية ليس مدارها على الوقف وعدمه فتأمل والفرق بين القراءتين معنى أن في الآية على الأولى ذما على ترك السجود وفيها على الثانية أمرا بالسجود وأيا ما كان فالسجود واجب عند قراءة الآية وزعم الزجاج وجوبه على القراءة الثانية وهو مخالف لما صرح به الفقهاء ولذا قال الزمخشري إنه غير مرجوع اليه وقرأ الأعمش : هلا يسجدون على التحضيض واسناد الفعل إلى ضمير الغائبين وفي قراءة أبي ألا تسجدون على العرض واسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين وفي حرف عبد الله ألا هل تسجدون بالا الاستفتاحية وهل الاستفهامية واسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين قاله ابن عطية وفي الكشاف ما فيه مخالفة ماله والعالم بحقيقة الحال هو الله عز و جل
(19/0)

الذين يخرج الخبء في السموات والأرض أي يظهر الشيء المخبوء فيهما كائنا ما كان فالخبء مصدر أريد به اسم المفعول وفسره بعضهم هنا بالمطر والنبات وروي ذلك عن ابن زيد وأخرج ابن ابي حاتم عن سعيد بن المسيب أنه فسره بالماء والاولى التعميم كما روي ذلك عن جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وفي السموات متعلق بالخبء وعن الفراء أن في بمعنى من فالجار والمجرور على هذا متعلق بيخرج والظاهر ما تقدم واختيار هذا الوصف لما أنه أوفق بالقصة حيث تضمنت ما هو أشبه شيء باخراج الخبء وهو إظهار أمر بلقيس وما يتعلق به وعلى هذا القياس اختيار ما ذكر بعد من صفاته عز و جل وقيل : إن تخصيص هذا الوصف بالذكر لما أن الهدهد أرسخ في معرفته والاحاطة باحكامه بمشاهدة ءاثاره التي من جملتها ما أودعه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفة الماء تحت الأرض وأنت تعلم أن كون الهدهد أودع فيه القدرة على ما ذكر مما لم يجيء فيه خبر يعول عليه وأيضا التعليل المذكور لايتسنى على قراءة ابن عباس والستة والذين معه ألا يسجدوا بالتخفيف إذا جعل الكلام استئنافا من جهته عز و جل أو من جهة سليمان عليه السلام وقرأ أبي وعيسى الخب بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة وحكى ذلك سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد
وقرأ عكرمة بالف بدل الهمزة فلزم فتح ما قبلها وهي قراءة عبد الله ومالك بن دينار وخرجت على لغة من يقول في الوقف هذا الخبو ومررت بالخبى ورأيت الخبا وأجري الوصل مجرى الوقف وأجاز الكوفيون أن يقال في المرأة والكمأة المراة والكماة بابدال الهمزة ألفا وفتح ما قبلها وذكر أن هذا الابدال لغة
وجوز أن يكون الخبء من ذلك ومنعه الزمخشري مدعيا أن ذلك لغة ضعيفة مسترذلة وعلل بأن الهمزة إذا سكن ما قبلها فطريق تخفيفها الحذف لا القلب كما يقال في الكمء كمه وتعقبه في الكشف فقال : تخريجه على الوقف فيه ضعيفان لأن الوقف على ذلك الوجه ليس من لغة الفصحاء واجراء الوصل مجرى الوقف فيما لايكثر استعماله كذلك وأما تلك اللغة فعن الكوفيين أنها قياس انتهى وزعم أبو حاتم أن الخبأ بالألف لايجوز أصلا وهو من قصور العلم قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلدتهم ولم يلق أعلم منه وأشير بعطف قوله تعالى ويعلم ما تخفون وما تعلنون
52
- على يخرج إلى أنه تعالى يخرج ما في العالم الانساني من الخفايا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخبايا لما أن المراد يظهر ما تخفونه من الأحوال فيجازيكم بها وذكر ماتعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الالهي كذا قيل ويشعر كلام بعضهم يانه أشير بما تقدم إلى كمال قدرته تعالى وبهذا الى كمال علمه عز و جل وانه استوى فيه الباطل والظاهر وقدم ماتخفون لذلك مع مناسبته لما قبله من الخبء وقدم وصفه تعالى باخراج الخبء من السموات لأنه أشد ملائمة للمقام والخطاب على ما قيل اما للناس أو لقوم سليمان أو لقوم بلقيس وفي الكلام التفات
وقرأ الحرميان والجمهور مايخفون وما يعلنون بياء الغيبة وفي الكشاف عن أبي أنه قرأ ألاتسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون
الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم
62
- في معنى التعليل لوصفه عز و جل بكمال القدرة وكمال العلم و العظيم بالجر صفة العرش وهو نهاية الاجرام فلا جرم فوقه وفي الآثار من وصف عظمه ما يبهر
(19/192)

العقول ويكفي في ذلك أن الكرسي الذي نطق الكتاب العزيز بانه وسع السموات والأرض بالنسبة اليه كحلقة في فلاة وهو عند الفلاسفة محدد الجهات وذهبوا إلى أنه جسم كرى خال عن الكواكب محيط بسائر الافلاك محرك لها قسرا من المشرق إلى المغرب ولايكاد يعلم مقدار ثخنه إلا الله تعالى وفي الأخبار الصحيحة ما يأبى بظاهره بعض ذلك وأياما كان فبين عظمه وعظم عرش بلقيس بون عظيم
وقرأ ابن محيصن وجماعة العظيم بالرفع فاحتمل أن يكون صفة للعرش مقطوعة بتقدير هو فتستوي القراءتان معنى واحتمل أن يكون صفة للرب قال استئناف بياني كأنه قيل : فماذا فعل سليمان عليه السلام عند قوله ذلك فقيل قال : سننظر أي فيما ذكرته منن النظر بمعنى التأمل والتفكر والسين للتأكيد أي سنتعرف بالتجربة البتة أصدقت أم كنت من الكذبين
72
- جملة معلق عنها الفعل للاستفهام وكان مقتضى الظاهر أم كذبت وإيثار ما عليه النظم الكريم للايذان بان كذبه في هذه المادة يستلزم انتظامه في سلك الموسومين بالكذب الراسخين فيه فان مساق هذه الاقاويل الملفقة مع ترتيب أنيق يستميل قلوب السامعين نحو قبولها من غير أن يكون لها مصداق أصلا لاسيما بين يدي نبي عظيم تخشى سطوته لايكاد يصدر إلا عمن رسخت قدمه في الكذب والافك وصار سجية له حتى لايملك نفسه عنه في أي موطن كان وزعم بعضهم أن ذاك لمراعاة الفاصلة وليس بشيء أصلا وفي الآية على ما في الاكليل قبول الوالي عذر رعيته ودرء العقوبة عنهم وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به وقوله تعالى : إذهب بكتابي هذا فالقه إليهم استئناف مبين لكيفية النظر الذي وعده عليه السلام بعد ما كتب كتابه في ذلك المجلس أو بعده فهذا إشارة إلى الحاضر وتخصيصه عليه السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقياء على التصرف والتعرف لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة ولئلا يبقي له عذر أصلا وفي الآية دليل على جواز إرسال الكتب إلى المشركين من الامام لابلاغ الدعوة والدعاء إلى الاسلام وقد كتب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك العرب وقرىء السبعة فألقهبكسر الهاء وياء بعدها وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء وواو بعدها ثم تول عنهم أي تنح وحمل على ذلك لأن التولي بالكلية يينافي قوله : فانظر ماذا يرجعون
82
- إلا أن يحمل على القلب كما زعم ابن زيد وأبو علي وهو غير مناسب وأمره عليه السلام إياه بالتنحي من باب تعليم الآداب مع الملوك كما روي عن وهب
والنظر بمعنى التأمل والتفكر وماذاإما كلمة استفهام في موضع المفعول ليرجعون ورجع تكون متعدية كما تكون لازمة او مبتدأ وجملة يرجعون خبره وإما أن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي خبره وجملة يرجعون صلة الموصول والعائد محذوف وأيا ما كان فالجملة معلق عنها فعل القلب فمحلها النصب على إسقاط الخافض وقيل : النظر بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى : أنظرونا نقتبس من نوركم فلا تعليق بل كلمة ماذا موصول في موضع المفعول كذا قيل والظاهر أنه بمعنى التأمل وأن المراد فتأمل وتعرف ماذا يرد بعضهم على بعض من القول وهذا ظاهر في أن الله تعالى أعطى الهدهد قوة يفهم بها ما يسمعه من
(19/193)

كلامهمكلامهم والتعبير بالقاء لأن تبليغه لايمكن بدونه وجمع الضمير لأن المقصود تبليغ ما فيه لجميع القوم والكشف عن حالهم بعده
قالت أي بعد ما ذهب الهدهد بالكتاب فالقاه اليهم وتنحى عنهم حسبما أمر به وإنما طوي ذكره إيذانا بكمال مسارعته إلى إقامة ما أمر به من الخدمة واشعارا بالاستغناء عن التصريح به لغاية ظهوره
روي أنه عليه السلام كتب كتابه وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد فذهب به فوجدها راقدة في قصرها بمأرب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية وفي رواية بين ثدييها وقيل : نقرها فانتبهت فزعة وقيل أتاها والقادة والجنود حواليها فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فالقى الكتاب في حجرها فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت فقالت ما قالت وقيل : كانت في البت كوة تقع الشمس منها كل يوم فاذا نظرت اليها سجدت فجاء الهدهد فسدها بجناحيه فرأت ذلك وقامت اليه فالقى الكتاب اليها وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل يعرب بن قحطان واشتهر أنها من نسل تبع الحميري وكان الخط العربي في غاية الاحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة وهو المسمى بالخط الحميري وكان بحمير كتابة تسمى المسند حروفها مفصلة وكانوا يمنعون من تعليمها إلا باذنهم ومن حمير تعلم مضر وقد تقدم بعض الكلام في ذلك
واختار ابن خلدون القول بأنه تعلم الكتابة العربية من التبابعة وحمير أهل الحيرة وتعلمها منهم أهل الحجاز وظاهر كون بلقيس من العرب وأنها قرأت الكتاب يقتضي أن الكتاب كان عربيا ولعل سليمان عليه السلام كان يعرف العربي وإن لم يكن من العرب ومن علم منطق الطير لايبعد أن يعلم منطق العرب الذي هو اشرف منطق ويحتمل أن يكون عنده من يعرف ذلك وكذا من يعرف غيره من اللغات كعادة الملوك يكون عندهم من يتكلم بعدة لغات ليترجم لهم ما يحتاجونه ويجوز أن يكون الكتاب غير عربي بلغة سليمان عليه السلام وقلمه وكان قلمه كما نقل عن الامام أحمد البوني كاهنيا وكان عند بلقيس من ترجمه لها وأعلمها بما فيه فجمعت أشراف قومها وأخبرتهم بذلك واستشارتهم كما حكى سبحانه عنها بقوله جل وعلا قالت : يا أيها الملؤا إني القي إلي كتاب كريم
92
- الخ وأقدم سليمان عليه السلام على كتابة الكتاب اليها كذلك قول الهدهد وأوتيت من كل شيء والمترجم من الأشياء التي يحتاج اليها الملك وأن اللائق بشأنه وعظته أن لايترك لسانه ويتشبه بها في لسانها ويحتمل أنها كانت بنفسها تعرف تلك الكتابة فقرأ الكتاب لذلك ورجح احتمال أن يكون الكتاب غير عربي بأن الكتابة لها بالعربية تستدعي الوقوف على حالها وهو عليه السلام ما وقف عليه بعد
وتعقب بانه دله على كونها عربية قول الهدهد جئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم فانه عليه السلام ممن لايخفى عليه كون سبأ من العرب والظاهر كون ملكتهم منهم ووصف الكتاب بالكرم لكونه مختوما ففي الحديث كرم الكتاب ختمه وفي شرح أدب الكاتب يقال أكرمت الكتاب فهو كريم إدا ختمته وقال ابن المقنع : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به وقد فسر ابن عباس وقتادة وزهير بن محمد الكريم هنا بالمختوم وفيه كما قيل استحباب ختم الكتاب لكرم مضمونه وشرفه أو لكرم
(19/194)

مرسلهمرسله وعلو منزلته وعلمت ذلك بالسماع أو بكون كتابه مختوما باسمه على عادة الملوك والعظماء أو بكون رسوله به الطير أو لبداءته باسم الله عز و جل أو لغرابة شأنه ووصوله اليها على منهاج غير معتاد وقيل : أن ذلك لظنها إياه بسبب أن الملقي له طيرا أنه كتاب سماوي وليس بشيء وبناء القي للمفعول لعدم الاهتمام بالفاعل وقيل : لجهلها به أو لكونه حقيرا وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الفصوص : من حكمة بلقيس كونها لم تذكر من ألقى اليها الكتاب وما ذاك الا لتعلم أصحابها أن لها أتصالا إلى أمور لايعلمون طريقها وفي ذلك سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها وبهذا استحقت التقديم عليهم انتهى وتأكيد الجملة للاعتناء بشأن الحكم وأما التأكيد في قوله تعالى : إنه من سليمن وإنه بسم الله الرحمن الرحيم
3
- فلذاك أيضا أولوقوعه في جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ممن هذا الكتاب وماذا مضمونه فقيل : إنه من سليمان الخ ويحسن التأكيد بان في جواب السؤال ولا أرى فرقا في ذلك بين المحقق والمقدر ويعلم مما ذكر أن ضمير إنه الأول للكتاب وضمير إنه الثاني للمضمون وإن لم يذكر وليس في الآية ما يدل على أنه عليه السلام قدم اسمه على اسم الله عز و جل وعلمها بانه من سليمان يجوز أن يكون لكتابة اسمه بعد
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن رومان أنه قال : كتب سليمان بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان ابن داود إلى بلقيس ابنة ذي شرح وقومها أن لاتعلوا الخ وجوز أن يكون لكتابته في ظاهر الكتاب وكان باطن الكتاب بسم الله الخ وقيل : ضمير انه الأول للعنوان وأنه عليه السلام عنون الكتاب باسمه مقدما له فكتب من سليمان بسم الله الخ واستظهر هذا أبو حيان ثم قال : وقدم عليه السلام اسمه لاحتمال أن يبدر منها ما يليق إد كانت كافرة فيكون اسمه وقاية لاسم الله عز و جل وهو كما ترى وكتابة البسملة في أوائل الكتب مما جرت به سنة نبينا صلى الله عليه و سلم بعد نزول هذه الآية بلا خلاف وأما قبله فقد قيل إن كتبه عليه الصلاة و السلام لم تفتتح بها فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم فكتب النبي صلى الله عليه و سلم أو ما كتب باسمك اللهم حتى نزلت بسم الله مجراها ومرساها فكتب بسم الله ثم نرلت ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فكتب بسم الله الرحن ثم نرلت آية النمل إنه من سليمان الآية فكتب بسم الله الرحمن الرحيم وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يكتب باسمك اللهم فلما نزلت إنه من سليمان الآية كتب بسم الله الخ وروي نحو ذلك عن ميمون بن مهران وقتادة وهذا عندي مما لايكاد يتسنى مع القول بنزول البسملة قبل نزول هذه الآية وهذا القول مما لاينبغي أن يذهب الى خلافه فقد قال الجلال السيوطي في اتقانه اختلف في أول ما نزل من القرآن على أقوال أحدها وهو الصحيح إقرأ باسم ربك واحتج له بعده اخبار منها خبر الشيخين في بدء الوحي وهو مشهور وثانيهما يا أيها المدثر وثالثها سورة الفاتحة ورابعها البسملة ثم قال وعندي أن هذا لايعد قولا برأسه فانه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الاطلاق اه
وهو يقوي ما قلناه فان البسملة إذا كانت أول آية نزلت كانت هي المفتتح لكتاب الله تعالى وإذا كانت كذلك كان اللائق بشأنه صلى الله عليه و سلم أن يفتتح بها كتبه كما افتتح الله تعالى بها كتابه وجعلها أول المنزل منه
والقول بأنها نزلت قبل الا أنه عليه الصلاة و السلام لم يعلم مشروعيتها في أوائل الكتب والرسائل حتى نزلت هذه الآية المتضمنة لكتابة سليمان عليه السلام إياها في كتابه الى أهل سبأ مما لايقدم عليه الا جاهل
(19/195)

بقدرهبقدره عليه الصلاة و السلام وذكر بعض الأجلة أنها إذا كتبت في الكتب والرسائل فالأولى أن تكتب سطرا وحدها
وفي أدب الكتاب للصولي أنهم يختارون أن يبدأ الكاتب بالبسملة من حاشية القرطاس ثم يكتب الدعاء مساويا لها ويستقبحون أن يخرج الكلام عن البسملة فاضلا بقليل ولا يكتبونها وسطا ويكون الدعاء فاضلا اه وما ذكر من كتابة الدعاء بعدها لم يكن في الصدر الأول وإنما كان فيه كتابة من فلان إلى فلان
وتقديم اسم الكاتب على اسم المكتوب له مشروع وإن كان الأول مفضولا والثاني فاضلا ففي البحر عن أنس ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان أصحابه إذا كتبوا اليه كتابا بدؤا بأنفسهم
وقال أبو الليث في البستان له : ولو بدأ بالمكتوب اليه جاز لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه انتهى
وظاهر الآية أن البسملة ليست من الخصوصيات وقال بعضهم : إنها منها لكن باللفظ العربي والترتيب المخصوص وما في كتاب سليمان عليه السلام لم تكن باللفظ العربي وترجمت لنا به وليس ذلك ببعيد
وقرأ عبد الله وإنه من سليمان بزيادة واو وخرجه أبو حيان على أنها عاطفة للجملة بعدها على جملة إني القي وقيل : هي واو الحال والجملة حالية وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة أنه من سليمان وأنه بفتح همزةأن في الموضعين وخرج على الابدال من كتاب أي القي إلي أنه ألخ أو على أن يكون التقدير لأنه الخ كأنها عللت كرم الكتاب بكونه من سليمان وبكونه مصدرا باسم الله عز و جل وقرأ أبي أن منسليمان وأن بسم الله بفتح الهمزة وسكون النون وخرج على أن أن هي المفسرة لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول أو على أنها المخففة من الثقيلة وحذفت الهاء و أن في قوله تعالى : ألا تعلوا علي يحتمل أن تكون مفسرة ولا ناهية ويحتمل أن تكون مصدرية ناصبة للفعل ولا نافية وقيل : يجوز كونها ناهية أيضا ومحل المصدر الرفع على أنه بدل من كتاب أو خبر لمبتدأ مضمر يليق بالمقام أي مضمونه أن لاتعلوا علي أي أن لاتتكبروا علي كما يفعل جبابرة الملوك وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية وهب بن منبه والاشهب العقيلي أن لاتغلوا بالغين المعجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد أي أن لاتتجاوزوا حدكم وأتوني مسلمين
13
- عطف على ما قبله فان كانت فيه لا ناهية فعطف الأمر عليه ظاهر وإن كانت نافية وأن مصدرية فعطفه عليه من عطف الانشاء على الاخبار والكلام فيه مشهور والأكثرون على جوازه في مثل هذا والمراد بالاسلام الايمان أي واتوني مؤمنين وقيل : المراد به الانقياد أي ائتوني منقادين مستسلمين والدعوة على الأول دعوة النبوة وعلى الثاني دعوة الملك واللائق بشأنه عليه السلام هو الأول
وفي بعض الآثار كما ستعلم ان شاء الله تعالى ما يؤيده ولا يرد أنه يلزم عليه أن يكون الأمر بالايمان قبل إقامة الحجة على رسالته فيكون استدعاء للتقليد لأن الدعوة المذكورة هي الدعوة التي لاتستدعي إظهار المعجزة وإقامة الحجة وعادة الأنبياء عليهم السلام الدعوة إلى الايمان أولا فاذا عورضوا أقاموا الدليل واظهروا المعجزة وفيما نحن فيه لم يصدر معارضة وقيل : إن الدعوة ما كانت إلا مقرونة باقامة الحجة لأن القاء الكتاب اليها على تلك الحالة التي ذكرت فيما مر أولا معجزة باهرة دالة على رسالته عليه السلام دلالة بينة وتعقب بأن كون الالقاء المذكور معجزة غير واضح خصوصا وهي لم تقارن التحدي ورجح
(19/196)

الثاني بأن قولها : إن الملوك الخ صريح في دعوة الملك والسلطنة
وأجيب بأن ذاك لعدم تيقنها رسالته عليه السلام حينئذ أو هو من باب الاحتيال لجلب القوم إلى الاجابة بادخال الروع عليهم من حيثية كونه عليه السلام ملكا وهذا كما ترى والظاهر أنه لم يكن في الكتاب أكثر مما قص الله تعالى وهو أحدى الروايتين عن مجاهد وثانيتهما أنه في السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا علي واتوني مسلمين وفي بعض الآثار أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ السلام على من اتبع الهدى إلى آخر ما ذكر ولعلها على ما هو الظاهر عرفت أنهم المعنيون بالخطاب من قرائن الأحوال وقد تضمن ما قصه سبحانه البسملة التي هي هي في الدلالة على صفاته تعالى صريحا والتزاما والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل والأمر بالاسلام الجامع لأمهات الفضائل فياله كتاب في غاية الايجاز ونهاية الاعجاز وعن قتادة كذلك كانت الانبياء عليهم السلام تكتب جملا لايطيلون ولا يكثرون
هذا ولم أر في الآثار ما يشعر بانه عليه السلام كتب ذلك على الكاغد أو الورق أو غيرهما واشتهر على ألسنة الكتاب أن الكتاب كان من الكاغد المعروف وأن الهدهد أخذه من طرفه بمنقاره فابتل ذلك الطرف بريقه وذهب منه شيء وكان ذلك الزاوية اليمنى من جهة أسفل الكتاب وزعموا أن قطعهم شيئا من القرطاس من تلك الزاوية تشبيها لما يكتبونه بكتاب سليمان عليه السلام وهذا مما لايعول عليه ولسائر أرباب الصنائع والحرف حكايات من هذا القبيل وهي عند العقلاء أحاديث خرافة
قالت يا أيها الملؤا أفتوني في أمري كررت حكاية قولها للايذان بغاية اعتنائها بما في حيزها والافتاء على ما قال صاحب المطلع الاشارة على المستفتي فيما حدث له من الحادثة بما عند المفتي من الرأي والتدبير وهو إزالة ما حدث له من الاشكال كالاشكاء إزالة الشكوى وفي المغرب اشتقاق الفتوى من الفتى لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل وأيا ما كان فالمعنى أشيروا علي بما عندكم من الرأي والتدبير فيما حدث لي وذ : رت لكم خلاصته وقصدت بما ذ : رت استعطافهم وتطييب نفوسهم ليساعدوها ويقوموا معها وأكدت ذلك بقولها ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون
23
- أي ما أقطع أمرا من الأمور المتعلقة بالملك إلا بمحضركم وبموجب آرائكم والاتيان بكان للايذان بانها استمرت على ذلك أو لم يقع منها غيره في الزمن الماضي فكذا في هذا و حتى تشهدون غاية للقطع
واستدل بالآية على استحباب المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة وفي قراءة عبد الله ما كنت قاضية أمرا قالوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولها كأنه قيل : فماذا قالوا في جوابها فقيل قالوا : نحن أولوا قوة في الأجساد والعدد وأولوا بأس شديد أي نجدة وشجاعة مفرطة وبلاء في الحرب قيل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلا كل واحد على عشرة الآف وروي ذلك عن قتادة
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان لصاحبة سليمان اثنا عشر الف قيل تحت يد كل قيل مائة الف وقيل : كان تحت يدها مائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة الف مقاتل
(19/197)

ولها ثلثمائة وزير يدبرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد كل قائد تحت يده اثنا عشر ألف مقاتل وهذه الاخبار إلى الكذب أقرب منها إلى الصدق ولعمري أن أرض اليمن لتكاد تضيق عن العدد الذي تضمنه الخبران وليت شعري ما مقدار عدد رعيتها الباقين الذين تحتاج إلى هذا العسكر والقواد والوزراء لسياستهم وضبط أمورهم وتنظيم أحوالهم والأمر اليك تسليم للأمر اليها بعد تقديم ما يدل على القوة والشجاعة حتى لايتوهم أنه من العجز والأمر بمعناه المعروف أو المعنى الشأن وهو مبتدأ واليك متعلق بمحذوف وقع خبرا له ويقدر مؤخرا ليفيد الحصر المقصود لفهمه من السياق اي والأمر اليك موكول
فانظري ماذا تأمرين
33
- من الصلح والمقاتلة نطعك ونتبع رأيك وقيل : أرادوا نحن أبناء الحرب لامن أبناء الرأي والمشورة واليك الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نكن في الخدمة فلما أحست منهم الميل للحرب والعدول عن السنن الصواب شرعت في تزييف مقاتلتهم المنبئة عن الغفلة عن شأن سليمان عليه السلام حسبما تعتقده وذلك قوله تعالى : قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية منن القرى على منهاج المقاتلة والحرب أفسدوها بتخريب عماراتها واتلاف ما فيها من الأموال
وجعلوا أعزة أهلها أذلة بالقتل والأسر والاجلاء وغير ذلك من فنون الاهانة والاذلال ولم يقل وأذلوا أعزة أهلها مع أنه أخصر للمبالغة في التصيير والجعل وكذلك يفعلون
43
- تصديق لها من جهته عز و جل على أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أو هو من كلامها جاءت به تأكيدا لما وصفت من حالهم بطريق الاعتراض التذييلي وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة فالضمير للملوك وقيل : هو لسليمان ومن معه فيكون تأسيسا لاتأكيدا وتعقب بان التأكيد لازم على ذلك أيضا لاندراج تحت الكلية وكأنها أرادت على ما قيل ان سليمان ملك الملوك هذا شأنهم وغلتنا عليه غير محققة ولا اعتماد على العدد والعدة والشجاعة والنجدة فربما يغلبنا فيكون مايكون فالصلح خير وقيل : إنها غلب على ظنها غلبته حيث رأت أنه سخر له الطير فجعل يرسله بامر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب فأشارت لهم إلى أنه يغلب عليهم إدا قاتلوه فيفسد القرى ويذل الأعزة وأفسدت بذلك رأيهم وما أحسته منهم من الميل إلى مقاتلته عليه السلام وقررت رأيها بقولها : وإني مرسلة اليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون
53
- حتى أعمل بما يقتضيه الحال وهذا ظاهر في أنها لم تثق بقبوله عليه السلام هديتها
وروي أنها قالت لقومها : إن كان ملكا دنيويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك وإن كان نبيا لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه والهدية اسم لما يهدي كالعطية اسم لما يعطى والتنوين فيها للتعظيم وناظرة عطف على مرسلة و بم متعلق بيرجع ووقع للحوفي أنه متعلق بناظرة وهو وهم فاحش كما في البحر والنظر معلق والجملة في موضع المفعول به له والجملة الاسمية الدالة على الثبات المصدرة بحرف التحقيق للايذان بانها مزمعة على رأيها لايلويها عنه صارف ولايثنيها عاطف
واختلف في هديتها فعن ابن عباس أنها كانت مائة وصيف ومائة وصيفة وقال وهب وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة جارية فالبست الجواري لبس الغلمان الاقبية والمناطق وألبست الغلمان
(19/198)

لباس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة وشنوفا مرصعة بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجواهر وعليه أغشية الديباج وبعثت اليه لبنات من ذهب ولبنات من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت وأرسلت بالمسك والعنبر والعود وعمدت الى حق فجعلت فيه درة عذراء وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت اليه رجالا من قومنها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتابا تذكر فيه الهدية وقالت فيه : إن كنت نبيا ميز بين الغلمان والجواري وأخبر بما في الحق قبل أن تفتحه ثم قالت للرسول : فان أخبر فقل له اثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل في الخرزة خيطا من غير علاج انس ولا جن وقالت للغلمان : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام في تأنيث وتخنث يشبه كلام النساء وأمرت الجواري أن يكلموه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال ثم قالت للرسول : أنظر إلى الرجل إذا دخلت فان نظر اليك نظرا فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فانا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم أنه نبي فتفهم منه قوله ورد الجواب فانطلق الرجل بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر فأمر عليه السلام الجن أن يضربوا لبنا من الذهب والفضة ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار تسع فراسخ وأن يفرشوا فيه لبن الذهب والفضة وأن يخلوا قدر تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حول الميدان حائطا مشرفا من الذهب والفضة ففعلوا ثم قال : أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا : يا نبي الله ما رأينا أحسن من دواب البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص قال علي بها الساعة فأتوه بها قال : شدوها عن يمين الميدان وشماله وقال للجن : علي باولادكم فاجتمع منهم خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان وعلى شماله وأمر الجن والانس والشياطين والوحوش والسباع والطير ثم قعد في مجلسه على سريره ووضع أربعة آلاف كرسي على يمينه وعلى شماله وأمر جميع الانس والجن والشياطين والوحوش والسباع والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان عليه السلام ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها ترث على لبن الذهب والفضة تصاغرت اليهم أنفسهم وخبؤا ما كان معهم من الهدايا وقيل : إنهم لما رأوا ذلك الموضع الخالي من اللبنات خاليا خافوا أن يتهموا بذلك فوضوعوا ما معهم من اللبن فيه ولما نظروا إلى الشياطين هالهم مارأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين : جوزوا لابأس عليكم وكانوا يمرون على كراديس الجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم ملقى حسنا وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاءوا فيه واعظاه الكتاب فنظر فيه وقال : أين الحق فأتي به فحركه فجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما فيه فقال لهم : إن فيه درة غير مثقوبة وجزعة معوجة الثقب قال الرسول : صدقت فاثقب الدرة وأذخل الخيط في الجزعة فقال سليمن عليه السلام من لي بثقبها وسال الجن والأنس فلم يكن عندهم علم ذلك ثم سأل الشياطين فقالوا نرسل الى الأرضة فلما جاءت أخذت شعرة بفيها ونفذت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها : ما حاجتك قالت : تصير رزقي في الشجر فقال : لك ذلك ثم قال : من لهذه الخرزة فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا نبي الله فأخذت الخطي بفيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال : ما حاجتك قالت : يكون رزقي في الفواكه فقال : لك ذلك ثم ميز
(19/199)

بين الغلمان والجواري أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب بها الأخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيده ويضرب به وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعديها والغلام على ظاهره ثم رد سليمن عليه السلام الهدية كما أخبر الله تعالى وقيل : إنها أنفذت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير وقالت : أريد أن تعرفني رأسها من اسفلها وبدقدح ماء وقالت : تملؤه ماء رواء ليس من الارض ولا من السماء فأرسل عليه السلام العصا إلى الهواء وقال أي الطرفين سبق إلى الأرض فهو أصلها وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها وقال : هذا ليس من ماء الأرض ولا من ماء السماء اه وكل ذلك أخبار لايدرى صحتها ولا كذبها ولعل في بعضها ما يميل القلب إلى القول بكذبه والله تعالى أعلم
فلما جاء سليمن في الكلام حذف أي فارسلت الهدية فلما جاء الخ وضمير جاء وجوز أن يكون لما أهدت اليه والأول أولى وقرأ عبد الله فلما جاؤا أي المرسلون قال أتمدونن بمال خطاب للرسول والمرسل تغليبا للحاضر على الغائب واطلاقا للجمع على الاثنين وجوز أن يكون للرسول ومن معه وهو أوفق بقراءة عبد الله ورجح الأول لما فيه من تشديد الانكار والتوبيخ المستفادين من الهمزة على ما قيل وتعميمهما لبلقيس وقومها وأيد بمجيء قوله تعالى ارجع اليهم بالافراد وتنكير مال للتحقير
وقرأ جمهور السبعة تمدونن بنونين وأثبت بعض الياء وقرأ حمزة بادغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم وقرأ المسيبي عن نافع بنون واحدة خفيفة والمحذوف نون الوقاية وجوز أن يكون الأولى فرفعه بعلامة مقدرة كما قيل في قوله : أبيت اسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي فما ءاتاني الله أي من النبوة والملك الذي لاغاية وراءه خير مما ءاتيكم أي من المال الذي من جملته ما جئتم به وقيل : عني بما آتاه المال لأنه المناسب للمفضل عليه والأول أولى لأنه أبلغ والجملة تعليل للانكار والكلام كناية عن عدم القبول لهديتهم وليس المراد منه الافتخار بما أوتيه فكأنه قيل : انكر امدادكم إياي بمال لأن ما عندي خير منه فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي والظاهر أن الخطاب المذكور كان أول ما جاؤه كما يؤذن به قوله تعالى : فلما جاء سليمان الخ ولعل ذلك لمزيد حرصه على ارشادهم إلى الحق وقيل : لعله عليه السلام قال لهم ما ذكر بعد أن جرى بينهم وبينه ما جرى مما في خبر وهب وغيره واستدل بالآية على استحباب رد هدايا المشركين
والظاهر أن الأمر كذلك إذا كان في الرد مصلحة دينية لامطلقا وإنما لم يقل : وما آتاني الله خير مما آتاكم لتكون الجملة حالا لما أن مثل هذه الحال وهي الحال المقررة للاشكال يجب أن تكون معلومة بخلاف العلة وهي هنا ليست كذلك وقوله تعالى بل أنتم بهديتكم تفرحون
63
- اضراب عما ذكر من انكار الامداد بالمال وتعليله إلى بيان ما حملهم عليه من قياس حاله عليه السلام على حالهم وهو قصور همتهم على الدنيا والزيادة فيها فالمعنى أنتم تفرحون بما يهدى اليكم لقصور همتكم على الدنيا وحبكم الزيادة فيها ففي ذلك من الحط عليهم ما لايخفى والهدية مضافة إلى المهدى اليه وهي تضاف إلى ذلك كما تضاف إلى المهدى أو اضراب
(19/200)

عن ذلك إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم التي أهدوها اليه عليه السلام وفرح افتخار وامتنان واعتداد بها وفائدة الاضراب التنبيه على أن امداده عليه السلام بالمال منكر قبيح وعد ذلك مع أنه لاقدر له عنده عليه السلام مما يتنافس فيه المتنافسون أقبح والتوبيخ به أدخل وقيل : وينبيء عن اعتدادهم بتلك الهدية التنكير في قول بلقيس : وإني مرسلة اليهم بهدية بعد عدها إياه عليه السلام ملكا عظيما
وكذأ ما تقدم في خبر وهب وغيره من حديث الحق والجزعة وتغيير زي الغلمان والجواري وغير ذلك وقيل : فرحهم بما أهدوه اليه عليه السلام من حيث توقعهم به ما هو أزيد منه فان الهدايا للعظماء قد تفيد ما هو أزيد منها مالا أو غيره كمنع تخريب ديارهم هنا وقيل : الكلام كناية عن الرد والمعنى أنتم من حقكم تفرحوا بأخذ الهدية لا أنا فخذوها وافرحوا وهو معنى لطيف إلا أن فيه خفاء ارجع أمر للرسول ولم يجمع الضمير كما جمعه فيما تقدم من قوله : أتمدونني الخ لاختصاص الرجوع به بخلاف الامداد نحوه وقيل : هو أمر للهدهد محملا كتابا آخر وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن زهير بن زهير
وتعقب بأنه ضعيف دراية ورواية وقرأ عبد الله ارجعوا على أنه أمر للمرسلين والفعل هنا لازم أي انقلب وانصرف اليهم أي إلى بلقيس وقومها فلنأتينهم أي فوالله لنأتينهم بجنود لاقبل لهم بها أي لاطاقة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وأصل القبل المقابلة فجعل مجازا أو كناية عن الطاقة والقدرة عليها وقرأ عبد الله بهم ولنخرجنهم عطف على جواب القسم منها أي من سبأ أذلة أي حال كونهم أذلة بعدما كانوا فيه من العز والتمكين وفي جمع القلة تأكيد لذلتهم وقوله تعالى : وهم صاغرون
73
- حال أخرى والصغار وإن كان بمعنى الذل إلأ أن المراد به هنا وقوعهم في أسر واستعباد فيفيد الكلام أن إخراجهم بطريق الاسر لابطريق الاجلاء وعدم وقوع جواب القسم لأنه كان معلقا بشرط قد حذف عند الحكاية ثقة بدلالة الحال عليه كأنه قيل : ارجع اليهم فليأتوني مسلمين وإلا فلنأتينهم الخ
قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين
83
- في الكلام حذف أي فرجع الرسول اليها وأخبرها بما أقسم عليه سليمان فتجهزت للمسير اليه إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتاله فروي أنها أمرت عند خروجها فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في جوف بعض في آخر قصر من قصورها وغلقت الأبواب ووكلت به حراسا يحفظونه وتوجهت إلى سليمان في أقيالها وأتباعهم وأرسلت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو اليه من دينك قال عبد الله بن شداد : فلما كانت على فرسخ من سليمان قال : أيكم يأتيني بعرشها
وعن ابن عباس كان سليمان مهيبا لايبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه فقال : ماهذا فقالوا : بلقيس فقال : أيكم الخ ومعنى مسلمين على روي عنه طائعين وقال بعضهم : هو بمعنى مؤمنين واختلفوا في مقصوده عليه السلام من استدعائه عرشها فعن ابن عباس وابن زيد أنه عليه السلام استدعى ذلك ليريها القدرة التي هي من عند الله تعالى وليغرب عليها ومن هنا قال في الكشاف لعله
(19/201)

أوحىأوحى اليه عليه للسلام باستيثاقها من عرشها فاراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى : من اجراء العجائب على يده مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى وعلى ما يشهد لنبوة سليمن عليه السلام ويصدقها انتهى وتقييد الاتيان بقوله قبل الخ لما أن ذلك أبدع وأغرب وأبعد من الوقوع عادة وأذل على عظيم قدرة الله عز و جل وصحة نبوته عليه السلام وليكون اطلاعها على بدائع المعجزات في أول مجيئها
وقال الطبري : أراد عليه السلام أن يختبر صدق الهدهد في قوله ولها عرش عظيم واستبعد ذلك لعدم احتياجه عليه السلام إلى هذا الاختبار فان أمارة الصدق في ذلك في غاية الوضوح لديه عليه السلام لاسيما إذا صح ما روي عن وهب وغيره وقيل : أراد أن يؤتي به فينكر ويغير ثم ينظر أتثبته أم تنكره اختبارا لعقلها
وقال قتادة وابن جريج : إنه عليه السلام أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الايمان ويمنع أخذ أموالهم قال في الكشف : فيه أن حل الغنائم مما أختص به نبينا صلى الله عليه و سلم وقال في التحقيق لايناسب رد الهدية وتعليله بقوله فما آتاني الله خير مما آتاكم وأجيب بان هذا ليس من باب أخذ الغنائم وإنما هو من باب أخذ مال الحربي والتصرف بغير رضاه مع أن الظاهر أنه يوحي فيجوز من خصوصياته لحكمة ولم يكن ذلك هدية لها حتى لايناسب الرد السابق وفيه بحث ولعل الالصق بالقلب أن ذاك لينكره فيمتحنها اختبارا لعقلها مع اراءتها بعض خوارقه الدالة على صحة نبوته وعظيم قدرة الله عز و جل ثم الظاهر أن هذا القول بعد رد الهدية وهو الذي عليه الجمهور
وفي رواية عن ابن عباس أنه عليه السلام قال ذلك حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال ولها عرش عظيم ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير واظن أنه لايصح هذا عن ابن عباس قال عفريت أي خبيث مارد من الجن بيان له إذ يقال للرجل الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه وقرأ أبو حيوة عفريت بفتح العين وقرأ ابو رجاء وأبو السمال وعيسى ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عفريت بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء بعدها ياء مفتوحة بعدها تاء التأنيث وقال ذو الرمة : كأنه كوكب في أثر عفرية مصوب في سواد الليل منقضب وقرأت فرقة عفر بلاياء ولا تاء ويقال في لغة طيء وتميم : عفراة بالف بعدها تاء التأنيث وفيه لغة سادسة عفارية وتاء عفريت زائدة للمبالغة في المشهور وفي النهاية الياء في عفرية وعفارية للالحاق بشرذمة وعذافرة والهاء فيها للمبالغة والتاء في عفريت للالحاق بقنديل اه واسم هذا العفريت على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس صخر
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شعيب الجبائي أن اسمه كوزن وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد ابن رومان ان اسمه كرزي وقيل : اسمه ذكوان أنا ءاتيك به أي بعرشها وآتي يحتمل أن يكون مضارعا وان يكون اسم فاعل قيل : وهو الانسب بمقام ادعاء الاتيان به في المدة المذكورة في قوله تعالى : قبل أن تقوم من مقامك أي من مجلسك الذي تجلس في للحكومة وكان عليه السلام يجلس في الصبح إلى الظهر في كل يوم قاله قتادة ومجاهد ووهب وزهير بن محمد وقيل : أي قبل أن تستوي من جلوسك قائما وإني عليه لقوي لايثقل علي حمله والقوة صفة تصدر عنها الأفعال الشاقة ويطيق بها من قامت
(19/202)

به لتحمل الأجرام العظيمة ولذا اختير قوي على قادر هنا وظاهر كلام بعضهم أن في الكلام حذفا فمنهم من قال : اي على حمله ومنهم قال : أي على الاتيان به ورجح الثاني بالتبادر نظرا إلى أول الكلام والأول بانه أنسب بقوله لقوي أمين
93
- لاأقتطع منه شيئا ولا أبدله قال الذي عنده علم من الكتاب فصله عما قبله للايذان بما بين القائلين ومقالتيهما وكيفيتي قدرتيهما على الاتيان به من كمال التباين أو لاسقاط الأول عن درجة الاعتبار واختلف في تعيين هذا القائل فالجمهور ومنهم ابن عباس ويزيد بن رومان والحسن على أنه آصف بن برخيا بن شمعيا بن منكيل واسم امه باطورا من بني اسرائيل كان وزير سليمان على المشهور وفي مجمع البيان أنه وزيره وابن أخته وكان صديقا يعلم الاسم الاعظم وقيل كان كاتبه
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه رجل اسمه اسطوم وقيل : اسطورس
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه رجل يقال له ذو النور وأخرج هو أيضا عن ابن لهيعة أنه الخضر عليه السلام وعن قتادة أن اسمه مليخا وقيل : ملخ وقيل : تمليخا وقيل : هود وقالت جماعة هو ضبة ابن أد جد بني ضبة من العرب وكان فاضلا يخدم سليمان كان على قطعة من خيله وقال النخعي هو جبريل عليه السلام وقيل : هو ملك آخر أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام وقال الجبائي هو سليمان نفسه عليه السلام
ووجه الفصل عليه واضح فان الجملة حينئذ مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : فما قال سليمان عليه السلام حين قال العفريت ذلك فقيل : قال الخ ويكون التعبير عنه بما في النظم الكريم للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه ويكون الخطاب في قوله : أنا ءاتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك للعفريت وإنما لم يأت به أولا بل استفهم القوم بقوله أيكم يأتيني بعرشها ثم قال ما قال وأتي به قصدا الآن يريهم أنه يتأتى له مالا يتهيأ لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم وتخصيص الخطاب بالعفريت لأنه الذي تصدى لدعوى القدرة على الاتيان به من بينهم وجعله لكل أحد كما في قوله تعالى ذلك أدنى أن لاتعولوا غير ظاهر بالنسبة إلى ما ذكر
وآثر هذا القول الامام وقال انه أقرب لوجوه الاول أن الموصول موضوع في اللغة لشخص معين بمضمون الصلة المعلومة عند المخاطب والشخص المعلوم بأن عنده علم الكتاب هو سليمان وقد تقدم في هذه السورة ما يستأنس به لذلك فوجب ارادته وصرف اللفظ اليه وآصف وان شاركه في مضمون الصلة لكن هو فيه أتم لأنه نبي وهوأعلم بالكتاب من امته الثاني ان احضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لاحد من امته دونه لاقتضي تفضيل ذلك عليه عليه السلام وانه غير جائز الثالث أنه لو افتقر في احضاره الى أحد من امته لاقتضي قصور حاله في اعين الناس
الرابع أن ظاهر قوله عليه السلام فيما بعد هذا من فضل ربي الخ يقتضي أن ذلك الخارق قد أظهره الله تعالى بدعائه عليه السلام اه وللمناقشة فيه مجال واعترض على هذا القول بعضهم بأن الخطاب في آتيك يأباه فان حق الكلام عليه أن يقال : ان آتي به قبل أن يرتد إلى الشخص طرفه مثلا وقد علمت دفعه وبأن المناسب أن يقال فيما بعد فلما أتي به دون فلما رآه الخ وأجيب عن هذا بان قوله ذاك للاشارة إلى أنه لاحول ولا قوة له فيه ولعل الأظهر أن القائل أحد اتباعه ولا يلزم من ذلك أنه عليه السلام لم يكن قادرا على الاتيان به
(19/203)

كذلك فان عادة الملوك تكليف أتباعهم بمصالح لهم لايعجزهم فعلها بأنفسهم فليكن ما نحن فيه جاريا على هذه العادة ولا يضر في ذلك كون الغرض مما يتم بالقول وهو الدعاء ولا يحتاج إلى أعمال البدن واتعابه كما لايخفى
وفي فصوص الحكم كان ذلك على يد بعض أصحاب سليمان عليه السلام ليكون أعظم لسليمان في نفس الحاضرين وقال القيصري : كان سليمان قطب وقته متصرفا وخليفة على العالم وكان آصف وزيره وكان كاملا وخوارق العادات قلما تصدر من الاقطاب والخلفاء بل من وراثهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلي فلا يتصرفون لأنفسهم في شيء ومن منن الله تعالى عليهم أن يزقهم صحبة العلماء الأمناء يحملون منهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم اه وما في الفصوص أقرب لمشرب أمثالنا على أن ما ذكر لايخلوا عن بحث على مشرب القوم أيضا
وفي مجمع البيان روى العياشي باسناده قال : التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى ويحيى بن أكثم فسأله عن مسائل منها : هل كان سليمان محتاجا إلى علم آصف فلم يجب حتى سأل أخاه علي بن محمد فقال : أكتب له لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف ءاصف لكنه عليه السلام احب أن يعرف أمته من الجن والانس أنه الحجة من بعده وذلك من علم سليمان أودعه ءاصف بامر الله ففهمه الله تعالى ذلك لئلا يختلف في إمامته كما فهم سليمان في حياة داود لتعرف أمامته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق اه وهو كما ترى والمراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب المنزلة وقيل اللوح المحفوظ وكون المراد به ذلك على جميع الأقوال السابقة في الموصول بعيدا جدا وقيل : المراد به الذي أرسل إلى بلقيس ومن ابتدائية وتنكير علم للتفخيم والرمز إلى أنه علم غير معهود قيل : كان ذلك العلم باسم الله تعالى الأعظم الذي إذا سئل به أجاب وقد دعا ذلك العالم به فحصل غرضه وهو ياحي يا قيوم وقيل يا ذا الجلال والاكرام وقيل الله الرحمن وقيل : هو بالعبرانية آهيا شراهيا
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الزهري أنه دعا بقوله : يا الهنا وإله كل شيء الها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها والطرف تحريك الاجفان وفتحها للنظر إلى شيء ثم تجوز به عن النظر وارتداده انقطاعه بانضمام الأجفان ولكونه أمرا طبيعيا غير منط بالقصد أوثر الارتداد فالمعنى ءاتيك به قبل أن ينظم جفن عينيك بعد فتحه وقيل : لا حاجة إلى اعتبار التجوز في الطرف إذ المراد قبل ارتداد تحريك الأجفان بطبقها بعد فتحها وفيه نظر والكلام جار على حقيقته وليس من باب التمثيل للسرعة فقد روي أن آصف قال لسليمان عليه السلام : مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد طرفه فنظر نحو اليمين فقبل أن يرتد اليه حضر العرش عنده وقيل : هو من باب التمثيل فيحتمل أن يكون قد أتي به في مدة طلوع درجة أو درجتين أو نحو ذلك
وعن ابن جبير وقتادة أن الطرف بمعنى المطروف أي من يقع اليه النظر وأن المعنى قبل أن يصل اليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى إدا نظرت أمامك وهو كما ترى فلما رءاه مستقرا عنده أي فلما
(19/204)

رأي سليمان عليه السلام العرش ساكنا عنده قارا على حاله التي كان عليها قال تلقيا للنعمة بالشكر جريا على سنن إخوانه الأنبياء عليهم السلام وخلص عباد الله عز و جل هذا أي الاتيان بالعرش أو حضوره بين يدي في هذه المدة القصيرة وقيل : أي التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات من فضل ربي أي تفضله جل شأنه علي من غير استحقاق ذاتي لي له ولا عمل مني يوجبه عليه سبحانه وتعالى وفي الكلام حذف أي فأتاه به فرآه فلما رآه الخ وحذف ما حذف للدلالة على كمال ظهوره واستغنائه عن الاخبار به وللايذان بكمال سرعة الاتيان به كأنه لم يقع بين الوعد به ورؤيته عليه السلام إياه شيء ما أصلا وفي تقييد رؤيته باستقراره عنده تأكيدا لهذا المعنى لايهامه أنه لم يتوسط بينهما ابتداء الاتيان أيضا كانه لم يزل موجودا عنده فمستقرا منتصب على الحال و عنده متعلق به وهو على ما أشرنا اليه كون خاص ولذا ساغ ذكره وظن بعضهم أنه كون عام فأشكل عليهم ذكره مع قول جمهور النحاة : إن متعلق الظرف إذا كان كونا عاما وجب حذفه فالتزم بعضهم لذلك كون الظرف متعلقا برءاه لابه ومنهم من ذهب كابن مالك إلى أن حذف ذلك أغلبي وانه قد يظهر كما في هذه الآية وقوله : لك العز ان مولاك عز وإن يهن فانت لدى بحبوحة الهون كائن وأنت تعلم أنه يمكن اعتبار ما في البيت كونا خاصا كالذي في الآية وفي كيفية وصول العرش اليه عليه السلام حتى رآه مستقرا عنده خلاف فاخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس أنه قال لم يجر عرش صاحبة سبأ بين السماء والارض ولكن انشقت به الارض فجرى تحت الارض حتى ظهر بين يدي سليمان والى هذا ذهب مجاهد وابن سابط وغيرهما وقيل نزل بين يدي سليمان عليه السلام من السماء وكان عليه السلام اذ ذاك في أرض الشام على ما قيل رجع اليها من صنعاء وبينها وبين مأرب محل العرش نحو مسافة شهرين وعلى القول بانه كان في صنعاء فالمسافة بين محله ومحل العرش نحو ثلاثة أيام وأيا ما كان فقطعه المسافة الطويلة في الزمن القصير أمر ممكن وقد أخبر بوقوعه الصادق فيجب قبوله وقد اتفق البر والفاجر على وقوع ما هو أعظم من ذلك وهو قطع الشمس في طرفة عين آلافا من الفراسخ مع أن نسبة عرش بلقيس إلى جرمها نسبة الذرة إلى الجبل وقال الشيخ الأكبر قدس سره إن آصف تصرف في عين العرش فاعدمه في موضعه وأوجده عند سليمان من حيث لايشعر أحد بذلك إلا من عرف الخلق الجديد الحاصل في كل آن وكان زمان وجوده عين زمان عدمه وكل منهما في آن وكان عين قول آصف عين الفعل في الزمان فان القول من الكامل بمنزلة كن من الله تعالى
ومسألة حصول العرش من اشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه من الايجاد والاعدام فما قطع العرش مسافة ولا زويت له أرض ولا خرقها اه ملخصا وله تتمة ستأتي إن شاء الله تعالى وما ذكره من أنه كان بالاعدام والايجاد مما يجوز عندي وإن لم أقل بتجدد الجواهر تجدد الأعراض عند الاشعري إلا أنه خلاف ظاهر الآية واستدل بها على ثبوت الكرامات
وأنت تعلم ان الاحتمال يسقط الاستدلال وعلل عليه السلام تفضله تعالى بذلك عليه بقوله ليبلوني أي ليعاملني معاملة المبتلى أي المختبر ءأشكر على ذلك بان أراه محض فصله تعالى من غير حول من جهتي
(19/205)

ولاولا قوة واقوم بحقه أم أكفر بان أجد لنفسي مدخلا في البين أو أقصر في إقامة مواجبه كما هو شأن سائر النعم الفائضة على العباد وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن جريج أن المعنى ليبلوني أأشكر إذا أتيت بالعرش أم أكفر إذا رأيت من هو أدنى مني في الدنيا أعلم مني ونقل مثله في البحر عن ابن عساكر والظاهر عدم صحته وأبعد منه عن الصحة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال لما رآه مستقرا عنده جزع وقال : رجل غيري أقدر على ما عند الله عز و جل مني ولعل الحق الجزم بكذب ذلك وجملة أأشكر الخ في موضع نصب على أنها مقعول ثان لفعل البلوى وهو معلق بالهمزة عنها إجراء له جرى العلم وإن لم يكن مرادفا له
وقيل : محله النصب على البدل من الياء ومن شكر فانما يشكر لنفسه أي لنفعها لأنه يربط به القيد ويستجلب المزيد ويحط به عن ذته عبء الواجب ويتخلص عن وصمة الكفران ومن كفر أي لم يشكر فان ربي غني 9 عن شكره كريم
4
- بترك تعجيل العقوبة والانعام مع عدم الشكر أيضا والظاهر أن من شرطية والجملة المقرونة بالفاء جواب الشرط وجوز أن يكون الجواب محذوفا دل عليه ما قبله من قسيمه والمذكور قائم مقامه أي ومن كفر فعلى نفسه اي فضرر كفرانه عليها وتعقب بانه لايناسب قوله كريم وجوز أيضا أن تكون من موصولة وذخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط قال أي سليمان عليه السلام كررت الحكاية مع كون المحكي سابقا ولاحقا من كلامه عليه السلام تنبيها عل ما بين السابق واللاحق من المخالفة لما ان الأول من باب الشكر لله عز و جل والثاني أمر لخدمه نكروا لها عرشها أي اجعلوه بحيث لايعرف ولايكون ذلك إلا بتغييره عما كان عليه من الهيئة والشكل ولعل المراد التغيير في الجملة روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك إنه كان بالزيادة فيه والنقص منه وقيل : بنزع ما عليه من الجواهر وقيل : بجعل اسفله أعلاه ومقدمه مؤخره ولام لها للبيان كما في هيت لك فيدل على أنها المرادة خاصة بالتنكير ننظر بالجزم على أنه جواب الأمر
وقرأ أبو حيوة بالرفع على الاستئناف أتهتدي إلى معرفته أو إلى الجواب اللائق بالمقام وقيل : إلى الايمان بالله تعالى ورسوله عليه السلام إدا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليه الحراس والحجاب وحكاه الطبرسي عن الجبائي وفيه أنه لايظهر مدخلية التنكير في الايمان أم تكون أي بالنسبة إلى علمنا من الذين لايهتدون
14
- أي إلى ما ذكر من معرفة عرشها أو الجواب اللائق بالمقام فان كونها في نفس الأمر منهم وإن كان أمرا مستمرا لكن كونها منهم عند سليمان عليه السلام وقومه أمر حادث يظهر بالاختبار فلما جاءت شروع في حكاية التجربة التي قصدها سليمان عليه السلام أي فلما جاءت بلقيس سليمان وقد كان العرش منكرا بين يديه قيل أي من جهة سليمان بالذات أو بالواسطة أهكذا عرشك أي أمثل هذا العرش الذي ترينه عرشك الذي تركتيه ببلادك ولم يقل : أهذا عرشك لئلا يكون تلقينا لها فيفوت ما هو المقصود من الأمر بالتنكير من إبراز العرش في معرض الاشكال والاشتباه حتى يتبين لديه عليه السلام حالها وقد ذكرت عنده عليه السلام بسخافة العقل
(19/206)

وفي بعض الآثار أن الجن خافوا من أن يتزوجها فيرزق منها ولدا يحوز فطنة الانس وخفة الجن حيث كانت لها نسبة اليهم فيضبطهم ضبطا قويا فرموها عنده بالجنون وأن رجلها كحوافر البهائم فلذا اختبرها بهذا وبما يكون سببا في الكشف عن ساقيها ومن لم يقل بنسبتها الى الجن : يقول لعلها رماها حاسد بذلك فأراد عليه السلام اختبارها ليقف على حقيقة الحال ومنهم من يقول ليس ذاك إلا ليقابلها بمثل ما فعلت هي حيث نكرت له الغلمان والجواري وامتحنته عليه السلام بالدرة العذراء والجزعة المعوجة الثقب وكون ذلك في عرشها الذي يبعد كل البعد احضاره مع بعد المسافة وشدة محافظتها له أتم وأقوى ويتضمن أيضا من إظهار المعجزة مالايخفى وهذا عندي ألصق بالقلب من غيره قالت كأنه هو أجابت بما أنبأ عن كمال رجاحة عقلها حيث لم تجزم بانه هو لاحتمال أن يكون مثله بل أتت بكأن الدالة كما قيل على غلبة الظن في اتحاده معه مع الشك في خلافه وليست كأن هنا للدلالة على التشبيه كما هو الغالب فيها
وذكر ابن المنير في الانتصاف ما يدل على أنها تفيد قوة الشبه فقال : الحكمة في عدول بلقيس في الجواب عن هكذا هو المطابق للسؤال إلى كأنه هو عبارة من قوي عنده الشبه حتى شك نفسه في التغاير بين الأمرين وكاد يقول هو هو وتلك حال بلقيس وأما هكذأ هو فعبارة جازم بتغاير الأمرين حاكم بوقوع الشبه بينهما لاغير فلا تطابق حالها فلذا عدلت عنها إلى ما في النظم الجليل
وأوتينا العمل من قبلها وكنا مسلمين
24
- من تتمة كلامها على ما اختاره جمع من المفسرين كانها استشعرت مما شاهدته اختبار عقلها واظهار معجزة لها ولما كان الظاهر من السؤال هو الأول سارعت إلى الجواب بما أنبأ عن كمال رجاحة عقلها ولما كان إظهار المعجزة دون ذلك في الظهور ذكرت ما يتعلق به ءاخرا وهو قولها : وأوتينا الخ وفيه دلالة على كمال عقلها أيضا ومعناه وأوتينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة بما شاهدناه من أمر الهدهد وما سمعناه من رسلنا اليك من الآيات الدالة على ذلك وكنا مؤمنين من ذلك الوقت فلا حاجة إلى إظهار هذه المعجزة ولك أن تجعله من تتمة ما يتعلق بالاختبار وحاصله لاحاجة إلى الاختبار لأني ءامنت قبل وهدا كاف في الدلالة على كمال عقلي
وجوز أن يكون لبيان منشأ غلبة الظن بأنه عرشها والداعي إلى حسن الأدب في محاورته عليه السلام أي وأوتينا العلم باتيانك العرش من قبل الرؤية أو من قبل هذه الحالة بالقرائن أو الاخبار وكنا من ذلك الوقت مؤمنين والتعبير بنون العظمة جار على سنن تعبيرات الملوك وفيه تعظيم لأمر اسلامها وليس ذاك لارادة نفسها ومن معها من قومها إذ يبعده قوله تعالى وصدها ما كانت تعبد من دون الله وهو بيان من جهته عز و جل لما كان يمنعها من اظهار ما ادعت من الاسلام إلى الآن أي صدها عن إظهار ذلك يوم أوتيت العلم الذئ يقتضيه عبادتها القديمة للشمس فما مصدرية والمصدر فاعل صد وجوز كونها موصولة واقعة على الشمس وهي فاعل أيضا والاسناد مجازي على الوجهين
وقوله تعالى : إنها كانت من قوم كافرين
34
- تعليل لسببية عبادتها المذكورة للصد أي أنها كانت من قوم راسخين في الكفر فلذلك لم تكن قادرة على إظهار اسلامها وهي بين ظرانيهم إلى أن حضرت بين يدي
(19/207)

سليمانسليمان عليه السلام وقرأ سعيد بن جبير وابن أبي عبلة أنها بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل أي لأنها أو جعل المصدر بدلا من فاعل صد بدل اشتمال وقيل : قوله تعالى وأوتينا الخ من كلام قوم سليمان عليهم السلام كأنهم لما سمعوها أجابت السؤال بقولها : كأنه هو قالوا : قد أصابت في جوابها فطبقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الاسلام وعلمت قدرة الله عز و جل وصحة النبوة بالآيات التي تقدمت وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها وعطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا العلم بالله تعالى وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده سبحانه قبل علمها ولم نزل على دين الاسلام وكان هذا منهم شكرا لله تعالى على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله تعالى والاسلام قبلها ويوميء إلى هذا المطوي جعل علمهم واسلامهم قبلها وقوله تعالى : وصدها الخ على هذا يحتمل أن يكون من تتمة كلام القوم
ويحتمل أن يكون ابتداء اخبار من جهته عز و جل وعن مجاهد وزهير بن محمد أن وأوتينا من كلام سليمان عليه السلام وفي وصدها الخ عليه أيضا احتمال ولايخفى ما في جعل وأوتينا الخ من كلام القوم أو من كلام سليمان عليه السلام من البعد والتكلف وليس في ذلك جهة حسن سوى اتساق الضمائر المؤنثة
وقيل : إن وأوتينا الخ من تتمة كلامها وقوله تعالى وصدها الخ ابتداء اخبار من جهتخ تعالى لبيان حسن حالها وسلامة اسلامها عن شوب الشرك بجعل فاعل صدها ضميره عز و جل أو ضمير سليمان عليه السلام
وما مصدرية أو موصولة قبلها حرف جر مقدر أي صدها الله تعالى أو سليمان عن عبادتها من دون الله أو عن الذي تعبده من دونه تعالى ونقل ذلك أبو حيان عن الطبري وتعقبه بقوله : وهو ضعيف لايجوز إلا في الشعر نحو قوله
تمرون الديار ولم تعرجوا
وليس في مواضع حذف حرف الجر
وأنت تعلم أن المعنى مع هذا مما لاينشرح له الصدر وأبعد بعضهم كل البعد فزعم أن قوله تعالى وصدها الخ متصل بقوله سبحانه أتهتدي أم تكون من الذين لايهتدون والواو فيه للحال وقد مضمرة وفي البحر أنه قول مرغوب عنه لطول الفصل بينها ولأن التقديم والتأخير لايذهب اليه إلا عند الضرورة ولعمري من أنصف رأي أن ماذكر مما لاينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى المجير وأنا أقول بعد القيل والقال : إن وجه ربط هذه الجمل مما لايحتاج الى تدقيق النظر فليتأمل والله تعالى الموفق
قيل لها ادخلي الصرح استئناف بياني كأنه قيل فماذا قيل لها بعد الامتحان المذكور فقيل قيل لها ادخلي الخ ولم يعطف على قوله تعالى أهكذا عرشك لئلا يفوت هذا المعنى وجيء بلها هنا دون ما مر لمكان أمرها و الصرح القصر وكل بناء عال ومنه ابن لي صرحا وهو من التصريح وهو الاعلان البالغ
وقال مجاهد الصرح هنا البركة وقال ابن عيسى الصحن وصرحة الدار ساحتها وروي أن سليمان عليه السلام أمر الجن قبل قدومها فبنوا له على طريقها قصرا من زجاج أبيض وأجري من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره وفي رواية أنهم بنوا له صرحا وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنها الماء وجعلوا في ابطن الطوابيق كل ما يكون من الدواب في البحر ثم أطبقوه وهدا أوفق بظاهر الآية ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والانس وفعل ذلك امتحانا لها أيضا على ما قيل : وقيل : ليزيدها استعظاما لأمره وتحقيقا لنبوته وثباتا على الدين وقيل لأن الجن قالوا له عليه السلام إنها شعراء
(19/208)

الساقين ورجلها كحافر الحمار فأراد الكشف عن حقيقة الحال بذلك وقال الشيخ الأكبر قدس سره ما حاصله إنه أراد أن ينبهها بالعفل على أنها صدقت في قولها في العرش كأنه هو حيث أنه انعدم في سبأ ووجد مثله بين يديه فجعل لها صرحا في غاية اللطف والصفاء كأنه ماء صاف وليس به وهذا غاية الانصاف منه عليه السلام ولا أظن الأمر كما قال والله تعالى أعلم واستدل بالآية على القول بأن أمرها بدخول الصرح ليتوصل به إلى كشف حقيقة الحال على إباحة النظر قبل الخطبة وفيه تفصيل مذكور في كتب الفقه
فلما رأته أي رأت صحته بناء على أن الصرح بمعنى القصر حسبته لجة أي ظنته ماء كثيرا وكشفت عن ساقيها لئلا تبتل أذيالها كما هو عادة من يريد الخوض في الماء وقرأ ابن كثير برواية قنبل سأقيها بهمز الألف ساق حملا له على جمعه سؤق وأسؤق فانه يطرد في الواو المضمومة هي أو ما قبلها قبلها همزة فانجر ذلك بالتبعية إلى المفرد الذي في ضمنه
وفي البحر حكى أبو علي أن أباحية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد : أحب المؤقدين إلى مؤسى
وفي الظاهر أن الهمزة لغة في ساق ويشهد له هذه القراءة الثابتة في السبعة وتعقب بانه يأباه الاشتقاق وأياما كان فقول من قال : إن هذه القراءة لاتصح لايصح قال أي سليمان عليه السلام حين رأى ما اعتراها من الدهشة والرعب وقيل : القائل هو الذي أمرها يدخول الصرح وهو خلاف الظاهر إنه أي ما حسبته لجة صرح ممرد أي مملس ومنه الأمرد للشاب الذي لاشعر في وجهه وشجرة مرداء لاورق عليها ورملة مرداء لاتنبت شيئا والمارد المتعري من الخير من قوارير من الزجاج وهو جمع قارورة
قالت حين عاينت هذا الأمر العظيم رب إني ظلمت نفسي أي بما كنت عليه من عبادة الشمس وقيل : بنظني السوء بسليمان عليه السلام حيث ظنت أنه يريد اغراقها في اللجة وهو بعيد ومثله ما قيل أرادت ظلمت نفسي بامتحاني سليمان حتى امتحنني لذلك بما أوجب كشف ساقي بمرأى منه وأسلمت مع سليمان تابعة له مقيدة به وما في قوله تعالى : لله رب العالمين
44
- من الالتفات إلى الاسم الجليل لاظهار معرفتها بالوهيته تعالى وتفرده باستحقاق العبادة وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس واختلف في امرها بعد الاسلام فقيل إنه عليه السلام تزوجها وأحبها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا له سيلحين وغمدان وكان يزورها في الشهر مرة عندها ثلاثة أيام وولدت له
وأخرج ابن عساكر عن سلمة بن عبد الله بن ربعي أنه عليه السلام أمهرها بعلبك وذكر غير واحد أنها حين كشفت عن ساقيها أبصر عليهما شعرا كثيرا فكره أن يتزوجها كذلك فدعا الانس فقال : ما يذهب بهذا فقالوا : يا رسول الله المواسي فقال : المواسي تقطع ساقي المرأة وفي رواية أنه قيل لها ذلك فقالت لم يمسسني الحديد قط فكره سليمان المواسي وقال : إنها تقطع ساقيها ثم دعا الجن فقالوا مثل ذلك ثم دعا الشياطين فوضعوا له النورة قال ابن عباس وكان ذلك اليوم أول يوم رؤيت فيه النورة وعن عكرمة أو أول من
(19/209)

وضع النورة شياطين الانس وضعوها لبلقيس وهو خلاف المشهور ويروى أن الحمام وضع يومئذ
وفي تأريخ البخاري عن أبي موسى الاشعري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أول من صنعت له الحمامات سليمان أخرج الطبراني وابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الايمان عنه أيضا قال : قال رسول الله عليه الصلاة و السلام أول من دخل الحمام سليما فلما وجد حره قال أوه من عذاب الله تعالى وروي عن وهب أنه قال : رعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري رجلا من قومك أزوجكه فقالت : أمثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان في قومي من الملك والسلطان ما كان قال : نعم إنه لايكون في الاسم إلا ذلك وما ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله تعالى لك فقالت : زوجني ان كان لابد من ذلك ذا تبع ملك همدت فزوجها إياه ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذاتبع على اليمن ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال : اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل بها ملكا يعمل به فيها حتى مات سليمان فلما أن حال الحول وتبين الجن موته عليه السلام أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع سليمان عليه السلام وقال عون بن عبد الله : سأل رجل عبد الله بن عتبة هل تزوج سليمان بلقيس فقال أنتهى أمرها إلى قولها : أسلمت مع سليمان لله رب العالمين قيل : يعني لاعلم لنا وراء ذلك
والمشهور أنه عليه السلام تزوجها واليه ذهب جماعة من أهل الأخبار وأخرج البيهقي في الزهد عن الأوزاعي قال : كسر برج من أبراج تدمر فاصابوا فيه أمرأة حسناء دعجاء مدمجة كأن أعطافها طي الطوامير عليها عمامة طولها ثمانون ذراعا مكتوب على طرف العمامة بالذهب بسم الله الرحمن الرحيم أنا بلقيس ملكة سبأ زوجة سليمان بن داود عليهما السلام ملكت من الدنيا كافرة ومؤمنة ما لم يملكه أحد قبلي ولا يملكه أحد بعدي صار مصيري إلى الموت فاقصروا يا طالبي الدنيا والله تعالى أعلم بصحة الخبر وكم في هذه القصة من اخبار الله تعالى أعلم بالصحيح منها والقصة في نفسها عجيبة وقد اشتملت على أشياء خارقة للعادة يكاد العقل يحيلها في أول وهلة ومما يستغرب ولله تعالى فيه سر خفي خفاء أمر بلقيس على سليمان عدة سنين كما قاله غير واحد مع أن المسافة بينه وبينها لم تكن في غاية البعد وقد سخر الله تعالى له من الجن والطير والريح ما سخر وهذا أغرب من خفاء أمر يوسف على يعقوب عليهما السلام بمراتب وسبحان من لايعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات وفي الأرض هدا وللصوفية في تطبيق ما في هذه القصة على ما في الانفس كلام طويل ولعل الأمر سهل على من له أدنى ذوق بعد الوقوف على بعض ما مر من تطبيقاتهم ما في بعض القصص على ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل
ولقد أرسلنا عطف على قوله تعالى : ولقد ءاتينا داود وسليمان علما مسوق لما سيق هو له واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وبالله لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا وإنما أقسم على ذلك اعتناء بشأن الحكم و صالحا بدل من اخاهم أو عطف بياني وأن في قوله تعالى أن اعبدوا الله مفسرة لما في الارسال من معنى القول دون حروفه
وجوز كونها مصدرية حذف منها حرف الجر أي بأنها وقيل لأن ووصلها بالامر جائز لاضير فيه كما مر
(19/210)

وقريء بضم النون اتباعا لها للباء فاذا هم فريقان يختصمون
54
- أي فاجأ ارسالنا تفرقهم واختصامهم فآمن فريق وكفر فريق وكان ما حكى الله تعالى في محل آخر بقوله سبحانه قال الملأ الذين استكبروا للذين استضعفوا بمن آمن منهم اةية فاذا فجئية والعامل فيها مقدر لا يختصمون خلافا لأبي البقاء لأنه صفة فريقان كما قال ومعمول الصفة لايتقدم على الموصوف وقيل : هذا حديث لايكون المعمول ظرفا وضمير يختصمون لمجموع الفريقين ولم يقل يختصمان للفاصلة ويوهم كلام بعضهم أن الجملة خبر ثان وهو كما ترى وهم راجع الى ثمود لأنه اسم القبيلة وقيل : الى هؤلاء المذكورين ليشمل صالحا عليه السلام والفريقان حينئذ أحدهما صالح وحده وثانيهما قومه
والحامل على هذا كما ذكره ابن عادل العطف بالفاء فانها تؤذن أنهم عقيب الارسال بلا مهلة صاروا فريقين ولا يصير قومه عليه السلام فريقين إلا بعد زمان وفيه أنه يأباه قوله تعالى اطيرنا بك وبمن معك وتعقيب كل شيء بحسبه على أنه يجوز كون الفاء لمجرد الترتيب ولعل فريق الكفرة أكثر ولذا ناداهم بقوله ياقوم كما حكي في قوله تعالى قال يا قوم لجعله في حكم الكل أي قال عليه السلام للفريق الكافر منهم بعد ما شاهد منهم ما شاهد في نهاية العتو والعناد حتى بلغوا من المكابرة الى أن قالوا له عليه السلام ياصالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين متلطفا بهم ياقوم لم تستعجلون بالسيئة اي بالعقوبة التي تسوءكم قبل الحسنة اي التوبة فتؤخرونها إلى حين نزولها حيث كانوا من جهلهم وغوايتهم يقولون ان وقع إبعاده تبنا حينئذ وإلا فنحن على ما نحن عليه لولا تستغفرون الله أي هلا تستغفرونه تعالى قبل نزولها لعلكم ترحمون
64
- بقبولها إذ سنة الله تعالى عدم القبول عند النزول وقد خاطبهم عليه السلام على حسب تخمينهم وجهلهم في ذلك بأن ما خمنوه من التوبة إذ ذاك فاسدة وأن استعجالهم ذلك خارج من المعقول والتقابل بين السيئة والحسنة بالمعنى الذي سمعت حاصل من كون أحدهما حسنا والآخر سيئا وقيل : المراد بالسيئة تكذيبهم إياه عليه السلام وكفرهم به وبالحسنة تصديقهم وايمانهم والمراد من قوله لم تستعجلون الخ لومهم على المسارعة إلى تكذيبهم إياه وكفرهم به وحضهم على التوبة من ذلك بترك التكذيب والايمان وحاصله لومهم على ايقاع التكذيب عند الدعوة دون التصديق وحضهم على تلافي ذلك وإيهام الكلام انتفاء اللوم على إيقاع التكذيب بعد التصديق مما لايكاد يلتفت اليه ولايخفى بعد طي الكشح عن المناقشة وايهام الكلام انتفاء اللوم على ايقاع التكذيب بعد التصديق مما لايكاد يلتفت اليه ولايخفى بعد شي الكشح عن المناقشة فيما ذكر أن المناسب لما حكى الله تعالى عن القوم في سورة الاعراف ولما جاء في الآثار هو المعنى الأول ومن هنا ضعف ماروي عن مجاهد من تفسير الحسنة برحمة الله تعالى لتقابل السيئة المفسرة بعقوبته عز و جل ويكون المراد من استعجالهم بالعقوبة قبل الرحمة طلبهم إياها دون الرحمة فتأمل قالوا اطيرنا أصله تطيرنا وقريء به فادغمت التاء في الطاء وزيدت همزة الوصل ليتأتى الابتداء والتطير التشاؤم عبر عنه بذلك لما أنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين فيمرون بطائر يزجرونه فان مر سانحا بان مر من ميامن الشخص إلى مياسره تيمنوا وإن مر بارحا بان مر من المياسرة إلى الميامن تشاءموا لأنه لايمكن للمار به كذلك أن يرميه حتى ينحرف فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببا لهما من قدر الله تعالى وقسمته عز و جل أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنعمة أي تشاءمنا بك وبمن معك في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد وقد كانوا قحطوا ولم نزل في اختلاف وافتراق مذ اخترعتم دينكم وتشاؤمهم يحتمل أن يكون من المجموع وأن يكون من كل المتعاطفين
(19/211)

قال طائركم أي سببكم الذي منه ينالكم ما ينالكم من الشر عند الله وهو قدره سبحانه أو عملكم المكتوب عنده عز و جل بل أنتم قوم تفتنون
74
- اضراب عن بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي اليه أي بل أنتم قوم تختبرون بتعاقب السراء والضراء أو تعذبون أو يفتنكم الشيطان بوسوسته اليكم الطيرة وجاء تفتنون بتاء الخطاب على مراعاة أنتم وهو كثير في لسان العرب ويجوز في مثل هذا التركيب يفتنون بياء الغيبة على مراعاة لفظ قوم وهو قليل في لسانهم وكان في المدينة أي في مدينة ثمود وقريتهم وهي الحجر تسعة رهط هو اسم جمع يطلق على العصابة دون العشرة كما قال الراغب وفي الكشاف هو من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة وقيل : بل يقال إلى الاربعين وليس بمقبول وأصله على ما نقل عن الكرماني من الترهيط وهو تعظيم اللقم وشدة الأكل وقد أضيف العدد اليه وقد اختلف في جواز اضافته إلى اسم الجمع فذهب الأخفش إلى أنه لاينقاس وما ورد من الاضافة اليه فهو على سبيل الندور وقد صرح سيبويه أنه لايقال ثلاث غنم
وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس وهو مع ذلك قليل وفصل قوم بين أن يكون اسم الجميع للقليل كرهط ونفر وذود فيجوز أن يضاف اليه إجراء له مجرى جمع القلة أو للكثير أو يستعمل لهما فلا يجوز اضافته اليه بل إذا أريد تمييزه به جيء به مقرونا بمن كخمسة من القوم وقال تعالى فخذ أربعة من الطير وهو قول المازني واختار غير واحد أن اضافة تسعة الى رهط ههنا باعتبار ان رهطا لكونه اسم جمع للقليل في حكم أشخاص ونحوه من جمع القلة وهي يضاف اليها العدد كتسعة أشخاص وتسع أنفس وهذا معنى قولهم : إن وقوع رهط تمييزا لتسعة باعتبار المعنى فكأنه قيل تسعة أشخاص وقيل : أي تسعة أنفس وتأنيث العدد لأن المذكور في النظم الكريم رهط وهو مذكر فليس ذاك من غير الفصيح كقوله ثلاثة أنفس وثلاث ذود نعم تقدير ما تقدم أسلم من المناقشة وأما ما قيل أي تسعة رجال ففيه الغفلة عما أشرنا اليه ثم أنه ليس المراد أن الرهط بمعنى الشخص أو بمعنى النفس بل أن التسعة من الأشخاص أو من الأنفس هي الرهط فليس المعدود بالتسعة ما دل عليه الرهط من الجماعة ليكون هناك تسع جماعات لاتسعة أفراد
وقال الامام الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إد الظاهر من الرهط الجماعة ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفاتهم وأحوالهم لا لاختلاف النسب اه وقيل : كان هؤلاء التسعة رؤساء مع كل واحد منهم رهط ولذا قيل تسعة رهط وأسماؤهم عن وهب الهذيل بن عبد رب وغنم بن غنم ودباب بن مهرج وعمير بن كردية وعاصم بن مخرمة وسبيط بن صدقة وسمعان بن صفي وقدار بن سالف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح ومن أبناء أشرافهم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن اسماءهم دعمى ودعيم وهرمي وهريم ودواب وصواب ودياب ومسطح وقدار وهو الذي عقر الناقة يفسدون في الأرض لافي المدينة فقط افسادا بحتا لايخالطه شيء من الصلاح كما ينطق به قوله تعالى ولايصلحون
84
- أي لايفعلون شيئا من الاصلاح أو لايصلحون شيئا من الأشياء والمراد أن عادتهم المستمرة ذلك الافساد كما يؤذن به المضارع والجملة في موضع الصفة لرهط أو لتسعة
قالوا استئناف ببيان بعض ما فعلوا من الفساد أي قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح
(19/212)

عليه السلام وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس بعد أن عقروا الناقة أنذرهم بالعذاب وقوله تمتعوا في داركم ثلاثة أيام الخ تقاسموا بالله أمر من التقاسم أي التحالف وقع مقول القول وهو قول الجمهور
وجوز أن يكون فعلا ماضيا بدلا من قالوا أو حالا من فاعله بتقدير قد أو بدونها أي قالوا متقاسمين ومقول القول لنبيتنه وأهله الخ وجوز أبو حيان على هذا أن يكون بالله من جملة المقول والبيات مباغتة العدو ومفاجأته بالايقاع به ليلا وهو غافل وأرادوا قتله عليه السلام وأهله ليلا وهم غافلون وعن الاسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال : ليس من آيين الملوك استراق الظفر
وقرأ ابن أبي ليلى تقسموا بغير ألف وتشديد السين والمعنى كما في قراءة الجمهور وقرأ الحسن وحمزة والكسائي لتبيتنه بالتاء على خطاب بعضهم لبعض وقرأ مجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش ليبتنه بياء الغيبة و تقاسموا على هذه القراءة لايصح إلا أن يكون خبرا بخلافه عن القراءتين الأوليين فانه يصح أن يكون خبرا كما يصح أن يكون أمرا وذلك لأن الأمر خطاب والمقسم عليه بعده لو نظر إلى الخطاب وجب تاء الخطاب ولو نظر إلى صيغة قولهم عند الحلف وجب النون فاما ياء الغائب فلا وجه له وإما إذا جعل خبرا فهو على الغائب كما تقول حلف ليفعلن ثم لنقولن لوليه أي لولي صالح والمراد به طالب ثأره من ذوي قرابته إذا قتل وقرأ لتقولن بالتاء من قرأ لتبيتنه كذلك وقرأ ليقولن بياء الغيبة من قرأ بها فيما تقدم وقرأ حميد بن قيس بياء الغيبة وهذا بالنون قيل : والمعنى على ذلك قالوا متقاسمين بالله ليبيتنه قوم منا ثم لنقولن جميعا لوليه ما شهدنا مهلك أهله أي ما حضرنا هلاكهم على أن مهلك مصدر كمرجع أو مكان هلاكهم على أنه للمكان أو زمان هلاكهم على أنه للزمان والمراد نفي شهود الهلاك الواقع فيه واختاروا نفي شهود مهلك أهله على نفي قتلهم إياهم قصدا للمبالغة كأنهم قالوا ما شهدنا ذلك فضلا عن أن نتولى أهلاكهم ويعلم من ذلك نفي قتلهم صالحا عليه السلام أيضا لأن من لم يقتل اتباعه كيف يقتله وقيل في الكلام حذف أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه واستظهره أبو حيان ثم قال وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح كقوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر أي والبرد وقال الشاعر : فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر الا ليال قلائل أي بين الخير وبيني اه وفيه مالا يخفى وقيل : الضمير في أهله يعود على الولي والمراد باهل الولي صالح وأهله واعترض بانه لو أريد أهل الولي لقيل أهلك أو أهله ومنع بان ذلك غير لازم فقد قريء قل للذين كفروا ستغلبون بالخطاب والغيبة ووجه ذلك ظاهر نعم رجوع الضمير الى الولي خلاف الظاهر كما لايخفى وقرأ الجمهور مهلك بضم الميم وفتح اللام من أهلك وفيه الاحتمالات الثلاث وقرأ أبو بكر مهلك بفتحها على أنه مصدر وإنا لصادقون
94
- عطف على ماشهدنا كما ذهب اليه الزجاج والمعنى ونحلف وإنا لصادقون وجوز أن تكون الواو للحال أي والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا واستشكل ادعاؤهم الصدق في ذلك وهم عقلاء ينفرون عن الكذب ما أمكن وأجيب بأن حضور الأمر غير مباشرته في العرف لأنه لايقال لمن قتل رجلا أنه حضر قتله وإن كان الحضور لازما للمباشرة فحلفوا على المعنى العرفي على العادة في الايمان وأوهموا الخصم
(19/213)

أنهم أرادوا معناه اللغوي فهم صادقون غير حانثين وكونهم من أهل التعارف أيضا لايضر بل يفيد فائدة تامة وقال الزمخشري كأنهم اعتقدوا أنهم إدا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما وتعقب بأن من فعل أمرين وجحد أحدهما لم يكن في كذبه شبهة وإنما تتم الحيلة لو فعلوا أمرا واحدا أو أدعى عليهم فعل أمرين فجحدوا المجموع ولذا لم يختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا فضرب زيدا وعمرا كان حانثا بخلاف من حلف لا أضرب زيدا وعمرا ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما فانه محل خلاف للعلماء في الحنث وعدمه والحق أن تبرئتهم من الكذب فيما ذكر غير لازمة حتى يتكلف لها وهم الذين كذبوا على الله تعالى ورسوله عليه السلام وارتكبوا ما هو أقبح من الكذب فيما ذكر ومقصود الزمخشري تأييد ما يزعمه هو وقومه من قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل بموافقة قوم صالح عليها ولايكاد يتم له ذلك ومكروا مكرا بهذه المواضعة ومكرنا مكرا وهم لايشعرون
5
- أي أهلكناهم اهلاكا غير معهود أو جازينا مكرهم من حيث لايحتسبون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم شروع في بيان ما ترتب على ما باشروه من المكر والظاهر أن كيف خبر مقدم لكان و عاقبة الاسم أي كان عاقبة مكرهم واقعة على وجه عجيب يعتبر به والجملة في محل نصب على أنها مفعول أنظر وهي معلقة لمكان الاستفهام والمراد تفكر في ذلك
وقوله تعالى : أنا دمرناهم في تأويل مصدر وقع بدلا من عاقبة مكرهم أو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير العاقبة والجملة مبينة لما في عاقبة مكرهم من الابهام أي هو أو هي تدميرنا وأهلاكنا إياهم وقومهم الذين لم يكنوا منهم في مباشرة التبييت أجمعين
15
- بحيث لم يشذ منهم شاذا أو هو على تقدير الجار أي لتدميرنا إياهم أو بتدميرنا إياهم ويكون ذلك تعليلا لما ينبيء عنه الأمر بالنظر في كيفية عاقبة أمرهم من الهول والفظاعة وجوز بعضهم كونه بدلا من كيف وقال آخرون : لايجوز ذلك لأن البدل عن الاستفهام يلزم فيه إعادة معرفة كقولك كيف زيد أصحيح أم مريض
وجوز أن يكون هو الخبر لكان وتكون كيف حينئذ حالا والعامل فيها كان أو ما يدل عليه الكلام من معنى الفعل ويجور أن تكون كان تامة و كيف 9 عليه حال لاغير والاحتمالات الجائزة في أنا دمرناهم لاتخفى
وقرأ الأكثر إنا بكسر الهمزة فكيف خبر كان و عاقبة اسمها وجملة إنا دمرناهم استئناف لتفسير العاقبة وجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف قال الخفاجي : الظاهر أنه الشأن أو ضميره لاشيء آخر مما يحتاج للعائد ليعترض عليه بعدم العائد ولايرد عليه أن ضمير الشأن المرفوع منع كثير من النحويين حذفه فانه غير مسلم ويجوز أن تكون كان تامة و كيف حال كما تقدم ولم يجوز الجمهور كونها ناقصة والخبر جملة انا دمرناهم لعدم الرابط وقيل : يجوز ويكفي للربط وجود ما يرجع إلى متعلق المبتدأ إذ رجوعه اليه نفسه غير لازم وهو تكلف وإنما يتمشى على مذهب الأخفش القائل إدا قام بعض الجملة مقام مضاف إلى العائد اكتفى به وغيره من النحاة يأباه وجوز أبو حيان على كلتا القراءتين أن تكون كان زائدة و عاقبة مبتدأ و كيف خبر مقدم له
(19/214)

وقرأ أبي أن دمرناهم بان التي من شأنها أن تنصب المضارع ويجري في المصدر الاحتمالات السابقة فيه على قراءة أنا بفتح الهمزة وهذا وفي كيفية التدمير خلاف فروي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا بعد ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدر ما فعل بقومهم وعذب الله تعالى كل منهم في مكانه ونجى صالحا ومن معه وقيل : جاؤا بالليل شاهري سيوفهم وقد أرسل الله تعالى ملائكة ملء دار صالح عليه السلام فرموهم بالحجارة يرونها ولايرون راميا هلك سائر القوم بالصيحة وقيل : إنهم عزموا على تبييته عليه السلام وأهله فاخبر الله تعالى بذلك صالحا فخرج عنهم ثم أهلكهم بالصيحة وكان ذلك يوم الأحد فتلك بيوتهم جملة مقررة لما قبلها وقوله تعالى خاوية أي خالية أو ساقطة متهدمة أعاليها على أسافلها كما روي عن ابن عباس بما ظلموا أي بسبب ظلمهم المذكور حال من بيوتهم والعامل فيها معنى الاشارة وقرأ عيسى بن عمر خاوية بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف اي هي خاوية أو خبر بعد خبر لتلك أو خبر لها و بيوتهم بدل وبيوتهم هذه هي التي قال فيها صلى الله عليه و سلم لأصحابه عام تبوك لاتدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين الحديث وهي بوادي القرى بين المدينة والشام إن في ذلك أي فيما ذكر من التدمير العجيب بظلمهم لآية لعبرة عظيمة لقوم يعلمون
25
- أي ما من شأنه أن يعلم من الاشياء أو لقوم يتصفون بالعلم وقيل : لقوم يعلمون هذه القصة وليس بشيء وفي هذه الآية على ما قيل دلالة على الظلم يكون سببا لخراب الدور
وروي عن ابن عباس أنه قال أجد في كتاب الله تعالى أن الظلم يخرب البيوت وتلا هذه الآية وفي التوراة ابن آدم لاتظلم يخرب بيتك قيل : وهو اشارة إلى هلاك الظالم إذ خراب بيته متعقب هلاكه ولايخفى أن كون الظلم بمعنى الجور والتعدي على عباد الله تعالى سببا لخراب البيوت مما شوهد كثيرا في هذه الاعصار وكونه بمعنى الكفر كذلك ليس كذلك نعم لايبعد أن كيون على الكفرة يوم تخرب فيه بيوتهم إن شاء الله تعالى وأنجينا الذين ءامنوا صالحا ومن معه من المؤمنين وكانوا يتقون
35
- من الكفر والمعاصي اتقاء مستمرا فلذا خصوا بالنجاة روي أن الذين آمنوا به عليه السلام كانوا أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت وحين دخلها مات ولذلك سميت بهذا الاسم وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها حاضورا وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولوطا منصوب بمضمر معطوف على أرسلنا في صدر قصة صالح عليه السلام داخل معه في حيز القسم وأرسلنا لوطا إذ قال لقومه ظرف للارسال على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الارسال وما جرى بينه وبين قومه من الأحوال والأقوال وجوز أن يكون منصوبا باضمار اذكر معطوفا على ما تقدم عطف قصة على قصة و إذ بدل منه بدل اشتمال وليس بذاك وقيل : هو معطوف على صالحا وتعقب بانه غير مستقيم لأن صالحا بدل أو عطف بيان لأخاهم وقد قيد بقيد مقدم عليه وهو إلى ثمود فلو عطف عليه تقيد به ولا يصح لأن لوطا عليه السلام لم يرسل إلى ثمود وهو متعين إذا تقدم القيد بخلاف مالو تأخر وقيل إن تعيينه غير مسلم إذ يجوز عطفه على مجموع القيد والمقيد خلاف المألوف في الخطابيات وارتكاب مثله تعسف لايليق وجوز أن يكون عطفا على الذين ءامنوا
(19/215)

وتعقب بأنه لايناسب أساليب سرد القصص من عطف إحدى القصتين على الأخرى لا على تتمة الأولى وذيلها كما لايخفى أتأتون الفاحشة أي أتفعلون الفعلة المتناهية في القبح والسماجة والاستفهام انكاري
وقوله تعالى : وانتم تبصرون
45
- جمع حالية من فاعل تأتون مفيدة لتأكيد الانكار فان تعاطي القبيح من العالم بقبحه أقبح وأشنع و تبصرون من بصر القلب أي أتفعلونها والحال أنتم تعلمون علما يقينيا كونها كذلك
ويجوز أن يكون من بصر العين أي وانتم ترون وتشاهدون كونها فاحشة على تنزيل ذلك لظهوره منزلة المحسوس وقيل : مفعول تبصرون من المحسوسات حقيقة أي وأنتم تبصرون آثار العصاة قبلكم أو أنتم ينظر بعضكم بعضا لايستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك لعدم أكتراثكم به ووجه إفادة الجملة على الاحتمالين تأكيد الانكار أيضا ظاهر وقوله تعالى أئنكم لتأتون الرجال شهوة تثنية للانكار وبيان لما يأتونه من الفاحشة بطريق التصريح بعد الابهام وتحلية الجملة بحرفي التأكيد للايذان بأن مضمونها مما لايصدق وقوعه أحد لكمال شناعته وإيراد المفعول بعنوان الرجولية دون الذكورية لتربية التقبيح وبيان اختصاصه ببني آدم وتعليل الاتيان بالشهوة تقبيح على تقبيح لما أنها ليست في محلها وفيه إشارة إلى أنهم مخطئون في محلهافعلا وفي قوله تعالى من دون النساء أي متجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة إشارة إلى أنهم مخطئون فيه تركا ويعلم مما ذكرنا أن شهوة مفعول له للاتيان وجوز أن يكون حالا
بل أنتم قوم تجهلون
55
- أي تفعلون فعل الجاهلين بقبح ذلك أو يجهلون العاقبة أو الجهل بمعنى السفاهة والمجون أي بل أنتم قوم سفهاء ماجنون كذا في الكشاف وأياماكان فلا ينافي قوله تعالى : وأنتم تبصرون ولم يرتض ذلك الطيبي وزعم أن كلمة الاضراب تأباه : ووجه الآية بأنه تعالى لما أنكر عليهم فعلهم على الاجمال وسماه فاحشة وقيده بالحال المقررة لجهة الاشكال تتميما للانكار بقوله تعالى : وانتم تبصرون أراد مزيد ذلك التوبيخ والانكار فكشف عن حقيقة تلك الفاحشة واشار سبحانه إلى ما أشار ثم اضرب عن الكل بقوله سبحانه : بل أنتم الخ أي كيف يقال لمن يرتكب هذه الفحشاء وأنتم تعلمون فاولى حرف الاضراب ضمير انتم وجعلهم قوما جاهلين والتفت في تجهلون موبخا معيرا اه وفيه نظر والقول بالالتفات هنا مما قاله غيره أيضا وهو التفات من الغيبة التي في قوم إلى الخطاب في تجهلون وتعقبه الفاضل السالكوتي بانه وهم إذ ليس المراد بقوم قوم لوط حتى يكون المعبر عنه في الاسلوبين واحدا كما هو شرط الالتفات بل معنى كل حمل على قوم لوط عليه السلام
وقال بعض الأجلة : إن الخطاب فيه مع أنه صفة لقوم وهو اسم ظاهر من قبيل الغائب لمراعاة المعنى لأنه متحد مع أنتم لحمله عليه وجعله غير واحد مما غلب فيه الخطاب وأورد عليه أن في التغليب تجوزا ولا تجوز هنا وأجيب بأن نحو تجهلون موضوع للخطاب مع جماعة لم يذكروا بلفظ غيبة وهنا ليس كذلك فكيف لايكون فيه تجوز وقيل قولهم إن في التغليب تجوزا خارج مخرج الغالب وقال الفاضل السالكوتي إن قوله تعالى : بل أنتم الخ من المجاز باعتبار ما كان فإن المخاطب في تجهلون باعتبار كون القوم مخاطبين في التعبير بانتم فلا يرد أن اللفظ لم يستعمل فيه في غير ما وضع له ولا الهيئة التركيبية 20
(19/216)

بسم الله الرحمن الرحيم فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط أي من اتبع دينه وإخراجه عليه السلام يعلم من باب أولى وقال بعض المحققين : المراد بآل لوط هو عليه السلام ومن تبع دينه كما يراد من بني آدم آدم وبنوه واياما كان فلا تدخل امرأته عليه السلام وقوله سبحانه : إلا الخ استثناء مفرغ واقع في موقع اسم كان وقرأ الحسن وابن أبي اسحق جواب بالرفع فيكون ذاك واقعا موقع الخبر وقد مر تحقيق الكلام في مثل هذا التركيب وفي قوله تعالى : من قريتكم باضافة القرية إلى كم تهوين لأمر الاخراج وقوله جل وعلا : إنهم أناس يتطهرون
65
- تعليل للأمر على وجه يتضمن الاستهزاء أي إنهم أناس يزعمون التطهر والتنزه عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذرا وهم متكلفون باظهار ما ليس فيهم والظاهر أن هذا الجواب صدر عنهم في المرة الأخيرة من مراتب مواعظه عليه السلام بالامر والنهي لا أنه لم يصدر عنهم كلام آخر غيره فأنجيته وأهله أي بعد هلاك القوم فالفاء فصيحة إلا إمرأته قدرنها أي قدرنا كونها من الغبرين
75
- أي الباقين في العذاب وقدر المضاف لأن التقدير يتعلق بالفعل لا بالذات وجاء في آية أخرى ما يقتضي ذلك وهو قوله تعالى : قدرنا أنها لمن الغابرين
وقرأ أبو بكر قدرناها بتخفيف الدال وأمطرنا عليهم مطرا غير معهود فساء مطر المنذرين أي فبئس مطر المنذرين مطرهم وقد مر مثل هذا فارجع إلى ما ذ : رناه عنده
قل الحمد لله وسلم على عباده الذين اصطفى إثر ما قص سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم قصص الأنبياء المذكورين وأخبارهم الناطقة بكمال قدرته تعالى وعظم شأنه سبحانه وبما خصهم به من الآيات القاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على جلالة أقدارهم وصحة أخبارهم وقد بين على ألسنتهم صحة الاسلام والتوحيد وبطلان الكفر والاشراك وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى وشرح صدره الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم بما في تضاعيف تلك القصص من فنون المعارف الربانية ونور قلبه بأنوار الملكات السبحانية الفائضة من عالم القدس وقرر بذلك فحوى قوله تعالى : وإنك لتلق القرآن من لدن حكيم عليم
أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحمده بأتم وجه على تلك النعم ويسلم على كافة الأنبياء عليهم السلام الذين من جملتهم من قصت أخبارهم وشرحت آثارهم عرفانا لفضلهم وأداء الحق تقدمهم واجتهادهم في الدين فالمراد بالعباد المصطفين الأنبياء عليهم السلام لدلالة المقام وقوله تعالى في آية أخرى : وسلام على المرسلين وقيل : هذا أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بحمده تعالى على هلاك الهالكين من كفار الأمم والسلام على الانبياء وأتباعهم الناجين صلى الله تعالى عليهم وسلم والسلام على غير الانبياء عليهم السلام إذا لم يكن استقلالا مما لاخلاف في جوازه ولعل المنصف لايرتاب في جوازه على عباد الله تعالى المؤمنين مطلقا وقيل : أمر
(20/2)

له عليه الصلاة و السلام بالحمد على ما خصه جل وعلا به من رفع عذاب الاستئصال عن أمته ومخالفتهم لمن قبلهم ممن ذكرت قصته من الأمم المستاصلة بالعذاب وبالسلام على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة
فالمراد بالمصطفين الأنبياء خاصة وأخرج عبد بن حميد والبزار وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس أنه قال فيهم : هم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم اصطفاهم الله تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سفيان الثوري أنه قال في سلام الخ : نرلت في أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم خاصة وهذا ظاهر في القول بجواز السلام على غير الأنبياء استقلالا كما هو مذهب الحنابلة مبتدأة حيث قال : أمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يتلوا هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته تعالى وقدرته على كل شيء وحكمته أعني قوله سبحانه : آلله الخ وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده وفيه تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث التيمن بالذكرين والتبرك بهما والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم اليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع ولقد توارثت العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب فحمدوا الله تعالى وصلوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أما كل علم مفاد وقبل كل موعظة وتذكرة وفي مفتتح كل خطبة وتبعهم المتراسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن انتهى ولعل جعل ذلك تخلصا من قصص الأنبياء عليهم السلام إلى ما جرى له صلى الله تعالى عليه وسلم مع المشركين أولى وأبعد الأقوال القول باتصاله بما قبله وجعل ذلك أمرا للوط عليه السلام بأن يحمده تعالى على إهلاك كفرة قومه وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة عن الهلاك لعدم ملاءمته لما بعده واحتياجه إلى تقدير وقلنا له وعزا هذا القول ابن عطية للفراء وقال : هذه عجمة من الفراء والظاهر أن سلام مبتدأ وما بعده خبره والجملة معطوفة على الحمد لله داخلة معه في حيز القول
وقرأ أبو السمال الحمد لله بفتح اللام آلله بالمد لقلب همزة الاستفهام ألفا والأصل أألله
خيرا أما يشركون والظاهر أن ما موصولة والعائد محذوف أي آلله الذي ذكرت شئونه العظيمة خير أم الذي يشركونه من الاصنام و خير أفعل تفضيل ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته عز و جل وتسفيه آرائهم الركيكة والتهكم بهم إذ من البين أن ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من هو خير محض وقيل : خير ليست للتفضيل مثلها في قولك : الصلاة خير تعني خيرا من الخيور والمختار الأول واستظهره أبو حيان وقال : كثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لاشركة هناك وإنما على سبيل الزام الخصم وتنبيهه على الخطأ ويقصد بالاستفهام في مثل ذلك إلزامه الاقرار بحصر التفضيل في جانب واحد وانتفائه عن الآخر واستظهر أيضا كون المراد بالخيرية في الذات وقيل : الخيرية فيما يتعلق بها وفي الكلام حذف في موضعين والتقدير أعبادة الله تعالى خير أم عبادة ما يشركون وقيل : ما مصدرية والحذف في موضع واحد والتقدير أتوحيد الله خير أم إشراكهم ولا داعي لجميع ذلك وأياما كان فضمير الغائب لقريش ونحوهم من المشركين وقيل : لأولئك المهلكين وليس بشيء وقرأ الأكثرون تشركون بالتاء الفوقانية على توجيه الخطاب لمن ذكرنا من الكفرة
(20/3)

وهو الأليق فيما بعده في سياق النظم الكريم وجعل أبو البقاء هذه الجملة من جملة القول المأمور به وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى : فأنبتنا الخ فانه صريح في أن التبكيت من قبله عز و جل بالذات وحمله على أنه حكاية منه عليه الصلاة و السلام لما أمر به بعبادته كما في قوله سبحانه : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم تعسف ظاهر من غير داع اليه وفي بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم و أم في قوله تعالى أمن خلق السموات والأرض منقطعة لامتصلة كالسابقة وبل المقدرة على القراءة الأولى وهي قراءة الحسن وقتادة وعاصم وأبي عمرو للاضراب والانتقال من التبكيت تعريضا إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الالزام كنظائرها الآتية والهمزة لحملهم على الاقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الاقرار به ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلا على ما سبق في الاستفهام الأول خلا أن تشركون المقدر ههنا بتاء الخطاب على القراءتين معا وهكذا في المواضع الأربعة الآتية والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما وأنزل لكم التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الاولى لتشديد التبكيت والالزام واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم من السماء ماء أي نوعا منه وهو المطر فأنبتنا به بمقتضى الحكمة لا أن الانبات موقوف عليه عقلا وقيل : أي أنبتنا عنده حدائق جمع حديقة وهي كما في البحر البستان سواء أحاط به جدار أم لا وهو ظاهر إطلاق تفسير ابن عباس حيث فسر الحدائق وهو الاحاطة وهو مروي عن الضحاك وقال الراغب : هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها ولعل الأظهر ما في البحر وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الاحداق وتنظر اليها ذات بهجة أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر ما كان لكم أي ما صح وما أمكن لكم أن تنبتوا شجرها فضلا عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون وتقدير الخبر هكذا هو ما أختاره الزمخشري وتبعه غيره
وقال ابن عطية : يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا المعنى وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح له : ولابد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه والتقدير أم من خلق السموات والأرض كمن لم يخلق وكذلك يقدر في أخواتها وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لايخلق انتهى ولعل الأولى ما أختاره جار الله وكذا يقال فيما بعد
وقرأ الأعمش أمن بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام ومن بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الانزال على مفعوله لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر والالتفات إلى التكلم بنون العظة لتأكيد اختصاص الفعل المقابلة بذاته تعالى والايذان بأن انبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع مالها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد أمر عظيم لايكاد يقدر عليه إلا هو وحده عر وجل ورشح ذلك بقوله تعالى : ما كان لكم الخ سواء كان صفة لحدائق أو حالا
(20/4)

أو استئنافا وتوحيد وصفها السبق أعني ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة وهذا شائع في جمع التكسير كقوله تعالى : أزواج مطهرة وكذا الحال في ضمير شجرها
وقرأ ابن أبي عبلة ذوات بالجمع بهجة بفتح الهاء ءإله مع الله أي أإله آخر كائن مع الله تعالى الذي ذكر بعض أفعاله التي لايكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركونه به عز و جل في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد فان أحدا ممن له أدنى تمييز كما لايقدر على إنكار انتفاء الخيرية عنه بالمرة لايكاد يقدر على إنكار انتفاء الألوهية عنه رأسا لاسيما بعد ملاحظة انتفاء أحكامها عما سواه عز و جل وكذا الحال في المواقع الأربعة الآتية وقيل : المراد نفي أن يكون معه تعالى إله آخر في الخلق وما عطف عليه لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط فانهم لاينكرونه حسبما يدل عليه قوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله بل باشراكهم به تعالى ما يعترفون بعدم مشاركته له سبحانه فيما ذكر من لوازم الألوهية كأنه قيل : أإله آخر مع الله في خواص الألوهية حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادة وقيل : المعنى أغيره يقرن به سبحانه ويجعل له شريكا في العبادة مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين فالانكار للتوبيخ والتبكيت مع تحقق المنكر دون النفي كما في الوجهين السابقين ورجح بأنه الأظهر الموافق لقوله تعالى : وما كان معه من إله والأوفى بحق المقام لافادة نفي وجود إله آخر معه تعالى رأسا لانفي معيته في الخلق وفروعه فقط
وقرأ هشام عن أبن عامر آاله بتوسط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير أإلها بانصب على إضمار فعل يناسب المقام مثل أتجعلون أو أتدعون أو أتشركون
بل هم قوم يعدلون
6
- إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم ويعدلون من العدول بمعنى الانحراف أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الاشراك وقيل : من العدل بمعنى المساواة أي يساوون به غيره تعالى من آلهتهم وروي ذلك عن ابن زيد والأول أنسب بما قبله وقيل : الكلام عليه خال عن الفائدة
أمن جعل الأرض قرارا أي جعلها بحيث يستقر عليها الانسان والدواب بابداء بعضها من الماء ودخولها وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم فقرار بمعنى مستقرا لابمعنى قارة غير مضطربة كما زعم الطبرسي فان الفائدة على ذلك أتم والجعل إن كان تصيير فالمنصوبان مفعولان وإلا فالثاني حال مقدرة وجملة قوله تعالى : أمن جعل الخ على ما قيل : بدل من قوله سبحانه : أمن خلق السموات إلى آخر ما بعدها من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد وقال بعض الأجلة : الأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر داخل في الالزام بجهة من الجهات وإلى الابدال صاحب الكشاف وسننقل إن شاء الله تعالى عن صاحب الكشف ما فيه الكشف عن وجهه وجعل خللها أي أوسطها جمع خلل وأصله الفرجة بين الشيئين فهو ظرف حل محل الحال من قوله تعالى : أنهرا وساغ ذلك مع كونه نكرة لتقدم الحال أو المفعول الثاني لجعل و انهارا هو المفعول الأول والمراد بالأنهار ما يجري فيه لا المحل
(20/5)

الذيالذي هو الشق اي جعل خلالها أنهارا جارية تنتفعون بها وجعل لها أي لصلاح أمرها روسي أي جبالا ثوابت فان لها مدخلا عاديا اقتضته الحكمة في انكشاف المسكون منها وانحفاظها عن الميد بأهلها وتكون المياه الممدة للأنهار المفضية لنضارتها في حضيضها إلى غير ذلك وذكر بعضهم في منفعة الجبال تكون المعادن فيها ونبع المنابع من حضيضها ولم يتعرض لمنفعة منعها الأرض عن الحركة والميلان وعلل ترك التعرض بأنه لو كان المقصود ذلك لذكر عقب جعل الأرض قرارا ومن أنصف رأي أن منع الجبال الأرض عن الحركة والميلان اللذين يخرجان الأرض عن حيز الانتفاع ويجعلان وجودها كعدمها من أهم ما يذكر هنا لأنه مما به صلاح أمرها ورفعة شأنها وذكر لها دون فيها أو عليها ظاهر في أن المراد ما هو من هذا القبيل من المنافع فتأمل
وإرجاع ضمير لها للانهار ليكون المعنى وجعل لامدادها رواسي ينبع من حضيضها الماء فيمدها لايخفى ما فيه وجعل بين البحرين أي العذب والملح عن الضحاك أو بحري فارس والروم عن الحسن أو بحري العراق والشام عن السدي أو بحري السماء والأرض عن مجاهد حاجزا فاصلا يمنع من الممازجة وقد مر الكلام في تحقيق ذلك فتذكر ءإله مع الله في الوجود أو في إبداع هذه البدائع على ما مر بل أكثرهم لايعلمون أي شيئا من الأشياء علما معتدا به ولذلك لايفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره أمن يجيب المضطر إدا دعاه وهو الذي أحوجه شدة من الشدائد وألجأته إلى اللجاء والضراعة إلى الله عز و جل فهو اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرر ويرجع إلى هذا تفسير ابن عباس له بالمجهود وتفسير السدي بالذي لاحول له ولا قوة وقيل المراد بذلك المذنب إذا استغفر واللام فيه على ما قيل : للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر وكم من مضطر لايجاب
وجوز حمله على الاستغراق لكن الاجابة مقيدة بالمشيئة كما وقع ذلك في قوله تعالى فيكشف ما تدعون اليه إن شاء ومع هذا كره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول الشخص : اللهم اغفر لي إن شئت وقال عليه الصلاة و السلام : إن سبحانه لامكره له والمعتزلة يقيدونها بالعلم بالمصلحة لايجابهم رعاية المصالح عليه جل وعلا وقال صاحب الفوائد : ما من مضطر دعا إلا أجيب وأعيد نفع دعائه اليه إما في الدنيا وإما في الآخرة وذلك أن الدعاء طلب شيء فان لم يعط ذلك الشيء بعينه يعط ما هو أجل منه أو إن لم يعط هذا الوقت يعط بعده اه
وظاهر حمله على الاستغراق من دون تقييد للاجابة ولايخفى أنه إذا فسرت الاجابة بالاعطاء السائل ما سأله حسبما سأل لابقطع سؤاله سواء كان بالاعطاء المذكور أم بغيره لم يستقم ما ذكره وقال العلامة الطيبي : التعريف للعهد لأن سياق الكلام في المشركين يدل عليه الخطاب بقوله تعالى : ويجعلكم خلفاء والمراد التنبيه على أنهم عند اضطرارهم في نوازل الدهر وخطوب الزمان كانوا يلجأون إلى الله تعالى دون الشركاء والأصنام ويدل على التنبيه قوله تعالى : أإله مع الله قليلا ما تذكرون قال صاحب المفتاح : كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله تعالى دون أصنامهم فالمعنى إذا حزبكم أمر أو قارعة من قوارع الدهر إلى أن تصيروا آيسين من الحياة من يجيبكم إلى كشفها ويجعلكم بعد ذلك تتصرفون في البلاد كالخلفاء أإله مع الله فلا يكون المضطر عاما ولا الدعاء فانه مخصوص بمثل قضية الفلك وقد أجيبوا اليه في وقله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم الآية اه
(20/6)

وأنت تعلم بانه بعيد غاية البعد ولعل الاولى الحمل على الجنس والتقييد بالمشيئة وهو سبحانه لايشاء إلا ما تقتضيه الحكمة والدعاء بشيء من قبيل أحد الأسباب العادية له فافهم ويكشف السوء أي يرفع عن الانسان ما يعتريه من الامر الذي يسوؤه وقيل : الكشف أعم من الدفع أو الرفع وعطف هذه الجملة على ما قبلها من قبيل عطف العام على الخاص وقيل : المعنى ويكشف سوءه أي المضطر أو ويكشف عنه السوء والعطف من قبيل عطف التفسير فان إجابة المضطر هي الكشف السوء عنه الذي صار مضطرا بسببه وهو كما ترى
ويجعلكم خلفاء الأرض أي خلفاء من قبلكم من الامم في الأرض بأن وركم سكناها والتصرف فيها بعدهم وقيل : المراد بالخلافة الملك والتسلط وقرأ الحسن ونجعلكم بنون العظمة ءإله مع الله الذي هذ شؤونه ونعمه تعالى قليلا ما تذكرون
26
- أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تتذكرون فقليلا نصب على المصدرية أو على الظرفية لانه صفة مصدر أو ظرف مقدر و ما مزيدة على التقديرين لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم أو ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى ومفعول تذكرون محذوف للفاصلة فقيل : التقدير تذكرون نعمه وقيل : تذكرون مضمون ما ذكر من الكلام وقيل : تذكرون ما مر لكم من البلاء والسرور ولعل الأولى نعمه المذكورة وللايذان بأن المتذكر في غاية الوضوح بحيث لايتوقف إلا على التوجه اليه كان التذييل بنفي التذكر وقرأ الحسن والاعمش وأبو عمر يذكرون بياء الغيبة وقرأ أبو حيوة تتذكرون بتاءين أمن يهديكم في ظلمت البر والبحر أي يرشدكم في ظلمات الليالي في البر والبحر بالنجوم ونحوها من العلامات وإضافة الظلمات إلى البر والبحر للملابسة وكونها فيهما وجوز أن يراد بالظلمات الطرق المشبهات مجازا فانها كالظلمات في إيجاب الحيرة
ومن يرسل الريح بشرا بين يدي رحمته قد تقدم تفسير نظير هذه الجملة ءإله مع الله نفي لأن يكون معه سبحانهإله آخر وقوله تعالى تعالى الله عما يشركون
36
- تقرير وتحقيق له وإظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار للاشعار بعلة الحكم أي تعالى وتنزه بذاته المنفردة بالألوهية المستتبعة لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال المقتضية لكون جميع المخلوقات مقهورة تحت قدرته عما يشركون أي عن وجود ما يشركونه به سبحانه بعنوان كونه إلها وشريكا له تعالى أو تعالى الله عن شركة أو مقارنة ما يشركونه به سبحانه ويجوز أن تكون ما مصدرية أي تعالى الله عن إشراكهم وقريء عما تشركون بناء الخطاب
أمن يبدؤا الخلق أي يوجده مبتدئا له ثم يعيده يكرر إيجاده ويرجعه كما كان وذلك بعد اهلاكه ضرورة أن الاعادة لاتعقل إلا بعده والظاهر أن المراد بهذا ما يكون من الاعادة بالبعث بعد الموت فأل في الخلق ليست للاستغراق لأن منه ما لايعاد بالاجماع ومنه ما في إعادته خلاف بين المسلمين وتفصيله في محله
واستشكل الحمل على الاعادة بالبعث بأن الكلام مع المشركين وأكثرهم منكرون لذلك فكيف يحمل الكلام عليه ويخاطبون به خطاب المعترف وأجيب بأن تلك الاعادة لوضوح براهينها جعلوا كأنهم معترفون بها لتمكنهم من معرفتها فلم يبق لهم عذر في الانكار وقيل : إن منهم من اعترف بها والكلام بالنسبة اليه وليس بذاك وأما تجويز كون أل للجنس وأن المراد بالبدء والاعادة ما يشاهد في عالم الكون والفساد من
(20/7)

إنشاء بعض الاشياء وإهلاكها ثم إنشاء أمثالها وذلك مما لاينكره المشركون للاعادة بعد الموت فليس بشيء أصلا كما لايخفى ومن يرزقكم من السماء والأرض أي بأسباب سماوية وأرضية قد رتبها على ترتيب بديع تقتضيه الحكمة التي عليها بني أمر التكوين ءإله آخر موجود مع الله حتى يجعل شريكا له سبحانه في العبادة وقوله تعالى : قل هاتوا برهانكم أمر له عليه الصلاة و السلام بتبكيتهم إثر تبكيت أي هاتوا برهانا عقليا أو نقليا يدل على أن معه عز و جل إلها وقيل : أي هاتوا برهانا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله عز و جل وتعقب بأن المشركين لايدعون ذلك صريحا ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة فمطالبتهم بالبرهان علي لا على صريح دعواهم مما لاوجه له وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم تهكم بهم لما فيها من إيهام أن لهم برهانا وأنى لهم ذلك وقيل : إن الاضافة لزيادة التبكيت كأنه قيل : نحن نقنع منكم بما تعدونه أنتم أيها الخصوم برهانا يدل على ذلك وإن لم نعده نحن ولا أحد من ذوي العقول كذلك ومع هذا أنتم عاجزون عن الاتيان به إن كنتم صدقين
46 - أي تلك الدعوى واستدل به على أن الدعوى لاتقبل مالم تنور بالبرهان
هذا وفي الكشف أن مبنى هذه الآيات الترقي لأن الكلام في إثبات أن لاخيرية في الاصنام مع أن كل خير منه تبارك وتعالى فأجمل أولا بذكر أسمه سبحانه الجامع في قوله تعالى : أألله ثم أخذ في المفصل فجعل خلق السموات والارض تمهيدا لإنزال الماء وإنبات الحدائق لابل للاخير يدل عليه الالتفات هنالك والتأكيد بقوله تعالى : ما كان لكم أن تنبتوا كأنه يذكر سبحانه ما فيها من المنافع الكثيرة لونا وطعما ورائحة واسترواح ظل
ولما أثبت أن فعله الخاص أنكر أن يكون له شريك وجعلهم عادلين عن منهج الصواب أو عادلين به سبحانه من لايستحق والأول أظهر ثم ترقى منه إلى ما هو أكثر لهم خيرا وأظهر في نفعهم من جعل الأرض قرارا وما عقبه فذكر جل وعلا مالايتم الانبات المذكور إلا به مع منافع يتصاغر لديها منفعة الانبات وعقبه بجهلهم المطلق المنتج للعدول المذكور وأسوأ منه وأسوأ ثم بالغ في الترقي فذكر ما هو لصيق بهم دون واسطة من دفع أو نفع فخص إجابتهم عند الاضطرار وعم بكشف السوء والمضار هذا فيما يرجع إلى دفع المحذور وإقامتهم خلفاء في الأرض ينتفعون بها وبما فيها كما أحبوا وهذا أتم من الاولين وأعم وأجل موقعا وأهم ولهذا فصل بعدم التذكر وبولغ فيه تلك المبالغات وأما ذكر الهداية في ظلمات البر والبحر وذكر إرسال الرياح المبشرة استطرادا لمناسبة حديث الرياح مع الهداية في البحر فمن متممات الخلافة وإجابة المضطر وكشف السوء فافهم
ونبه على هذا بأنه فصل بقوله تعالى : تعالى الله عما يشركون ثم ختم ذلك كله بالاضراب عن هذا الاسلوب بتذكير نعمتي الايجاد والاعادة فكل نعمة دونهما لتوقف النعم الدنيوية والأخروية عليها وعقبه باجمال يتضمن جميع ما عدده أولا وزيادة أعني رزقهم من السماء والارض وأدمج في تأخيره أنه دون النعمتين ولهذا بكتهم بطلب البرهان فيما ليس وسجل بكذبهم دلالة على تعلقه بالكل وأن هذ الخاتمة ختام مسكي والمعرض عن تشام نفحاته مسكي وعن هذا التقرير ظهر وجه الابدال مكشوف النقاب والحمد لله تعالى المنعم الوهاب اه
(20/8)

وفي غرة التنزيل للراغب ما يؤيده وقد لخصه الطيبي في شرح الكشاف والله تعالى أعلم بأسرار كتابه
قل لايعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله بعدما تحقق تفرده تعالى بالألوهية ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العامة عقب بذكر مالاينفك عنه وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث وفي البحر قيل : سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدوها الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وألحوا عليه عليه الصلاة و السلام فنزل قوله : قل لايعلم الآية فمناسبتها على هذا لما قبلها من قوله تعالى : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده أتم مناسبة والظاهر المتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم وهو موصول أو موصوف والغيب مفعوله والاسم الجليل مرفوع على البدلية من من والاستثناء على ما قيل : منقطع تحقيقا متصل تأويلا على حد ما في قول الراجز : وبلدة ليس فيها أنيس إلا اليعافير وإل العيس بناء على إدخال اليعافر في الانيس بضرب من التأويل فيفيد المبالغة في نفي علم الغيب عمن في السموات والارض بتعليق علمهم إياه بما هو بين الاستحالة من كونه تعالى منهم كأنه قيل : إن كان الله تعالى ممن فيها ففيهم من يعلم الغيب يعني أن استحالة علمهم الغيب كاستحالة أن يكون الله تعالى منهم ونظير هذا مما لااستثناء فيه قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
وقيل : هو منقطع على حد الاستثناء في قوله : عشية ما تغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرفي المصمم يعني أنه من اتباع أحد المتباينين الآخر نحو ما أتاني زيد إلا عمرو وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه وقد ذكرهما سيبويه وذكر ابن مالك أن الاصل فيهما : ما أتاني أحد إلا عمرو وما أعانه أحد إلا إخوانه فجعل مكان أحد بعض مدلوله وهو زيد وإخوانكم ولو لم يذكر الدخلاء فيمن نفي عنهم الاتيان والاعانة ولكن ذكرا توكيدا لقسطهما من النفي دفعا لتوهم المخاصب أن المتكلم لم يخطر له هذا الذي أكد به فذكر تأكيدا وعليه يكون الاصل في الآية لايعلم أحد الغيب إلا الله فحذف أحد وجعل مكانه بعض مدلوله وهو من في السموات والارض والبعض الآخر من ليس فيهما ويكفي في كونه مدلولا له صدقه عليه ولايجب في ذلك وجوده في الخارج فقد صرحوا أن من الكلي ما يمتنع وجود بعض أفراده أو كلها في الخارج على أن من أجله الاسلاميين من قال بوجود شيء غير الله عز و جل وليس في السموات ولا في الأرض وهو الروح الأمرية فانها لامكان لها عندهم على نحو العقول المجردة عند الفلاسفة وقال : إن شرط الاتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه والاستغناء عنه بالمستثنى فان لم يوجد هذا الشرط تعين النصب عند التميمي والحجازي كما في قوله تعالى : أن اتباع المنقطع من تغليب العاقل على غيره ويلزم عليه أن يختص بأحد وشبهه وهو فاسد كما قال ابن خروف لأن ما يبدل منه في هذا الباب ما ذكر أكثر من أن يحصى اه
وكلام الزمخشري يوهم صدره أن الاستثناء هنا من قبيل الاستثناء في المثالين اللذين ذكرهما سيبويه وفي البيت الذي ذكرناه قبيلهما ويفهم عجزه أنه من قبيل الاستثناء في الرجز السابق وأن الداعي إلى اختيار المذهب التميمي نكتة المبالغة التي سمعتها وقد صرحوا أن إفادة تلك النكتة إنما تتأتى إدا جعل الاستثناء منقطعا تحقيقا متصلا تأويلا ولعل الحق أنه إذا أريد الدلالة على قوة النفي تعين جعل الاستثناء نحو الاستثناء في قوله : وبلدة
(20/9)

الخ وإذا أريد الدلالة على عموم النفي تعين جعله نحو الاستثناء في قولهم : ما أعانهإخوانكم إلا إخوانه فتدبر وجوز كونه متصلا كما هو الأصل في الاستثناء على أن المراد بمن في السموات والارض من اطلع عليهما اطلاع الحاضر فيهما مجازا مرسلا أو استعارة وأيا ما كان فهو معنى مجازي عام له تعالى شأنه ولذوي العلم من خلقه وهو المخلص من لزوم ارتكاب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف في صحته كما فعله بعض القائلين بالاتصال وقيل : يعلق الجار والمجرور على ذلك التقدير بنحو يذكر من الافعال المنسوبة على الحقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين لابنحو استقر مما لايصح نسبته اليه سبحانه على الحقيقة أي لايعلم من يذكر في السموات والارض الغيب إلا الله ويجوز تعليقه باستقر أيضا إلا أنه يجعل مسندا إلى مضاف حذف وأقيم المضاف مقامه أي لايعلم من أستقر ذكره في السموات والأرض الغيب إلا الله فحذف الفعل والمضاف واستتر الضمير لكونه مرفوعا وهذا وما قبله كما ترى واعترض حديث الاتصال بأنه يلزم عليه التسوية بينه تعالى وبين غيره في إطلاق لفظ واحد وهو أمر مذموم فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله وأجيب بأن ذلك مما يذم إدا صدر من البشر أما إدا صدر منه تعالى فلا يذم على أن كونه مما يذم إذا صدر من البشر مطلقا ممنوع فقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه تعالى وسلم : ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الايمان من كان الله تعالى ورسوله أحب اليه مما سواهما الحديث ولعل مراد الذم والمدح تضمن ذلك نكتة لطيفة وعدم تضمنه إياها وقد قيل في حديث أنس : النكتة في تثنية الضمير الايماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين والنكتة في إفراد حديث عدي الاشعار بأن كلا من العصيانين مستقل باستلزام الغواية وقد مر الكلام في هذا المبحث فتذكر وجوز أن يعرب من مفعول يعلم والغيب بدل اشتمال منه والاسم الجليل فاعل يعلم ويكون استثناء مفرغا أي لايعلم غيب من في السموات والارض إلا الله ولا يخفى بعده
والغيب في الأصل غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين واستعمل في الشيء الغائب الذي لم تنصب له قرينة وون ذلك غيبا باعتباره بالناس ونحوهم لا بالله عز و جل فانه سبحانه لايغيب عنه تعالى شيء لكن لايجوز أن يقال : إنه جل وعلا لا يعلم الغيب قصدا إلى أنه لا غيب بالنسبة اليه ليقال يعلمه شنع الشيخ الفاروقي السرهندي المشهور بالامام الرباني في متكوباته على من قال ذلك قاصدا ما ذكر أتم تشنيع كما هو عادته جزاه الله تعالى خيرا فيمن لم يتأدب بآداب الشريعة الغراء والظاهر عموم الغيب وقيل : المراد به الساعة وقيل : ما يضمره أهل السموات والارض في قلوبهم وقيل : المراد جنس الغيب ويلزم من نفي علم جنسه عن غيره عز و جل نفي علم كل فرد من افراده عن ذلك الغير ولا يضر في ذلك أن الآية لاتدل حينئذ على ثبوت علم كل غيب له عز و جل بل قصارى ما تدل عليه ثبوت علم جنس الغيب له سبحانه لأنه المنفي صريحا عن المستثنى منه ولا يلزم من ثبوت علم هذا الجنس ثبوت علم كل فرد من أفراده لأنها لم تسق للاستدلال بها على ذلك وكم وكم من دليل عقلي ونقلي يدل عليه وتعقب بأن الغيب من حيث أنه غيب لايتفاوت فمتى ثبت العلم ببعض أفراده ثبت العلم بجميعها دفعا للزوم الترجيح بلا مرجح فتأمل
(20/10)

واختار بعضهم الاستغراق أي لايعلم من في السموات والارض كل غيب إلا الله فانه سبحانه يعلم كل غيب لأنه الاوفق بالمقام واعترض بانه يلزم أن يكون من أهل السموات والارض من بعلم بعض الغيوب وظاهر كلام كثير من الأجلة يأبى ذلك ويؤيده ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه قالت : من زعم أن محمد صلى الله عليه و سلم يخبر الناس بما يكون في غد وفي بعض الروايات يعلم ما في غد فقد أعظم على الله تعالى الفرية والله تعالى يقول : قل لايعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله وجوز بعضهم أن يكون منهم من يعلم بعض الغيوب ففي بيان قواطع الاسلام تأليف العلامة ابن حجر بعد الرد على من أكفر من قيل له : أتعلم الغيب فقال : نعم لأن فيما قاله تكذيب النص وهو قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلأ هو وقوله تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ما نصه : وعلى كل فالخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا كما وقع لكثير منهم واشتهر والذي اختص به تعالى إنما هو علم الجميع وعلم مفاتح الغيب المشار اليها بقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب الآية وينتج من هذا التقرير أن من ادعى علم الغيب في قضية أو قضايا لايكفر وهو محمل ما في الروضة ومن ادعى علمه في سائر القضايا يكفر وهو محمل ما في أصلها إلا أن عبارته لما كانت مطلقة تشمل هذا وغيره ساغ للنووي الاعتراض عليه فان أطلق فلم يرد شيئا فالأوجه ما اقتضاه كلام النووي من عدم الكفر انتهى
ولعل الحق أن يقال : إن علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص لذاته أي بلا واسطة في ثبوته له وهذا مما لايعقل لأحد من أهل السموات والأرض لمكان الامكان فيهم ذاتا وصفة وهو يأبى ثبوت شيء لهم بلا واسطة ولعل في التعبير عن المستثنى منه بمن في السموات والأرض إشارة إلى عله الحكم وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء ضرورة أنه من الواجب عز و جل أفاضه عليهم بوجه من وجوه الافاضة فلا يقال : إنهم علموا الغيب بذلك المعنى ومن قاله كفر قطعا وإنما يقال : إنهم أظهروا أو اطلعوا بالبناء للمفعول على الغيب أو نحو ذلك مما يفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم ويؤيد ما ذكر أنه لم يجيء في القرآن الكريم نسبة علم الغيب إلى غيره تعالى أصلا وجاء الاظهار على الغيب لمن ارتضى سبحانه من رسول لايقال : يجوز على هذا أن يقال : أعلم فلان الغيب بالبناء للمفعول أيضا على معنى أن الله تعالى أعلمه وعرفه بطريق من طرق الاعلام والتعريف ومتى جاز هذا أن يقال : علم فلان الغيب بقصد نسبة علمه الحاصل من إعلامه اليه لأنا نقول : لا كلام في جواز أعلم بالبناء للمفعول وإنما الكلام في قولك : ومتى جاز هذا جاز أن يقال الخ فنقول : إن إريد بالجواز في تالي الشرطية الجواز معنى أي الصحة من حيث المعنى فمسلم لكن ليس كل ما جاز معنى بهذا جاز شرعا استعماله وان أريد الجوازشرعا بمعنى عدم المنع من استعماله فهو ممنوع لما فيه من الايهام والمصادمة لظاهر الآيات كآية قل لايعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وغيرها وقد سمعت عن الامام الرباني قدس سره النوراني أنه حط كل الحط على ما قال الله سبحانه : لايعلم الغيب متأولا له بما تقدم لما فيه من المصادمة للنصوص القرآنية وغيرها وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه وقد شنعوا أيضا على من قال : أكره الحق وأحب الفتنة وأفر من الرحمة مريدا بالحق الموت وبالفتنة المال أو الولد وبالرحمة المطر لما في ظاهره من الشناعة والبشاعة ما لا يخفى
(20/11)

نعم لايكفر قائل ذلك بذلك القصد ويلزمه التعزير كيلا يعود إلى قوله ثم إن علم غير الغيب من المحسوسات والمعقولات وإن كان لايثبت لشيء من الممكنات بلا واسطة في الثبوت أيضا إلا أنه في نسبته عمن سواه جل وعلا بل صرح في مواضع أكثر من ان تحصى بنسبته إلى غيره سبحانه ولو ورد فيه ما ورد في علم الغيب لا التزم فيه ما التزم فيه وعلى ما تقرر لايكون علم العقول بما لم يكن بعد من الحوادث على ما يزعمه الفلاسفة من علم الغيب بل هو لو سلم علم حصل من الفياض المطلق جل شأنه بطريق من الطرق التي تقتضيها الحكمة فلا ينبغي أن يقال فيهم : إنهم عالمون بالغيب وقائله إا كافر أو مسلم آثم وكذا يقال في علم بعض المرتاضين من المسلمين الصوفية والكفرة الجوكية فان كل ما يحصل لهم من ذلك فانما هو بطريق الفيض ومراتبه وأحواله لاتحصى والتأهل له قد يكون فطريا وقد يكون كسبيا وطرق اكتسابه متشعبة لا تكاد تستقصى وإفاضة ذلك على كفرة المرتاضين وإن أشبهت إفاضته على المؤمنين المتقين إلا أن بين الأمرين فرقا عظيما عند المحققين وقد ذ : ربعض المتصوفة أنه ما من حق إلا وقد جعل له باطل يشبهه لأن الدار دار فتنة وأكثر ما فيها محنة ويلحق بعلم المرتاضين من الجوكية علم بعض المتصوفة المنسوبين إلى الإسلام المهملين أكثر أحكامه الواجبة عليهم المنهمكين في ارتكاب المحظورات في نهارهم وليلهم فلا ينبغي اعتقاد أن ذلك كرامة بل هو نقمة إلى حسرة وندامة وأما علم النجومي بالحوادث الكونية حسبما يزعمه فليس من هذا القبيل لأن تلك الحوادث التي يخبر بها ليست من الغيب بالمعنى الذي ذكرناه إد هي وإن كانت غائبة إلا أنها على زعمه مما نصب لها قرينة من الاوضاع الفلكية والنسب النجومية من الاقتران والتثليث والتسديس والمقابلة ونحو ذلك وعلمه بدلالة القرائن التي يزعمها ناشيء من التجربة وما تقتضيه طبائع النجوم والبروج التي دل عليها بزعمه اختلاف الآثار في عالم الكون والفساد فلا أرى العلم بها إلا كعلم الطبيب الحاذق إذا رأى صفراويا مثلا علم رتبة مزاجه وحققها يأكل مقدارا معينا من العسل أن يعتريه بعد ساعة أو ساعتين كذا وكذأ من الألم وإطلاق علم الغيب على ذلك فيه ما فيه وإن أبيت إلا تسمية ذلك غيبا فالعلم به لكونه بواسطة الاسباب كعلمنا بالله تعالى وصفاته العلية وعلمنا بالجنة والنار ونحو ذلك على أنك إدا انصفت تعلم أن ما عند النجومي ونحوه ليس علما حقيقيا وإنما هو ظن وتخمين مبني على ما هو أوهن من بيت العنكبوت كما سنحقق ذلك بما لامزيد عليه في محله اللائق به إنشاء الله تعالى
وأقوى ما عنده معرفة زمني الكسوف والخسوف وأزمنة تحقق النسب المخصوصة بين الكواكب وهي ناشئة من معرفة مقادير الحركات للكواكب والافلاك الكلية والجزئية وهي أمور محسوسة تدرك بالارضاد والآلات المعمولة لذلك وبالجملة علم الغيب بلا واسطة لا أو بعضا مخصوص بالله جل وعلا لايعلمه أحد من الخلق أصلا ومتى اعتبر فيه نفي الواسطة بالكلية تعين أن يكون من مقتضيات الذات فلا يتحقق فيه تفاوت بين غيب وغيب فلا بأس بحمل أل في الغيب على الجنس ومتى حملت على الاستغراق فاللائق أن لايعتبر في الآية سلب العموم بل يعتبر عموم السلب ويلتزم أن القاعدة أغلبية وكذا يقال في السلب والعموم في جانب الفاعل فتأمل فهذأ ما عندي ولعل ما عندك خير منه والله تعالى أعلم
(20/12)

وما يشعرون أيان يبعثون
56
- أي متى ينشرون من القبور مع كونه مما لابد منه ومن أهم الأمور عندهم فأيان اسم استفهام عن الزمان ولذا قيل : إن أصلها أي آن أي أي زمان وإن كان المعروف خلافه وهي معمولة ليبعثون والجملة في موضع النصب بيشعرون وعلقت يشعرون لمكان الاستفهام وضمير الجمع للكفرة وإن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه وبين ما يذكر بعد من الضمائر الخاصة بهم قطعا وقيل : الكل لمن وإسناد خواص الكفرة إلى الجميع من قبيل بنو فلان فعلوا كذا والفاعل بعض منهم وفيه بحث
وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة وهي لغة بني سليم بل أدارك علمهم في الآخرة إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره وأصل ادارك تدارك فأدغمت التاء في الدال فسكنت فاجتلبت همزة الوصل وهو من تدارك بنو فلان إدا تتابعوا في الهلاك وهو مراد من فسر التدارك هنا بالاضمحلال والفناء وإلا فأصل التدارك التتابع والتلاحق مطلقا وفي الآخرة متعلق بعلمهم والعلم يتعدى بفي كما يتعدى بالباء وهي حينئذ بمعنى الباء كما نص عليه الفراء وابن عطية وغيرهما والمعنى بل تتابع علمهم في شأن الآخرة التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها حتى انقطع وفنى ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا مع توفر أسبابه فهو ترق عن وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش وليس تدارك علمهم بذلك على معنى أنه كان لهم علم به على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه وإجراء تساقطها عن درجة اعتبارهم كلما لاحظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع
وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي ادارك أسباب علمهم والتدارك مجاز عما ذكر من التساقط وقوله تعالى : بل هم في شك منها إضراب وانتقال عن عدم علمهم بها إلى ما هو أفحش منه على نحو ما مر وهو حيرتهم في ذلك أي بل هم في شك عظيم من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لايجد عليه دليلا فضلا عن الأمور التي ستقع فيها وقوله سبحانه : بل هم منها عمون
66
- إضراب وانتقال عن وصفه شاكين إلى وصفهم بما هو أفظع منه وهو كونهم عميا قد اختلت بصائرهم بالكلية بحيث لايكادون يدركون طريق العلم بها وهو الدلائل الدالة على أنها كائنة لامحالة فالمراد عمون عن دلائلها أو عمون عن كل ما يوصلهم إلى الحق ويدخل فيه دلائلها دخولا أوليا و منها متعلق بعمون قدم عليه رعاية للفواصل ولعل تعديته بمن دون عن لجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه والكفر بالعاقبة والجزاء يدع الشخص عاكفا على تحصيل مصالح بطنه وفرجه لايتدبر ولا يتبصر فيما عدا ذلك
وجوز أن يكون ادارك بمعنى استحكم وتكامل ووصفهم باستحكام علمهم بذلك وتكامله من باب التهكم بهم كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك على سبيل الهزء ومال التهكم المذكور نفي علمهم بذلك كما في الوجه السابق لكن على الوجه الأبلغ والاضرابان من باب الترقي من الوصف بالفضيع إلى الوصف بالأفضع نحو ما تقدم وهو وجه حسن ويشعر كلام بعض المحققين بترجيحه على ما ذ : رنا أولا
وجوز أيضا أن يكون المراد بالادراك الاستحكام لكن على معنى استحكم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لامحالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون في ذلك وفيه
(20/13)

أنأن دلالة النظم الكريم على إرادة وهم جاهلون ليست بواضحة
وقال الكرماني : التدارك التتابع والمراد بالعلم هنا الحكم والقول والمعنى بل تتابع منهم القول والحكم في الآخرة وكثر منهم الخوض فيها فنفاها بعضهم واستبعدها بعضهم وفيه ما فيه
وقيل : إن في الآخرة متعلق بادارك واليه ذهب الزجاج والطبرسي واقتضته بعض الآثار المروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمعنى على هذا عند بعضهم بل استحكم في الآخرة علمهم بما جهلوه في الدنيا حيث رأوا ذلك عيانا وكان الظاهر يدارك بصيغة الاستقبال إلا أنه عبر بصيغة الماضي لتحقق الوقوع
وقيل : التدارك عليه من تداركت أمر فلان إدا تلافيته ومفعوله هنا محذوف أي بل تدارك في الآخرة علمهم ما جهلوه في الدنيا أي تلافاه وحاصل المعنى بل علموا ذلك في الآخرة حين لم ينفعهم العلم والتعبير بصيغة الماضي على ما علمت ولايخفى أن في وجه ترتيب الاضرابات الثلاث حسب ما في النظم الكريم على هذين الوجهين خفاءا فتدبر
وقرأ أبي أم تدارك على الأصل وجعل أم بدل بل وقرأ سليمان بن يسار بل أدرك بنقل حركة الهمزة إلى اللام وشد الدال بناء ا على وزنه افتعل فادغم الدال وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالا فصار فيه قلب الثاني للاول كما في قولهم : أثرد وأصله اثترد من الثرد والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام ادخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ثم انحذفت هي والقيت حركتها على لام بل وقرأ أبو رجاء والاعرج وشيبة وطلحة وتوبة العنبري كذلك إلا أنهم كسروا لام بل وروي ذلك عن ابن عياش وعاصم والاعمش
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل مكة بل أدرك على وزن أفعل بمعنى تفاعل ورويت عن أبي بكر عن عاصم وقرأ عبد الله في رواية وابن عباس في رواية أبي حيوة وغيره عنه والحسن وقتادة وابن محيصن بل آدرك بمد بعد همزة الاستفهام وأصله أأدرك فقلبت الثانية ألفا تخفيفا كراهة الجمع بين همزتين وأنكر أبو بكر بن أبي العلاء هذه الرواية وقال أبو حاتم : لايجوز الاستفهام بعد بل لأن بل للايجاب والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى لم يكن كما في قوله تعالى : أشهدوا خلقهم أي لم يشهدوا خلقهم فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار اه
وقد أجاز بعض المتأخرين كما قال أبو حيان : الاستفهام بعد بل وشبهه بقول القائل : أخبزا أكلت بل أماء شربت على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني وقرأ مجاهد أم أدرك جعل أم بدل بل وادرك على وزن أفعل وقرأ ابن عباس في رواية أيضا بل أدارك بهمزة داخلة على ادارك فتسقط همزة الوصل المجتلبة لأجل الادغام والنطق بالساكن وقرأ ابن مسعود أيضا بل أأدرك بهمزتين همزة الاستفهام وهمزة أفعل وقرأ الحسن أيضا والاعرج بل أدرك بهمزة وادغام فاء الكلمة وهي الدال في فاء افتعل بعد صيرورة التاء دالا وقرأ ورش في رواية بل ادرك بحذف همزة أدرك ونقل حركتها إلى اللام وقرأ ابن عباس أيضا بلى أدرك بحرف الايجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي وقرأ بل آأدارك بألف بين الهمزتين فهذه عدة قراآت فما فيه منها استفهام صريح أو مضمن فهو إنكار ونفي وما فيه بلى فقد قال فيه أبو حاتم : إن كان بلى جوابا لكلام جاز أن يستأنف بعده كأن قوما أنكروا ما تقدم من القدرة
(20/14)

فقيل لهم : بلى ايجابا لما نفوا ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى : بل هم في شك منها بمعنى أم هم في شك منها لأن حروف العطف قد تتناوب وكف عن الجملتين بقوله تعالى : بل هم منها عمون اه يعني أن المعنى أأدرك علمهم بالآخرة أم شكوا قبل بمعنى أم عودل بها الهمزة وتعقبه في البحر بأن جعل بل بمعنى أم ومعادلتها لهمزة الاستفهام ضعيف جدا وقال بعض المحققين : ما فيه بلى فاثبات لشعورهم وتفسير له بالادراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والانكار وما بعده من قوله تعالى : بل هم في شك الخ إضراب عن التفسير مبالغة في النفي ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل أنهم منها عمون فهو على منوال
تحية بينهم ضرب وجيع
أو رد وانكار لشعورهم على أن الاضراب إبطالي فافهم وقوله تعالى : وقال الذين كفروا ءإذا كنا ترابا وءآباؤنا أئنا لمخرجون
67
- كالبيان لجهلهم بالآخرة وعماهم منها ووضع الموصول موضع ضميرهم لذهم بما في حيز صلته والاشعار بعلة حكمهم الباطل الذي تضمنه مقول القول وإذا ظرف لمحذوف دل عليه مخرجون أي أنخرج إذا كنا ترابا ولا مساغ لأن يكون ظرفا لمخرجون لأن كلا من الهمزة وإن واللام على ما قيل : مانعة من عمل مابعدها فيما قبلها فكيف بها إذا اجتمعت ولم يعتبر بعضهم اللام مانعة بناءا على ما قرر في النحو من جواز تقدم معمول خبر إن المقرون باللام عليه نحو إن زيدا طعامك لآكل ويكفي حينئذ مانعان وأظن أن من قال : يتوسع في الظروف ما يتوسع في غيرها لايقول باطراد الحكم في مثل هذا الموضع ومرادهم بالاخراج الاخراج من القبور وجوز أن يكون الاخراج من حال الفناء إلى الحياة والاول هو الظأهر وتقييد الاخراج بوقت كونهم ترابا ليس لتخصيص الانكار بالاخراج حينئذ فقط فانهم منكرون للاحياء بعد الموت مطلقا وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الانكار بتوجيه إلى الاخراج في حالة منافية له بزعمهم وقوله سبحانه : وآباؤنا عطف على أسم كان واستغنى بالفصل بالخبر عن الفصل بالتأكيد وتكرير الهمزة في أئنا للمبالغة والتشديد في الانكار وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الانكار لا لانكار التأكيد كما يوهمه النظم الكريم فان تقديم الهمزة لاصالتها في الصدارة والضمير في أئنا لهم ولآبائهم لأن الكون ترابا قد تناولهم وآبائهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أئذا وأئنا بالجمع بين الاستفهامين وقلب الثانية ياءا وفصل بينهما بألف أبو عمرو
وقرأ نافع إذا بهمزة واحدة مكسورة فهمزة الاستفهام مقدرة مع الفعل المقدر لأن المعنى ليس على الخبر و آينا بهمزة الاستفهام وقلب الثانية ياءا وبينهما مدة وقرأ آخرون أئذا باستفهام ممدود أننا بنونين من غير استفهام لقد وعدنا هذا أي الاخراج المذكور نحن وءاباؤنا من قبل أي من قبل وعد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وتقديم الموعود على نحن هنا للدلالة على أنه هو الذي تعمد بالكلام وقصد به حتى كأن ما سواه مطروح وعلاوة له كما ينبيء عن ذلك ذكر ما صدر منهم أنفسهم مؤكدا مقررا مكررا وتأخيره عنه في آية سورة المؤمنين لرعاية الأصل ولا مقتضى للعدول إذ لم يذكر هناك سوى اتباعهم أسلافهم في الكفر وإنكار البعث من غير نعي ذلك عليهم والجملة استئناف مسوق لتقرير الانكار وتصديرها بالقسم لمزيد التأكيد وقوله تعالى : إن هذا إلا أسطير الأولين
86
- تقرير إثر تقرير
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عقبة المجرمين
96
- بسبب تكذيبهم الرسل عليهم الصلاة والسلام
(20/15)

فيما دعوهم اليه من الايمان بالله عز و جل وحده وباليوم الآخر الذي تنكرونه فان في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولي الأبصار وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين الأعم منه بحسب المفهوم لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم لما فيه من إرشادهم إلى أن الجرم مطلقا مبغوض لله عز و جل ولاتحزن عليهم لأصرارهم على الكفر والتكذيب ولا تك في ضيق أي في حرج صدر مما يمكرون
7
- أي من مكرهم فان الله يعصمك من الناس
وقرأ ابن كثير ضيق بكسر الضاد وهو مصدر أيضا وجوز أن يكون مفتوح الضاد مخففا من ضيق وقد قريء كذلك أي لاتكن في أمر ضيق وكره أبو علي ذلك مخففا مما ذكر يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه وليس من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد وفيه بحث
ويقولون متى هذا الوعد أي العذاب العاجل الموعود وكأنهم فهموا وعدهم بالعذاب من الأمر بالسير والنظر في عاقبة أمثالهم المكذبين ويعلم منه وجه للتعبير بيقولون وعدم إجرائه على سنن ما قبله أعني وقال الذين كفروا وسؤالهم عن وقت إتيان هذا العذاب على سبيل الاستهزاء والانكار ولذا قالوا : إن كنتم صدقين
17
- عانين إن كنتم صادقين في إخباركم باتيانه فبينوا لنا وقته والجمع باعتبار شركة المؤمنين في الاخبار بذلك قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون
27
- أصل معنى ردف تبع والمراد به هنا لحق ووصل وهو مما يتعدى بنفسه وباللام كنصح
وقيل : اللام مزيدة لتأكيد وصول الفعل إلى المفعول به كما زيدت الباء لذلك في قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقيل : إن اللام لتضمين ردف معنى دنا وهو يتعدى باللام كما يتعدى بمن وإلى كما في الأساس ولتضمينه ذلك عدي بمن في قوله : فلما ردفنا من عمير وصحبه تولوا سراعا والمنية تعنق وقيل : اللام داخلة على المفعول لأجله والمفعول به الذي يتعدى اليه الفعل بنفسه محذوف أي ردف الخلق لأجلكم ولايخفى ضعفه وقيل : إن الكلام تم عند ردف على أن فاعله ضمير يعود على الوعد ثم استأنف بقوله تعالى : لكم بعض الذي تستعجولن على أن بعض مبتدأ و لكم متعلق بمحذوف وقع خبرا له ولايخفى ما فيه من التفكيك للكلام والخروج عن الظاهر لغير داع لفظي ولا معنوي والمعنى قل عسى أن يكون لحقكم ووصل اليكم بعض الذي تستعجلون حلوله وتطلبونه وقتا فوقتا والمراد بهذا البعض عذاب يوم بدر وقيل : عذاب القبر بذاك ونسبة استعجال ذلك اليهم بناءا على ما يقتضيه ما هم عليه من التكذيب والاستهزاء وإلا فلا استعجال منهم حقيقة والترجي المفهوم من عسى قيل : راجع الى العباد
وقال الزمخشري : إن عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجده وما لامجال بعده وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وأنهم لايعجلون بالانتقام لادلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم بأن عدوهم لايفوتهم وأن الرمزة إلى الاغراض كافية من جهتهم فعلى ذلك جرى وعد الله تعالى ووعيده سبحانه انتهى
(20/16)

وعليه ففي الكلام استعارة تمثيلية ولا يخفى حسن ذلك وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال : عسى أن يردفكم الخ لكونه أدل على تحقق الوعد وقرأ ابن هرمز ردف بفتح الدال وهو لغة فيه
وإن ربك لذو فضل على الناس أي لذو إفضال وإنعام كثير على كافة الناس ومن جملة إفضاله عز و جل وإنعامه تعالى تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي ولكن أكثرهم لايشكرون
37
- أي لايشكرونه جل وعلا على أفضاله سبحانه عليهم ومنهم هؤلاء وقيل : لايعرفون حق فضله تعالى عليهم تعبيرا عن انتفاء معرفتهم ذلك بانتفاء ما يترتب عليها من الشكر وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهمأي ما تخفيه من الاسرار التي من جملتها عداوتك وما يعلنون
47
- أي وما يظهرونه من الأقوال والافعال التي من جملتها ماحكي عنهم فليس تأخير عقوبتهم لخفاء حالهم عليه سبحانه أو فيجازيهم على ذلك وفعل القلب إذا كان مثل الحب والبغض والتصديق والتكذيب والعزم المصمم على طاعة أو معصية فهو مما يجازى عليه وفي الآية إيذان بأن لهم قبائح غير ما حكي عنهم وتقديم الاكتنان ليظهر المراد من استواء الخفي والظاهر في علمه جل وعلا أو لأن مضمرات الصدور سبب لما يظهر على الجوارح وإلى الرمز إلى فساد صدورهم التي هي المبدأ لسائر أفعالهم أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال : وإن ربك ليعلم ما يكنون وما يعلنون
وقرأ ابن محيصن وحميد وابن السميقع تكن بفتح التاء وضم الكاف من كن الشيء ستره وأخفاه
وما من غائبة في السماء والأرض أي من شيء خفي ثابت الخفاء فيهما على أن غائبة صفة غلبت في هذا المعنى فكثر عدم إجرائها على الموصوف ودلالتها على الثبوت وإن لم تنقل إلى الاسمية كمؤمن وكافر فتاؤها ليست للتأنيث إد لم يلاحظ لها موصوف تجري عليه كالرواية للرجل الكثير الرواية فهي تاء مبالغة ويجوز أن تكون صفة منقولة إلى الاسمية سمي بها ما يغيب ويخفى والتاء فيها للنقل كما في الفاتحة والفرق بين المغلب والمنقول على ماقال الخفاجي إن الأول يجوز إجراؤه على موصوف مذكر بخلاف الثاني
والظاهر عموم الغائبة كائنة ما كتنت إلا في كتب مبين
57
- أي بين أو مبين لما فيه لمن يطالعه وينظر فيه من الملائكة عليهم السلام وهو اللوح المحفوظ واشتماله على ذلك إن كان متناهيا لا إشكال فيه وإن كان غير متناه ففيه إشكال ظاهر ضرورة قيام الدليل على تناهي الابعاد واستحالة وجود مالا تناهى ولعل وجود الأشياء الغير المتناهية في علم الله تعالى في اللوح المحفوظ على نحو ما يزعمونه من وجود الحوادث في الجفر الجامع وإن لم يكن ذلك حذو القذة بالقذة
وقيل : المراد بالكتاب المبين علمه تعالى الأذلي الذي هو مبدأ لإظهار الأشياء بالارادة والقدرة وقيل : حكمه سبحانه الأذلي وإطلاق الكتاب على ما ذكر من باب الاستعارة ولا يخفى ما في ذلك
وقيل : المراد به القرآن واشتماله على كل غائبة على نحو ما ذكرنا في اشتمال اللوح المحفوظ عليه وقد ذكر أن بعض العارفين استخرج من الفاتحة أسماء السلاطين العثمانية ومدد سلطنتهم إلى آخر من يتسلطن منهم أدام الله تعالى ملكهم إلى يوم الدين ووفقهم لما فيه صلاح المسلمين
وذكر بعضهم في هذا الوجه أنه مناسب لما بعد من وصف القرآن وفيه ما فيه وقال الحسن : الغائبة هو
(20/17)

يوم القيامة وأهوالها وقال صاحب الغنيان : الحوادث والنوازل وقيل : أعمال العباد وقيل : ما غاب من عذأب السماء والأرض والعموم أولى وروي ذلك عن ابن عباس فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم أنه قال : في الآية يقول سبحانه : ما من شيء في السماء والأرض سرا وعلانية إلا يعلمه سبحانه وتعالى وأخذ منه بعضهم حمل الكتاب على العلم الأزلي وفيه نظر لجواز أن يكون قد جعل كون ذلك في كتاب مبين كناية عن علمه تعالى به
وذهب أبو حيان إلى أنه رضي الله تعالى عنه اعتبر في الآية حذف أحد المتقابلين اكتفاءا بالآخرة وكلامه رضي الله تعالى عنه محتمل لذلك ويحتمل أنه ذكر العلانية في بيان المعنى لأن من علم السر علم العلانية من باب أولى ويحتمل أن ذلك لأنه ما من علانية إلا وهي غيب بالنسبة إلى بعض الأشخاص فيكون قد أشار رضي الله تعالى عنه ببيان المعنى وذكر السر والعلانية فيه إلى أن المراد بغائبة في الآية ما يشملها وهو ما أتصف بالغيبة أعم من أن تكون مطلقة أو إضافية كذا قيل فتدبر
إن هذا القرءان يقص على بني اسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون
67
- لما ذكر سبحانه ما يتعلق بالمبدأ والمعاد ذكر تعالى ما يتعلق بالنبوة فان القرآن أعظم ما تثبت به نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر جل وعلا أنه يقص على بني إسرائيل والمراد بهم كما روي عن قتادة اليهود والنصارى أكثر ما تجدد واستمر اختلافهم فيه على وجه ويبين لهم حقيقة الأمر فيه وذلك مما يقتضي إسلامهم لو تاملوا وأنصفوا لكنهم لم يفعلوا وكابروا مثلكم أيها المشركون ومما اختلفوا فيه أمر المسيح عليه السلام فمن قائل : هو الله تعالى ومن قائل : ابن الله سبحانه ومن قائل : ثالث ثلاثة ومن قائل : هو نبي كغيره من الأنبياء عليهم السلام ومن قائل : هو وحاشاه كاذب في دعواه النبوة وينسب مريم فيه إلى ما هي منزهة عنه رضي الله تعالى عنها وهم اليهود الذي كذبوه وأمر النبي المبشر به في التوراة فمن قائل : هو يوشع عليه السلام ومن قائل : هو عيسى عليه السلام ومن قائل : إنه لم يأت إلى الآن وسيأتي في آخر الزمان ومما اختلفوا فيه أمر الخنزير فقالت اليهود : بحرمة أكله وقالت النصارى : بحله إلى غير ذلك
ؤإنه لهدى ورمة للمؤمنين
77
- على الاطلاق فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولا أوليا وتخصيص المؤمنين بهم كما فعل بعضهم خلاف الظاهر وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أنه رحمة للعالمين لأنهم المنتفعون به إن ربك يقضي بينهم أي بين بني إسرائيل الذين اختلفوا أو بين المؤمنين وبين الناس بحكمه قيل : أي بحكمته جل شأنه ويدل عليه قراءة جناح بن حبيش بحكمه بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمة مضاف إلى ضميره تعالى وقيل : المراد بالحكم المحكوم به إطلاقا للمصدر على اسم المفعول والمراد بالمحكوم به الحق والعدل وعلى الوجهين لم يبق على المعنى المصدري والداعي لذلك أن يقضي بمعنى يحكم فلو بقي الحكم على المعنى المصدري لصار الكلام نحو قولك : زيد يضرب بضربه وهو لايقال مثله في كلام عربي وأورد عليه أنه يصح أن يقال ذلك على معنى يضرب بضربه المعروف بالشدة مثلا فالمعنى هنا يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق أو يحكم بحكم نفسه تعالى لابحكم غيره عز شأنه كالبشر وقيل عليه : ليس المانع لصحة مثل هذا القول إضافة المصدر إلى ضمير الفاعل فانه لا كلام في صحته كاضافته إلى ضمير المفعول في سعى لها سعيها إنما المانع دخول الباء على المصدر المؤكد ثم إن المعنى الأول يوهم أن له سبحانه حكما غير معروف
(20/18)

بملابسة الحق والثاني إنما يظهر لو قدم بحكمه وفيه أنه على ما ذكر ليس بمصدر مؤكد وعدم الجواز في المصدر النوعي لاسيما إرا كان من غير لفظه ليس بمسلم وأيضا الظأهر أن المناع بزعم المؤول لزوم اللغوية لو لم يؤول بما ذكر والأولى إبقاؤه على المصدرية وجل الاضافة للعهد وكون المعنى كما قال المورد : يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق وأمر التوهم على طرف الثمام وايا ما كان فالضمير المجرور عائد على الرب سبحانه وعوده على القرآن إلى كثرة القيل والقال لايخفى ما فيه من القيل والقال على من له أدنى تمييز بأساليب المقال وهو العزيز فلا يرد حكمه سبحانه وقضاؤه جل جلاله العليم
87
- بجميع الأشياء التي من جملتها ما يقضي به والفاء في قوله تعالى : فتوكل على الله لترتيب الأمر على ما ذكر من شئونه عز و جل فانها موجبة للتوكل عليه تعالى وداعية إلى الأمر به وفي ذكره تعالى بالاسم الجامع تأييد لذلك أي فتوكل على الله الذي هذا شأنه فانه يوجب على كل أحد أن يتوكل عليه ويفوض جميع أموره اليه جل وعلا وقوله تعالى : إنك على الحق المبين
97
- تعليل صريح للتوكل عليه تعالى بكونه عليه الصلاة و السلام على الحق البين أو الفاصل بينه وبين الباطل أو بين المحق والمبطل فان كونه صلى الله تعالى عليه وسلم كذلك مما يوجب الوثوق بحفظه تعالى ونصرته وتأييده لامحالة وقوله سبحانه : إنك لاتسمع الموتى الخ تعليل آخر للتوكل الذي هو عبارة عن التبتل إلى الله تعالى وتفويض الأمر اليه سبحانه والاعراض عن التشبث بما سواه وقد علل أولا عليه الصلاة و السلام على أحد الوجهين أعني كونه صلى الله تعالى عليه وسلم على الحق من جهته تعالى على الوجه الآخر أعني إعانته تعالى وتأييده تعالى للمحق ثم علل ثالثا بما يوجبه لكن لابالذات بل بواسطة إيجابه للاعراض عن التشبث بما سواه تعالى فان كونهم كالموتى والصم والعمي موجب لقطع الطمع عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا وداع إلى تخصيص الاعتضاد به تعالى وهو المعني بالتوكل عليه جل شأنه وجوز أن يكون قوله تعالى : إنك لاتسمع الخ استئنافا بيانيا وقع جوابا لسؤال نشأ مما قبله أعني إنك على الحق المبين كأنه قيل : ما بالهم غير مؤمنين بمن هو على الحق المبين فقيل : إنك لاتسمع الموتى الخ
وتعقب بأنه يأباه السياق واعترض بالمنع وإنما شبهوا بالموتى على ما قيل لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من القوارع وإطلاق الأسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات وقيل : لعل المراد تشبيه قلوبهم بالموتى فيما ذكر من عدم الشعور فان القلب مشعر من المشاعر أشير إلى بطلانه بالمرة ثم بين بطلان مشعري الاذن والعين كما في قوله تعالى : لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لايبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها وإلا فبعد تشبيه أنفسهم بالموتى لايظهر لتشبيههم بالصم والعمي مزيد مزية وكأنه لهذا قال في البحر : أي موتى القلوب أو شبهوا بالموتى لأنهم لاينتفعون بما يتلى عليهم فقدم احتمال نسبة الموت إلى قلوبهم
وتعقب بأن ما ذكر تخيل بارد لأن القلب يوصف بالفقه والفهم لاالسمع وما ذكر أولا من أنهم أنفسهم شبهوا بالموتى هو الظاهر ووجهه أنه على طريق التسليم والنظر لأحوالهم كأنه قيل : كيف تسمعهم الارشاد
(20/19)

إلىإلى طريق الحق وهم موتى وهذا بالنظر لأول الدعوة ولو أحييناهم لم يفد أيضا لأنهم صم وقد ولوا مدبرين وهذا بالنظر لحالهم بعد التبليغ البليغ ونفرتهم عنه ثم إنا لو أسمعناهم أيضا فهم عمي لايهتدون إلى العمل بما يسمعون وهذا خاتمة أمرهم ويعلم من هذا ما في ذلك من مزيد المزية الخالية عن التكلف
وجوز أن يكون التشبيه لطوائف على مراتبهم في الضلال فمنهم من هو كالميت ومن هو كالأصم ومن هو كالأعمى وهو وإن كان وجها خفيف المؤنة إلا أنه خلاف الظأهر أيضا ولا تسمع الصم الدعاء أي الدعوة إلى أمر من الأمور وتقييد النفي بقوله تعالى : إذا ولوا مدبرين
8
- لتميم التشبيه وتأكيد النفي فانهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي مولون على أدبارهم ولا ريب في أن الأصم لايسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريبا منه فكيف إذا كان خلفه بعيدا منه ومثله في التميم قول أمريء القيس : حملت ردينيا كأن سنانه سنا لهب لم يتصل بدخان وقرأ ابن كثير لايسمع الصم الدعاء بالياء التحتانية وفتح الميم ورفع الصم وما أنت بهدى العمي عن ضللتهم أي وما أنت بصارف العمي عن ضلالتهم هاديا لهم هداية موصلة إلى المطلوب لفقد الشرط العادي للاهتداء وهو البصر و عن متعلقة بالهداية باعتبار تضمنها معنى الصرف كما أشرنا اليه وجوز أبو البقاء أن تعلق بالعمي ويكون المعنى أن العمي صدر عن ضلالتهم وفيه بعد وإيراد الجملة الأسمية للمبالغة في نفي الهداية
وقرأ يحيى بن الحرث وابو حيوة بهاد بالتنوين العمي بالنصب وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وابن يعمر وحمزة تهدي مضارع هدي العمي بالنصب وقرأ ابن مسعود وما أنت تهتدي بزيادة أن بعد ما كما في قوله امريء القيس : حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا فما أن من حديث ولا وصال و تهدتي مضارع اهتدى و العمي بالرفع إن تسمع أي ما تسمع إسماعا يجدي السامع نفعا
إلا من يؤمن بأيتنا أي من شأنهم الايمان بها وهم الذي ليسوا موتى ولا صما ولا عميا
وقال بعض الأجلة : أي إلا من هو في علم الله تعالى كذلك واعترض بأن صيغة الاستقبال وإن صحت باعتبار تعلق العلم فيما لايزال إلأ أن المناسب صيغة المضي واختار المعترض أن المعنى إلا الذين يصدقون أن القرآن كلام الله تعالى إد حينئذ تثبت نبوته صلى الله عليه و سلم فيقبل قوله ويجدي إسماعه نفعا وتعقب بأنه ينتقض الحصر بالمصدقين في الاستقبال إن كانت الصيغة للحال وبالمصدقين في الحال إن كانت للاستقبال وإذا دفع لزوم الانتقاض بجعلها لهما لزم استعمال المشترك في معنييه معا أو الجمع بين الحقيقة والمجاز وأجيب بأن المراد الحال ويدخل غيره فيه بدلالة النص من غير تكليف
وقال بعض المحققين : قد يراد بالمضارع الاستقبال الشامل لجميع الأزمنة فان الاستقبال كما يكون بالنظر لزمان الحكم والتكلم على ما حقق في الاصول يجوز أن يكون بالنظر إلى علم القائل أيضا فيشمل من يؤمن هنا من آمن حالا كما يشمل من يؤمن استقبالا فلا غبار في المعنى الذي اختاره ذلك المعترض من هذه الحيثية
(20/20)

نعم قيل : إن فيه شبه تحصيل الحاصل لأن التصديق بالقرآن هو استماعه النافع ولعل من عدل عنه إنما عدل لذلك ولم يعبأ بالمغايرة بين ذينيك الأمرين الظاهرة بعد النظر الصحيح والحق أن ماذكر من شبه تحصيل الحاصل على طرف التمام لظهور الفرق بين الاسماع المراد في الآية والتصديق بأن القرآن كلام الله تعالى كما لايخفى وجوز أن يزاد بالآيات المعجزات التي أظهرها الله تعالى على يده عليه الصلاة و السلام الشاملة للآيات التنزيلية والتكوينية وأن يراد بها الآيات التكونية فقط والايمان بها التصديق بكونها آيات الله تعالى وليست من السحر وإذا أريد بالاسماع النافع على هذا إسماع الآيات التنزيلية ليؤتى بما تضمنته من الاعتقادات والاعمال كان الكلام أبعد وأبعد من أن يكون فيه شبه تحصيل الحاصل إلا أن ذلك لايخلو عن شيء وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الاسماع في النفي والاثبات دون الهداية مع قربها أن يقال : إن تهدي إلا من يؤمن الخ لما أن طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية فافهم وقوله تعالى : فهم مسلمون
18
- قيل : تعليل لايمانهم بها كأنه قيل : فانهم منقادون للحق في كل وقت
وقيل : مخلصون لله تعالى من قوله تعالى : بلى من أسلم وجهه لله وقيل : هو تعليل لما يدل عليه الكلام من أنهم يسمعون إسماعا نافعا لهم وفي توحيد الضمير تارة وجمعه أخرى رعاية للفظ من ومعناها
واستدل بقوله سبحانه : إنك لاتسمع الموتى على أن الميت لايسمع كلام الناس مطلقا وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في ذلك في سورة الروم على أتم وجه وإذا وقع القول عليهم بيان لما أشير اليه بقوله تعالى : بعض الذي تستعجلون من بقية ما يستعجلونه من الساعة ومباديها والمراد بالقول ما نطق من الآيات الكريمة بمجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها وبوقوعه قيامها وحصولها عبر عن ذلك به للايذان بشدة وقعها وتأثيرها واسناده إلى القول لما أن المراد بيان وقوعها من حيث أنها مصداق للقول الناطق بمجيئها وقد أريد بالوقوع دنوه واقترابه كما في قوله تعالى : أتى أمر الله ففيه مجاز المشارفة أي إذا دنا وقوع مدلول القول المذكور الذي لايكادون يسمعونه ومصداقه
أخرجنا لهم دابة من الأرض وذلك على ما أخرج ابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا وهو وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفا حين يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : أكثروا الطواف بالبيت من قبل أن يرفع وينسى الناسمكانه وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع قيل : وكيف يرفع ما في صدور الرجال قال : يسري عليهم ليلا فيصبجون منه فقراء وينسون قول لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم فذلك حين يقع القول عليهم وهذا ظاهر في أن خروج الدابة حين لايبقى في الأرض خير ويقتضي ذلك أن يكون بعد موت عيسى والمهدي وأتباعهما عليهم السلام وسيأتي إن شاء الله تعالى من الأخبار ما هو ناطق بأنها تخرج وعيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون
وأخرج نعيم بن حماد عن وهب بن منبه قال : أول الآيات الروم والثانية الدجال والثالثة ياجوج وما جوج والرابعة عيسى والخامسة الدخان والسادسة الدابة وصوب السفاريني أنها قبل الدخان والحق أنها تخرج وفي الناس مؤمن وكافر فالظاهر أن الخبر المذكور عن ابن مسعود غير صحيح ويدل على ما ذكرنا
(20/21)

من الحق ما أخرج أحمد والطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمن عليهما السلام فتجلو وجه المؤمن بالخاتم وتحطم أنف الكافر بالعصا حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر وقد أختلفت الروايات فيها اختلافا كثيرا فحكى أبو حيان في البحر والدميري في حياة الحيوان أن روياة أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مبثوث نوعها في الأرض فليست دابة واحدة وعليه يراد بداية الجنس الصادق بالمتعدد وأكثر الروايات أنها دابة واحدة وهو الصحيح فالتعبير عنها باسم الجنس وتأكيد إبهامه بالتنوين الدال على التفخيم من الدلالة على غرابة شأنها وخروج أوصافها عن طور البيان مالايخفى وعلى كونها واحدة اختلف فيها أيضا فقيل : هي من الأنس واستؤنس له بما روى محمد بن كعب القرظي قال : سئل علي كرم الله تعالى وجهه عن الدابة فقال : أما والله إنها ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية وفي الميزان للذهبي عن جابر الجعفي وهو كذاب قال أبو حنيفة : ما لقيت أكذب منه أنه كان يقول : هي من الانس وأنها علي نفسه كرم الله تعالى وجهه وعلى ذلك جمع من إخوانه الشيعة ولهم في ذلك روايات : منها مارواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : قال رجل لعمار بن ياسر : يا أبا اليقظان آية في كتاب الله تعالى أفسدت قلبي قال عمار : وأية آية هي فقال : وإذا وقع القول عليهم الآية فأية دابة هذه قال عمار : والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها فجاء عمار مع الرجل إلى اير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وهو يأكل تمرا وزبدا فقال : يا أبا اليقظان هلم فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل : سبحان الله حلفت أنك لاتجلس ولا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها قال عمار : قد أريتكها إن كنت تعقل وروى العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر أيضا وكل ما يروونه في ذلك كذب صريح وفيه القول بالرجعة التي لاينتهض لهم عليها دليل
وفي بعض الآثار ما يعارض ما ذكر فقد أخرج ابن أبي حاتم عن النزال بن سبرة قال : قيل لعلي كرم الله تعالى وجهه : إن ناسا يزعمون أنكدابة الأرض فقال : والله إن لدابة الأرض لريشا وزغبا ومالي ريش ولا زغب وأن لها حافرا ومالي حافر وأنها لتخرج من حفر الفرس الجواد ثلاثا وماخرج ثلثها والمشهور وهو الحق أنها دابة ليست من نوع الانسان فقيل : هي الثعبان الذي كان في جوف الكعبة واختطفته العقاب حين أرادت قريش بناء البيت فمنعهم وأن العقاب التي اختطفته القته بالحجون فالتقمته الارض وذكر ذلك الدميري عن ابن عباس والاكثرون على أنها غيرها
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا زاد ابن جرير بذراع آدم عليه السلام
ونقل السفاريني عن كعب أنه قال : صوتها صوت حمار وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال : الدابة مؤلفة ذات زغب وريش فيها من ألوان الدواب كلها من كل أمة سيما وسيماها من هذه الأمة أنها تتكلم
(20/22)

بلسان عربي مبين وعن أبي هريرة أنه قال : فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للراكب وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن لها عنقا مشرفا يراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب ولها وجه كوجه الانسان ومنقار كنقار الطير ذات وبر وزغب وعن وهب وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير وصرح في بعض الروايات بأن لها جناحين وذكر بعضهم أن طولها ستون ذراعا واختلف في محل خروجها فقيل : المسجد الحرام لما أخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الدابة فقال حذيفة : يا رسول الله من أين تخرج قال : من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى بينما عيسى عليه السلام يطوقف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض من تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسجد فتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمن وكافر : أما المؤمن فيرى وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن وأما الكافر فتكتب بين عينيه نكتة سوداء وتكتب كافر
وأخرج ابن أبي شيبة والخطيب في تالي التلخيص عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من جبل جياد في أيام التشريق والناس بمنى وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تخرج دابة الأرض من جياد فيبلغ صدرها الركن ولم يخرج ذنبها بعد وهي دابة ذات وبر وقوائم
ؤاخرج البخاري في تأريخه وابن ماجة وابن مردويه عن بريدة رضي الله تعالى عنها قال : ذهب بي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الى موضع بالبادية قريب من مكة فاذا أرض يابسة حولها رمل فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تخرج الدابة من هذا الموضع فاذا شبر في شبر
وجاء في بعض الروايات أنها تخرج من أقصى البادية وفي بعض من مدينة قوم لوط وفي بعض أن لها ثلاث خرجات في الدهر : تخرج في أول خرجة في أقصى اليمن منتشرا ذكرها بالبادية ولايدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم تخرج خرجة أخرى فيعلو ذكرها في البادية ويدخل القرية ثم بينما الناس في أعظم المساجد حرمة لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد من الركن الاسود وباب بني مخزوم فيرفض الناس عنها شتى وتثبت عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يجزوا الله تعالى فتنفض عن رأسها التراب فتجلو عن وجههم حتى كأنهم الكواكب الدرية واختلف أيضا في أنها هل تخلق يوم تخرج أو هي مخلوقة الآن فقيل : إنها تخلق يوم تخرج وقيل : إنها مخلوقة الآن لكن لم تؤمر بالخروج
واستدل بما روي عن ابن عباس أن قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال : إن الدابةلتسمع قرع عصاي هذه وعليه من يقول : إنها الثعبان ومن يقول : إنها الجساسة التي تتجسس الاخبار للدجال كما هو المروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وزعم بعضهم أنها مخلوقة في عهد الأنبياء المتقدمين عليهم السلام فقد أخرج ابن ابي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن أن موسى عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الدابة فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء لايرى واحد من طرفيها فرأى عليه السلام منظرا فظيعا فقال : يا رب ردها فردها وجاء في حديث أخرجه نعيم بن حماد في الفتن والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود أنها إذا خرجت تقتل إبليس عليه اللعنة وهو ساجد وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها وتحقق هلاكه عنده والاخبار في هذه الدابة كثيرة
(20/23)

وفي البحر أنهم اختلفوا في ماهيتها وشكلها ومحل خروجها وعدد خروجها ومقدار ما يخرج منها وما تفعل بالناس وما الذي تخرج به اختلافا مضطربا معارضا بعضه بعضا فاطرحنا ذكره لأن نقله تسويد للورق بما لايصح وتضييع لزمان نقله اه وهو كلام حق وأنا إنما نقلت بعض ذلك دفعا لشهوة من يحب الاطلاع على شيء من أخبارها صدقا كان أو كذبا وقد تصدى السفاريني في كتبه البحور الزاخرة للجمع بين بعض هذ الأخبار المتعارضة ولا أظنه أتى بشيء
ثم إن الأخبار المذكورة أقربها للقبول الخبر الذي حسنه الترمذي ومن الأخبار في هذا الباب ما صححه الحاكم وتصحيحه محكوم عليه بين المحدثين بعدم الاعتبار وقصارى ما أقول في هذه الدابة أنها دابة عظيمة ذات قوائم ليست من نوع الانسان أصلا يخرجها الله تعالى آخر الزمان من الأرض وفي تقييد إخراجها بقوله سبحانه : من الأرض نوع إشارة على ماقيل : إلى أن خلقها ليس بطريق التوالد بل هو بطريق التولد نحو خلق الحشرات
وقيل : إنه للاشارة إلى تكونها في جوف الأرض فيكون إخراجها من الأرض رمز إلى ما يكون في الساعة التي أخرجت بين يديها من تشقق الارض وخروج الناس من جوفها أحياءا كاملة خلقتهم وفي هذأ وما قبله ذهاب الى تعلق من الارض ب اخرجنا وهو الظاهر الذي ينبغي أن يعول عليه دون كونه متعلقا بمحذوف وقع صفة لدابة أي دابة كائنة من الأرض
تكلمهم أن الناس كانوا بآيتنا لايوقنون
28
- أي تكلمهم بأنهم كانوا لايتيقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآيات وقيل : بآياته التي من جملتها خروجها بين يدي الساعة وليس بذاك وإضافة الآيات إلى نون العظمة لأنها حكاية منه تعالى لمعنى قولها لالعين عبارتها
وقيل : لأنها حكاية منها لقول الله عز و جل وقيل : لاختصاصها به تعالى وأثرتها عنده سبحانه كما يقول بعض خواص الملك خيلنا وبلادنا وإنما الخيل والبلاد لمولاه وقيل : هناك مضاف محذوف أي بآيات ربنا
والظاهر أن ضمير الجمع في تكلمهم للكفرة المنكرين للبعث مطلقا لا للكفرة المحدث عنهم فيما سبق بخصوصهم ضرورة أنهم ليسوا موجودين عند إخراج الدابة لتكلمهم وتكليمها إياهم وهم موتى بعيد أو غير معقول والرجعة التي يعتقدها الشيعة لانعتقدها والآية الآتية لاتدل كما يزعمون عليها ويسهل أمر ذلك أنه ليس مدار الحديث عنهم سوى ما هم عليه من الشرك والكفر بالآيات وإنكار البعث وذلك موجود فيهم وفي الكفرة الموجودين عند إخراج الدابة ومثله ضميرا عليهم ولهم والمراد بالناس الكفرة الماضون مطلقا لامشركو أهل مكة فقط والمراد بإخبارها إياهم بذلك التحسر على ما فتاهم من الايقان بما قرب وقوعه وظهور بطلان ما اعتقدوه فيه ومؤاخذتهم على التكذيب به أشد مؤاخذة وفي ذلك استدعاء لأمثالهم إلى ترك ما هم عليه مما شاركوهم به من التكذيب وإنكار البعث وجوز أن يراد بالناس مشركو أهل مكة وأمر الاخبار على حاله
وقيل : يجوز أن تكون الضمائر للناس لا للكفرة منهم خاصة ويراد بالناس إما الكفرة المنكرون للبعث والمراد بالاخبار التنفير عما كانوا عليه من الانكار ليثبت المؤمن ويرتدع الكافر وإما مشركو أهل مكة المراد بالاخبار ذلك
وقيل المراد به التشنيع عليهم بين أحيائهم وأعدائهم وكان بلسان الدابة ليكون أبلغ لما فيه من ظهور خطئهم عند ما لايظن إدراكه له فضلا عن النطق به وإذاعته على سبيل التشنيع وكان بين يدي الساعة ليردفه
(20/24)

بلا كثير فصل ما يشبهه من شهادة الأعضاء عليهم وهي أبعد وقوعا مع تشنيع الدابة وفي وقوعها بعده ما يشبه الترقي من العظيم إلى الأعظم وأيد كون الضمائر للناس على الاطلاق وأن المراد بالناس المذكور في النظم الكريم أهل مكة ما روي عن وهب أن الدابة تخبر كل من تراه أن أهل مكة كانوا بمحمد صلى الله عليه و سلم والقرآن لايوقنون وقيل : ضميرا عليهم ولهم لمشركي أهل مكة المحدث عنهم فيما سبق ومعنى لهم لذمهم أو نحوه وضمير تكلمهم للناس الموجودين عند الاخراج أو للكفرة كذلك والمراد بالناس المذكور في النظم الكريم أولئك المشركون وقيل : غير ذلك ولايخفى عليك بأدنى تأمل ما هو الأولى والأظهر في الآية من الأقوال وايا ما كان فوصف الناس بعدم الايقان بالآيات مع أنهم كانوا جاحدين لها للايذان بأنه كان من حقهم أن يوقنوا بها ويقطعوا بصحتها وقد أتصفوا بنقيض ذلك وكون التكليم من الكلام هو الظاهر ويؤيده قراءة أبي تنبؤهم وقراءة يحيى بن سلام تحدثهم
وقيل : هو من الكلم بمعنى الجرح والتفعيل للتكثير ويؤيده قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبي زرعة والجحدري وأبي حيوة وابن أبي عبلة تكلمهم بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف اللام وقراءة بعضهم تجرحهم مكان تكلمهم وكأنه أريد بالجرح ما هو مقابل التعديل ويرجع ذلك إلى معنى التشنيع ورجوع الضمائر عليه إلى الكفرة المحدث عنهم فيما سبق مما لاغبار عليه وقوله تعالى : أن الناس الخ بتقدير بأن الناس والمعنى تشنع عليهم بهذا الكلام ويراد بالناس فيه أولئك المشنع عليهم وظاهر الآية وقوعه في كلامها بهذا اللفظ ولعل فهم السامعين كون المراد به مشركي مكة وقت التشنيع بمعونة قرينة تدل على ذلك إذ ذاك ويحتمل أن يكون الواقع فيه بدله مشركي مكة أو نحوه لكن جاء في الحكاية بلفظ الناس والنكتة فيه على ما قيل : الايماء إلى كثرتهم
وقيل : الرمز إلى مزيد قبح عدم الايقان منهم ويعلم مما ذكر وجه العدول عن أنهم إلى أن الناس وجوز أن يكون بتقدير حرف التعليل أي لأن الناس الخ وهو تعليل من جهته تعالى لجرحها إياهم وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع كالضمائر السابقة إلى مشركي مكة وجوز أن تقدر الباب على أنها سببية
وجوز أيضا أن يكون المراد بالكلم الجرح بمعنى الوسم فقد روي أنها تسم جبهة الكافر وفي رواية أخرى أنها تخطم أنفه بعصا موسى عليه السلام التي معها واختار بعضهم كون المراد به ما ذكر لما في حديث أخرجه نعيم بن حماد وابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا ليس ذلك بحديث ولا كلام ولكنه سمة تسم من أمرها الله تعالى وسأل أبو الحوراء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هل ما في الآية تكلمهم أو تكلمهم فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر تجرحه والظاهر أن الضمائر على تقدير أن يراد بالكلم الجرح والوسم راجعة إلى الكفرة على الاطلاق دون المحدث فيما سبق إذ لامعنى لوسمها إياهم ويتعين أن يراد بالناس أولئك الكفرة الذين عادت عليهم الضمائر ولعل المعنى تسمهم لأنهم كانوا في علمنا بآياتنا لايوقنون وقرأ ابن مسعود بأن وجعلت مؤيدة لكون التكليم من الكلام وهو مبني على الظاهر وإلا فالباء تحتمل أن تكون للسببية فتلائم كونه من الكلم بمعنى الجرح وقرأ بعض السبعة إن بكسر الهمزة وخرج على إضمار القول أو إجراء التكليم من الكلام مجراه أو على أن الكلام استئناف مسوق من جهته سبحانه للتعليل فتدبر
(20/25)

يوميوم نحشر من كل أمة فوجا ممن كذب بآياتنا بيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها و يوم منصوب بفعل مضمر خوطب به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أي اذكر يوم وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيان سره مرارا والمراد بهذا الحشر الحشر للتوبيخ والعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق وهو المذكور فيما بعد من قوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور إلى آخره ولعل تقديم ما تضمن هذا على ما تضمن ذلك دون العكس مع أن الترتيب الوقوعي يقتضيه للايذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة قد أمر بذكرها كما مر في سورة البقرة مع أن الأنسب بذكر أن الكفرة لايوقنون بالآيات المراد به أنهم يكذبون بها أن يذكر بعده ما تضمن التوبيخ منه عز و جل والتعذيب على ذلك التكذيب ومن الثانية بيانية جيء بها لبيان فوجا ومن الأولى تبعيضية لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب أي ويوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء عليهم السلام أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا فهم يوزعون
38
- أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة وفيه من الدلالة على كثرة عددهم وتباعد أطرافهم مالايخفى وقيل : من الثانية تبعيضية كالأولى والمراد بالفوج جماعة من الرؤساء المتبوعين للكفرة وعن ابن عباس أبو جهل والوليد بن المغيرة وشعبة بين ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار وهذهالآية من أشهر ما استدل بها الامامية على الرجعة
قال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان : واستدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الامامية بأن قال : إن دخول من في الكلام يوجب التبعيض فدل بذلك على أنه يحشر قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب بالقتل على أيدي شيعته أو الذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته
ولايشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه وقد فعل الله تعالى ذلك في الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره عليه السلام وصح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قوله : سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه وتأول جماعة من الامامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على روجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافي التكليف وليس كذلك لأنه ليس فيها ما يلجيء إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعبانا وما أشبه ذلك
(20/26)

ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها وإنما المعول عليه في ذلك إجماع الشيعة الامامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده انتهى
وأقول : أول من قال بالرجعة عبد الله بن سبأ ولكن خصها بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتبعه جابر الجعفي في أول المائة الثانية فقال برجعة الأمير كرم الله تعالى وجهه أيضا لكن لم يوقتها بوقت ولما أتي القرن الثالث قرر أهله من الامامية رجعة الأئمة كلهم وأعدائهم وعينوا لذلك وقت ظهور المهدي واستدلوا على ذلك بما رووه عن أئمة أهل البيت والزيدية كافة منكرون لهذه الدعوى إنكارا شديدا وقد ردوها في كتبهم على وجه مستوفي بروايات عن أئمة أهل البيت أيضا تعارض روايات الامامية والآيات المذكورة هنا لاتدل على الرجعة حسبما يزعمون ولا أظن أن أحدا منهم يزعم دلالتها على ذلك بل قصارى ما يقول : إنها تدل على رجعة المكذبين أو رؤسائهم فتكون دالة على أصل الرجعة وصحتها لا على الرجعة بالكيفية التي يذكرونها وفي كلام الطبرسي ما يشير إلى هذا
وأنت تعلم أنه لايكاد يصح إرادة الرجعة إلى الدنيا من الآية لافادتها أن الحشر المذكور لتوبيخ المكذبين وتقريعهم من جهته عز و جل بل ظاهر ما بعد يقتضي أنه تعالى بذاته ويوبخهم ويقرعهم على تكذيبهم بآياته سبحانه والمعروف من الآيات لمثل ذلك هو يوم القيامة مع أنها تفيد أيضا وقوع العذاب عليهم واشتغالهم به عن الجواب ولم تفد موتهم ورجوعهم إلى ما هو أشد منه وأبقى وهو عذاب الآخرة الذي يقتضيه عظم جنايتهم فالظاهر استمرار حياتهم وعذابهم بعد هذا الحشر ولا يتسنى ذلك إلا إذا كان الحشر يوم القيامة وربما يقال أيضا : مما يأبى حمل الحشر المذكور على الرجعة أن فيه راحة لهم في الجملة حيث يفوت به ما كانوا فيه من عذاب البرزخ الذي هو للمكذبين كيفما كان أشد من عذاب الدنيا وفي ذلك إهمال لما يقتضيه عظم الجناية وأيضا كيف تصح إرادة الرجعة منها وفي الآيات ما يأبى ذلك منه قوله تعالى : قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون فان آخر الآية ظاهر في عدم الرجعة مطلقا وكون الأحياء بعد الاماتة والارجاع إلى الدنيا من الأمور المقدورة له عز و جل مما لاينتطح فيه كبشان إلا أن الكلام في وقوعه وأهل السنة ومن وافقهم لايقولون به ويمنعون إرادته من الآية ويستندون في ذلك إلى آيات كثيرة والأخبار التي روتها الأمامية في هذا الباب قد كفتنا الزيدية مؤنة ردها على أن الطبرسي أشار إلى أنها ليست أدلة وأن التعويل ليس عليها وإنما الدليل إجماع الامامية والتعويل ليس إلا عليه وأنت تعلم أن مدار حجية الاجماع على المختار عندهم حصول الجزم بموافقة المعصوم ولم يحصل للسني هذا الجزم من إجماعهم هدا فلا ينتهض ذلك حجة عليه مع أن له إجماعا يخالفه وهو إجماع قومه على عدم الرجعة الكاشف عما عليه سيد المعصومين صلى الله تعالى عليه وسلم وكل ما تقوله الإمامية في هذا الاجماع يقول السني مثله في إجماعهم وما ذكر من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : سيكون في أمتي الحديث لا نعلم صحته بهذا اللفظ بل الظاهر عدم صحته فانه كان في بني إسرائيل مالم يذكر أحد أنه يكون مثله في هذه الأمة كنتق الجبل عليهم حين امتنعوا عن أخذ ما آتاهم الله تعالى من الكتاب والبقاء في التيه أربعين سنة حين قالوا لموسى عليه السلام : إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ونزول المن والسلوى عليهم فيه إلى غير ذلك
(20/27)

وبالجملةوبالجملة القول بالرجعة حسبما تزعم الامامية مما لاينتهض عليه دليل وكم من آية في القرآن الكريم تأباه غير قابلة للتأويل وكأن ظلمة بغضهم للصحابة رضي الله تعالى عنهم حالت بينهم وبين أن يحيطوا علما بتلك الآيات فوقعوا فيما وقعوا فيه من الضلالات حتى إذا جاءوا إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب قال أي الله عز و جل موبخا لهم على التكذيب لاسائلا سبحانه وتعالى سؤال استفسار لاستحالته منه عز و جل وعدم وقوع الاستفسار عن الذنب يوم القيامة من غيره تعالى من الملائكة عليهم السلام وإن كان ممكنا على ما يدل عليه قوله تعالى : لايسئل عن ذنبه إنس ولا جان على أحد التفسيرين والالتفات لتربية المهابة أكذبتم بآيتي الناطقة بلقاء يومكم هذا وقوله تعالى : ولم تحيطوا بها علما
38
- جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه ومؤكدة للانكار والتوبيخ أي أكذبتم بها بادي الرأي غير ناظرين فيها نظرا يؤدي الى العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق حتما وهذأ على ما قيل : ظاهر في أن المراد بالآيات فيما تقدم الآيات التنزيلية لأنها المنطوية على دلائل الصحة وشواهدها التي لم يحيطوا بها علما مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا نفس الساعة وما فيها
وقال بعض الأجلة : إن التكذيب يأبى بظاهره أن يراد بالآيات الآيات التكوينية كالمعجزات ونحوها إذ ليس فيها نسبة يتعلق بها ذلك وإرادة الأعم تستدعي اعتبار التغليب وكون التكذيب بمعنى نفي دلالتها على المراد منها كتصديق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المعجزات ونحوه في نحوها من آيات الانفس والآفاق خلاف الظاهر فالأولى إبقاؤه على الظاهر وحمل الآيات على الآيات التنزيلية وقيل : هو معطوف على كذبتم والهمزة لانكار الجمع والتوبيخ عليه كأنه قيل : أجمعتم بين التكذيب بآياتي وعدم التدبر فيها
أما ذا كنتم تعملون
48
- أي أم ماذا كنتم تعملون بها على أن المراد التبكيت وأنهم لم يعملوا إلا التكذيب وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري وقرره في الكشف بأن أم متصلة والأصل أكذبتم بآياتي أم صدقتم والمعادلة بين الفعلين المتعلقين بالآيات لكن جيء بالأول مجيء معلوم محقق وبالثاني لا على ذلك النهج تنبيها على إنتفائه كأنه قيل : أهو ما عهد من التكذيب أم حدث حادث ووجه الدلالة أنه جعل العديل مرددا فيه فلم يجعل التصديق مثل التكذيب في الاستفهام عن حاله بل إنما شك في وجود معادلة التكذيب لأن قوله تعالى : أم ماذا كنتم تعملون يشمل التكذيب المذكور أولا وعيله الحقيقي وهذه قرينة أنه لم يجأ بالاستفهام جهلا بالحال بل إنما أريد التبكيت والالزم على معنى قل لي ويحك إن حدث أمر آخر بتا بالقول بأنه لم يحدث ما يضاد الأول وإشعارا بأنه إذا سئل عن الذي عمله لم يجب إلا بما قدم أولا ثم قال : وهذأ وجه لائح وإنما جاز دخول أم على ما الاستفهامية لهذه النكتة فانها خرجت عن حقيقة الاستفهام إلى البت بالحكم لا بالمعادل بل الأول وثانيهما أن المعنى ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله تعالى أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك وقرره في الكشف أيضا بأن أم على اتصالها ولكن المعادلة بين التكذيب وكل عمل غيره تعلق بالآيات أولا والايراد على صيغة الاستفهام للنكتة السابقة فدل على أنه لم يكن لهم عمل إلا التكذيب والكفر كأنهم لم يخلقوا إلا لذلك فلأجله لم يعملوا غيره وجعل سائر أعمالهم
(20/28)

لاستمرار الكفر بهم نفس الكفر أو كلا عمل ثم قال : وهذا وجه وجيه بالغ ومنه ظهر أن دخول أم على أسماء الاستفهام غير منكر إذا خرجت عن حقيقة الاستفهام وهو مقاس معنى وإن كانت مراعاة صورة الاستفهام أيضا منقاسة من حيث اللفظ لكنهم يرجحون في نحوه جانب المعنى ولا يلتفتون لفت اللفظ اه
واختار أبو حيان كون أم منقطعة فتقدر ببل وحدها وهي للانتقال من توبيخ إلى توبيخ وليس في ذلك شائبة من دخول الاستفهام على الاستفهام وما تقدم أبعد مغزى و ماذا تحتمل أن تكون بجملتها استفهاما منصوب المحل بخبر كان وهو تعملون أو مرفوعة على الابتدا ءوالجملة بعده والرابط محذوف أي تعملونه وتحتمل أن تكون ما فيها استفهامية و ذا اسم موصول بمعنى الذي وهما مبتدأ وخبر والجملة بعد صلة الموصول والعائد اليه محذوف
وقرأ أبو حيوة أما ذا بتخفيف الميم وفيها دخول الاستفهام على الاستفهام وقد سمعت وجهه
ووقع القول عليهم حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله وهو كبهم في النار بما ظلموا أي بسبب ظلمهم الذي هو تكذيبهم بآيات الله تعالى فهم لاينطقون
58
- بحجة لانتفائها عنهم بالكلية وبتلائهم بما حل بهم من العذاب الأليم وقيل : يختم على أفواههم فلا يقدرون على النطق بشيء أصلا
وفي البحر أن انتفاء نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة أو من فريق من الناس لأن القرآن الكريم ناطق بأنهم ينطقون في بعض المواطن بأعذار وما يرجون به النجاة من النار
ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه الرؤية قلبية لابصرية لأن نفس الليل والنهار وإن كانا من المبصرات لكن جعلهما كما ذكر من قبيل المعقولات أي ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الاظلام ليستريحوا فيه بالقرار والنوم قال بعض الرجاز : النوم راحة القوى الحسية من حركات والقوى النفسية والنهر مبصرا أي ليبصروا بما فيه من الاضاءة طرق التقلب في أمور معاشهم فبولغ حيث جعل الابصار الذي هو حال الناس حالا له ووصفا من أوصافه التي جعل عليها بحيث لاينفك عنها ولم يسلك في الليل هذا المسلك لما أن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير ضوء النهار في الابصار والمشهور أن في الآية صنعة الاحتباك والتقدير جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه والنهار مبصرا لينتشروا فيه إن في ذلك أي في جعلهما كما وصفا وما في اسم الاشارة من معنى البعد للاشعار ببعد درجته في الفضل لأيت عظيمة لقوم يوقنون
68
- فانه يدل على التوحيد وتجويز الحشر وبعث الرسل عليهم السلام لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين بذاته لايكون إلا بقدرة قاهرة ليست لما أشركه المشركون وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحد قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان وأن من جعل الليل والنهار سببين لمنافعهم ومصالحهم لعله لايخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم وهو بعثة الرسل عليهم السلام
(20/29)

وفي إرشاد العقل السليم لآيات عظيمة كثيرة لقوم يؤمنون دالة على صحة البعث وصدق الآيات الناطقة به دلالة واضحة كيف لا وانمن تأمل في تعاقب الليل والنهار واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم رائقة تحار في فهمها العقول ولا يحيط بها إلا علم الله جل وعلا وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل المحاكية للموت بضياء النهار المضاهي للحياة وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة قضى بأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله تعالى يبعث من في القبور قضاءا متقنا وجزم بأنه تعالى قد جعل هذا أنموذجا له ودليلا يستدل به على تحققه وأن الآيات الناطقة به ويكون حال الليل والنهار برهانا عليه وسائر الآيات كلها حق نازل من عند الله تعالى اه
ولعل الأول أولى لاسيما ضم إلى الاستدلال على جواز الحشر مشابهة النوم واليقظة للموت والحياة لما في هذا من خفا ءالدلالة وتخصيص المؤمنين بالذكر لما أنهم هم المنتفعون بالآيات ووجه ربط هذه الآية بما قبلها أنها كالدليل على صحة ما تضمنته من الحشر ويوم ينفخ في الصور إا معطوف على يوم نحشر منصوب بناصبه أو منصوب بمضمر معطوف على ذلك الناصب والصور على ما في التذكرة قرن من نور وذكر البخاري عن مجاهد أنه كالبوق
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : مالصور قال : قرن ينفخ فيه والمشهور أن صاحب الصور هو إسرافيل عليه السلام
وذكر القرطبي أن الأمم مجمعة على ذلك وهو مخلوق اليوم فقد أخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة و السلام لهم قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل وروي أيضا عن أبي هريرة مرفوعا ما أطرق صاحب الصور مذ وكل به مستعدا بحذاء العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريان
وجاء عن أبي هريرة من حديث مرفوع إن عظم دائرة فيه كعرض السموات والارض وهذا مما يؤمن به وتفوض كيفيته إلى علام الغيوب وقيل : إن الصور بسكون الواو بمعنى الصور بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة وعليه أبو عبيدة والكلام في الوجهين على حقيقته وقيل : في الكلام استعارة تمثيلية شبه هيئة انبعاث الموتى من القبور إلى المحشر إدا نودوا بالقيام بهيئة قيام جيش نفخ لهم في المزمار المعروف وسيرهم إلى محل معين لهم والأول قول الأكثرين وعليه المعول لأن قوله تعالى : ثم نفخ فيه أخرى ظاهر في أن الصور ليس جمع صورة وإلا قال سبحانه : فيها بدل من فيه وارتكاب التأويل بجعل الكلام من باب التمثيل ظاهر في إنكار أن يكون هناك صور حقيقة وهو خلاف ما نطقت به الأحاديث الصحاح وقد قال أبو الهيثم على ما نقل عنه القرطبي في تفسيره : من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تاويلات وهذا النفخ قيل : المراد به النفخة الثانية واليه ذهب صاحب الغنيان واختاره العلامة أبو السعود وقال : الذي يستدعيه سياق النظم الكريم وسياقه ذلك وأن المراد بالفزع في قوله تعالى :
(20/30)

ففزع من في السموات ومن في الأرض مايعتري الكل عند البعث والنشور من الرعب والتهيب الضروريين الجبليين بمشاهدة الأمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق ثم قال : وقيل : المراد بالنفخ هي النفخة الأولى وبالفزع هو الذي يستتبع الموت لغاية شدة الهول كما في قوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض فيختص أثرها بمن كان حيا عند وقوعها دون من مات قبل ذلك من الأمم وقيل : إن المراد بالنفخة نفخة الفزع التي تكون قبل نفخة الصعق التي أريدت بقوله تعالى : ماينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق وشنع على كلا القولين بما هو مذكور في تفسيره
وقال العلامة الطيبي الحق أن المراد بقوله تعالى : ونفخ في الصور ففزع هو النفخة الأولى وقوله تعالى الآتي : وكل الخ إشارة إلى النفخة الثانية واعلم أنهم اختلفوا في عدد النفخة فقيل : ثلاث : نفخة الصعق المذكورة في قوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السموات والارض ونفخة البعث المذكورة في قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الاجداث إلى ربهم ينسلون ونفخة الفزع المذكورة في الآية المذكورة ههنا وهو اختيار ابن العربي
وقيل : إثنان ونفخة الفزع هي نفخة الصعق لأن الأمرين : الفزع بمعنى الخوف والصعق بمعنى الموت لازمان لها وقال القرطبي : والسنة كحديث مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو طويل منه مع حذف ثم ينفخ في الصور فأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق ثم يصعق الناس ثم ينفخ فيه أخرى فاذا هم قيام ينظرون تدل على أن النفخ مرتين لاثلاثة وهو الصحيح ونفخ الفزع هو نفخ الصعق بعينه لاتحاد الاستثناء في آيتيهما وتعقب في الرسالة المسماة بشرح العشر في معشر الحشر المنسوبة لابن الكمال بأنه لادلالة في الحديث على عدم النفخة الثالثة غايته أنه سائر الأحاديث الواردة على نسقه ساكت عنها ولا يلزم من ذلك عدمها وكذا لا دلالة في اتحاد الاستثناء في الآيتين أن يكون المذكور فيهما نفخة واحدة وهذا ظاهر ثم قال : والصحيح عندي ما في القول الأول من أن نفخة الفزع غير نفخة الصعق فإن حديث الصحيحين لايخيروني من بين الأنبياء فان الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فاذا أنا بموسى عليه السلام آخذا بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور : صريح في أن الصعق يوم القيامة وأن لاموت فيه فهو فزع بلا موت فمن قال : هي ثلاث نفخات : نفخة الفزع ثم نفخة الصعق وهو الموت ثم نفخة البعث فقد أصاب في التفرقة بين نفخة الفزع ونفخة الصعق إلا أنه لم يصب في زعمه أن نفخة الفزع قبل نفخة الصعق كيف وقد دل حديث الصحيحين المذكور على عموم حكم نفخة الفزع للانبياء عليهم السلام الذين ماتوا قبل نفخة الصعق أي الموت قال القاضي عياض : إن نفخة الفزع بعد النشر حين تنشق السموات والارض فظهر أن النفخات ثلاث بل أربع : نفخة يميت الله تعالى جميع الخلق بها كما جاء في الحديث وعند ذلك ينادي سبحانه : لمن الملك اليوم وينادي على ذلك قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه ونفخة البعث كما نطق به قوله تعالى ونفخ في الصور فاذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ونفخة الصعق وهي نفخة الفزع بعينها وقد سمعت آيتيهما ونفخة الافاقة كما قال تعالى بعد ذكر نفخة الصعق ثم نفخ فيه أخرى فاذا هم قيام ينظرون وقد عرفت ما في زعم أن نفخة الصعق هي نفخة الفزع
(20/31)

بعينهابعينها فتدبر انتهى وتعقبه بعضهم بأنه يلزم حينئذ على القول بالمغايرة بين نفخة الفزع ونفخة الصعق أن تكون النفخات خمسا ولم نسمع متنفسا يقول بذلك وأيضا فيه القول بأن نفخة الصعق بعد نفخة البعث ويأباه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم أنا أول من تنشق عنه الأرض فأرفع رأسي فاذا موسى متعلق بقائمة من قوائم العرش فما أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله تعالى فان انشقاق الأرض عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد نفخة البعث لامحالة فاذا عقبه رفع رأسه عليه الصلاة و السلام ومفاجأة كون موسى عليه السلام متعلقا بقائة من قوائم العرش فأين نفخة الصعق ولايخفى أن كون النفخات خمسا لم يسمع هو الغالب على الظن ويتوقف قبول ما ذكره ثانيا على صحة ما ذكره من الخبر ولعل القائم بما تقدم من وراء المنع وقيل : الأظهر أن النفخات ثلاث : الأولى نفخة الصعق بمعنى الموت كما هو أحد معنييه المدلول عليها بقوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض والثانية نفخة البعث المدلول عليها بقوله تعالى : ثم نفخ فيه أخرى فاذا هم قيام ينظرون وقوله سبحانه : ونفخ في الصور فاذا هم من الاجداث الى ربهم ينسلون والثالثة نفخة الفزع المدلول عليها بما هنا وهي على ما سمعت عن القاضي عياض بعد النشر حين تنشق السموات والارض
وأصله كما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الشخص من الشيء المخيث والمراد به الرعب الشديد ولعل الصعق المذكور في حديث الصحيحين هو غشي يترتب عليه بلا واسطة وعلى النفخ بواسطته وقد نص في الاساس على هذا المعنى له قال يقال صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه ويدل على أنه بمعنى الغشي قوله عليه الصلاة و السلام فأكون أول من يفيق لأن الافاقة إنما تكون من الغشي دون الموت ولم يعبر هنا بالصعق مرادا به الغشي المذكور في الحديث لئلا يتوهم إرادة معنى الموت منه لخلوه هنا عن القرينة التي في الحديث واقترانه بما يلائم ذلك وقد يختار ما هو المشهور من أن النفخة اثنتان ويجاب عما يشعر بالزيادة فالنفخة الاولى نفخة الصعق بمعنى الموت بحال هائلة فبها يموت من في السموات والارض من الاحياء قبيل ذلك إلا من شاء الله تعالى ويدل عليه آية ونفخ في الصور فصعق الخ والنفخة الثانية نفخة البعث المدلول عليها بآية ثم نفخ فيه أخرى فاذا هم قيام ينظرون وبينهما في المشهور أربعون سنة وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا اربعونبدون ذكر التمييز فقيل أربعون يوما فقال أبو هريرة أبيت فقيل أربعون شهرا فقال أبيت فقيل أربعون سنة فقال أبيت ونفخة الفزع بمعنى الرعب والخوف هي هذه النفخة بعينها ووجه ذلك أنه ينفخ في الصور للبعث فيبعث الخلق وينشرون فاذا تحققوا يوم القيامة وشاهدوا آثار عظمة الله تعالى فزعوا ورعبوا الا من شاء الله تعالى وترتب الفزع على النفخ بالفاء للاشارة إلى قلة الزمان الفاصل لسرعة تحققهم ومشاهدتهم ما ذكر والاضافة في قولنا نفخة البعث وقولنا نفخة الفزع من اضافة السبب إلى المسبب إلا أن سببية النفخ للبعث بلا واسطة وسببيته للفزع بواسطة وحديث الصحيحين لاتخيروني من بين الانبياء فان الناس سصعقون يوم القيامة الخ ليس فيه سوى إثبات الصعق بمعنى الغشي كما يرشد اليه ذكر الافاقة للناس يوم القيامة ولا تعرض له لنفخ يترتب عليه ذلك نعم التعبير بالصعق على ما ذكروا في معناه يقتضي أن يكون هناك هدة أو صوت شديد يسمعه من يسمعه فيغشى عليه إلا أنه لايعين النفخ لجواز أن يكون ذلك من صوت حادث من انشقاق السموات الكائن
(20/32)

بعدبعد البعث والفزع من يوم القيامة وما شاهدوا من أهواله
ومنع بعضهم اقتضاءه ذلك لجواز أن يراد به الغشي لحدوث أمر عظيم من أمور يوم القيامة غير النفخ وقيل : هو من فروع النفخ للبعث وذلك أنه ينفخ فتبعث الخلائق فيتحققون ما يتحققون ويشاهدون ما يشاهدون فيفزعون فيغشى عليهم إلا ما شاء الله تعالى وحديث الصحيحين مما لايأبى ذلك واحتياج الافاقة لنفخة أخرى في حيز المنع وقيل : في بيان اتحاد نفخة البعث ونفخة الفزع أن المراد بالفزع الاجابة والاسراع للقيام لرب العالمين وقد صرحت الآيات باسراع الناس عند البعث فقال تعالى : ونفخ في الصور فاذا هم من الاجداث الى ربهم ينسلون وقال سبحانه : يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ولا يخفى بعده واحتياج توجيه الاستثناء بعد عليه إلى تكلف فالاولى أن يوجه الاتحاد بما سبق فتأمل وايراد صيغة الماضي مع كون المعطوف أعني ينفخ مضارعا للدلالة على تحقق الوقوع كما في قوله تعالى : فأوردهم النار بعد قوله تعالى : يقدم قومه ووجه تأخير بيان الاحوال الواقعة في ابتداء هذه النفخة عن بيان ما يقع بعد من حشر المكذبين قد تقدم الكلام فيه فتذكر فما في العهد من قدم إلا من شاء الله استثناء متصل كما هو الظاهر من من ومفعول المشيئة محذوف أي إلا من شاء الله تعالى أن لايفزع والمراد بذلك على ما قيل : من جاء بالحسنة لقوله تعالى فيهم : وهم من فزع يومئذ آمنون وتعقب بان الفزع في تلك الآية غير الفزع المراد من قوله سبحانه : ففزع الخ وسنذكر ذلك إنشاء الله تعالى واختلف الذين حملوا النفخ هنا على النفخة الأولى التي تكون للصعق أي الموت في تعيينهم فقيل هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وروي ذلك عن مقاتل والسدي
وقال الضحاك هم الولدان والحور العين وخزنة الجنة وحملة العرش وحكى بعضهم هذين القولين في المراد بالمستثنى على تقدير أن يراد بالنفخ النفخة الثانية وبالفزع الخوف والرعب وأورد عليهما أن حملة العرش ليسوا من سكان السموات والأرض لأن السموات في داخل الكرسي ونسبتها اليه نسبة حلقة في فلاة ونسبة الكرسي الى العرش كهذه النسبة أيضا فكيف يكون حملته في السموات وكذا الولدان والحور وخزنة الجنة لأن هؤلاء كلهم في الجنة والجنان جميعها فوق السموات ودون العرش على ما أفصح عنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : سقف الجنة عرش الرحمن فما فيها من الولدان والحور والخزنة لايصح استثناؤهم ممن في السموات والأرض وأما جبرائيل ومن معه من الملائكة المقربين عليهم السلام فهم من الصافين المسبحين حول العرش وإذا كان العرش فوق السموات لايمكن أن يكون الاصطفاف حوله في المسوات وأجيب بأنه يجوز أن يراد بالمسوات ما يعم العرش والكرسي وغيرهما من الاجرام العلوية فانه الأليق بالمقام وقد شاع استعمال من في السموات والارض عند إرادة الاحاطة والشمول
وقيل : لامانع من حمل السموات السبع والتزام كون الاستثناء على القولين المذ : ورين منقطعا ولايخفى ما فيه وعد بعضهم ممن استثنى موسى عليه السلام وأنت تعلم أنه لايكاد يصح إلا إذا أريد بالفزع يوم القيامة بعد النفخة الثانية أما إذا أريد به ما يكون في الدنيا عند النفخة الألى فلا على أن
(20/33)

عدهعده عليه السلام ممن لايصعق يوم القيامة بعد قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الصحيحين السابق فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور يحتاج إلى خبر صحيح وارد بعد ذلك
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون وصححه القاضي أبو بكر بن العربي كما قال القرطبي وبه رد على من زعم أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح وإلى ذلك ذهب ابن جبير ولفظه هم الشهداء متقلد والسيوف حول العرش وكذا ذهب اليه الحليمي وقال : هو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم ضعف غيره من الأقوال وقد ذكره غير واحد من المفسرين إلا أن بعضهم ذكره في تفسير من شاء الله في آية الصعق وبعض آخر ذكره في تفسيره في آية الفزع فتدبر
وكل أي كل واحد من الفازعين المبعوثين عند النفخة أتوه أي حضروا الموقف بين يدي رب العزة جل جلاله للسؤال والجواب والمناقشة والحساب وقيل : أي رجعوا إلى أمره تعالى وانقادوا وضمير الجمع باعتبار معنى كل وقرأ قتادة أتاه فعلا ماضيا مسندا لضمير كل على لفظها
وقرأ أكثر السبعة أتوه اسم فاعل داخرين
8
- أي أذلاء وقرأ الحسن والاعمش دخرين بغير ألف وهو على القراءتين نصب على الحال من ضمير كل وقوله سبحانه : وترى الجبال عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير وترى من رؤية العين وقوله تعالى : تحسبها جامدة أي ثابتة في أماكنها لاتتحرك حال من فاعل ترى أو من مفعوله وجوز أن يكون بدلا من سابقه وقوله عز و جل
وهي تمر مر السحاب حال من ضمير الجبال في تحسبها وجوز أن يكون حالا من ضميرها في جامدة ومنعه أبو البقاء لاستلزامه أن تكون جامدة ومارة في وقت واحدة أي وترى الجبال رأي العين ساكنة والحال أنها تمر في الجو مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرا حثيثا وذلك أن الاجرام المجتمعة المتكاثرة العدد على وجه الالتصاق إذا تحركت نحو سمت لاتكاد تبين حركتها وعليه قول النابغة الجعديفي وصف جيش : بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج وقيل : شبه مرها بمر السحاب في كونها تسير سيرا وسطا كما قال الأعشى : كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحائب لاريث ولا عجل والمشهور في وجه الشبه السرعة وإن منشأ الحسبان المذكور ما سمعت وقيل : إن حسبان الرائي إياها جامدة مع مرورها لهول ذلك اليوم فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها جامدة وليس بذاك وقد أدمج في التشبيه المذكور تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الاجزاء وانتفاشها كما في قوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن المفوش واختلف في وقت هذا ففي إرشاد العقل السليم أنه مما يقع بعد النفخة الثانية كالفزع المذكور عند حشر الخلق يبدل الله تعالى شأنه الأرض غير الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة يشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض انما يكون بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى : ويسألونك عن الجبال
(20/34)

فقلفقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لاترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي وقوله سبحانه : يوم تبدل الأرض غير الارض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار فان اتباع الداعي الذي هو إسرافيل وبروز الخلق لله تعالى لايكونان إلا بعد النفخة الثانية وقد قالوا في تفسير قوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم إن صيغة الماضي المعطوف مع كون المعطوف عليه مستقبلا للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك اه
وقال بعضهم إنه مما يقع عند النفخة وذلك أنه ترجف الأرض والجبال ثم تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا ثم هباء منبثا ويرشد الى أن هذه الصيرورة مما لايترتب على الرجفة ولا تعقبها بلا مهلة العطف بالواو دون الفاء في قوله تعالى : يوم ترجف الأرض والجبال وكان الجبال كثيبا مهيلا والتعبير بالماضي في قوله تعالى : وترى الأرض بارزة وحشرناهم لتحقق الوقوع كما مر آنفا واليوم في قوله تعالى : ويسألونك عن الجبال الآية وقوله تعالى : يوم تبدل الأرض الخ يجوز أن يجعل اسما للحين الواسع الذي يقع فيه ما يكون عند النفخة الاولى من النسف والتبديل وما يكون عند النفخة الثانية من اتباع الداعي والبروز لله تعالى الواحد القهار وقد حمل اليوم على ما يسع ما يكون عند النفختين في قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة يومئذ تعرضون وهذا كما تقول جئته عام كذا وإنما مجيئك في وقت من أوقاته وقد ذهب غير واحد إلى أن تبديل الأرض كالبروز بعد النفخة الثانية لما في صحيح مسلم عن عائشة قلت يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى يوم تبدل الارض غير الارض فأين يكون الناس قال : على الصراط وجاء في غير خبر ما يدل على انه قبل النفخة الاولى وجمع صاحب الافصاح بين الاخبار بان التبديل يقع مرتين مرة قبل النفخة الاولى وأخرى بعد النفخة الثانية وحكي في البحر أن أول الصفات ارتجاجها ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ثم نسفها بارسال الرياح عليها ثم تطييرها بالريح في الجو كأنها غبار ثم كونها سرابا وهذا كله على يقتضيه كلام السفاريني قبل النفخة الثانية ومن تتبع الأخبار وجدها ظأهرة في ذلك والآية هنا تحمتل كون الرؤية المذكورة فيها قبل النفخة الثانية وكونها قبلها فتأمل صنع الله الظاهر أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة وهي جملة الحال والعامل فيه مادلت عليه من كون ذلك من صنعه تعالى فكأنه قيل : صنع الله تعالى ذلك صنعا وهذا نحو له على ألف عرفا ويسمى في اصطلاحهم المؤكد لنفسه وإلى هذا ذهب الزجاج وأبو البقاء
وقال بعض المحققين : مؤكد لمضمون ما قبله على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور وما ترتب عليه جميعا قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الافاعيل وتهويل أمرها والايذان بأنها ليست بطريق اخلال نظام العالم وافساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن يكون فيه حكمة بل هي من قبيل بدائع صنع الله تعالى المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة التي لأجلها تبت مقدمات الخلق ومبادي الابداع على الوجه المتين والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله تعالى : الذي أتقن كل شيء أي أتقن خلقه وسواه على تقتضيه الحكمة اه وحسنه ظاهر وقال الزمخشري هو من المصادر المؤكدة إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ والمعنى ويوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت أثاب الله تعالى المحسنين وعاقب المجرمين ثم قال سبحانه : صنع الله يريد
(20/35)

عزD به الاثابة والمعاقبة إلى آخر ما قال وهو يدل على أنه فرض اليوم ممتدا شاملا لزمان النفختين وما بعدهما المصادر التي تؤكد مضمون الجملة وجد الجمل مصرحا بها لم يرد الحذف في شيء منها وجعل المصدر مؤكدا لهذا المحذوف المدلول عليه بالتفصيل في قوله تعالى الآتي : من جاء ومن جاء وباستدعاء يوم ينفخ ناصبا وفرع عليه ما فرع وتعقبه أبو حيان بأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لايجوز حذف جملته لأنه منصوب بفعل من لفظه فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر وذلك حذف كثير مخل ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة وجد الجمل مصرحا بها لم يرد الحذف في شيء منها إد الأصل أن لايحذف المؤكد إد الحذف ينافي التأكيد لأنه من حيث أكد معتنى به ومن حيث حذف غير معتنى به وكأن الداعي له إلى العدول عن الظاهر على ما قيل أن الصنع المتقن لايناسب تسيير الجبال ظاهرا وأنت تعلم أن هذا على طرف الثمام نعم الأحسن جعله مؤكدا لمضمون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده وجيء به للتنبيه على عظ شأن تلك الأفاعيل على ما سمعته عن بعض المحققين وقيل هو منصوب وما بعده وجيء به للتنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل على ما سمعته عن بعض المحققين وقيل هو منصوب على الاغراء بمعنى انظروا صنع الله وهو كما ترى واستدل بالآية على جواز إطلاق الصانع على الله عز و جل وهو مبني على مذهب من يرى أن ورود الفعل كاف
واستدل بعضهم على الجواز المذكور بالخبر الصحيح إن الله صانع كل صانع وصنعته وتعقب بأن الشرط أن لايكون الوارد على جهة المقابلة نحو أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون خلافا للحليمي على ما يقتضيه قوله يستحب لمن ألقى بذرا في أرض أن يقول الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ وما في هذا الحديث من هذا القبيل وأيضا ما في الخبر بالاضافة فلا يدل على جواز الخالي عنها ألا ترى أن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم يا صاحب كل نجوى أنت الصاحب في السفر لم يأخذوا منه أن الصاحب من غير قيد من أسمائه تعالى فكذا هو لايؤخذ منه أن الصانع من غير قيد من أسمائه تعالى فتأمله ونحو هذا الاستدلال بخبر مسلم ليعزم في الدعاء فان الله تعالى فاتح لكم وصانع ولا فرق بين المعرف والمنكر عند الفقهاء لأن تعريف المنكر لايغير معناه ولذا يجوزون في تكبيرة الاحرام : الله أكبر
واستدل القاضي عبد الجبار بعموم قوله سبحانه أتقن كل شيء على أن قبائح العبد ليست من خلقه سبحانه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة والاجماع ما نع منه وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الاعراض لأن الاتقان بمعنى الاحكام وهو من أوصاف المركبات ولو سلم فوصف كل الاعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ولو سلم فالاجماع المذكور ممنوع بل هي متقنة أيضا بمعنى الحكمة إقتضتها إنه خبير بما تفعلون جعله بعض المحققين تعليلا لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعا محكما له تعالى ببيان أن علمه تعالى بظواهر افعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب أخيريتها عليها بعد بعثهم وحشرهم وتسيير الجبال حسبما نطق به التنزيل وقوله تعالى : من جاء بالحسنة فله خير منها بيانا لما أشير إليه باحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أخيريتها عليها وقال العلامة الطيبي قوله تعالى إن الله الخ استئناف وقع جوابا لقول من يسأل فماذا يكون بعد هذه القوارع فقيل إن الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم وفصل ذلك بقوله سبحانه من جاء الخ والخطاب في تفعلون لجميع المكلفين وقرأ العربيان وابن كثير يفعلون بياء الغيبة والمراد بالحسنة على ما روي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن
(20/36)

والنخعي وأبي صالح وسعيد بن جبير وعطاء وقتادة شهادة أن لا إله إلا الله وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن ابي هريرة وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسرها بذلك والمراد بهذه الشهادة التوحيد المقبول وقيل المراد بالحسنة ما يتحقق بما ذكر وغيره من الحسنات وهو الظاهر نظرا إلى أن اللام حقيقة في الجنس وقال بعضهم : الظاهر الأول لأن الظاهر حمل المطلق على الكامل وأكمل جنس الحسنة التوحيد ولو أريد العموم لكان الظاهر الاتيان بالنكرة ويكفي في ترجيح الأول ذهاب أكثر السلف إليه وإذا صح الحديث فيه لايكاد يعده عنه وكان النخعي يحلف على ذلك ولا يستثني والظاهر أن خيرا التفضيل وفضل الجزاء على الحسنة كائنة ما كانت قيل باعتبار الأضعاف أو باعتبار الدوام وزعم بعضهم أن الكلام بتقدير مضاف أي خير من قدرها وهو كما ترى وقال بعض ألاجل ثواب المعرفة النظرية والتوحيد الحاصل في الدنيا هي المعرفة الضرورية على أكمل الوجوه في الآخرة والنظر إلى وجهه الكريم جل جلاله وذلك أشرف السعادات وقيل : إن خيرا ليس للتفضيل ومن الابتداء الغاية أي فله خير من الخيور مبدؤه ومنشؤه منها أي من جهة الحسنة وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وابن جريج وعكرمة وهم أي الذين جاءوا بالحسنة من فزع أي فزع عظيم هائل لايقادر قدره يومئذ ظرف منصوب بقوله تعالى آمنون وبه أيضا يتعلق من فزع والأمن يستعمل بالجار وبدونه كما في قوله أفأمنوا مكر الله وجوز أن يكون الظرف منصوبا بفزع وأن يكون منصوبا بمحذوف وقع صفة له أي من فزع كائن في ذلك الوقت وقرأ العربيان وابن كثير واسمعيل بن جعفر عن نافع فزع يومئذ بإضافة فزع إلى يوم وكسر ميم يوم وقرأ نافع في غير رواية إسمعيل كذلك إلا أنه فتح الميم فتح بناء لإضافة يوم إلى غير متمكن وتنوين إذ للتعويض عن جملة والأولى على ما في البحر أن تكون الجملة المحذوفة المعوض هو عنها ما قرب من الظرف أي يوم إذ جاء بالحسنة وجوز أن يكون التقدير يوم إذ ينفخ في الصور لاسيما إذا أريد بذلك النفخ النفخة الثانية واقتصر عليه شيخ الاسلام وفسر الفزع بالفزع الحاصل من مشاهدة العذاب بعد تمام المحاسبة وظهور الحسنات والسيئات وهو الذي في قوله تعالى : لايحزنهم الفزع الأكبر وحكي عن الحسن أن ذاك حين يؤمر بالعبد إلى النار وعن ابن جريج أنه حين يذبح الموت وينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت وهو كذلك في قراءة التنوين وقراءة الإضافة ولا يراد به في القراءة الثانية جميع الأفزاع الحاصلة يومئذ ومدار الاضافة كون ذلك أعظم الأفزاع وأكبرها كأن ما عداه ليس بفزع بالنسبة اليه وقال تبعا لغيره إن الفزع المدلول عليه بقوله تعالى : ففزع الخ ليس إلا التهيب والرعب الحاصل في ابتداء الاحساس بالشيء الهائل ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة وإن كان آنا من لحاق الضرر به
وقال أبو علي : يجوز أن يراد بالفزع في القراءتين فزع واحد وأن يراد به الكثرة لأنه مصدر فان أريد الكثرة شمل كل فزع يكون في القيامة وإن أريد الواحد فهو الذي أشير اليه بقوله تعالى لايحزنهم الفزع الأكبر وسيأتي إنشاء الله تعالى قريبا للكلام في الآية ومن جاء بالسيئة وهو الشرك وبه فسرها من فسر الحسنة بشهادة أن لا إله إلا الله وقد علمت من هم وقيل : المراد بها ما يعم الشرك وغيره من السيئات : فكبت وجوههم في النار أي كبوا فيها على وجوههم منكوسين فاسناد الكب إلى الوجوه مجازي لأنه
(20/37)

يقال كبه وأكبه إذا نكسه وقيل : يجوز أن يراد بالوجوه الانفس كما أريدت بالايدي في قوله تعالى : ولاتلقوا بأيديكم إلى التهلكة أي فكبت أنفسهم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون
9
- على الالتفات للتشديد أو على اضمار القول أي مقولا لهم ذلك فلا التفات فيه لأنه في كلام آخر ومن شروط الالتفات اتحاد الكلامين كما حقق في المعاني واستدل بعض المرجئة القائلين بأنه لايضر مع الايمان معصية كما لاينفع مع الكفر طاعة بقوله تعالى : من جاء بالحسنة الخ على أن المؤمن العاصي لايعذب يوم القيامة والا لم يكن آمنا من فزع مشاهدة العذاب يومئذ وهو خلاف ما دلت عليه الآية الكريمة وأجيب بمنع دخول المؤمن العاصي في عموم الآية لأن المراد بالحسنة الكاملة وهو الايمان الذي تدنسه معصية وذلك غير متحقق فيه أو لأن المتبادر المجيء بالحسنة غير مشوبة بسيئة وهو أيضا غير متحقق فيه ومن تحقق فيه فهو آمن من ذلك الفزع بل لايبعد أن يكون آمنا من كل فزع من أفزاع يوم القيامة وإن سلم الدخول قلنا المراد بالفزع الآمن منه من جاء بالحسنة ما يكون حين يذبح الموت وينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت كما سمعت عن ابن جريج أو حين تطبق جهنم على أهلها فيفزعون كما روي عن الكلبي وليس ذلك الا بعد تكامل أهل الجنة دخولا الجنة والعذاب الذي يكون لبعض عصاة المؤمنين إنما هو قبل ذلك والآية لاتدل على نفيه بوجه من الوجوه
وأجاب بعضهم بأنه يجوز أن يكون المؤمن العاصي آمنا من فزع مشاهدة العذاب وأن عذب لعلمه بأنه لايخلد فيعد عذابه كالمشاق التي يتكلفها المحب في طريق وصال المحبوب وهذا في غاية السقوط كما لايخفى
واستدل بعض المعتزلة بقوله تعالى : من جاء بالسيئة الخ على عدم الفرق بين عذاب الكافر وعذاب المؤمن العاصي لأن من جاء بالسيئة يعمهما وقد أثبت له الكب على الوجوه في النار فحيث كان ذلك بالنسبة إلى الكافر على وجه الخلود كان بالنسبة إلى المؤمن العاصي كذلك وأجيب بأن المراد بالسيئة الاشراك كما روي تفسيرها به عن أكثر سلف الأمة فلا يدخل المؤمن العاصي فيمن جاء بالسيئة ولو سلم دخوله بناء ا على القول بعموم السيئة فلا نسلم أن في الآية دلالة على خلوده في النار وكون الكب في النار بالنسبة إلى الكافر على وجه الخلود لايقتضي أن يكون بالنسبة اليه كذلك فكثيرا ما يحكم على جماعة بأمر كلي ويكون الثابت لبعضهم نوعا وللبعض الآخر نوعا آخر منه وهذا مما لاريب فيه ثم إن الآية من باب الوعيد فيجري فيها على تقدير دخول المؤمن العاصي في عموم من قاله الأشاعرة في آيات الوعيد فافهم وتأمل
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها استئناف بتقدير قل قبله وهو أمر له عليه الصلاة و السلام بأن يقول لهؤلاء الكفرة ذلك بعد ما بين لهم أحوال المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة إثارة لهممهم بألطف وجه إلى أن يشتغلوا بتدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم والتوجه نحو التدبر فيما قرع أسماعهم من الآيات الباهرة الكافية في إرشادهم والشافية لعللهم والبلدة على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما هي مكة المعظمة وفي تأريخ مكة أنها منى قال حدثنا يحيى بن ميسرة عن خلاد بن يحيى عن سفيان أنه قال : البلدة منى والعرب تسميها بلدة إلى الأن
وأخرج ابن ابي حاتم عن أبي العالية تفسيرها بذلك أيضا وذكر بعض الأجلة أن أكثر المفسرين على
(20/38)

الأول وتخصيصها بالاضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها والتعرض لتحريمه تعالى إياها تشريف لها بعد تشريف وتعظيم إثر تعظيم مع ما فيه من الاشعار بعلة الأمر وموجب الامتثال به كما في قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ومن الرمز إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها الا ترى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها باختلاء خلاها وعضد شجرها وتنفير صيدها وإرادة الالحاد فيها قد استمروا فيها على تعاطي أفظع أفراد الفجور وأشنع أحاد الالحاد حيث تركوا عبادة ربها ونصبوا فيها الأوثان وعكفوا على عبادتها قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون ولا تعارض بين ما في الآية من نسبة تحريمها إليه عز و جل وما في قوله تعالى عليه الصلاة و السلام إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة وأنا حرمت المدينة من نسبة تحريمها إلى إبراهيم عليه السلام لأن ما هنا باعتبار أنه هو المحرم في الحقيقة وما في الحديث باعتبار أن إبراهيم عليه السلام مظهر لحكمه عز و جل
وقرأ ابن عباس وابن مسعود التي صفة للبلدة وقراءة الجمهور أبلغ في التعظيم ففي الكشف أن إجراء الوصف على الرب تعالى شأنه تعظيم لشأن الوصف ولشأن ما يتعلق به الوصف وزيادة اختصاص له بمن أجري عليه الوصف على سبيل الادماج وجعل ذلك كالمسلم المبرهن ولا كذلك لو وصفت البلدة بوصف تخصيصا أو مدحا وقوله تعالى وله كل شيء أي خلقا وملكا وتصرفا من غير أن يشاركه سبحانه شيء في شيء من ذلك تحقيق للحق وتنبيه على إفراد مكة بالاضافة لما مر من التفخيم والتشريف مع عموم الربوبية لجميع الموجودات واستدل به بعض الناس لجواز ما يقوله جهلة المتصوفة شيء لله لأنه في معنى كل شيء لله عز و جل نحو تمرة خير من جرادة وأنت تعلم أنهم لايأتون به لارادة ذلك بل يقولون : شيء لله يافلان لبعض الأكابر من أهل القبور إما على معنى اعطني شيئا لوجه الله تعالى يا فلان أو أنت شيء عظيم من آثار قدرة الله تعالى وقد وجهه بذلك من لم يكفرهم به وهو الحق وإن كان في ظاهره على أول التوجيهين طلب شيء ممن لا قدرة له على شيء نعم الأولى صيانة اللسان عن أمثال هذه الكلمات
وأمرت أن أكون من المسلمين أي اثبت على ما كنت عليه من كوني من جملة الثابتين على ملة الاسلام والتوحيد أو الذين أسلموا وجوههم لله تعالى خالصة من قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وأن أتلو القرآن أي أواظب على قراءته على الناس بطريق تكرير الدعوة وتثنية الارشاد لكفايته في الهداية إلى طريق الرشاد وقيل أي أواظب على قراءته لينكشف لي حقائقه الرائقة المخزونة في تضاعيفه شيئا فشيئا فان المواظبة على قراءته من أسباب فتح باب الفيضات الالهية والأسرار القدسية وقد حكي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قام ليلة يصلي فقرأ قوله تعالى : إن تعذبهم فانهم عبادك فمازال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر حتى طلع الفجر وقيل أتلو من تلاه إدا تبعه أي وأن أتبع القرآن وهو خلاف الظاهر ويؤيد ما ذكرناه أولا من المعنى ما في حرف أبي كما أخرجه أبو عبيد وابن المنذر عن هرون واتل عليهم القرآن وحكي عنه في البحر أنه قرأ واتل هذا القرآن ولا تأييد فيه لما ذكرنا وقرأ عبد الله وأن أتل بغير واو أمرا من تلا فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر وجاز أن تكون مفسرة على إضمار أمرت فمن اهتدى أي بالايمان بالقرآن والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام وقيل أي باتباع فيما
(20/39)

ذكرذكر من العبادة والاسلام وتلاوة القرآن أو اتباعه فإنما يهتدي لنفسه أي فإنما منافع اهتدائه تعود إليه ومن ضل بالكفر به والاعراض عنه وقيل بالمخالفة فيما ذكر فقل أي له إنما أنا من المنذرين
29
- وقد خرجت عن عهدة الانذار فليس علي من وبال ضلالك شيء وإنما هو عليك فقط ويعلم مما ذكرنا أن جواب الشرط جملة القول وما في حيزه والرابط المشترط في مثله محذوف وقدره بعضهم بعد المنذرين أي من المنذرين إياه وجوز أبو حيان كون الجواب محذوفا أي من ضل فوبال ضلاله مختص به وحذف ذلك لدلالة جواب مقابله عليه وجوز بعضهم كون الجملة بعد هي الجواب ولكونها كناية تعريضية عما قدره أبو حيان لم تحتج إلى رابط ثم أن ظاهر التصريح بقل هنا يقتضي أن يكون فمن أهتدى الخ من كلامه عز و جل عقب به أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يقول لهم ما قبله ولا بعد في كونه من مقول القول المقدر قبل قوله تعالى : إنما أمرت كما سمعت وقل الحمد لله أي على ما أفاض علي من نعمائه التي أجلها نعمة النبوة المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها بالآيات البينة والبراهين النيرة وقوله تعالى : سيريكم ءايته من جملة الكلام المأمور به أي قل سيريكم آياته سبحانه : فتهرفونها أي فتعرفون أنه آيات الله تعالى حيث لاتنفعكم المعرفة وقيل : أي سيريكم في الدنيا والمراد بالآيات الدخان وما حل بهم من نقمات الله تعالى وعد منها قتل يوم بدر واعتراف المقتولين بذلك بالفعل واعتراف غيرهم بالقوة وقيل : هي خروج الدابة وسائر اشراط الساعة والخطاب لجنس الناس لا لمن في عهد النبوة
وأخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن مجاهد أن المراد بالآيات الآيات الانفسية والآفاقية فالآية كقوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم وقيل : المراد بها معجزات الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واضافتها إلى ضميره تعالى لأنها فعله عز و جل أظهرها علد رسوله عليه الصلاة و السلام للتصديق والمراد بالمعرفة ما يجامع الجحود وقوله تعالى وما ربك بغافل عما تعملون
39
- كلام مسوق من جهته سبحانه بطريق التذييل مقرر لما قبله متضمن للوعد والوعيد كما ينبيء عنه إضافة الرب الى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم وتخصيص الخطاب أولا به عليه الصلاة و السلام وتعميمه ثانيا للكفرة أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلا منكم بعمله لامحالة وقرأ الأكثر يعملون بياء الغيبة فهو وعيد محض والمعنى وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم البتة فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته سبحانه عن أعمالهم الموجبة له ومن تأمل في الآيات ظهر له أن هذ الخاتمة مما تدهش العقول وتحير الافهام ولله تعالى در التنزيل وماذا عسى يقال في الكلام الملك العلام
ومن باب الاشارة في الآيات ما قيل وأنزل من السماء سماء القلب ماء هو ماء نظر الرحمة فأنبتنا به حدائق ذات بهجة من العلوم والمعاني والاسرار والحكم البالغة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أي أصولها لما أن العلوم الآلهية غير اختيارية بل كل علم ليس باختياري في نفسه وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه نعم هو اختياري باعتبار الأسباب أم من جعل الأرض أي أرض النفس قرارا في الجسد وجعل خلالها أنهارا من
(20/40)

دواعي البشرية وجعل لها رواسي من قوى البشرية والحواس وجعل بين البحرين بحر الروح وبحر النفس حاجزا وهو القلب أم من يجيب المضطر وهو المستعد لشيء من الأشياء إدا دعاه بلسان الاستعداد وطلب منه تعالى ما استعد له وقال بعضهم : المضطر المستغرق بحار شوقه تعالى وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة وهي النفس الناطقة والروح الانساني من الأرض أي أرض البشرية وعلى هذا النمط تكلموا في سائر الآيات وساق الشيخ الأكبر قدس سره قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب دليلا على ما يدعيه من تجدد الجواهر كالأعراض عند الاشعري وعدم بقائها زمانين ومبنى ذلك عنده القول بوحدة الوجود وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن والكلام في صحة هذا المبنى واستلزامه للمدعي لايخفى على العارف وأما الاستدلال بهذه الآية لهذا المطلب فمن أمهات العجائب وأغرب الغرائب والله تعالى أعلم
سورة القصص
مكية كلها على ما روي عن الحسن وعطاء وطاوس وقال مقاتل : فيها من المدني قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب من قبله إلى قوله تعالى لانبتغي الجاهلين فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشي الذين قدموا وشهدوا واقعة أحد وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه أن الآية المذكورة نزلت بالجحفة في خروجه عليه الصلاة و السلام للهجرة وقيل : نزلت بين مكة والجحفة وقال المدائني في كتاب العدد حدثني محمد ثنا عبد الله قال : حدثنا أبي قال : حدثني علي بن الحسين عن أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام قال بلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم حين هاجر نزل عليه جبريل عليه الصلاة و السلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها قال : نعم قال ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد الآية وهي ثمان وثمانون آية بالاتفاق ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على شرح بعض ما أجمل فيه من أمر موسى عليه السلام
قال الجلال السيوطي إنه سبحانه لما حكى في الشعراء قول فرعون لموسى عليه السلام : ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت إلى قول موسى عليه السلام ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين ثم حكى سبحانه في طس قول موسى عليه السلام لأهله إني آنست نارا إلى آخره الذي هو في الوقوع بعد الفرار وكان الأمر ان على سبيل الاشارة والاجمال فبسط جل وعلا في هذه السورة ما أوجزه سبحانه في السورتين وفصل تعالى شأنه ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما فبدأ عز و جل بشرح تربية فرعون له مصدرا بسبب ذلك من علو فرعون وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عليه السلام عند ولادته في اليم خوفا عليه من الذبح وبسط القصة في تربيته وما وقع فيها إلى كبره إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي إلى قتل القبطي وهي الفعلة التي فعل إلى النم عليه بذلك الموجب لفراره إلى مدين إلى ما وقع له مع شعيب عليه السلام وتزويجه بانته إلى أن سار بأهله وآنس من جانب الطور نارا فقال لاهله امكثوا إني آنست نارا إلى ما وقع له فيها من المناجات لربه جل جلاله وبعثه تعالى إياه رسولا وما استتبع
(20/41)

ذلكذلك إلى آخر القصة فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا على الترتيب وبذلك عرف وجه الحكمة في تقديم طس على هذه وتأخيرها عن الشعراء في الذكر في المصحف وكذا في النزول فقد روي عن ابن عباس وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص وأيضا قد ذكر سبحانه في السورة السابقة من توبيخ الكفرة بالسؤال يوم القيامة ما ذكر وذكر جل شأنه في هذه من ذلك ما أبسط وأكثر مما تقدم وأيضا ذكر عز و جل من أمر الليل والنهار هنا فوق ما ذكره سبحانه منه هناك وقد يقال في وجه المناسبة أيضا : إنه تعالى فصل في تلك السورة أحوال بعض المهلكين من قوم صالح وقوم لوط وأجمل هنا في قوله تعالى : وكم أهلكنا من قرية الآيات وأيضا بسط في الجملة هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة وأوجز سبحانه هنا حيث قال تعالى : من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون فلم يذكر عز و جل من حال الأولين أمنهم من الفزع ومن حال الآخرين كب وجوههم في النار إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل
بسم الله الرحمن طسم
1
- تلك ءايت الكتاب المبين
2
- قد مر ما يتعلق به من الكلام في أشباهه تتلوا عليك أي نقرأ بواسطة جبرائيل عليه السلام فالاسناد مجازي كما في بنى الأمير المدينة والتلاوة في كلامهم على ما قال الراغب تختص باتباع كتب الله تعالى المنزلة تارة بالقراءة وتارة بالارتسام لما فيه من أمر ونهي وترغيب وترهيب أو ما يتوهم فيه ذلك وهو أخص من القراءة ويجوز أن تكون التلاوة هنا مجازا مرسلا عن التنزيل بعلاقة أن التنزيل لازم لها أو سببها في الجملة وأن تكون استعارة له لما بينهما من المشابهة فان كلا منهما طريق للتبليغ فالمعنى ننزل عليك من نبأ موسى وفرعون أي من خبرهما العجيب الشأن والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول نتلو المحذوف أي نتلو شيئا كائنا من نبئهما
والظاهر أن من تبعيضية وجوز بعضهم كونها بيانية وكونها صلة على رأي الأخفش فنبأ مجرور لفظا مرفوع محلا مفعول نتلو ويوهم كلام بعضهم أن من هو المفعول كأنه قيل : نتلو بعض نبأ وفيه بحث وأيا ما كان فلا تجوز في كون النبأ متلوا لما أنه نوع من اللفظ وقوله تعالى : بالحق متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل نتلو متلبسين بالحق أو مفعوله أي نتلو شيئا من نبئهما متلبسا بالحق أو وقع صفة لمصدر نتلو أي نتلو تلاوة متلبسة بالحق وقوله تعالى : لقوم يؤمنون
3
- متعلق بنتلو واللام للتعليل وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الدعوة والبيان لأنهم المنتفعون به وقد تقدم الكلام في شمول يؤمنون للمؤمنين حالا واستقبالا في السورة السابقة وقوله تعالى : إن فرعون علا في الأرض استئناف جار مجرى التفسير للمجمل الموعود وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده أي إن فرعون تجبر وطغى في أرض مصر وجاوز الحدود المعهودة في الظلم والعدوان وجعل أهلها شيعا أي فرقا يشيعونه في كل ما يريده من الشر والفساد أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه يستعمل
(20/42)

كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من ألاعمال الشاقة ومن لم يعمل ضرب عليه الجزية فيخدمه بادائها أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العدواة والبغضاء لئلا تتفق كلمتهم يستضعف طائفة منهم أي يجعلهم ضعفاء مقهورين والمراد بهذه الطائفة بنو إسرائيل وعدهم من أهلها للتغليب أو لأنهم كانوا فيها زمانا طويلا والجملة إما استئناف نحوي أو بياني في جواب ماذا صنع بعد ذلك وإما حال من فاعل جعل أو من مفعوله وأما صفة لشيعا والتعبير بالمضارع لحكاية الحال الماضية وقوله تعالى : يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم بدل من الجملة قبلها بدل اشتمال أو تفسير أو حال من فاعل يستضعف أو صفة لطائفة أو حال منها لتخصصها بالوصف وكان ذلك منه لما أن كانها قال له يولد في بني إسرائيل مولود يذهب ملكك على يده
وقال السدي : إنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء فقالوا : يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يده فأخذ يفعل ما يفعل ولا يخفى أنه من الحمق بمكان إذ لو صدق الكاهنأو الرؤيا فما فائدة القتل وإلا فما وجهه وفي الآية دليل على أن قتل الأولاد لحفظ الملك شريعة فرعونية
وقرأ أبو حيوة وابن محيصن يذبح بفتح الياء وسكون الذال إنه كان من المفسدين
4
- أي الراسخين في الافساد ولذلك اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل من لا جنحة له من ذراري الأنبياء عليهم السلام لتخيل فاسد ونريد أن نمن أي نتفضل على الذين استضعفوا في الأرض على الوجه المذكور بانجائهم من بأسه وصيغة المضارع في نريد لحكاية الحال الماضية وأما نمن فمستقبل بالنسبة للارادة فلا حاجة لتأويله وهو معطوف على قوله تعالى : إن فرعون علا الخ لتناسبهما في الوقوع في حيز التفسير للنبأ وهذا هو الظاهر
وجوز أن تكون الجملة حالا من مفعول يستضعف بتقدير مبتدأ أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم وقدر المبتدأ ليجوز التصدير بالواو وجوز أن يكون حالا من الفاعل بتقدير المبتدأ أيضا وخلوها عن العائد عليه وما يقوم مقامه لايضر لأن الجملة الحالية إدا كانت أسمية يكفي في ربطها الواو وضعف بأنه لاشبهة في استهجان ذلك مع حذف المبتدأ وتعقب القول بصحة الحالية مطلقا بأن الاصل في الحال المقارنة والمن بعد الاستضعاف بكثير وأجيب بأن الحال ليس المن بل ارادته وهي مقارنة وتعلقها إنما هو بوقوع المن في الاستقبال فلا يلزم من مقارنتها مقارنته على أن من الله تعالى عليهم بالخلاص لما كان في شرف الوقوع جاز إجراؤه مجرى الواقع المقارن للاستضعاف وإذا جعلت الحال مقدرة يرتفع القيل والمقال وجوز بعضهم عطف ذلك على نتلو ونستضعف وقال الزمخشري : هو غير سديد ووجه ذلك في الكشف بقوله أما الاول فلما يلزم أن يكون خارجا عن المنبأ به وهو أعظمه وأهمه واما الثاني فلأنه إما حال عن ضمير جعل أو عن مفعوله أو صفة لشيعا أو كلام مستأنف وعلى الاولين ظاهر الامتناع وعلى الثالث أظهر إذ لا مدخل لذلك في الجواب عن السؤال الذي يعطيه قوله تعالى : جعل أهلها شيعا والعطف يقتضي الاشتراك لكن للعطف على يستضعف مساغ على تقدير الوصف والمعنى جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم ونريد أن نمن عليهم منهم أي على الطائفة من الشيع فأقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى الطائفة وحذف الراجع إلى الشيع للعلم كأنه قيل : يستضعفهم
(20/43)

ونريد أن نقويهم كما زعم الزمخشري في الوجه الذي جعله حالا عن مفعول يستضعف والحاصل شيعا موصوفين باستضعاف طائفة وارادة المن على تلك الطائفة منهم بدفع الضعف
فان قلت يدفعه العلم بالصفة الثانية لم يكن حاصلا بخلاف الأولى قلنا كذلك لم يكن حاصلا باستضعاف مقيد بحال الارادة والحق أن الوجهين يضعفان لذلك وإنما أوردناه على الزمخشري لتجويزه الحال انتهى وأورد عليه أن للعطف عليه على تقدير كونه حالا مساغا أيضا بعين ما ذكره فلا وجه للتخصيص بالوصفية وأن عدم حصول العلم بالصفة الثانية بعد تسليم اشتراط العلم بالصفة مطلقا غير مسلم فان سبب العلم بالاولى وهو الوحي أو خبر أهل الكتاب ويجوز أن يكون سببا للعلم بالثانية وأيضا يجوز أن يخصص جواز حالية ونريد الخ باحتمال الاستئناف والحالية في يستضعف دون الوصف فلا يكون مشترك الالزام وفيه أن احتمال الحالية من المفعول لم يذكره الزمخشري فلذا لم يلتفت صاحب الكشف إلى أن للعطف عليه مساغا وأن اشتراط العلم بالصفة مما صرح به في مواضع من الكشاف والكلام معه وأن العلم بصفة الاستضعاف لكونه مفسرا بالذبح والاستحياء وذلك معلوم بالمشاهدة وليس سبب العلم ما ذكر من الوحي أو خبر أهل الكتاب وفي هذا نظر والانصاف أن قوله تعالى : إن فرعون الخ لايظهر كونه بيانا لنبأ موسى عليه السلام وفرعون معا على شيء من الاحتمالات ظهوره على احتمال العطف على إن فرعون وادخاله في حيز البيان والا فالظاهر من إن فرعون الخ بدون هذا المعطوف أنه بيان لنبأ فرعون فقط فتأمل ونجعلهم أئمة مقتدى بهم في الدين والدنيا على ما في البحر وقال مجاهد دعاة إلى الخير وقال قتادة ولاة كقوله تعالى : وجعلكم ملوكا وقال الضحاك أنبياء وأياما كان ففيه نسبة ما للبعض إلى الكل ونجعلهم الورثين
5
- لجميع ما كان منتظما في سلك ملك فرعون وقومه على أكمل وجه كما يوميء اليه التعريف وذلك بأن لاينازعهم أحد فيه ونمكن لهم في الأرض أي في أرض مصر وأصل التمكين أن يجعل الشيء مكانا يتمكن فيه ثم استعير للتسليط واطلاق الامر وشاع في ذلك حتى صار حقيقة لغوية فالمعنى نسلطهم على أرض مصر يتصرفون وينفذ أمرهم فيها كيفما يشاؤن وظاهر كلام بعضهم أن المراد بالارض ما يعم مصر والشام مع أن المعهود هو أرض مصر لاغير وكأن ذلك لما أن الشام مقر بني اسرائيل وقرأ الأعمش ولنمكن بلام كي أي وأوردنا ذلك لنمكن أو ولنمكن فعلنا ذلك
ونري فرعون وهمن وجنودهما أضافة الجنود إلى ضميرهما إما للتغليب أو لأنه كان لهامان جند مخصوصون به وإن كان وزيرا أو لأن جند السلطان جند الوزير ونرى من الرؤية البصرية على ما هو المناسب للبلاغة وجوز أن يكون من الرؤية القلبية التي هي بمعنى المعرفة وعلى الوجهين هو ناصب لمفعولين لمكان الهمزة ففرعون وما عطف عليه مفعوله الأول وقوله تعالى : ومنهم أي من أولئك المستضعفين متعلق به وقوله تعالى : ما كانوا يحذرون
6
- أي يتوقون من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود منهم مفعوله الثاني والرؤية على تقدير كونها بصرية لمقدمات ذلك وعلاماته في الحقيقة لكنها جعلت له مبالغة ومثله مستفيض بينهم حتى يقال رأى موته بعينه وشاهد هلاكه وعليه قول بعض المتأخرين :
(20/44)

أبكاني البين حتى رأيت غسلي بعيني وقيل المراد رؤية وقت ذلك وليس بذاك والامر على تقدير كونها بمعنى المعرفة ظاهر لأنهم قد عرفوا ذهاب ملكهم وهلاكهم لما شاهدوه من ظهور أولئك المستضعفين عليهم وطلوع طلائعه من طرق خذلانهم وفسر بعضهم الموصول بظهور موسى عليه السلام وهو خلاف الظاهر المؤيد بالآثار وكأن ذلك منه لخفاء وجه تعلق رؤية فرعون ومن معه بذهاب ملكهم وهلكهم عليه وقد علمت وجهه وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي ويرى بالياء مضارع رأى وفرعون بالرفع على الفاعلية وكذأ ما عطف عليه وأوحينا إلى أم موسى قيل هي محيانة بنت يصهر بن لاوي وقيل يوخابذ وقيل يارخا وقيل يارخت وقيل غير ذلك والظاهر أن الايحاء اليها كان بارسال ملك ولا ينافي حكاية أبي حيان الاجماع على عدم نبوتها لما أن الملائكة عليهم السلام قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم والى هذا ذهب قطرب وجماعة وقال مقاتل منهم : إن الملك المرسل اليها هو جبريل عليه السلام وعن ابن عباس وقتادة أنه كان إلهاما ولا يأباه قوله تعالى : إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين نعم هو أوفق بالاول وقال قوم : إنه كان رؤيا منام صادقة قص فيها أمره عليه السلام وأوقع الله تعالى في قلبها اليقين وحكي عن الجبائي أنها رأت في ذلك رؤيا فقصتها على من تثق به من علماء بني إسرائيل فعبرها لها وقيل كان باخبار نبي في عصرها إياها والظاهر أن هذا الايحاء كان بعد الولادة وفي الاخبار ما يشهد له فيكون في الكلام جملة محذوفة وكأن التقدير والله تعالى أعلم : ووضعت موسى أمه في زمن الذبح فلم تدر ما تصنع في أمره وأوحينا اليها أن أرضعيه وقيل : كان قبل الولادة وأن تفسيرية أو مصدرية والمراد أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه وقرأ عمر بن عبد الواحد وعمر بن عبد العزيز أن أرضعيه بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس لأن القياس فيه نقل حركتها وهي الفتحة إلى النون كما في قراءة ورش
فإدا خفت عليه من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الابناء أو من الجيران ونحوهم أن ينموا عليك فألقيه في اليم أي في البحر والمراد به النيل ويسمى مثله بحرا وإن غلب في غير العذب ولا تخافي عليه ضيعة أو شدة من عدم رضاعه في سن الرضاع ولا تحزني من مفارقتك إياه إنا رادوه إليك عن قريب بحيث تأمنين عليه ويوميء إلى القرب السياق وقيل التعبير باسم الفاعل حقيقة في الحال ويعتبر لذلك في قوله سبحانه : وجاعلوه من المرسلين ولا يضر تفاوت القربين والجملة تعليل للنهي عن الخوف والحزن وإيثار الجملة الاسمية وتصديرها بحرف التحقيق للاعتناء بتحقيق مضمونها أي إنا فاعلون رده وجعله من المرسلين لامحالة واستفصح الاصمعي امرأة من العرب أنشدت شعرا فقالت : أبعد قوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى الآية فصاحة وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين والفاء في قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون فصيحة والتقدير ففعلت ما أمرت به من إرضاعه والقائه في اليم لما خافت عليه وحذف ما حذف تعويلا على دلالة الحال وإيذانا بكمال سرعة الامتثال
(20/45)

رويروي أنها لما ضربها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها فلما وقع موسى عليه السلام على الارض هالها نور بين عينيه وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها بحيث منعها من السعاية فقالت لأمه : احفظيه فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة وألقته في تنور مسجور لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها فطلبوا فلم يجدوا شيئا فخرجوا وهي لاتدري مكانه فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت اليه وقد جعل الله تعالى النار عليه بردا وسلاما فأخذته فلما ألح فرعون في طلب الولدان واجتهد العيون في تفحصها أوحى الله تعالى اليها ما أوحى وأرضعته ثلاثة أشهر أو أربعة أو ثمانية على اختلاف الروايات فلما خافت عليه عمدت إلى بردي فصنعت منه تابوتا أي صندوقا فطلته بالقار من داخله وعن السدي أنها دعت نجارا فصنع لها تابوتا وجعلت مفتاحه من داخل ووضعت موسى عليه السلام فيه والقته في النيل بين أحجار عند بيت فرعون فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه فأدخلنه اليها وظنن أن فيه مالا فلما فتحنه رأته آسية ووقعت عليه رحمتها فأحبته وأراد فرعون قتله فلم تزل تكلمه حتى تركه لها وروي عن ابن عباس وغيره أنه كان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس اليه وكان بها برص شديد أعيا الأطباء وكان قد ذكر له أنها لاتبرأ إلا من قبل البحر يؤخذ منه شبه الانس يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومعه امرأته آسية وأقبلت بنته في جواريها حتى جلست على شاطيء النيل فاذا بتابوت تضربه الأمواج فتعلق بشجرة فقال فرعون ائتوني به فابتدروا بالسفن فأحضروه بين يديه فعالجوا فتحه فلم يقدروا عليه وقصدوا كسره فاعياهم فنظرت آسية فكشف لها عن نور في جوفه لم يره غيرها فعالجته ففتحته فاذأ صبي صغير فيه وله نور بين عينيه وهو يمص إبهامه لبنا فألقى الله تعالى محبته عليه السلام في قلبها وقلوب القوم وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرأت من ساعتها
وقيل : لما نظرت إلى وجهه برأت فقالت الغواة من قوم فرعون أنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر خوفا منك فاقتله فهم أن يقتله فاستوهبته آسية فتركه كما سيأتي إن شاء الله تعالى والأخبار في هذه القصة كثيرة وقد قدمنا منها ما قدمنا وآل فرعون أتباعه وقولهم : إن الآل لايستعمل إلا فيما فيه شرف مبني على الغالب أو الشرف فيه أعم من الشرف الحقيقي والصوري ومعنى التقاطهم إياه عليه السلام أخذهم إياه عليه السلام أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به وصيانة له عن الضياع ليكون لهم عدوا وحزنا فيه استعارة تهكمية ضرورة أنه لم يدعهم للالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا وإنما دعاهم شيء آخر كالتبني ونفعه إياهم إذا كبر وفي تحقيق ذلك أقوال الأول أن يشبه كونه كدوا وحزنا بالعلة الغائبة كالتبني والنفع تشبيها مضمرا في النفس ولم يصرح بغير المشبه ويدل على ذلك بذكر ما يخص المشبه به وهو لام التعليل فيكون هناك استعارة مكنية أصلية في المجرور واللام على حقيقتها والثاني أن يشبه أولا ترتب غير العلة الغائية بترتب العلة الغائية أي يعتبر التشبيه بين الترتبين الكليين ليسري في جزئياتهما فيتحقق تبعا تشبيه ترتب كونه عدوا وحزنا أعني الترتب المخصوص على الالتقاط بترتب التبني ونحوه مما هو علة غائبة أعني الترتب المخصوص أيضا عليه ثم
(20/46)

يستعمليستعمل في المشبه اللام الموضوعة للدلالة على ترتب العلة الغائية الذي هو المشبه به فتكون الاستعارة أولا في العلية والغرضية وتبعا في اللام فصار حكم اللام حكم الاسد حيث استعيرت لما يشبه العلة كما استعير الأسد لما يشبه الأسد بيد أن الاستعارة ههنا مكنية تبعية والثالث ما أفاده كلام الخطيب الدمشقي في التلخيص والايضاح وهو أن يقدر التشبيه أولا لكونه عدوا وحزنا بالعلة الغائية ثم يسري ذلك التشبيه إلى تشبيه ترتبه بترتب العلة الغائية فتستعار اللام الموضوعة لترتب العلة الغائية لترتب كونه عدوا وحزنا من غير استعارة في المجرور وهذا التشبيه كتشبيه الربيع بالقادر المختار ثم إسناد الانبات إليه وهو مفاى كلام الكشاف واختار ذلك العلامة عبد الحكيم فقال : وهو الحق عندي لأن اللام لما كان معناها محتاجا إلى ذكر لمجرور كان اللائق أن تكون الاستعارة والتشبيه فيها تابعا لتشبيه المجرور لا تابعا لتشبيه معنى كلي بمعنى كلي معنى الحرف من جزئياته كما ذهب اليه السكاكي وتبعه العلامة التفتازاني أنتهى فتأمل
واستشكل أصل تعليل الالتقاط بأن الالتقاط الوجدان من غير قصد والتعليل يقتضي حقيقة القصد وهو توهم لأن الوجدان من غير قصد أخذ ما وجد لغرض وقد علمت أن المعنى هنا فأخذه أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به آل فرعون ليكون الخ والتعليل فيه إنما هو للاخذ ولا اشكال فيه
وقال بعضهم يحتمل تعلق اللام بمقدار أي قدرنا الالتقاط ليكون الخ وعليه لاتجوز في الكلام إلا عند من يقول : إن افعال الله تعالى لا تعلل وهو أمر غير ما نحن فيه ولا يخفى أن كلام الله سبحانه أجل وأعلى من أن يعتبر فيه مثل هذا الاحتمال وفي جعله عليه السلام نفس الحزن مالا يخفى من المبالغة
وقرأ ابن وثاب والاعمش وحمزة والكسائي وابن سعدان حزنا بضم الحاء وسكون الزاي وقراءة الجمهور بفتحتين لغة قريش إن فرعون وهمن وجنودهما كانوا خاطئين
8
- في كل ما يأتون وما يذرون أو من شأنهم الخطأ فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفا لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون وروي أنه ذبح في طلبه عليه السلام تسعون ألف وليد و خاطئين على هذا من الخطأ في الرأي ويجوز أن يكون من خطيء بمعنى أذنب وفي الاساس يقال : خطيء خطأ إذا تعمد الذنب والمعنى وكانوا مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم والجملة على الأول اعتراض بين المتعاطفين لتأكيد خطئهم المفهوم من قوله تعالى : ليكونلهم عدوا وحزنا فانه كما سمعت استعارة تهكمية وعلى الثاني اعتراض لتأكيد ذنبهم المفهوم من حاصل الكلام وقيل : يتعين عليه أن تكون اعتراضا لبيان الموجب لما ابتلوا به ويحتمل على هذا أن تكون استئنافا بيانيا إن أريد بما ابتلوا به كونه عدوا وحزنا وهو لا ينافي الاعتراض عندهم وقريء خاطئين بغير همز فاحتمل أن يكون أصله الهمز وحذفت وهو الظاهر وقيل : هو من خطا يخطو أي خاطين الصواب إلى ضده فهو مجاز
وقالت امرأت فرعون آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام وعلى هذا لم تكن من بني إسرائيل وقيل : كانت منهم من سبط موسى عليه السلام وحكى السهيلي أنها كانت عمته عليه السلام وهو قول غريب والمشهور القول الأول
والجملة عطف على جملة فالتقطه آل فرعون أي وقالت امرأة فرعون له حين أخرجته من التابوت
قرت عين لي ولك أي هو قرة عين كائنة لي ولك على أن قرة خبر مبتدأ محذوف والظرف في موضع
(20/47)

الصفة له ويبعد كما في البحر أن يكون مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : لا تقتلوه وقالت ذلك لما ألقى الله تعالى من محبته في قلبها أو لما كشف لها فرأته من النور بين عينيه أو لما شاهدته من برء بنت فرعون من البرص بريقه أو بمجرد النظر إلى وجهه ولتفخيم شأن القرة عدلت عن لنا إلى لي ولك وكأنها لما تعلم من مزيد حب فرعون إياها وأن مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه قدمت نفسها عليه فيكون ذلك أبلغ في ترغيبه بترك قتله فلا يقال لنا الأظهر في الترغيب بذلك العكس وقد يستأنس لكون مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه ما أخرجه النسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها حين قالت له ذلك قال لك لا لي ولو قال لي كما هو لك لهداه الله تعالى كما هداها وهذا أمر فرضي فلا ينافي ما ورد من أنه عليه اللعنة طبع كافرا والخطاب في لا تقتلوه قيل : لفرعون واسناد الفعل اليه مجازي لأنه الآمر والجمع للتعظيم وكونه لايوجد في كلام العرب الموثوق بهم الا في ضمير المتكلم كفعلنا مما تفرد به الرضى وقلده فيه من قلده وهو لا أصل له رواية ودراية قال أبو على الفارسي في فقه اللغة من سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجمع فيقال للرجل العظيم انظروا في أمري وهكذا في سر الأدب وخصائص ابن جني وهو مجاز بليغ وفي القرآن الكريم منه ما التزام تأويله سفه وقيل : هو لفرعون وأعوانه الحاضرين ورجح بما روى أن غواة قومه قالوا وقت اخراجه هذا هو الصبي الذي كنا نحذر منه فاذن لنا في قتله وقيل : هو له ولمن يخشى منه القتل وإن لم يحضر على التغليب واختار بعضهم كونه للمأمورين بقتل الصبيان كأنها بعد أن خاطبت فرعون وأخبرته بما يستعطفه على موسى عليه السلام أمنت منه بادرة أمن جديد بقتله فالتفت إلى خطاب المأمورين قبل فنهتهم عن قتله معللة ذلك بقوله تعالى المحكي عنها : عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهو أوفق باختلاف الأسلوب حيث فصلت أولا في قولها : لي ولك وافردت ضمير خطاب فرعون ثم خاطبت وجمعت الضمير في لا تقتلوه ثم تركت التفصيل في عسى أن ينفعنا الخ ولم تأت به على طرز قرة عين لي ولك وبأن تقول : عسى أن ينفعني وينفعك مثلا فتأمل ورجاء نفعه لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجابة : في المهد ينطق عن سعادة جده أثر النجابة ساطع البرهان واتخاذ ولدا لأنه لائق لتبني الملوك لما فيه من الأبهة وعطف هذا على ما قبله من عطف الخاص على العام أو تعتبر بينهما المغايرة وهو الأنسب بأو وهم لايشعرون حال من آل فرعون والتقدير فاتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وقالت أمرأته له كيت وكيت وهم لايشعرون بأنهم على خطأ عظيم فيما صنعوا وقال : قتادة لايشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يده وقال مجاهد أنه عدو لهم قال محمد بن اسحق : أني أفعل ما أريد لاما يريدون والتقدير الأول أجمع وجوز كونه حالا من القائلة والمقول له معا والمراد بالجمع اثنان على احتمال كون الخطاب في لا تقتلوه لفرعون فقط وكونه حالا من القائلة فقط أي قالت امرأة فرعون له ذلك والذين أشاروا بقتله لايشعرون بمقالتها له واستعطاف قلبها عليه لئلا يغروه بقتله وعلى الاحتمالات الثلاثة هو من كلام الله تعالى وجوز كونه حالا من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس لا لذي الحال إد يكفي الواو للربط أي نتخذه ولدا والناس لايعلمون أنه لغيرنا وقد تبنيناه فيكون من كلام آسية رضي الله تعالى عنها وأصبح فواد أم موسى فارغا أي صار خاليا من كل شيء غير ذكر موسى عليه السلام أخرجه
(20/48)

الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس وروي ذلك أيضا عن ابن مسعود والحسن ومجاهد ونحوه عن عكرمة وقالت : فرقة فارغا من الصبر وقال ابن زيد : فارغا من وعد الله تعالى ووحيه سبحانه اليها تناست ذلك من الهم وقال أبو عبيدة : فارغا من الهم إد لم يغرق وسمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه كما يقال فلان فارغ البال وقال بعضهم : فارغا من العقل لما دهما من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد عدوه فرعون كقوله تعالى وأفئدتهم هواء اي خلاء لا عقول فيها واعترض على القولين بأن الكلام عليهما لايلائم ما بعده وفيه نظر وقرأ أحمد بن موسى عن أبي عمرو فواد بالواو وقرأ مؤسى بهمزة بدل الواو وقرأ فضالة بن عبيد والحسن ويزيد ابن قطب وأبو زرعة بن عمرو بن جرير فزعا بالزاي والعين المهملة من الفزع وهو الخوف والقلق وابن عباس قرعا بالقاف وكسر الراء إسكانها من قرع رأسه إدا انحسر شعره كأنه خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى عليه السلام وقيل : قرعا بالسكون مصدر أي يقرع قرعا من القارعة وهو الهم العظيم وقرأ بعض الصحابة فزعا بفاء مكسورة وزاي ساكنة وغين معجمة ومعناه ذاهبا هدرا والمراد هالكا من شدة الهم كأنه قتيل لاقود ولا دية فيه ومنه قول طليحة الاسدي في أخيه حبال : فان يك قبلي قد أصيبت نفوسهم فلن يذهبوا فزعا بقتل حبال وقرأ الخليل بن أحمد فرغا بضم الفاء والراء إن كادت لتبدي به أي أنها كادت الخ على أن إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة أو ما كادت إلا تبدي به على أن إن نافية واللام بمعنى إلا هو قول كوفي والإبداء إظهار الشيء وتعديته بالباء لتضمينه معنى التصريح وقيل : المفعول محذوف والباء سببية أي تبدي حقيقة الحال بسببه أي بسبب ما عراها من فراقه وقيل : هي صلة أي تبديه وكلا القولين كما ترى والظأهر أن الضمير المجرور لموسى عليه السلام والمعنى أنها كادت تصرح به عليه السلام وتقول وا ابناه من شدة الغم والوجد وراه الجماعة عن ابن عباس وروي ذلك أيضا عن قتادة والسدي وعن مقاتل أنها كادت تصيح وا ابناه عند رؤيتها تلاطم الأمواج به شفقة عليه من الغرق وقيل : المعنى أنها كادت تظهر أمره من شدة الفرح بنجاته وتبنى فرعون إياه وقيل : الضمير للوحي إنها كادت تظهر الوحي وهو الوحي الذي كان في شأنه عليه السلام المذكور في قوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه الآية وهو خلاف الظاهر ولا تساعد عليه الروايات لولا أن ربطنا على قلبها أي بما أنزلنا عليه من السكينة والمراد لولا أن ثبتنا قلبها وصبرناها فالربط على القلب مجاز عن ذلك وجواب لولا محذوف دل عليه إن كادت لتبدي به أي لولا أن ربطنا على قلبها لأبدته وقيل : لكادت تبدي به وقوله تعالى : لتكون من المؤمنين
1
- علة للربط هلى القلب والايمان بمعنى التصديق أي صبرناها وثبتنا قلبها لتكون راسخة في التصديق بوعدنا بأنا رادوه اليها
(20/49)

وجاعلوه من المرسلين ومن جعل الفراغ من الهم والحزن وكيدودة الابداء من الفرح بتبنيه عليه السلام الذي هو فرح مذموم جعل الايمان بمعنى الوثوق كما في قولهم على ما حكى أبو زيد ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثق وحقيقته صرت ذا أمن أي ذا سكون وطمأنينة وقال المعنى لولا أن ربطنا على قلبها وسكنا قلقه الكائن من الابتهاج الفاسد لتكون من الواثقين بوعد الله تعالى المبتهجين بما يحق الابتهاج به وقالت لأخته مريم وقيل : كلثمة وقيل : كلثوم والتعبير عنها بأخوته دون أن يقال لبنتها للتصريح بمدار المحبة للامتثال بالامر قصيه أي اتبعي أثره وتتبعي خبره والظاهر أن هذا القول وقع منها بعد أن أصبح فؤادها فارغا فان كانت لم تعرف مكانه إذ ذاك فظاهر وإن كانت قد عرفته فتتبع الخبر ليعرف هل قتلوه أم لا ولينكشف ما هو عليه من الحال فبصرت به أي أبصرته والفاء فصيحة أي فقصت أثره فبصرت وقرأ قتادة فبصرت بفتح الصاد وعيسى بكسرها عن جنب أي عن بعد وقيل : أي عن شوق اليه حكاه أبو عمرو بن العلاء وقال هي لغة جذام يقولون جنبت اليك أي اشتقت وقال الكرماني جنب صفة لموصوف محذوف أي عن مكان جنب أي بعيد وكأنه من الاضداد فانه يكون بمعنى القريب أيضا كالجار الجنب وقيل : أي عن جانب لأنها كانت تمشي على الشط وقيل : النظر عن جنب أي تنظر إلى الشيء كأنك لا تريده
وقرأ قتادة والحسن وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه والاعرج عن جنب بفتح الجيم وسكون النون وعن قتادة أنه قرأ بفتحهما أيضا وعن الحسن أنه قريء بضم الجيم واسكان النون وقرأ النعمان بن سالم عن جانب والكل على ما قيل : بمعنى واحد وفي البحر الجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى وهم لايشعرون
11
- أنها تقصه وتتعرف حاله أو أنها أخته وحرمنا عليه المراضع أي منعناه ذلك فالتحريم مجاز عن المنع فان من حرم عليه شيء فقد منعه ولا يصح ارادة التحريم الشرعي لأن الصبي ليس من أهل التكليف ولا دليل على الخصوصية والمراضع جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد وهي المرأة التي ترضع وترك التاء إما لاختصاصه بالنساء أو لأنه بمعنى شخص مرضع أو جمع مرضع بفتح الميم على أنه مصدر ميمي بمعنى الرضاع وجمع لتعدد مراته أو اسم مكان أي موضع الرضاع وهو الثدي من قبل أي من قبل قصها أو ابصارها أو وروده على من هو عنده أو من قبل ذلك أي من أول أمره وظاهر صنيع أبي حيان اخياره فقالت هل أدلكم أي هل تريدون أن أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم أي يضمنونه ويقومون بتربيته لأجلكم والفاء فصيحة أي فدخلت عليهم فقالت وقولها : على أهل بيت دون أمرأة اشارة إلى أن المراد أمرأة من أهل الشرف تليق بخدمة الملوك وهم له نصحون
21
- لايقصرون في خدمته وتربيته وروي أن هامان لما سمع هذا منها قال انها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله فقالت إنما أردت وهم للملك ناصحون فخلصت بذلك من الشر الذي يجوز لمثله الكذب وأحسنت وليس ببدع لأنها من بيت النبوة فحقيق بها ذلك واحتمال الضمير لأمرين مما لا تختص به اللغة العربية بل يكون في جميع اللغات على أن الفراعنة من بقايا العمالقة وكانوا يتكلمون بالعربية فلعلها كلمت بلسانهم ويسمى هذا الاسلوب من الكلام الموجه
فرددنه إلى أمه الفاء فصيحة أي فقبلوا ذلك منها ودلتهم على أمه وكلموها في ارضاعه فقبلت فرددناه
(20/50)

اليها أو يقدر نحو ذلك وروي أن أخته لما قالت ما قالت أمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله فأتت بأمه وموسى عليه السلام على يد فرعون يبكي وهو يعلله فدفعه اليها فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال : من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك فقالت إني أمرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي الا قبلني فقرره في يدها فرجعت به إلى بيتها من يومها وأمر أن يجرى عليها النفقة وليس أخذها ذلك من أخذ الاجرة على ارضاعها إياه ولو سلم فلا نسلم أنه كان حراما فيما تدين وكانت النفقة على ما في البحر دينارا في كل يوم كي تقر عينها بوصول ولدها اليها ولا تحزن لفراقه ولتعلم أن وعد الله أي جميع ما وعده سبحانه من رده وجعله من المرسلين حق لاخلف فيه بمشاهدة بعضه وقياس بعضه عليه وإلا فعلمها بحقية ذلك بالوحي حاصل قبل
واستدل أبو حيان بالآية على ضعف قول من ذهب إلى أن الايحاء كان الهاما أو مناما لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد وفيه نظر ولكن أكثرهم لا يعلمون
31
- أي لايعرفون وعده تعالى ولا حقيته أو لايجزمون بما وعدهم جل وعلا لتجويزهم تخلفه وهو سبحانه لايخلف الميعاد وقيل : لايعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بذلك وما سواه من قرة عينها وذهاب حزنها تبع وفيه أن الذي يفيده الكلام إنما هو كون كل من قرة العين والعلم كالغرض أو غرضا مستقلا وأما تبعية غير العلم له لاسيما مع تقدم الغير فلا وكون المفيد لذلك حذف حرف العلة من الأول لايخفى حاله وفي قوله تعالى : ولكن أكثر الناس الخ قيل : تعريض بما فرط من أمه حين سمعت بوقوعه في يد فرعون من الخوف والحيرة وأنت تعلم أن ما عراها كان من مقتضيات الجبلة البشرية وهو يجامع العلم بعدم وقوع ما يخاف منه ونفي العلم في مثل ذلك إنما يكون بضرب من التأويل كما لا يخفى ثم ان الاسدراك على ما اختاره مما وقع بعد العلم وجوز أن يكون من نفس العلم وذلك إذا كان المعنى لايعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بحقية وعد الله تعالى فتأمل
ولما بلغ أشده أي المبلغ الذي لايزيد عليه نشؤه وقوله تعالى : واستوى أي كمل وتم تأكيد وتفسير لما قبله كذا قيل : واختلف في زمان بلوغ الاشد والاستواء فاخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال الاشد ما بين الثماني عشر إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الاربعين فاذا زاد على الاربعين أخذ في النقصان وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال الاشد ثلاث وثلاثون سنة والاستواء اربعون سنة وهي رواية عن ابن عباس أيضا وروي نحوه عن قتادة وقال الزجاج مرة بلوغ الاشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الاربعين واخرى هو ما بين الثلاثين إلى الاربعين واختاره بعضهم هنا وعلل بأن ذلك لموافقته قوله تعالى : حتى إدا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة لأن يشعر بانه منته إلى الاربعين وهي سنة الوقوف فينبغي أن يكون مبدؤه مبدأه ولا يخلو عن شيء والحق أن بلوغ الاشد في الاصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت انتهاء النمو وغايته وهذا مما يختلف باختلاف الاقاليم والاعصار والاحوال ولذا وقع له تفاسير في كتب اللغة والتفسير ولعل الاول على ما قيل : أن يقال إن بلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقواه الجسمانية وينتهي فيه نموه المعتد به والاستواء اعتدال عقله وكماله ولا ينبغي تعيين وقت لذلك في حق موسى عليه السلام إلا بخبر يعول عليه لما سمعت من أن ذاك مما يختلف باختلاف الاقاليم والاعصار والاحوال نعم اشتهر أن ذلك في الأغلب يكون في سن اربعين وعليه قول الشاعر :
(20/51)

إذا المرء وافي الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وان جر أسباب الحياة له العمر وفي قوله تعالى : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ما يستأنس به لذلك وقد مر طرف من الكلام في الأشد في سورة يوسف فتذكر ولا تغفل ثم إن حاصل المعنى على ما قيل أخيرا : ولما قوي جسمه واعتدل عقله آتيناه حكما أي نبوة على ما وري عن السدي أو علما هو من خواص النبوة على ما تأول به بعضهم كلامه وعلما بالدين والشريعة وفي الكشاف العلم التوراة والحكم السنة وحكمة الانبياء عليهم السلام سنتهم قال الله تعالى : واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة وقيل آتيناه سيرة الحكماء العلماى وسمتهم قبل البعث فكان عليه السلام لايفعل فعلا يستجهل فيه اه ورجح ما قيل بأنه أوفق لنظم القصة مما تقدم لأن استنباءه عليه السلام بعد وكز القبطي والهجرة إلى مدين ورجوعه منها وإيتاؤه التوراة كان بعد إغراق فرعون فهو بعد الوكز بكثير وبأن قوله تعالى : وكذلك أي مثل ذلك الذي فعلناه بموسى وأمه عليهما السلام نجزي المحسنين
41
- على إحسانهم يأبى جمل ما تقدم على النبوة لأنها لا تكون جزاء على العمل ومن ذهب إلدى الأول جعل هذا بيانا اجماليا لانجاز الوعد بجعله من المرسلين بعد رده لأمه وما بعد تفصيل له والعطف بالواو لايقتضي الترتيب وكون ما فعل بموسى وأمه عليهما السلام جزاء على العمل باعتبار التغليب وقد يقال : إن أصل النبوة وإن لم تكن جزاء على العمل إلا أن بعض مراتبها وهو ما فيه ميد قرب من الله تعالى يكون باعتبار مزيد القرب جزاء عليه ويرجع ذلك إلى أن مزيد القرب هو الجزاء وتفاوت الأنبياء عليهم السلام في القرب منه تعالى مما لا ينبغي أن يشك فيه ورجح ما تقدم بكونه أوفق بقوله تعالى : ولتعلم أن وعد الله حق واستلزامه حصول النبوة لكل محسن ليس بشيء أصلا ومن ذهب إلى أن الايتاء كان قبل الهجرة قال : يجوز أن يكون المعنى آتيناه رياسة بين قومه بني إسرائيل بأن جعلناه ممتازا فيما بينهم يرجعون إليه في مهامهم ويمتثلونه إذا أمرهم بشيء أو نهاهم عنه وعلما ينتفع به وينفع به غيره وذلك إما بمحض الإلهام أو بتوفيقه لاستنباط دقائق وأسرار مما نقل اليه من كلمات آبائه الأنبياء عليهم السلام من بني إسرائيل ولا بدع في أن يكون عليه السلام عالما بما كان عليه آباؤه الأنبياء منهم وبما كانوا يدينون به من الشرائع بواسطة الإلهام أو بسماع ما يفيده العلم من الأخبار ولعل هذا أولى مما نقله في الكشاف وفي الكلام على أواخر سورة البقرة ما تنفعك مراجعته فليراجع
ودخل المدينة قال ابن عباس على ما في البحر : هي منف على حين غفلة من أهلها أي في وقت لايعتاد دخولها أو لايتوقعونه فيه وكان على ما روي عن الحبر وقت القائلة وفي رواية أخرى عنه بين العشاء والعتمة وذلك أن فرعون ركب يوما وسار إلى تلك المدينة فعلم موسى عليه السلام بركوبه فلحق ودخل المدينة في ذلك الوقت وقال ابن اسحق : هي مصر كان موسى عليه السلام قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون فاختفى وغاب فدخلها متنكرا وقال ابن زيد : كان فرعون قد أخرجه منها فغاب سنين فنسي فجاء ودخلها واهلها في غفلة بنسيانهم له وبعد عهدهم به وقيل : دخل في يوم عيد
(20/52)

وهم مشغولون بلهوهم وقيل : خرج من قصر فرعون ودخل مصر وقت القيلولة أو بين العشائين وقيل : المدينة عين شمس وقيل : قرية على فرسخين من مصر يقال لها : حابين وقيل : هي الاسكندرية والأشهر أنها مصر ولعله هو الأظهر والمتبادر أن على حين متعلق بدخل وعليه فالظاهر أن على بمعنى في مثلها في قوله تعالى : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان على قول
وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال من المدينة ويجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أي مختلسا اه ولعل الذي دعاه إلى العدول عن المتبادر احتياجه إلى جعل على بمعنى في وخفاء نكتة التعبير بها دونها أو الاكتفاء بالظرف وحده عليه والأمر ظاهر لمن له أدنى تأمل وقيل : إن الداعي إلى ذلك أن دخول المدينة في حين غفلة من أهلها ليس نصا في دخولها غافلا أهلها كما في وجه الحالية من المدينة ولا في دخولها مختلسا كما في وجه الحالية من الضمير فان وقت الغفلة كوقت القائلة وما بين العشائين قد لايغفل فيه وفيه بحث
و من أهلها في موضع الصفة لغفلة وما في النظم الكريم أبلغ من غفلة أهلها بالاضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم ولعله عدل عن ذلك إلى ما ذكر لهذا فتدبر وقرأ أبو طالب القاريء على حين بفتح النون ووجه بأنه فتح لمجاورة الغين كما كسر في بعض القراآت الدال في الحمد لله لمجاورة اللام أو بأنه أجري المصدر مجرى الفعل كأنه قيل : على حين غفل أهلها فبني حين كما يبنى إذا أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض نحو قوله :
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وهو كما ترى فوجد فيها رجلين يقتتلان أي يتحاربان والجملة صفة للرجلين وقال ابن عطية : في موضع الحال وهو مبني على مذهب سيبويه من جواز مجيء الحال من النكرة من غير شرط وقرأ نعيم بن ميسرة يقتلان بادغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف وقوله تعالى : هذا من شيعته أي ممن شايعه وتابعه في أمره ونهيه أو في الدين على ما قاله جماعة وهم بنو إسرائيل قال في الاتقان : هو السامري وهذا من عدوه من مخالفيه فيما يريد أو في الدين على ما قاله الجماعة وهم القبط واسمه كما في الاتقان أيضا قانون صفة بعد صفة لرجلين والاشارة بهذا واقعة على طريق الحكاية لما وقع وقت الوجدان كأن الرائي لهما يقوله لا في المحكي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وقال المبرد : العرب تشير بهذا إلى الغائب قال جرير : هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إلى قطينا وهذ الاشارة قائمة مقام الضمير في الربط والعطف سابق على الوصفية واختلف في سبب تقاتل هذين الرجلين فقيل : كان أمرا دينيا وقيل : كان أمرا دنيويا روي أن القبطي كلف الاسرائيلي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون فأبى فاقتتلا لذلك وكان القبطي على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير خبازا لفرعون
فاستغثه الذي من شيعته أي فطلب غوثه ونصره إياه على الذي من عدوه ولتضمين الفعل معنى النصر عدي بعلى ويؤيده قوله تعالى بعد : استنصره بالأمس ويجوز أن يكون تعديته بعلى لتضمينه معنى الاعانة ويؤيده أنه قريء فاستعانه بالعين المهملة والنون بدل الثاء وقد نقل هذه القراءة ابن خالويه عن
(20/53)

سيبويه وابو القاسم يوسف بن علي بن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني وقول ابن عطية أنه ذ : رها الأخفش وهو تصحيف لا قراءة مما لا ثبت له فيه وقد حذف من جملة الصلة صدرها أي الذي هو من شيعته والذي هو من عدوه ولو لم يعتبر حذف ذلك صح فوكزه موسى أي ضرب القبطي بجمع كفه أي بكفه المضمومة أصابعها على ما أخرجه غير واحد عن مجاهد
وقال أبو حيان : الوكز الضرب باليد مجموعة أصابعها كعقد ثلاثة وسبعين وعلى القولين يكون عليه السلام ضربه باليد وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه عليه السلام ضربه بعصاه فكأنه يفسر الوكز بالدفع أو الطعن وذلك من جملة معانيه كما في القاموس ولعله أراد بعصاه عصا كانت له فان عصاه المشهورة أعطاه إياها شعيب عليه السلام بعد هذه الحادثة كما هو مشهور وفي كتب التفاسير مسطور
وقرأ عبد الله فلكزه باللام وعنه فنكزه بالنون واللكز على ما في القاموس الوكز والوجء في الصدر والحنك والنكز على ما فيه أيضا الضرب والدفع وقيل : الوكز والنكز واللكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل الوكز على القلب واللكز على اللحى روي أنه لما اشتد التناكر قال القبطي لموسى عليه السلام : لقد هممت أن أحمله يعني الحطب عليك فاشتد غضب موسى عليه السلام وكان قد أوتي قوة فوكزه فقضى عليه أي فقتله موسى وأصله أنهى حياته أي جعلها منتهية متقضية وهو بهذا المعنى يتعدى بعلى كما في الاساس فلا حاجة إلى تأويله باوقع القضاء عليه وقد يتعدى الفعل بالى لتضمينه معنى الايحاء كما في قوله تعالى : وقضينا إليه ذلك الأمر وعود ضمير الفاعل في قضى على موسى هو الظاهر وقيل : هو عائد على الله تعالى أي فقضى الله سبحانه عليه بالموت فقضى بمعنى حكم وقيل : يحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه أي فقضى الوكز عليه أي أنهى حياته قال هذا من عمل الشيطن أي من تزيينه
وقيل : من جنس عمله والأول أوفق بقوله تعالى : إنه عدو مضل مبين
51
- أي ظاهر العداوة على أن مبين صفة ثانية لعدو وقيل ظاهر العداوة والاضلال ووجه بأنه صفة لعدو الملاحظ معه وصف الاضلال أو بأنه متنازع فيه لعدو ومضل كل يطلبه صفة له وإيا ما كان فمبين من أبان اللازم قال رب إني ظلمت نفسي بوكز ترتب عليه القتل فاغفر لي ذنب وإنما قال عليه السلام ما قال لأنه فعل ما لم يؤذن له به وليس من سنن آبائه الانبياء عليهم السلام في مثل هذه الحادثة التي شاهدها وقد أفضى إلى قتل نفس لم يشرع في شريعة من الشرائع قتلها ولا يشكل ذلك على القول بأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكبائر بعد النبوة وقبلها لأن أصل الوكز من الصغائر وما وقع من القتل كان خطأ كما قاله كعب وغيره والخطأ وإن كان لايخلوا عن الاثم ولذا شرعت فيه الكفارة إلا أنه صغيرة أيضا بل قيل : لايشكل أيضا على القول بعصمتهم عن الكبائر والصغائر مطلقا لجواز أن يكون عليه السلام قد رأى أن في الوكز دفع ظالم عن مظلوم ففعله غير قاصد به القتل وإنما وقع مترتبا عليه لا عن قصد وكون الخطأ لايخلو عن إثم في شرائع الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كما في شريعة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم غير معلوم وكذا مشروعية الكفارة فيه وكأنه عليه السلام بعد أن وقع منه ما وقع تأمل فظهر له إمكان الدفع بغير الوكز وأنه لم يتثبت في رأيه لما
(20/54)

اعتراه من الغضب فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله فقال ما قال على عادة المقربين في استعضامهم خلاف الأولى ثم إن هذا الفعل وقع منه عليه السلام قبل النبوة كما هو ظاهر قوله تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء : ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وبذلك قال النقاش وغيره وروي عن كعب أنه عليه السلام كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ومن فسر الاستواء ببلوغ اربعين سنة وجعل ما ذكر بعد بلوغ الأشد والاستواء وإيتاء الحكم والعلم بالمعنى الذي لا يقتضي النبوة يلزمه أن يقول كان عليه السلام إذ ذاك ابن أربعين سنة أو ما فوقها بقليل
وزعم بعضهم أنه عليه السلام أراد بقوله : ظلمت نفسي اني عرضتها للتلف بقتل هذا الكافر إذ لو عرف فرعون ذلك لقتلني به وأراد بقوله : فاغفر لي فاستر على ذلك وجعله من عمل الشيطان لما فيه من الوقوع في الوسوسة وترقب المحذور ولا يخفى ما فيه ويأبى عنه قوله تعالى : فغفر له إنه الغفور الرحيم
61
- وترتب غفر على ما قبله بالفاء يشعر بأن المراد غفر له استغفاره وجملة إنه الخ كالتعليل للعلية أي أنه تعالى هو المبالغ في مغفرة ذنبو عباده ورحمتهم ولذا كان استغفاره سببا للمغفرة له وتوسيط قال بين كلاميه عليه السلام لما بينهما من المخالفة من حيث إن الثاني مناجاة ودعاء بخلاف الأول وأما توسيط قال في قوله تعالى : قال رب بما أنعمت علي فوجهه ظاهر والباء في بما للقسم وما مصدرية وجواب القسم محذوف أي أقسم بانعامك علي لأمتنعن عن مثل هذا الفعل
وقيل : لأتوبن وقوله تعالى : فلن أكون ظهيرا للمجرمين
71
- عطف على الجواب ولعل المراد بانعامه تعالى عليه حفظه إياه من شر فرعون ورده إلى أمه وتمييزه على سائر بني إسرائيل ونحو ذلك
وقيل المراد به مغفرته له وهو غير بعيد ومعرفته عليه السلام أنه سبحانه غفر له إذا كان هذا القول قبل النبوة بالهام أو رؤيا والظهير المعين والمجرمين جمع مجرم والمراد به من أوقع غيره في الجرم أو من أدت معاونته إلى جرم كالاسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأدت معاونته إلى جرم في نظر موسى عليه السلام فيكون في المجرمين مجاز في النسبة للاسناد إلى السبب وجوز أن يراد بذلك الكفار وعني بهم من استغاثه ونحوه بناء على أنه لم يكن أسلم وقيل : أراد بالمجرمين فرعون وقومه والمعنى أقسم بانعامك علي لاتوبن فلن أكون معينا للكفار بأن أصحبهم وأكثر سوادهم وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ولا يخفى أن ما تقدم أنسب بالمقام وجوز أن تكون الباء للقسم الاستعطافي على أنها متعلقة بفعل دعاء محذوف وجملة فلن أكون الخ متفرعة عليه والفاء واقعة في جواب الدعاء أو الشرط المقدر أي بحق انعامك علي اعصمني فلم أكون الخ أو إن عصمتني فلن أكون الخ والقسم الاستعطافي ما أكد به جملة طلبية نحو قولك بالله تعالى زرني وغير الاستعطافي ما أكد به جملة خبرية نحو والله تعالى لأقومن وإلى هذا ذهب ابن الحاجب وقيل : القسم الاستعطافي ما مان المقسم به مشعرا بعطف وحنو نحو بكرمك الشامل أنعم علي وهو صادق على ما هنا وغير الاستعطافي ما كان المقسم به أعم من ذلك وعلى القولين هما قسمان من مطلق القسم وظاهر كلام الزمخشري أن المتبادر من القسم ما يؤكد به الكلام الخبري وينعقد منه يمين فما يكون المراد به الاستعطاف
(20/55)

قسيمقسيم له وجعل بعضهم إطلاق القسم على الاستعطافي تجوزا ويبعد ارادة الاستعطاف هنا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن موسى عليه السلام لم يستثن أي لم يقل إن شاء الله تعالى فابتلي به أي بالكون ظهيرا للمجرمين مرة أخرى وهو ما قوله تعالى : فاذا الذي استنصره الخ لأن الاستثناء لايناسب الاستعطاف لكون النفي معلقا بعصمة الله عز و جل وجوز أن تكون الباء سببية متعلقة بفعل مقدر يعطف عليه لن أكون الخ ما موصولة والمعنى بسبب الذي أنعمته علي من القوة أشكرك فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك ولا أدع قبطيا يغلب اسرائيليا وهو الزام لنفسه بنصرة أوليائه عز و جل كالنذر وليس هناك قسم بوجه خلافا لمن توهم ذلك ولا يخفى أن هذا وأن لم يبعده الأثر لا يخلو عن بعد نظرا إلى السباق و لن على اوجه المذكورة للنفي وفي البحر قيل : إنها للدعاء وحكى ابن هشام رده بأن فعل الدعاء لايسند إلى المتكلم بل إلى المخاطب أو الغائب نحو يارب لا عذبت فلانا ويجوز لا عذب الله تعالى عمرا ثم قال ويرده قوله : ثم لا زلت لكم خالدا خلود الجبال ولا يخفى عليك أن كونها للدعاء على الوجه الأخير في الآية غير ظاهر وعلى الوجه الأول لايخلو عن خفاء فلعل من جعلها للدعاء حما بما أنعمت علي على الاستعطاف وعلق الجار والمجرور بنحو اعصمني وجعل الفاء تفسيرية ولن أكون الخ تفسيرا لذلك المحذوف كما قيل : في قوله تعالى : استجبنا له فكشفنا فليتدبر واحتج أهل العلم بهذه الآية على المنع من معونة الظلمة وخدمتهم
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد لاله بن الوليد الرصافي أنه سأل عطاء بن أبي رباح عن أخ له كاتب فقال له : إن أخي ليس له من أمور السلطان شيء إلا أنه يكتب له قلم ما يدخل وما يخرج فان ترك قلمه صار عليه دين واحتاج وإن أخذ به كان له فيه غنى قال : لمن يكتب قال : لخالد بن عبد الله القسري قال : ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين فلا يهتم أخوك بشيء وليرم بقلمه فان الله تعالى سيأتيه برزق وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الضبي الكاتب قال : قال رجل لعامر يا أبا عمرو إني رجل كاتب أكتب ما يدخل وما يخرج آخذا رزقا استغني به أنا وعيالي قال : فلعلك تكتب في دم يسفك قال : لا قال : فلعلك تكتب في مال يؤخذ قال : لا قال : فلعلك تكتب في دار تهدم قال : لا قال : أسمعت بما قال موسى عليه السلام رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين قال : أبلغت إلى يا أبا عمرو والله عز و جل لا أخظ لهم بقلم أبدا قال والله تعالى لا يدعك الله سبحانه بغير رزق أبدا وقد كان السلف يجتنبون كل الاجتناب عن خدمتهم أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سلمة بن نبيط قال بعد عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك فقال : اذهب بعطاء أهل بخارى فأعطهم فقال أعفني فلم يرل يستعفيه حتى أعفاه فقال له بعض أصحابه : ما عليك أن تذهب فتعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئا فقال لا أحب أن أعين الظلمة في شيء من أمرهم وإذا صح حديث ينادي مناد يوم القيامة أي الظلمة وأشباه الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى بهم في جهنم فليبك من علم أنه من أعوانهم على نفسه وليقلع عما هو عليه قبل حلول رمسه ومما يقصم الظهر ما روي عن بعض الأكابر أن خياطا سأله فقال : أنا ممن يخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم فقال : لا أنت منهم والذي يبيعك الابرة من أعوانهم فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم وياحسرتا على من باع
(20/56)

دينه بدنياه واشترى رضا الظلمة بغضب مولاه هذا وقد بلغ السيل الزبى وجرى الوادي فطم على القرى
فأصبح في المدينة خائفا وقوع المكروه به يترقب يترصد ذلك أو الاخبار هل وقفوا على ما كان منه وكان عليه السلام فيما يروي قد دفن القبطي بعد أن مات في الرمل وقيل : خائفا وقوع المروه من فرعون يترقب نصرة ربه عز و جل وقيل : يترقب أن يسلمه قومه وقيل : يترقب هداية قومه وقيل : خائفا من ربه عز و جل يترقب المغفرة والكل كما ترى والمتبادر على ما قيل : أن في المدينة متعلق بأصبح واسم أصبح ضمير موسى عليه السلام وخائفا خبرها وجملة يترقب خبر بعد خبر أو حال من الضمير في خائفا وقال أبو البقاء : يترقب حال مبدلة من الحال الأولى أو تأكيد لها أو حال من الضمير في خائفا اه وفيه احتمال كون أصبح تامة واحتمال كونها ناقصة والخبر في المدينة ولا يخفى عليك ما هو الأولى من ذلك فاذا الذي استنصره بالأمس وهو الاسرائيلي الذي قتل عليه السلام القبطي بسببه يستصرخه أي يستغيثه من قبطي آخر برفع الصوت من الصراخ وهو في الأصل الصياح ثم تجوز به عن الاستغاثة لعدم خلوها منه غالبا وشاع حتى صار حقيقة عرفية وقيل : معنى يستصرخه يطلب ازالة صراخه وإذا للمفاجأة وما بعدها مبتدأ وجملة يستصرخه الخبر
وجوز أبو البقاء كون الجملة حالا والخبر إذا والمراد بالأمس اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ وفي الحواشي الشهابية إن كان دخوله عليه السلام المدينة بين العشائين فالأمس مجاز عن قرب الزمان وهو معرب لدخول أل عليه وذلك الشائع فيه عند دخولها وقد بني معها على سبيل الندرة كما في قوله : وإني حبست اليوم والامس قبله إلى الشمس حتى كادت الشمس تغرب قال أي موسى عليه السلام له موسى أي للاسرائيلي الذي يستصرخه إنك لغوي ضال مبين
81
- بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر أو لأن عادتك الجدال وأختار هذا بعض الأجلة وقال : إن الأول لا يناسب قوله تعالى : فلما أن أراد الخ لأن تذكر تسببه لما ذكر باعث الاحجام لا الاقدام ورد بأن التذكر أمر محقق لقوله تعالى : خائفا يترقب والباعث له على ما ذكر شفقته على من ظلم من قومه وغيرته لنصرة الحق وقيل : إن الضمير في له والخطاب في إنك للقبطي ودل عليه قوله يستصرخه وهو خلاف الظاهر ويبعده الاظهار في قوله تعالى : فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما فان الظاهر على ذاك به بدل الذي والبطش الاخذ بصولة وسطوة والتنوين في عدو للتفخيم أي عدو عظيم العداوة ولإرادة ذلك لم يضفه والمراد بالذي هو عدو لهما القبطي وقد كان القبط أعظم الناس عداوة لبني اسرائيل وقيل : عدواته لهما لأنه لم يكن على دينهما وقرأ الحسن وأبو جعفر يبطش بضم الطاء
قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس قاله الاسرائيلي الذي يستصرخه على ما روي عن ابن عباس وأكثر المفسرين وكأنه توهم ارادة البطش به دون القبطي من تسمية موسى عليه السلام إياه غويا وقال الحسن : قاله القبطي الذي هو عدو لهما كأنه توهم من قوله للاسرائيلي إنك لغوي أنه الذي قتل القبطي بالامس له ولا بعد فيه لأن ما ذكر إما اجمال لكلام يفهم منه ذلك أو لأن قوله ذلك لمظلوم انتصر به خلاف الظاهر فلا بعد للانتقال منه لذلك والذي
(20/57)

الرجلين كانا من بني اسرائيل وأما الرجلان اللذان رآهما بالأمس فأحدهما اسرائيلي والآخر مصري ووجه أمر العداوة على ذلك بأن هذا الذي أراد عليه السلام أن يبطش به كان ظالما لمن استصرخه فيكون عدوا له وعاصيا لله تعالى فيكون عدوا لموسى عليه السلام ويحتمل أن تكون عداوته لهما لكونه مخالفا لما هما عليه من الدين وإن كان إسرائيليا وفيها أيضا ما هو صريح في أن الظالم هو قائل ذلك
وأنت تعلم أن هذ التوراة لا يلتفت اليها فيما يكذب القرآن أو السنة الصحيحة وهي فيما عدا ذلك كسائر أخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب نعم قد يستأنس بها لبعض الأمور ثم إن ما فيها من قصة موسى عليه السلام مخالف لما قصه الله تعالى منها هنا وفي سائر المواضيع زيادة ونقصا وهو ظاهر لمن وقف عليها ولا يخفى الحكم في ذلك وقد خلت هنا عن ذكر مجيء مؤمن آل فرعون ونصحه لموسى عليه السلام وكذا عن ذكر ما يدل على قوله : إن تريد أي ما تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وهو الذي يفعل كل ما يريد من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب وقيل : المتعظم الذي لايتواضع لأمر الله تعالى وأصله على ما قيل : النخلة الطويلة فاستعير لما ذكر إما باعتبار تعاليه المعنوي أو تعظمه
وأخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه قال : من قتل رجلين أي بغير حق فهو جبار ثم تلا هذه الآية وأخرج ابن أبي حاتم نحوه عن عكرمة وما تريد أن تكون من المصلحين
91
- بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى الى فرعون وملائه فهموا بقتل موسى عليه السلام فخرج مؤمن من آل فرعون هو ابن عم فرعون ليخبره بذلك وينصحه كما قال عز و جل : وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى الآية واسمه قيل : شمعان وقيل : شمعون بن إسحق وقيل : حزقيل وقيل : غير ذلك وكون هذا الرجل الجائي مؤمن آل فرعون هو المشهور وقيل هو غيره ويسعى بمعنى يسرع في المشي وإنما أسرع لبعد محله ومزيد اهتمامه باخبار موسى عليه السلام ونصحه وقيل : يسعى بمعنى يقصد وجه الله تعالى كما في قوله سبحانه : وسعى لها سعيها وهو وإن كان مجازا يجوز الحمل عليه لشهرته والظاهر أن من أقصى صلة جاء وجملة يسعى صفة رجل وجوز أن يكون من أقصى في موضع الصفة لرجل وجملة يسعى صفة بعد صفة
وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من رجل أما إذا جعل الجار والمجرور في موضع الصفة منه فظاهر لأنه وإن كان نكرة ملحق بالمعارف فيسوغ أن يكون ذا حال وأما إذا كان متعلقا بجاء فمنع ذلك الجمهور وأجازه سيبويه وجوز أن يعلق الجار والمجرور بيسعى وهو كما ترى قال يموسى إن الملأ وهم وجوه أهل دولة فرعون يأتمرون بك أي يتشاورون بسببك وإنما سمي التشاور ائتمار لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر ليقتلوك فاخرج من المدينة قبل أن يظفروا بك إني لك من النصحين
2
- اللام للبيان كما في سقيا لك فيتعلق بمحذوف أعني أعني ولم يجوز الجمهور تعلقه بالناصحين لأن أل فيه اسم موصول ومعمول الصلة لايتقدم الموصول ولا بمحذوف مقدم يفسره المذكور لأن ما لايعمل لا يفسر عاملا وعند من جوز تقدم معمول الصلة إذا كان الموصول أل خاصة لكونها على صورة الحرف أو إذا كان المتقدم
(20/58)

ظرفا للتوسع فيه أو قال إن أل هنا حرف تعريف لإرادة الثبوت سجوز أن يكون لك متعلقا بالناصحين أو بمحذوف يفسره ذلك
واستدل القرطبي وغيره بالآية على جواز النميمة لمصلحة دينية فخرج منها أي من المدينة ممتثلا خائفا يترقب لحوق الطالبين قال رب نجني من القوم الظالمين
12
- ولما توجه أي صرف وجهه تلقاء مدين أي ما يقابل جانبها وتلقاء في الأصل مصدر انتصب على الظرفية ومدين قرية شعيب سميت باسم مدين بن ابراهيم عليه السلام ولم يكن في سلطان فرعون ولذا توجه لقريته وقيل توجه اليها لمعرفته به وقيل لقرابته منه عليهما السلام وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان
قال عسى ربي أن يهديني سوآء السبيل
22
- أي وسط الطريق المؤدي إلى النجاة وإنما قال عليه السلام ذلك توكلا على الله تعالى وثقة بحسن توفيقه عز و جل وكان عليه السلام لايعرف الطرق فعن ثلاث طرائق فاخذ الوسطى وأخذ طالبوه في الأخريين وقالوا : المريب لا يأخذ في أعظ الطرق ولا يسلك إلا بنياتها فبقي ثمان ليال وهو حاف لايطعم إلا ورق الشجر وعن سعيد بن جبير أنه عليه السلام لم يصل حتى سقط خف قدميه وروي أن ه عليه السلام أخذ يمشي من غير معرفة فهداه جبريل عليه السلام إلى مدين وعن السدي أنه عليه السلام أخذ في بنيات الطريق فجاء ملك على فرس بيده عنزة فلما رآه موسى عليه السلام سجد له أي خضع من الفرق فقال : لاتسجد لي ولكن اتبعني وانطلق حتى انتهى به إلى مدين
ولما ورد ماء مدين أي وصل اليه وورد والورود بمعنى الدخول وبمعنى الشرب وليس شيء منهما مرادا والمراد بماء مدين بئر كانوا يسقون منها فهو مجاز من إطلاق الحال وإرادة المحل وجد عليه أي فوق شفيره ومستقاه أمة من الناس أي جماعة كثيرة مختلفي الأصناف ويشعر بالقيد الأول التنوين وبالثاني من الناس لشموله للاصناف المختلفة وهي فائدة ذكره وقيل فائدته تحقير أولئك الجماعة وأنهم لئام لا يعرفون بغير جنسهم أو محتاجون إلى بيان أنهم من البشر يسقون الظاهر أنهم كانوا يسقون مواشي مختلفة الأنواع بمعنى أن منهم من كان يسقي إبلا ومنهم من كان يسقي غنما وهكذا وتخصص سقيهم بنوع يحتاج إلى توقيف ووجد من دونهم أي في مكان أسفل من مكانهم وقيل : من قربهم أو من سواهم أو مما يلي جهته إدا قدم عليهم وإلى هذا الأخير ذهب ابن عطية حيث قال : المعنى ووجد من الجهة التي وصل اليها قبل أن يصل إلى الأمة امرأتين اسم إحداهما قيل ليا وقيل عبرا وقيل شرفا واسم الأخرى قيل صفوريا وقيل صفوراء وقيل صفيراء وفي الكشاف صفيراء اسم الصغرى واسم الكبرى صفراء تذودان كانتا تمنعان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء قال ابن عباس وغيره وقيل تمنعان غنمهما عن التقدم إلى البئر لئلا تختلط بغيرها وحكي ذلك عن الزجاج وقال قتادة : تمنعان الناس عن غنمهما وقال الفراء : تحبسان غنمهما عن أن تتفرق وفي جميع هذه الأقوال تصريح بأن المذود كان غنما والظاهر أن ذلك عن توقيف وقيل تذودان عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما وهذأ كما ترى قال ما خطبكما
أي ما مخطوبكما
(20/59)

ومطلوبكما مما أنتما عليهما من التأخر والذود ولم تباشران السقي كغيركما وأصل الخطب مصدر خطب بمعنى طلب ثم استعمل بمعنى المفعول وفي سؤاله عليه السلام إياهما دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعني
وقرأ شمر ما خطبكما بكسر الخاء قال في البحر : أي من زوجكما ولم لا يسقي هو وهذه قراءة شاذة نادرة اه ولايخفى ما فيه وإباء الجواب عنه وقال بعضهم : الخطب فيها بمعنى المخطوب والمطلوب كما في القراءة المتواترة ونظيره الحب بكسر الحاء المهملة بمعنى المحبوب
قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء
أي عادتنا أن لانسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم بعد ريها عن الماء عجزا عن مساجلتهم لا أنا لا نسقي اليوم إلى تلك الغاية وقرأ ابن مصرف لانسقي نضم النون من الاسقاء وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وقتادة والعربيان : ابن عامر وأبو عمرو يصدر بفتح الياء وضم الدال أي حتى يصدر الرعاة بأغنامهم وسأل بعض الملوك عن الفرق بين القراءتين من حيث المعنى فأجيب بأن قراءة يصدر بفتح الياء تدل على فرط حيائها وتواريهما من الاختلاط بالاجانب وقراءة يصدر بضم الياء تدل على إصدار الرعاة المواشي ولم يفهم منها صدورهم عن الماء وقريء بزاي خالصة وبحرف بين الصاد والزاي وقريء الرعاء بضم الراء والمعروف في صيغ الجمع فعال بكسر الفاء كما في قراءة الجمهور وأما فعال بالضم فعلى خلاف القياس لأنه من أبنية المصادر والمفردات كنباح وصراخ وإذا استعمل في معنى الجمع كما في القراءة الشاذة فقيل هو أسم جمع لا جمع وقيل إنه جمع أصلي وقيل إنه جمع ولكن الأصل في الكسر والضم فيه بدل من الكسر كما أنه بدل من الفتح في نحو سكارى والوارد منه في كلام العرب ألفاظ محصورة ذكرها الخفاجي في شرح درة الغواص والمشهور منها على ما قال ثمانية وقد نظمها صدر الأفاضل لا الزمخشري على الأصح بقوله : ما سمعنا كلما غير ثمان
هي جمع وهي في الوزن فعال فرباب وفرار وتؤام
وعرام وعراق ورخال وظؤار جمع ظئر وبساط جمع بسط هكذا فيما يقال وذهب أبو حيان إلى أن الرعاء في قراءة الجمهور ليس بقياس أيضا قال : لأنه جمع راع وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة كقاض وقضاة وما سوى جمعه هذا فليس بقياس وقرأ عياش عن أبي عمرو الرعاء بفتح الراء وهو مصدر أقيم مقام الصفة فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه وجوز أن يكون مما حذف منه المضاف أي أهل الرعاء وأبونا شيخ كبير
32
- ابداء منهما للعذر له عليه السلام في توليهما للسقي بأنفسهما كأنهما قالتا : إنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلةالرجال ومزاحمتهم ومالنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ كبير السن قد أضعفه الكبر فلابد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء وذكر بعضهم أنه عليه السلام اخرج السؤال على ما يقتضيه كرمه ورحمته بالضعفاء حيث سألهما عن مطلوبهما من التأخر والذود قصدا لأن الايجاب بطلب المعونة إلا أنهما لجلالة قدرهما حملتا قوله على ما يجاب عنه بالسبب
(20/60)

وفي ضمنه طلب المعونة لأن إظهارهما العجز ليس إلا لذلك وقيل : ليس في الكلام ما يدل على ضعفهما بل فيه أمارات على حيائهما وسترهما ولو أرادتا إظهار العجز لقالتا لا نقدر على السقي ومعنى وأبونا شيخ كبير أنا مع حيائنا إنما تصدينا لهذا الأمر لكبره وضعفه وإلا كان عليه أن يتولاه ولعل الأولى أن يقال : إنهما أرادتا إظهار العجز عن المساجلة للضعف ولما جبلا عليه من الحياء والكلام وإن لم يكن فيه ما يدل على ضعفهما فيه ما يشير اليه لمن له قلب ويفهم من بيان معنى جوابهما المار آنفا أن جملة أبونا شيخ كبير عطف على مقدر وجوز أن تكون حالا أي نترك السقي حتى يصدر الرعاء والحال أبونا شيخ كبير وأبوهما عند أكثر المفسرين شعيب عليه السلام
فان قيل كيف ساغ لنبي الله تعالى أن يرضى لابنتيه بسقي الغنم فالجواب : أن الأمر في نفسه ليس بمحظور فالدين لا يأباه وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك والعادات متباينة فيه وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحال حال ضرورة وذهب جماعة إلى أنه ليس بشعيب عليه السلام فأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة أنه قال كان صاحب موسى عليه السلام أثرون بن أخي شعيب النبي عليه السلام وحكى هذا القول عنه أبو حيان أيضا إلا أنه ذكر هرون بدل أثرون وحكاه أيضا عن الحسن إلا أنه ذكر بدله مروان وحكى الطبرسي عن وهب وسعيد بن جبير نحو ما حكاه أبو حيان عن أبي عبيدة وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال بلغني أن أبا الامرأتين ابن أخي شعيب وأسمه رعاويل وقد أخبرني من أصدق ان اسمه في الكتاب يثرون كاهن مدين والكاهن حبر وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال الذي استأجر موسى عليه السلام يثرب صاحب مدين وجاء في رواية أخرى عنه أن اسمه يثرون وهو موافق لما نقل عن الكتاب من الاسم ولم يذكر في هاتين الروايتين نسبته إلى شعيب عليه السلام فيحتمل أن المسمى بما فيها ابن اخيه ويحتمل أنه رجل أجنبي عنه فقد قيل : ان أباهما ليس ذا قرابة من شعيب عليه السلام وإنما هو رجل صالح وحكى الطبرسي عن بعضهم أن يثرون اسم شعيب وقد أخبرني بعض أهل الكتاب بذلك أيضا إلا أنه قال هو عندنا يثرو بدون نون في آخره والذي رأيته أنا في الفصل الثاني من السفر الثاني من توراتهم ما ترجمته ولما سمع فرعون بهذا الخبر أي خبر القتل طلب أن يقتل موسى فهرب موسى من بين يديه وصار إلى بلد مدين وجلس على بئر ماء وكان لامام مدين سبع بنات فجاءت ودلت وملأت الاحواض لسقي غنم أبيهن فلما جاء الرعاة فطردوهن قام موسى فأغاثهن وسقى غنمهن فلما جئن رعوايل أبيهن قال ما بالكن أسرعتن المجيء اليوم الخ وفي أول الفصل الثالث منه ما ترجمته وكان موسى يرعى غنم يثرو حميه أمام مدين الخ فلا تغفل وفي البحر عند الكلام في تفسير إن أبي يدعوك قيل : كان عمها صاحب الغنم وهو المزوج عبرت عنه بالأب إذ كان بمثابته والظاهر أن هذا القائل يقول : إنهما عنتا بالاب هنا العم وأنت تعلم أن هذا وأمثاله مما تقدم مما لا يقال من قبل الرأي فالمدار في قبول شيء من ذلك خبر يعول عليه والاخبار التي وقفنا عليها في هذا المطلب مختلفة ولم يتميز عندنا ما هو الارجح فيما بينها و : اني بك تعول على المشهور الذي عليه أكثر المفسرين وهو أن أباهما على الحقيقة شعيب عليه السلام إلى أن يظهر لك ما يوجب العدول عنه والظاهر من قوله تعالى : فسقى لهما أنه عليه السلام
(20/61)

سارع إلى السقي لهما رحمة عليهما ومنشأ الترحم كونهما على الذود وكون الامة من الناس على السقي ولهذا ذهب الشيخ عبد القاهر وصاحب الكشاف إلى أن حذف المفعول في يسقون وتذودان للقصد إلى نفس الفعل وتنزيله منزلة اللازم أي يصدر منهم السقي ومنهما الذود وقال : إن كون المسقي والمذود إبلا أو غنما خارج عن المقصود بل يوهم خلافه إد لو قيل : أوقدر يسقون إبلهم وتذودان غنمهما لتوهم أن الترحم عليهما ليس من جهة أنهما على الذود والناس على السقي بل من جهة أن مذودهما غنم ومسقيهم إبل بناء على أن محط الفائدة في الكلام البليغ هو القيد الاخير وخالفهما في ذلك السكاكي فذهب إلى أن حذف المفعول من يسقون وتذودان لمجرد الاختصار والمراد يسقون مواشيهم وتذودان غنمهما وكذا سائر الافعال المذكورة في هذه الآية واختاره العلامة الثاني فقال : إن هذا أقرب إلى التحقيق لأن الترحم لم يكن من جهة صدور الذود عنهما وصدور السقي من الناس بل من جهة ذودهما غنمهما وسقي الناس مواشيهم حتى لو كانتا تذودان غير غنمهما بل مواشيهم وكان الناس يسقون غير مواشيهم بل غنمهما مثلا لم يصح الترحم ووافقه في ذلك السيد السند وقال في تحقيق المذهبين : إن الشيخين اعتبرا المفعول الذي نزل الفعلان بالنسبة اليه هو الابل والغنم مثلا أي النوعين من المواشي بدون الاضافة كما يدل عليه قولهما إن كون المسقي والمذود ابلا أو غنما الخ وكل منهما مقابل للآخر في نفسه وجعلا ما يضاف اليه كل في القول أو التقدير المفروض خارجا عن المفعول من حيث إنه مفعول غير ملحوظ معه فالمفعول عندهما ليس الا مطلق الابل والغنم فلو قدر المفعول لأدى الى فساد المعنى فانهما لو كانتا تذودان ابلا لهما على سبيل الفرض لكان الترحم باقيا بحاله لأنه إنما كان لعدم قدرتهما على السقي والسكاكي نظر إلى أن المفعول هو الغنم المضافة اليهما والمواشي المضافة اليهم وكل واحد منهما يقابل الآخر من حيث إنه مضاف فلو لم يقدر المفعول يفسد المعنى وهذا أدق نظرا وأصح معنى انتهى وتعقبه المولى عبد الحكيم السالكوتي بقوله : وفيه بحث لأن عدم التقدير ان قصد به التعميم أي يسقون مواشيهم وغير مواشيهم وتذودان غنمهما وغير غنمهما يلزم الفساد أما إذا قصد به مجرد السقي والذود من غير ملاحظة التعلق بالمفعول كما في قوله تعالى : هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون فلا لأن كون طبيعة السقي والذود منشأ الترحم لا يقتضي أن يكون عند تعلقه بمفعول مخصوص كذلك حتى يلزم أن يكون سقي غير مواشيهم وذود غير غنمهم محلا للترحم فتدبر فان منشأ ما ذكره السكاكي عدم الفرق بين الاطلاق والعموم انتهى ولا يخفى أنه ينبغي أن يضم إلى طبيعة السقي والذود بعض الحيثيات كحيثية تحقق طبيعة السقي من أقوياء متغلبين وتحقق طبيعة الذود من أمرأتين ضعيفتين مستورتين في موضع هو مجتمع الناس للسقي وإلا فالظاهر أن مجرد طبيعة السقي والذود لا تصلح منشأ الترحم
وقال بعض الأجلة : ترك المفعول في يسقون ويذودان لأن الغرض هو الفعل لا المفعول إد هو يكفي في البعث على سؤال موسى عليه السلام ومازاد على المقصود لكنه وفضول وأما البعث على المرحمة فليس هذا موضعه فان له قولهما : لا نسقي حتى يصدر الرعاء وابونا شيخ كبير ومن لم يفرق بين البعثين قال ما قال ورد بأن منشأ السؤال هو المرحمة لحالهما كما صرحوا به فسؤاله عليه السلام للتوسل إلى إعانتهما وبرهما لتفرس ضعفهما وعجزهما ولولاه لم يكن للتكلم مع الأجنبية داع وقولهما : لا نسقي الخ باعث لمزيد المرحمة لقبولها للزيادة والنقص وتعقب بأنه إنما يتم لو سلم أنه عليه السلام تفرس ضعفهما وعجزهما لأمور شاهدها
(20/62)

وإلا فالذود لا يدل على ذلك إذ يتحقق للضعف ولغيره وقد نقل الخفاجي كلام جمع من الفضلاء في هذا المقام منه ما ذكرنا عن بعض الأجلة ورده واعترض بما اعترض ثم قال : وأما ما اعترض به على المرحمة فخيال فاسد ومحط كلامه عليه الرحمة الانتصار لما ذهب اليه الشيخان وقد أنتصر لهما وقال بقولهما غير واحد
واعترض بعضهم على تقدير المفعول مضافا بأن الاضافة تشعر بالملك ولا ملك لأحد من الأمة والامرأتين فان الظاهر في الامة أنهم كانوا رعاء والأغلب أن الرعاء لايملكون والظاهر أن ما في يد الامرأتين كان ملكا لأبيهما ولا يخفى أن هذا الاعتراض على طرف الثمام والله تعالى أعلم هذا والظاهر أنه عليه السلام سقى لهما من البئر التي عليها الناس ويدل عليه ما روي أنه عليه السلام دفعهم عن الماء إلى أن سقى لهما وكذا ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : إن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليها أمة من الناس يسقون فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال فاذا هو بامرأتين قال ما خطبكما فحدثتاه فأتى الصخرة فرفعها وحده ثم استسقى فلم يستسق إلا دلوا واحدا حتى رويت الغنم لكن هذا مخالف لما يقتضيه ظاهر الآية من أنه عليه السلام حين ورد ماء مدين وجد الأمة يسقون ووجد الامرأتين تذودان وهذا ظاهر في مقارنة وجدانهما لوجدانهم وذودهما لسقيهم يفهم منه أن وجدانهما بعد فراغهم من السقي كما يقتضيه الخبر فلعل الخبر غير صحيح وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار وكأن من يقول بصحته يمنع اقتضاء الآية كون وجدان الأمة يسقون ووجدان الامرأتين تذودان في أول وقت الورد فانه يقال : لما ورد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وجب الصيام ووجبت الزكاة مثلا مع أن وجوب كل ليس في أول وقت الورود فيجوز أن يكون عليه السلام قد وجد أمة يسقون في أول وقت الورود فيجوز أن يكون عليه السلام قد وجد أمة يسقون أول وقت وروده وبعد أن فرغوا من السقي ووضعوا الصخرة على البئر وجد أمرأتين تذودان فخاطبهما بما خطبكما فكان ما كان ويحمل ذودهما على منع غنمهما عن التقدم إلى البئر لعلمهما أنها قد أطبق عليها صخرة لا يقدرون على رفعها ويتكلف في توجيه الجواب ما يتكلف أو يقول الآية على ظاهرها ويسلم اقتضاءه اتحاد الوجدانين والذوي والسقي بالزمان ويمنع أن يكون في الخبر ما ينافي في ذلك الجواز أن يكون المعنى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان فلما فرغوا أعادوا الصخرة فاذا بالامرأتين حاضرتان عنده بين يديه فسألهما فحدثتاه الخ فما بعد الفراغ من السقي ليس وجدان الامرأتين تذودان وإنما هو حضورهما بين يديه والكل كما ترى وكأني بك تعتمد عدم صحة الخبر
وقيل : إنه عليه السلام سقى لهما من بئر أخرى فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في خبر طويل أنه عليه السلام لما سأل الامرأتين وأجابتا قال : فهل قربكما ماء قالتا : لا إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لايطيقها نفر قال فانطلقا فأريانيها فاطلقا معه فقال : بالصخرة بيده فنحاها ثم استسقى لهما سجلا واحدا فسقى الغنم ثم أعاد الصخرة إلى مكانها ثم تولى إلى الظل الذي كان هناك وهو على ما روي عن ابن مسعود ظل شجرة قيل : كانت سمرة وقيل : هو ظل جدار لا سقف له
وقيل : إنه عليه السلام جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس وهو المراد بقوله تعالى : ثم تولى
(20/63)

إلى الظل وهو كما ترى فقال رب إني لما أنزلت إلي أي لأي شيء تنزله من خزائن كرمك إلي
من خير جل أو قل فقير
42
- أي محتاج وهو خبر إن وبه يتعلق لما ولما أشرنا إليه من تضمنه معنى الاحتياج عدي باللام وجوز أن يكون مضمنا معنى الطلب واللام للتقوية وقيل : يجوز أن تكون للبيان فتتعلق بأعني محذوفا و ما على جميع الأوجه نكرة موصوفة والجملة بعدها صفتها والرابط محذوف ومن خير بيان لها والتنوين في للشيوع والكلام تعريض لما يطعمه لما ناله من شدة الجوع والتعبير بالماضي بدل المضارع في أنزلت للاستعطاف كالافتتاح برب وتأكيد الجملة للاعتناء ويدل على كون الكلام تعريضا لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ملا سقى موسى عليه السلام للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر
وأخرج سيعد بن منصور وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : لقد قال موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه ولقد أفتقر إلى شق تمرة ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع وفي رواية أخر عنه أنه عليه السلام سأل فلقا من الخبز يشد بها صلبه من الجوع وكان عليه السلام قد ورد ماء مدين وأنه كما روى أحمد في الزهد وغيره عن الحبر ليتراءى خضرة البقل من بطنه من الهزال وإلى مون الكلام تعريضا لذلك وذهب مجاهد وابن جبير وأكثر المفسرين وكان علي كرم الله تعالى وجهه يقول : والله ما سأل إلا خبزا يأكله وجوز أن تكون اللام للتعليل وما موصولة ومن للبيان والتنكير في خير لافادة النوع والتعظيم وصلة فقير مقدرة أي إني فقير إلى الطعام أو من الدنيا لأجل الذي أنزلته إلى من خير الدين وهو النجاة من الظالمين فقد كان عليه السلام عند فرعون في ملك وثروة وليس الغرض عليه التعريض لما يطعمه ولا التشكي والتضجر بل إظهار التبجح والشكر على ذلك ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر
وأنت تعلم أن هذا خلاف المأثور الذي عليه الجمهور ومثله في ذلك ما روي عن الحسن أنه عليه السلام سأل الزيادة في العلم والحكمة ولا يخلو أيضا عن بعد وجاء عن ابن عباس أن الامرأتين سمعتا ما قال فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما فسألهما فأخبرتاه فقال لأحداهما : إنطلقي فادعيه فجاءته إحديهماقيل هي الكبرى منهما وقيل الصغرى وكانتا على ما في بعض الروايات توأمتين ولدت إحداهما قبل الأخرى بنصف نهار وقرأ ابن محيصن حداهما بحذف الهمزة تخفيفا على غير قياس مثل ويلمه في ويل أمه تمشي حال من فاعل جاءت وقوله تعالى : على استحياء متعلق بمحذوف هو حال من ضمير تمشي أي جاءته ماشية كائنة على استحياء فمعناه أنها كانت على استحياء حالتي المشي والمجيء معا لا عند المجيء فقط وتنكير استحياء للتفخيم ومن هنا قيل جاءت متخفرة أي شديدة الحياء وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله ابن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال جاءت مستترة بكم درعها على وجهها وأخرجه ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفا عليه وفي رفعه إلى عمر رواية أخرى صححها الحاكم بلفظ واضعة ثوبها على وجهها قالت استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيئها إياه عليه السلام كأنه قيل : فماذا قالت له عليه السلام
(20/64)

فقيل قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا أي جزاء سقيك على أن ما مصدرية ولا يجوز أن تكون موصولة لأن ما يستحق عليه الأجر فعله لا ما سقاه إذ هو الماء المباح واسندت الدعوة إلى أبيها وعللتها بالجزاء لئلا يوهم كلامها ريبة وفيه من الدلالة على كمال العقل والحياء والعفة ما لا يخفى روي انه عليه السلام أجابها فقام معها فقال لها امشي خلفي وانتعتي لي الطريق فاني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك ففعلت وفي رواية أنه قال لها كوني ورائي فاني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ودليني على الطريق يمينا أو يسارا وروي عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم أنها مشت أولا أمامه فالزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها : أمشي خلفي وانتعتي لي الطريق ففعلت حتى أتيا دار سعيب عليه السلام
فلما جاء وقص عليه القصص أي ما جرى عليه من الخبر المقصوص فانه مصدر سمي به المفعول كالعلل قال لا تخف نجوت من القوم الظلمين
52
- يريد فرعون وقومه وقال ذلك لما أنه لا سلطان لفرعون بارضه ويحتمل أنه قاله عن إلهام أو نحوه واختلف في الداعي له عليه السلام إلى الاجابة فقيل الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أن موسى عليه السلام إنما أجاب المستدعية من غير تلعثم ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر برأيه لا طمعا بما صرحت به من الأجر ألا ترى إلى ما أخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال : لما دخل موسى على شعيب عليهما السلام إدا هو بالعشاء فقال له شعيب : كل قال موسى : أعوذ بالله تعالى قال : ولم ألست بجائع قال : بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وإنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا قال : لا والله ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل وقيل : الداعي له ما به من الحاجة وليس بمستنكر منه عليه السلام أن يقبل الأجر لإضرار الفقر والفاقة
فقد أخرج الامام أحمد عن مطرف بن الشخير قال أما والله لو كان عند نبي الله تعالى شيء ما تبع مذقتها ولكن حمله على ذلك الجهد واستدل بعضهم على أن ذهابه عليه السلام رغبة بالجزاء بما روي عن عطاء بن السائب أنه عليه السلام رفع صوته بقوله رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ليسمعهما ولذلك قيل : له ليجزيك الخ وأجيب بأنه ليس بنص لاحتمال أنه إنما فعله ليكون ذريعة إلى استدعائه لا إلى استيفاء الأجر ولا ضير فيما أرى أن يكون عليه السلام قد ذهب رغبة قد ذهب رغبة في سد جوعته وفي الاستظهار برأي الشيخ ومعرفته ولا أقول أن الرغبة في سد الجوعة رغبة في استيفاء الاجر على عمل اةخرة أو مستلزمة لها ودعوى أن الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أنه عليه السلام إنما أجاب للتبرك والاستظهار بالرأي لا تخلو عن خفاء وعمله عليه السلام بقول امرأة لأنه من باب الرواية ويعمل بقول الواحد حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو انثى إذا كان كذلك ومماشاته امرأة أجنبية مما لا بأس به في نظائر تلك الحال مع ذلك الاحتياط والتورع قالت إحداهما وهي التي استدعته إلى أبيها وهي التي زوجها من موسى عليهما السلام يا أبت استئجره أي لرعي الأغنام والقيام بأمرها وأصل الاستئجار كما قال الراغب طلب الشيء بالاجرة ثم عبر به عن تناوله بها وهو المراد هنا وكذأ في قوله سبحانه : إن خير من استئجرت القوي الأمين وهو تعليل جار مجرى الدليل على أنه عليه
(20/65)

السلام حقيق بالاستئجار المفهوم من طلب استئجاره وبعضهم رتب من الآية قياسا من الشكل الأول هكذا هو قوي أمين وكل قوي أمين لائق بالاستئجار ينتج هو لائق بالاستئجار وهو المدعى المفهوم من الطلب وتعقب بأن هذا ظاهر لو كان خير خبرا وليس هو كذلك وأجيب بأن المعنى على ذلك إلا أنه جعل أسما للاهتمام بأمر الخيرية لأنها أم الكمال المبني عليها غيرها وفي الكشاف فان قيل : كيف جعل خير من استأجرت اسما لإن والقوي الأمين خبرا قلت : هو مثل قوله : ألا إن خير الناس حيا وهالكا أسير ثقيف عندهم في السلاسل في أن العناية هي سبب التقديم وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق أن يكون خبرا أسما وأراد بذلك على ما قيل : أحقية كون خير خبرا من حيث الصناعة ووجه بأن خيرا مضاف إلى من وهي نكرة فكذا هو والإخبار عن النكرة بالمعرفة خلاف الظاهر وإن جوزوه في اسمي التفضيل والاستفهام ولو جعلت موصولة فاضافة أفعل التفضيل لفظية لا تفيد تعريفا كما هو أحد قولين للنحاة فيها وعلى القول بافادتها التعريف يقال : المعرف باللام أعرف من الموصول وما أضيف اليه وتعقب بأن تعريف القوي الامين للجنس وما فيه تعريف الجنس قد ينزل منزلة النكرة وأجيب بأن الموصول إذا أريد به الجنس كذلك وهنا تصح هذه الارادة ليجيء التعدد الذي يقتضيه خير وحيث كان المضاف إلى شيء دونه يكون القوي الأمين أحق بالاسمية وخير أحق بالخبرية وإذا قلت بأن أحقية الخبرية لأن سوق التعليل يقتضيها إلا أنه عدل إلى الاسمية للاهتمام خلصت من كثير من المناقشات وقال لي الشيخ خليل أفندي الآمدي يوم اجتمعت به وأنا شاب عند وروده إلى بغداد فجرى بحث هذه الآية الكريمة : إن القياس المأخوذ منها من الشكل الثاني هكذا موسى القوي الأمين وخير من استأجرت القوي الأمين ينتج موسى خير من استأجرت فقلت : أظهر ما يرد على هذا أن شرط انتاج الشكل الثاني بحسب الكيفية اختلاف مقدمتيه بالايجاب والسلب بأن تكون إحداهما موجبة والأخرى سالبة وهو منتف فيما ذكرت فسكت وأعرض عن البحث حذرا من الفضيحة
وأنت تعلم أن أدلة القرآن لا يلزم فيها الترتيب الذي وضعه المنطقيون فذلك صناعة أغنى الله تعالى العرب عنها وما ذكر من أن جعل خير اسما للاهتمام هو ما اختاره غير واحد وجوز الطيبي أن يكون تقديمه وجعله اسما من باب القلب للمبالغة والظاهر أن أل في القوي الأمين للجنس فيندرج موسى عليه السلام وهو وجه الاستدلال وذكر الاستئجار بلفظ الماضي مع أن الظاهر ذكره بلفظ المضارع للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف وجوز الطيبي أن يكون المراد بالقوي الأمين موسى عليه السلام فكأنها قالت : إن خير من استأجرت موسى والاول أولى ثم إن كلامها هذا كلام حكيم جامع لايزاد عليه لأنه إدا اجتمعت الخصلتان أعني الكفاية والامانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك وقد استغنت بارسال هذأ الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول : استأجره لقوته وأمانته ولعمري أن مثل هذا المدح من المرأة للرجل أجمل من المدح الخاص وأبقى للحشمة وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها أن يزوجها منه ومعرفتها قوته عليه السلام لما رأت من دفعه الناس عن الماء وحده حتى سقى لهما ومعرفتها أمانته من عدم تعرضه لها بقبيح ما مع وحدتها وضعفها وروي أنها لما قالت ما قالت قال لها أبوها : ما اعلمك بقوته
(20/66)

فذكرتفذكرت له أنه عليه السلام أقل صخرة على البئر لا يقلها كذا وكذا وقد مر في حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال والنقل في عدد من يقلها مضطرب فأقل ما قالوا فيه سبعة وأكثر مائه وقد مر ما يعلم منه حال الخبر في أصل الإقلال وذ : رت أنه لا نزع وحده بدلو لا ينزع بها إلأ اربعون وقال : ما أعلمك بأمانته فذكرت ما كان من أمره إياها بالمشي وراءه وأنه صوب رأسه حتى بلغته الرسالة وقدمت وصف القوة مع أن أمانة الأجير لحفظ المال أهم في نظر المستأجر لتقدم علمها بقوته عليه السلام على علمها بأمانته أو ليكون ذكر وصف الامانة بعده من باب الترقي من المهم إلى الأهم واستدل بقولها استأجره على مشروعيتة الاجارة عندهم وكذا كانت في كل ملة وهي من ضروريات الناس ومصلحة الخلطة خلافا لابن علية والاصم حيث كانا لا يجيزانها وهذا مما انعقد عليه الاجماع وخلافهما خرق له فلا يلتفت اليه وهذا لعمري غريب منهما إن كانا لايجيزان الاجارة مطلقا ورأيت في الاكليل أن في قوله تعالى : أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني الخ ردا على من منع الاجارة المتعلقة بالحيوان عشرة سنين لأنه يتغير غالبا فلعل الاجارة التي لا يجيزانها نحو هذه الاجارة والامر في ذلك أهون من عدم اجازة الاجارة مطلقا كما لا يخفى
قال إني أريد أن انكحك إحدى ابنتي هتين استئناف بياني كأنه قيل : فما قال أبوها بعد أن سمع كلامها فقيل : قال إني وفي تأكيد الجملة اظهار لمزيد الرغبة فيما تضمنته الجملة وفي قوله هاتين إيماء إلى أنه كانت له بنات أخر غيرهما وقد أخرج ابن المنذر عن مجاهد أن لهما أربع أخوات صغار وقال البقاعي : إن له سبع بنات كما في التوراة وقد قدمنا نقل ذلك وفي الكشاف فيه دليل على ذلك
واعترض بأنه لا دلالة فيه على ما ذكر إذ يكفي في الحاجة إلى الاشارة عدم علم المخاطب بانه ما كنت له غيرهما وتعقب بأنه على هذا تكفي الاضافة العهدية ولا يحتاج إلى الاشارة فهذا يقتضي أن يكون للمخاطب علم بغيرهما معهود عنده أيضا وإنما الاشارة لدفع إرادة غيرهما من ابنتيه الأخريين المعلومتين له من بينهن ونعم ما قال الخفاجي لا وجه للمشاحة في ذلك فان مثله زهرة لا يحتمل الفرك
وقرأ ورش وأحمد بن موسى عن أبي عمرو أنكحك إحدى بحذف الهمزة وقوله تعالى : على أن تأجرني في موضع الحال من مفعول أنكحك أي مشروطا عليه أو واجبا أو نحو ذلك ويجوز أن يكون حالا من فاعله قاله أبو البقاء وتأجرني من أجرته كنت له أجيرا كقولك أبوته كنت له أبا وهو بهذا المعنى يتعدى إلى مفعول واحد وقوله تعالى : ثماني حجج ظرف له ويجوز أن يكون تأجرني بمعنى تثيبني من أجره تعالى على ما فعل أي أثابه فيتعدى إلى إثنين ثانيهما هنا ثماني حجج والكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف اليه مقامه أي تثيبني رعية ثماني حجج أي تجعلها ثوابي وأجري على الانكاح ويعني بذلك المهر
وجوز على هذا المعنى أن يكون ظرفا لتأجرني أيضا بحذف المفعول أي تعوضني خدمتك أو عملك في ثماني حجج ونقل عن المبرد أنه يقال : أجرت داري ومملوكي غير مدود وآجرت ممدودا والاول أكثر فعلى هذا يتعدى إلى مفعولين والمفعول الثاني محذوف والمعنى على أن تأجرني نفسك وقد يتعدى إلى واحد بنفسه والثاني بمن فيقال : أجرت الدار من عمرو وظاهر كلام الأكثرين أنه لا فرق بين آجر بالمد
(20/67)

وأجر بدونه وقال الراغب : يقال أجرت زيدا إذا اعتبر فعل أحدهما ويقال : آجرته إذا اعتبر فعلاهما وكلاهما يرجعان إلى معنى ويقال كما في القاموس أجرته أجرا وآجرته إيجارا ومؤاجرة
وفي تحفة المحتاج آجره بالمد إيجارا وبالقصر يأجره بكسر الجيم وضمها أجرا وفيها أن الاجارة بتثليث الهمزة والكسر أفصح لغة اسم للاجرة ثم اشتهرت في العقد والحجج جمع حجة بالكسر السنة فان أتممت عشرا في الخدمة والعمل فمن عندك أي فهو من عندك من طريق التفضل لا من عندي بطريق الالزام وما أريد أن أشق عليك بالزام إتمام العشر والمناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال واشتقاق المشقة وهي ما يصعب تحمله من الشق بفتح الشين وهو فصل الشيء إلى شقين فان ما يصعب عليه يشق عليك رأيك في أمره لتردده في تحمله وعدمه ستجدني إنشاء الله من الصلحين في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد ومراد شعيب عليه السلام بالاستثناء التبرك به وتفويض أمره إلى توفيقه تعالى لا تعليق صلاحه بمشيئته سبحانه بمعنى أنه إن شاء الله تعالى استعمل الصلاح وإن شاء عز و جل استعمل خلافه لأن لايناسب المقام
وقيل : لأن صلاحه عليه السلام متحقق فلا معنى للتعليق ونحوه قول الشافعي : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى قال ذلك بيني وبينك مبتدأ وخبر أي ذلك الذي قلت وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم وثابت بيننا جميعا لا يخرج عنه واحد منا لا أنا عما شرطت علي ولا أنت عما شرطت على نفسك وقوله سبحانه : أيما الأجلين أي اطولهما أو أقصرهما قضيت أو وفيتك بأداء الخدمة فيه فلا عدوان علي تصريح بالمراد وتقرير لأمر الخيار أي لا عدوان كائن علي بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين وتعميم انتفاء العدوان بكلا الأجلين بصدد المشارطة مع تحقق عدم العدوان في اطولهما رأسا للقصد إلى التسوية بينهما في الانتفاء أي كما لا أطلب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان أو أيما الأجلين قضيت فلا إثم كائن علي كما لا إثم علىي في قضاء الأطول لا إثم علي في قضاء الأقصر فقط
وقرأ عبد الله أي الأجلين ما قضيت فما مزيدة لتأكيد القضاء أي أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له كما أنها في القراءة الأولى مزيدة لتأكيد ابهام أي وشياعها وجعلها نافية لا يخفى ما فيه وقرأ الحسن والعباس عن أبي عمرو أيما بتسكين الياء من غير تشديد كما في قول الفرزدق : تنظرت نصرا والسماكين أيهما على الغيث استهلت مواطره وأصلها المشددة وحذفت الياء تخفيفا وهي مما عينه واو ولامه ياء ونص ابن جني على أنها من باب أويت قياسا واشتقاقا وقد نقل كلامه في بيان ذلك العلامة الطيبي في شرح الكشاف فليرجع اليه من شاء
وقرأ أبو حيوة وابن قطيب فلا عدوان بكسر العين والله على ما نقول من الشروط الجارية بيننا وكيل
82
- أي شهيد على ما روي عن ابن عباس وقال قتادة : حفيظ وفي البحر الوكيل الذي وكل اليه الأمر ولما ضمن معنى شاهد ونحوه عدي بعلى ومن هنا قيل : أي شاهد حفيظ والمراد توثيق العهد وأنه لا سبيل لأحد منهما إلى الخروج عنه أصلا وهذا بيان لما عزما عليه واتفقا على إيقاعه اجمالا من غير تعرض
(20/68)

لبيانلبيان مواجب عقدي النكاح والاجارة في تلك الشريعة تفصيلا وقول شعيب عليه السلام : إني أريد أن أنكحك الخ ظاهر في أنه عرض لرأيه على موسى عليه السلام واستدعاء منه للعقد وتحقيق له بالفعل ولم يجزم القائلون باتفاق الشريعتين في ذلك بكيفية ما وقع فقيل لعل النكاح جرى على معينة بمهر غير الخدمة المذكورة وهي إنما ذكرت على طريق المعاهدة لا المعاقدة فكأنه قال : أريد أن أنكحك احدى ابنتي بمهر معين إذا أجرتني ثمان حجج بأجرة معلومة فما تقول في ذلك فرضي فعقد له على معينة منهما فلا يرد الابهام في المرأة المزوجة غير صحيح وعلى الخدمة ومنافع الحر عندنا أيضا خصوصا إذا قيل : إن مدتها غير معينة وهي أيضا ليست للزوجة بل لأبيها فكيف صح كونها مهرا وقيل : يجوز أن يكون جرى على معينة بمهر الخدمة المذكورة ولا فساد في جعل الرعية مهرا افنه جائز عند الشافعي عليه الرحمة وكذا عند الحنفية كما يفهم من الهداية ونقل عن صاحب المدارك أنه قال : التزوج على رعي الغنم جائز بالاجماع لأنه قيام بأمر الزوجية لا خدمة صرفة وفي دعوى الاجماع ان أريد به اجماع الأئمة مطلقا بحث ففي المحيط البرهاني لو تزوجها على أن يرعى غنمها سنة لم يجز على رواية الأصل وروى ابن سماعة عن محمد أنه يجوز في الرعي وفي الانتصاف مذهب مالك في ذلك على ثلاثة أقوال المنع والكراهة والجواز ويقال على الجواز كانت الغنم للمزوجة لا لأبيها وليس في المدة إبهام إذ هي الحجج الثمان والزائدة قد وعد موسى عليه السلام والوفاء به إن تيسر له على أن الابهام في المهر يجوز كما هو مبين في الفروع وقال بعضهم : يجوز أن تكون الشرائع مختلفة في أمر الانكاح فلعل إنكاح المبهمة جائز في شريعة شعيب عليه السلام ويكون التعيين للولي أو للزوج وكذا جعل خدمة الولي صداقا ونحو ذلك مما لا يجوز في شريعتنا
ولا يرد أن ما قص من الشرائع السالفة من غير إنكار فهو شرع لنا لأنه على الاطلاق غير مسلم وفي الاكليل عن مكي أنه قال : في الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول المدة وجعل المهر إجارة ودخل ولم ينفذ شيئا والذي يميل اليه القلب اختلاف الشرائع في مواجب النكاح وربما يستأنس له بما في الفصل التاسع والعشرين من السفر الاول من التوراة أن يعقوب عليه السلام مضى إلى بلد أهل الشرق فاذا بئر في الصحراء على فمها صخرة عظيمة وعندها ثلاث قطعان من الغنم لرعاتها : من أين أنتم يا أخوة قالوا : من حران فقال لهم : أتعرفون لابان بن ناحور فقالوا : نعم فقال : أحي هو قالوا : نعم وهذه راحيل ابنته مع الغنم ثم قال : ليس هذا وقت انضمام الماشية فاسقوا الغنم وامضوا بها فرعوها قالوا : لا نطيق ذلك إلى أن تجتمع الرعاة ويدحرجوا الصخرة عن فم البئر فبينما هو يخاطبهم جاءت راحيل مع غنم أبيها فلما رأى ذلك تقدم ودحرج الصخرة وسقى غنم خاله لابان ثم قبل راحيل وبكى وأخبرها أنه ابن عمتها ربقا فأخبرت أباها فخرج للقائه فعانقه وقبله وأدخله إلى منزله ثم قال لابان له : أما أنت فعظمي ولحمي ومكث عنده شهرا فقال له لابان : أنت وإن كنت ذا قرابة مني لا استحسن أن تخدمني مجانا فاخبرني بما تريد من الأجرة وكان له ابنتان اسم الكبرى ليا واسم الصغرى راحيل وعينا ليا حسنتان وراحيل حسنة الحلية والمنظر فأحبها يعقوب فقال : أخدمك سبع سنين براحيل فقال : لابان : اعطائي اياها لك أصلح من إعطائي إياها لرجل آخر فأقم عندي فخدمه براحيل سبع سنين ثم قال : اعطني زوجتي فقد كملت أيامي فجمع
(20/69)

لا بان أهل الموضع وصنع لهم مجلسا فلما كان العشاء أخذ ليا بنته فزفها اليه ودخل عليها فأعطاها لابان أمته زلفا لتكون لها أمة فلما كانت الغداة فاذ ا هي ليا فقال للابان : ماذا صنعت بي اليس براحيل خدمتك : قال نعم لكن لا تزوج الصغرى قبل الكبرى في بلدنا فأكمل اسبوع هذه وأعطيك اختها راحيل أيضا بالخدمة التي تخدمها عندي سبع سنين أخر فكمل يعقوب اسبوع ليا ثم أعطاه ابنته راحيل زوجة وأعطاها أمته بلها لتكون لها أمة فلما دخل عليها يعقوب أحبها أكثر من حبه ليا ثم خدمه سبع سنين أخر اه
وأخبرني بعض أهل الكتاب أنه يجوز أن تكون خدمة الأب مهرا لابنته ويلزم الأب إرضاؤها بشيء إذا كانت كبيرة وان ما التزم من الخدمة لا يجب فعله قبل الدخول ويكفي الالترام والتعهد وأن المهر عندهم كل شيء له قيمة أو ما في حكمها وأن تسليم المراة نفسها للروج راضية بما يحصل لها منه من قضاء الوطر والانتفاع بدلا عن المهر قد يقوم مقام المهر وان حل الجمع بين الاختين كان ليعقوب عليه السلام خاصة وهدا الأخير مما دكره علماء الاسلام والله تعالى أعلم بصحة غيره مما ذكر من الكلام وهذا وللعلماى في الآية استدلالات قال في الأكليل : فيها استحباب عرض الرجل موليته على أهل الخير والفضل أن ينكحوها واعتبار الولي في النكاح وان العمى لا يقدح في الولاية فانه عليه السلام كان أعمى واعتبار الايجاب والقبول في النكاح وقال ابن الغرس : استدلال مالك بهذه الآية على إنكاح الاب البكر البالغة بغير استثمار لانه لم يذكر فيها استثمار قال ك واحتج بعضهم على جواز أن يكتب في الصداق انكحه إياها خلافا لمن اختار انكحها إياه قائلا لانه إنما يملك النكاح عليها لا عليه وقال ابن العربي : استدل بها أصحاب الشافعي على أن النكاح موقوف على لفظ الانكاح والتزويج قال : واستدل بها قوم على جواز الجمع بين نكاح وإجارة في صفقة واحدة فعدوه إلى كل صفقة تجمع عقدين وقالوا بصحتها قال : واستدل بها علماونا على أن اليسار لا يعتبر في الكفاءة فان موسى عليه السلام لم يكن حينئذ موسرا قال : وفي قوله : والله على ما نقول وكيل اكتفاى بشهادة الله عز و جل إذ لم يشهد أحدا من الخلق فيدل على عدم اشتراط الاشهاد في النكاح اه واستدل بها الأوزاعية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك بالف نقدا أو ألفين نسيئة اه ما في الاكليل من حذف قليل
ولا يخفى ما في هذه الاستدلالات من المقالات والمنازعات ثم ان ما تقدم عن مكي من أنه عليه السلام دخل ولم ينفذ شيئا مما قاله غيره أيضا وقد روي أيضا من طريق الامامية عن ابي عبد الله رضي الله تعالى عنه وقيل : إنه عليه السلام لم يدخل حتى أتم الأجل وجاى في بعض الآثار أنهما لما أتما العقد قال شعيب لموسى عليهما السلام : ادخل ذلك البيت فخذ عصى من العصي التي فيه وكان عنده عصي الانبياء عليهم السلام فدخل واخذ العصا التي هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الانبياء عليهم السلام يتوارثونها حتى وقعت على شعيب فقال له شعيب : خذ غير هذه فما وقع في يده الا هي سبع مرات فعلم أنه له شأنا وعن عكرمة أنه قال خرج آدم عليه السلام بالعصا من الجنة فأخذها جبرائيل عليه السلام بعد موته وكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها اليه وفي مجمع البيان عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال : كانت عصا موسى قضيب آس من الجنة أتاه بها جبرائيل عليه السلام لما توجه تلقاء مدين وقال السدي : كانت تلك العصا قد أودعها شعيبا ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتي بعصا فدخلت وأخذت العصا فأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فردها سبع مرات فلم يقع في
(20/70)

يدها غيرها فدفعها اليه ثم ندم لأنها وديعه فتبعه فاختصما فيها ورضيا أن يحكم بينهما أول طالع : فأتاهما الملك فقال اليقياها فمن بفعها فهي له فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى عليه السلام وعن الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا وعن الكلبي التي نودي منها شجرة العوسج ومنها كانت عصاه
وروي أنه لما شرع عليه السلام بالخدمة والرعي قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فان الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنينا اخشاه عليك وعلى الغنم فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ومشى على أثرها فاذا عشب وريف لم ير مثله فنام فاذا بالتنين قد اقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى عليه السلام دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولا ارتاح لذلك ولما رجع إلى شعيب وجد الغنم ملأى البطون فأخبره موسى عليه السلام بما كان ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأنا وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء فاوحى الله تعالى اليه في المنام أن اضرب بعصاك مستقى الغنم ففعل ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع أو درعاء فوفى له شعيب بما قال
وحكى يحيى بن سلام أنه جعل له له كل سخلة تولد على خلاف شية أمها فأوحى الله تعالى الى موسى عليه السلام في المنام أن الق عصاك في الماء الذي تسقي منه الغنم ففعل فولدت كلها على خلاف شيتها وأخر ابن ماجة والبزار وابن المنذر والطبراني وغيرهم من حديث عتبة السلمي مرفوعا أنه عليه السلام لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فاعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ذلك العام وكانت غنمه سوداء حسناء فانطلق موسى إلى عصاه فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض ثم أوردها فسقاها ووقف بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة فأنمت وانثنت ووضعت كلها قوالب الوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش أي واسعة الشخب ولا ضبوب أي طويلة الضرع تجره ولا غرور أي ضيقة الشخب ولا ثعول أي لا ضرع لها إلا كهيئة حلمتين ولا كمشة تفوت الكف أي صغيرة الضرع لايدرك الكف وظاهر هذا الخبر أن الهبة كانت لزوجته عليه السلام وأنه كان ذلك لما أراد فراق شعيب عليهما السلام وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر ما تقدم فلما قضى موسى الأجل أي أتم المدة المضروبة لما أراد شعيب منه والمراد به الأجل الآخر كما أخرجه ابن مردويه عن مقسم عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما وأخرج البخاري وجماعة عن ابن عباس أنه سئل أي الأجلين قضى موسى عليه السلام فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل وأخرج ابن مردويه من طريق علي بن عاصم عن أبي هرون عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سأله أي الأجلين قضى موسى فقال : لا أدري حتى أسأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسأل رسول الله عليه الصلاة و السلام فقال : لا أدري حتى أسأل جبريل عليه السلام فسأل جبريل فقال : لا أدري حتى أسأل ميكائيل عليه السلام فسأل ميكائيل فقال : لا أدري حتى أسأل الرفيع فسأل الرفيع فقال : لا أدري حتى اسأل اسرافيل عليه السلام فسأل اسرافيل فقال : لا أدري حتى أسأل ذا العزة جل جلاله فنادى إسرافيل بصوته الاشد ياذا العزة أي الأجلين قضى موسى قال : أتم الاجلين واطيبهما عشر سنين قال علي بن عاصم : فكان أبو هرون إذا حدث بهذا الحديث يقول : حدثني أبو سعيد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن
(20/71)

الرفيعالرفيع عن اسرافيل عن ذي العزة تبارك وتعالى أن موسى قضى أتم الأجلين وأطيبهما عشر سنين والفاى قيل : فصيحة أي فعقد العقدين وباشر موسى ما أريد منه فلما أتم الاجل وسار بأهله قيل : نحو مصر باذن من شعيب عليه السلام لزيارة والدته وأخيه وأخته وذوي قرابته وكأنه عليه السلام اقدمه على ذلك طول مدة الجناية وغلبة ظنه خفاء أمره وقيل : سار نحو بيت المقدس وهذا أبعد عن القيل والقال
ءانس من جانب الطور أي أبصر من الجهة التي تلي الطور لامن بعضه كما هو المتبادر واصل الايناس على ما قيل الاحساس فيكون أعم من الابصار وقال الزمخشري : هو الابصار البين الذي لاشبهة فيه ومنه انسان العين لأنه يبين به الشيء والانس لظهورهم كما قيل : الجن لاستتارهم وقيل : هو ابصار ما يؤنس به نارا استظهر بعضهم أن المبصر كان نورا حقيقيا إلا أنه عبر عنه بالنار اعتبارا لاعتقاد موسى عليه السلام وقال بعض العارفين : كان المبصر في صورة النار الحقيقية وأما حقيقته فوراء طور العقل إلا أن موسى عليه السلام ظنه النار المعروفة قال لأهله امكثوا أي أقيموا مكانكم وكان معه عليه السلام على قول امرأته وخادم ويخاطب الاثنان بصيغة الجمع وعلى قول آخر كان معه ولدان له أيضا اسم الاكبر جيرشوم واسم الاصغر اليعازر ولدا له زمان إقامته عند شعيب وهذا مما يتسنى على القول بانه عليه السلام دخل على زوجته قبل الشروع فيما أريد منه واما على القول بأنه لم يدخل عليها حتى أتم الأجل فلا يتسنى الا بالتزام أنه عليه السلام مكث بعد ذلك سنين ثم مكث بعد ذلك عشرا أخرى وعن وهب أنه عليه السلام ولد له ولد في الطريق ليلة إيناس النار وفي البحر أنه عليه السلام خرج بأهله وماله في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل لايدري أليلا تضع أم نهارا فسار في البرية لايعرف طرقها فاجأه السير إلى جانب الطور الغربي الايمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد وقيل : كان لغيرته على حرمه يصحب الرفقة ليلا ويفارقهم نهارا فأضل الطريق يوما حتى أدركه الليل فأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فأصلد فنظر فاذا نارا تلوح من بعد فقال امكثوا إني ءانست نارا لعلي ءاتيكم منها بخبر أي بخبر الطريق بأن أجد عندها من يخبرني به وقد كانوا كما سمعت ضلوا الطريق والجملة استئناف في معنى التعليل للأمر أو جذوة أي عود غليظ سواء كان في رأسه نار كما في قوله : وألقي على قيس من النار جذوة شديدا عليها حرها والتهابها أو لم تكن كما في قوله : باتت حواطب ليلى يلتمسن لها جزل الجذا غير خوار ولا دعر ولذا بينت كما قال بعض المحققين بقوله تعالى : من النار وجعلها نفس النار للمبالغة كأنها لتشبث النار بها استحالت نارا وقال الراغب : الجذوة ما يبقى من الحطب بعد الالتهاب وفي معناه قول ابي حيان : عود فيه نار بلا لهب وأخرج ابن أبي حاتم عن أبن زيد قال : هي عود من حطب فيه النار
(20/72)

وأخرجوأخرج هو وجماعة عن قتادة أنها أصل شجرة في طرفها النار قيل : فتكون من على هذا للابتداء والمراد بالنار هي التي آنسها
وقرأ الأكثر جذوة بكسر الجيم والاعمش وطلحة وأبو حيوة وحمزة بضمها لعلكم تصطلون تستدفئون وتتسخنون بها وفيه دليل على أنهم أصابهم برد فلما أتيها أي النار التي آنسها
نودي من شاطيء الوادي الايمن أي أتاه النداء من الجانب الايمن بالنسبة إلى موسى عليه السلام في مسيره فالأيمن صفة الشاطيء وهو ضد الايسر وجوز أن يكون الايمن بمعنى المتصف باليمن والبركة ضد الاشأم وعليه فيجوز كونه صفة للشاطيء أو الوادي و من على ما اختاره جمع لابتداء الغاية متعلقة بما عندها وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير موسى عليه السلام المستتر في نودي أي نودي قريبا من شاطيء الوادي وجوز على الحالية أن تكون من بمعنى في كما في قوله تعالى : ماذا خلقوا من الارض أي نودي كائنا في شاطيء الوادي وقوله تعالى في البقة المباركة في موضع الحال من الشاطيء أو صله لنودي والبقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها وتفتح باؤها كما في القاموس وبدلك قرأ الأشهب العقيلي ومسلمة ووصفت بالبركة لما خصت به من آيات الله عز و جل وأنواره
وقيل : لما حوت من الارراق والثمار الطيبة وليس بذاك وقوله تعالى : من الشجرة بدل من قوله تعالى : من شاطيء أو الشجرة فيه بدل من شاطيء وأعيد الجار لأن البدل على تكرار العامل وهو بدل اشتمال فان الشاطيء كان مشتملا على الشجرة إذ كانت نابتة فيه و من هنا لا تحتمل أن تكون بمعنى في كما سمعت في من الأولى نعم جوز فيها أن تكون للتعليل كما في قوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا متعلقة بالمباركة أي البقعة المباركة لأجل الشجرة وقيل : يجوز تعلقها بالمباركة مع بقائها للابتداء على معنى أن ابتداء بركتها من الشجرة وكانت الشجرة على ما روي عن ابن عباس عنابا وعلى ما روي عن ابن مسعود سمرة وعلى ما روي عن ابن جريج والكلبي ووهب عوسجة وعلى ما روي عن قتادة ومقاتل عليقة وهو المذكور في التوراة اليوم وأن في قوله تعالى : أن يموسى تحتمل أن تكون تفسيرية وأن تكون مخففة من الثقيلة والأصل بأنه والجار متعلق بنودي والنداى قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي : ناديت باسم ربيعة بن مكدم أن المنوه باسمه الموثوق والضمير للشأن وفسر الشان بقوله تعالى : إني أنا الله رب العلمين
3
- وقرأت فرقة أني بفتح الهمز واستشكل بأن أن إن كانت تفسيرية ينبغي كسر إن وهو ظاهر وإن كانت مصدرية واسمها ضمير الشأن فكذلك إذ على الفتح تسبك مع ما بعدها بمفرد وهو لايكون خبرا عن ضمير الشأن وخرجت على أن أن تفسيرية وأني الخ في تأويل مصدر معمول لفعل محذوف والتقدير أي ياموسى أعلم أني أنا الله الخ وجاء في سورة طه نودي يا موسى إني أنا ربك وفي سورة النمل نودي أن بورك من في النار وما هنا غير ذلك بل ما في كل غير ما في الآخر فاستشكل ذلك
(20/73)

وأجيب بان المغايرة إنما هي في اللفظ واما في المعنى المراد فلا مغايرة وذهب الامام إلى أنه تعالى حكى في كل من هذه السور بعض ما اشتمل عليه النداء لما أن المطابقة بين ما في المواضيع الثلاثة تحتاج إلى تكلف ما والظاهر أن النداء منه عز و جل من غير توسط ملك وقد سمع موسى عليه السلام على ما تدل عليه الآثار كلاما لفظيا قيل : خلقه الله تعالى في الشجرة بلا اتحاد وحلول وقيل : خلقه في الهواء كذلك وسمعه موسى عليه السلام من جهة الجانب الأيمن أو من جميع الجهات وأنا وإن كان كل أحد يشير به إلى نفسه فليس المعني به محل لفظه
وذهب الشيخ الاشعري والامام الغزالي إلى أنه عليه السلام سمع كلامه تعالى النفسي القديم بلا صوت ولا حرف وهذا كما ترى ذاته عز و جل بلا كيف ولا كم وذكر بعض العارفين أنه إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت وكان ذلك بعد ظهوره عز و جل بما شاء من المظاهر التي تقتضيها الحكمة وهو سبحانه مع ظهوره تعالى كذلك باق على إطلاقه حتى عن قيد الاطلاق وقد جاء في الصحيح أنه تعالى يتجلى لعباده يوم القيامة في صورة فيقول : أنا ربكم فينكرونه ثم يتجلى لهم بأخرى فيعرفونه والله تعالى وصفاته من وراء حجب العزة والعظمة والجلال فلا يحدثن الفكر نفسه بأن يكون له وقوف على الحقيقة بحال من الأحوال
مرام شط مرمي العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد وذكر بعض السلفيين أنه عليه السلام إنما سمع كلامه تعالى بصوت منكر الظهور في المظاهر عادا القول به من أعظم المناكر ولابن القيم كلام طويل في تحقيق ذلك وقد قدمنا لك في المقدمات ما يتعلق بهذا المقام فتذكر والله تعالى ولي الافهام وقال الحسن : إنه سبحانه نادى موسى عليه السلام نداء الوحي لا نداء الكلام ولم يرتض ذلك العلماء الأعلام لما فيه من مخالفة الظاهر وأنه لا يظهر عليه وجه اختصاصه باسم الكليم من بين الأنبياء عليهم السلام ووجه الاختصاص على القول بانه سمع كلامه تعالى الأزلي بلا حرف ولا صوت ظاهر وكذا على القول بأنه عليه السلام سمع صوتا دالا على كلامه تعالى بلا واسطة ملك أو كتاب سواء كان من جانب واحد لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا أو من جميع الجهات لما في كل من خرق العادة وأما وجهه عند القائلين بان السماع كان بعد التجلي في المظهر فكذلك أيضا أن قالوا بأن هذا التجلي لم يقع لأحد من الأنبياء عليهم السلام سوى موسى ثم ان علمه عليه السلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه سبحانه فيه وقيل : بالمعجزة وأوجب المعتزلة أن يكون حصوله بها فمنهم من عينها ومنهم من لم يعينها زعما منهم أن حصول العلم الضروري ينافي التكليف وفيه بحث
وأن ألق عصاك عطف على أن يا موسى والفاء في قوله تعالى : فلما رءاها تهتز فصيحة مفصحة عن جمل حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها واشعارا بغاية سرعة تحقق مدلولاتها أي فالقاها فصارت حية فاهتزت فلما رآها تهتز وتتحرك كأنها جان هي حية كحلاء العين لا تؤذي كثيرة في الدور والتشبيه بها باعتبار سرعة حركتها وخفتها لا في هيئتها وجثتها فلا يقال : إنه عليه السلام لما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فكيف يصح تشبيهها بالجان وقال بعضهم : يجوز أن يكون المراد تشبيهها بها في الهيئة والجثة ولا ضير في ذلك لأن
(20/74)

لها أحوالا مختلفة تدق فيها وتغلظ وقيل : الجان يطلق على ما عظم من الحيات فيراد عند تشبيهها بها في ذلك والاولى ما ذكر أولا ولي مدبرا منهزما من الخوف ولم يعقب أي ولم يرجع يموسى أي نودي أو قيل : ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين
13
- من المخاوف فانه لا يخاف لدي المرسلون : اسلك يدك أي أدخلها في جيبك هو فتح الجبة من حيث يخرج الراإ تخرج بيضاء من غير سوء أي عيب واضمم اليك جناحك من الرهب أي من أجل المخافة قال مجاهد وابن زيد أمره سبحانه بضم عضده وذراعه وهو الجناح إلى جنبه ليخف بذلك فزعه ومن شأن الانسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوى قلبه وقال الثوري : خاف موسى عليه السلام أن يكون حدث به سوء فأمره سبحانه أن يعيد يده إلى جنبه لتعود إلى حالتها الأولى فيعلم أنه لم يكن ذلك سوءا بل آية من الله عز و جل وقريب منه ما قيل : المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها فاضممها اليك يسكن خوفك وفي الكشاف فيه معنيان : أحدهما أن موسى عليه السلام لما قلب الله تعالى العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الاعداء فاذا ألقيتها فكما تنقلب حية فادخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الامران : اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى والمراد بالجناح اليد لأن يدي الانسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه اليه والثاني أن يراد بضم جناحه اليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان اليه مشمران ومعنى من الرهب من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم اليك جناحك وجعل الرهب الذي يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه اليه ومعنى واضمم اليك جناحك وقوله تعالى : اسلك يدك في جيبك على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني اخفاء الرعب اه وضم الجناح على الثاني كناية عن التجلد والضبط نحو قوله : اشدد حيازيمك للموت فان الموت لاقيك وهو مأخوذ من فعل الطائر عند الأمن بعد الخوف وهو في الاصل مستعار من فعل الطائر عند هذه الحالة ثم كثر استعماله في التجلد وضبط النفس حتى صار مثلا فيه وكناية عنه وعليه يكون تتميما لمعنى إنك من الآمنين وهذا مأخوذ من كلام أبي على الفارسي فانه قال : هذا أمر منه سبحانه بالعزم على ما أراده منه وحض على الجد فيه لئلا يمنعه الذي يغشاه في عبض الاحوال عما أمر بالمضي فيه وليس المراد بالضم الضم المزيل للفرجة بين الشيئين وهو أبعد عن المناقشة مما ذكره الزمخشري ومثله في البعد عن المناقشة ما قاله البقاعي : من أنه أريد بضم جناحه اليه تجلده وضبطه نفسه عند خروج يده بيضاء حتى لا يحذر ولا يضطرب من الخوف وأراد بأحد التفسيرين الوجه الاول لأن المعنى عليه أدخل يدك اليمنى تحت عضدك اليسرى وقال بعضهم : إن المعنى اضمم يديك المبسوطتين بادخال اليمنى تحت العضد الايسر واليسرى تحت الايمن أو بادخالهما في
(20/75)

الجيب وظاهره أنه أريد بالجناح الجناحان وقد صرح الطبرسي بذلك في نحو ما ذكر وقال : إنه قد جاء بالمفرد مرادا به التثنية كما في قوله : يداك يد احداهما الجود كله وراحتك اليسرى طعان تغامره فان المعنى يداك يدان بدلالة قوله احداهما وفي الكشاف أيضا من بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير وأنهم يقولون : اعطني ما في رهبك وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الاثبات الثقات التي ترضي عربيتهم ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها اه وما أشار اليه من أن ذاك لا يطابق بلاغة التنزيل مما لا ريب فيه فان الذاهبين اليه قالوا : المعنى عليه واضمم اليك يدك مخرجة من الكم لأن يده وهو معنى كما ترى ولفظه أقصر منه في الافادة وأما أمر سماعه عن الاثبات فقد تعقبه في البحر بأنه مروي عن الاصمعي وهو ثقة ثبت وقال الطيبي : قال محيي السنة : قال الاصمعي : سمعت بعض الاعراب يقول اعطني ما في رهبك أي ما فيكمك وزعم بعضهم أن استعمال الرهب في الكم لغة بني حنيفة أيضا وهو عندهم وكذا حمير بفتح الراء والهاء والحزم عندي عدم الجزم بثبوت هذه اللغة وعلى تقدير الثبوت لا ينبغي حمل ما في التنزيل الكريم عليها والظاهر أن من الرهب متعلق باضمم وقال أبو البقاء : هو متعلق بولى وقيل بمدبرا وقيل بمحذوف : أي تسكن من الرهب وقيل باضمم ولا يخفى ما في تعلقه بسوى اضمم وإن اشار إلى تعلقه بولى مدبرا كلام ابن جريج على ما أخرجه عنه ابن المنذر حيث جعل الآية من التقديم والتأخير والمراد ولى مدبرا من الرهب وقرأ الحرميان : من الرهب بفتح الراء والهاء وأكثر السبعة بضم الراء واسكان الهاء وقرأ قتادة والحسن وعيسى والجحدري بضمهما والكل لغات فذانك أي العصا واليد والتذكير لمراعاة الخبر وهو قوله تعالى : برهانان وقيل : الاشارة إلى إنقلاب العصا حية بعد إلقائها وخروج اليد بيضاء بعد إدخالها في الجيب فأمر التذكير ظاهر والبرهان الحجة النيرة وهو فعلان لقولهم : ابره الرجل إذا جاء بالبرهان من بره الرجل إذا ابيض ويقال للمرأة بيضاء : برهاء وبرهرهة
وقال بعضهم : هو فعلان من البره بمعنى القطع فيفسر بالحجة القاطعة وقيل : هو فعلال لقولهم برهن ونقل عن الأكثر أن برهن مولد بنوه من لفظ البرهان وقرأ أبو عمرو وابن كثير فذانك بتشديد النون وهي لغة فيه فقيل : إنه عوض من الألف المحذوفة من ذا حال التثنية لألفها نون وادغمت وقال المبرد : إنه بدل من لام ذلك كأنهم أدخلوها بعد نون التثنية وقرأ ابن مسعود وعيسى وأبو نوفل وابن هرمز وشبل فذانيك بياء بعد النون المكسورة وهي لغة هذيل وقيل : بل لغة تميم ورواها شبل عن ابن كثير وعنه أيضا فذانيك بفتح النون قبل الياء على لغة من فتح نون التثنية نحو قوله : على أحوذيين استقلت عشية فما هي إلا لمحة وتغيب
(20/76)

وعن ابن مسعود أنه قرأ بتشديد النون مكسورة بعدها ياء قيل وهي لغة هذيل وقال المهدوي بل لغتهم تخفيفها و من في قوله تعالى : من ربك متعلق بمحذوف هو صفة لبرهانان أي كائنان من ربك و إلى في قوله سبحانه : إلى فرعون وملائه متعلق بمحذوف أيضا هو على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم صفة بعد صفة له أي واصلان اليهم وعلى ما يقتضيه ظاهر كلام آخرين حال منه أي مرسلا أنت بهم اليهم
وفي البحر أنه متعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره أذهب إلى فرعون إنهم أي فرعون وملأه كانوا قوما فسقين أي خارجين عن حدود الظلم والعدوان فكانوا أحقاء بأن نرسلك بهاتين المعجزتين الباهرتين اليهم والكلام في كانوا يعلم مما تقدم في نظائره قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف لذلك أن يقتلون بمقابلتها والمراد بهذا الخبر طلب الحفظ والتأييد لابلاغ الرسالة على أكمل وجه لا الاستعفاء من الارسال وزعمت اليهود أنه عليه السلام استعفى ربه سبحانه من ذلك وفي التوراة التي بأيديهم اليوم أنه قال يا رب ابعث من أنت باعثه وأكد طلب التأييد بقوله : وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا أي عونا كما روي عن قتادة واليه ذهب أبو عبيدة وقال : يقال ردأته على عدوه أعنته وقال أبو حيان : الردء المعين الذي يشتد به الأمر فعل بمعنى مفعول فهو اسم لما يعان به كما أن الدفء اسم لما يتدفأ به قال سلامة بن جندل : وردئي كل أبيض مشرف شديد الحد عضب ذي فلول ويقال : ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشبة لئلا يسقط وفي قوله : أفصح مني دلالة على أن فيه عليه السلام فصاحة ولكن فصاحة أخيه أزيد من فصاحته وقرأ أبو جعفر ونافع والمدنيان ردأ بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال والمشهور عن أبي جعفر أنه قرأ بالنقل ولا همز ولا تنوين ووجه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف وجوز في ردا على قراءة التخفيف كونه منقوصا بمعنى زيادة من رديت عليه إذا زدت يصدقني أي يخلص بلسانه الحق ويبسط القول فيه ويجادل به الكفار فالتصديق مجاز عن التلخيص المذكور الجالب للتصديق لأنه كالشاهد لقوله وإسناده إلى هرون حقيقة ويرشد إلى ذلك وأخي هرون الخ لأن فضل الفصاحة إنما يحتاج اليه لمثل ما ذكر لأن لقوله صدقت أو أخي موسى صادق فان سحبان وباقلا فيه سواء أو يصل جناح كلامي بالبيان حتى يصدقني القوم الذين أخاف تكذيبهم فالتصديق على حقيقته وإنما أسند إلى هرون عليه السلام لأنه ببيانه جلب تصديق القوم ويؤيد هذا قوله : إني أخاف أن يكذبون لدلالته على أن التصديق على الحقيقة وقيل : تصديق الغير بمعنى إظهار صدقه وهو كما يكون بقول هو صادق يكون بتأييده بالحجج ونحوها كتصديق الله تعالى للأنبياء عليهم السلام بالمعجزات والمراد به هنا ما يكون بالتأييد بالحجج فالمعنى يظهر صدقي بتقرير الحجج وتزييف الشبه إني أخاف أن يكذبون ولساني لا يطاوعني عند المحاجة وعليه لا حاجة إلى ادعاء التجوز في الطرف أو في الاسناد وتعقب بأنه لا يخفى أن صدقه معناه إما قال : إنه صادق أو قال له : صدقت فاطلاقه على غيره الظاهر أنه مجاز وجملة
(20/77)

يصدقنييصدقني تحتمل أن تكون صفة لردءا وأن تكون حالا وأن تكون استئنافا وقرأ أكثر السبعة يصدقني بالجزم على أنه جواب الأمر
وزعم بعضهم ان الجواب على قراءة الرفع محذوف ويرد عليه أن الأمر لا يلزم أن يكون له جواب فلا حاجة إلى دعوى الحذف وقرأ أبي وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم يصدقني بضمير الجمع وهو عائد على فرعون وملئه لا على هرون والجمع للتعظيم كما قيل والفعل على ما نقل عن أبن خالويه مجزوم فقد جعل هذه القراءة شاهدا لمن جزم من السبعة يصدقني وقال لأنه لو كان رفعا لقيل يصدقونني وذكر أبو حيان أن الجزم على جواب الأمر والمعني في يصدقون أرج تصديقهم أياي فتأمل قال سنشد عضدك بأخيك اجابة لمطلوبه وهو على ما قيل راجع لقوله أرسله معي الخ والمعنى سنقويك به ونعينك على أن شد عضده كناية تلويحية عن تقويته لأن اليد تشتد بشدة العضد وهو ما بين المرفق إلى الكتف والجملة تشتد بشدة اليد ولا مانع من الحقيقة لعدم دخول بأخيك فيما جعل كناية أو على أن ذلك خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبه حال موسى عليه السلام في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بعضد شديد وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل من باب اطلاق السبب على المسبب بمرتبتين بأن يكون الاصل سنقويك به ثم سنؤيدك ثم سنشد عضدك به وقرأ زيد بن علي والحسن عضدك بضمتين وعن الحسن أنه قرأ بضم العين واسكان الضاد وقرأ عيسى بفتحهما وبعضهم بفتح العين وكسر الضاد ويقال فيه عضد بفتح العين وسكون الضاد ولم أعلم أحدا قرأ بذلك وقوله تعالى : ونجعل لكما سلطانا أي تسلطا عظيما وغلبة راجع على ما قيل أيضا لقوله إني أخاف أن يكذبون وقوله سبحانه : فلا يصلون اليكما تفريع على ما حصل من مراده أي لا يصلون اليكما باستيلاء أو محاجة بأياتنا متعلق بمحذوف قد صرح به في مواضع أخرى أي إذهبا بآياتنا أو بنجعل أي نسلطكما بآياتنا أو بسلطانا لما فيه من معنى التسلط والغلبة أو بمعنى لا يصلون أي تمتنعون منهم بها أو بحرف النفي على قول بعضهم بجواز تعلق الجار به وقال الزمخشري : يجوز أن يكون قسما جوابه لا يصلون مقدما عليه أو هو من القسم الذي يتوسط الكلام ويقحم فيه لمجرد التاكيد فلا يحتاج إلى جواب أصلا ويرد على الاول أن جواب القسم لا يتقدمه ولا يقترن بالفاء أيضا فلعله أراد أن ذلك دال على الجواب وأما هو فمحذوف إلا أنه تساهل في التعبير وجوز أن يكون صلة لمحذوف يفسره الغالبون في قوله سبحانه : أنتما ومن اتبعكما الغالبون
53
- أو صلة واللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي أو بمعناه على رأي من يجوز تقديم ما في حيز الصلة على الموصول إما مطلقا أو إذا كان المقدم ظرفا وتقديمه إما للفاصلة أو للحصر فلما جاءهم موسى بأياتنا بينات أي واضحات الدلالة على صحة رسالته عليه السلام منه عز و جل والظاهر أن المراد بالآيات العصا واليد إذ هما اللتان أظهرهما موسى عليه السلام إذ ذاك وقد تقدم في سورة طه سر التعبير عنهما بصيغة الجمع قالوا ما هذا الذي جئت به إلا سحر مفترى أي سحر تختلقه لم يفعل قبله مثله فالافتراء بمعنى الاختلاق لا بمعنى الكذب أو سحر تتعلمه من غيرك ثم تنسبه إلى الله تعالى كذبا فالافتراء بمعنى الكذب لا بمعنى الاختلاق والصفة على هذين الوجهين مخصصة وقيل : المراد بالافتراء
(20/78)

اتمويه أي هو سحر مموه لا حقيقة له كسائر أنواع السحر وعليه تكون الصفة مؤكدة والافتراء ليس على حقيقته كما في الوجه الاول والحق أن من أنواع السحر ماله حقيقة فتكون الصفة مخصصة أيضا وما سمعنا بهذا أي نوع السحر أو ماصدر من موسى عليه السلام على أن الكلام على تقدير مضاف أي بمثل هذا أو الاشارة إلى إدعاء النبوة ونفيهم السماع بذلك تعمد للكذب فقد جاءهم يوسف عليه السلام من قبل بالبينات وما بالعهد من قدم ويحتمل أنهم أرادوا نفي سماع ادعاء النبوة على وجه الصدق عندهم وكانوا ينكرون أصل النبوات ولا يقولون بصحة شيء منها كالبراهمة وككثير من الافرنج ومن لحس من فضلاتهم اليوم والباء كما في مجمع البيان إما على أصلها أو زائدة أي ما سمعنا هذا في ءابائنا الأولين
63
- أي واقعا في أيامهم فالجار والمجرور في موضع الحال من هذا بتقدير مضاف والعامل فيه سمعنا
وجوز أن يكون بهذا على تقدير بوقوع هذا ويكون الجار متعلقا بذلك المقدر وأشاروا بوصف آبائهم بالأولين إلى انتفاء ذلك منذ زمان طويل وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده يريد عليه السلام بالموصول نفسه وقرأ ابن كثير قال بغير واو لأنه جواب لقولهم : إنه سحر والجواب لا يعطف بواو ولا غيرها ووجه العطف في قراءة باقي السبعة أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر المحكي له بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد ومن تكون له عاقبة الدار 9 أي العاقبة المحمودة في الدار وهي الدنيا وعاقبتها أن يختم للانسان بها بما يفضي به إلى الجنة بفضل الله تعالى وكرمه ووجه إرادة العاقبة المحمودة من مطلق العاقبة إنها هي التي دعا الله تعالى اليها عباده وركب فيهم عقولا ترشدهم اليها ومكنهم منها وأزاح عللهم ووفر دواعيهم وحضهم عليها فكأنها لذلك هي المرادة من جميع العباد والغرض من خلقهم وهذا ما اختاره ابن المنير موافقا لما عليه الجماعة وحكي أن بعضهم قال له : ما يمنعك أن تقول فهم عاقبة الخير من إضافة العاقبة إلى ذويها باللام كما في هذه الآية وقوله تعالى : وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار وقوله سبحانه : والعاقبة للمتقين إذ عاقبة الخير هي التي تكون لهم وأما عاقبة السوء فعليهم لا لهم فقال له : لقد كان لي في ذلك مقال لولا وروده مثل اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ولم يقل وعليهم فاستعمال اللام مكان على دليل على الغاء الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير وقد يقال : إن اللام ظاهرة في النفع ويكفي ذلك في انفهام كون المراد بالعاقبة عاقبة الخير ويلتزم في نحو الآية التي اوردها ابن المنير كونها من باب التهكم وهذا نظير ما قالوا : إن البشارة في الخير وبشرهم بعذاب أليم من باب التهكم
وقال الطيبي انتصارا أيضا : قلت : الآية غير مانعة عن ذلك فان قرينة اللعنة والسوء ما نعة عن إرادة الخير وإنما أتي بلهم ليؤذن بأنهما حقان ثابتان لهم لازمان إياهم ويعضده التقديم المفيد للاختصاص فتدبر وقرأ حمزة والكسائي يكون بالياء التحتية لأن المرفوع مجازي التأنيث ومفصول عن رافعه
إنه لا يفلح الظالمون
73 - أي لا يفوزون بمطلوب ولا ينجون عن محذور وحاصل كلام موسى عليه السلام ربي أعلم منكم بحال من أهله سبحانه للفلاح الأعظم حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبيء الساحرين
(20/79)

ولاولا يفلح عنده الظالمون وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري قاله اللعين بعدما جمع السحرة وتصدى للمعارضة والظاهر أنه أراد حقيقة ما يدل عليه كلامه وهو نفي علمه باله غيره دون وجوده فان عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه ولم يجزم بالعدم بأن يقول : ليس لكم إله غيري مع أن كلا من هذا وما قاله كذب لأن ظاهر قول موسى عليه السلام له لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر يقتضي أنه كان عالما بأن إلههم غيره وما تركه أوفق ظاهرا بما قصده من تبعيد قومه عن اتباع موسى عليه السلام اختيارا لدسيسة شيطانية وهو إظهار أنه منصف في الجملة ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في امر الإله وتسليمهم إياه له اعتمادا على ما رأوا من إنصافه فكأنه قال ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى والأمر محتمل وسأحقق لكم ذلك
فأوقد لي يا هامان على الطين أي اصنع لي آجرا فاجعل لي منه صرحا أي بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر لعلي أطلع أي اطلع وأصعد فافتعل بمعنى الفعل المجرد كما في البحر وغيره إلى إله موسى الذي يذكر أنه إلهه وإله العالمين كأنه يوهم قومه أنه تعالى لو كان كما يقول موسى لكان جسما في السماء كون الاجسام فيها يمكن الرقي اليه ثم قال : وإني لأظنه من الكاذبين فيما يذكر تأكيدا لما أراد وإعلاما بأن ترجيه الصعود إلى إله موسى عليه السلام ليس لأنه جازم بأنه هناك والأمر بجعل الصرح وبنائه لا يدل على أنه بني وقد اختلف في ذلك فقيل بناه وذكر من وصفه ما الله عز و جل أعلم به وقيل لم يبن وعلى هذا يكون قوله ذلك وأمره للتلبيس على قومه وإيهامه إياهم أنه بصدد تحقيق الأمر ويكون ما ذكر ذكرا لأحد طرق التحقق فيتمكن من أن يقول بعده حققت الامر بطريق آخر فعلمت أن ليس لكم إله غيري وأن موسى كاذب فيما يقول وعلى الاول يحتمل أن يكون صعد الصرح وحده أو مع من يأمنه على سره وبقي ما بقي ثم نزل اليهم فقال لهم : صعدت إلى إله موسى وحققت إن ليس الامر كما يقول وعلمت أن ليس لكم اله غيري وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : لما بني له الصرح ارتقى فوقه فأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت اليه وهي متلطخة دما فقال قتلت إله موسى وهذا إن صح من باب التهكم بالفعل ولا أظنه يصح وأيا ما كان فالقوم كانوا في غاية الغباوة والجهل وإفراط العماية والبلادة وإلا لما نفق عليهم مثل هذا الهذيان ولله تعالى خواص في الأزمنة والامكنة والاشخاص ولا يبعد أن يقال كان فيهم من ذوي العقول من يعلم تمويهه وتلبيسه ويعتقد هذيانه فيما يقول إلا أنه نظم نفسه في سلك الجهال ولم يظهر خلافا لما عليه اللعين بحال من الاحوال وذلك إما للرغبة فيما لديه أو للرهبة من سطوته واعتدائه عليه وكم رأينا عاقلا وعالما فاضلا يوافق لذلك الظلمة الجبابرة ويصدقهم فيما يقولون وإن كان مستحيلا أو كفرا بالآخرة
وكان قول اللعين لموسى عليه السلام لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين بعد هذا القول المحكي ههنا بأن يكون قاله وأردفه باخبارهم على البت أن لا إله لهم غيره ثم هدد موسى بالسجن إن بدا منه ما يشعر بخلافه وهذا وجه في الآية لا يخلو عن لطف وإن كان فيه نوع خفاء وفيها أوجه أخر الأول أنه أراد بقوله : ما علمت لكم من إله غيري نفي العلم دون الوجود كما في ذلك الوجه إلا أنه لم ينف الوجود لأنه لم
(20/80)

يكن عنده ما يقتضي الجزم بالعدم وأراد بقوله إني لأظنه من الكاذبين إن لأظنه كاذبا في دعوى الرسالة من الله تعالى وأراد بقوله : يا هامان أوقد لي على الطين الخ إعلام للناس بفساد دعواه تلك بناء على توهمه أنه تعالى ان كان كان في السماء بأنه لو كان رسولا منه تعالى فهو ممن يصل اليه وذلك بالصعود اليه وهو مما لا يقوى عليه الانسان فيكون من نوع المحال بالنسبة اليه فما بني عليه وهي الرسالة منه تعالى مثله فقوله : فاجعل لي صرحا لاظهار عدم امكان الصعود الموقوف عليه صحة دعوى الرسالة في زعمه ولعل للتهكم
الثاني أنه اراد أيضا نفي العلم بالوجود دون الوجود نفسه لكنه كان في نفي العلم ملبسا على قومه كاذبا فيه حيث كان يعلم أن لهم إلها غيره هو إله الخلق أجمعين وهو الله عز و جل وأراد بقوله : وإني الخ اني لأظنه كاذبا في دعوى الرسالة كما في سابقه وأراد بقوله يا هامان الخ طلب أن يجعل له ما يزيل به شكه في الرسالة وذلك بأن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب الدالة على الحوادث الكونية بزعمه فيرى هل فيها ما يدل على ارسال الله تعالى إياه
وتعقب بأنه لا يناسب قوله فأطلع إلى إله موسى إلا أن يراد فأطلع على حكم إله موسى باوضاع الكواكب والنظر فيها هل أرسل موسى كما يقول أم لا فيكون الكلام على تقدير مضاف و إلى فيه بمعنى على وجوز على هذا الوجه أن يكون قد أراد باله موسى الكواكب فكأنه قال لعلي أصعد إلى الكواكب التي هي إله موسى فانظر هل فيها ما يدل على إرسالها إياه أو لعلي أطلع على حكم الكواكب التي هي إله موسى في أمر رسالته وهو كما ترى وبالجملة هذا الوجه مما لا ينبغي أن يلتفت اليه الثالث أنه أراد بنفي علمه باله غيره نفي وجوده وبظنه كاذبا ظنه كاذبا في إثباته الها غيره ويفسر الظن باليقين كما في قول دريد بن الصمة : فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد فاثبات الظن المذكور لا يدفع إرادة ذلك النفي وجوز بعضهم إبقاءه على ظاهره وقال في دفع المنافاة : يمكن أن يقال : الظاهر أن كلامه الأول كان تمويها وتلبيسا على القوم والثاني كان مواضعة مع صاحب سره هامان فاثبات الظن في الثاني لا يدفع أن يكون العلم في الأول لنفي المعلوم وفيه أنه يأبى ذلك سوق الآية والفاء في فأوقد لي وطلبه بناء الصرح راجيا الصعود إلى إله موسى عليه السلام اراد به التهكم كأنه نسب إلى موسى عليه السلام القول بأن إلهه في السماء فقال : يا هامان اجعل لي صرحا لأصعد إلى إله موسى متهكما به وهذا نظير ما إذا أخبرك شخص بحياة زيد وأنه في داره وأنت تعلم خلاف ذلك فتقول لغلامك بعد أن تذكر علمك بما يخالف قوله متهكما به يا غلام اسرج لي الدابة لعلي أذهب إلى فلان واستأنس به بل ما قاله فرعون أظهر في التهكم مما ذكر فطلبه بناء الصرح بناء على هذا لا يكون منافيا لما ادعاه أولا وآخرا من العلم واليقين
وقال بعضهم في دفع ما قيل : من المنافاة : إنها إنما تكون لو لم يكن قوله : لعلي أطلع الخ على طريق التسليم والتنزل : إن اللعين كان مشركا يعتقد أن من ملك قطرا كان إلهه ومعبود أهله فما أثبته في قوله : لعلى أطلع الخ الإله لغير مملكته وما نفاه الهها كما يشير اليه قوله لكم ولا يخلو عن بحث
وفي الكشاف القول بالمناقضة بين بناء الصرح وما ادعاه من العلم واليقين إلا أنه قال قد خفيت على قومه
(20/81)

لغباوتهم وبلههم او لم تخف عليهم ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه وإذا فتح هذا الباب جاز ابقاء الظن على ظاهره من غير حاجة إلى دفع التناقض والاولى عندي السعي في دفع التناقض فاذا لم يكن استند في ارتكاب المخذول إياه إلى جهله أو سفهه وعدم مبالاته بالقوم لغباوتهم أو خوفهم منه أو نحو ذلك واعترض القول بأنه أراد بنفي علمه باله غيره نفي وجوده فقال في التحقيق : وذكره غيره أيضا إنه غير سديد فان عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه لا سيما عدم علم شخص واحد وقال القاضي البيضاوي : هذا في العلوم الفعلية صحيح لأنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفاؤها ولا كذلك العلوم الانفعالية ورد بأن غرض قائل ذلك أن عدم الوجود سبب لعدم العلم بالوجود في الجملة ولا شك أنه كذلك فاطلق المسبب وأريد السبب لا أن بينهما ملازمة كلية على أنه لما كان من أقوى أسباب عدم العلم لأنه المطرد جاز أن يطلق ويراد به الوجود إذ لا يشترط في فن البلاغة اللزوم العقلي بل العادي والعرفي كاف أيضا وقد يقول أحد منا لا أعلم ذلك أي لو كان موجودا لعلمته إذا قامت قرينة وهذا الاستعمال شائع في عرفي العرب والعجم عند العامة والخاصة ومنه قول المزكي : إذا سئل عن عدالة الشهود لا أعلم كيف وكان المخذول يدعي الالهية ثم الظاهر أن الكلام على تقدير إرادة نفي الوجود كناية لا مجاز وبالجملة ما ذكر وجه وجيه وتعيين الاوجه مفوض إلى ذهنك والله تعالى الموفق
واستدل بعض من يقول : إن الله تعالى في السماء بالمعنى الذي أراده سبحانه في قوله عز و جل : أأمنتم من في السماء حسبما يقول السلف بهذه الآية ووجه ذلك بأن فرعون لو لم يسمع من موسى عليه السلام أن إلهه في السماء لما قال : فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى فقوله ذلك دليل السماع إلا أنه أخطأ في فهم المراد مما سمعه فزعم أن كونه تعالى في السماء بطريق المظروفية والتمكن ونحوهما مما يكون للاجسام وأنت تعلم ان هذا الاستدلال في غاية الضعف واثبات مذهب السلف لا يحتاج إلى أن يتمسك له بمثل ذلك وفي قول المخذول : أوقد لي على الطين والمراد به اللبن دون اصنع لي آجرا اشارة إلى أنه لم يكن لهامان علم بصنعة الآجر فأمره باتخاذه على وجه يتضمن التعليم وفي الآثار ما يؤيد ذلك فقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال فرعون أول من طبخ الآجر وصنع له الصرح وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال ما علمت ان أحدا بنى بالآجر غير فرعون وفي أمره إياه وهو وزيره ورديفه بعمل السفلة من الايقاد على الطين مناديا له باسمه دون تكنية وتلقيب بيا دون ما يدل على القرب في وسط الكلام دون أوله من الدلالة على تجبره وتعظمه ما لا يخفى
واستكبر هو وجنوده أي رأوا كل من سواهم حقيرا بالاضافة اليهم ولم يروا العظمة والكبرياء الا لأنفسهم فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك إلى العبيد في الأرض الاكثرون على أن المراد في أرض مصر وقيل : المراد بها الجرم المعروف المقابل للسماء وفيه التقييد بها تشنيع عليهم حيث استكبروا فيما هو أسفل الاجرام وكان اللائق بهم أن ينظروا إلى محلهم وتسفله فلا يستكبروا بغير الحق أي بعير الاستحقاق لما أن رؤيتهم تلك باطلة ولا تكون رؤية الكل حقيرا بالاضافة إلى الرائي ورؤية العظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره حقا إلا من الله عز و جل ومن هنا قال الزمخشري : الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وكل مستكبر سواه
(20/82)

عز و جل فاستكباره بغير الحق وفي الحديث القدسي الكبرياء ردائي والعظمة ازاري فمن نازعني واحد منهما القيته في النار وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون
93
- بالبعث للجزاء والظن قيل : إما على ظاهره أو عبر عن اعتقادهم به تحقيرا لهم وتمهيلا وقرأ حمزة والكسائي ونافع لا يرجعون بفتح الياء وكسر الجيم
فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم أي القيناهم وأغرقناهم فيه وقد مر تفصيل ذلك وفي التعبير بالنبذ وهو إلقاء الشيء الحقير وطرحه لقلة الاعتداد به ولذلك قال الشاعر : نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا من نعالك باليا استحقارا لهم وفي الكلام على ما قيل استعارة مكنية وتخييلية وذلك أنهم شبهوا في الحقارة بنعال بالية واستعير لهم اسم النعال ثم حذف المستعار وبقي المستعار له وجعل النبذ قرينة على أنه حقيقة والمجاز في التعلق على نحو ما قيل في إظفار المنية نشبت بفلان وقال بعضهم : الأخذ وهو حقيقة في التناول مجاز عن خلق الداعية لهم إلى السير إلى البحر والنبذ مجاز عن خلق الداعية لهم إلى دخوله وفي البحر أنه كناية عن ادخالهم فيه والاولى أن يكون الكلام من باب التمثيل كأنه عز و جل فيما فعل بهم أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم والظاهر أن الفاء الاولى سببية وليست لمجرد التعقيب وأما الثانية فللتعقيب إذا أبقي الاخذ على معنى التناول أو أريد به خلق الداعية إلى السير أو نحوه أما إدا أريد به الاهلاك فهي للتفسير كما في فاستجبنا له فنجيناه ونحوه فانظر يا محمد كيف كان عاقبة الظالمين
4
- وبينها للناس ليعتبروا بها وجعلناهم أي خلقناهم أئمة قدوة للضلال بسبب حملهم لهم على الضلال كما يؤذن بذلك قوله تعالى : يدعون إلى النارج أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي على أن النار مجاز عن ذلك أو على تقدير مضاف والمراد جعلهم ضالين مضلين والجعل هنا مثله في قوله تعالى : جعل الظلمات والنار والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الخير والشر مخلوقان لله عز و جل وأولهما المعتزلة تارة بأن الجعل فيها بمعنى التسمية مثله في قوله تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن اناثا أي وسميناهم فيما بين الامم بعدهم دعاة إلى النار وتارة بأن جعلهم كذلك بمعنى خذلانهم ومنعهم من اللطف والتوفيق للهداية والاول محكي عن الجبائي والثاني عن الكعبي وعن أبي مسلم أن المراد صيرناهم بتعجل العذاب لهم أئمة أي متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار وهذا في غاية التعسف كما لا يخفى ويوم القيامة لا ينصرون
14
- بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه واتبعناهم في هذه الدنيا التي فتنتهم لعنة طردا وابعادا أو لعنا من اللاعنين حيث لا تزال الملائكة عليهم السلام تلعنهم وكذا المؤمنون خلفا عن سلف وذلك إما بدخولهم في عموم من يلعنوهم من الظالمين وإما بالتنصيص عليهم نحو لعن الله تعالى فرعون وجنوده ويوم القيامة هم من المقبوحين من المطرودين المبعدين يقال : قبحه الله تعالى بالتخفيف أي نحاه وأبعده عن كل خير كما قال الليث ولا يتكرر مع اللعنة المذكورة قيل : لأن معناها الطرد أيضا لأن في الدنيا وهذا في الآخرة أو ذاك طرد عن رحمته التي في الدنيا وهذا طرد عن الجنة أو على هذا يراد باللعنة فيما تقدم ما تأخر مع أن من المطرودين معناه أنهم من الزمرة المعروفين بذلك وهو أبلغ وأخص وقال أبو عبيدة والاخفش من المقبوحين أي من المهلكين وعن ابن عباس أي من المشوهين في
(20/83)

الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وهذا المعنى هو المتبادر إلا أن فيه أن فعل قبح عليه لازم فبناء اسم المفعول منه غير ظاهر وقد يقال : إذا صح هذا التفسير عن ابن عباس التزم القول بأنه سمع أيضا وجوز أن يكون ذلك تفسيرا بما هو لازم في الجملة ويوم القيامة متعلق بالمقبوحين أو بمحذوف يفسره ذلك على ما علمت آنفا في نظيره وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج وعبد بن حميد عن قتادة ما هو ظاهر في أنه معطوف على هذه الدنيا وهو عطف على المحل والمروي عن ابن جريج أظهر في ذلك وكلاهما في الدر المنثور والظاهر ما سمعته أولا
وهذه الآية أظهر دليل على عدم نجاة فرعون يوم القيامة وأنه ملعون مبعد عن رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة فان ضمائر جمع الغائب فيها راجعة إلى فرعون وجنوده ويكاد ينتظم من التزم ارجاعها إلى الجنود في الجنود وفي الفتاوي الحديثية للعلامة ابن حجر روى عدي والطبراني عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه و سلم قال : خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن امه كافرا
ولقد ءاتينا موسى الكتاب أي التوراة وهو على ما قال أبو حيان أول كتاب فصلت فيه الاحكام من بعد ما أهلكنا القرون الاولى أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام والتعرض لكون إيتائها بعد إهلاكهم للاشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة اليها تمهيدا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القران الكريم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فان إهلاك القرون الاولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى إختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعيين للتشريع الجديد بتقرير الاصول الباقية على ممر الدهور وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الامم الخالية الموجبة للاعتبار ومن غفل عن هذا قال : الأولى ان تفسر القرون الاولى بمن لم يؤمن بموسى عليه السلام ويقابلها الثانية وهي من آمن به عليه السلام وقيل : المراد بها ما يعم من لم يؤمن بموسى من فرعون وجنوده والامم المهلكة من قبل وليس بذاك وما مصدريةأي آتيناه ذلك بعد إهلاكنا القرون الاولى بصائر للناس أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتمييز بين الحق والباطل حيث كانت عميا عن الفهم والادراك بالكلية فان البصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن نور العين الذي به تبصر ويطلق على نفس العين ويجمع على أبصار والاول يجمع على بصائر والمراد بالناس قيل أمته عليه السلام وقيل ما يعمهم ومن بعدهم وكون التوراة بصائر لمن بعث اليه نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لتضمنها ما يرشدهم إلى حقية بعثته عليه الصلاة و السلام أو يزيدهم علما إلى علمهم وتعقب بأنه يلزم على هذا الحض على مطالعة التوراة والعلم بما فيها وقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد علما إلى علمه فغضب صلى الله تعالى عليه وسلم حتى عرف في وجهه ثم قال : لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي فرمى عمر رضي الله تعالى عنه من يده وندم على ذلك
وأجيب بأن غضبه صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك لما أن التوراة التي بأيدي اليهود إذ ذاك كانت محرفة وفيها الزيادة والنقص وليست عين التوراة التي انزلت على موسى عليه السلام وكان الناس حديثي عهد بكفر فلو فتح باب المراجعة إلى التوراة ومطالعتها في ذلك الزمان لأذى إلى فساد عظيم فالنهي عن قراءتها حيث الاسلام حديث والخروج عن الكفر جديد لا يدل على أنها ليست في نفسها بصائر مشتملة على ما يرشد إلى حقية بعثته
(20/84)

صلى الله تعالى عليه وسلم ويزيد علما بصحة ما جاء به ومما يدل على حل الرجوع اليها في الجملة قوله تعالى : قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين وقد كان المومنون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الاحبار ينقلون منها ما ينقلون من الاخبار ولم ينكر ذلك ولا سماعه أحد من اساطين الاسلام ولا فرق بين سماع ما ينقلونه منهم وبين قراءته فيها وأخذه منها وقد رجع اليها غير واحد من العلماء في الزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض عباراتها حقية بعثته صلى الله تعالى عليه وسلم والذي أميل اليه كون المراد بالناس بني إسرائيل فانه الذي يقتضيه المقام
وأما مطالعة التوراة فالبحث فيها طويل وفي تحفة المحتاج للمولى العلامة ابن حجر عليه الرحمة يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة علم تبدلها أو شك فيه وهو أقرب إلى التحقيق ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا وهو المعول عليه وهدى أي إلى الشرائع التي هي الطرق الموصلة إلى الله عز و جل ورحمة حيث ينال من عمل به رحمة الله تعالى بمقتضى وعده سبحانه فعموم رحمته بهذا المعنى لا ينافي أن من الناس من هو كافر بها وهو غير مرحوم وانتصاب المتعاطفات على الحالية من الكتاب على أنه نفس البصائر والهدى والرحمة أو على حذف المضاف أي ذا بصائر الخ وجوز أبو البقاء انتصابها على العلة أي آتيناه الكتاب لبصائر وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون
34
- أي كي يتذكروا بناء على أن لعل للتعليل فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال لعل في القرآن بمعنى كي غير آية في الشعراء لعلكم تخلدون وحكى الواقدي عن البغوي أنه قال جميع ما في القرآن من لعل للتعليل الا لعلكم تخلدون فانها فيه للتشبيه والمشهور أنها للترجي ولما كان محالا عليه عز و جل جعل بعضهم الكلام من باب التمثيل والمراد آتيناه ذلك ليكونواعلى حالة قابلة للتذكر كحال من يرجى منه الخير وبعض آخر صرف الترجي إلى المخاطبين فهو منهم لا منه تعالى وجعل الزمخشري في ذلك استعارة تبعية حيث شبه الارادة بالترجي لكون كل منهما طلب الوقوع ورد بأن فيه لزوم تخلف مراد الله تعالى عن ارادته لعدم تذكر الكل إلا أن يكون من قبيل اسناد ما للبعض إلى الكل وأنت تعلم ان الارادة عند المعتزلة قسمان : تفويضية وهي قد يتخلف المراد عنها وقسرية وهي لا يتخلف المراد عنها أصلا فمتى أريد القسم الاول منها هنا زال الاشكال إلا أن التقسيم المذكور خلاف المذهب الحق وما كنت بجانب الغربي شروع في بيان أن انزال القرآن الكريم أيضا واقع زمان مساس الحاجة اليه واقتضاء الحكمة له البتة متضمنا تحقيق كونه وحيا صادقا من عند الله تعالى بيان أن الوقوف على ما فصل من الاحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها وحيث انتفى كلاهما تبين أنه بوحي من علام الغيوب لا محالة كذا قيل : ولا يخفى أن تعين كونه بوحي لا يتم بنفي كونه بالاستفاضة وكونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب المعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال المشركون : إنما يعلمه بشر ولعله إنما لم يتعرض لنفي ذلك وتعرض لنفي ما هو أظهر انتفاء منه للاشارة إلى ظهور انتفاء ذلك والمبالغة في دعوى ذلك حيث آذن بان المحتاج إلى الاخبار بانتفائه ذأنك الامران دونه على أنه عز و جل قد نفى في
(20/85)

موضعموضع آخر كونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب ولعله يعلم منه انتفاء كونه بالاسفاضة وإن قلنا : إنه لا يعلم فدليله ظاهر جدا ولذا لم يتشبث بكون الوقوف بها أحد من المشركين فتدبر والمعنى على ما ذهب اليه بعضهم وما كنت حاضرا بجانب الجبل الغربي او المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات واعطى الله تعالى فيه ألواح التوراة لموسى عليه السلام والكلام على هذا من باب حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وهو عند قوم من باب اضافة الموصوف إلى الصفة التي جوزها الكوفيون كما في مسجد الجامع والاصل في الجانب الغربي فيتحد الجانب والغربي على هذا الوجه وهو بعض من الغربي على الوجه الاول
إذ قضينا إلى موسى الأمر أي عهدنا اليه وأحكمنا أمر نبوته بالوحي وإيتاء التوراة وما كنت من الشاهدين أي من جملة الحاضرين للوحي اليه أو الشاهدين على الوحي اليه عليه السلام وهم السبعون المختارون للميقات حتى تشاهد ما جرى من أمر موسى في ميقاته فتخبر به الناس فالشاهد من الشهادة إما بمعنى الحضور أو بمعناها المعروف واستشكل إرادة المعنى الاول بلزوم التكرار فانه قد نفى الحضور أولا في قوله تعالى : وما كنت بجانب الغربي وكذا إرادة المعنى الثاني بلزوم نحو ذلك لما أن نفي الحضور يستدعي نفي كونه من الشاهدين بذلك المعنى ومن هنا قيل : المراد من الاول نفي كونه صلى الله عليه و سلم حاضرا بنفسه لغرض من الأغراض ومن الثاني نفي كونه عليه الصلاة و السلام من جماعة جيء بهم ليحضروا فيطلعوا على ما يقع هناك لموسى عليه السلام لأن المراد بالشاهدين جماعة معهودون كان حالهم ذلك
وقيل : المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام فقد جاء الشاهد اسما للملك كما في القاموس فكأنه قيل : ما كنت حاضرا بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمر نبوته بالوحي وما كنت من الملائكة الدين ينزلون ويصعدون بأمر الله ووحيه إلى أنبيائه عليهم السلام ولهم من الاطلاع على الحوادث ما ليس لغيرهم من البشر حتى يكون لك علم بما وقع لموسى عليه السلام فتخبر به الناس
وقال ابن عباس كما في التفسير الكبير والبحر : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت لما شاهدت تلك الوقائع فانه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى وقيل : وهو مختار أبي حيان إن المعنى وما كنت من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به فهو نفي لشهادته عليه الصلاة و السلام جميع ما جرى لموسى عليه السلام فكان عموما بعد خصوص وقيل : المراد وما كنت من الشاهدين ذلك الزمان فيكون نفيا لحضوره ومشاهدته ذلك الزمان أعم من أن يكون بجانب الغربي أو بغيره وحاصله نفي الوجود العيني إذ ذاك فيكون ترقيا في النفي
وقيل المراد وما كنت إذ ذاك منتظما في سلك من يتصف بالشهادة وهو الموجودون بالوجود العيني أينما كانوا ومآله كمآل ما قبله وإن اختلفا في طريق الإرادة وتعين كون الشهادة فيما قبله بمعنى الحضور ولعل ما قبله أظهر منه بل إذا ادعى مدع كونه أظهر من جميع ما قيل لم يبعد هذا ولا يخفى عليك حال تلك الأقوال وما فيها من القيل والقال وفي القلب من صحة نسبة ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اليه ما فيه فتدبر جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك ولكنا أنشأنا قرونا أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا كثيرة فتطاول عليهم العمر وتمادى الأمد فتغيرت الشرائع والاحكام وعميت عليهم الانباء
(20/86)

لاسيما على آخرهم الذين أنت فيهم فاقتضت الحكمة التشريع الجديد وقص الانباء على ما هي عليه فأوحينا اليك وقصصنا الانباء عليك فحذف المستدرك أعني أوحينا اكتفاء بذكر ما يوجبه ويدل عليه من إنشاء القرون وتطاول الأمد وخلاصة المعنى لم تكن حاضرا لتعلم ذلك ولكن علمته بالوحي والسبب فيه تطاول الزمن حتى تغيرت الشرائع وعميت الانباء وقوله تعالى : وما كنت ثاويا أي مقيما في أهل مدين وهم شعيب عليه السلام والمؤمنون نفي لاحتمال كون معرفته صلى الله تعالى عليه وسلم لبعض ما تقدم من القصة بالسماع ممن شاهد ذلك وقوله سبحانه تتلو عليهم أي تقرأ على أهل مدين بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم الدرس على معلمه آياتنا الناطقة بما كان موسى عليه السلام بينهم وبما كان لهم معه إما حال من المستكن في ثاويا أو خبر ثان لكنت ولكنا كنا مرسلين لك وموحين اليك تلك الآيات ونظائرها والاستدراك كالاستدراك السابق إلا أنه لا حذف فيه وما كنت بجانب الطور إذ نادينا أي وقت ندائنا موسى إني أن الله رب العالمين واستنبائنا إياه وارسالنا له إلى فرعون ولكن رحمة من ربك أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وغيره لرحمة كائنة منا لك وللناس
وقيل أي علمناك رحمة ولعل الرحمة عليه مفعول ثان لعلم والمراد بها القرآن وليست مفعولا له والمفعول الثاني ما ذكر من القصة لما ستعرفه قريبا ان شاء الله تعالى وأما جعلها منصوبة على المصدرية لفعل محذوف فحاله غني عن البيان والالتفات إلى اسم الرب للاشعار بأن ذلك من آثار الربوبية وتشريفه عليه الصلاة و السلام بالأضافة وقد اكتفى ههنا عن ذكر المستدرك بذكر ما يوجبه من جهته تعالى كما اكتفى في الاول بذكر ما يوجبه من جهة الناس وصرح به فيما بينهما تنصيصا على ما هو المقصود وإشعارا بأنه المراد فيهما أيضا ولله تعالى در شأن التنزيل وقوله سبحانه : لتنذر قوما متعلق بالفعل المعلل بالرحمة وهو يستدعي أن يكون الارسال بالقرآن أو ما في معناه كتعليم القرآن دون تعليم ما ذكر من القصة إذ لا يظهر حسن تعليله بالانذار وجوز أن يتعلق بالمستدركات الثلاث على التنازع
وقرا عيسى وأبو حيوة رحمة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير ولكن هو أو هذا أو هي أو هذه رحمة والضمير أو الاشارة قيل للارسال المفهوم من الكلام والتذكير والتأنيث باعتبار المرجع والخبر والخلاف في الاولى مشهور وجوز أبو حيان أن يكون التقدير ولكن أنت رحمة ولتنذر على هذه القراءة متعلق بما هو صفة لرحمة وقوله جل وعلا : ما أتاهم من نذير من قبلك صفة لقوما و من الاولى مزيدة للتأكيد وقوله تعالى : لعلهم يتذكرون
64
- أي يتعظون بانذارك تعليل للانذار على القول بأن لعل للتعليل وأما على القول بأنها للترجي حقيقة أو مجازا فقيل هو في موضع الصفة بتقدير القول أي لتنذر قوما مقولا فيهم لعلهم يتذكرون والمراد بهؤلاء القوم قيل العرب وظاهر الآية أنهم لم يبعث اليهم رسول قبل نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أصلا وليس بمراد للاتفاق على أن اسماعيل عليه السلام كان مرسلا اليهم وكأنه لتطاول الامد بين بعثته عليه السلام وبعثة نبينا عليه الصلاة و السلام إذ بينهما أكثر من الفي سنة بكثير واندراس شرعه وعدم وقوف
(20/87)

الاكثرين في أغلب هذ المدة على حقيقته قيل : ذلك وقيل : إن ذلك لما صرحوا به من أن حكم بعثة اسماعيل عليه السلام قد انقطع بموته وأنه لم يرسل اليهم بعده بني سوى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال العلامة بان حجر في المنح المكية : من المقرر أن العرب لم يرسل اليهم رسول بعد اسماعيل عليه الصلاة و السلام وان اسماعيل انتهت رسالته بموته وادعى قبيل هذا الاتفاق على أن إبراهيم عليه السلام ومن بعده أي سوى اسماعيل عليه السلام لم يرسلوا للعرب ورسالة اسماعيل اليهم انتهت بموته اه فكأنه لقلة لبث اسماعيل عليه السلام فيهم وانقطاع حكم رسالته بعد وفاته فيما بينهم وبقاتهم الامد الطويل بغير رسول مبعوث فيهم في اتيان النذير إياهم من قبله صلى الله عليه و سلم
وذكر العلامة ابن حجر في المنح أيضا ما يفيد أن كل رسول ممن عدا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم تنقطع رسالته بموته وليس ذلك خاصا باسماعيل عليه السلام ويفهم من كلام العز بن عبد السلام في أماليه أن هذا الانقطاع ليس على إطلاقه فقد قال : فائدة كل نبي إنما ارسل إلى قومه إلا سيدنا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فعلى هذا يكون ما عدا قوم كل نبي من أهل الفترة الا ذرية النبي السابق عليه فانهم مخاطبون ببعثة السابق إلا أن تدرس شريعة السابق فيصير الكل من اهل الفترة اه
وهو وكذأ ما نقلناه عن العلامة ابن حجر عندي الآن على اعراف الرد والقبول ولعل الله تعالى يشرح صدري بعد لتحقيق الحق في ذلك وقيل : إن موسى وعيسى عليهما السلام كما ارسلا إلى بني اسرائيل ارسلا للعرب فالمراد بنفي هذا الاتيان الفترة التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام وزمنها على ما روى البخاري عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ستمائة سنة وفي كثير من الكتب أنه خمسمائة وخمسون سنة ونفي اتيان نبي زماني إتيان نبينا واتيان عيسى عليهم الصلاة والسلام هو ما صححه جمع من العلماء لحديث لا نبي بيني وبين عيسى وقال بعضهم : إن بينهما أربعة أنبياء ثلاثة من بني اسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان وقيل : غير ذلك واختار البعض أن المراد بهؤلاء القوم العرب المعاصرون له صلى الله تعالى عليه وسلم إذ هم الذين يتصور انذاره عليه الصلاة و السلام إياهم دون اسلافهم الماضين ولعله الأظهر وعدم إتيان نذير إياهم من قبله صلى الله تعالى عليه وسلم على القول بانتهاء حكم رسالة الرسول سوى نبينا عليه الصلاة و السلام بموته ظاهر وأما إذا قيل : بعدم انتهائه بذلك وبقائه حكما لرسالة الرسول يجب على من علمه من ذراري المرسل اليهم الأخذ به من حيث إنه حكم من أحكام ذلك الرسول إلى أن يأتي رسول آخر فيؤخذ به من حيث إنه حكم من أحكامه أو على الوجه الذي يأمر به فيه من النسبة اليه أو من نسبته إلى من قبله يترك إن جاء الثاني ناسخا له فالمراد بعدم اتيان النذير إياهم عدم وصول ما أتي على الحقيقة اليهم ولا يمكنأن يراد بهؤلاء القوم العرب مطلقا ويقال : بأنهم لم يرسل اليهم قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحد أصلا لظهور بطلانه ومنافاته لقوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير والعرب أعظم أمة وكذا لقوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم بناء على أن ما فيه ليست نافية وهو على القول بأن ما فيه نافية مؤول بحمل الآباء على الآباء الأقربين ولا يكاد يجوز فيما ههنا ما جاز فيها من الاحتمال في آية يس بل المتعين فيها النفي ليس غير وتكلف غيره مما لا ينبغي في كتاب الله تعالى والنذير بمعنى المنذر واحتمال كونه مصدرا بمعنى الانذأر مما لاينبغي أن يلتفت اليه وتغيير الترتيب الوقوعي بين قضاء الامر بمعنى احكام أمر نبوة موسى عليه السلام بالوحي وإيتاء التوراة وثوائه عليه السلام في أهل مدين المشار اليه بقوله تعالى : وما كنت ثاويا في أهل مدين والنداء
(20/88)

للتنبيه على أن كلا من ذلك برهان مستقل على أن حكايته عليه الصلاة و السلام للقصة بطريق الوحي الالهي ولو روعي الترتيب الوقوعي ونفي أولا الثواء في أهل مدين ونفي ثانيا الحضور عند النداء ونفي ثالثا الحضور عند قضاء الأمر لربما توهم أن الكل دليل واحد على ما ذكر كما مر في قصة البقرة ومن الناس من فسر قضاء الامر بالاستنباء والنداء بالنداء لأخذ التوراة بقوله تعالى : خذ الكتاب بقوة رعاية للترتيب الوقوعي بينهما وتعقب بأنه يفوت عليه التنبيه المذكور مع أنه بهذا القدر لا يرتفع تغيير الترتيب الوقوعي بالكلية بين المتعاطفات لأن الثواء في أهل مدين متقدم على القضاء والنداء في الواقع وقد وسط في النظم الكريم بينهما وأيضا ما تقدم من تفسير كل من القضاء والنداء بما فير أنسب بما يلي كلا من الاستدراك ومما يستغرب أن بعض من فسر ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي فسر الشاهدين بالسبعين المختارين للميقات ولا يكاد يتسنى ذلك عليه لأنهم إنما كانوا مع موسى عليه السلام لما اعطي التوراة فكان عليه أن يفسره بغير ذلك وقد تقدم لك عدة تفاسير لا يأبى شيء منها تفسير ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي وجوز على التفسير بما يوافق كون المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام الذين كانوا حول النار فان الآثار ناطقة بحضورهم حولها عند ما أتاها موسى عليه السلام وكذا قوله تعالى أن بورك من في النار ومن وحولها في قول هذا وفي الآيات تفسيرات أخر فقال الفراء في قوله تعالى : وكانت ثاويا الخ أي وما كنت مقيما في أهل مدين مع موسى عليه السلام فتراه وتسمع كلامه وها أنت تتلو عليهم أي على أمتك آياتنا فهو منقطع اه ونحوه ما روي عن مقاتل فيه وهو أن المعنى لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا اليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمت وقال الضحاك : يقول سبحانه إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم آيات الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الانبياء اه ولا يخفى أن ما قدمنا أولى بالاعتبار وذهب جمع إلى أن النداء في قوله تعالى : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا كان نداء فيما يتعلق بهذ الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وذكروا عدة آثار تدل على ذلك
أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن أبي هريرة قال في ذلك نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني واستجبت لكم قبل أن تدعوني وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا وأخرج هو أيضا وأبو نعيم في الدلائل وأبو نصر السجزي في الابانة والديلمي عن عمرو بن عيينة قال سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك ما كان النداء وما كانت الرحمة قال كتاب كتبه الله تعالى قبل أن يخلق خلقه بالفي عام ثم وضعه على عرشه ثم نادى يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أذخلته الجنة
وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا مثله وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لما قرب الله تعالى موسى إلى طور سيناء نجيا قال : أي رب هل أجد أكرم عليك مني قربتني نجيا وكلمتني تكليما قال : نعم محمد عليه الصلاة و السلام أكرم منك
(20/89)

قال : قال : فان كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني اسرائيل فلقت البحر لهم وأنجيتهم من فرعون وعمله وأظعمتهم المن والسلوى قال : نعم أمة محمد عليه الصلاة و السلام أكرم علي من بني اسرائيل قال إلهي أرنيهم قال : إنك لن تراهم وإن شئت اسمعتك صوتهم قال : نعم إلهي فنادى ربنا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أجيبوا ربكم قال : فأجابو وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا : لبيك انت ربنا حقا ونحن عبيدك حقا قال : صدقتم أنا ربكم حقا وأنت عبيدي حقا قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة قال ابن عباس فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يمن عليه بما أعطاه ومما أعطى أمته فقال يا محمد : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا واستشكل ذلك بانه معنى لا يناسب المقام ولا تكاد ترتبط الآيات عليه ولا بد لصحة هذ الأخبار من دليل وتصحيح الحاكم لا يخفى حاله وقال بعض : يمكن أن يقال على تقدير صحة الأخبار إن المراد وما كنت حاضرا مع موسى عليه السلام بجانب الطور لتقف على أحواله فتخبر بها الناس ولكن ارسلناك بالقرآن الناطق بذلك وبغيره رحمة منا لك وللناس والتوقيت بنداء أمته ليس لكون المخبر به ما كان من ذلك بل لإدخال المسرة عليه عليه الصلاة و السلام فيما يعود اليه وإلى أمته وفيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم مما يكون من أمة الدعوى من الكفر به عليه الصلاة و السلام والاباء عن شريعته وتلويح ما إلى مضمون فان يكفر بها هؤلاء وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين وحينئذ ترتبط الآيات بعضها ببعض ارتباطا ظاهر فتأمل ولولا أن تصيبهم مصيبة أي عقوبة وهي على ما نقل عن أبي مسلم عذاب الدنيا والآخرة وقيل : عذاب الاستئصال بما قدمت أيديهم أي بما اقترفوا من الكفر والمعاصي ويعبر عن كل الاعمال وإن لم تصدر عن الايدي باجتراح الايدي وتقديم الأيدي لما أن أكثر الاعمال تزاول بها فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا أي هلا أرسلت إلينا رسولا مؤيدا من عندك بالآيات فنتبع ءاياتك الظأهرة على يده ونكون من المؤمنين
74
- بما جاء به ولولا الثانية تحضيضية كما أشرنا اليه وقوله تعالى : فنتبع جوابها ولكون التحضيض طلبا كالأمر أجيبت على نحو ما يجاب وأما الأولى فامتناعية وجوابها محذوف ثقة بدلالة الحال عليه والتقدير لما أرسلناك والفاء في فيقولوا عاطفة ليقول على تصيبهم والمقصود بالسببية لانتفاء الجواب والركن الأصيل فيها قولهم ذلك إذا أصابتهم مصيبة فالمعنى لولا قولهم إذا عوقبوا بما اقترفوا هلا أرسلت الينا رسولا فنتبعه ونكون من المؤمنين لما ارسلناك اليهم لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت كأنها سبب الارسال بواسطة القول فأدخلت عليها لولا وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ونكتة إيثار الارسال بواسطة القول فأدخلت عليها لولا وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ونكتة إيثار هذا الاسلوب وعدم جعل العقوبة قيدا مجردا أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين لم يقولوا لولا أرسلت الينا رسولا وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الايمان بخالقهم وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لايخفى كقوله تعالى
(20/90)

: : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه هذا ما أراده صاحب الكشاف وليس في الكلام عليه تقدير مضاف كما هو الظاهر
وذهب بعضهم إلى أن الكلام على تقدير مضاف أي كراهة أن تصيبهم الخ فالسبب للارسال إنما هو كراهة ذلك لما فيه من إلزام الحجة ولله تعالى الحجة البالغة وهذه الكراهة مما لا ريب في تحققها الذي تقتضيه لولا ودفعوا بهذا التقدير لزوم تحقق الاصابة والقول المذكور وانتفاء عدم الارسال كما هو مقتضى لولا وفي ذلك ما فيه وقال ابن المنير : التحقق عندي أن لولا ليست كما قال النحاة تدل على أن مابعدها موجود أو أن جوابها ممتنع والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها عكس أو ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا وما في الآية من الثاني فلا اشكال فيها واستدل بالآية على أن قول من لم يرسل اليه رسول أن عذب : ربي لولا أرسلت إلي رسولا مما يصلح للاحتجاج وإلا لما صلح لأن يكون سببا للارسال وفي ذلك دلالة على أن العقل لا يغني عن الرسول والبحث في ذلك شهير والكلام فيه كثير فلما جاءهم أي اولئك القوم والمراد بهم هنا أهل مكة الموجودون عند البعثة وضمائر الجمع الآتية كلها راجعة اليهم
الحق من عندنا أي الأمر الحق وهو القرآن المنزل عليه عليه الصلاة و السلام قالواتعنتا واقتراحا لولا أوتي يعنونه عليه الصلاة و السلام مثل ما أوتي موسى عليه السلام من الكتاب المنزل جملة وقوله تعالى : أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل رد عليهم وإظهار لكون ما قالوه تعنتا محضا لا طلبا لما يرشدهم إلى الحق ومن قبل متعلق بيكفروا وتعلقه بأوتي لا يظهر له وجه لائح إذ هو تقييد بلا فائدة لأنه معلوم أن ما أوتي موسى عليه السلام من قبل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو من قبل هؤلاء الكفرة نعم أمر الرد عليه على حاله أي ألم يكفروا من قبل هذا القول بما أوتي موسى عليه السلام كما كفروا بهذا الحق وقوله تعالى : قالوا استئناف مسوق لتقرير كفرهم المستفاد من الانكار السابق وبيان كيفيته وقوله تعالى : سحران خبر لمبتدأ محذوف أي هما يعنون ما أوتي نبينا وما أوتي موسى عليهما الصلاة والسلام سحران تظاهرا أي تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر وتأييده إياه وذلك أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأنه عليه الصلاة و السلام فقالوا : لم نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك وقوله تعالى : وقالوا إنا بكل أي بكل واحد من الكتابين كافرون تصريح بكفرهم بهما وتأكيد لكفرهم المفهوم من تسميتهما سحرا وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والظغيان وقرأ الأكثرون ساحران وأراد الكفرة بهما نبينا وموسى عليهما الصلاة والسلام
وقرأ طلحة والاعمش أظاهرا بهمزة الوصل وشد الظاء وكذا في حرف عبد الله وأصله تظاهرا فلما قلبت التاء ظاء وأدغمت سكنت فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بالساكن وقرأ محبوب عن الحسن ويحيى ابن الحرث الذماري وأبو حيوة وأبو خلاد عن اليزيدي تظاهرا بالتاء وتشديد الظاء قال ابن خالويه : وتشديده لحن لأنه فعل ماض وانما يشدد في المضارع وقال صاحب اللوامح : لا أعرف وجهه وقال صاحب الكامل في القراءات لا معنى له وخرج ذلك أبو حيان على أنه مضارع حذفت منه النون بدون ناصب
(20/91)

أو جازم وجاء حذفها كذلك في قليل من الكلام وفي الشعر و ساحران خبر لمبتدأ محذوف وأصل الكلام أنتما ساحران تتظاهران فحذف أنتما وأدغمت التاء في الظاء وحذفت النون وروعي الخطاب ولو قريء يظاهر بالياء حملا على مراعاة ساحران أو على تقديرهما لكان له وجه وكأنهم خاطبوا النبي صلى الله عليه و سلم بذلك وأرادوه وموسى عليهما الصلاة والسلام بأنتما على سبيل التغليب وهذا وتفسير الآية بما ذكر مما لا تكلف فيه ولعله هو الذي يستدعيه جزالة النظم الجليل ويقتضيه اقتضاء ظاهر قوله تعالى : قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أي مما أوتياه من القرآن والتوراة أتبعه أي إن تأتوا به أتبعه فالفعل مجزوم بجواب الأمر ومثل هذا الشرط يأتي به من يدل بوضوح حجته لأن الاتيان بما هو أهدى من الكتابين أمر بين الاستحالة فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والالزام وإيراد كلمة إن في قوله تعالى : إن كنتم صادقين
94
- أي في أنهما سحران مختلقان مع امتناع صدقهم نوع تهكم بهم وقرأ زيد بن علي أتبعه بالرفع على الاستئناف أي أنا أتبعه وقال الزمخشري : الحق الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات يعني أن المقام مقام فلما جاءهم أي الرسول أو فلما جاءهم الرسول لكن عدل عن ذلك لافادة تلك المعاني وما أوتي موسى بما هو أعم من الكتاب المنزل جملة واحدة واليد والعصا وغيرهما من آياته عليه السلام وتعقب بأنه لا تعلق للمعجزات من اليد ونحوها بالمقام وكذا لا تعلق لغير القرآن من معجزات نبينا صلى الله عليه و سلم به ويرشد إلى ذلك ظاهر قوله تعالى قل فأتوا الخ
وجوز أن يكون ضمير جاءهم وقالوا راجعين إلى أهل مكة الموجودين وضمير يكفروا وكذا ضمير قالوا في الموضعين راجع إلى جنس الكفرة المعلوم من السياق والمراد بهم الكفرة الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام ومن قبل متعلق بيكفروا لا بأوتي لعدم ظهور الفائدة والمراد بسحرين أو ساحران موسى وهرون عليهما السلام كما روى مجاهد واطلاق سحرين عليهما للمبالغة أو هو بتقدير ذو سحرين والمعنى أو لم يكفر أبناء جنسهم من قبلهم بما أوتي موسى عليه السلام كما كفروا هم بما اوتيته وقال اولئك الكفرة هما أي موسى وهرون سحران او ساحران تظاهرا وقيل : يجوز أن تكون الضمائر راجعة إلى الموجودين والكفر والقول المذكور لأولئك السابقين حقيقة واسنادهما إلى الموجودين مجازي لما بين الطائفتين من الملابسة
وقيل بناء على ما روي عن الحسن : من أنه كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام إن المعنى أو لم يكفر آباؤهم من قبل أن يرسل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بما أوتي موسى قالوا هما أي موسى وهرون سحران أو ساحران تظاهرا فهو على اسلوب وإذ نجيناكم من آل فرعون ونحوه ويفيد الكلام عليه أن قدمنهم في الكفر من الرسوخ بمكان ولهم في العناد عرق أصيل وكون العرب لهم أصل في أيام موسى عليه السلام مما لا شبهة فيه حتى قيل : إن فرعون كان عربيا من أولاد عاد لكن في حسن تخريج الآية على ذلك كلام وأنت تعلم أن كل هذه الأوجه ليست مما ينشرح له الصدر وفيها من التكلف ما فيها
وادعى أبو حيان ظهور رجوع ضمير يكفروا وكذا ضمير قالوا إلى قريش الذين قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى وأن نسبة ذلك اليهم لما أن تكذيبهم لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم تكذيب لموسى عليه السلام ونسبتهم السحر للرسول نسبتهم إياه لموسى وهرون عليهما السلام إذ الانبياء عليهم السلام من
(20/92)

واد واحد فمن نسب إلى أحد منهم ما لا يليق كان ناسبا ذلك إلى جميعهم فلا يحتاج إلى توسيط حكاية الرهط في أمر النسبة وعليه يجوز أن يراد بكل كل واحد من الانبياء عليهم السلام ولا يخفى أن ما ادعاه من ظهور رجوع الضمير إلى ما ذكر أمر مقبول عند منصفي ذوي العقول لكن توجيه نسبة الكفر والقول المبين لكيفية مما ذكر مما يبعد قبوله وكانه إنما احتاج إليه لعدم ثبوت حكاية الرهط عنده وعن قتادة أنه فسر السحران بالقرآن والانجيل والساحران بمحمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام وجعل ذلك القول قول أعداء الله تعالى اليهود وتفسير الساحرين بذلك مروي عن الحسن وروي عنه أيضا أنه فسرهما بموسى وعيسى عليهما السلام والكل كما ترى وتفسيرهما بمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام مما رواه البخاري في تأريخه وجماعة عن ابن عباس
وأخرج ابن أبي حاتم عن عاصم الجحدري أنه كان يقرأ سحران ويقول هما كتابان الفرقان والتوراة ألا تراه سبحانه يقول : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما فان لم يستجيبوا لك أي فان لم يفعلوا ما كلفتهم به من الاتيان بكتاب أهدى منهما وإنما عبر عنه بالاستجابة إيذانا بأنه عليه الصلاة و السلام على كمال أمن من أمره كان أمره صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بالاتيان بما ذكر دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه
وقيل : المراد فان لم يستجيبوا دعاءك إياهم إلى الايمان بعد ما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي جاءهم فالاستجابة على ظاهرها لأن الايمان أمر يريد صلى الله عليه و سلم حقيقة وقوعه منهم وهي كما في البحر بمعنى الاجابة وتتعدى إلى الداعي باللام كما في هذه الآية وقوله تعالى : فاستجاب له ربه وقوله سبحانه فاستجبنا له وبنفسها كما في بيت الكتاب : وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب وقال الزمخشري : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام وبحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال : استجاب الله تعالى دعاءه أو استجاب له ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه وقوله في البيت فلم يستجبه على حذف مضاف أي فلم يستجب دعاءه انتهى ولو جعل ضمير يستجبه للدعاء المفهوم من داع لم يحتج الى تقدير وجعل المفعول هنا محذوفا لذكر الداعي ووجهه على ما قيل : أنه مع ذكر الداعي والاستجابة يتعين أن المفعول الدعاء فيصير ذكره عبثا وجوز كون الحذف للعلم به من فعله لا لأنه ذكر الداعي وهذا حكم الاستجابة دون الاجابة لقوله تعالى : أجيبوا داعي الله فاعلم أنما يتبعون أهواءهم الزائغة من غير أن يكون لهم متمسك ما أصلا إذا لو كان لهم ذلك لأتوا به ومن أضل ممن اتبع هواه استفهام انكاري للنفي أي لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله أي هو أضل من كل ضال وإن كان ظاهر السبك لنفي الأضل لا لنفي المساوي كما مر في نظائره مرارا وقوله تعالى : بغير هدى في موضع الحال من فاعل اتبع وتقييد الاتباع بذلك لزيادة التقرير والاشباع في التشنيع والتضليل وإلا فمقارنته لهدايته تعالى بينة الاستحالة وقيل : للاحتراز عما يكون فيه هدى منه تعالى فان الانسان قد يتبع هواه ويوافق الحق وفيه بحث إن الله لا يهدي القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم فانهمكوا في اتباع الهوى والاعراض
(20/93)

عنعن الآيات الهادية إلى الحق المبين ولقد وصلنا لهم القول الضمير لأهل مكة وأصل التوصيل ضم قطع الحبل بعضها ببعض قال الشاعر : فقل لبني مروان ما نال ذمتي بحبل ضعيف لا يزال يوصل والمعنى ولقد أنزلنا القرآن عليهم متواصلا بعضه أثر بعض حسبما تقتضيه الحكمة أو متتابعا وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ومواعظ ونصائح وقيل : جعلناه أوصالا أي انواعا مختلفة وعدا ووعيدا الخ وقيل : المعنى وصلنا لهم خبر الآخرة بخبر الدنيا حتى كأنهم عاينوا الآخرة وعن الاخفش أتممنا لهم القول وقرأ الحسن وصلنا بتخفيف الصاد والتضعيف في قراءة الجمهور للتكثير ومن هنا قال الراغب في تفسير ما في الآية عليها أي أكثرنا لهم القول موصولا بعضه ببعض لعلهم يتذكرون
15
- فيؤمنون بما فيه
الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله قبل القرآن على أن الضمير للقول مرادا به القرآن أو للقرآن المفهوم منه وأيا ما كان فالمراد من قبل ايتائه هم لا هؤلاء الذين ذكرت أحوالهم به أي بالقرآن يؤمنون
25
- وقيل : الضميران للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد بالموصول على ما روي عن ابن عباس مؤمنوا أهل الكتاب مطلقا وقيل : هم أبو رفاعة في عشرة من اليهود آمنوا فأوذوا وأخرج ابن مردويه بسند جيد وجماعة عن رفاعة القرظي ما يؤيده وقيل : أربعون من أهل الأنجيل كانوا مؤمنين بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثه اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وثمانية قدموا من الشام بحيرا وأبرهة وأشرف وعامر وايمن وادريس ونافع وتميم وقيل : ابن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي ونسب إلى قتادة واستظهر أبو حيان الاطلاق وأن ماذكر من باب التمثيل لمن آمن من أهل الكتاب
وإذا يتلى أي القرآن عليهم قالوا ءامنا به أي بأنه كلام الله تعالى : إنه الحق من ربنا أي الحق الذي كنا نعرف حقيته وهو استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به وجوز أن تكون الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى : إنا كنا من قبله أي من قبل نزوله مسلمين بيان لكون إيمانهم به أمرا متقادم العهد لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة وأنهم على دين الاسلام قبل نزول القرآن ويكفي في كونهم على دين الاسلام قبل نزوله إيمانهم به إجمالا وفي الكشاف والبحر ان الاسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي والظاهر عليه أن الاسلام ليس من خصوصيات هذه الأمة من بين الأمم وذهب السيوطي عليه الرحمة إلى كونه من الخصوصيات وألف في ذلك كراسة وقال في ذيلها : لما فرغت من تأليف هذه الكراسة واضطجعت على الفراش للنوم ورد علي قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب من قبله الآية فكأنما ألقي علي جبل لما أن ظاهرها الدلالة للقول بعدم الخصوصية وقد أفكرت فيها ساعة ولم يتجه لي فيها شيء فلجأت إلى الله تعالى ورجوت أن يفتح بالجواب عنها فلما استيقضت وقت السحر إذا بالجواب قد فتح فظهر عنها ثلاثة أجوبة : الأول أن مسلمين أسم فاعل مراد به الاستقبال كما هو حقيقة فيه دون الحال والماضي والتمسك بالحقيقة هو الأصل وتقدير الآية إنا كنا من قبل مجيئه عازمين على الاسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا من بعثه ووصفه ويرشح هذا أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الاخبار بحقية القرآن وأنهم كانوا على قصد الاسلام به إذا جاء به النبي صلى الله عليه و سلم وليس
(20/94)

قصدهم الثناء على أنفسهم في حد ذاتهم بأنهم كانوا بصفة الاسلام أولا لنبو المقام عنه كما لا يخفى الثاني أن يقدر في الآية إنا كنا من قبله مسلمين به فوصف الاسلام سببه القرآن لا التوراة والانجيل ويرشح ذلك ذكر الصلة فيما قبل حيث قال سبحانه : هم به يؤمنون فانه يدل على أن الصلة مرادة هنا أيضا إلا أنها حذفت كراهة التكرار الثالث أن هذا الوصف منهم بناء على ما هو مذهب الاشعري من أن من كتب الله تعالى أن يموت مؤمنا فهو يسمى عنده تعالى مؤمنا ولو كان في حال الكفر وإنما لم نطلق نحن هذا الوصف عليه لعدم علمنا بما عنده تعالى فهؤلاء لما ختم الله تعالى لهم بالدخول في الاسلام أخبروا عن أنفسهم أنهم كانوا متصفين به قبل لأن العبرة بهذا الوصف بالخاتمة ووصفهم بذلك أولى من وصف الكافر الذي يعلم الله تعالى أنه يموت على الاسلام به لأنهم كانوا على دين حق وهذا معنى دقيق استفدناه من هذه الآية من قواعد علم الكلام انتهى
ولا يخفى ضعف هذا الجواب وكذا الجواب الأول وأما الجواب الثاني فهو بمعنى ما ذكرناه في الآية وقد ذكره البيضاوي وغيره وجوز أن يراد بالاسلام الانقياد أي إنا كنا من قبل نزوله منقادين لأحكام الله تعالى الناطق بها كتابه المنزل الينا ومنها وجوب الايمان به فنحن مؤمنون به قبل نزوله اولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت يؤتون أجرهم مرتين مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن بما صبروا أي بصبرهم وثباتهم على الايمانين أو على الايمان بالقرآن قبل النزول وبعده أو على أذى من هاجرهم وعاداهم من أهل دينهم ومن المشركين ويدرءون أي يدفعون بالحسنة أي بالطاعة السيئة أي المعصية فان الحسنة تمحو السيئة قال صلى الله تعالى عليه وسلم لمعاذ : أتبع السيئة الحسنة تمحها وقيل : أي يدفعون بالحلم الأذى وقال ابن جبير : بالمعروف المنكر وقال ابن زيد : بالخير الشر وقال ابن سلام : بالعم الجهل وبالكظم الغيظ قال ابن مسعود : بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ومما رزقناهم ينفقون
45
- أي في سبيل الخير كما يقتضيه مقام المدح وإذا سمعوا اللغو سقط القول وقال مجاهد : الأذى وقال الضحاك : الشرك وقال ابن زيد : ما غيرته اليهود من وصف الرسول صلى الله عليه و سلم أعرضوا عنه أي عن اللغو تكرما كقوله تعالى : وإذا مروا باللغو مروا كراما وقالوا لهم أي للاغين المفهوم من ذكر اللغو لنا أعمالنا ولكم أعمالكم متاركة لهم كقوله تعالى لكم دينكم ولي دين 0 سلام عليكم قالوه توديعا لهم لا تحية أو هو للمتاركة أيضا كما في قوله تعالى : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وأيا ما كان فلا دليل في الآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام كما زعم الجصاص إد ليس الغرض من ذلك إلا المتاركة أو التوديع وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الكفار لا تبدؤهم بالسلام وإذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم نعم روي عن ابن عباس جواز أن يقال للكافر ابتداء السلام عليك على معنى الله تعالى عليك فيكون دعاء عليه وهو ضعيف وقوله تعالى : لا نبتغي الجاهلين بيان للداعي للمتاركة والتوديع أي لا نطلب صحبة الجاهلين ولا نريد مخالطتهم إنك لا تهدي هداية موصلة إلى
(20/95)

البغية لا محالة من أحببت أي كل ما أحببته طبعا من الناس قومك وغيرهم ولا تقدر أن تدخله في الاسلام وان بذلت فيه غاية المجود وجاوزت السعي كل حد معهود وقيل : من أحببت هدايته
ولكن الله يهدي من يشاء هدايته فيدخله في الاسلام وهو أعلم بالمهتدين بالمستعدين لذلك وهم الذين يشاء الله سبحانه هدايتهم ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب وأفعل للمبالغة في علمه تعالى وقيل : يجوز أن يكون في ظاهره وأفاد كلام بعضهم أن المراد أنه تعالى أعلم بالمهتدي دون غيره عز و جل وحيث قرنت هداية الله تعالى بعلمه سبحانه بالمهتدي وأنه جل وعلا العالم به دون غيره دل على أن المراد بالمهتدي المستعد دون المتصف بالفعل فيلزم أن تكون هدايته إياه بمعنى القدرة عليها وحيث كانت هدايته تعالى لذلك بهذا المعنى وجيء بلكن متوسطة بينها وبين الهداية المنفية عنه صلى الله تعالى عليه وسلم لزم أن تكون تلك الهداية أيضا بمعنى القدرة عليها لتقع لكن في موضعها ولذا قيل : المعنى إنك لا تقدر أن تدخل في الاسلام كل من أحببت لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره ولكن الله تعالى يقدر على أن يدخل من يشاء إدخاله وهو الذي علم سبحانه أنه غير مطبوع على قلبه وللبحث فيه مجال وظاهر عبارة الكشاف حمل نفي الهداية في قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت على نفي القدرة على الادخال في الاسلام وإثباتها في قوله سبحانه ولكن الله يهدي من يشاء على وقوع الادخال في في الاسلام بالفعل وهذا ما أعتمدناه في تفسير الآية ووجهه أن مساق اةية لتسليته صلى الله تعالى عليه وسلم حيث لم ينجع في قومه الذين يحبهم ويحرص عليهم اشد الحرص أنذاره عليه الصلاة و السلام إياهم وما جاء به اليهم من الحق بل أصروا على ما هم عليه وقالوا : لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ثم كفروا به وبموسى عليهما الصلاة والسلام فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه صلى الله تعالى عليه وسلم حيث آمنوا بما جاء به من الحق وقالوا : إنه الحق من ربنا ثم صرحوا بتقادم إيمانهم به واشاروا بذلك إلى إيمانهم بنبيهم وبما جاءهم به أيضا فلو لم يحمل إنك لا تهدي من أحببت على نفي القدرة على إدخال من أحبه عليه الصلاة و السلام في الاسلام بل حمل على نفي وقوع إدخاله صلى الله تعالى عليه وسلم إياه فيه لبعد الكلام عن التسلية وقرب الى العتاب فانه على طرز قولك لمن له أحباب لا ينفعهم إنك لا تنفع أحبابك وهو إذا لم يؤول بأنك لا تقدر على نفع أحبابك فانما يقال على سبيل العتاب أو التوبيخ أو نحوه دون سبيل التسلية ولما كان لهدايته تعالى أولئك الذين أوتوا الكتاب مدخلا فيما يستدعي التسلية كان المناسب إبقاء ولكن الله يهدي من يشاء على ظاهره من وقوع الهداية بالفعل دون القدرة على الهداية وإثبات ذلك له تعالى فرع إثبات القدرة ففي إثباته لا محالة فيصادف الاستدراك المحز وحمل المهتدين على المستعدين للهداية لا يستدعي حمل يهدي على يقدر على الهداية فما ذكر من اللزوم ممنوع ويجوز أن يراد بالمهتدين المتصفون بالهداية بالفعل والمراد بعلمه تعالى بهم مجازاته سبحانه على اهتدائهم فكأنه قيل : وهو تعالى أعلم بالمهتدين كأولئك الذين ذكروا من أهل الكتاب فيجازيهم على إهتدائهم بأجر أو بأجرين فتأمل والآية على ما نطقت به كثير من الأخبار نزلت في أبي طالب
أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا عماه قل لا إله إلا الله
(20/96)

أشهد لك بها عند الله يوم القيامة فقال : لولا أن يعيروني قريش يقولون : ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى إنك لاتهدي من أحببت الآية
وأخرج البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وغيرهم عن سعيد بن المسيب عن أبيه نحو ذلك وأخرج أبو سهل السري بن سهل من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : إنك لا تهدي من أحببت الخ نزلت في أبي طالب ألح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسلم فأبى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد روى نزولها فيه عنه أيضا ابن مردويه ومسألة إسلامه خلافية وحكاية إجماع المسلمين أو المفسرين على أن الآية نزلت فيه لا تصح فقد ذهب الشيعة وغير واحد من مفسريهم إلى إسلامه وادعوا إجماع أئمة أهل البيت على ذلك وان أكثر قصائده تشهد له بذلك وكأن من يدعي إجماع المسلمين لا يعتد بخلاف الشيعة ولا يعول على رواياتهم ثم إنه على القول بعدم إسلامه لا ينبغي سبه والتكلم فيه بفضول الكلام فان ذلك مما يتأذى به العلويون بل لا يبعد أن يكون مما يأذى به النبي عليه الصلاة و السلام الذي نطقت ألآية بناءا على هذه الروايات بحبه إياه والاحتياط لايخفى على ذي فهم
ولاجل عين تكرم ألف عين
وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أي نخرج من بلادنا ومقرنا وأصل الخطف الاختلاس بسرعة فاستعير لما ذكر والآية نزلت في الحرث بن عثمان ابن نوفل بن عبد مناف حيث أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد الله تعالى عليهم خوف التخطف بقوله : أولم نمكن لهم حرما ءامنا أي ألم نعصمهم ونجعل لهم مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه تتاجر العرب حوله وهم آمنون فيه فالعطف على محذوف و نمكن مضمن معنى الجعل ولذا نصب حرما وآمنا للنسب كلابن وتامر وجعل أبو حيان السناد فيه مجازيا لأن الآمن حقيقة ساكنوه فيستغني عن جعله للنسب وهو وجه حسن يجبى اليه أي يحمل اليه ويجمع فيه من كل جانب وجهة ثمرات كل شيء أي ثمرات أشياء كثيرة على أن كل للتكثير وأصل معناه الاحاطة وليست بمرادة قطعا والجملة صفة أخرى لحرما دافعة لما عسى يتوهم من تضررهم إن اتبعوا الهدى بانقطاع الميرة وقوله تعالى : رزقا من لدنا نصب عن المصدر من معنى يجبى لأن مآله يرزقون أو الحال من ثمرات بمعنى مرزوقا وصح مجيء الحال من النكرة عند من يراه لتخصصها بالاضافة هنا أو على أنه مفعول له بتقدير نسوق اليه ذلك رزقا وحاصل الرد أنه لا وجه لخوف من التخطف إن آمنوا فانهم لا يخافون منه وهم عبدة أصنام فكيف يخافون إذا أمنوا ضموا حرمة الايمان إلى حرمة المقام ولكن أكثرهم لا يعلمون
75
- جهلة لا يتفطنون ولا يتفكرون ليعلموا ذلك فهو متعلق بقوله تعالى : أو لم نمكن الخ
وقيل : هو متعلق بقوله سبحانه : من لدنا أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله عز و جل إذ لو علموا لما خافوا غيره والأول أظهر والكلام عليه أبلغ في الذم وقرأ المنقري نتخطف بالرفع كما قريء في قوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت برفع يدرك وخرج بأنه بتقدير فنحن نتخطف وهو تخريج شذوذ
(20/97)

وقرا نافع وجماعة عن يعقوب وأبو حاتم عن عاصم تجبى بتاء التأنيث وقريء تجنى بالنون من الجني وهو قطع الثمر وتعديته بالى كقولك يجني إلى فيه ويجنى الى الخافة وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم ثمرات بضم الثاء والميم وقرأ بعضهم ثمرات بفتح الثاء واسكان الميم ثم أنه تعالى بعد أن رد عليهم خوفهم من الناس بين أنهم أحقاء بالخوف من بأس الله تعالى بقوله : وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها أي وكثيرا من أهل قرية كانت حالهم كحال هؤلاء في الأمن وخفض العيش والدعة حتى بطروا واغتروا ولم يقوموا بحق النعمة فدمرنا عليهم وخربنا ديارهم فتلك مساكنهم التي تمرون عليها في أسفاركم كحجر ثمود خاوية بما ظلموا حال كونها
لم تسكن من بعدهم من بعد تدميرهم إلا قليلا أي إلا زمنا قليلا إذ لايسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم أو إلا سكنا قليلا وقلته باعتبار قلة الساكنين فكأنه قيل : لم يسكنها من بعدهم إلا قليل من الناس
وجوز أن يكون الاستثناء من المساكن أي إلا قليلا منها سكن وفيه بعد وكنا نحن الوارثين
85
- منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر ذات أيديهم وفي الكشاف أي تركناها على حال لا يسكنها أحد أو خربناها وسويناها بالأرض وهو مشير إلى أن الوراثةاما مجرد انتقالها من أصحابها واما الحاقها بما خلقه الله تعالى في البدء فكأنه رجع إلى أصله ودخل في عداد خالص ملك الله تعالى على ما كان أولا وهذا معنى الارث وانتصاب معيشتها على التمييز على مذهب الكوفيين أو مشبه بالمفعول به على مذهب بعضهم أو مفعول به على تضمين بطرت معنى فعل متعد أي كفرت معيشتها ولم ترع حقها على مذهب أكثر البصريين أو على اسقاط في أي في معيشتها على مذهب الأخفش أو على الظرف نحو جئت خفوق النجم على قول الزجاج
وما كان ربك مهلك القرى بيان للعناية الربانية أثر بيان اهلاك القرى المذكورة أي وما صح وما استقام أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الاندار بل كانت سنته عز و جل أن لا يهلكها حتى يبعث في أمها أي في أصلها وكبيرتها التي ترجع تلك القرى اليها رسولا يتلو عليهم ءاياتنا الناطقة بالحق ويدعوهم اليه بالترغيب والترهيب وإنما لم يهلكهم سبحانه حتى يبعث اليهم رسولا لإلزام الحجة وقطع المعذرة بأن يقولوالولا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك وإنما كان البعث في أم القرى لأن في أهل البلدة الكبيرة وكرسي المملكة ومحل فطنة وكيسا فهم أقبل للدعوة وأشرف
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة أن أم القرى مكة والرسول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فالمراد بالقرى القرى التي كانت في عصره عليه الصلاة و السلام والأولى أولى والالتفات إلى نون العظمة في آياتنا لتربية المهابة وادخال الروعة وقريء في إمها بكسر الهمزة اتباعا للميم وما كنا مهلكي القرى عطف على ما كان ربك مهلك القرى إلا وأهلها ظالمون استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أمها رسولا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إليه في حال من ألاحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا والكفربآياتنا فالبعث غاية لعدم صحة الاهلاك بموجب السنة الالهية لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الاهلاك عقيب البعث وما أوتيتم من شيء أي أي شيء اصبتموه من
(20/98)

أمور الدنيا وأسبابها فمتاع الحيوة الدنيا وزينتها فهو شيء شأنه أن يتمتع به ويتزين به أياما قلائل ويشعر بالقلة لفظ المتاع وكذا ذكر أبقى في المقابل وفي لفظ الدنيا اشارة إلى القلة والخسة وما عند الله في الجنة وهو الثواب خير في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة وأبقى لأنه أبدى واين المتناهي من غير المتناهي أفلا تعقلون
16
- أي ألا تتفكرون فلا تفعلون هذا الأمر الواضح فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وتخافون على ذهاب ما أصبتموه من متاع الحياة الدنيا وتمتنعون عن اتباع الهدى المفضي إلى ما عند الله تعالى على تقدير تحقق وقوع ما يخافونه وقرأ أبو عمرو يعقلون بياء الغيبة على الالتفات وهو أبلغ في الموعظة لاشعاره بأنهم لعدم عقلهم لا يصلحون للخطاب فالالتفات هنا لعدم الالتفات زجرا لهم وقريء فمتاعا الحياة الدنيا أي فتتمتعون به في الحياة الدنيا فنصب متاعا على المصدرية والحياة على الظرفية أفمن وعدناه وعدا حسنا أي وعدا بالجنة وما فيها من النعيم الصرف الدائم فان حسن الوعد بحسن الموعود فهو لاقيه أي مدركه لا محالة لاستحالة الخلف في وعده تعالى ولذلك جيء بالجملة الاسمية المفيدة لتحققه البتة وعطفت بالفاء المنبئة عن السببية كمن متعناه متاع الحياة الدنيا الذي هو مشوب بالآلام منغص بالاكدار مستتبع بالتحسر على الانقطاع ومعنى الفاء الأولى ترتيب انكار التشابه بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله تعالى أي أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين الفريقين وقوله تعالى : ثم هو يوم القيامة من المحضرين
26
- عطف على متعناه داخل معه في حيز الصلة مؤكد لانكار التشابه مقوله كأنه قيل كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم نحضره أو أحضرناه يوم القيامة للنار أو العذاب وغلب لفظ المحضر في المحضر لذلك والعدول إلى الجملة الاسمية قيل للدلالة على التحقق حتما ولا يضر كون خبرها ظرفا مع العدول وحصول الدلالة على التحقق لو قيل أحضرناه لا ينافي ذلك وقد يقال : إن فيما ذكر في النظم الجليل شيء آخر غير الدلالة على التحقق ليس في قولك ثم أحضرناه يوم القيامة كالدلالة على التقوى أو الحصر والدلالة على التهويل والايقاع في حيرة ولمجموع ذلك جيء بالجملة الاسمية ويوم متعلق بالمحضرين المذكور وقدم عليه للفاصلة أو هو متعلق بمحذوف وقد مر الكلام في مثل ذلك وثم للتراخي في الرتبة دون الزمان وان صح وكان فيه إبقاء اللفظ على حقيقته لأنه أنسب بالسياق وهو أبلغ وأكثر إفادة وأرباب البلاغة يعدلون الى المجاز ما أمكن لتضمنه لطائف النكات
وقرأ طلحة أمن وعدناه بغير فاء وقرأ قالون والكسائي ثم هو بسكون الهاء كما قيل : عضد وتشبيها للمنفصل وهو الميم الأخير من ثم المتصل واةية نزلت على ما أخرج ابن جرير عن مجاهد في رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي أبي جهل وأخرج من وجه آخر عنها أنها نزلت في حمزة وأبي جهل وقيل : نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وأبي جهل ونسب إلى محمد بن كعب والسدي وقيل : في عمار رضي الله تعالى عنه والوليد بن المغيرة
(20/99)

نزلت في المؤمن والكافر مطلقا ويوم يناديهم عطف على يوم القيامة لاختلافهما عنوانا وأن أتحدا ذاتا أو منصوب باضمار اذكر ونداؤه تعالى إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وأن يكون بدونها وهو نداء اهانة وتوبيخ فيقول تفسير للنداء أين شركائي الذين كنتم تزعمون
36
- اي الذين كنتم تزعمونهم شركائي فان زعم مما يتعدى إلى مفعولين كقوله : وأن الذي قد عاش يا أم مالك يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا وحذف هنا المفعولان لأن معا ثقة بدلالة عليهما نحو من يسمع يخل وفي الكشاف يجوز حذف المفعولين في باب ظننت ولا يصح الاقتصار على أحدهما وادعى بعضهم أن عدم صحة الاقتصار هو الاصح وأنه الذي ذهب اليه الأكثرون قال الأخفش : إذا دخلت هذه الافعال ظن وأخواتها على أن نحو ظننت أنك قائم فالمفعول الثاني منهما محذوف والتقدير ظننت قيامك قيامك كائنا لأن المفتوحة بتأويل المفرد وسيبويه يرى في ذلك أن أن مع ما بعدها سدت مسد المفعولين وأجاز الكوفيون الاقتصار على الاول إذا سد شيء مسد الثاني كما في باب المبتدأ نحو أقائم أخواك فيقولون هل ظننت قائما أخواك وقال أبو حيان : إذا دل دليل على أحدهما جاز حذفه كقوله : كأن لم يكن بين إذا كان بعده تلاق ولكن لا أخال تلاقيا أي لا أخال بعد البين تلاقيا وقال صاحب التحفة : يجوز الاقتصار في باب كسوت على أحد المفعولين بدليل وبغير دليل لأن الأول فيهما غير الثاني وأجاز بعضهم حذف الأول إذا كان هو الفاعل معني نحو قوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا معجزين أي لايحسبن الذين كفروا إياهم أي أنفسهم معجزين وقال الطيبي : في عدم الحذف فيما عدا ما ذكر وجواز الحذف فيه لعل السر أن هذه الافعال قيود للمضامين تدخل على الجمل الاسمية لبيان ما هي عليه لأن النسبة قد تكون عن علم وقد تكون عن ظن فلو اقتصرت على أحد طرفي الجملة لقيام قرينة توهم أن الذي سيق له الكلام والذي هو مهتم بشأنه الطرف المذكور وليس غير المذكور مما يعتني به نعم إذا كان الفاعل والمفعول لشيء واحد يهون الخطب وذكر عن صاحب الاقليد ما يؤيده وقد أطال طيب الله تعالى مرقده الكلام في هذا المقام وادعى ابن هشام أن الاولى أن يقدر هنا الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي لأنه لم يقع الزعم في التنزيل على المفعولين الصريحين بل على وصلتها كقوله تعالى : الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء وفيه نظر والظاهر أن المراد بالشركاء من عبد من دون الله تعالى من ملك أو جن أو أنس أو كوكب أو صنم أو غير ذلك قال استئناف مبني على حكاية السؤال كأنه قيل : فماذا كان بعد هذا السؤال فقيل قال : الذين حق عليهم القول أي ثبت عليهم مقتضى القول وتحقق مؤداه وهو قوله تعالى : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وغيره من آيات الوعيد والمراد بالموصول الشركاء الذين يزعمونهم شركاء من الشياطين ورؤساء الكفر وتخصيصهم بما في حيز الصلة مع شمول مضمونها الاتباع أيضا لأصالتهم في الكفر واستحقاق العذاب والتعبير عنهم بذلك دون الذين زعموهم شركاء لاخراج مثل عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام لشمول الشركاء على ما سمعت له ومسارعتهم إلى الجواب مع كون السؤال للعبدة لتفطنهم إن السؤال منهم سؤال توبيخ
(20/100)

واهانة وهو يستدعي استحضارهم وتوبيخهم بالاضلال وجزمهم بأن العبدة سيقولون هؤلاء أضلونا وقيل : يجوز أن يكون العبدة قد أجابوا معتذرين بقولهم هؤلاء أضلونا ثم قال الشركاء ما قص الله تعالى ردا لقولهم ذلك إلا أنه لم يحك إيجازا لظهوره ربنا هؤلاء الذين أغوينا تمهيد للجواب والاشارة إلى العبدة لبيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده و هؤلاء مبتدأ خبره الموصول بعده وجملة أغوينا صلة الموصول والعائد محذوف للتصريح به فيما بعد أي الذين أغويناهم وقوله تعالى : أغويناهم كما غوينا هو الجواب حقيقة أي ما أكرهناهم على الغي وإنما أغويناهم بطريق الوسوسة والتسويل لا بالقسر والالجاء فغووا باختيارهم غيا مثل غينا باختيارنا ويجوز أن يكون الموصول اسم الاشارة والخبر جملة أغويناهم كما غوينا ومنه ذلك أبو علي في التذكرة بأنه يؤدي إلى أن الخبر لا يكون فيه فائدة زائدة لأن إغواءهم إياهم قد علم من الوصف ورد بأن التشبيه دل على أنهم غووا باختيار لأن أن الاغواء إلجاء وقوله : إن كما غوينا فضلة فلا تصير ذاك أصلا في الجملة ليس بشيء لأن الفضلات قد تلزم في بعض المواضع نحو زيد عمرو قائم في داره وقرأ أبان عن عاصم وبعض الشاميين كما غوينا بكسر الواو قال ابن خالويه : وليس ذلك مختارا لأن كلام العرب غويت من الضلالة وغويت بالكسر من البشم تبرأنا منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوى من أنفسهم موجهين التبرؤ ومهيئين له إليك والجملة تقرير لما قبلها لأن الاقرار بالغواية تبرؤ في الحقيقة ولذا لم تعطف عليه وكذا قوله تعالى : ما كانوا إيانا يعبدون
36
- أي ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون في نفس الأمر والمآل أهواءهم وقيل : ما مصدرية متصلة بقوله تعالى : تبرأنا وهناك جار مقدر أي تبرأنا من عبادتهم إيانا وجعلها نافية على أن المعنى ما كانوا يعبدوننا باستحقاق وحجة ليس بشيء وأيا ما كان فأيانا مفعول يعبدون قدم للفاصلة وقيل تقريعا لهم وتهكما بهم ادعوا شركاءكم الذين زعمتم فدعوهم لفرط الحيرة وإلا فليس هناك طلب حقيقة للدعاء وقيل : دعوهم لضرورة الامتثال على أن هناك طلبا والغرض من طلب ذلك منهم تفضيحهم على رؤوس الاشهاد بدعاء من لا نفع له لنفسه قيل : والظاهر من تعقيب صيغة الأمر بالفاء في قوله تعالى فدعوهم أنها لطلب الدعاء وإيجابه والأول أبلغ في تهويل أمر أولئك الكفرة والاشارة إلى سوء حالهم وأمر التعقيب بالفاء سهل فلم يستجيبوا لهم ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة وجوز أن يكون المراد فلم يجيبوهم لأنهم في شغل شاغل عنهم ولعلهم ختم على أفواههم إذ ذاك ورأوا العذاب الظاهر أن الضمير للداعين وقال الضحاك : هو للداعين والمدعوين جميعا وقيل : هو للمدعوين فقط وليس بشيء والظاهر أن الرؤية العذاب إما على معنى رؤية مباديه أو على معنى رؤيته نفسه بتنزيله منزلة المشاهد وجوز أن تكون علمية والمفعول الثاني محذوف أي رأوا العذاب متصلا بهم أو غاشيا لهم أو نحو ذلك وأنت تعلم أن حذف أحد مفعولي أفعال القلوب في جوازه وتقدم آنفا عن البعض أن الأكثرين على المنع فمن منع وقال في بيان المعنى ورأوا العذاب متصلا بهم متصلا حالا من العذاب لو أنهم كانوا يهتدون
46
- لو شرطية وجوابها محذوف أي لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب لدفعوا به العذاب أو لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين مؤمنين لما رأوا العذاب
(20/101)

واعترضواعترض بأن الدال على المحذوف رأوا العذاب وهو مثبت فلا يقدر المحذوف منفيا وهو غير وارد لأن الالتفات إلى المعنى وإذا جاز الحذف لمجرد دلالة الحال فإذا انضم إليها شهادة المقال كان أولى وأولى وجوز أن تكون لو للتمني أي تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين فلا تحتاج إلى الجواب وقال صاحب التقريب : فيه نظر إذ حقه أن يقال لو كنا إلا أن يكون على الحكاية كأقسم ليضربن أو على تأويل رأوا متمنين هدايتهم وجوز على تقدير كونها للتمني أن يكون قد وضع لو أنهم كانوا مهتدين موضع تحيروا لرؤيته كان كل أحد يتمنى لهم الهداية عند ذلك الهول والتحير ترحما عليهم أو هو من الله تعالى شأنه على المجاز كما قيل : في قوله تعالى : ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير وجعل الطيبي وضعه موضعه من إطلاق المسبب على السبب لأن تحيرهم سبب حامل على هذا القول
وقال عليه الرحمة : إن النظم على هذا الوجه ينطبق واختار الامام الرازي أنها شرطية إلا أنه لم يرتض ما قالوه في تقدير الجواب فقال بعد نقل ما قالوه : وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقريره وجوه أحدها أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله سبحانه : ادعوا شركاءكم فهناك يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار فيصيرون بحيث لا يبصرون شيئا فقال سبحانه : رأوا العذاب لو أنهم كانوا يبصرون شيئا على معنى أنهم لم يروا العذاب لأنهم صاروا بحيث لا يبصرون شيئا وثانيها أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الاصنام إنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم : ورأو العذاب لو أنهم كانوا يهتدون أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ولكنها ليست كذلك والاتيان بضمير العقلاء على حسب اعتقاد القوم بهم وثالثها أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فان ذلك يقتضي تفكيك نظم الآية اه ولعمري أنه لم يأت بشيء وما يرد عليه أظهر من أن يخفى على من له أدنى تمييز بين الحي واللي
ويوم يناديهم فيقول ما أجبتم المرسلين
46
- عطف على الأول سئلوا أولا عن إشراكهم لأنه المقصود من أين شركائي الذين زعمتم وثانيا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك
فعميت عليهم الانباء يومئذ أصله فعموا عن الانباء أي لم يهتدوا إليها وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث استعير العمى لعدم الاهتداء ثم قلب للمبالغة فجعل الانباء لا تهتدي اليهم وضمن العمى معنى الخفاء فعدي بعلى ولولاه لتعدى بعن ولم يتعلق بالانباء لأنها مسموعة لا مبصرة وفي هذا القلب دلالة على أن ما يحضر الذهن يفيض عليه ويصل اليه من الخارج ونفس الامر اما ابتداء وإا بواسطة تذكر الصورة الواردة منه باماراتها الخارجية فاذا أخطأ الذهن الخارج بأن لم يصل اليه لانسداد الطريق بينه وبينه بعمى ونحوه لم يمكنه إحضار ولا استحضار وذلك لأن لما جعل الانباء الواردة عليهم من الخارج عميا لا تهتدي دل على أنهم عمي لا يهتدون بالطريق الأولى لأن اهتداءهم بها فاذا كانت هي في نفسها لا تهتدي فما بالك بمن يهتدي بها كذا قيل : فليتدبر وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخيلية أي فصارت الانباء كالعمى عليهم لا تهتدي اليهم والمراد بالأنباء إما ما طلب منهم مما أجابوا به الرسل عليهم السلام أو ما يعمها وكل ما يمكن الجواب به وإذا كانت الرسل عليهم السلام يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك في ذلك المقام الهائل ويفوضون العلم إلى
(20/102)

علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة المسئول فما ظنك بأولئك الضلال من الأمم
وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش وأبو زرعة بن عمرو بن جرير فعميت بضم العين وتشديد الميم
فهم لا يتساءلون أي لا يسأل بعضهم بعضا لفرط الدهشة أو العلم بأن الكل سواء في الجهل والفاء إما تفصيلية أو تفريعية لأن سبب العمى فرط الدهشة
وقرأ طلحة لا يساءلون بادغام التاء في السين فأما من تاب أي من الشرك وآمن وعمل صالحا أي جمع بين الايمان والعمل الصالح فعسى أن يكون من المفلحين أي الفائزين بالمطلوب عنده عز و جل الناجين عن المهروب و عسى للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب المذكور بمعنى فليتوقع أن يفلح وقوله تعالى : فأما قيل للتفصيل المجمل الواقع في ذهن السامع من بيان ما يؤول اليه حال المشركين وهو أن حال من تاب منهم كيف يكون والدلالة على ترتب الاخبار به على ما قبله فالآية متعلقة بما عندها
وقال الطيبي : هي متعلقة بقوله تعالى : أفمن وعدناه وعدا حسنا والحديث عن الشركاء مسطرد لذكر الاحضار وتعقبه في الكشف بأن الظاهر أنه ليس متعلقا به بل لما ذكر سبحانه حال من حق عليه القول من التابع والمتبوع قال تعالى شأنه حثا لهم على الاقلاع : فأما من تبا منهم وآمن فكأنه قيل : ما ذكر لمصيرهم فأما من تاب فكلا
وربك يخلق ما يشاء خلقه من الاعيان والأعراض ويختار عطف على ما يخلق والمعنى على ما قيل يخلق ما يشاؤه باختياره فلا يخلق شيئا بلا اختيار وهذا مما لم يفهم مما يشاء فليس في الآية شائبة تكرار وقيل في دفع ما يتوهم من ذلك غير ما ذكر مما نقله ورده الخفاجي ولم يتعرض للقدح في هذا الوجه وأراه لا يخلو عن بعد ولي وجه في الآية سأذكره بعد إن شاء الله تعالى
ما كان لهم الخيرة
أي التخير كالطيرة بمعنى التطير وهما والاختيار بمعنى وظهار الآية نفي الاختيار عن العبد رأسا كما يقوله الجبرية ومن أثبت للعبد اختيارا قال : إنه لكونه بالدواعي التي لو لم يخلقها الله تعالى فيه لم يكن كان في حيز العدم وهذأ مذب الاشعري على ما حققه العلامة الدواني قال : الذي أثبته الاشعري هو تعلق قدرة العبد وإرادته الذي هو سبب عادي لخلق الله تعالى الفعل فيه وإذا فتشنا عن مباديء الفعل وجدنا الارادة منبعثة عن شوق له وتصور أنه ملائم وغير ذلك من أمور ليس شيء منها بقدرة العبد واختياره وحقق العلامة الكوراني في بعض رسائله المؤلفة في هذه المسألة أن مذهب السلف أن للعبد قدرة مؤثرة باذن الله تعالى وأن له اختيارا لكنه مجبور باختياره وادعى أن ذلك هو مذهب الاشعري دون ما شاع من أن له قدرة غير مؤثرة أصلا بل هي كاليد الشلاء ونفى الاختيار عنه على هذا نحوه على ما مر فانه حيث كان مجبورا به كان وجوده كالعدم وقيل : إن الآية أفادت نفي ملكهم للاختيار ويصدق على المجبور باختياره بأنه غير مالك للاختيار إذ لا يتصرف فيه كما يشاء تصرف المالك في ملكه وقيل : المراد لا يليق ولا ينبغي لهم أن يختاروا عليه تعالى أي لا ينبغي لهم التحكم عليه سبحانه بأن يقولوا لم لم يفعل الله تعالى كذا
ويؤيده أن الآية نزلت حين قال الوليد بن المغيرة لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أو حين قال اليهود لو كان الرسول إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم غير جبريل عليه السلام لآمنا به على ما قيل والجملة
(20/103)

علىعلى هذا الوجه مؤكدة لما قبلها أو مفسرة له إذ معنى ذلك يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء أن يختاره لا ما يختاره العباد عليه ولذا خلت عن العاطف وهي على ما تقدم مستأنفة في جواب سؤال تقديره فما حال العباد أو هل لهم اختيار أو نحوه فقيل : إنهم ليس لهم اختيار وضعف هذا الوجه بأنه لا دلالة على هذا المعنى في النظم الجليل وفيه حذف المتعلق وهو على الله تعالى من غير قرينة دالة عليه وكون سبب النزول ما ذكر ممنوع والقول الثاني فيه يستدعي بظاهره أن يكون ضمير لهم لليهود وفيه من البعد ما فيه وقيل : ما موصولة مفعول يختار والعائد محدوف والوقف على يشاء لا نافية والوقف على يختار كما نص عليه الزجاج وعلي بن سليمان والنحاس كما في الوجهين السابقين أي ويختار الذي كان لهم فيه خير والصلاح واختياره تعالى دلك بطريق التفضل والكرم عندنا وبطريق الوجوب عند المعتزلة وإلى موصولية ما وكونها مفعول يختار ذهب الطبري إلا أنه قال في بيان المعنى عليه : أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خير للناس وأنكر أن تكون نافية لئلا يكون المعنى أنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل وادعى أبو حيان أنه روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما معنى ما ذهب اليه واعترض بأن اللغة لا تساعده لأن المعروف فيها أن الخيرة بمعنى الاختيار لا بمعنى الخير وبأنه لا يناسب ما بعده من قوله تعالى : سبحان الله الخ وكذأ لا يناسب ما قبله من قوله سبحانه : يخلق ما يشاء وضعفه بعضهم بأنه فيه حذف العائد ولا يخفى أن حذفه كثير وأجيب عما اعترض به الطبري بأنه يجوز أن يكون المراد بمعونة المقام استمرار النفي أو يكون المراد ما كان لهم في علم الله تعالى ذلك وهذا بعد تسليم لزوم كون المعنى ما ذ : ره لو أبقى الكلام على ظاهره وقال ابن عطية : يتجه عندي أن يكون ما مفعول يختار إذا قدرنا كان تامة أي إن الله تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا باذنه وقوله تعالى : ولهم الخيرة جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله سبحانه لهم لو قبلوا وفهموا اه يعني والله تعالى أعلم أن المراد خيرة الله تعالى لهم أي اختياره لمصلحتهم وللفاضل سعدي جلبي نحو هذا إلا أنه قال في قوله تعالى : لهم الخيرة إنه في معنى ألهم الخيرة بهمزة الاستفهام الانكاري وذكر أن هذا المعنى يناسبه ما بعد من قوله سبحانه سبحان الله الخ فانه إما تعجب عن إثبات الاختيار لغيره تعالى أو تنزيه له عز و جل عنه ولا يخفى ضعف ما قالاه لما فيه من مخالفة الظاهر من وجوه ويظهر لي في الآية غير ما ذكر من الأوجه وهو أن يكون يختار معطوفا على يخلق والوقوف عليه تام كما نص عليه غير واحد وهو من الاختيار بمعنى الانتقاء والاصطفاء وكذا الخيرة بمعنى الاختيار بهذا المعنى والفعل متعد حذف مفعوله ثقة بدلالة ما قبله عليه أي ويختار ما يشاء وتقديم المسند اليه في كل من جانبي المعطوف والمعطوف عليه لافادة الحصر وجملة ما كان لهم الخيرة مؤكدة لما قبلها حيث تكفل الحصر بافادة النفي الذي تضمنته والكلام مسوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة والشفاعة لهم يوم القيامة كما يرمز اليه ادعوا شركاءكم وللتعبير بما وجه ظاهر والمعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه دون غيره ينتقي ويصطفي ما يشاء إنتقاءه واصطفاءه فيصطفي مما يخلقه شفعاء ويختارهم للشفاعة ويميز بعض مخلوقاته جل جلاله على بعض ويفضله عليه بما يشاء ما كان لهؤلاء المشركين أن ينتقوا ويصطفوا ما شاءوا ويميزوا بعض مخلوقاته تعالى على بعض ويجعلوه مقدما عنده عز و جل على غيره لأن ذلك يستدعي القدرة
(20/104)

الكاملة وعدم كون فاعله محجوزا عليه أصلا وأنى لهم دلك فليس لهم إلا اتباع اصطفاء الله تعالى وهو جل وعلا لم يصطف شركاءهم الدين اصطفوهم للعبادة والشفاعة على الوجه الذي اصطفوهم عليه فما هم إلا جهال ضلال صدوا عما يلزمهم وتصدوا لما ليس لهم بحال من الاحوال وإن شئت فنزل الفعل منزلة اللازم وقل المعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه لا غيره يفعل الاختيار والاصطفاء فيصطفي بعض مخلوقاته لكذا وبعضا آخر لكذا ويميز بعضا منها على بعض ويجعله مقدما عنده تعالى عليه فانه سبحانه قادر حكيم لا يسأل عما يفعل وهو جل وعلا أعظم من أن يعترض عليه وأجل ويدخل في الغير المنفي عنه ذلك المشركون فليس لهم أن يفعلوا ذلك فيصطفوا بعض مخلوقاته للشفاعة ويختاروهم للعبادة ويجعلوهم شركاء له عز و جل ويدخل في الاختيار المنفي عنهم ما تضمنه قولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فان انتفاء غيره صلى الله عليه و سلم من الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي وتمييزه بأهلية تنزيل القرآن عليه فان صح ما قيل : في سبب نزول هذه الآية من أنه القول المذكور كان فيها رد ذلك عليهم أيضا الا أنها لتضمنها تجهيلهم باختيارهم الشركاء واصطفائهم إياهم آلهة وشفعاء كتضمنها الرد المذكور جيء بها هنا متعلقة بذكر الشركاء وتقريع المشركين على شركهم وربما يقال : إنها لما تضمنت تجهيلهم فيما له نوع تعلق به تعالى كاتخاذ الشركاء له سبحانه وفيما له نوع تعلق بخاتم رسله عليه الصلاة و السلام كتمييزهم غيره عليه الصلاة و السلام بأهلية الارسال اليه وتنزيل القرآن عليه جيء بها بعد ذكر سؤال المشركين عن اشراكهم وسؤالهم عن جوابهم للمرسلين الناهين لهم عنه الذين عين أعيائهم وقلب صدر ديوانهم رسوله الخاتم لهم صلى الله تعالى عليه وسلم فلها تعلق بكلا الأمرين إلا أن تعلقها بالأمر الأول أظهر وأتم وخاتمتها تقتضيه على أكمل وجه وأحكم وربما يقال أيضا : إن لها تعلقا بجميع ما قبلها أما تعلقها بالأمرين المذكورين فكما سمعت وأما تعلقها بذكر حال التائب فمن حيث أن انتضامه في سلك المفلحين يستدعي اختيار الله تعالى إياه واصطفاءه له وتمييزه على من عداه ولذا جيء بها بعد الأمور الثلاثة وذكر انحصار الخلق فيه تعالى وتقديمه على انحصار الاختيار والاصطفاء مع أن مبني التجهيل والرد إنما هو الثاني للاشارة إلى أن انحصار الاختيار من توابع انحصار الخلق وفي ذكره تعالى بعنوان الربوبية إشارة إلى أن خلقه عز و جل ما شاء على وفق المصلحة والحكمة وإضافة الرب إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لتشريفه عليه الصلاة و السلام وهي في غاية الحسن إن صح ما تقدم عن الوليد سببا للنزول ويخطر في الباب احتمالات أخر في الآية فتأمل فاني لا أقول ما أبديته هو المختار كيف وربك جل شأنه يخلق ما يشاء ويختار سبحانه الله أي تنزه تعالى بذاته تنزها خاصا به من أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره عز شأنه وتعالى عما يشركون
86
- أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية ويحتمل أن تكون موصولة بتقدير مضاف أي عن مشاركة ما يشركونه به كذا قيل وجعل بعضهم سبحان الله تعجيبا من اشراكهم من يضرهم بمن يريد لهم كل خير تبارك وتعالى وهو على احتمال كون ما فيما تقدم موصولة مفعول يختار والمعنى ويختار ما كان لهم فيه الخير والصلاح ويجوز أن يكون تعجيبا أيضا من اختيارهم شركاءهم الذين أعدوهم للشفاعة واقدامهم على مالم يكن لهم وذلك بناء على ما ظهر لنا وظاهر كلام كثير أن الآية ليست من باب الإعمال وجوز أن تكون منه بأن يكون كل من سبحان وتعالى طالبا عما يشركون والأفيد على ما قيل أن لا تكون منه
(20/105)

وربك يعلم ما تكن صدورهم أي ما يكنون ويخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة ومن عداوتهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحو ذلك وما يعلنون
96
- وما يظهرونه من الافعال الشنيعة والطعن فيه عليه الصلاة و السلام وغير ذلك ولعله للمبالغة في خباثة باطنهم لأن ما فيه مبدأ لما يكون في الظاهر من القبائح لم يقل ما يكنون كما قيل : ما يعلنون
وقرأ ابن محيصن تكن بفتح التاء وضم الكاف وهو الله أي وهو تعالى المستأثر بالألوهية المختص بها وقوله سبحانه : لا إله إلا هو تقرير لذلك كقولك : الكعبة القبلة لا قبلة إلا هي
له الحمد في الأولى والآخرة أي له تعالى ذلك دون غيره سبحانه لأنه جل جلاله المعطي لجميع النعم بالذات وما سواه وسائط والمراد بالحمد هنا ما وقع في مقابلة النعم بقرينة ذكرها بعده بقوله تعالى : قل أرأيتم الخ
وزعم بعضهم أن الحمد هنا أعم من الشكر واعتبر الحصر بالنسبة إلى مجموع حمدي الدارين زاعما أن الحمد في الدنيا وإن شاركه فيه غيره تعالى لكن الحمد في الآخرة لا يكون إلا له تعالى وفيه أن الحمد مطلقا مختص به تعالى لأن الفضائل والأوصاف الجميلة كلها بخلقه تعالى فيرجع الحمد عليها في اةخرة له تعالى لأنه جل وعلا مبديها ومبدعها ولو نظر إلى الظاهر لم يكن حمد الآخرة مختصا به سبحانه أيضا فان نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم يحمده الأولون والآخرون عند الشفاعة الكبرى وفسر غير واحد حمده تعالى في الآخرة بقول المؤمنين : الحمد لله الذي صدقنا وعده وقولهم : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وقولهم : الحمد لله رب العالمين وقالوا : التحميد هناك على وجه اللذه لا الكلفة وفي حديث رواه مسلم وأبو داود عن جابر في وصف أهل الجنة يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس وله الحكم أي القضاء النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغيره تعالى وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي له الحكم بين عباده تعالى فيحكم لأهل طاعته بالمغفرة والفضل ولأهل معصيته بالشقاء والويل وإليه سبحانه لا إلى غيره
ترجعون
7
- بالبعث قل تقريرا لما ذكر أرأيتم أي أخبروني وقرأ الكسائي أريتم بحذف الهمزة إن جعل الله عليكم الليل سرمدا أي دائما وهو عند البعض من السرد وهو المتابعة والاطراء والميم مزيدة لدلالة الاشتقاق عليه فوزنه فعمل ونظيره دلامص من الدلاص يقال : درع دلاص أي ملساء لينة
واختار بعض النحاة أن الميم أصلية فوزنه فعلل لأن الميم لا تنقاس زيادتها فيب الوسط ونصبه إما على أنه مفعول ثان لجعل أو على أنه حال من الليل وقوله تعالى : إلى يوم القيامة إما متعلق بسرمدا أو بجعل وجوز أبو البقاء أيضا تعلقه بمحذوف وقع صفة لسرمدا وجعله تعالى كذلك باسكان الشمس تحت الأرض مثلا وقوله تعالى : من إله مبتدأ وخبر وقوله سبحانه : غير الله صفة لإله وقوله تعالى : ياتيكم بضياء صفة أخرى له عليها يدور أمر التبكيت والالزام كما في قوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والارض وقوله سبحانه : فمن يأتيكم بماء معين ونظائرهما خلا إنه قصد بيان انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة ولم
(20/106)

يؤت بهل التي هي لطلب التصديق المناسب بحسب الظاهر للمقام وأتي بمن التي هي لطلب التعيين المقتضي لأصل الوجود لايراد التبكيت والالزام على زعمهم فانه أبلغ كما لايخفى وجملة من إله الخ قال أبو حيان : في موضع المفعول الثاني لأرأيتم وجعل الليل مما تنازع فيه أرأيتم وجعل وقال : إنه أعمل فيه الثاني فيكون المفعول الأول للاول محذوفا وحيث جعلت تلك الجملة في موضع مفعوله الثاني لابد من تقدير العائد فيها أي من إله غيره يأتيكم بضياء بدله مثلا وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله وكذا يقال في الآية بعد وعن ابن كثير أنه قرأ بضآء بهمزتين أفلا تسمعون سماع فهم وقبول الدلائل الباهرة والنصوص المتظاهرة لتعرفوا أن غير الله تعالى لا يقدر على ذلك قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة باسكان الشمس في وسط السماء مثلا من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه استراحة من متاعب الاشغال أفلا تبصرون الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة لتقفوا على أن غير الله تعالى لا قدرة له على ذلك ويعلم مما ذكرنا أن كلا من جملتي أفلا تسمعون وأفلا تبصرون تذييل للتوبيخ الذي يعطيه قوله تعالى : أرأيتم إن جعل الله عليكم الخ قبله وأفاد الزمخشري أن ظاهر التقابل يقتضي ذكر النهار والتصرف فيه إلا أن العدول عن ذلك إلى الضياء وهو ضوء الشمس للدلالة على أنه يتضمن منافع كثيرة منها التصرف فلو أتي بالنهار لاستدعى القصر على تلك المنفعة من ضرورة التقابل ولأن المنافع للضياء لا للنهار على أن النهار أيضا من منافعه ثم استشعر أن يقال : فلم لم يؤت بالظلام بدل الليل في الآية الثانية لتتم المقابلة من هذا الوجه وأجاب بأنه ليس بتلك المنزلة فلا هو مقصود في ذاته كالضياء ولا أن المنافع من روادفه مع ما فيها من الاستئناس والاشمئزاز بل لو تأمل حق التأمل وجد حكم بأن الليل من منافع الضياء أيضا والظلام من ضرورات كون الشمس المضيئة تحت الأرض وإلقاء ظل الليل ثم أفاد أن التفصلة وهو التذييل المذكور فيها إرشاد إلى هده النكتة فان قوله تعالى : أفلا تسمعون يدل على أن التوبيخ بعدم التأمل في الضياء أكثر من حيث أن مدرك السمع أكثر والمراد ما يدركه العقل بواسطة السمع فلا يرد أن مدركه الاصوات وحدها ومدرك البصر أكثر من ذلك وذلك أن ما لا يدرك بحس أصلا يدرك بواسطة السمع إذا عبر عنه المعبر بعبارة مفهمة وأما ما يدرك بالبصر فمن مشاهدة المبصرات وهي قليلة وأما المطالعة من الكتب فانها أظيق مجالا من السمع وقرعه كذا في الكشف والعلامة الطيبي قرر عبارة الكشاف بما قرر ثم قال : الا بعد من التكلف أن يجعل أفلا تسمعون تذييلا للتوبيخ المستفاد من أرأيتم الخ قبله وكذا أفلا تبصرون على ما في المعالم أفلا تسمعون سماع فهم وقبول أفلا تبصرون ما أنتم من الخطأ ليجتمع لهم الصمم والعمى من الإعراض عن سماع البراهين والاغماض عن رؤية الشواهد
ولما كانت استدامة الليل أشق من استدامة النهار لأن النوم الذي هو أجل الغرض فيه شبيه الموت والابتغاء من فضل الله تعالى الذي هو بعض فوائد النهار بالحياة قيل في الأول أفلا تسمعون أي سماع فهم وفي الثاني أفلا تبصرون أي ما أنتم عليه من الخطأ ليطابق كل من التذييلين الكلام السابق من التشديد والتوبيخ ودكر في حاصل المعنى ما ذكرناه أولا ثم قال : وفيه أن دلالة النص أولى وأقدم من العقل وصاحب الكشف قرر
(20/107)

العبارة بما سمعت وذكر أن ذلك لا ينافي ما في المعالم بل يؤكده ويبين فائدة التوبيخين ونقل الطيبي عن الراغب في غرة التنزيل أنه قال : إن نسخ الليل بالنير الأعظم أبلغ في المنافع وأضمن للمصالح من نسخ النهار بالليل ألا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه لاستغناء أهلها عن الاستراحة فتقديم ذكر الليل لانكشافه عن النهار الذي هو أجدى من تفاريق العصا ومنافع ضوء الشمس أكثر من أن تحصى أحق وأولى ومعنى قوله تعالى : أفلا تسمعون أفلا تسمعون سماع من يتدبر المسموع ليستدرك منه قصد القائل ويحيطبأكثر ما جعل الله تعالى في النهار من المنافع فان عقيب السماع استدراك المراد بالمسموع إذا كان هناك تدبر وتفكر فيه ومعنى أفلا تبصرون أتستدركون من ذلك ما يجب استدراكه انتهى
وفي الكشف أنه مؤيد لما ذكره صاحب الكشاف وربما يقال ذكر سبحانه أولا فرضية جعل الليل سرمدا وثانيا فرضية جعل النهار كذلك لأن الليل كما قالوا مقدم على النهار شرعا وعرفا وأيضا ذلك أوفق بقوله تعالى وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ففي المثل الليل أخفى للويل وكذا بقوله تعالى سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة ففي الأثر كان الخلق في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره ولعله لاعتبار الأولية والآخرية ذيلت الآية الأولى بقوله تعالى : أفلا تسمعون بناء على أن المعنى أفلا تسمعون ممن سلف من آبائكم أو مما سلف منا أن آلهتكم لا تقدر على مثل ذلك والثانية بقوله سبحانه : أفلا تبصرون بناء على أن المعنى أفلا تبصرون أنتم عجزها عن مثل ذلك وجيء بالضياء غير موصوف في الآية الأولى وبالليل موصوفا في الثانية لما أفاده الزمخشري وقيل في وجه تذييل الآية الأولى بقوله تعالى : أفلا تسمعون دون قوله سبحانه : أفلا تبصرون أن المفروض لو تحقق بقي معه السمع دون الابصار إذ ظلمة الليل لا تحجب السمع وتحجب البصر وفي وجه تذييل الثانية بقوله تعالى أفلا تبصرون دون أفلا تسمعون أن تحقق المفروض وعدمه سيان في أمر السمع دون الابصار إذ لضياء النهار مدخل في الابصار وليس له مدخل في المسع أصلا وهو كما ترى وأعلم أن ههنا اشكالا وهو أن جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة ان تحقق لم يتصور الاتيان بضياء أصلا وكذأ جعل النهار سرمدا إلى يوم القيامة إن تحقق لم يتصور الايتان بليل كذلك أما من غيره تعالى فظاهر لأنه معدن العجز عن كل شيء وأما منه عز و جل فلاستلزامه اجتماع الليل والنهار إذا لو لم يجتمعا لم يتحقق الليل مستمرا إلى يوم القيامة وكذا جعل النهار كذلك وهو خلاف المفروض واجتماعهما محال والمحال لاصلاحية له لتعلق القدرة فلا يراد
وأجيب بأن المراد إن ارادة سبحانه ذلك فمن إله غيره تعالى يأتيكم بخلاف مراده سبحانه بأن يقطع الاستمرار فيأتي بنهار بعد ليل وليل بعد نهار واعترض بأنه يفهم من الآية حينئذ أنه جل وعلا هو الذي إن أراد ذلك يأتيهم بخلاف مراده تعالى فيقطع الاستمرار وهو مشكل أيضا لأن اتيانه بخلاف مراده جل وعلا مستلزم لتخلف المراد عن الارادة وهو محال فاذا أراد الله تبارك وتعالى شيأ على وجه إرادة لا تعليق فيها لا يمكن أن يريده على خلاف ذلك الوجه وأجيب بأنه يجوز أن يكون المراد إن إرادة الله تعالى ذلك غير معلق له على إرادته عز شأنه خلافه لا يأتيكم بخلافه غيره عز و جل ولم يصرح بالقيد لدلالة العقل الصريح على أن الارادة غير المعلقة لا يمكن الاتيان بخلاف موجبها أصلا ومن الناس من ذهب إلى أنه سبحانه لا يبت إرادته فجميع ما يريده جل شأنه معلق وقيل : الأولى أن ياقل : ليس المراد سوى أن آلهتهم لا يقدرون على الاتيان بنهار
(20/108)

بعد ليل وليل بعد نهار إذا أراد الله تعالى شأنه استمرار أحدهما وإنما القادر على الاتيان بذلك هو الله سبحانه وحده من غير نظد إلى كون ذلك الاتيان عقيدا بتلك الارادة فتدبر ومن رحمته أي بسبب رحمته جل شأنه جعل الليل والنهار لتسكنوا فيه أي في الليل ولتبتغوا من فضله أي في النهار بالسعي بأنواع المكاسب ففي الآية ما يقال له اللف والنشر ويسمى أيضا التفسير كقول ابن جيوش : ومقرطق يغني النديم بوجهه عن كأسه الملأى وعن ابريقه فعل المدام ولونها ومذاقها في مقلتيه ووجنتيه وريقه وضمير فضله لله تعالى وجوز أبو حيان كونه للنهار على الاسناد المجازي وهو خلاف الظاهر وفيها إشارة إلى مدح السعي في طلب الرزق وقد ورد الكاسب حبيب الله وهو لاينافي التوكل وأن ما يحصل للعبد بواسطته فضل من الله عز و جل وليس مما يجب عليه سبحانه ولعلكم تشكرون
37
- أي ولكي تشكروا نعمته تعالى فعل ما فعل أو لتعرفوا نعمته تعالى وتشكروه عليها ويوم يناديهم منصوب باذكر
فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون
47
- تقريع إثر تقريع للاشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الاشراك كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده عز و جل أو أن الأول لبيان فساد رأيهم كما يشير اليه قوله تعالى هناك : حق عليهم القول وهذا لبيان أن إشراكهم لم يكن عن سند بل عن محض هوى كما يشير اليه قوله تعالى بعد هاتوا برهانكم أو الأول إحضار للشركاء بعدم الصلوح لقوله سبحانه بعده : ادعوا شركاءكم فدعوهم وهذا تحسير بأنهم لم يكنوا في شيء من اتخاذهم ألا ترى قوله تعالى : وضل عنهم ما كانوا يفترون ونزعنا عطف على يناديهم وصيغة الماضي للدلالة على التحقق أو حال من فاعله باضمار قد أو بدونه والالتفات إلى نون العظمة لابراز كمال العناية بشأن النزع وتهويله أي أخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم شهيدا شاهدا يشهد عليهم بما كانوا عليه وهو نبي تلك الأمة كما روي عن مجاهد وقتادة ويؤيد قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا وهذا في موقف من مواقف يوم القيامة فلا يضر كون الشهيد في موقف آخر غير الأنبياء عليهم السلام وهم أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو الملائكة عليهم السلام لقوله تعالى : وجيء بالنبيين والشهداء فانه دال في الظاهر على مغايرة الشهداء للانبياء عليهم السلام
وقيل : يجوز اتحاد الموقف والدلالة على المغايرة غير مسلمة ولو سلمت فشهادة الأنبياء عليهم السلام لا تنافي شهادة غيرهم معهم وقوله تعالى : من كل أمة وإفراد شهيد ظاهر فيما تقدم ومن هنا قال في البحر قيل : أي عدولا وخيارا والشهيد عليه اسم جنس فقلنا لكل من تلك الأمم هاتوا برهانكم على صحة ما كنتم تدينون به فعلموا يومئذ أن الحق لله في الألوهية لا يشاركه سبحانه فيها أحد
وضل عنهم أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع فضل مستعار لمعنى غاب استعارة تبعية
ما كانوا يفترون
57
- في الدنيا من الباطل إن قارون اسم اعجمي منع الصرف للعلمية والعجمة
(20/109)

كان من قوم موسى أي من بني اسرائيل كما هو الظاهر وحكى ابن عطية الاجماع عليه واختلف في جهة قرابته من موسى عليه السلام فروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جريج وقتادة وابراهيم أنه ابن عم موسى عليه السلام فموسى بن عمران بن قاهث بقاف وهاء مفتوحة وثاء مثلثة ابن لاويبالقصر ابن يعقوب عليه السلام وهو ابن يصهر بياء تحتية مفتوحة وصاد مهملة ساكنة وهاء مضمومة ابن قاهث الخ
وفي مجمع البيان عن عطاء عن ابن عباس أنه ابن خالة موسى عليه السلام وروي ذلك عن ابي عبد الله رضي الله تعالى عنه
وحكي عن محمد بن اسحق أنه عم موسى عليه السلام وهو ظاهر على قول من قال : إن موسى عليه السلام ابن عمران بن يصهر بن قاهث وهو ابن يصهر بن قاهث وكان يسمى المنور لحسن صورته وكان أحفظ بني اسرائيل للتوراة وأقرأهم لكنه نافق كما نافق السامري وقال : إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان لهرون فما لي وروي أنه لما جاوز بهم موسى عليه السلام البحر وصارت الرسالة والحبورة لهرون يقرب القربان ويكون رأسا فيهم وكان القربان إلى موسى عليه السلام فجعله لأخيه هرون وجد قارون في نفسه فحسدهما فقال لموسى الأمر لكما ولست على شيء إلى متى أصبر قال موسى عليه السلام هذا صنع الله تعالى قال والله تعالى لا أصدقك حتى تأتي بآية فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون : ماهو بأعجب مما تصنع من السحر فبغى عليهم فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو تكبر عليهم وعد من تكبره أنه زاد في ثيابه شبرا أو ظلمهم وطلب ما ليس حقه قيل : وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل
وقيل حسدهم وطلب زوال نعمهم وذلك ما ذكر منه في حق موسى وهرون عليهما السلام والفاء فصيحة أي ضل فبغى وجوز أن تكون على ظاهرها لأن القرابة كثيرا ما تدعو إلى البغي واءتيناه من الكنوز أي الاموال المدخرة فهو مجاز بجعل المدخر كالمدفون ان كان الكنز مخصوصا به وحكي في البحر أنه سميت أمواله كنوزا لأنها لم تؤد منها الزكاة وقد أمره موسى عليه السلام بأدائها فأبى وهو من أسباب عداوته اياه وقيل : الكنوز هنا الأموال المدفونة وكان كما روي عن عطاء قد أظفره الله تعالى بكنز عظيم من كنوز يوسف عليه السلام ما إن مفاتحه أي مفاتح صناديقه فهو على تقدير مضاف اؤ الاضافة لأدنى ملابسة وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به
وقال السدي : أي خزائنه وفي معناه قول الضحاك أي ظروفه وأوعيته وروي نحو ذلك عن ابن عباس والحسن وقياس واحدة على هذا المفتح بالفتح لأنه اسم مكان ويؤيد ما تقدم قراءة الأعمش مفاتيحه بياء جمع مفتاح و ما موصولة ثاني مفعولي آتي ومفاتحه اسم إن وقوله تعالى : لتنوء بالعصبة أولي القوة خبرها والجملة صلة ما والعائد الضمير المجرور ومنع الكوفيون جواز كون الجملة المصدرة بان صلة للموصول قال النحاس : سمعت علي بن سليمان يعني الأخفش الصغير يقول ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات أنه لا يجوز أن تكون صلة
(20/110)

الذي إن وما عملت في وفي القرآن ما إن مفاتحه انتهى ولا يخفى أن المانع من ذلك إن كان عدم السماع فالرد عليهم لا يتم إلا بشاهد لا يحتمل غير ذلك و ما في الآية تحتمل أن تكون نكرة موصوفة وإن كان المانع كون إن تقع في ابتداء الكلام فلا ترتبط الجملة المصدرة بها بما قبلها فالرد بالآية المذكورة عليهم تام لأن المانع المذكور كما يمنع كون الجملة صلة يمنع كونها صفة فتدبر و تنوء من ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله فالباء للتعدية كما في ذهبت به والعصبة الجماعة الكثيرة من غير تعيين لعدد خاص على ماذكره الراغب ومن أهل اللغة من عين لها مقدارا واختلفوا فيه فقيل من عشرة إلى خمسة عشر وهو مروي هنا عن مجاهد وقيل : ما بين الخمسة عشر إلى الأربعين وروي ذلك عن الكلبي وقيل : ما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل : من عشرة إلى أربعين وروي هذا عن قتادة وقيل : اربعون وروي ذلك عن ابن عباس وقيل : سبعون وروي ذلك عن أبي صالح مولى أم هانيء وقال الخفاجي : قد يقال إن أصل معناها الجماعة مطلقا كما هو مقتضى الاشتقاق ثم ان العرف خصها بعدد واختلف فيه أو اختلف بحسب موارده وقال أبو زيد : تنوء من نوت بالحمل إذا نهضت به قال الشاعر : تنوء بأخراها فلا يا قيامها وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر وفي الآية على هذا قلب عند أبي عبيدة ومن تبعه والأصل تنوء بها أي تنهض وقيل : يجوز أن لا يكون هناك قلب لأن المفاتح تنهض ملابسة للعصبة إذا نهضت العصبة بها والأولى ما قدمناه أولا وهو منقول عن الخليل وسيبويه والفراء واختاره النحاس وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي وقرأ بديل بن ميسرة لينوء بالياء التحتية وخرج ذلك أبو حيان على تقدير مضاف مذكر يرجع اليه الضمير أي ما إن حمل مفاتحه أو مقدارها أو نحو ذلك وقال ابن جني : ذهب بالتذكير إلى ذلك القدر والمبلغ فلاحظ معنى الواحد فحمل عليه ونحوه وقول الراجز
مثل الفراخ نتفت حواصله
أي حواصل ذلك أو حواصل ما ذكرنا وقال الزمخشري : وجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ويعطيها حكم ما أضيفت اليه للملابسة والاتصال كقولك ذهبت أهل اليمامة انتهى وإنما فسر المفاتح بالخزائن دون ما يفتح به ليتم الاتصال فان اتصال الخزائن بالمخزون فوق اتصال المفاتيح به بل لا اتصال للثاني وحينئذ يكتسي التذكير من المضاف اليه كما اكتسى التأنيث من عكسه كالمثال الذي ذكره وما تقدم عن غيره أولى قال في الكشف لأن تفسير المفاتح بالخزائن ضعيف جدا لفوات المبالغة وقيل : إن المفاتح بذلك المعنى غير معروف وقد سمعت أنه تفسير مأثور فإذا صح ذلك فلا يلتفت الى ما ذكر من هذا وكلام الكشف وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ ما إن مفاتحه على الافراد فلا تحتاج قراءته لينوء بالياء إلى تأويل وقد بولغ في كثرة مفاتيحه فروي عن خيثمة أنها كانت وقر ستين بغلا أغر محجلا ما يزيد منها مفتاح على ابع لكل مفتاح كنز وفي رواية أخرى عنه كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود كل مفتاح على خزانة على حدة فاذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلا أغر محجلا
وفي البحر ذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب أو يقارب الكذب فلم أكتبه ومما لا مبالغة فيه ماروي عن ابن عباس من المفاتح الخزائن وكانت خزائنه يحملها أربعون رجلا أقوياء وكانت ارعمائة الف يحمل كل رجل عشرة آلاف وعليه فأمثال قارون في الناس أكثر من خزائنه ولعل الآية تشير إلى أن ما أوتيه فوق ذلك ولا أظن الأمر كما روي عن خيثمة وأبعد أبو مسلم في تفسير الآية فقال : المراد من المفاتح العلم والاحاطة
(20/111)

كماكما في قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب والمراد وآتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها القائمين على حفظها إذ قال له قومه قال الزمخشري : هو متعلق بتنوء وضعف بأن اثقال المفاتح العصبة ليس مقيدا بوقت قول قومه وقال ابن عطية : ببغي وضعف بنحو ذلك وقال أبو البقاء : بآتينا ويجوز أن يكون ظرفا لمحذوف دل عليه الكلام أي بغي عليهم إذ قال وفي كل منهما ما سبق وقال الحوفي منصوب باذكر محذوفا وكوز كونه متعلقا بما بعده من قوله تعالى : قال إنما اوتيته والجملة مقررة لبغيه ورجح تعلقه بمحذوف والتقدير أظهر التفاخر والفرح بما أوتي إذ قال له قومه لا تفرح لا تبطر والفرح بالدنيا لذاتها مذموم لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فان العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح حتما كما قال أبو الطيب : أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا وقال ابن شمس الخلافة : وإذا نظرت فان بؤسا زائلا للمرء خير من نعيم زائل ولذلك قال عز و جل : ولا تفرحوا بما آتاكم والعرب تمدح بترك الفرح عند اقبال الخير قال الشاعر : ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتقلب وقال آخر : إن تلاق منفسا لا تلقنا فرح الخير ولا نكبو لضر وعلل سبحانه النهي ههنا بكون الفرح مانعا من محبته عز و جل فقال تعالى : إن الله لا يحب الفرحين
67
- فهو دليل اني على كون الفرح بالدنيا مذموما شرعا وإنما قلنا إن الفرح بها لذاتها مذموم لأن الفرح بها لكونها وسيلة إلى أمر من أمور الآخرة غير مذموم ومحبة الله تعالى عند كثير صفة فعل أي أنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ولا ينعم جل شأنه عليهم ولا يقربهم عز و جل والمراد أنه تعالى يبغضهم ويهينهم ويبعدهم عن حضرته سبحانه وقال بعضهم : إن في نفي محبته تعالى إياهم تنبيها على أن عدم محبته تعالى كاف في الزجر عما نهى عنه فما بلك بالبغض والعقاب وهو حسن وحكى عيسى بن سليمان الحجازي أنه قريء الفارحين
وابتغ فيما آتاك الله من الكنوز والغنى الدار الآخرة أي ثوابها أي ثواب الله تعالى فيها بصرف ذلك إلى ما يكون وسيلة اليه و في إما ظرفية على معنى ابتغ متقلبا ومتصرفا فيه أو سببية على معنى ابتغ بصرف ما أتاك الله تعالى ذلك وقريء اتبع ولا تنس أي ولا تترك ترك المنسي نصيبك من الدنيا أي حظك منها وهو كما أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن تعمل فيها لآخرتك وروي ذلك عن مجاهد
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة هو أن تأخذ من الدنيا ما أحل الله تعالى لك وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن منصور قال : ليس هو عرض الدنيا ولكن نصيبك عمرك أن تقدم فيه لآخرتك وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن أنه قال في اةية : قدم الفضل وأمسك ما يبلغك وقال مالك : هو الاكل والشرب بلا سرف وقيل : أرادوا بنصيبه من الدنيا الكفن كما قال الشاعر : نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط
(20/112)

وفي نهيهم إياه عن نسيان ذلك حض عظيم له على التزود من ماله للآخرة فان من يكون نصيبه من دنياه وجميع ما يملكه الكفن لا ينبغي له ترك التزود من ماله وتقديم ما ينفعه في آخرته وأحسن إلى عباد الله عز و جل كما أحسن الله إليك أي مثل إحسانه تعالى فيما أنعم به عليك والتشبيه في مطلق الاحسان أو لأجل إحسانه سبحانه إليك على أن الكاف للتعليل
وقيل : المعنى وأحسن بالشكر والطاعة كما أحسن الله تعالى عليك بالانعام والكاف عليه أيضا تحتمل التشبيه والتعليل ولا تبغ الفساد في الأرض نهي عن الاستمرار على ما هو عليه من الظلم والبغي
إن الله لا يحب المفسدين
77
- الكلام فيه كالكلام في قوله سبحانه : إن الله لايحب الفرحين وهذه الموعظة بأسرها كانت من مؤمني قومه كما هو ظاهر اةية وقيل : إنها كانت من موسى عليه السلام قال مجيبا لمن نصحه إنما أوتيته على علم عندي كأنه يريد الرد على قولهم : كما أحسن الله اليك لإنبائه عن أنه تعالى أنعم عليه بتلك الأموال والذخائر من غير سبب واستحقاق من قبله وحاصله دعوى استحقاقه لما أوتيه لما هو عليه من العلم وقوله على علم عند أكثر المعربين في موضع الحال من مرفوع أوتيته قيد به العامل إشارة إلى علة الايتاء ووجه استحقاقه له أي إنما اوتيته كائنا على علم وجوز كون على تعليلية والجار والمجرور متعلق بأوتيت على أنه ظرف لغو كأنه قيل أوتيته لأجل علم و عندي في موضع الصفة لعلم والمراد لعلم مختص بي دونكم وجوز كونه متعلقا بأوتيت ومعناه في ظني ورأيي كما في قولك : حكم كذا الحل عند أبي حنيفة عليه الرحمة وفي الكشاف ما هو ظاهر في أن عندي إذا كان بمعنى في ظني ورأيي كان خبر مبتدأ محذوف أي هو في ظني ورأيي هكذا والجملة عليه مستأنفة تقرر أن ما ذ : ره رأي مستقر هو عليه قال في الكشف : وهذا هو الوجه والمراد بهذأ العلم قيل علم التوراة فانه كان أعلم بني اسرائيل بها وقال أبو سليمان الداراني : علم التجارة ووجوه المكاسب وقال ابن المسيب : علم الكيمياء وكان موسى عليه السلام يعلم ذلك فأفاد يوشع بن نون ثلثه وكالب بن يوفا ثلثه وقارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا وقيل : علم الله تعالى موسى عليه السلام علم الكيمياء فعلمه موسى اخته فعلمته أخته قارون وروي عن ابن عباس تخصيصه بعلم صنعة الذهب وقيل : علم استخراج الكنوز والدفائن وعن أبي زيد أن المراد بالعلم علم الله تعالى وأن المعنى أوتيته على علم من الله تعالى وتخصيص من لدنه سبحانه قصدني به و عندي عليه بمعنى في ظني ورأيي وقيل : العلم بمعنى المعلوم كثله في قوله تعالى : ولا يحيطون بشيء من علمه وإلى ذلك ما يشير ما روي عن مقاتل أنه قال أي على خير علمه الله تعالى عندي وتفسيره بعلم الكيمياء شائع فيما بين أهلها وفي مجمع البيان حكايته عن الكلبي أيضا وأنكره الزجاج وقال : إنه لا يصح لأن علم الكيمياء باطل لا حقيقة له وتعقبه الطيبي بأنه لعله كان من قبيل المعجز وتعقب بأنه ليس بسديد وإلا لما تمكن قارون منه وإنكار الكيمياء وهو لفظ يوناني معناه الحيلة أو عبراني وأصله كيم يه بمعنى أنه من الله تعالى أو فارسي وأصله كي ميا بمعنى متى
(20/113)

بطريق مخصوص مما لم يختص بالزجاج بل انكرها جماعة اجلة وقالوا بعدم امكانها وذهب آخرون إلى خلاف ذلك
وإذا أردت نبذة الكلام فاستمع لما يتلى عليك ذكر بعض المحققين أن مبني الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة النطرقة وهي الذهب والفضة والرصاص والقزدير والنحاس والحديد والخارصيني هل هي مختلفات بالفصول فيكون كل منها نوعا غير النوع الآخر أو هي مختلفات بالخواص والكيفيات فقط فتكون كلها أصنافا لنوع واحد فالدي ذهب اليه المعلم أبو نصر الفارابي وتابعه عليه حكماء الاندلس أنها نوع واحد وان اختلافها بالكيفيات من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان نحو الصفرة والبياض والسواد وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد وبني على ذلك امكان انقلاب بعضها إلى بعض بتبدل الأعراض بفعل الطبيعة أو بالصنعة وقد حكى أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة في بعض تصانيفه عن المعلم المذكور أنه قال : قد بين أرسطو في كتبه في المعادن أن صناعة الكيمياء داخلة تحت الامكان إلا أنها من الممكن الذي يعسر وجوده بالفعل اللهم إلا أن يتفق قرائن يسهل بها الوجود وذلك أنه فحص عنها أولا على طريق الجدل فأثبتها بقياس وأبطلها بقياس على عادته فيما يكثر عناده من الأوضاع ثم أثبتها أخيرا بقياس ألفه من مقدمتين بينهما في أول الكتاب الأولى أن الفلزات واحدة بالنوع والاختلاف الذي بينها ليس في ماهيتها وإنما في أعراضها فبعضه في أعراضها الذاتية وبعضه في أعراضها العرضية والثانية أن كل شيئين تحت نوع واحد اختلفا بعرض فانه يمكن انتقال كل منهما إلى الآخر فان كان العرض ذاتيا عسر الانتقال وإن كان مفارقا سهل الانتقال والعسر في هذه الصناعة إنما هو لأختلاف أكثر هذه الجواهر في أعراضها الذاتية ويشبه أن يكون الاختلاف الذي بين الذهب والفضة يسير جدا اه والذي ذهب اليه الشيخ ابو علي بن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول وأنها أنواع متباينة وبنى على ذلك انكار هذه الصناعة واستحالة وجودها لأن الفصل لا سبيل بالصناعة اليه وانما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو الله عز و جل وهذا ما حكاه ابن خلدون عنه وقال الامام في المباحث المشرقية في الفصل الثامن من القسم الرابع منها : الشيخ سلم امكان أن يصبغ النحاس بصبغ الفضة والفضة بصبغ الذهب وأن يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص فأما أن يكون الفصل المنوع يسلب أو يكسي قال : فلم يظهر لي امكانه بعد إذ هذه الأمور المحسوسة تشبه أن لا تكون الفصول التي بها تصير هذه الأجساد أنواعا بل هي أعراض ولوازم وفصولها مجهولة وإذا كان الشيء مجهولا كيف يمكن قصد إيجاده وافنائه اه
وغلطه الطغرائي وهو من أكابر أهل هذه الصناعة وله فيها عدة كتب ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وابداعه وإنما هو في اعداد المادة لقبول خاصة يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه جل شأنه وعظمت قدرته كما يفيض سبحانه النور على الأجسام بالصقل ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مثل العقرب من التراب والتبن والحية من الشعر وغير ذلك فما المانع من العثور على مثل ذلك في المعادن وهذا كله بالصناعة وهي أنما موضوعها المادة فبعدها التدبير
(20/114)

والعلاج إلى قبول تلك الفصول لا أكثر فنحن نحاول مثل ذلك في الذهب والفضة فنتخذ مادة نصفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب والفضة ثم نحاول بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلها أه بمعناه وهو رد صحيح فيما يظهر وقال الامام بعد ذكره ما سمعت من كلام الشيخ : هو ليس بقوي لأنا نشاهد من الترياق آثارا وأفعالا مخصوصة فأما أن لا نثبت له صورة ترياقية بل نقول إن الافعال الترياقية حاصلة من ذلك المزاج لا من صورة أخرى جاز أيضا أن يقال صفرة الذهب ورزانته حاصلتان مما فيه من المزاج لا من صورة مقومة فحينئذ لا يكون للذهب فصل منوع إلا مجرد الصفرة والرزانة ولكنهما معلومتان فأمكن أن تقصد ازالتهما واتخاذهما فبطل ما قاله الشيخ وأما إذا أثبتنا صورة مقومة له فنقول لاشك بأنا لا نعقل تلك الصورة إلا أنها حقيقة تقتضي الافعال المخصوصة الصادرة عن الترياق فأما أن يكون هذا القدر من العلم يكفي في قصد الايجاد والابطال أو لا يكفي فان لم يكف وجب أن لا يمكننا اتحاذ الترياق وإن كفى فهو في مسألتنا أيضا حاصل لانا نعلم من الصورة الذهبية أنها ماهية تقتضي الذوب والصفرة والرزانة ويجلب أيضا بأنا وان كنا لا نعلم الصورة المقومة على التفصيل إلا أنا نعلم الأعراض التي تلائمها والتي لا تلائمها ونعلم أن العرض الغير الملائم إذا اشتد في المادة بطلت الصورة مثل الصورة المائية فانا نعلم أن الحرارة لا تلائمها وإن كنا لا نعلم ماهيتها على التفصيل فلذلك يمكننا أن نبطل الصورة المائية وأن نكسبها أما الابطال فبتسخين الماء وأما الاكتساب فبتبريد الهواء فكذلك في مسألتنا واحتج قوم من الفلاسفة على امتناعها بأمور : أولها أن الطبيعة إنما تعمل هذه الأجساد من عناصر مجهولة عندنا ولتلك العناصر مقادير معينة مجهولة عندنا أيضا ولكيفيات تلك العناصر مراتب معلومة وهي مجهولة عندنا ولتمام الفعل والانفعال زمان معين مجهول عندنا ومع الجهل بكل ذلك كيف يمكننا عمل هذه الأجساد وثانيها : أن الجوهر الصابغ أما أن يكون أصبر على النار من المصبوغ أو يكون المصبوغ أصبر أو يتساويان فان كان الصابغ وإن تساويا في الصبر على النار فهما من نوع واحد لاستوائهما في الصبر على النار فليس أحدهما بالصابغية والآخر بالمصبوغية أولى من العكس وثالثها : أنه لو كان بالصناعة مثلا لما كان بالطبيعة لكن التالي باطل أما أولا فلأنا لم نجد له شبيها وأما ثانيا فلأنه لو جاز أن يوجد بالصناعة ما يحصل بالطبيعة لجاز أن يحصل بالطبيعة ما يحصل بالصناعة حتى يوجد سيف أو سرير بالطبيعة ولما ثبت امتناع التالي ثبت امتناع المقدم ورابعها : أن لهذه الاجساد اماكن طبيعية هي معادنها وهي لها بمنزلة الارحام للحيوان فمن جوز تولدها في غير تلك المعادن كان كمن جوز تولد الحيوانات في غير الارحام وأجاب الامام عن الأول بأنه منقوض بصناعة الطب
وعن الثاني بأنه لا يلزم من استواء الصابغوالمصبوغ في الصبر على النار استواؤهما في الماهية لأن المختلفين قد يشتركان في بعض الصفات وعن الثالث بأنه قد يوجد بالثناعة مثل ما يوجد بالطبيعة مثل النار الحاصلة بالقدح والنوشادر قد يتخذ من الشعير وكذلك كثير من الزاجات ثم بتقدير أن لا نجد له مثالا لا يلزم الجزم بنفيه ولا يلزم من إمكان حصول الأمر الطبيعي بالصناعة امكان عكسه بل الأمر فيه موقوف على الدليل وعن الرابع بأن من أراد أن يقلب النحاس فضة فهو لا يكون كالمحدث للشيء بل كالمعالج للمريض فإن
(20/115)

النحاس من جوهر الفضة إلا أن فيه عللا وأمراضا وكما يمكن المعالجة لا في موضع التكون فكذلك في هذا الموضع على أن حاصل الدليل أن الذي يتكون في الجبال لا يمكن تكونه بالصناعة وفيه وقع النزاع وابن خلدون بعد أن ذكر كلام ابن سينا ورد الطغرائي عليه قال : لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذ آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان زعمهم أجمعين وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعا ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة للجسم في المعدن حتى أحالته ذهبا أو فضة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فاذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمان كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانتفاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعا إلى الغذاء فتفعل تلك الصورة الأفاعيل المطلوبة وذلك هو الأكسير واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية لابد فيه من اجتماع العناصر الاربعة على نسب متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما حصل امتزاجها فلابد من الجزء الغالب على الكل ولا بد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونها الحافظة لصورته ثم كل متكون في زمان لابد من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته وانظر شأن الانسان في تطوره نطفة ثم علقة ثم وثم إلى نهايته ونسب الأجزاء في كل طور مختلف مقاديرها وكيفياتها وإلا لكان الطور الأول بعينه هو ألآخر وكذا الحرارة المقدرة الغريزية في كل طور مخالفة لما في الطور الآخر فانظر إلى الذهب ما يكون في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم ومن شرط الصناعة مطلقا تصور ما يقصد إليه بها فمن الأمثال السائرة في ذلك للحكماء أول العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أول العمل فلابد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة ونسبها المتفاوتة في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المتضاعفة ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك فعل الطبيعة في المعدن أو يعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها
وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط وهو علمه عز و جل والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصناعة بمثابة من يدعي صنعة تخليق الانسان من المني ونحن إذا سلمنا الاحاطة بأجزائه ونسبه وأطواره وكيفية تخليقه في رحمه وعلم ذلك علما محصلا لتفاصيله حتى لا يشذ من ذلك شيء عن علمه سلمنا له تخليق هذا الانسان وأنى له ذلك والحاصل أن الفعل الصناعي على ما يقتضيه كلامهم مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي تقصد مساواتها ومحاذاتها وفعل المادة ذات القوى فيها على التفصيل وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشري عاجز عما دونها فقصد تصيير النحاس ذهبا كقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات وهذا أوثق ما علمته من البراهين الدالة على الاستحالة وليست
(20/116)

الاستحالة فيها لاستحالة فيه من جهة الفصول ولا من جهة الطبيعة وإنما هي من تعذر الاحاطة وقصور البشر عنها وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك ولذلك وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته وهو أن حكمة الله تعالى في الحجرين وندرتهما أنهما عمدتا مكاسب الناس ومتمولاتهم فلو حصل عليها بالصنعة لبطلت حكمة الله تعالى في ذلك إذ يكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء وآخر أيضا وهو أن الطبيعة لا تترك اقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأبعد فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون صحته وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زمانا صحيحا لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في تكوين الذهب والفضة وتخليصهما وأما تشبيه الطغرائي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب والحية وتخليقهما فأمر صحيح في ذلك أدى عليه العثور كما زعم وأما الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه عثر عليها ولا على طريقها وما زال منتحلوها يخبطون فيها خبط عشواء ولا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة ولو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه ولده أو تلميذه وأصحابه وتنوقل في الاصدقاء وضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ الينا أو إلى غيرنا وأما قولهم : إن الاكسير بمثابة الخميرة وأنه مركب يحيل ما حصل فيه ويقلبه إلى ذاته فليس بشيء لأن الخميرة إنما تقلب العجين وتعده للهضم وهو فساد والفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال والطبائع والمطلوب من الاكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى فهو تكوين والتكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الاكسير على الخميرة ثم قال : وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما يزعم الحكماء المتكلمون فيها فليس من باب الصنائع الطبيعية ولا يتم بأمر صناعي وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات وإنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق وقد ذكر مسلمة المجريطي في كتابه الغاية ما يشبه ذلك وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى وكذا كلام جابر في رسائله
وبالجملة أن نيلها إن كان صحيحا فهو واقع مما وراء الصنائع والطبائع فهي إنما تكون بتأثيرات النفس وخوارق العادة كالمشي على الماء وتخليق الطير فليست إلا معجزة أو كرامة أو سحرا ولهذا كان كلام الحكماء فيها الغازا لا يظفر بتحقيقه إلا من خاض لجة من علوم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها اه وإلى إمكانها ذهب الامام الرازي فقال الحق أمكانها لأن الأجساد السبعة مشتركة في أنها أجساد ذائبة صابرة على النار منطرقة وأن الذهب لم يتميز عن غيره إلا بالصفرة والرزانة أو الصورة الذهبية المفيدة لهذين العرضين إن ثبت ذلك وما به الاختلاف لا يكون لازما لما به الاشتراك فاذن يمكن أن تتصف جسمية النحاس بصفرة الذهب ورزانته وذلك هو المطلوب والحق أن الكيمياء ممكنة وأنها من الصنائع الطبيعية لكن العلم بها من أقاصي العلوم الصعبة التي لا يطلع عليها إلا من أهله الله تعالى لها وأختصه سبحانه من عباده وأوليائه بها وهو علم تاهت في طلبه العقول وطاشت الاحلام وأصله من الوحي الالهي وحصل لبعض بالتصفية وكثرة النظر مع التجربة ووصل إلى من ليس أهلا للوحي ولم يتعاط ما تعاطاه البعض بالتعلم ممن من الله تعالى به عليه وقال ارس : وهو من أجلة أهل هذا العلم كان أوله وحيا من الله تعالى ثم درس وباد فاستخرجه من استخرجه من الكتب وقد جرت سنة الله تعالى فيمن ظفر به بكتمه إلا على من شاء الله تعالى وتواصت الحكماء على كتمه عن غير أهله بل قيل : إن الله تعالى أخذ على العقول في فطرتها المواثيق
(20/117)

بكتمانهبكتمانه وصيانته والاحتراس من إذاعته واضاعته ولذا ترى الحكماء قد الغزوه نهاية الالغاز وأعمضوه غاية الاغماض حتى عد كلامهم من لم يعرف مرامهم حديث خرافة وحكم على قائله بالسفه والسخافة وبهذا الكتم حفظت حكمة الله تعالى التي زعمها ابن خلدون في النقدين وسقط استدلاله الذي سمعه فيما مر
وقد نص جابر بن حيان وهو أمام في هذه الصنعةوإنكار أنه كان موجودا حمق في كتابه سر الاسرار على ما قلنا حيث قال : كل حكيم وضع رمزه وكتابه على معنى مبهم من وضع الحل والاصعاد والغسل على اربع طبائع وسماها الاجساد الثقال ووصف التدابير على لفظ ومعنى مشتبه فهو عند الحكيم مفتوح وعند الجهلة مغلق وربما تعدوا إلى أخذ تلك الأجساد بعينها واختبروها ولم ينتفعوا بها وشتموا الحكماء على كتمانهم هذا العمل وإنما عمارة الدنيا بالدراهم والدنانير وأن الناس الصناع والمقاتلة لا يعملون إلا لرغبة أو رهبة فعلموا أنهم إن أفشوا هذا السر حتى يعلمه كل أحد لم يتم أمر الدنيا وخربت ولم يعمل أحد لأحد فخرجوا من ذلك وكتموه اه ثم لا يخفى أن ماذكره ابن خلدون اولا أن من الاستحالة لعدم الاحاطة إذا ثبت أنها كانت عن وحي ليس بشيء على أن فيه ما فيه وإن لم يثبت ذلك ومثل ذلك ما ذكره من أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأبعد لأنا نقول ما يحصل من الطبائع أيضا فيكون لها طريقان بعيد اقتضت الحكمة أن تسلكه غالبا وقريب اقتضت الحكمة أيضا أن تسلكه نادرا بواسطة من شاء الله تعالى من عباده وكون المنتحلين لم يزالوا يخبطون خبط عشواء إن أراد بهم أئمة هذه الصناعة كهرمس وسقراط وإفلاطون واغاريمون وفيثاغورس وهرقل وفرفوريوس ومارية وذوسيموس واورس وذومقراط وسفيدوس وبليناس ومهراريس وجابر بن حيان والمجريطي وأبو بكر بن وحشية ومحمد بن زكريا الرازي وغيرهم مما لا يحصون كثرة فهم لم يخبطوا ودون اثبات خبطهم خرط القتاد والغازهم لنكتة صرحوا بها لا يدل على خبطهم وإن أراد بهم من يتعاطاها من المشاقين في عصره وفي هذه الأعصار فما ذكره مسلم في أكثرهم وهو لا يطعن في إمكانها وقد ذم الطغرائي هذا الصنف من الناس في كتابه تراكيب الأنوار : إن المعلم الناصح موجود في كل صنعة إلا في هذا الفن وكيف يرجى النصح عند قوم يسمون فيما بينهم بالحسدة وتحالفوا فيما بينهم أن لا يوضحوا هذه السرائر أبدا لا سيما في هذا الزمان الذي قد باد فيه هذا العلم جملة وصار المتعرض له والباحث عنه عند الناس مسخرة وقد عنيت برهة من الزمان أبحث عن كل من يظن ان عنده طرفا من هذا العلم فما وجدت أحدا شم له رائحة ولا عرف منه شطر كلمة ووجدت منتحلي هذه الصنعة الشريفة بين مخادع يبيع دينه ومروءته بعرض من الدنيا قليل ويتلف أموال الناس بالتجارب الصادرة عن الجهل وبين مخدوع مأخوذ عن رشده بالأمل الخائب والطمع الكاذب والتشاغل بالباطل عن طلب المعاش الجميل والتعويل على الاماني والأكاذيب قصارى أحدهم أن ينظر في كتب جابر وأضرابه فيأخذ بظواهر كلامهم ويغتر بجلايا دعاويهم دون حقائق معانيهم وهم وجميع من مضى من حكماء هذه الصنعة يحذرون الناس من الاغترار بظواهر كتبهم وينادون على أنفسهم بأنهم يرمزون ويلغزون و لا يلتفت الى قولهم ولا يصدقون الى آخر ما قال وقد تفاقم الأمر في زماننا إلى ما لا تتسع العبارة لشرحه وكون الكيمياء من تأثيرات النفوس وخوارق العادات فلا تكون إلا معجزة أو
(20/118)

كرامةكرامة أو سحرا ليس بشيء بل هي بأسباب عادية لكنها خفية على أكثر الناس لا دخل لتأثير النفوس فيها أصلا نعم قد يكون من النبي أو الولي ما يكون من الكيماوي من غير معاطاة تلك الاسباب فيكون ذا كرامة أو معجزة وكون منحى كلام بعض الحكماء فيها منحى كلامهم في الأمور السحرية لا يدل على أنها من أنواع السحر أو توابعه فان ذلك من الغازهم لأمرها وقد تفننوا في الالغاز لها وسلكوا في ذلك كل مسلك فوضع بليناس كتابه فيها على الافلاك والكواكب ومنهم من تكلم عليها بالأمثال ومنهم من تكلم عليها بالحكايات التي هي أشبه بالخرافات الى غير ذلك وبالجملة هي صنعة قل من يعرفها جدا وأعد الاشتغال بها والتصدي لمعرفتها من كتبها من غير حكيم عارف برموزها كما يفعله جهلة المنتحلين لها اليوم محض جنون وكون أصلها الوحي الالهي أو نحو ذلك هو الذي يغلب على الظن وقد أورد الطغرائي في كتبه كجامع الاسرار وغيره ما يدل على ذلك فذكر أنه روي عن هرمس أنه قال : إن الله عز و جل أوحى إلى شيت بن آدم عليهما السلام أن ازرع الذهب في الأرض البيضاء النقية واسقه ماء الحياة وقالت مارية : إني لست أقول لكم من تلقاء نفسي ولكني أقول لكم ما أمر الله تعالى به نبيه موسى عليه السلام وأعلمه أن الحجر النسطريس هو الذي يمسك الصبغ وقال بنسبتها إلى موسى عليه السلام ذو سيموس وارس وذكر ارس أن العمل بها كان طوع اليهود بمصر وكان يوسف عليه السلام وهو أول من دخل مصر من بني إسرائيل يعرف ذلك فأكرمه فرعون لحكمته التي آتاه الله تعالى إياها وذكر أيضا فصلا مرموزا فيه نسبه الى سليمان عليه السلام
وقال الطرسوسي في كتابه : إن الله تعالى لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة عوضه علم كل شيء وكان علم الصنعة مما علمه وانتقل من قوم الى قوم كما انتقلت العلوم الأخر إلى أيام هرمس الأول وقال أيضا : حدثونا عن محمد بن جرير الطبري باسناد له متصل أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وأعطيت الكبريت الابيض والأحمر
وروى جابر عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه في ذلك روايات كثيرة حتى أنه أسند اليه عدة من كتبه ولا أحقق قوله ولا أكذبه وأجله لموضعه من العلم والعمل عن الافتراء على الأئمة وروي عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل فقيل : له ما تقول فيما خاض الناس فيه من علم الكيمياء فأطرق مليا ثم رفع رأسه ثم قال : سألتموني عن أخت النبوة وتؤام المروة لقد كان وانه لكائن وما من شجرة ولا مدرة ولا شيء إلا وفيه أصل وفرع أو أصل أو فرع قيل : يا أمير المؤمنين أما تعلمه قال : والله تعالى أنا أعلم به من العالمين لأنهم يتكلمون بالعلم على ظاهره دون باطنه وأنا أعلم العلم ظاهره وباطنه قيل : فاذكر لنا منه شيئا نأخذ منك قال : والله تعالى لولا أن النفس أمارة بالسوء لقلت قيل : فكان كان تقول قال : إني أعلم أن في الزئبق الرجراج والذهب الوهاج والحديد المزعفر وزنجار النحاس الأخضر لكنوز لا يؤتى على آخرها يلقح بعضها ببعض فتفتر عن ذهب كامن قيل : يا أمير المؤمنين ما نعلم هذا قال : هو ماء جامد وهواء راكد ونار حائلة وأرض سائلة قالوا ما نفقه هذا قال : لو حل للمؤمنين من أهل الحكمة أن يكلموا الناس على غير هذا لعلمه الصبيان في المكاتب اه كلام الطغرائي باختصار
(20/119)

وذكروذكر في كتابه مفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة عن ستين نبيا وحكيما أنهم قالوا بحقية هذا العلم وفي القلب من صحة هذه الأخبار شيء والأغلب على الظن أنه لو كان في الكيمياء خبر مقبول عند المحدثين لشاع ولما أنكرها من هو من أجلتهم كشيخ الاسلام تقي الدين أحمد بن تيمية فانه ينكر ثبوتها وألف رسالة في إنكارها ولعل رد الشيخ نجم الدين ابن أبي الذر البغدادي وتزييفه ما قاله فيها كما زعم الصفدي إنما كان فيما هو من باب الاستدلالات العقلية فان الرجل في باب النقليات مما لا يجاريه نجم الدين المذكور وأمثاله وهو من باب العقليات وإن كان جليلا أيضا إلا أنه دونه في النقليات والمطلب دقيق حتى أن بعض من تعقد عليه الخناصر اضطرب في أمرها فأنكرها تارة وأقر بها أخرى فهذا شيخ الحكماء ورئيسهم أبو علي بن سينا سمعت منقل عنه اولا وحكي عنه الرجوع عنه وعلى جودة ذهنه وعلو كعبه في الحكمة بأقسامها لم يقف على حقيقة عملها حتى قال الطغرائي في تراكيب الأنوار ما ينقضي عجبي من أبي علي بن سينا كيف استجاز وضع رسالة في هذا الفن فضح بها نفسه وخالف الاصول التي عنده وقصر فيها عن كثير من الحشوية الطغام المظلمة الأذهان الكليلة الأفهام
وقال في جامع الاسرار : إن الشيخ أبا علي بن سينا لفرط شغفه بهذا العلم وحدسه القوي بأنه حق صنف رسالة فيه فأحسن فيما يتعلق باصول الطبيعيات ولخفاء طريق القوم واستعمائها دونه لم يذكر في التدابير المختصة بعلمنا لفظة صحيحة ولا أشار إلى ذكر المزاج الحق والأوزان والتراكيب المكتومة والنيران وطبقاتها والآلة التي لا يتم العمل إلا بها وهي أحد الشرائط العشرة ولم يتجاوز من عند الحشوية من تدابير الزوابق والكباريت والدفن في زبل الخيل والتشاغل بهذه القاذورات ولولا آفة الاعجاب وحسن ظن الانسان بعلمه وحرصه على أن لا يشذ عنه شيء من المعارف لكان من الواجب على مثله مع غزارة علمه وعلو طبقته في الابحاث الحقيقية أن يكتفي بما عنده ولا يتعرض لما لا يعلمه وقد تأدى إلينا من تدابيره عن أصحابه الذين شاهدوها أنه لم يكن يعرف حقيقة علمنا وقد رأينا بخطه من التعاليق الملتقطة من كلام جابر بن حيان وخالد بن يزيد ما يدل أيضا على ذلك اه ملخصا والكلام في هذا المطلب طويل وفيما ذكرنا كفاية لمن أحب الاطلاع على شيء مما قيل في ذلك والله تعالى الموفق ثم إن القول بأن المراد بالعلم في اةية علم استخراج الكنوز والدفائن يستدعي ثبوت هذا العلم وأهل علم الحرف وعلم الطلسمات يقولون به ولهم في ذلك كلام طويل يجوز ثبوته والله تعالى أعلم بثبوته في نفس الأمر
أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا تقرير لعلمه ذلك وتنبيه على خطئه في اغتراره وعلمه بذلك من التوراة أو من موسى عليه السلام أو من كتب التواريخ أو من القصاص والقوة تحتمل القوة الحسية والمعنوية والجمع يحتمل جمع المال وجمع الرجال والمعنى ألم يقف على ما يفيده العلم ولم يعلم ما فعل الله تعالى بمن هو أشد منه قوة حسا أو معنى وأكثر مالا أو جماعة يحوطونه ويخدمونه حتى لايغتر بما بما اغتر به ويحتمل أن تكون الهمزة للانكار داخلة على مقدر وجملة ولم يعلم حالية مقررة للانكار ودالة على انتفاء ما دخلت عليه كما في قولك : أتدعي الفقه وأنت لا تعرف شروط الصلاة والمراد رد ادعائه العلم والتعظم به بنفي هذا العلم عنه أي أعلم ما ادعاه ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين وقيل : إن لم
(20/120)

يعلم عطف على ذلك المقدر ونفي العلم عنه لعدم جريه على موجبه ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون
87
- الظاهر أن هذا في الآخرة وأن ضمير ذنوبهم للمجرمين وفاعل السؤال إما الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام والمراد بالسؤال المنفي هنا وكذا في قوله تعالى : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان على ما قيل : سؤال الاستعلام ونفي ذلك بالنسبة اليه عز و جل ظاهر وبالنسبة إلى الملائكة عليهم السلام لأنهم مطلعون على صحائفهم أو عارفون إياهم بسيماهم كما قال سبحانه : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام
والمراد بالسؤال المثبت في قوله عز و جل : فوربك لنسألنهم أجمعين سؤال التوبيخ والتقريع فلا تناقض بين الآيتين وجوز أن يكون السؤال في الموضعين بمعنى والنفي والاثبات باعتبار موضعين أو زمانين والمواقف يوم القيامة كثيرة واليوم طويل فلا تناقض أيضا والظاهر أن الجملة غير داخلة في حيز العلم ولعل وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما هدد قارون بذكر اهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا أردف ذلك بما فيه تهديد كافة المجرمين بما هو أشنع وأشنع من عذاب الآخرة فان عدم سؤال المذنب مع شدة الغضب عليه يؤذن بالايقاع به لا محالة وجعل الزمخشري الجملة تذييلا لما قبلها وقيل : إن ذلك في الدنيا
والمراد أنه تعالى أهلك من أهلك من القرون عن علم منه سبحانه بذنوبهم فلم يحتج عز و جل إلى مسألتهم عنها وقيل : إن ضمير ذنوبهم لمن هو أشد قوة وهو المهلك من القرون والافراد والجمع باعتبار اللفظ والمعنى والمعنى ولا يسأل عن ذنوب اولئك المهلكين غيرهم ممن أجرم ويعلم أنه لا يسأل عن ذنوبهم من لم يجرم بالأولى لما بين الصنفين من العداوة فمآل المعنى لا يسأل عن ذنوبهم المهلكين غيرهم ممن أجرم وممن لم يجرم بل كل نفس بما كسبت رهينة وكلا القولين كما ترى وربما يختلج في دهنك عطف هذه الجملة على جملة الاستفهام أو جعلها حالا من فاعل أهلك أو من مفعلوه لكن إذا تأملت أدنى تأمل أخرجته من ذهنك وأبيت حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك
وقرأ أبو جعفر في رواية ولا تسأل بتاء الخطاب والجزم المجرمين بالنصب وقرأ أبو العالية وابن سيرين ولا تسأل 9 كذلك ولم ندر أنصبا المجرمين كأبي جعفر أم رفعاه كما هو في قراءة الجمهور والظاهر الأول وجوز صاحب اللومح الثاني وذكر له وجهين : الأول أن يكون ضمير ذنوبهم للمهلكين من القرون وارتفاع المجرمين باضمار المبتدأ أي هم المجرمون والثاني أن يكون المجرمون بدلا من ضمير ذنوبهم باعتبار أن أصله الرفع لأن اضافة ذنوب اليه بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل وأورد على هذا أن ذنوب جمع فان كان جمع مصدر ففي إعماله خلاف
فخرج على قومه عطف على قال وما بينهما اعتراض وقوله تعالى : في زينته إما متعلق بخرج أو بمحذوف هو حال من فاعله أي فخرج عليهم كائنا في زينته قال قتادة : ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء وعلى دوابهم قطائف الأرجوان وقال السدي : خرج في جوار بيض على سروج من ذهب على قطف أرجوان وهن على بغال بيض عليهن ثياب حمر وحلي ذهب وقيل : خرج على بغلة شهباء عليها الارجوان وعليها سرج من ذهب ومعه اربعة آلاف خادم عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعلى يمينه ثلاثمائة غلام وعلى يساره ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج
(20/121)

وأخرجوأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات وكان ذلك أول يوم في الأرض رؤيت المعصفرات فيه وقيل غير ذلك في الكيفيات وكان ذلك الخروج على ما قيل يوم السبت قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون قيل كانوا جماعة من المؤمنين وقالوا ذلك جريا على سنن الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار وعن قتادة أنهم تمنوا ذلك ليتقربوا به إلى الله تعالى وينفقوه في سبيل الخير ولعل إرادتهم الحياة الدنيا ليتوصلوا بها للآخرة لا لذاتها فان إرادتها لذاتها ليست من شأن المؤمنين وقيل : كانوا كفارا ومنافقين وتمنيهم مثل ما ؤتي دونه نفسه من باب الغبط ولا ضرر فيه على المشهور وقيل : ضرره دون ضرر الحسد فقد قيل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل يضر الغبط فقال : لا إلا كما يضر العضاه الخبط وفي الكشف الظاهر أنه نفى للضرر على أبلغ وجه فان الشجر ربما ينتفع بالخبط فضلا عن التضرر وفيه أنه قد يفضي الى الضرر إشارة إلى متعلق الغبط من ديني أو دنيوي وقائل ذلك إن كان الكفرة ففيه من ذم الحسد ما فيه إنه لذو حظ عظيم قال الضحاك : أي درجة عظيمة وقيل نصيب كثير من الدنيا والحظ البخت والسعد ويقال : فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ والجملة تعليلية لتمنيهم وتأكيد له وقال الذين أوتوا العلم أي بأحوال الدنيا والآخرة كما ينبغي ومنهم يوشع عليه السلام وإنما لم يوصفوا بارادة ثواب الآخرة تنبيها على أن العلم بأحوال النشأتين يقتضي الاعراض عن الأولى والاقبال إلى الأخرى حتما وأن تمني المتمنين ليس إلا لعدم علمهم بهما كما ينبغي
وقيل المراد بالعلم : معرفة الثواب والعقاب وقيل : معرفة التوكل وقيل : معرفة الأخبار وما تقدم أولى ويلكم دعاء بالهلاك بحسب الأصل ثم شاع استعماله في الزجر عما لا يرتضي والمراد به هنا الزجر عن التمني وهو منصوب على المصدرية لفعل من معناه ثواب الله في الآخرة خير مما تتمنونه لمن آمن وعمل صالحا فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه عز و جل هذا على القول بأن المتمنين كانوا مؤمنين أو فآمنوا لتفوزوا بثوابه تعالى الذي هو خير من ذلك وتقدير المفضل عليه ما تتمنوه لاقتضاء المقام إياه ويجوز أن يقدر عاما ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا أي خير من الدنيا وما فيها ولا يلقاها أي هذه المقالة أو الكلمة التي تكلم بها العلماء والمراد بها المعنى اللغوي أو الثواب والتأنيث باعتبار أنه بمعنى المثوبة أو الجنة المفهومة من الثواب وقيل : الايمان والعمل الصالح والتأنيث والافراد باعتبار أنهما بمعنى السيرة أو الطريقة ومعنى تلقيها إما فهمها أو التوفيق للعمل بها إلا الصابرون على الطاعات وعن المعاصي والشهوات ولعل المراد بالصابرين على القول الأخير في مرجع الضمير المتصفون بالصبر في علم الله تعالى فتدبر فخسفنا به وبداره الأرض
روى ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قارون كان ابن عم موسى عليه السلام وكان يتبع العلم حتى جمع علما فلم يزل في ذلك حتى بغى على موسى عليه السلام وحسده فقال موسى : إن الله تعالى أمرني أن آخذ الزكاة فأبى
(20/122)

فقال : فقال : إن موسى عليه السلام يريد أن يأكل أموالكم وجاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم قالوا : لانحتمل فما ترى فقال لهم : أرى أن أرسل إلا بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها اليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا اليها فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك قالت : نعم فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال : اجمع بني اسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال : نعم فجمعهم فقالوا له : بما أمرك ربك قال : أمرني أن تعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وأن تصلوا الرحم وكذأ وكذأ وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم فقالوا : وإن كنت أنت قال : نعم قالوا : فانك قد زنيت قال : أنا فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا : ما تشهدين على موسى عليه السلام فقال لها موسى عليه السلام : أنشدك بالله تعالى إلا ما صدقت فقالت : أما إذ أنشدتني بالله تعالى فانهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول الله فخر موسى عليه السلام ساجدا يبكي فأوحى الله تعالى اليه ما يبكيك قد سلطناك على الأرض فمرها تطعك فرفع رأسه فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون : يا موسى فقال خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى فقال : خذيهم فغيبتهم فأوحى الله تعالى يا موسى سألك عبادك وتضرعوا اليك فلم تجبهم وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم وفي بعض الروايات أنه جعل للبغي ألف دينار وقيل : طستا من ذهب مملوء ذهبا وفي بعض أنه عليه السلام قال في سجوده : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى اليه مر الأرض بما شئت فانها مطيعة لك فقال : يا بني اسرائيل إن الله تعالى بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم إلى الأوساط ثم إلى الأعناق وهم يتضرعون ويناشدونه الرحم وهو عليه السلام لا يلتفت إلى قولهم لشدة غضبه ويقول خذيهم حتى انطبقت عليهم فأوحى الله تعالى يا موسى ما أفظك استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا وفي رواية أن الله سبحانه أوحى اليه ماأشد قلبك وعزتي وجلالي لو بي استغاث لأغثته فقال عليه السلام : رب غضبا لك فعلت
ثم إن بني اسرائيل قالوا : إنما فعل موسى عليه السلام به ذلك ليرثه فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله وفي بعض الأخبار أن الخسف به وبداره كان في زمان واحد وكانت داره فيما قيل : من صفائح الذهب وجاء في عدة آثار أنه يخسف به كل يوم قامة وأن يتجلجل في الأرض لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة والله تعالى أعلم بصحة ذلك بل هو مشكل إن صح ما قاله الفلاسفة في مقدار قطر الأرض ولم يقل بأن لها حركة أصلا وأما الخسف فلا شك في امكانه الذاتي والوقوعي وسببه العادي مبين في محله فما كان له من فئة أي جماعة معينة مشتقة من فأوت قلبه إذا ميلته وسميت الجماعة بذلك لميل بعضهم إلى بعض وهو محذوف اللام ووزنه فعة وقال الراغب : إنه محذوف العين فوزنه فلة وأنه من الفيء وهو الرجوع لأن بعض الجماعة يرجع إلى بعض و من صلة أي فما كان له فئة ينصرونه من دون الله بدفع العذاب عنه وما كان أي بنفسه من المنتصرين أي الممتنعين عن عذابه عز و جل ويقال : نصره من عدوه فانتصر أي منعه فامتنع ويحتمل أن يكون المعنى وما كان من المنتصرين بأعوانه فذكر ذلك للتأكيد وأصبح الذين تمنوا مكانه أي مثل
(20/123)

مكانهمكانه ومنزلته لما تقدم من قولهم مثل ما أوتي وجوز كون هذا على ظاهره و مثل هناك مقحمة وليس بذاك بالأمس منذ زمان قريب وهو مجاز شائع وجوز حمله على الحقيقة والجار والمجرور متعلق بتمنوا أو بمكانه قيل : والعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في فخسفنا يدل عليه
وفي البحر دل أصبح إذا حمل على ظاهره على أن الخسف به وبداره كان ليلا وهو أفظع العذاب إذ الليل مقر الراحة والسكون وقال بعضهم : هي بمعنى صار أي صار المتمنون
يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر أي يفعل كل واحد من البسط والقدر أي التضييق والقتر لا لكرامة توجب البسط ولا لهوان يوجب التضييق ووي عند الخليل وسيبويه اسم فعل ومعناها أعجب وتكون للتحسر والتندم أيضا كما صرحوا به وعن الخليل أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم وي وكل من ندم وأراد اظهار ندمه قال وي ولعل الاظهر ارادة التعجب بأن يكونوا تعجبوا أولا مما وقع وقالوا ثانيا كأن الخ وكأن فيه عارية عن معنى التشبيه جيء بها للتحقيق كما قيل ذلك في قوله : وأصبح بطن مكة مقشعرا كأن الأرض ليس بها هشام وأنشد أبو علي : كأنني حين أمسي لا تكلمني متيم يشتهي ما ليس موجودا وقيل : هي غير عارية عن ذلك والمراد تشبيه الحال المطلق بما في حيزها اشارة لتحققه وشهرته يصلح أن يشبه به كل شيء وهو كما ترى وزعم الهمداني أن الخليل ذهب إلى أن وي للتندم وكأن للتعجب والمعنى ندموا متعجبين في أن الله تعالى يبسط الخ وفيه أن كون كأن للتعجب مما لم يعهد وأيا ما كان فالوقف كما في البحر على وي والقياس كتابتها مفصولة وكتبت متصلة بالكاف لكثرة الاستعمال وقد كتبت على القياس في قول زيد بن عمرو بن نفيل : وي كأن من يكن له نشب يح بب ومن يفتقر يعش عيش ضر وقال ألأخفش : الكاف متصلة بها وهي أسم فعل بمعنى أعجب والكاف حرف خطاب لا موضع لها من الاعراب كما قالوا في ذلك ونحوه والوقف على ويك وعلى ذلك جاء قول عنترة : ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم و أن عنده مفتوحة الهمزة بتقدير العلم أي أعلم أن الله الخ وذهب الكسائي ويونس وابو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك فخفف بحذف اللام فبقي ويك وهي للردع والزجر والبعث على ترك ما لايرضى وقال أبو حيان : هي كلمة تحزن وأنشد في التحقيق قوله : ألا ويك المضرة لا تدوم ولا يبقى على البؤس النعيم والكاف على هذا في موضع جر بالاضافة والعامل في أن فعل العلم المقدر كما سمعت أو هو بتقدير لأن على أنه بيان للسبب الذي قيل لأجله ويك وحكى ابن قتيبة عن بعض أهل العلم أن معنى ويك رحمة لك بلغة حمير وقال الفراء : ويك في كلام العرب كقول الرجل : ألا ترى إلى صنع الله تعالى شأنه وقال أبو زيد وفرقة
(20/124)

معه : وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكأن حرف واحد بجملته وهو بمعنى ألم تر
لولا أن من الله علينا بعدم اعطائه تعالى ما تمنيناه من اعطائنا مثل ما أعطاه قارون لخسف بنا اي ألأرض كما خسف به أو لولا أن من الله تعالى علينا بالتجاوز عن تقصيرنا في تمنينا ذلك لخسف بنا جزاء ذلك كما خسف به جزاء ما كان عليه وقرأ الأعمش لولا من بحذف أن وهي مرادة وروي عنه من الله برفع من والاضافة
وقرأ الأكثر لخسف بنا على البناء للمفعول و بنا هو القائم مقام الفاعل وجوز أن يكون ضمير المصدر أي لخسف هو أي الخسف بنا على معنى لفعل الخسف بنا وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش لانخسف بنا على البناء للمفعول أيضا و بنا أو ضمير قائم مقام الفاعل وعنه أيضا لتخسف بناء وشد السين مبنيا للمفعول ويكأنه لا يفلح الكافرون لنعمة من الله أو المكذبون برسله عليهم السلام وبما وعدوا من ثواب الآخرة والكلام في ويكأن هنا كما تقدم بيد أنه جوز هنا أن يكون لأن على بعض الاحتمالات تعليلا لمحذوف بقرينة السياق أي لأنه لا يفلح الكافرون فعل ذلك أي لخسف بقارون واعتبار نظيره فيما سبق دون اعتبار هذا هنا وضمير ويكأنه للشأن
هذا وفي مجمع البيان أن قصة قصة قارون متصلة بقوله تعالى : نتلو عليك من نبأ موسى عليه السلام وقيل : هي متصلة بقوله سبحانه : فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى وقيل : لما تقدم خزي الكفار وافتضاحهم يوم القيامة ذكر تعالى عقيبه أن قارون من جملتهم وأنه يفتضح يوم القيامة كما افتضح في الدنيا ولما ذكر سبحانه فيما تقدم قول أهل العلم ثواب الله خير ذكر محل ذلك الثواب بقوله عز و جل : تلك الدار الآخرة مشيرا إشارة تعظيم وتفخيم إلى ما نزل لشهرته منزلة المحسوس المشاهد كأنه قيل : تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها و الدار صفة لاسم الاشارة الواقع مبتدأ وهو يوصف بالجامد ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي نعيم الدار كما يوهمه كلام البحر و الآخرة أي غلبة وتسلطا ولا فسادا أي ظلما وعدوانا على العباد كدأب فرعون وقارون وليس الموصول مخصوصا بهما وفي إعادة لا إشارة إلى أن كلا من العو والفساد مقصود بالنفي وفي تعليق الموعد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما
وأخرج عبد بن حميد وأبن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال : العلو في الأرض التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند سلاطينها وملوكها والفساد العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه
وعن الكلبي العلو الاستكبار عن الايمان والفساد الدعاء إلى عبادة غير الله تعالى وروي عن مقاتل تفسير العلو بما روي عن الكلبي وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يمشي في الاسواق وحده وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبقال والبياع فيفتتح عليه القرآن ويقرأ تلك الدار الآخرة إلى آخرها ويقول : نزلت هذه الآية تلك الدار الآخرة الخ في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس
(20/125)

وأخرجوأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم أنه لما دخل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض فقال عليه الصلاة و السلام أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا فأسلم رضي الله تعالى عنه وعن الفضيل أنه قرأ الآية ثم قال : ذهبت الأماني ههنا وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية
ولعل هذا إذا أحب ذلك ليفتخر على صاحبه ويستهينه والا فقد روى أبو داود عن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان جميلا فقال : يا رسول الله إني رجل حبب إلي الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد إما قال بشراك نعل وإا قال بشسع نعل افمن الكبر ذلك قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس
وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال : إن الله تعالى جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس واستدل بعض المعتزلة بالآية بناء على عموم العلو والفساد فيها على تخليد مرتكب الكبيرة في النار وفي الكشاف ما هو ظاهر في ذلك والتزم بعضهم في الجواب تفسير العلو والفساد بما فسرهما به الكلبي وآخر أن المراد بهما ما يكون مثل العلو والفساد اللذين كانا من فرعون وقارون ورد بأن التذييل بقوله تعالى : والعاقبة للمتقين يدل على أن العمدة هي التقوى ولا يكفي ترك العلو والفساد المقيدين
وأجيب بأن المتقي ههنا هو المتقي من علو فرعون وفساد قارون أو من لم يكن من المؤمنين مثل فرعون في الاستكبار على الله تعالى بعدم امتثال أوامره وارتداع عن زواجره ولم يكن مثل قارون في إرادة الفساد في الأرض واخراج كل شيء من كونه منتفعا به لا سيما نفسه فان غاية افسادها الامتناع من عبادة ربها لأنها خلقت للعبادة فاذا امتنع عنها خرجت عن كونها منتفعا بها وليس معنى المتقي إلا ذلك وتعقبه صاحب الكشف بأن الأول تقييد بلا دليل والثاني هو الذي يسعى له المعتزلي وقال الفاضل الخفاجي : إا أن يراد بالعاقبة العاقبة المحمودة على وجه الكمال أو يراد بالمتقي المتقي مالا يرضاه الله تعالى مثل حال قارون بقرينة المقام والنصوص الدالة على أن غير الكفار لا يخلد في النار فلا وجه للقول بأن ذلك تقييد بلا دليل مع أن مبني الاستدلال على أن اللام للتخصيص وهو ممنوع وقال بعض في الجواب على تقدير إرادة العموم في علوا وفسادا : إن المراد من جعل الجنة للذين لا يريدون شيأ منهما تمكينهم منها أتم تمكين نحو قولك : جعل السلطان بلد كذا لفلان وذلك لا ينافي أن يدخلها غيرهم من مرتكب الكبيرة ويكون فيها بمنزلة دون منزلتهم ولعله إنما دخلها بشفاعة بعض منهم وقريب منه ما قيل : إن جعلها لهم باعتبار أنهم أهلها الاولون وملوكها السابقون وغيرهم إنما يرد عليهم وينزل بهم ويقال في قوله تعالى : والعاقبة للمتقين نحو ما مر آنفا عن الخفاجي بقي في الآية كلام آخر وهو أن بعضهم استدل بها على عدم وجود الجنة اليوم بناء على أن معنى نجعلها للذين لا يريدون الخ نخلقها في المستقبل لأجلهم وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الجعل متعديا إلى مفعولين ثانيهما للذين لا يريدون الخ فيصير المعنى نجعلها كائنة وحاصلة لهم في الزمان المستقبل فتفيد الآية أن جعلها كائنة لهم غير حاصل الآن لا جعلها نفسها
(20/126)

وهو محل النزاع ودفع بأن المتبادر من جعل الدار كائنة لزيد تمكينه وعدم منعه من التمكن فيها سواء حصل له التمكن فيها أو لم يحصل فمعنى نجعلها للذين الخ نمكنهم في الاستقبال من التمكن فيها ولا يخفى ركاكته لأن التمكين من التمكن فيها لازم لوجودها غير منفك عنها على ما يدل عليه قوله تعالى : أعدت للمتقين فلا يمكن أن تكون نفس الجنة الآن ويكون جعلها كائنة لهم في الاستقبال وحمل الجعل على التمكن بالفعل والتمكين من التمكن وإن كان لازما لوجود الجنة لكن التمكن فيها بالفعل غير لازم بل يكون فيما سيجيء عدول عن المتبادر فان المتبادر من قولك : جعلت الدار لزيد تمكينه من التمكن فيها لا جعل زيد متمكنا فيها بالفعل فتدبر ذلك كله من جاء بالحسنة فله بمقابلتها خير منها ذاتا ووصفا وقدرا على ما قيل وجوز كون خير واحد الخيور وليس بأفعل التفضيل و من سببية أي فله خير بسبب فعلها وهو خلاف الظاهر وقد تقدم الكلام في ذلك ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات وضع فيه الموصول والظاهر موضع الضمير لتهجين حال المسيئين بتكرير اسناد السيئة اليهم وفي جمع السيئات دون الحسنة قبل اشارة إلى قلة المحسنين وكثرة المسيئين وقد يقال : إنه إشارة إلى أن ضم السيئة إلى السيئة لا يزيد جزاءها بل جزاؤها إذا انفردت مثل جزائها إذا انضم اليها غيرها وأن عدم ضم الحسنة إلى الحسنة لا يؤثر في مقابلتها بما هو خير منها ولعل قلة المحسنين يفهم من عدم اعتبار الجمعية في من في قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله خير منها وكثرة المسيئين تفهم من اعتبار الجمعية فيها إذ الموصول قائم مقام ضميرها في قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم مقامه ما كانوا يعملون مبالغة في المماثلة وهذا لطف منه عز و جل إذ ضاعف الحسنة ولم يرض بزيادة جزاء السيئة مقدار ذرة وقيل : لا حاجة الى اعتبار المضاف فان اعمالهم أنفسها تظهر يوم القيامة في صورة ما يعذبون به ولا يخفى ما فيه وفي ذكر عملوا ثانيا دون جاؤا اشارة إلى أن ما يجزون عليه ما كان عن قصد لأن العمل يخصه كما قال الراغب وفي التفسير الكبير للامام الرازي في أثناء الكلام على تفسير قوله تعالى : أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم الآية أن في التعبير بجاء دون عمل بأن يقال : من عمل الحسنة فله خير منها ومن عمل السيئة الخ دلالة على أن استحقاق الثواب أي والعقاب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل ويؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد ولا يخلو عن حسن ولعل نكتة التعبير بعملوا ثانيا تتأتى عليه أيضا
وفي قوله تعالى : فلا يجزى الخ دون فللذين عملوا السيئات ما كانوا يعملون أو فما للذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون اشارة إلى أنه قد يحصل العفو عن العقاب ولله تعالى در التنزيل ما أكثر أسراره واستشكل ما تدل عليه الآية من أن جزاء السيئة مثلها بأن من كفر فمات على الكفر يعذب عذاب الأبد وأين هو من كفر ساعة وأجيب بأن أمر المماثلة مجهول لنا لا سيما على القول بنفي الحسن والقبح العقليين للافعال وقصارى ما نعلم أن الله تعالى جعل لكل ذنب جزاء أخبر عز و جل أنه مماثل له وقد أخبر سبحانه أن جزاء الكفر عذاب الأبد فنؤمن به وبأنه مما تقتضيه الحكمة وما علينا إذا لم نعلم جهة المماثلة ووجه الحكمة فيه وكذا يقال في الذنوب التي شرع الله تعالى لها حدودا في الدنيا كالزنا وشرب الخمر وقذف المحصن وحدودها التي شرعها جل شأنه لها
(20/127)

فانا لا نعلم وجه تخصيص كل ذنب منها بحد مخصوص من تلك الحدود المختلفة لكنا نجزم بأن ذلك لا يخلو عن الحكمة وأجاب الامام عن مسألة الكفر وعداب الأبد بأن ذلك لأن الكافر كان عازما لو عاش إلى الأبد لبقي على ذلك الكفر وقيل في وجه تعذيب الكافر أبد الآباد إن جزاء المعصية يتفاوت حسب تفاوت عظمة المعصي فكلما كان المعصي أعظم كان الجزاء أعظم فحيث كان الكفر معصية من لا تتناهى عظمته جل شأنه كان جزاؤه غير متناه وقياس ذلك أن يكون جزاء كل معصية كذلك إلا أنه لم يكن كذلك فيما عدا الكفر فضلا منه تعالى شأنه لمكان الايمان وقيل أيضا : إن كل كفر قولا كان أو فعلا يعود إلى نسبة النقص اليه عز و جل المنافي لوجوب الوجود المقتضي لوجوده سبحانه أزلا وأبدا وإذا توهم هناك زمان ممتد كان غير متناه فحيث كان الكفر مستلزما نفي وجوده تعالى شأنه فيما لا يتناهى كان جزاؤه غير متناه ولا كذلك سائر المعاصي فتدبر
إن الذي فرض عليك القرآن أي أوجب عليك العمل به كما روي عن عطاء وعن مجاهد أي اعطاكه وعن م قاتل واليه ذهب الفراء وأبو عبيدة أي أنزله عليك والمعول عليه ما تقدم
لرادك إلى معاد أى إلى محل عظيم القدر اعتدت به وألفته على أنه من العادة لا من العود وهو كما في صحيح البخاري وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس مكة وروي ذلك أيضا عن مجاهد والضحاك وجوز أن يكون من العود والمراد به مكة أيضا بناء على ما في مجمع البيان عن القتيبي أن معاد الرجل بلده لأنه يتصرف في البلاد ثم يعود اليه وقد يقال : أطلق المعاد على مكة لأن العرب كانت تعود اليها في كل سنة لمكان البيوت فيها وهذا وعد منه عز و جل لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بمكة أنه عليه الصلاة و السلام يهاجر منها ويعود اليها وروي عن غير واحد أن الآية نزلت بالجحفة بعد أن خرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة مهاجرا واشتاق اليها ووجه ارتباطها بما تقدمها تضمنها الوعد بالعاقبة الحسنى في الدنيا كما تضمن ما قبلها الوعد بالعاقبة الحسنى في الآخرة
وقيل : إنه تعالى لما ذكر من قصة موسى عليه السلام وقومه مع قارون وبغيه واستطالته عليهم وهلاكه ونصرة أهل الحق عليه ما ذكر ذكر جل شأنه هنا ما يتضمن قصة سيدنا صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأصحابه مع قومه واستطالتهم عليه وإخراجهم إياه من مسقط رأسه ثم اعزازه عليه الصلاة و السلام بالاعادة إلى مكة وفتحه إياها منصورا مكرما ووسط سبحانه بينهما ما هو كالتخلص من الاول الى الثاني
وأخرج الحاكم في التأريخ والديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن فسر المعاد بالجنة وأخرج تفسيره بها ابن أبي شيبة والبخاري في تأريخه وأبو يعلى وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس والتنكير عليه للتعظيم أيضا ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنها كالتصريح ببعض ما تضمنه ذلك
واستشكل رده عليه الصلاة و السلام إلى الجنة من حيث إنه يقتضي سابقية كونه صلى الله تعالى عليه وسلم فيها مع أنه عليه الصلاة و السلام لم يكن فيها
(20/128)

وأجيب بالتزام السابقية المذكورة ويكفي فيها كونه صلى الله تعالى عليه وسلم فيها بالقوة إذ كان في ظهر آدم عليهما الصلاة والسلامحين كان فيها وقيل : انه صلى الله تعالى عليه وسلم لما كان مستعدا لها من قبل كان كأنه كان فيها فالسابقية باعتبار ذلك الاستعداد على نحو ما قيل في قوله تعالى في الكفار : ثم إن مرجعهم لاءلى الجحيم ولا يخفى ما في كلا القولين من البعد وقريب منهما ما قيل : إن ذلك باعتبار أنه عليه الصلاة و السلام دخلها ليلة المعراج وقد يقال : إن تفسيره بالجنة بيان لبعض ما يشعر به المعاد بأن يكون عبارة عن المحشر فقد صار كالحقيقة فيه لأنه ابتداء العود إلى الحياة التي كان المعاد عليها وجعله عظيما كما يشعر به التنوين لعظمه ماله صلى الله تعالى عليه وسلم فيه ومنه الجنة فالمعاد بواسطة تنوينه الدال على التعظيم يشعر بالجنة لأنها الحاوية مما أعد له صلى الله عليه و سلم من الامور العظيمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقريب من تفسيره بيوم القيامة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن عكرمة إن أنه على ما ذكر اسم زمان وعلى ما تقدم اسم مكان
ومما يشعر بأنه ليس المراد مجرد الرد إلى المحشر أو الآخرة أو يوم القيامة ما أخرجه الفريابي وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية : إن له معادا يبعثه الله تعالى يوم القيامة ثم يدخله الجنة ويتخرج على نحو ما قلنا تفسيره بالمقام المحمود وهو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة
وجاء في رواية أخرى رواها عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري أيضا تفسيره بالموت ورواها معهما عن الحبر الفريابي وابن أبي حاتم والطبراني وكونه معادا لقوله تعالى : وكنتم أمواتا فأحياكم ولعل تعظيمه باعتبار أنه باب لوصوله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ما أعده الله عز و جل له من المقام المحمود والمنزلة العليا في الجنة إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وجل المقصود ما أشعر به التعظيم وأخرج ابن أبي حاتم عن نعيم القاري أنه فسر ببيت المقدس وكأن إطلاق المعاد عليه باعتبار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أسري به اليه ليلة المعراج والوعد برده عليه الصلاة و السلام اليه وعد له بالأسراء اليه مرة أخرى او باعتبار أن أرضه أرض المحشر فالمراد بالرد اليه الرد الى المحشر وهذا غاية ما يقال في توجيه ذلك فان قيل فذاك وإلا فالأمر اليك وكأني بك تختار ما في صحيح البخاري ورواه الجماعة الذين تقدم ذكرهم عن ابن عباس من أنه مكة وربما يخطر بالبال أن يراد بالمعاد الأمر المحبوب بنوع تجوز ويجعل بحيث يشمل مكة والجنة وغيرهما مما هو محبوب لديه صلى الله تعالى عليه وسلم ويراد برده عليه الصلاة و السلام إلى الأمر المحبوب إيصاله اليه بعد أخرى فالرد هنا مثله في قوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم وعليه يهون أمر اختلاف الروايات التي سمعتها في ذلك فتدبر
قل ربي أعلم من جاء بالهدى يريد بذلك نفسه صلى الله تعالى عليه وسلم وبقوله سبحانه ومن هو في ضلال مبين
58
- المشركين الذين بعث اليهم صلى الله تعالى عليه وسلم و من منتصب بفعل يدل عليه أعلم بأعلم لأن أفعل لا ينصب المفعول به في المشهور أي يعلم من جاء الخ وأجاز بعضهم أن يكون
(20/129)

منصوبامنصوبا بأعلم على أنه بمعنى عالم والمراد أنه عز و جل يجازي كلا ممن جاء بالهدى ومن هو في ضلال على عمله والجملة تقرير لقوله تعالى : إن الذي فرض عليك القرآن الخ وفي معالم التنزيل هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إنك في ضلال ولعله لهذا وكون السبب فيه مجيئه عليه الصلاة و السلام اليهم بالهدى قيل : في جانبه صلى الله تعالى عليه وسلم من جاء بالهدى وفي جانبهم من هو في ضلال مبين ولم يؤت بهما على طرز واحد وما كنت ترجوا أن يلقى اليك الكتاب تقرير لذلك أيضا أي سيردك إلى المعاد كما أنزل اليك القرآن العظيم الشأن وما كنت ترجوه وقال أبو حيان والطبرسي : هو تذكير لنعمته عز و جل عليه عليه الصلاة و السلام وقوله تعال : إلا رحمة من ربك على ما ذهب اليه الفراء وجماعة استثناء منقطع أي ولكن القاه تعالى اليك رحمة منه عز و جل وجوز أن يكون استثناء متصلا من أعم العلل أو من أعم الأحوال على أن المراد نفي الالقاء على أبلغ وجه فيكون المعنى ما ألقي اليك الكتاب لأجل شيء من الأشياء الا لأجل الترحم أو في حال من الأحوال إلا في حال الترحم فلا تكونن ظهيرا للكافرين
68
- أي معينا لهم على دينهم قال مقاتل : إن كفار مكة دعوه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى دين آبائه فذكره الله تعالى نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه ولا يصدنك أي الكافرون عن ءآيات الله أي قراءتها والعمل بها
بعد إذ انزلت اليك أي بعد وقت انزالها وايحائها اليك المقتضي لنبوتك ومزيد شرفك وقرا يعقوب يصدنك بالنون الخفيفة وقريء يصدنك مضارع أصد بمعنى صد حكاه أبو زيد عن رجل من كلب قال : هي لغة قومه وقال الشاعر : أناس اصدوا الناس بالسيف عنهم صدود السواقي عن أنوف الحوائم وادع الناس إلى ربك إلى عبادته جل وعلا وتوحيده سبحانه ولا تكونن من المشركين
78
- بمضاهرتهم ولا تدع مع الله إلها آخر أي ولا تعبد معه تعالى غيره عز و جل وهذا وما قبله للتهييج والهاب وقطع اطماع المشركين عن مساعدته عليه الصلاة و السلام إياهم وإظهار أن المنهي عنه في القبح والشرية بحيث ينهى عنه من لا يتصور وقوعه منه أصلا وروى محيي السنة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد به أهل دينه وهو في معنى ما حكى عنه الطبرسي أن هذا وأمثاله من باب
إياك أعني واسمعي يا جارة
لا إله إلا هو وحده كل شيء أي موجود مطلقا هالك أي معدوم محض والمراد كونه كالمعدوم وفي حكمه إلا وجهه أي إلا ذاته عز و جل وذلك لأن وجود ما سواه سبحانه لكونه ليس ذاتيا بل هو مستند إلى الواجب تعالى في كل آن قابل للعدم وعرضة له فهو كلا وجود وهذا ما اختاره غير واحد من الاجلة والكلام عليه من قبيل التشبيه البليغ والوجه بمعنى الذات مجاز مرسل وهو مجاز شائع وقد يختص بما شرف من الذوات وقد يعتبر ذلك ههنا ويجعل نكتة العدول عن إلا إياه إلى ما في النظم الجليل
وفي اةية بناى على ما هو الأصل من اتصال الاستثناء دليل على صحة إطلاق الشيء عليه جل وعلا
(20/130)

وقريبوقريب من هذا ما قيل : المعنى كل ما يطلق عليه الموجود معدوم في حد ذاته إلا ذاته تعالى وقيل : الوجه بمعنى الذات إلا أن المراد ذات الشيء وإضافته إلى ضميره تعالى باعتبار أنه مخلوق له سبحانه نظير ما قيل في قوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما نفسك من أن المراد بالنفس الثاني نفس عيسى عليه السلام وإضافته اليه تعالى باعتبار أنه مخلوق له جل وعلا والمعنى كل شيء قابل للهلاك والعدم إلا الذات من حيث استقبالها لربها ووقوفها في محراب قربها فانها في تلك الحيثية لا تقبل العدم وقيل : الوجه بمعنى الجهة التي تقصد ويتوجه اليها والمعنى كل شيء معدوم في حد ذاته إلا الجهة المنسوبة اليه تعالى وهو الوجود الذي صار به موجودا وحاصله أن كل جهات الموجود من ذأته وصفاته وأحواله هالكة معدومة في حد ذاتها إلا الوجود الدي هو النور الإلهي ومن الناس من جعل ضمير وجهه للشيء وفسر الشيء بالموجود بمعنى ماله نسبة إلى حضرة الوجود الحقيقي القائم بذاته وهو عين الواجب سبحانه وفسر الوجه بهذا الوجود لأن الموجود يتجه اليه وينسب والمعنى كل منسوب إلى الوجود معدوم إلا وجهه الذي قصده وتوجه اليه وهو الوجود الحقيقي القائم بذاته الذي هو عين الوجب جل وعلا ولا يخفى الغث والسمين من هذه الأقوال وعليها كلها يدخل العرش والكرسي والسموات والارض والجنة والنار ونحو ذلك العموم
وقال غير واحد : المراد بالهلاك خروج الشيء عن الانتفاع به المقصود منه إما بتفرق أجزائه أو نحوه والمعنى كل شيء سيهلك ويخرج عن الانتفاع به المقصود منه إلا ذاته عز و جل والظاهر أنه أراد بالشيء الموجود المطلق لا الموجود وقت النزول فقط فيؤول المعنى الى قولنا : كل موجود في وقت من الاوقات سيهلك بعد وجوده إلا ذاته تعالى فيدل ظاهر الآية على هلاك العرش والجنة والنار والذي دل عليه الدليل عدم هلاك الأخيرين
وجاء في الخبر أن الجنة سقفها عرش الرحمن ولهذا اعترض بهذه الآية على القائلين بوجود الجنة والنار الآن والمنكرين له القائلين بأنهما سيوجدان يوم الجزاء ويستمران أبد الآباد واختلفوا في الجواب عن ذلك فمنهم من قال : إن كلا ليست للاحاطة بل للتكثير كما في قولك : كل الناس جاء إلا زيدا إذا جاء أكثرهم دون زيد وأيد بما روي عن الضحاك أنه قال في الآية : كل شيء هالك إلا الله عز و جل والعرش والجنة والنار ومنهم من قال : إن المراد بالهلاك الموت والعموم باعتبار الإحياء الموجودين في الدنيا وأيد بما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية : كل حي ميت إلا وجهه
وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال : لما نزلت كل نفس ذائقة الموت قيل يا رسول الله فما بال الملائكة فنزلت كل شيء هالك إلا وجهه فبين في هذه الآية فناء الملائكة والثقلين من الجن والإنس وسائر عالم الله تعالى وبريته من الطير والوحوش والسباع والأنعام وكل ذي روح أنه هالك ميت وأنت تعلم أن تخصيص الشيء بالحي الموجود في الدنيا لا بدله من قرينة فان اعتبر كونه محكوما عليه بالهلاك حيث شاع استعماله في الموت وهو إنما يكون في الدنيا قرينة فذاك وإلا فهو كما ترى ومن الناس من التزم ما يقتضيه ظاهر العموم من أنه كل ما يوجد في وقت من الأوقات في الدنيا والأخرى يصير هالكا بعد وجوده بناء على تجدد الجواهر وعدم بقاء شيء منها زمانين كالاعراض عند الاشعري ولا يخفى بطلانه وإن ذهب إلى ذلك بعض أكابر الصوفية قدست أسرارهم
(20/131)

وقال سفيان الثوري : وجهه تعالى العمل الصالح الذي توجه به اليه عز و جل فقيل : في توجيه الاستثناء إن العمل المذكور قد كان في حيز العدم فلما فعله العبد ممتثلا أمره تعالى أبقاه جل شأنه له إلى أن يجازيه عليه أو أنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق وروي عن أبي عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه أنه ارتضى نحو ذلك وقال المعنى كل شيء من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به وجهه تعالى وزعم الخفاجي أن هذا كلام ظاهري
وقال أبو عبيدة : المراد بالوجه جاهه تعالى الدي جعله في الناس وهو كما ترى لا وجه له والسلف يقولون الوجه صفة نثبتها لله تعالى ولا نشتغل بكيفيتها ولا بتأويلها بعد تنزيهه عز و جل عن الجارحة له الحكم أي القضاء النافذ في الخلق وإليه عز و جل ترجعون
88 - عند البعث للجزاء بالحق والعدل لا إلى غيره تعالى ورجوع العباد اليه تعالى عند الصوفية أهل الوحدة بمعنى ما وراء طور العقل
وقيل : ضمير اليه للحكم وقرأ عيسى ترجعون مبنيا للفاعل هذا والكلام من باب الاشارة في آيات هذه السورة أكثره فيما وقفنا عليه من باب تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ولعله يعلم بأدنى تأمل فيما مر بنا في نظائرها فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو جل وعلا حسبنا ونعم الوكيل
سورة العنكبوت
أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بمكة وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحو ذلك وروي القول بأنها مكية عن الحسن وجابر وعكرمة وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة وفي البحر عن الحبر وقتادة أنها مدنية وقال يحيى ابن سلام : هي مكية إلا من أولها إلى قوله وليعلمن المنافقين وذكر ذلك الجلال السيوطي في الاتقان ولم يعزه وأنه لما أخرجه ابن جرير في سبب نزولها ثم قال : قلت ويضم إلى ذلك وكأين من دابة الآية لما أخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزولها وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك وهي تسع وستون آية بالاجماع كما قال الداني والطبرسي وذكر الجلال في وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم وافتتح هذه بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الايمان بعذاب دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل بكثير تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم وحثا على الصبر ولذا قيل هنا : ولقد فتنا الذين قبلهم وأيضا لما كان في خاتمة الأولى الاشارة إلى هجرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي في قوله تعالى : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد على بعض الاقوال وفي خاتمة هذه الاشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى : يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ناسب تتاليهما
بسم الله الرحمن الرحيم الم
1
- سبق الكلام فيه وفي نظائره ولم يجوز بعضهم هنا ارتباط ما بعده به ارتباطا اعرابيا لأن الاستفهام مانع منه وبحث فيه بأن اللازم في الاستفهام تصدره في جملته وهو لا ينافي وقوع
(20/132)

تلك الجملة خبرا ونحوه كقولك : زيد هل قام أبوه فلو قيل هنا المعنى المتلو عليك أحسب الناس إلى آخر السورة صح فلا يقال أيضا إن المانع منه عدم الصحة ارتباطه بما قبله معنى نعم الارتباط خلاف الظاهر والاستفهام للانكار والحسبان مصدر كالغفران مما يتعلق بمضامين الجمل لأنه من الافعال الداخلة على المبتدأ والخبر وذلك للدلالة على وجه ثبوتها في الذهن أو في الخارج من كونها مظنونة أو متيقنة فتقتضي مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر أو مايسد مسدهما وقد سد مسدهما هنا على ما قاله الحوفي وابن عطية وأبو البقاء : قوله تعالى : أن يتركوا وسد أن المصدرية الناصبة للفعل مع مدخولها مسد الجزأين مما قاله ابن مالك ونقله عنه الدماميني في شرح التسهيل وزعم بعضهم أن ذلك إنما هو في أن المفتوحة مشددة ومثقلة مع مدخولها والترك هنا على ماذكره الزمخشري بمعنى التصيير المتعدي لمفعولين كما في قوله تعالى : تركهم في ظلمات لا يبصرون وقول الشاعر : فتركته جزر السباع ينشنه يقضمن قلة رأسه والمعصم فضمير الجمع نائب مفعول أول والمفعول الثاني متروك بدلالة الحال الآتية أي كما هم أو على ما هم عليه كما في قوله تعالى : أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا على ما قدره الزمخشري فيه وقوله سبحانه : أن يقولوا آمنا بمعنى لأن يقولوا متعلق بيتركوا على أنه غير مستقر وقوله تعالى : وهم لا يفتنون
2
- في موضع الحال من ضمير يتركوا ويجوز أن لا يعتبر كون المفعول الثاني ليتركوا متروكا بل تجعل هذه الجملة الحالية سادة مسده ألا ترى أنك لو قلت : علمت ضربي زيدا قائما صح على أن ترك ليس كأفعال القلوب في جميع الاحكام بل القياس أن يجوز الاكتفاء فيه بالحال من غير نظر إلى أنه قائم مقام الثاني لأن قولك : تركته جزر السباع كلام صحيح كما تقول أبقيته على هذه الحالة وهو نظير سمعته يتحدث في أنه يتم الحال بعده أو الوصف وههنا زاد أنه يتم أيضا بما يجري مجرى الخبر وجوز أن تكون هذه الجملة هي المفعول الثاني لا سادة مسده وتوسط الواو بين المفعولين جائز كما في قوله : وصيرني هواك وبي لحيني يضرب المثل وقد نص شارح أبيات المفصل على أنه حكي عن الاخفش أنه كان يجوز كان زيد وأبوه قائم على نقصان كان وجعل الجملة خبرا مع الواو تشبيها لخبر كان بالحال في الخبر عنده فليجز في المفعول الثاني وهو كما نرى واستظهر الطيبي كون الترك هنا متعديا لواحد على أنه بمعنى التخلية وليس بذاك وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون أن يقولوا بدلا من أن يتركوا وجوز أن يكون أن يتركوا هو المفعول الأول لحسب و هم لا يفتنون في موضع الحال من الضمير وان يقولوا بتقدير اللام هو المفعول الثاني وكونه علة لا ينافي ذلك كما في قولك : حسبت ضربه للتأديب والتقدير أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم : آمنا والمفعول الثاني ليتركوا متروك بدلالة الحال واعترضه صاحب التقريب بما حاصله أن الحسبان لتعلقه بمضامين الجمل إذا أنكروا يكون باعتبار المفعول الثاني فاذا قلت : أحسبته قائا فالمنكر حسبان قيامه كذلك إذا قيل : أحسب الناس تركهم غير مفتونين لهذه العلة بل إنما هو لعلة أخرى ولا يلائم سبب النزول ولا مقصود الآية
واختار أن يكون أن يتركوا سادا مسد المفعولين و أن يقولوا علة للحسبان أي أحسبوا لقولهم آمنا
(20/133)

أنأن يتركوا مفتونين وأجيب بأن أصل الكلام ألا يفتنون لقولهم آمنا على إنكار أن يكون سببا لعدم الفتن ثم قيل : أيتركون غير مفتونين لقولهم آمنا مبالغة في إنكار أن يبقوا من غير فتن لذلك ثم ادخل على حسبان الترك مبالغة على مبالغة وإنما يرد ما أورد إذا لم يلاحظ أصل الكلام ويجعل مصب الانكار الحسبان من أول الأمر
وقيل : إنما يلزم ما ذكر لو لم يقدر احسبوا تركهم غير مفتونين بمجرد قولهم : آمنا دون إخلاص وعمل صالح أما لو قدر ذلك استقام كما صرح به الزجاج على أن ذلك مبني على اعتبار المفهوم واعترض ذلك بعضهم من حيث اللفظ بأن فيه الفصل بين الحال وذيها بثاني مفعولي حسب وهو أجنبي وأجيب بأن الفصل غير ممتنع بل الأحسن أن لا يقع فصل إلا إذا اعترض ما يوجبه وههنا الاهتمام بشأن الخبر حسن التقديم لأن مصب الانكار ذلك ولا يخفى أنه يحتاج إلى مثل هذأ الجواب على ما يقتضيه الظاهر من جعل أن يتركوا في تأويل مصدر وقع مفعولا أولا وأن يقولوا في تأويل مصدر أيضا مجرور بلام مقدرة والجار والمجرور في موقع المفعول الثاني وأما على ما ذكره بعض المحققين من أنهما لم يجعلا كذلك وإنما جعل أن يقولوا معمولا ليتركوا بتقدير اللام وجعل أن يتركوا سادا مسد المفعولين واقتضى المعنى أن يقال أحسب الناس تركهم غير غير مفتونين لقولهم آمنا بجعل تركهم مفعولا أولا ولقولهم مفعولا ثانيا فلا يحتاج اليه لأنه إن جرينا مع اللفظ كان أن يتركوا سادا مسد المفعولين فلا يكون فيه مفعول ثان فاصل بين الحال وذيها وإن جرينا مع المعنى واعتبرنا الكلام مجردا عن أن المصدرية وجيء به كما سمعت كانت الحال متصلة بذيها وقيل : يجوز أن يكون المفعول الأول لحسب محذوفا أي أحسب الناس أنفسهم و أن يتركوا في موضع المفعول الثاني على أنه تأويل مصدر وهو في تأويل اسم المفعول أي متروكين وهم لا يفتنون في موضع الحال كما تقدم وأن يؤمنوا بتقدير لأن يؤمنوا متعلق بيتركوا فكأنه قيل : أحسب الناس أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم آمنا وقيل : إن هذا المعنى حاصل على تقدير سد أن يتركوا مسد المفعولين فتأمل فيه وفيما قبله ولعل الأبعد عن التكلف ما ذ : رناه أولا والمراد إنكار حسبانهم أن يتركوا غير مفتونين بمجرد أن يقولوا آمنا واستبعادا له وتحقيق أنه تعالى يمتحنهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وفنون المصائب في الأنفس والاموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ في الدين من المتزلزل فيعامل كل بما يقتضيه ويجازيهم سبحانه بحسب مراتب أعمالهم فان مجرد الايمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في النار
وذكر بعضهم أنه سبحانه لو اثاب المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا لقال الكافر المعذب : ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي فايمانه الذي تثيبه عليه مما لا يستحق الثواب له فبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت والآية على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبي نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالاسلام فكتب اليهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم اقرار ولا اسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا اليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذأ فقالوا : نخرج فان اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم
(20/134)

فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى فيهم ثم ان ربكللذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال سمعت ابن عمير وغيره يقولون : كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل على عمار درعا من حديد في اليوم الصائف وطعن في فرج أمه برمح ففي ذلك نزلت أحسب الناس الخ وقيل : نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب قتل ببدر فجزع عليه أبواه وأمرأته وقال فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة وقيل : نزلت في عياش أخي أبي جهل غدر وعذب ليرتد كما سيأتي خبره إن شاء الله تعالى وفسر الناس بمن نزلت فيهم الآية وقال الحسن الناس هنا المنافقون
ولقد فتنا الذين من قبلهم حال من الناس أو من ضمير يفتنون وعلى الأول يكون علة لإنكار الحسبان أي أحسبوا ذلك وقد علموا أن سنة الله تعالى على خلافه ولن تجد لسنة الله تعالى تبديلا وعلى الثاني بيانا لأنه لا وجه لتخصيصهم بعدم الافتتان وحاصله أنه على الاول تنبيه على الخطأ وعلى الثاني تخطئة والمراد بالذين من قبلهم المؤمنون أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أصابهم من ضروب الفتن والمحن ما أصابهم فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ كما يعرب عنه قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا الآيات
وروى البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولقد لقينا من المشركين شدة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظه ما يصده عن دينه فليعلمن الله الذين صدقوا أي في قولهم آمنا وليعلمن الكاذبين في ذلك والتفاء لترتيب ما بعدها على ما يفصح عنه ما قبلها من وقوع الامتحان واللام واقعة في جواب القسم والالتفات الى الاسم الجليل لادخال الروعة وتربية المهابة وتكرير الجواب لزيادة التأكيد والتقرير ويتوهم من الآية حدوث علمه تعالى بالحوادث وهو باطل وأجيب بأن الحادث تعلق علمه بالمعدوم بعد حدوثه وقال ابن المنير : الحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه وفائدة ذكر العلم ههنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء فكأنه قيل : فوالله ليعلمن بما يشبه الامتحان والاختبار الذين صدقوا في الايمان الذي أظهروه والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب فليجازين كلا بحسب علمه فيه وفي معناه ما قاله ابن جني : من أنه من إقامة السبب مقام المسبب والغرض فيه ليكافئن الله تعالى الذين صدقوا وليكافئن الكاذبين وذلك أن المكافأة على الشيء إنما هي مسببة عن علم وقال محيي السنة : أي فليظهرن الله تعالى الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلوما لأن الله تعالى عالم بهم قبل الاختبار
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وجعفر بن محمد والرهري رضي الله تعالى عنهم فلعلمن بضم الياء وكسر اللام على أنه مضارع أعلم المنقولة بهمزة التعدية من علم المتعدية إلى واحد وهي التي بمعنى عرف فيكون
(20/135)

الفعل على هذه القراءة متعديا لأثنين والثاني هنا محذوف أي فليعلمن الله الذين صدقوا منازلهم من الثواب وليعلمن الكاذبين منازلهم من العقاب وذلك في الآخرة أو الاول محذوف أي فليعلمن الله الناس الذين صدقوا وليعلمنهم الكاذبين أي يشهدهم هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر والظاهر أن ذلك في الآخرة أيضا وقال أبو حيان : في الدنيا والآخرة وجوز أن يكون ذلك من الاعلام وهو وضع العلامة والسمة فيتعدى لواحد أو يسمهم بعلامة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها وقيل : يسمهم سبحانه بعلامة يعرفون بها في الدنيا كقوله عليه الصلاة و السلام : من أسر سريرة ألبسه الله تعالى رداءها وقرأ الزهري الفعل الاول كما قرأ الجماعة والفعل الثاني كما قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وجعفر والزهري رضي الله تعالى عنهم أم حسب الذين يعملون السيآت أن يسبقونا قال مجاهد : أي يعجزونا فلا نقدر على مجازاتهم على أعمالهم والانتقام منهم وأصل السبق الفوت ثم أريد منه ما ذكر وقيل : أي يعجلونا محتوم القضاء والأول أولى
وفسر قتادة ما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير السيئات بالشرك والجمع باعتبار تعدد المتصفين به وإطلاق العمل على الشرك سواء قلنا إنه ما كان عن فكر وروية كما قيل : أو عن قصد كما قال الراغب : أم لا لاضير فيه لأنه يكون بعبادة الأصنام وغيرها وقيل : المراد بالسيئات المعاصي غير الكفر فالآية في المؤمنين قطعا وهم وإن لم يحسبوا أن يفوتوه تعالى ولم تطمع نفوسهم في ذلك لكن نزل جريهم على غير موجب العلم وهو غفلتهم وإصرارهم على المعاصي منزلة من لم يتيقن الجزاء ويحسب أنه يفوت الله عز و جل
وعمم بعضهم فحمل السيئات على الكفر والمعاصي وتعليق العمل بها بناء على تسليم تخصيصه بما سمعت يحتمل أن يكون باعتبار التغليب وظاهر الآثار يدل على أن هذه الآية نزلت في شأن الكفرة فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : يريد سبحانه بالذين يعملون السيئات الوليد بن المغيرة وأبا جهل والاسود والعاصي بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعتبة بن أبي معيط وحنظلة بن وائل وأنظارهم من صناديد قريش وفي البحر أن الآية وإن نزلت على سبب فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم والظاهر أن أم منقطعة بمعنى بل التي للاضراب بمعنى الانتقال وهو انتقال من إنكار حسبان عدم الفتن لمجرد الايمان إلى انكار حسبان عدم المجازاة على عمل السيئات
وقال ابن عطية : أم معادلة للهمزة في قوله تعالى : أحسب وكأنه سبحانه قرر الفريقين قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنه يسبقون نقمات الله تعالى ويعجزونه انتهى ورد بأنها لو كانت معادلة للهمزة لكانت متصلة والتالي باطل لأن شرط المتصلة أن يكون ما بعدها مفردا نحو أزيد قائم أم عمرو أو ما هو في تقدير المفرد نحو أقام زيد أم قعد وجوابها تعيين أحد الشيئين أو الأشياء وبعدها هنا جملة ولا يمكن الجواب هنا أيضا بأحد الشيئين فالحق أنها منقطعة والاستفهام الذي تشعر به إنكاري لا يحتاج للجواب كما لا يخفى والظاهر أن الحسبان متعد إلى مفعولين وأن أن يسبقونا ساد مسهما
وجوز الزمخشري هنا أن يضمن معنى التقدير يكون متعديا لواحد وإن يسبقونا هو ذلك الواحد
(20/136)

وتعقبه أبو حيان بأن التضمين ليس بقياس ولا ي صار اليه إلا عند الحاجة وهنا لا حاجة اليه ساء ما يحكمون
4
- أي بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك على أن ساء بمعنى بئس و ما موصولة و يحكمون صلتها والعائد محذوف وهي فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف أو بئس حكما يحكمونه حكمهم ذلك على أن ما موصوفة ويحكمون صفتها والرابط محذوف وهي تمييز وفاعل ساء ضمير مفسر بالتمييز والمخصوص محذوف
وقال ابن كيسان : ما مصدرية والمصدر المؤول مخصوص بالذم فالتمييز محذوف وجوز كون ساء بمعنى قبح وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة والمضارع للاستمرار إشارة إلى أن دأبهم ذلك أو هو واقع موقع الماضي لرعاية الفاصلة وكلا الوجهين حكاهما في البحر والاول اولى وعندي أن مثل هذا لا يقال : إلا في حق الكفرة من كان يرجو لقاء الله أخرج ابن حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال : أي من كان يخشى البعث في الآخرة فالرجاء بمعنى الخوف كما في قول الهذلي في وصف عسال : إذا لسعته الدبر لم يرج لسعتها وخالفها في بيت نوب عوامل ولعل إرادة البعث من لقائه عز و جل لأنه من مباديه وقيل : لعله جعل لقاء الله تعالى عبارة عن الوصول إلى العاقبة إلا أنه لما كان البعث من أعظم ما يتوقف ذلك عليه خصه بالذكر وفي الكشاف أن لقاء الله تعالى مثل للوصول إلى العاقبة من تلقي ملك الموت والبعث والحساب والجزاء مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فاما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله أو بضد ذلك لما سخطه منها فمعنى من كان الخ من كان يأمل تلك الحال وإن يلقى فيها الكرامة من الله تعالى والبشرى فالكلام عنده من باب التمثيل والرجاء بمعنى الأمل والتوقع
وجوز أن يكون بمعنى ذلك إلأ أن الكلام بتقدير مضاف أي من كان يتوقع ملاقاة جزاء الله تعالى ثوابا أو عقابا أو ملاقاة حكمه عز و جل يوم القيامة وأن يكون بمعنى الخوف والمضاف محذوف أيضا أي من كان يخاف ملاقاة عقاب الله تعالى وأن يكون بمعنى ظن حصول ما فيه مسرة وتوقعه كما هو المشهور والمضاف كذلك أيضا أي من كان يرجو ملاقاة ثواب الله تعالى ويجوز أن لايقدر مضاف ويجعل لقاء الله تعالى مجازا عن الثواب لما أنه لازم له
وأختار بعضهم أن الرجاء بمعناه المشهور وأن لقاء الله تعالى مشاهدته سبحانه على الوجه اللائق به عز و جل كما يقولوه أهل السنة والجماعة إذ لا حاجة للخروج عن الظاهر من غير ضرورة وما حسبه المعتزلي منها فليس منها كما بين في علم الكلام أي من كان يتوقع مشاهدة الله تعالى يوم القيامة التي لا نعيم يعدلها ويلزمها الفوز بكل خير ونعيم فان أجل الله الأجل غاية لزمان ممتد عينت لأمر من الأمور وقد يطلق على كل ذلك الزمان والاول أشهر في الاستعمال أي فان الوقت الذي عينه جل شأنه لذلك لآت لا محالة من غير صارف يليوه ولا عاطف يثنيه لأن أجزاء الزمان على التقضي والتصرم دائا ومجيء ذلك الوقت كناية عن إتيان ما فيه ووقوعه والجملة الاسمية قائمة مقام جواب الشرط وهي في الحقيقة دليل الجواب المحذوف أي فليتبادر ما ينفقه من امتثال الأوامر واجتناب المناهي أو فليتبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو نحو ذلك مما يلائم الشرط فتدبر
(20/137)

وقيل يجوز أن تكون هي الجواب على أن المراد بها المعنى الملائم للشرط كما ذكر وهو السميع جل شأنه لأقوال العباد العليم بأحوالهم من الاعمال الظأهرة والعقائد والصفات الباطنة والجملة تذييل لتحقيق حصول المرجو والمخوف وعدا ووعيدا ومن جاهد في طاعة الله عز و جل
فانما يجاهد لنفسه لعود المنفعة من الثواب المعد لذلك اليها إن الله لغني عن العالمين
6
- فلا حاجة له إلى إطاعتهم وإنما أمرهم سبحانه بها تعريضا لهم للثواب بموجب رحمته وحكمته
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم الكفر الأصلي أو العارضي بالايمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون
7
- أي أحسن جزاء أعمالهم والجزاء الحسن أن يجازى بحسنة حسنة وأحسن الجزاء أن تجازى الحسنة الواحدة بالعشر وزيادة وقيل : لو قدر لنجزينهم بأحسن أعمالهم أو جزاء أحسن أعمالهم لاخراج المباح جاز ووصينا الانسان بوالديه حسنا أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما وانتصب حسنا على أنه وصف لمصدر محذوف أي ايصاء حسنا أي ذا حسن أو هو في حد ذاته حسن لفرط حسنه كقوله تعالى : وقولوا للناس حسنا وهذا ما اختاره أبو حيان ولا يخلو عن حسن وقال الزمخشري : حسنا مفعول به لمصدر محذوف مضاف إلى والديه أي وصيناه بايتاء والديه أو بايلاء والديه حسنا وفيه إعمال المصدر محذوفا وإبقاء عمله وهو لا يجوز عند البصريين وجوز أن يكون حسنا مصدرا لفعل محذوف أي أحسن حسنا والجملة في موضع المفعول لوصى لتضمنه معنى القول وهذا على مذهب الكوفيين القائلين بأن ما يتضمن معنى القول يجوز أن يعمل في الجمل من غير تقدير للقول وعند البصريين يقدر القول في مثل ذلك وعليه يجوز أن يكون مفعولا به لفعل محذوف والجملة مقول القول وجملة القول مفسرة للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما حسنا وعلى هذا يحسن الوقف على بوالديه لاستئناف الجملة بعده ورجح تقدير الأمر بأنه أوفق لما بعده من الخطاب والنهي الذي هو أخوه لكن ضعف ما فيه كثرة تقدير بكثرة التقدير ونقل ابن عطية عن الكوفيين أنهم يجعلون حسنا مفعولا لفعل محذوف ويقدرون أن يفعل حسنا وفيه حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول وهو لا يجوز عند البصريين وقيل : إن حسنا منصوب بنزع الخافض وبوالديه متعلق بوصينا والباء فيه بمعنى في أي وصينا الانسان في أمر والديه بحسن وهو كما ترى وقرأ عيسى والجحدري حسنا بفتحتين وفي مصحف أبي احسانا وان جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما عطف على ما قبله ولابد من إضمار القول إن لم يضمر قبل أي وقلنا : إن جاهداك الخ لئلا يلزم عطف الانشاء على الخبر لأن الجملة الشرطية إذا كان جوابها انشاء فهي انشائي كما صرحوا به فاذا لم يضمر القول لا يليق عطفها على وصينا لما ذكر ولا على ما عمل فيه لكونه في معنى القول وهو أحسن وإن توافقا في الانشائية لأنه ليس من الوصية بالوالدين لأنه منهي عن مطاوعتهما وأما عطفه على قلنا المفسر للتوصية فلا يضر لما فيه من تقييدها بعدم الافضاء إلى المعصية مآلا فكأنه قيل : أحسن اليهما وأطعهما ما لم يأمراك بمعصية فتأمل والظاهر الذي يقتضيه المقام أن ما عام لما سواه تعالى شأنه وقوله سبحانه : به على حذف مضاف أي ليس لك بالهيته علم وتنكير علم للتحقير
والمراد لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون الها ولا يستقيم وفي العدول عنه إلى ما في النظم الجليل إيذانا
(20/138)

بأن ما لا يعلم صحته ولو إجمالا كما في التقليد لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم على أتم وجه بطلانه وجعل العلامة الطيبي نفي العلم كناية عن نفى المعلوم وعلل ذلك بأن هذا الاسلوب يستعمل غالبا في حق الله تعالى نحو أتعلمون الله بما لايعلم ثم قال : وفيه اشارة إلى أن نفي الشرك من العلوم الضرورية وأن الفطرة السليمة مجبولة عليه على ما ورد كل مولود يولد على الفطرة وذلك أن المخاطب بقوله تعالى : ووصينا الانسان جنس الانسان انتهى وفيه بحث ومتعلق تطعهما محذوف لوضوح دلالة الكلام عليه أي وإن استفرغا جهدهما في تكليفك لتشرك بي غيري مما لا الهية له فلا تطعهما في ذلك فانه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وفي تعليق النهي عن طاعتهما بمجاهدتهما في التكليف اشعار بأن موجب النهي فيما دونها من التكليف ثابت بطريق الأولوية وكذا موجبه في مجاهدة أحدهما إلي مرجعكم أي مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر ومن عق والجملة مقررة لما قبلها ولذا لم تعطف فانبئكم بما كنتم تعملون بأن أجازي كلا منكم بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وذلك أنه رضي الله تعالى عنه حين أسلم قالت أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس : يا سعد بلغني انك صبأت فوالله تعالى لا يظلني سقف بيت من الضح والريح وأن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكان أحب ولدها اليها فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فشكا اليه فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الاحقاف فأمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالاحسان
وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما متوافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة أمرأة من بني تميم من بني حنظلة فنزلا بعياش وقالا له : إن من دين محدصلة الارحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشد حبا لك منا فاخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله تعالى عنه فقال هما يخدعانك ولك علي أن أقسم ما لي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر رضي لاله تعالى عنه : إما إذ عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فان رابك منهم ريب فارجع فلما انتهوا إلد البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك قال : نعم فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاه فشداه وثاقا وجدله كل واحد مائة جلة وذهبا به إلى أمه فقالت : لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين
9
- أي في زمرة الراسخين في الصلاح الكاملين فيه والصلاح ضد الفساد وهو جامع لكل خير وله مراتب غير متناهية ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا ولذا طلبها الأنبياء عليهم السلام كما قال سليمان عليه السلام وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ويحتمل أن يكون الكلام بتقدير مضاف أي في مدخل الصالحين وهي الجنة والموصول مبتدأ ولندخلنهم الخبر على ما ذكره أبو البقاء وجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير لندخلن الذين آنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم ومن الناس أي بعضهم من يقول آمنا بالله فاذا أوذي في الله أي لأجله عز و جل على أن في السببية أو المراد في سبيل الله تعالى بأن عذبهم المشركون على الايمان به تعالى جعل فتنة الناس أي
(20/139)

نزلوا ما يصيبهم من أذيتهم كعذاب الله أي منزلة عذابه تعالى في الآخرة فجزعوا من ذلك ولم يصبروا عليه وأطاعوا الناس وكفروا بالله تعالى كما يطيع الله تعالى من يخاف عذابه سبحانه فيؤمن به عز و جل
ولئن جاء نصر من ربك بأن حصل للمؤمنين فتح وغنيمة ليقولن بضم اللام الثانية وحذف ضمير الجمع لالتقاء الساكنين وهذا الضمير عائد إلى من والجمع بالنظر إلى معناها كما إن إفراد الضمائر العائدة اليها فيما سبق بالنظر إلى لفظها وحكى أبو معاذ النحوي أنه قريء ليقولن بفتح اللام على إفراد الضمير كما فيما سبق إنا كنا معكم أي مشايعين لكم في الدين فأشركونا فيما حصل من الغنيمة وقيل : أي مقاتلين معكم ناصرين لكم فالمراد الصحبة في القتال ورد بأنها غير واقعة والآية نزلت في ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم وكانو يكتمونه من المسلمين وبذلك يكونون منافقين ولذا قال ابن زيد والسدي إن الآية في المنافقين فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله سبحانه : أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين
1
- وهو في الظاهر عطف على مقدر أي أيخفى حالهم وليس الخ أو أليس المتفرسون الذين ينظرون بنور الله تعالى بأحوالهم عالمين وليس الخ و أعلم إا على أصله أي أليس هو عز و جل أعلم من العالمين بما في صدور العالمين من الأخلاق والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلونه من الارتداد والإخفاء عن المسلمين وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة أو هو بمعنى عالم وقال قتادة : نزلت فيمن هاجر فردهم المشركون إلى مكة وقيل : نزلت في ناس مؤمنين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدوا وهم الذين قال الله تعالى فيهم إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية وما تقدم هو الأوفق لما سبق من اةية وما لحق من قوله سبحانه : وليعلمن الله الذين آنوا بالاخلاص وليعلمن المنافقين سواء كان كفرهم بأذية أو لا والمراد بالعلم المجازاة أي ليجزيهم بما لهم من الايمان والنفاق وكأن تلوين الخطاب في الذين آنوا والمنافقين لرعياة الفواصل والظأهر أن الآية بناء على أن النفاق ظهر في المدينة مدنية وهو يؤيد ما تقدم من عهدها من المستثنيات ولعل من يقول أنها مكية لظاهر إطلاق جمع القول بمكية السورة وأن تعذيب الكفرة المسلمين إنما كان في الأغلب بمكة يمنع ذلك أو يذهب إلى أنها من الأخبار بالغيب فتدبر وقال الذين كفروا للذين آمنوا بيان لحملهم المؤمنين على الكفر بالاستمالة بعد بيان حملهم إياهم عليه بالأذية والوعيد ووصفهم بالكفر ههنا دون ما سبق لما أن مساق الكلام لبيان جنايتهم وفيما سبق لبيان جناية من أضلوه واللام للتبليغ أي قالوا مخاطبين لهم أتبعوا سبيلنا أي اسلكوا طريتنا التي نسلكها في الدين عبد عن ذلك بالاتباع الذي هو المشي خلف ماش آخر تنزيلا للمسلك منزلة السالك فيه أو اتبعونا في طريقتنا ولنحمل خطاياكم أي إذا كان ذلك الاتباع خطيئة يؤاخذ عليه يوم القيامة كما تقولون أو ولنحمل ما عليكم من الخطايا إن كان بعث ومؤاخذة وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين له على الأمر بالاتباع للمبالغة في تعليق الحمل بالاتباع فكأن أصل الكلام اتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم بجزم نحمل على أنه جواب الأمر فيكون المعنى إن تتبعوا نحمل فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة المذكورة ومنشؤها الاشارة إلى أن الحمل لتحققه كأنه أمر واجب أمروا به من آمر مطاع والتعليق على الشرط الذي
(20/140)

تضمنه الأمر كما في قولهم : أكرمني أنفعك لا يفيد ذلك والداعي لهم إلى المبالغة التشجيع على الاتباع والحمل هنا مجاز وفي البحر شبه القيام بما يتحصل من عواقب الاثم بالحمل على الظهر والخطايا بالمحمول وقال مجاهد : الحمل هنا من الحمالة لا من الحمل انتهى
والآية على ما أخرج جماعة عن مجاهد نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا فان كان عليكم شيء فعلينا وأخرج ابن أبي شيبة وأبن المنذر عن ابن الحنفية قال كان أبو جهل وصناديد قريش يتلقون الناس إذا جاءوا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسلمون يقولون : إنه يحرم الخمر ويحرم الزنا ويحرم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية وقيل : قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف قالا لعمر رضي الله تعالى عنه : إن كان في الاقامة على دين الآباء إثم فنحن نحمله عنك
وقيل : قائله الوليد بن المغيرة ونسبه ما صدر عن الواحد للجمع شائع وقد تقدم الكلام غير مرة في وجه ذلك وقرأ الحسن وعيسى ونوح القاريء ولنحمل بكسر لام الأمر ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء نفي مؤكد عن سبيل الاستمرار لكونهم حاملين شيئا ما من خطاياهم التي التزموا حملها فالباء زائدة لتأكيد النفي والاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية معتبر بعد النفي ومن الأولى للبيان وهو مقدم من تأخير ومن الثانية مزيدة لتأكيد الاستغراق وهذه الجملة اعتراض أو حال
وقرأ داود بن أبي هند فيما ذكر أبو الفضل الرازي من خطيئتهم على التوحيد قال : ومعناه الجنس ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة وذكر ابن خالويه وأبو عمرو الداني أن داود هذا قرأ من خطيئاتهم جمع خطيئة جمع السلامة بالألف والتاء وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ من خطيهم بفتح الطاء وكسر الياء وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين فاشتبهت الياء لأن القياس تسهيلها هو ذلك وقوله تعالى : إنهم لكاذبون
21
- استئناف مقرر للنفي السابق والكذب قيل راجع إلى تعليق الحمل بالاتباع فانه اخبار لا إلى الامر السابق لأنه انشاء لا يجري الكذب فيه وتعقب بأن التعليق لا يلزمه أن يكون اخبار بل هو ضمان معلق أي إنشاء الضمان عند وجود الصفة ولذا قال الزمخشري : إن ضامن مالا يعلم اقتداره على الوفاء به لا يسمى كاذبا لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وجعل هذا سؤالا عن وجه التعبير بكاذبون وأجاب عن ذلك بوجهين ثانيهما على ما في الكشف هو الوجه وحاصله أن الكذب ليس راجعا إلى أنهم غير حاملين ليقال : إن الضامن لا يسمى كاذبا بل أخبر الله تعالى أنهم عجز عما ضمنوه ومع ذلك هم كاذبون في وعد إنشاء الضماء عند وجود الوصف والمحصل أن من وعد الضمان إن ضمن ولم يحقق لا يسمى كاذبا وإن لم يضمن سمي كاذبا وأولهما أنه شبه الله تعالى حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكأن ضمانهم عنده سبحانه لا على ما هو عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه
وقال بعض المحققين : الكذب راجع إلى الخبر الذي في ضمن وعدهم بالحمل وهم أنهم قادرون على إنجاز
(20/141)

ماما وعدوا والكذب كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه يتطرق اليه باعتبار ما يلزم مدلوله وفي الانتصاف أن في قوله تعالى : إنهم لكاذبون نكتة حسنة يستدل بها على صحة مجيء الأمر بمعنى الخبر فان من الناس من أنكره والتزم تخريج جميع ما ورد في ذلك على أصل الأمر ولم يتم له ذلك في هذه الآية لأنه سبحانه أردف قولهم ولنحمل خطاياكم على صيغة الأمر بقوله تعالى : إنهم لكاذبون والتكذيب إنما يتطرق إلى الاخبار انتهى ويعلم منه وجه كونهم كاذبين في قولهم ذلك مع إخراجهم له مخرج الامر إلا أن في كون الآية دليلا على ما ذكره نظرا كما لا يخفى
وليحملن أثقالهم بيان لما يستتبعه قولهم ذلك في الآخرة من المضرة لأنفسهم بعد بيان عدم منفعته لمخاطبتهم أصلا والتعبير عن الخطايا بالأثقال للايذان بغاية ثقلها وكونها فادحة واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وبالله ليحملن أثقال أنفسهم كاملة وأثقالا أخر مع أثقالهم وهي أثقال ما تسببوا بالاضلال والحمل على الكفر والمعاصي من غير أن ينقص من أثقال من أضلوه شيء ما فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا قال عون : وكان الحسن يقرأ عليها وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وللاشارة إلى استقلال أثقال أنفسهم وأنها نهضتهم واستفرغت جهدهم وأن الاثقال الأخر كالعلاوة عليها اختير ما في النظم الجليل على أن يقال وليحملن أثقالا مع أثقالهم
وليسئلن يوم القيامة سؤال تقريع وتبكيت عما كانوا يفترون
31
- أي يختلقونه في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل التي من جملتها كذبهم هذا
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما شروع في بيان إفتتان الانبياء عليهم السلام بأذية أممهم إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدا للانكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الايمان بلا ابتلاء وحثا لهم على الصبر فان الانبياء عليهم السلام حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها فلأن يصبر هؤلاء المؤمنون أولى وأحرى والظاهر أن الواو للعطف وهو من عطف القصة على القصة قال ابن عطية : والقسم فيها بعيد يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه فان فيه حذف المجرور وإبقاء الجار وهم قالوا : لابد من ذكر المجرور والفاء للتعقيب فالمتبادر أنه عليه السلام لبث في قومه عقيب الارسال المدة المذكورة وقد جاء مصرحا به في بعض الآثار
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : بعث الله تعالى نوحا عليه السلام وهو ابن أربعين سنة ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله تعالى وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وعلى هذه الرواية يكون عمره عليه السلام ألف سنة وخمسين سنة وقيل : إنه عليه السلام عمر أكثر من ذلك أخرج ابن جرير عن عون بن أبي شداد قال : إن الله تعالى أرسل نوحا عليه السلام إلى قومه وهو أبن خمسين وثلثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين
(20/142)

عاماعاما ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة فيكون عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : كان عمر نوح عليه السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعدما بعث الفا وسبعمائة سنة وعن وهب أنه عليه السلام عاش ألفا وأربعمائة سنة وفي جامع الاصول كانت مدة نبوته تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الغرق خمسين سنة وقيل : مائتي سنة وكانت مدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء
وقال ابن عطية : يحتمل أن كيكون ما ذكر الله عز و جل مدة إقامته عليه السلام من لدن مولده إلى غرق قومه وقيل : يحتمل أن يكون ذلك جميع عمره عليه السلام ولا يخفى أن المتبادر من الفاء التعقيبية ما تقدم وجاء في بعض الآثار أنه عليه السلام أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال : جاء ملك الموت نوح عليهما السلام فقال : يا أطول النبين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها قال : كرجل دخل بيتا له بابان فقال وسط الباب هنية ثم خرج من الباب الآخر ولعل ما عليه النظم الكريم في بيان مدة لبثه عليه السلام للدلالة على كمال العدد وكونه متعينا نصا دون تجوز فان تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الالف من تخييل طول المدة لأنها أول ما تقرع السمع فان المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة وإظهار ركاكة رأي الذين يحسبون أنهم يتركون بلا ابتلاء واختلاف المميزين لما في التكرير في مثل هذا الكلام من البشاعة والنكتة في اختبار السنة أولا أنها تطلق على الشدة والجدب بخلاف العام فناسب اختيار السنة لزمان الدعوة الذي قاسى عليه السلام فيما قاسى من قومه فأخذهم الطوفان أي عقيب تمام المدة المذكورة والطوفان قد يطلق على كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام قال العجاج : حتى إذا ما يومها تصبصبا وغم طوفان الظلام الاثابا وقد غلب على طوفان وهو المراد هنا وهم ظالمون أي والحال هم مستمرون على الظلم لم يتأثروا بما سمعوا من نوح عليه السلام من الآيات ولم يرعووا عماهم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة المتمادية فأنجيناه أي نوحا عليه السلام وأصحاب السفينة أي من ركب فيها معه من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين وقيل : ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم اناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم وعن محمد بن اسحق كانوا عشرة خمسة رجال وخمسة نسوة وروي مرفوعا كانوا ثمانية نوحا وأهله وبنوه الثلاثة أي مع أهليهم وجعلناها أي السفينة ءاية للعالمين عبر وعظة لهم لبقائها زمانا طويلا على الجودي يشاهدها المارة لاشتهارها فيما بين الناس ويجوز كون الضمير للحادثة والقصة المفهومة مما قبل وهي عبرة للعالمين لاشتهارها فيما بينهم وإبراهيم نصب باضمار اذكر معطوفا على ما قبله عطف القصة على القصة فلا ضير في اختلافها خبرا وانشاءا وإذ في قوله تعالى : إذ قال لقومه بدل اشتمال منه لأن الاحيان تشتمل على ما فيها وقد جوز الزمخشري وابن عطية وتعقب ذلك أبو حيان بأن إذ لا تتصرف فلا تكون مفعولا به والبدلية تقتضي ذلك ثم ذكر أن إذ ان كانت ظرفا لما مضى لا يصح أن تكون معمولة لاذكر لأن المستقبل
(20/143)

لا يقع في الماضي فلا يجوز قم أمس وإذا خلعت من الظرفية الماضوية وتصرف فيها جاز أن تكون مفعولا به ومعمولا لاذكر وجوز غير واحد أن يكون نصبا بالعطف على نوحا فكأنه قيل : وأرسلنا إبراهيم فاذ حينئذظرف للارسال والمعنى على ما قيل أرسلناه حين تكامل عقله وقدر على النظر والاستدلال وترقس من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لارشاد الخلق إلى طريق الحق وهذا على ما قاله بعض المحققين لما أن القول المذكور في حير إذ إنما كان منه عليه السلام بعد ما راهق قبل الارسال وأنت تعلم أن قوله تعالى : وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول الا البلاغ المبين الخ إذا كان من قوله عليه السلام لقومه كالنص في أن القول المحكي عنه عليه السلام كان بعد الارسال وفي الحواشي السعدية أن ذلك اشارة إلى دفع ما عسى أن يقال : الدعوة تكون بعد الارسال والمفهوم من الآية تقدمها عليه وحاصله أنه ليس المراد من الدعوة ما هو نتيجة الارسال بل ما هو نتيجة كمال العقل وتمام النظر مع أن دلالة الآية على تقدمها غير مسلمة ففي الوقت سعة ويجوز أن يكون القصد هو الدلالة على مبادرته عليه السلام للامتثال اه فتدبر
وجوز أبو البقاء وابن عطية أن يكون نصبا بالعطف على مفعول انجيناه وهو كما ترى والاوفق بما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى : وإلى مدين أخاهم شعيبا أن يكون النصب بالعطف على نوحا وقرأ أبو حنيفة والنخعي وأبو جعفر وإبراهيم بالرفع على أن التقدير ومن المرسلين إبراهيم وقيل : التقدير ومما ينبغي ذكره ابراهيم وقيل : التقدير وممن أنجينا ابراهيم وعلى الاول المعول لدلالة ما قبل وما بعد عليه ويتعلق بذلك المحذوف إذ قال لقومه اعبدوا الله وحده واتقوه أن تشركوا به سبحانه شيئا ذلكم أي ما ذكر من العبادة والتقوى خير لكم من كل شيء فيه خيرية أو مما أنتم عليه على تقدير الخيرية فيه على زعمكم ويجوز كون خير صفة لا أسم تفضيل إن كنتم تعلمون
61
- أي الخير والشر وتميزون أحدهما من الآخر أو أن كنتم تعلمون شيئا من الأشياء بوجه من الوجوه فان ذلك كاف في الحكم بخيرية ما ذكر من العبادة والتقوى انما تعبدون من دون الله أوثانا بيان لبطلان دينهم وشريته في نفسه بعد بيان شريته بالنسبة إلى الدين الحق أي ما تعبدون من دونه تعالى إلا أوثانا هي في نفسها تماثيل مصنوعة لكم ليس فيها وصف غير ذلك وتخلقون إفكا أي وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة وتدعون أنها شفعاؤكم عند الله سبحانه أو تعملونها وتنحتونها للافك والكذب واللام لام العاقبة والا فهم لم يعملوها لأجل الكذب وجوز أن يكون ذلك من باب التهكم وقال بعض الأفاضل : الأظهر كون إفكا مفعولا به والمراد به نفس الاوثان وجعلها كذبا مبالغة أو الافك بمعنى المأفوك وهو المصروف عما هو عليه وإطلاقه على الأوثان لأنها مصنوعة وهم يجعلونها صانعا وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وعون العقيلي وعبادة وابن أبي ليلى وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما تخلقون بفتح التاء والخاء واللام مشددة قال ابن مجاهد : ورويت عن ابن الزبير وأصله تتخلقون فحذفت إحدى التاءين وهو من تخلق بمعنى تكذب وصيغة التكلف للمبالغة وزعم بعضهم جواز أن يكون تفعل بمعنى فعل وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أيضا تخلقون من خلق بالتشديد للتكير في الخلق بمعنى الكذب والافتراء وقرأ ابن الزبير
(20/144)

وفضيلوفضيل بن زرقان إفكا بفتح الهمزة وكسر الفاء على أنه مصدر كالكذب واللعب أو وصف كالحذر وقع صفة لمصدر مقدر أي خلقا أفكا أي ذا إفك ان الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا بيان لشرية ما يعبدونه من حيث أنه لا يكاد يجديهم نفعا و رزقا يحتمل أن يكون مصدرا مفعولا به ليملكون والمعنى لايستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق وأن يكون بمعنى المرزوق أي لا يستطيعون إيتاء شيء من الرزق وجوز على المصدرية أن يكون مفعولا مطلقا ليملكون من معناه أو لمحذوف والأصل لا يملكون أن يرزقوكم رزقا وهو كما ترى ونكر وقال بعض الاجلة : للتحقير والتقليل مبالغة في النفي وخص الرزق لمكانته من الخلق فابتغوا عند الله الرزق أي كله على أن تعريف الرزق للاستغراق قال الطيبي هذا من المواضع التي ليست المعرفة المعادة عين الاول فيها وجوز أن تكون عين الاول بناء على أن كلا منهما مستغرق واعبدوه عز و جل وحده واشكروا له على نعمائه متوسلين الى مطالبكم بعبادته مقيدين بشكره تعالى للعتيد ومستجلبين به للمزيد فالجملتان ناظرتان لما قبلهما وجوز أن يكونا ناظرتين لقوله تعالى : اليه ترجعون
71
- كأنه قيل : استعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر فانه اليه ترجعون وجوز بعض المحققين أن تكون هذه الجملة تذييلا لجملة ما سبق مما حكي عن ابراهيم عليه السلام أو لأوله والمعنى اليه تعالى لا إلى غيره سبحانه ترجعون بالموت ثم بالبعث فافعلوا ما أمرتكم به وما بينهما اعتراض لتقرير الشرية كما سمعت وقريء ترجعون بفتح التاء من رجع رجوعا وإن تكذبوا عطف على مقدر تقديره فان تصدقوني فقد فزتم بسعادة الدارين وان تكذبوا أي تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم اليه تعالى ترجعون بالبعث فقد كذب أمم من قبلكم وهذا تعليل للجواب في الحقيقة والاصل فلا تضرونني بتكذيبكم فانه قد كذب أمم قبلكم رسلهم وهم شيث وادريس ونوح وهود وصالح عليهم السلام فلم يضرهم تكذيبهم شيئاوإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبهم أياي وما على الرسول إلا البلاغ المبين أي التبليغ الذي لا يبقى معه شك وما عليه أن يصدقه قومه البتة وقد خرجت عن عهدة التبليغ بما لا مزيد عليه فلا يضرني تكذيبكم بعد ذلك أصلا وهذه الآية أعني وإن تكذبوا الخ على ما ذكرنا من جملة قصة ابراهيم عليه السلام وكذا ما بعد على ما قيل إلى قوله تعالى : فما كان جواب قومه وجوز أن يكون ذلك اعتراضا بذكر شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفي القصة من حيث مساقها لتسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والتنفيس عنه بأن أباه خليل الرحمن كان مبتلى بنحو ما ابتلي به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم عليهما الصلاة والسلام قالوا : وفي وإن تكذبوا اعتراضية والخطاب منه تعالى أو من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على معنى وقل لقريش إن تكذبوا الخ
وذهب بعض المحققين إلى أن قوله تعالى : إن تكذبوا الخ من كلام ابراهيم عليه السلام وقوله سبحانه : أو لم يروا كيف يبديء الله الخلق الخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى للانكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله والهمزة لانكار عدم رؤيتهم الموجب لتقريرها والواو للعطف على
(20/145)

مقدرمقدر أي ألم ينظروا ولم يعلموا كيفية خلق الله تعالى الخلق ابتداء من مادة ومن غير مادة أي قد علموا ذلك
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بخلاف عنه ألم تروا بتاء الخطاب وهو على ما قال هذا البعض لتشديد الانكار وتأكيده ولا يحتاج عليه إلى تقدير قول ومن لم يجعل ذلك كلاما مستأنفا مسوقا من جهته تعالى للانكار على تكذيبهم بالبعث قال : إن الخطاب على تقدير القول أي قال لهم رسلهم : ألم تروا ووجه ذلك بأنه جعل ضمير أو لم يروا على قراءة الغيبة لأمم قوله تعالى : أمم من قبلكم فيجعل في قراءة الخطاب له أيضا ليتحد معنى القراءتين وحينئذ يحتاج لتقدير القول ليحكي خطاب رسلهم معهم إذ لا مجال للخطاب بدونه
وقيل : إن ذاك لأن لا يجوز أن يكون الخطاب لمنكري الاعادة من أمة إبراهيم أو نبينا عليهما الصلاة والسلام وهم المخاطبون بقوله تعالى : وإن تكذبوا لأن الاستفهام للانكار أي قد رأوا فلا يلائم قوله تعالى : قل سيروا الخ لأن المخاطبين فيها هم المخاطبون أولا يعني أن كانت الرؤية علمية فالامر بالسير والنظر لا يناسب لمن حصل له العلم بكيفية الخلق والقول بأن الاول دليل أنفسي والثاني أفاقي مخالف للظاهر من وجوه اه فتدبر ولعل الأظهر والأبعد عن القيل والقال في نظ الآيات ما نقلناه عن بعض المحققين
وقرأ الزبيري وعيسى وأبو عمرو بخلاف عنه كيف يبدا على أنه مضارع بدأ الثلاثي مع إبدال الهمزة ألفا كما ذكره الهمداني وقوله تعالى : ثم يعيده عطف على أو لم يروا لا على يبديء لأن الرؤية إن كانت بصرية فهي واقعة على الابداء دون الاعادة فلو عطف عليه لم يصح وكذا إذا كانت علمية لأن المقصود الاستدلال بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لاثباته فلو كان معلوما لهم كان تحصيلا للحاصل
وجوز العطف عليه بتأويل الاعادة بانشائه تعالى كل سنة مثل ما أنشأه سبحانه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فان ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه على ما قيل من غير ريب وعن مقاتل أن الخلق هنا الليل والنهار وليس بشيء إن ذلك أي ما ذكر من الاعادة وجوز أن يكون المشار اليه ما ذكر من الامرين على الله يسير إذ لا يحتاج فعله تعالى الى شيء خارج عن ذاته عز و جل
قل سيروا في الأرض أمر لابراهيم عليه السلام أن يقولذلك عند بعض المحققين وكذا جعله من جعل جميع ما تقدم من قصة إبراهيم عليه السلام ومن جعل قوله تعالى : وان تكذبوا الى قوله تعالى : فما كان جواب قومه اعتراضا جعل هذا أمرا لنبينا صلى الله عليه و سلم أن يقول ذلك لقريش
وجوز أن يجعل نظم الآيات السابقة على ما نقل عن بعض المحققين ويجعل هذا أمرا للنبي عليه الصلاة و السلام أن يقول ذلك لهم فانهم مثل قوم إبراهيم عليه السلام والامم الذين من قبلهم في التكذيب بالبعث والانكار له وما في حيز هذا القول متضمن ما يدل على صحته وعدم اتحاده ما ما سبق لا يضر وأيا ما كان فاضافة الرحمة إلى ضمير المتكلم فيما يأتي إن شاء الله تعالى لما أن ذلك حكاية كلامه عز و جل على وجه ومثله في القرآن الكريم كثير والسير كما قال الراغب : المضي في الأرض وعليه يكون في الآية تجريد والظاهر أن المراد به المضي بالجسم وجوز أن يراد به إجالة الفكر وحمل على ذلك فيما يروى في وصف الأنبياء عليهم السلام أبدانهم في الارض سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة ومنهم من حمل ذلك على الجد في العبادة المتوصل
(20/146)

بهابها الى الثواب والمعنى على ما قلنا أولا امضوا في الارض وسيحوا فيها فانظروا كيف بدأ الله تعالى الخلق أي كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة واخلاق شتى فان ترتب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها وعلى هذا تتغاير الكيفية في الآية السابقة والكيفية في هذه الآية لما أن الاولى كما علمت باعتبار المادة وعدمها وهذه باعتبار تغاير الأحوال ولعل التعبير في الآية الاولى بالمضارع اعني يبدأ دون الماضي كما هنا لاستحضار الصورة الماضية لما أن بدء الخلق من مادة وغيرها أغرب من بدء الخلق على أطوار مختلفة على معنى أن خلق الأشياء أغرب من جعل أطوارها مختلفة وأنت إذا لاحظت أن خلق الأشياء يعود في الآخرة إلى أيجادها من كتم العدم من غير سبق مادة دفعا للتسلسل وأن جعل أطوارها مختلفة انما هو بعد سبق المادة ولو سبقا ذاتيا وهو ما قام به الاختلاف أعني ذوات الاشياء لا تشك في أن الأول أغرب من الثاني ولذا ترى التمدح بأصل الخلق في القرآن العظيم أكثر من التمدح بالجعل المذكور وقد سبق وافق الصيغة في الاشعار بالغرابة بناء الفعل من باب الافعال فانه غير مستعمل ولذا قالوا : أنه مخل بالفصاحة لولا وقوعه مع يعيد ومما يقرب من هذا السر ما قيل في وجه حذف الياء من يسر في قوله تعالى : والليل إذا يسر من أن ذلك لأن الليل يسرى فيه لا يسري أي ليدل مخالفة الظاهر في اللفظ على مخالفته في المعنى وهو معنى دقيق
وقيل في وجه التعبير بما ذكر افادة الاستمرار التجددي وهو بناء على المعنى الثاني في الآية وقال بعضهم في تغاير الدليلين : إن هذا عيني وذلك علمي أو هذا آفاقي والأول أنفسي وقرأ الزهري كيف بدا الخلق بتخفيف الهمزة بابدالها ألفا ثم حذفها في الوصل قال أبو حيان : وهو تخفيف غير قياسي كما قال :
(20/147)

فارعي فزارة لا هناك المرتع وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين ثم الله ينشيء النشأة الآخرة أي بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها والنشأة الايجاد والخلق والتعبير عن الاعادة التي هي محل النزاع بالنشأة الآخرة المشعرة بكون البدء نشأة أولى للتنبيه على أنهما شأن واحد من شؤون الله تعالى حقيقة واسما من حيث أن كلا منهما اختراع واخراج من العدم الى الوجود ولا فرق بينهما الا بالأولية والأخروية كذا قيل
والظاهر أنه مبني على أن الجسد يعدم بالكلية ثم يعاد خلقا جديدا لا أنه تتفرق أجزاؤه ثم تجمع بعد تفرقها وإلى كل ذهب بعض والادلة متعارضة والمسألة كما قال ابن الهمام عند المحققين ظنية وفي كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الاسلام الغزالي فان قيل : فما تقولون أتعدم الجواهر والاعراض ثم تعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد الاعراض قلنا : كل ذلك ممكن ولكن ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات انتهى وذهب ابن الهمام إلى أن الحق وقوع الكيفيتين اعادة ما انعدم بعينه وتأليف ما تفرق من الأجزاء وقد يقال : إن بدء الانسان ونحوه ليس اختراعا محضا واخراجا من كتم العدم الى الوجود في الحقيقة لما أنه مخلوق من التراب وسائر العناصر والظاهر أن فناءه ليس عبارة عن صيرورته عدما محضا بل هو عبارة عن انحلاله الي ما تركب منه ورجوع كل عنصر الى عنصره نعم لا شك في فناء بعض الاعراض وانعدامها بالكلية وقد يستثنى منه بعض الأجزاء فلا ينحل إلى ما منه التركيب بل يبقى على ما كان عليه وهو عجب الذنب لظاهر حديث الصحيحين ليس شيء من الانسان لا يبلى إلا عظا واحدا وهو عجب الذنب منه
(20/0)

يركبيركب الخلق يوم القيامة وتأويله بما أوله به ملا صدرا في أسفاره مما لا ينبغي أن يلتفت اليه وحينئذ فالاعادة تكون بتركيب ما أتحل من العناصر وضمه الى هذا الجزء فلا تكون اختراعا محضا واخراجا من كتم العدم الى الوجود في الحقيقة لكن لكل من البدء والاعادة شبه تام بالاختراع والاخراج المذكور وبه يصح أن يقال لكل اختراع واخراج من العدم الى الوجود فلا تغفل والجملة معطوفة على جملة سيروا في الارض داخلة معها في حيز القول ولا يضر تخالفهما خبرا وانشاء أفأنه جائز بعد القول وماله محل من الاعراب ولا يصح عطفها على بدأ الخلق لأنها لا تصلح أن تكون موقعا للنظر أما إن كان بمعنى الابصار فظاهر وأما إن كان بمعنى التفكر فلأن التفكر في الليل لا في النتيجة وإظهار الاسم الجليل وإيقاعه مبتدأ مع إضماره في بدأ لابراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الاعادة بالاشارة إلى علة الحكم فانه الاسم الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال وتكرير الاسناد ورد ما تقدم على مقتضى الظاهر فلا يحتاج للتوجيه وكون المراد منه ليس إثبات الاعادة لمن أنكرها فلذا لم ينسج على هذا المنوال غير مسلم وقرأ أبو عمرو وابن كثير النشاءة بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة والقصر أشهر ومحلها النصب على أنها مصدر مؤكد لينشيء بحذف الزوائد والاصل الانشاءة أو بحذف العامل أي ينشيء فينشأون النشأة الآخرة نحو أنبتكم من الأرض نباتا إن الله على كل شيء قدير تعليل لما قبله بطريق التحقيق فان من علم قدرته عز و جل على جميع الممكنات التي من جملتها الاعادة لا يتصور أن يتردد في قدرته سبحانه عليها ولا في وقوعها بعدما أخبر به ثم أعلم أن أكثر المنكرين للبعث لا يقولون باستحالته كجمع النقيضين بل غاية ما عندهم استبعاده والرد على هؤلاء بهذ الآيات ونحوها ظاهر لما فيها مما يزيل الاستبعاد من الابداء الذي هو في الشاهد أشق من الاعادة ومنهم من يقول باستحالة اعادة المعدوم والرد عليهم بعد تسليم أن ما نحن فيه من اعادة المعدوم وليس من جمع المتفرق بابطال ما استدلوا به على الاستحالة وقد تكفلت الكتب الكلامية بذلك وأما الرد عليهم بهذه الآيات ونحوها فلما فيها من الاشارة إلى تزييف أدلة الاستحالة فتدبر يعذب من يشاء جملة مستأنفة لبيان ما بعد النشأة اةخرة أي يعذب بعد النشأة الآخرة من يشاء تعذيبه وهم المنكرون لها ويرحم من يشاء رحمته وهم المقرون بها واليه سبحانه لا إلى غيره تقلبون أي تردون والجملة تقرير للاعادة وتوطئة لما بعد وتقديم التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب وما أنتم بمعجزين له تعالى عن إجراء حكمه وقضائه عليكم في الأرض ولا في السماء أي بالهرب في الأرض الفسيحة أو الهبوط في مكان بعيد الغور والعمق بحيث لا يوصل اليه فيها ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها أو التي هي أمنع لمن حل فيها عن أن تناله أيدي الحوادث فيما ترون لو استطعتم الرقي اليها كما في قوله تعالى : إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرضفانفذوا أو البروج والقلاع المرتفعة في جهتها على ما قيل وهو خلاف الظاهر وقال ابن زيد والفراء : إن في السماء صلة موصول محذوف هو مبتدأ محذوف الخبر والتقدير ولا من في السماء بمعجز والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها وضعف بأن فيه حذف الموصول مع بقاء صلته وهو لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر كقول حسان : أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
(20/148)

على ما هو الظاهر فيه على أن ابن مالك اشترط في جوازه عطف الموصول المحذوف على موصول آخر مذكور كما في هذا البيت وبأن فيه حذف الخبر أيضا مع عدم الحاجة اليه ولهذا جعل بعضهم الموصول معطوفا على أنتم ولم يجعله مبتدأ محذوف الخبر ليكون العطف من عطف الجملة على الجملة وزعم بعضهم أن الموصول محذوف في موضعين وأنه مفعول به لمعجزين وقال : التقدير وما أنتم بمعجزين من في الأرض أي من الأنس والجن ولا من في السماء أي من الملائكة عليهم السلام فكيف تعجزون الله عز و جل ولا يخفى أن هذا في غاية البعد ولا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى
وقيل ليس في الآية حذف أصلا والسماء هي المظلة إلا أن أنتم خطاب لجميع العقلاء فيدخل فيهم الملائكة ويكون السماء بالنظر اليهموالارض بالنظر إلى غيرهم من الانس والجن وهو كما ترى
وما لكم من دون الله من ولي يحرسكم من بلاء أرضي أو سماوي ولا نصير
32
- يدفعه عنكم والذين كفروا بآيات الله أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله فيدخل فيها النشأة الاولى الدالة على صحة البعث والآيات الناطقة به دخولا أوليا وتخصيصها بدلائل وحدانيته تعالى لا يناسب المقام ولقائه الذي تنطق به تلك الآيات اولئك الموصوفون بما ذكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه عز و جل يئسوا من رحمتي أي ييأسوا منها يوم القيامة على أنه وعيد والا فالكافر لا يوصف باليأس في الدنيا لأنه لا رجاء له وصيغة الماضي للدلالةعلى التحقق وجوز أن يكون المراد إظهار مباينة حالهم وحال المؤمنين لأن حال المؤمن الرجاء والخشية وحال الكافر الاغترار واليأس فهو لا يخطر بباله رجاء ولا خوفا إن أخطر المخوف بباله كان حاله اليأس بدل الخوف وإن أخطر المرجو كان حاله الاغترار بدل الرجاء فكأنه تنصيص على كفرهم وتعريف لحالهم وأن يكون الكلام على الاستعارة
شبهوا بالآيسين من الرحمة وهم الذين ماتوا على الكفر لأنه مادامت الحياة لا يتحقق اليأس من الرحمة لرجاء الايمان أو من قدر آيسا من الرحمة على الفرض دلالة على توغلهم في الكفر وعدم ارعوائهم وقرأ الذماري : وأبو جعفر ييسوا بغير همز بل بياء بدل الهمزة وأولئك لهم عذاب أليم في تكرير اسم الاشارة وتكرير الاسناد وتنكير العذاب ووصفه بالأليم من الدلالة على فظاعة حالهم ما لا يخفى لكن قال الامام : إنه تعالى أضاف الرحمة إلى نفسه عز و جل دون العذاب ليؤذن بأن رحمته جل وعلا سبقت غضبه سبحانه وأنت تعلم أن في الآية على هذا دلالة على سوء حالهم أيضا لافادتها أنهم حرموا تلك الرحمة العظيمة بما ارتكبوه من العظائم فما كان جواب قومه بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى : إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه
وقرأ الحسن وسالم الافطس بالرفع على العكس وقد مر ما فيه في نظائره والمراد بالقتل ما كان بسيف ونحوه فتظهر مقابلة الاحراق له ولا حاجة إلى جعل أو بمعنى بل والآمرون بذلك إما بعضهم لبعض أو كبرائهم قالوا لأتباعهم : اقتلوه فتستريحوا منه عاجلا أو حرقوه بالنار فاما أن يرجع إلى دينكم إذا مضته
(20/149)

النارالنار وإما أن يموت بها إن أصر على قوله ودينه وأيا ما كان ففيه إسناد ما للبعض إلى الكل وجاء هنا الترديد بين قتله عليه السلام وإحراقه فقد يكون ذلك من قائلين ناس أشاروا بالقتل وناس بالاحراق وفي اقتراب قالوا حرقوه اقتصروا على أحد الشيئين وهو الذي فعلوه رموه عليه السلام في النار ولم يقتلوه ثم إنه ليس المراد أنهم لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن حججه عليه السلام إلا هذه المقالة الشنيعة كما هو المتبادر من ظاهر النظم الكريم بل إن ذلك هو الذي استقر عليه جوابهم بعد اللتيا والتي في المرة الأخيرة وإلا فقد صدر عنهم من الخرافات والاباطيل ما لا يحصى فأنجاه الله من النار الفاء فصيحة أي فألقوه في النار فأنجاه الله تعالى منها بأن جعلها سبحانه عليه بردا وسلاما حسبما بين في مواضع أخر وقد مر بيان كيفية القائه عليه السلام فيها وإنجائه تعالى إياه منها وكان ذلك في كوثي من سواد الكوفة وكونه في المكان المشهور اليوم من أرض الرهى وعنده صورة المنجنيق وماء فيه سمك لا يصطاد ولا يؤكل حرمة له لا أصل له إن في ذلك أي في إنجائه عليه السلام منها لآيات بينة عجيبة وهي حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها في زمان يسير وإنشاء روض في مكانها
وعن كعب أنه لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه عليه السلام به ولولا وقوع اسم الاشارة في أثناء القصة لكان الأولى كونه إشارة إلى ما تضمنته لقوم يؤمنون
42
- خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمل فيها وقال إبراهيم عليه السلام مخاطبا لهم بعد أن أنجاه الله تعالى من النار
إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحيوة الدنيا أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم فالمفعول له غاية مترتبة على الفعل ومعلول له في الخارج أو المعنى إن مودة بعضكم بعضا هي التي دعتكم إلى اتخاذها بأن رأيتم بعض من تودونه اتخذها فاتخذتموها موافقة له لمودتكم إياه وهذا كما يرى الانسان من يوده يفعل شيئا فيفعله مودة له فالمفعول له على هذا علة باعثة على الفعل وليس معلولا له في الخارج والمراد نفي أن يكون فيها نفع أو ضر وأن الداعي لاتخاذها رجاء النفع أو خوف الضر وكأنه لم يعتبر ما جعلوه علة لاتخاذها علة وهو ما اشاروا اليه في قولهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى أناسا غيرهم وقيل : إن الأوثان أول ما أتخذت بسبب المودة وذلك أنه كان أناس صالحون فماتوا وأسف عليهم أهل زمانهم فصورا أحجازا بصورهم حبا لهم فكانوا يعظمونها في الجملة ولم يزل تعظيمها يزداد جيلا فجيلا حتى عبدت فالآية إشارة الى ذلك والمعنى إنما اتخذ أسلافكم من دون الله أوثانا الخ ومثله في القرآن الكريم كثير وثاني مفعولي أتخذتم محذوف تقديره آلهة
وقال مكي : يجوز أن يكون أتخذ متعديا إلى مفعول واحد كما في قوله تعالى : إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب ورد بأنه مما حذف مفعوله الثاني أيضا وجوز أن يكون مودة هو المفعول الثاني بتقدير مضاف أي ذات مودة وكونها ذات مودة باعتبار كونها سبب المودة وظاهر كلام الكشاف أن المضاف المحذوف
(20/150)

هو لفظ سبب وقد يستغنى عن التقدير بتأويل مودة بمودودة أو بجعلها نفس المودة مبالغة واعترض جعل مودة المفعول الثاني بأنه معرفة بالاضافة إلى المضاف إلى الضمير والمفعول الأول نكرة وذلك غير جائز لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر وأجيب بأنه لا يلزم من غير جواز ذلك في أصلهما عدم جوازه فيهما وإذا سلم اللزوم فلا يسلم كون المفعول الثاني هنا معرفة بالاضاة لما أنها على الاتساع فهي من قبيل الاضافة اللفظية التي لا تفيد تعريفا وإنما تخفيفا في اللفظ كذا قيل : وهو كما ترى
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر مودة بالنصب والتنوين بينكم النصب والوجه أن مودة منصوب على أحد الوجهين السابقين بينكم منصوب به أو بمحذوف وقع صفة له وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس مودة بينكم برفع مودة مضافة إلى بين وخفض بين بالاضافة وخرج الرفع على أن مودة خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة على أحد التأويلات المعروفة والجملة صفة أوثانا وجوز كونها المفعول الثاني أو على أنها خبر إن على أن ما مصدرية أي إن اتخاذكم أو موصولة قد حذف عائدها أو هو المفعول الأول أي إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم أو موصولة قد حذف عائدها وهو المفعولالاول أي إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم ويجري فيه التأويلات التي أشرنا اليها
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو في رواية الأصمعي والاعشى عن أبي بكر مودة بالرفع والتنوين بينكم بالنصب ووجه كل معلوم مما مر وروي عن عاصم مودة بالرفع من غير تنوين و بينكم بفتح النون جعله مبنيا لاضافته إلى لازم البناء فمحله الجر باضافة مودة اليه ولذا سقط التنوين منها وفي قوله تعالى : في الحيوة الدنيا على هذه القراءات والاوجه فيه اوجه من الاعراب ذكرها أبو البقاء الأول : أن يتعلق باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة لا على جعلها موصولة أو مصدرية ورفع مودة لئلا يؤدي الى الفصل بين الموصول وما في حيز الصلة بالخبر الثاني : أن يتعلق بنفس مودة إذا لم يجعل بين صفة لها بناء على أن المصدر إذا وصف لا يعمل مطلقا وأجاز ابن عطية هذا التعلق وان جعل بين صفة لما أنه يتسع بالظرف مالم يتسع في غيره فيجوز عمل المصدر به بعد الوصف الثالث : أن يتعلق بنفس بينكم لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم الرابع : أن يجعل حالا من بينكم لتعرفه بالأضافة وتعقب أبو حيان هذين الوجهين بعد نقلهما عن أبي البقاء كما ذكرنا بأنهما اعرابان لا يتعقلان الخامس : أن يجعل صفة ثانية لمودة إذا نونت وجعل بينكم صفة لها وأجاز ذلك مكي وأبو حيان أيضا السادس : أن يتعلق بمودة ويجعل بينكم ظرفا متعلقا بها أيضا وعمل مودة في ظرفين لاختلافهما السابع : أن يجعل حالا من الضمير في بينكم إذا جعل وصفا لمودة والعامل الظرف لأن العامل في ذي الحال هو العامل في الحال ولا يجوز أن يكون العامل مودة لذلك وقال مكي : لأنك قد وصفتها ومعمول المصدر متصل به فيكون قد فرقت بين الصلة والموصول بالصفة وعن ابن مسعود أنه قرأ إنما اتخذتم من دون الله أوثانا إنما مودة بينكم في الحياة الدنيا بزيادة إنما بعد أوثانا ورفع مودة بلا تنوين وجر بين بالاضافة وخرجت على أن مودة مبتدأ وفي الحياة الدنيا خبره والمعنى إنما توادكم عليها أو مودتكم إياها كائن أو كائنة في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يتبدل الحال حيث يكفر بعضكم وهم العبدة ببعض وهم الاوثان ويلعن بعضكم بعضا أي يلعن كل فريق منكم ومن الاوثان حيث ينطقها الله تعالى الفريق
(20/151)

الآخرالآخر وفيه تغليب الخطاب وضمير العقلاء وجوز أن يكون الخطاب للعبدة لا غير والمراد بكفر بعضهم ببعض التناكر أي ثم يوم القيامة يظهر التناكر والتلاعن بينكم أيتها العبدة للاوثان
ومأواكم النار أي هي منزلكم الذي تاوون اليه ولا ترجعون منه أبدا
وما لكم من ناصرين
52
- يخلصونكم منها كما خلصني ربي من النار التي القيتموني فيها وجمع الناصرين لوقوعه في مقابلة الجمع أي ما لأحد منكم من ناصر أصلا فأمن له لوط أي صدقه عليه السلام في جميع مقالاته أو بنبوته حين ادعاها لا أنه صدقه فيها دعا اليه من التوحيد ولم يكن كذلك قبل فانه عليه السلام كان متنزها عن الكفر وما قيل : إنه آمن له عليه السلام حين رأى النار لم تحرقه ضعيف رواية وكذا دراية لأنه بظاهره يقتضي عدم إيمانه قبل وهو غير لائق به عليه السلام وحمله بعضهم على نحو ما ذكرنا أو على أن يراد بالايمان الرتبة العالية منها وهي التي لا يرتقي اليها إلا الافراد ولوط على ما في جامع الاصول ابن أخيه هاران بن تارح وذكر بعضهم أنه ابن أخته باتاء الفوقية وقال ابراهيم عليه السلام كما ذهب اليه قتادة والنخعي وقيل : الضمير للوط عليه السلام وليس بشيء لما يلزم عليه من التفكيك والجملة إستئناف بياني كأنه قيل : فماذا كان منه عليه السلام فقيل : قال إني مهاجر أي من قومي إلى ربيأي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة اليها وقيل : إلى حيث لا أمنع عبادة ربي وقيل : المعنى مهاجر من خالفني من قومي متقربا إلى ربي إنه عز و جل هو العزيز الغالب على أمره فيمنعني أعدائي الحكيم
62
- الذي لا يفعل فعلا الا وفيه حكمة ومصلحة فلا يأمرني إلا بما فيه صلاحي
روي أنه عليه السلام هاجر من كوثي من سواد الكوفة مع لوطا وسارة أبنة عمه إلى حران ثم منها الى الشام فنزل قرية من أرض فلسطين ونزل لوط سلوم وهي المؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من قرية ابراهيم عليهما السلام وكان عمره إذ ذاك على ما في الكشاف والبحر خمسا وسبعين سنة وهو أول من هاجر في الله تعالى ووهبنا له إسحاق ويعقوب ولدا ونافلة حين آيس من عجوز عاقر والجملة معطوفة على ما قبل ولا حاجة الى عطفها على مقدر كأصلحنا أمره ولم يذكر سبحانه اسماعيل عليه السلام قيل : لأن المقام مقام الامتنان وذكر الأحسان وذلك باسحاق ويعقوب لما أشرنا اليه بخلاف اسماعيل وقيل لأنه لا يناسب ذكره ههنا لأنه ابتلي بفراقه ووضعه في بمكة مع أمه دون أنيس وقال الزمخشري : إنه عليه السلام ذكر ضمنا وتلويحا بقوله تعالى وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ولم يصرح به لشهرة أمره وعلو قدره هذا مع أن المخاطب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو من أولاده وأعلم به والمراد بالكتاب جنسه المتناول للكتب الأربعة وآتيناه أجره على ما عمل لنا في الدنيا قال مجاهد : بأنجائه من النار ومن الملك الجبار والثناء الحسن عليه بحيث يتولاه كل أمة وضم إلى ذلك ابن جريج الولد الذي قرت به عينه
وقد يضم إلى ذلك أيضا استمرار النبوة في ذريته وقال السدي : إن ذلك اراءته عليه السلام مكانه من الجنة وقال بعضهم : هو التوفيق لعمل الآخرة وقيل : هو الصلاة عليه إلى آخر الدهر وقال الماوردي :
(20/152)

هوهو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لنبي غيره ولا يخفى حال بعض هذه الأقوال وذكر بعضهم أن المراد آتيناه أجره بمقابلة هجرته الينا وعليه لا يصح عند الانجاء من النار من الاجر بل يعد اعطاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم ونحوه ذلك مما كان له عليه السلام بعد الهجرة من الأجر وعطف هذا وما بعده من قوله تعالى : وإنه في الآخرة لمن الصالحين أي لفي عداد الكاملين في الصلاح من التعميم بعد التخصيص أنه لما عدد ما أنعم به عليه من النعم الدينية والدنيوية قال سبحانه : وجمعنا له مع ما ذكر خير الدارين ولوطا عطف على إبراهيم أو على نوحا والكلام في قوله تعالى : إذ قال لقومه كالذي في القصة السابقة
إنكم لتأتون الفاحشة الفعلة البالغة في القبح وقرأ الجمهور أئنكم على الاستفهام الانكاري : ما سبقكم بها من أحد من العالمين استئناف مقرر لكمال قبحها فإن إجماع جميع أفراد العالمين على التحاشي عنها ليس الا لكونها مما تشمئز منه الطباع السليمة وتنفر منه النفوس الكريمة وجوز أبو حيان كون الجملة حال من ضمير تأتون كأنه قيل : إنكم لتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها أئنكم لتأتون الرجال أي تنكحونهم وتقطعون السبيل أي وتقطعون الطريق بسبب تكليف الغرباء والمارة تلك الفعلة القبيحة واتيانهم كرها أو وتقطعون سبيل النسل بالاعراض عن الحرث واتيان ما ليس بحرث وقيل : تقطعون الطريق بالقتل وأخذ المال وقيل : تقطعونه بقبح الاحدوثة وتأتون أي تفعلون في ناديكم أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه وهو اسم جنس إذ أديتهم في مجالسهم كثيرة ولا يسمى ناديا إلا إذا كان فيه أهله فاذا أموا عنه لم يطلق عليه ناد المنكر أخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أم هانيء بنت أبي طالب قالت : سات رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : وتأتون في ناديكم المنكر فقال : كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم وعن مجاهد ومنصور والقاسم بن محمد وقتادة وابن زيد هو اتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا وعن مجاهد أيضا هو لعب الحمام وتطريف الاصابع بالحناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم وعن ابن عباس هو تضارطهم وتصافعهم فيها وفي رواية أخرى عنه هو الخذف بالحصى والرمي بالبنادق والفرقعة ومضغ العلك والسواك بين الناس وحل الازار والسباب والفحش في المزاح ولم يأت في قصة لوط عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى كما جاء في قصة ابراهيم وكذا في قصة شعيب الآتية لأن لوطا كان من قوم ابراهيم وفي زمانه وقد سبقه الى الدعاء لعبادة الله تعالى وتوحيده واشتهر أمره عند الخلق فذكر لوط عليه السلام ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها وأما ابراهيم وشعيب عليهما السلام فجاءا بعد انقراض من كان يعبد الله عز و جل ويدعو اليه سبحانه فلذلك دعا كل منهما قومه إلى عبادته تعالى كذا في البحر
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين
92
- أي فيما تعدنا من نزول العذاب على ما في الكشاف وغيره وهذأ ظاهر في أنه عليه السلام كان أوعدهم بالعذاب وقيل : أي في دعوى استحقاقنا العذاب على ما نحن عليه المفهومة من التوبيخ المعلوم من الاستفهام الانكاري
(20/153)

وقيلوقيل : أي في دعوى استقباح ذلك الناطق بها كلامك وهذا الجواب صدر عنهم في المرة الأولى من مرات مواعظ لوط عليه السلام وما في سورة الأعراف المذكورة في قوله تعالى : وما كان جواب قومه إلا أن قالوا اخرجوهم من قريتكم الآية وما في سورة النمل المذكورة في قوله تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية فقد صدر عنهم بعد هذه المرة فلا منافاة بين الحصر هنا والحصر هناك قاله أبو حيان وتبعه أبو السعود وتعقب بأن هذا التعيين يحتاج إلى توقيف وأجيب بأن مضمون الجوابين يشعران بالتقدم والتأخر وذلك أن ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين من باب التكذيب والسخرية وهو أوفق بأوائل المواعظ والتوبيخات و أخرجوهم من قريتكم ونحوه من باب التعذيب والانتقام وهو أنسب بأن يكون بعد تكرر الوعظ والتوبيخ الموجب لضجرهم ومزيد تالمهم مع قدرتهم على التشفي وهذا القدر يكفي لدعوى التقدم والتأخر وقيل في دفع المنافاة بين الحصرين : إن ما هنا جواب قومه عليه السلام له إذ نصحهم وما هناك جواب بعضهم لبعض إذ تشاوروا في أمره وقيل : إن أحد الجوابين صدر عن كبار قومه وامرائهم والآخر صدر عن غيرهم وظاهر صنيع بعضالأجلة يقتضي اختيار أن يكون كل من الحصرين بالاضافة الى الجواب الذي يرجوه عليه السلام في متابعته فتأمل
قال رب انصرني أي بانزال العذاب الموعود على القوم المفسدين
3
- بابتداع الفاحشة وسنها فيما بعدهم والاصرار عليها واستعجال العذاب بطريق السخرية وإنما وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى أي بالبشارة بالولد والنافلة قالوا أي لإبراهيم عليه السلام في تضاعيف الكلام إنا مهلكوا أهل هذه القرية أي قرية سذوم وهي أكبر قرى قوم لوط وفيها نشأت الفاحشة أولا على ما قيل ولذا خصت بالذكر وفي الاشارة بهذه إشارة إلى أنها كانت قريبة من محل ابراهيم عليه السلام وإضافة مهلكوا الى اهل لفظية لأن المعنى على الاستقبال وجوز كونها معنوية لتنزيل ذلك منزلة الماضي لقصد التحقيق والمبالغة إن أهلها كانوا ظالمين
13
- تعليل للاهلاك باصرارهم على الظلم وتماديهم في فنون الفساد وأنواع المعاصي والتأكيد في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر وقال سبحانه : إن أهلها دون إنهم مع أنه أظهر وأخصر تنصيصا على اتفاقهم على الفساد كما اختاره الخفاجي
وقال بعض المدققين : إن ذلك للدلالة على أن منشأ فساد جبلتهم خبث طينتهم ففيه اشارة خفية إلى أن المراد من أهل القرية من نشأ فيها فلا يتناول لوطا عليه السلام واعترض بأنه يبعد كل البعد خفاؤها لو كانت على ابراهيم عليه السلام كما هو ظاهر قوله تعالى : قال إن فيها لوطا وقيل : يجوز أن يكون عليه السلام علم ما أشاروا اليه من عدم تناول أهل القرية اياه لكنه أراد التنصيص على حاله ليطمئن قلبه لكمال شفقته عليه وقيل : أراد أن يعلم هل يبقى في القرية عند أهلاكهم أو يخرج منها ثم يهلكون وكأن في قوله : إن فيها دون إن منهم إشارة إلى ذلك وافهم كلام بعض المحققين أن قوله : إن فيها لوطا اعتراض على الرسل عليهم السلام بأن في القرية من لم يظلم بناء على أن المتبادر من إضافةالأهل اليها العموم وحمل الاهل على من سكن فيها وإن لم يكن تولده بها أو معارضة للموجب للهلاك وهو الظلم بالمانع وهو أن لوطا بين ظهرانيهم
(20/154)

وهو لم يتصف بصفتهم وأن جواب الرسل المحكي بقوله تعالى : قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله تسليم لقوله عليه السلام في لوط مع ادعاء مزيد العلم به باعتبار الكيفية وأنهم ما كانوا غافلين عنه وجواب عنه بتخصيص الاهل بمن عداه وأهله على الاعتراض أو بيان وقت اهلاكهم بوقت لا يكون لوط وأهله بين ظهرانيهم على المعارضة وفيه ما يدل على جواز تأخير البيان عن الخطاب في الجملة والذي يغلب على الظن أنهم أرادوا بأهل القرية من نشأ بها على ما هو المتعارف فلا يكون لوط عليه السلام داخلا في الأهل ويؤيد ذلك تأييدا ما قول قومه أخرجوا آل لوط من قريتكم وفهم ابراهيم عليه السلام ما أرادوه وعلم أن لوطا ليس من المهلكين إلا أنه خشي أن يكون هلاك قومه وهو بين ظهرانيهم في القرية فيوحشه ذلك ويفزعه
ولعله عليه السلام غلب على ظنه ذلك حيث لم يتعرضوا لاخراجه من قرية المهلكين مع علمهم بقرابته منه ومزيد شفقته عليه فقال : إن فيها لوطا على سبيل التحزن والتفجع كما في قوله تعالى : إني وضعتها أنثى وجل قصده إن لا يكون حين الاهلاك فأخبروه أولا بمزيد علمهم به وافاوده ثانيا بما يسره ويسكن جأشه نظير ما في قوله تعالى : والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وأكدوا الوعد بالتنجية إا للاشارة إلى مزيد اعتنائهم بشأنه وإما لتنزيلهم إبراهيم عليه السلام منزلة ينكر تنجيته لما شاهدوا منه في حقه وتحمل التنجية على إخراجه من بين القوم وفصله عنهم وحفظه مما يصيبهم فانها بهذا المعنى الفرد الأكمل ويلائم هذا ما قيل في قوله تعالى : إلا امرأته كانت من الغابرين
23
- أي من الباقين في القرية وهو أحد تفسيرين وثانيهما ما روي عن قتادة وهو تفسيره الغابرين بالباقين في العذاب فتأمل فكلام الله تعالى ذو وجوه وفسر الأهل هنا بأتباع لوط عليهه السلام المؤمنين وجملة كانت من الغابرين مستأنفة وقد مر الكلام في ذلك وكذا في الاستثناء فارجع اليه ولما أن جاءت رسلنا المذكورون بعد مفارقتهم ابراهيم عليه السلام لوطا سيء بهم أي اعتراه المساءة والغم بسبب الرسل مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء كما هو عادتهم مع الغرباء وقد جاؤا اليه عليه السلام بصورة حسنة إنسانية
وقيل : ضمير بهم 9 للقوم أي سيء بقومه لما علم من عظيم البلاء النازل بهم وكذأ ضمير بهم الآتي وليس بشيء و أن مزيدة لتأكيد الكلام التي زيدت فيه فتؤكد الفعلين واتصالهما المستفاد من لما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان فكأنه قيل : لما أحس بمجيئهم فاجاته المساءة من غير ريث
وضاق بهم ذرعا أي وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم : ضاقت يده ويقابله رجب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له قادرا عليه وذلك أن طويل الذراع ينال ما يناله قصير الذراع
وقالوا لا تخف ولا تحزن عطف على سيء وجوز أن يكون عطفا على مقدر أي قالوا : إنا رسل ربك وقالو الخ وأيا ما كان فالقول كان بعد أن شاهدوا فيه مخايل التضجر من جهتهم وعاينوا أنه عليه قد عجز عن مدافعة قومه حتى آلت به الحال الى أن قال : لولا أن لي بكم قوة أو آوي ال ركن شديد والخوف للمتوقع والحزن للواقع في الأكثر وعليه فالمعنى لا تخف من تمكنهم منا ولا تحزن على قصدهم إيانا وعدم اكتراثهم بك ونهيهم عن الخوف من التمكن إن كان قبل اعلامهم إياه أنهم رسل الله تعالى فظاهر وإن كان بعد الاعلام فهو لتأنيسه وتأكيد ما أخبروه به
(20/155)

وقالوقال الطبرسي : المعنى لا تخف علينا وعليك ولا تحزن بما نفعله بقومك إنا منجوك وأهلك فلا يصيبكم ما يصيبهم من العذاب إلا امرأتك إنها كانت في علم الله تعالى من الغابرين
33
- وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب لننجينه ومنجوك بالتخفيف من الانجاء ووافقهم ابن كثير في الثاني
وقرأ الجمهور بشد نون التوكيد وفرقة بتخفيفها وأيا ما كان فمحل الكاف من منجوك الجر بالاضافة ولذا حذفت النون عند سيبويه و اهلك منصوب على إضمار فعل أي وننجي أهلك وذهب الأخفش وهشام إلى أن الكاف في محل النصب واهلك معطوف عليه وحذفت النون لشدة طلب الضمير الاتصال بما قبله للاضافة وقال بعض الأجلة : لا مانع من ان يكون لمثل هذا الكاف محلان الجر والنصب ويجوز العطف عليها بالاعتبارين وقرأ نافع وابن كثير والكسائي سيء باشمام السين الضم وقرأ عيسى وطلحة سوء بضمها وهي لغة بني هذيل وبني دبير يقولون في نحو قيل وبيع قول وبوع وعليه قوله : حوكت على نولين إذ تحاك تحتبط الشوك ولا تشاك إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء استئناف مسوق لبيان ما أشير اليه بوعد التنجية من نزول العذاب عليهم والرجز العذاب الذي يقلق المعذب أي يزعجه من قولهم : ارتجز إذا ارتجس واضطرب وقرأ ابن عامر منزلون بالتشديد وابن محيصن رجزا بضم الراء بما كانوا يفسقون
43
- أي بسبب فسقهم المعهود المستمر وقرأ أبو حيوة والاعمش بكسر السين ولقد تركنا منها أي من القرية على ما عليه الأكثر ءآية بينة قال ابن عباس : هي آثار ديارهم الخربة وقال مجاهد : هي الماء الأسود على وجه الأرض وقال قتادة : هي الحجارة التي امطرت عليهم وقد أركتها أوائل هذه الأمة وقال أبو سليمانالدمشقي : هي أن أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها إلى الآن وأنكر ذوو الابصار ذلك وقال الفراء : المعنى تركناها آية كما يقال : إن في السماء آية ويراد أنها آية وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتجه الا على زيادة من في الواجب نحو قوله
أمهرت منها جبة وتيسا
يريد أمهرتها وقال بعضهم : إن ذلك نظير قولك : رأيت منه أسدا وقيل : الآية حكايتها العجيبة الشائعة وقيل ضمير منها للفعلة التي فعلت بهم والآية الحجارة أو الماء الأسود والظاهر ما عليه الأكثر
ولا يخفى معنى من على هذه الأقوال لقوم يعقلون
53
- أي يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار فالفعل منزل منزلة اللازم و لقوم متعلق بتركنا أو بينة واستظهر الثاني هذا وفي الآيات من الدلالة على ذم اللواطة وقبحها ما لا يخفى فهي كبيرة بالاجماع ونصوا على أنها أشد حرمة من الزنا وفي شرح المشارق للأكمل أنها محرمة عقلا وشرعا وطبعا وعدم وجوب الحد فيها عند الامام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لعدم الدليل عنده على ذلك لا لخفتها وقال بعض العلماء : إن عدم وجود الحد للتغليظ لأن الحد مطهر وفي جواز وقوعها في الجنة خلاف ففي الفتح قيل : إن كانت حرمتها عقلا وسمعا لا تكون في الجنة وإن كانت سمعا فقط جاز ان تكون فيها والصحيح أنها لا تكون لأن الله تعالى استبعدها واستقبحها فقال سبحانه : إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين وسماها خبيثة فقال عز و جل
(20/156)

كانت تعمل الخبائث والجنة منزهة عنها وتعقب هذا الحموي بأنه لا يلزم من كون الشيء خبيثا في الدنيا أن لا يكون له وجود في الجنة ألا ترى أن الخمر أم الخبائث في الدنيا ولها وجود في الجنة وفيه بحث لأن خبث الخمر في الدنيا لازالتها العقل الذي هو عقال عن كل قبح وهذا الوصف لا يبقى لها في الجنة ولا كذلك اللواطة وفي الفتوحات المكية في صفة أهل الجنة أنهم لا أدبار لهم لأن الدبر إنما خلق في الدنيا لخروج الغائط وليست الجنة محلا للقاذورات وعليه فعدم وجودها في الجنة ظاهر ولا أظن ذا غيرة صادقة تسمح نفسه أن يلاط به في الجنة سرا أو علنا وجواز وقوعها فيها قد ينجر إلى أن تسمح نفسه بذلك أو يجيز عليه ذلك إذا اشتهى أحد أن يلوط به إذ لابد من حصول ما يشتهيه وهذا وإن لم يكن قطعيا في عدم وقوع اللواطة مطلقا في الجنة إلا أنه يقوي القول بعدم الوقوع فتأمل وإلى مدين متعلق بارسلنا مقدر معطوف على أرسلنا في قصة نوح أو وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا فقال لهم ياقوم اعبدوا الله وحده وارجوا اليوم الآخر أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الاعمال ما تأمنون بع غائلته أو الأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب عليه الرجاء إقامة المسبب مقام السبب وفي الكلام مضاف مقدر فالمعنى افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر وجوز أن لا يقدر مضاف وإرادة الثواب من إطلاق الزمان على ما فيه وقيل : برجاء الثواب أمر بسببه اقتضاء بلا تجوز فيه بعلاقة السببية
وقال أبو عبيدة : الرجاء هنا بمعنى الخوف والمعنى وخافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله تعالى منكم إن لم تعبدوه ولا تعثوا في الأرض مفسدين
63
- حال مؤكدة لأن العثو الفساد فكذبوه فيما تضمنه كلامه من أنهم إن لم يمتثلوا أمره ونهيه وقع بهم العذاب واليه ذهب أبو حيان وقيل : من أنه تعالى مستحق لأن يعبد وحده سبحانه وأن اليوم الآخر متحقق الوقوع أو نحو ذلك فأخذتهم بسبب تكذيبهم إياه الرجفة أي الزلزلة الشديدة وفي سورة هود وأخذت الدين ظلموا الصيحة أي صيحة جبريل عليه السلام فانها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاورها من الأرض وفسر مجاهد الرجفة هنا الصيحة فقال : لذلك وقيل : لأنها رجفت منها القلوب فأصبحوا في دارهم أي بلدهم فان الدار تطلق على البلد ولذا قيل : للمدينة دار الهجرة أو المراد مساكنهم وأقيم فيه الواحد مقام الجمع لأمن اللبس لأنهم لا يكونون في دار واحدة ولعل فيه إشارة إلى أن الرجفة خربت مساكنهم وهدمت ما بينها من الجدران فصارت كمسكن واحدة جاثمين أي باركين على الركب والمراد ميتين على روي عن قتادة
وفي مفردات الراغب هو استعارة للمقيمين من قولهم : جثم الطائر إذا قعد ولطيء بالأرض ويرجع هذأ إلى ميتين أيضا وعادا وثمودمنصوبان باضمار فعل ينبيء عنه ما قبله من قوله تعالى : فأخذتهم الرجفة أي واهلكنا عادا وثمود وقوله تعالى : وقد تبين لكم من مساكنهم عطف على ذلك المضمر أي وقد ظهر لكم أتم ظهور إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم أو بسببها وفي ذلك بالنظر اليها عند اجتيازكم بها ذهابا إلى الشام وإيابا منه وجوز كون من تبعيضية وقيل : هما منصوبان باضمار اذكروا أي واذكروا عادا وثمود
(20/157)

والمرادوالمراد ذكر قصتهما أو بضمار اذكر خطابا له صلى الله تعالى عليه وسلم وجملة قد تبين حيالية وقيل : هي بتقدير القول أي وقل : قد تبين وجوز أن تكون معطوفة على جملة واقعة في حيز القول أي أذكر عادا وثمود قائلا قد مررتم على مساكنهم وقد تبين لكم الخ وفاعل تبين الاهلاك الدال عليه الكلام أو مساكنهم على أن من زائدة في الواجب ويؤيده قراءة الاعمش مساكنهم بالرفع من غير من وكون من هي الفاعل على أنها اسم بمعنى بعض مما لا يخفى حاله
وقيل هما منصوبان بالعطف على الضمير في فاخذتهم الرجفة والمعنى يأباه وقال الكسائي : منصوبان بالعطف على الذين من قوله تعالى : ولقد فتنا الذين من قبلهم وهو كما ترى والزمخشري لم يذكر في ناصبهما سوى ما ذكرناه أولا وهو الذي ينبغي أن يعول عليه وقرأ أكثر السبعة وثمودا بالتنوين بتأويل الحي وهو على قراءة ترك التنوين بتأويل القبيلة وقرأ ابن وثاب وعاد وثمود بالخفض فيهما والتنوين عطفا على مدين على ما في البحر أي وأرسلنا إلى عاد وثمود وزين لهم الشيطان بوسوسته واغوائه أعمالهم القبيحة من الكفر والمعاصي فصدهم عن السبيل أي الطريق المعهود وهو السوي الموصل إلى الحق وحمله على الاستغراق حصرا له في الموصل إلى النجاة تكلف وكانوا أي عاد وثمود لا أهل مكة كما توهم : مستبصرين أي عقلاء يمكنهم التمييز بين الحق والباطل بالاستدلال والنظر ولكنهم أغفلوا ولم يتدبروا وقيل : عقلاء يعلمون الحق ولكنهم كفروا عنادا وجحودا وقيل : متبينين أن العذاب لا حق بهم باخبار الرسل عليهم السلام لهم ولكنهم لجوا حتى لقوا ما لقوا
وعن قتادة والكلبي كما في مجمع البيان أن المعنى كانوا مستبصرين عند أنفسهم فيما كانوا عليه من الضلالة يحسبون أنهم على هدى وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه قال : اي معجبين بضلالتهم وهو تفسير بحاصل ما ذكر وهو مروي كما في البحر عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها وقارون وفرون وهامان معطوف على عادا وتقديم قارون لأن المقصود تسلية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما لقي من قومه لحسدهم له وقارون كان من قوم موسى عليه السلام وقد لقي منه ما لقي أو لأن حاله أوفق بحال ثمود فانه كان من أبصر الناس وأعلمهم بالتوراة ولم يفده الاستبصار شيئا كما لم يفدهم كونهم مستبصرين شيئا أو لأن هلاكه كان قبل هلاك فرعون وهامان فتقديمه على وفق الواقع أو لأنه أشرف من فرعون وهامان لايمانه في الظاهر وعلمه بالتوراة وكونه ذا قرابة من موسى عليه السلام ويكون في تقديمه لذلك في مقام الغضب إشارة إلى أن نحو هذا الشرف لا يفيد شيئا ولا ينقذ من غضب الله تعالى على الكفر ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا عن الايمان والطاعة في الأرض إشارة إلى قلة عقولهم لأن من في الأرض لا ينبغي له أن يستكبر
وما كنوا سابقين
93
- أي فائتين أمر الله تعالى من قولهم : سبق طالبه أي فاته ولم يدركه ولقد أدركهم أمره تعالى أي إدراك فتداركوا نحو الدمار والهلاك وقال أبو حيان : المعنى وما كانوا سابقين الأمم إلى الكفر أي تلك عادة الأمم مع رسلهم عليهم السلام وليس بذاك وأيا ما كان فالظاهر أن ضمير كانوا لقارون
(20/158)

وفرعون وهامان وقيل : الجملة عطف على أهلكنا المقدر سابقا وضمير كانوا لجميع المهلكين وفيه تبر للنظم الجليل فكلا أخذنا بذنبه هذا وما بعده كالفذلكة للآيات المتضمنة تعذيب من كفر ولم يمتثل أمر من أرسل اليه وقال أبو السعود : هذا تفسير لما ينبيء عنه عدم سبقهم بطريق الابهام وما بعده تفصيل للأخذ وفي القلب منه شيء وكأنه اعتبر رجوع ضمير كانوا إلى المهلكين وقد علمت حاله وتقديم المفعول للاهتمام بأمر الاستيعاب والاستغراق وقال الفاضل : المذكور للحصر أي كل واحد من المذكورين عاقبناه بجنايته لا بعضا دون بعض وبحث فيه بأن كلا متكفلة بهذا المعنى قدمت أو أخرت وأجيب بأنا لا نسلم أنه يفهم منها لا بعضا إذا أخرت وإنما يفهم منها بواسطة التقديم فتأمل والكلام في مرجع الضمير بذنبه سؤالا وجوابا لا يخفى على من أحاط علما بما قيل في قولهم : كل رجل وضيعته وقولهم : الترتيب جعل كل شيء في مرتبته وهو شهير بين الطلبة فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا أي ريحا عاصفا فيها حصباء وقيل : ملكا رماهم بالحصباء وهم قوم لوط
وقال ابن عطية : يشبه أن يدخل عاد في ذلك لأن ما أهلكوا به من الريح كانت شديدة وهي لا تخلوا عن الحصب بأمور مؤذية والحاصب هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمى بشيء ومنهم من أخذته الصيحة هم مدين وثمود ولم يقل أخذناه بالصيحة ليوافق ما قبله وما بعده في اسناد الفعل اليه تعالى الأوفق بقوله تعالى : فكلا أخذنا بذنبه دفعا لتوهم أن يكون سبحانه هو الصائح ومنهم من خسفنا به الأرض وهو قارون ومنهم من أغرقنا وهو فرعون ومن معه وذكر بعضهم قوم نوح عليه السلام أيضا واعترض بأنهم ليسوا من المذكورين وتعقب بأنهم أول المذكورين في هذه السورة من الأمم السالفة ولعل المعترض أراد بالمذكورين المذكورين متناسقين أي بلا فصل بأمة لم تفد قصتها أهلاكها وقوم نوح وإن ذكروا أولا لكن فصل بينهم وبين نظائرهم من المهلكين بقصة قوم ابراهيم عليه السلام وهي لم تفد أنهم أهلكوا وذكر النيسابوري أنه سبحانه قرر بقوله تعالى : فكلا الخ أمر المذنبين باجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الاربعة فجعل ما منه تركيبهم سببا لعدمهم وما منه بقاؤهم سببا لفنائهم فالحصب وهو حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر اشارة إلى التعذيب بعنصر النار والصيحة وهي تموج شديد في الهواء اشارة إلى التعذيب بعنصر الهواء والخسف اشارة إلى التعذيب بعنصر التراب والغرق اشارة إلى التعذيب بعنصر الماء اه ولا يخفى ما فيه وما كان الله ليظلمهم أي ما كان سبحانه مريدا لظلمهم وذلك بأن يعاقبهم من غير جرم لأن خلاف ما تقتضيه الحكمة وفي أنوار التنزيل أي ما كان سبحانه ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من سنته عز و جل ويفيد ذلك أنه لو وقع منه تعالى تعذيبهم من غير جرم لا يكون ظلما لأنه تعالى مالك الملك يتصرف به كما يشاء فله أن يثيب العاصي ويعذب المطيع وهذا أمر مشهور بين الاشاعرة والكلام في تحقيقه يطلب من علم الكلام وقد أسلفنا في تفسير قوله تعالى : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ما ينفعك في هذا المقام تذكره فتذكر ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
4
- بالاستمرار على مباشرة ما يوجب ذلك من الكفر والمعاصي باختيارهم وقال مولانا الشيخ ابراهيم الكوراني ما حاصله : إن ظلم الكفرة أنفسهم
(20/159)

إنماإنما هو لسوء استعدادهم الذي هم عليه في نفس الامر من غير مدخل للجعل فيه وبلسان ذلك الاستعداد طلبوا من الجواد المطلق جل وعلا ما صار سببا لظهور شقائهم اه والبحث في ذلك طويل الذيل فليطلب من محله وتقديم المعمول لرعاية رءوس الآي مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء استئناف متضمن تقبيح حال اولئك المهلكين الظالمين لأنفسهم وأضرابهم ممن تولى غير الله عز و جل وفيه اشارة الى أعظم أنواع ظلمهم فالمراد بالموصول جميع المشركين الذين عبدوا من دون الله عز و جل الاوثان
وجوز أن يكون جميع من اتخذ غيره تعالى متكلا ومعتمدا آلهة كان ذلك أو غيرها ولذا عدل إلى أولياء من آلهة أي صفتهم أو شبههم كمثل العنكبوت أي كصفتها أو شبهها
إتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت بيان لصفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه والجملة على ما نقل عن الاخفش من لزوم الوقف على العنكبوت مستأنفة لذلك وإن أوهن البيوت الخ في موضع الحال من فاعل اتخذت المستكن فيه وجوز كونه في موضع الحال من مفعوله بناء على جواز مجيء الحال من النكرة وعلى الوجهين وضع المظهر موضع الضمير الراجع الى ذي الحال والجملة من تتمة الوصف واللام في البيوت للاستغراق والمعنى مثل المتخذين لهم من دون الله تعالى أولياء في اتخاذهم اياهم كمثل العنكبوت وذلك أنها اتخذت لها بيتا والحال أن أوهن كل البيوت وأضعفها بيتها وهؤلاء اتخذوا لهم من دون الله تعالى أولياء والحال أن أوهن كل الأولياء وأضعفها أولياؤهم وإن شئت فقل : إنها اتخذت بيتا في غاية الضعف وهؤلاء أتخذوا الها أو متكلا في غاية الضعف فهم مشتركان في اتخاذ ما هو في غاية الضعف في بابه ويجوز ان تكون جملة اتخذت حالا من العنكبوت بتقدير قد أو بدونها أو صفة لها لأن أل فيه للجنس وقد جوزوا الوجهين في الجمل الواقعة بعد المعرف بأل الجنسية نحو قوله تعالى : كمثل الحمار يحمل أسفارا وعن الفراء ان الجملة صلة لموصول محذوف وقع صفة العنكبوت أي التي اتخذت وخرج الآية التي ذكرناها على هذا واختار حذف الموصول في مثله ابن درستويع وعليه لا يوقف على العنكبوت وانت تعلم أن كون الجملة صفة أظهر والمعنى حينئذ مثل المشرك الذي عبد الوثن بالقياس الى الموحد الذي عبد الله تعالى كمثل عنكبوت اتخذت بيتا بالاضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر وكما أن أوهن البيوت إذا اسقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دنيا دينا عبادة الاوثان وهو وجه حسن ذكره الزمخشري في الآية وقد اعتبر فيه تفريق التشبيه والغرض إبراز تفاوت المتخذين والمتخذ مع تصوير توهيم أمر أحدهما وادماج توطيد الآخر وعليه يجوز أن يكون قوله تعالى : وإن أوهن البيوت جملة حالية لأنه من تتمة التشبيه وإن يكون اعتراضية لأنه لو لم يؤت به لكان في ضمنه ما يرشد الى هذا المعنى وإلى كونه جملة حالية ذهب الطيبي
وقال صاحب الكشف : كلام الزمخشري إلى كونه اعتراضية أقرب لأن قوله : وكما أن أوهن البيوت الخ ليس فيه إيماء إلى تقييد الأول وتعقب أبو حيان هذا الوجه بأنه لا يدل عليه لفظ الآية وإنما هو تحميل اللفظ ما يحتمله كعادته في كثير من تفسيره وهذه مجازفة على صاحب الكشاف كما لا يخفى ويجوز أن يكون المعنى مثل الذين اتخذؤا من دون الله أولياء فيما اتخذوه معتمدا ومتكلا في دينهم وتولوه من دون
(20/160)

الله تعالى كمثل العنكبوت فيما نسجته واتخذته بيتا والتشبيه على هذا من المركب فيعتبر في جانب المشبه اتخاذ ومتخذ واتكال عليه وكذلك في الجانب الآخر ما يناسبه ويعتبر تشبيه الهيئة المنتزعة من ذلك كله بالهيئة المنتزعة من هذأ بالاسر والغرض تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها ومدار قطب التشبيه أن أولياءهم بمنزلة منسوج العنكبوت ضعف حال وعدم صلوح اعتمادا وعلى هذا يكون قوله تعالى : إن اوهن البيوت تذييلا يقرر الغرض من التشبيه
وجوز أن يكون المعنى والغرض من التشبيه ما سمعت إلا أنه يجعل التذييل استعارة تمثيلية ويكون ما تقدم كالتوطئة لها فكأنه قيل : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان وهي تقرر الغرض من التشبيه بتبعية تقرير المشبه وكأن التقرير في الوجه السابق بتبعية تقرير المشبه به وهذا قريب من تجريد الاستعارة وترشيحها ونظير ذلك قولك : زيد في الكرم بحر والبحر لا يخيب من أتاه إذا كان البحر الثاني مستعارا للكريم وذكر الطرفين إنما يمنع من كونه استعارة لو كان في جملته ورجح السابق لأن عادة البلغاء تقرير أمر المشبه به ليدل به على تقرير المشبه ولأن هذا إنما يتميز عن الالغاز بعد سبق التشبيه
وجوز أن يكون قوله تعالى : مثل الذين الخ كالمقدمة الأولى وقوله سبحانه : وإن أوهن البيوت كالثانية وما هو كالنتيجة محذوف مدلول عليه بما بعد كما في الكشف والمجموع يدل على المراد من تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها على سبيل الكناية الايمائية فتأمل والظاهر أن المراد بالعنكبوت النوع الذي ينسج بيته في الهواء ويصيد به الذباب من ذوات السموم فيسن قتلها لذلك لا لما اخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد من قوله صلى الله عليه و سلم : العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى فمن وجدها فليقتلها فانه كما ذكر الدميري ضعيف
وقيل : لا يسن قتلها فقد أخرج الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول لاله صلى الله عليه و سلم دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن ذكر هذا الخبر الجلال السيوطي في الدر المنثور والله تعالى أعلم بصحته وكونه مما يصلح للاحتجاج به ونصوا على طهارة بيتها لعدم تحقق كون ما تنسج به من غذائها المستحيل في جوفها مع أن الأصل في الاشياء الطهارة وذكر الدميري أن ذلك لا تخرجه من جوفها لبل من خارج جلدها وفي هذا بعد وأنا لم اتحقق أمر ذلك ولم أعين كونه من فمها او دبرها أو خارج جلدها لعدم الاعتناء بشأن ذلك لا لعدم امكان الوقوف على الحقيقة وذكر أنه يحسن ازالة بيتها من البيوت لما اسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فان تركه في البيوت يورث الفقر وهذا إن صح عن الامام علي كرم الله تعالى وجهه فذاك وإلا فحسن الازالة لما فيها من النظافة ولا شك بندبها والتاء في العنكبوت زائدة كتاء طالوت فوزنه فعللوت وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومن استعماله مذكره قوله : على هطالهم منهم بيوت كأن العنكبوت هو ابتناها واستظهر الفاضل سعدي جلبي كون المراد به هنا الواحد وذهب إلى تأنيثه أيضا فذكر أنه اختير هنا
(20/161)

تأنيثهتأنيثه لأن المناسب لبيان الخور والضعف فيما يتخذه وقال مولانا الخفاجي معرضا به : الظاهر أن المراد الجمع لا الواحد لقوله تعالى الذين وأما افراد البيت فلأن المراد الجنس ولذلك أنث أتخذت لا لأن المراد المؤنث وفي القاموس العنكبوت معروف وهي العنكباء والعكنباة والعنكبوه والعنكباء والذكر عنكب وهي عنكبة وجمعه عنكبوتات وعناكب والعكاب والعكب والاعكب اسماء الجموع وتعقب بأن عد ما عدا ماذكره أولا اسم جمع لا وجه له لأن أعكب لا يصح فيه ذلك وذكروا في جمعه أيضا عناكيب واختلف في نونه فقيل أصلية وقيل : زائدة كالتاء وجمعه على عكاب يدل على ذلك وذكر السجستاني في غريب سيبويه أنه ذكر عناكب في موضعين فقال في موضع : وزنه فناعل وفي آخر فعالل فعلى الأول النون زائدة وهو مشتق من العكب وهو الغلط اه المراد منه ولعل الأقرب على ذلك كونه مشتقا من العب بالفتح بمعنى الشدة في السير فكأنه لشدة وثبه لصيد الذباب أو لشدة حركته عند فراره أطلق عليه اسم العنكبوت لو كانوا يعلمون أي لو كانوا يعلمون شيئا من الأشياء لعلموا أن هذا مثلهم أو أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن وقيل : أي لو كانوا يعلمون وهن الاوثان لما اتخذوها أولياء من دون الله تعالى وفي الكشف أن قوله تعالى لو كانوا يعلمون على جميع التقادير أي المذكورة في الكشاف وقد ذكرنا فيما مر من الايغال جهلهم سبحانه في الاتخاذ ثم زادهم جل وعلا تجهيلا أنهم لايعلمون هذا الجهل البين الذي لا يخفى على من له أدنى مسكة و لو شرطية وجوابها محذوف على ما أشرنا اليه وجوز بعضهم كونها للتمني فلا جواب لها وهو غير ظاهر
إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله الخ وقيل : لا حاجة إلى اضماره لجواز أن يكون تدعون من باب الالتفات للايذان بالغضب وفيه بحث وقرا أبو عمرو وسلام يعلم ما الادغام وأبو عمرو وعاصم بخلاف يدعون بياء الغيبة حملا على ما قبله و ما استفهامية منصوبة بتدعون و يعلم معلقة عنها فالجملة في موضع نصب بها و من الاولى متعلقة بتدعون على ما هو الظاهر و من الثانية للتبيين وجوز كونها للتبعيض وجوز كون ما نافية ومن الثانية مزيدة وشيء مفعول تدعون أي لستم تدعون من دونه تعالى شيئا كأن ما يدعونه من دونه عز و جل لمزيد حقارته لا يصلح أن يسمى شيئا وجوز كونها مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر مفعول بعلم على أنها بمعنى يعرف ناصبة لمفعول واحد ومن تبعيضية أي يعرف دعاءكم وعبادتكم بعض شيء من دونه وقيل : من للتبيين و شيء بمعنى ذلك المصدر وتنوينه للتحقير أي يعرف دعوتكم من دونه هي دعوة حقيرة وجوز كونها موصولة مفعول يعلم بمعنى يعرف ومفعول تدعون عائدها المحذوف ومن إما بيان للموصول أو تبعيضية
وجوز زيادتها على هذا الوجه وما بعده ولا يخفى ما فيه والكلام على الوجهين الأولين في ما تجهيل للكفرة المتخذين من دون الله تعالى أولياء لما فيها من نفي الشيئية عما اتخذوه وليا والاستفهام عنه الذي هو في معنى النفي لأنه إنكار وفيه توكيد للمثل لأن كون معبودهم ليس بشيء يعبأ به مناسب ولذا لم يعطف وعلى الوجهين الاخيرين فيها وعيد لهم لأن العلم بدعوتهم وعبادتهم عبارة عن مجازاتهم عليها وكذا العلم بما يدعونه عبارة عن مجازاتهم على دعائهم إياه وترك العطف فيه لأنه استئناف ويجوز ارادة التجهيل والوعيد في الوجوه كلها وقوله تعالى : وهو العزيز الحكيم
24
- في موضع الحال ويفهم منه التعليل على المعنيين
(20/162)

فان من فرط الغباوة اشراك ما لا يعد شيئا بمن هذا شأنه وإن الجماد بالاضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم واتقان الفعل الغاية القاصية كالمعدوم البحت وإن من هذا صفته قادر على مجازاتهم
وتلك الأمثال أي هذا المثل ونظائره من الأمثال المذ : ورة في الكتاب العزيز نضربها للناس تقريبا لما بعد من افهامهم وما يعقلها على ما هي عليه من الحسن واستتباع الفوائد الا العالمون
34
- الراسخون في العلم المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي وروى محيي السنة بسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم تلا هذه الآية وتلك الامثال الآية فقال العالم من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته وأجتنب سخطه خلق الله السموات والارض بالحق أي محقا مراعيا للحكم والمصالح على أنه حال من فاعل خلق أو متلبسة بالحق الذي لا محيد عنه مستتبعة للمنافع الدينية والدنيوية على أنها حال من مفعوله فانها مع اشتمالها على جميع ما يتعلق به معاشهم شواهد دالة على شئونه تعالى المتعلقة بذاته سبحانه وصفاته كما يفصح عنه قوله تعالى : ان في ذلك لآية للمؤمنين
44
- دالة لهم على ما ذكر من شئونه عز و جل وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الهداية والارشاد في خلقهما للكل لأنهم المنتفعون بذلك أتل عليهم ما أوحي اليك من الكتاب أي دم على تلاوة ذلك تقربا الى الله تعالى بتلاوته وتذكرا لما في تضاعيفه منالمعاني وتذكير للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الاحكام ومحاسن الآداب ومكارم الاخلاق وأقم الصلوة أي داوم على إقامتها وحيث كانت الصلاة منتظمة للصوات المكتوبة المؤداة بالجماعة وكان أمره صلى الله تعالى عليه وسلم باقامتها متضمنا لأمر الأمة بها علل بقوله تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كأنه قيل : وصل بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ومعنى نهيها إياهم عن ذلك أنها لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والقراءة والوقوف بين يدي الله عز و جل والركوع والسجود له سبحانه الدال على غاية الخضوع والتعظيم كأنها تقول لمن يأتي بها لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعص ربا هو أهل لما أتيت به وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه عز و جل وقد أتيت مما يدل على على عظته تعالى وكبريائه سبحانه من الاقوال والافعال بما تكون به أن عصيت وفعلت الفحشاء أو المنكر كالمتناقض في أفعاله وبما ذكر ينحل الاشكال المشهور وهو أنا نرى كثيرا من المرتكبين للفحشاء والمنكر يصلون ولا ينتهون عن ذلك فان تهيها إياهم عن الفحشاء والمنكر بهذا المعنى لا يستلزم انتهاءهم ألا ترى أن الله تعالى ينهى عن ذلك أيضا كما قال سبحانه : إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والناس لا ينتهون وليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه سبحانه وتعالى فإذا لم يكن هناك استلزام فكيف يكون هنا وما أرى هذا الاشكال الا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء وهو توهم باطل وتخيل لا يشهد له عقل ولا يؤيده نقل ونقل أبو حيان عن ابن عباس والكلبي وابن كريج وحماد بن أبي سليمان أن الصلاة تنهى عن ذلك ما دام المصلي فيها وكأنهم ارادوا أنها كالناهية للمصلي القائلة لا تفعل ذلك مادام فيها لأنه إذا فرغ منها فقد انقطعت الاقوال والافعال التي كان النهي بما تدل عليه من العظة والكبرياء ونقل عن القطب أنه قال في جواب الاشكال : إن الصلاة تقام لذكر الله تعالى كما قال عز من قائل : أقم الصلاة لذكري ومن كان ذاكرا الله عز و جل منعه ذلك عن
(20/163)

الاتيان بما يكرهه منه تعالى مما قل او كثر وكل من تراه يصلي ويأتي الفحشاء والمنكر فهو بحيث لو لم يكن يصلي لكان أشد اتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه ومنكره وهو كما ترى وقيل : إن المراد أن الصلاة سبب للانتهاء عن ذلك وليس هذا كليا لما أن الصلاة في حكم النكرة وهي في الاثبات لا يجب أن تعم فينحل الاشكال وعلى ما قلنا لا يضر دعوى الكلية نعم النهي الذي ذكرناه يتفاوت بحسب تفاوت أداء الصلاة فهو في الصلاة أديت على أتم ما يكون من الخشوع والتدبر لما يتلى فيها من الاتيان بفروضها وواجباتها وسننها وآدابها على أحسن أحوالها أتم وقد يضعف النهي فيها حتى كأنها لا تنهى كما في الصلاة التى تؤدى مع الغفلة التامة والاخلال بما يليق فيها وهي الصلاة المردودة التي تلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها فتقول له : ضيعك الله تعالى كما ضيعتني وكأن مراد القائل : إن المراد بالصلاة التي تنهى عما ذكر هي الصلاة المقبولة هو هذا
وقد يجعل الانتهاء علامة القبول روى بعض الامامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال : من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر منعته الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت منه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في شعب الايمان عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له وفي لفظ لم يزدد بها من الله تعالى إلا بعدا وأخرجه بهذا اللفظ أبن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا
وأخرج ابن ابي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قيل له : إن فلانا يطيل الصلاة فقال : إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها ثم قرأ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقد يتفق لمن يكثر الصلاة أن تقع بعض صلاته على الوجه اللائق فتقبل لطفا من الله تعالى وكرما ويظهر أثر ذلك بالانتهاء عن المعاصي ويشير الى هذا ما أخرج أحمد وابن حبان والبهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قالك جاء رجل الى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن فلانا يصلي بالليل فاذا أصبح سرق قال سينهاه ما تقول وأصرح منه فيما ذكرنا ما روي أن فتى من الانصار كان يصلي مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يدع شيئا من الفوحش إلا ركبه فوصف له فقال عليه الصلاة و السلام : إن صلاته ستنهاه فلم يلبث إلا أن تاب إلا أن ابن حجر ذكر فيه أنه لم يجده في كتب الحديث ثم إن حمل الصلاة في الآية على الصلاة المعروفة هو الظاهر المؤيد بالآثار والاخبار الصحيحة وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن المراد بها هنا القرآن وقال ابن بحر : إن المراد بها الدعاء أي أقم الدعاء إلى أمر الله تعالى إن الدعاء إلى أمره سبحانه ينهى عن الفحشاء والمنكر وكل منهما عدول عن الظاهر من غير داع وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس أنه كان يقرأ إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر قال ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو قرة ومجاهد وعطية : المعنى لذكر الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه سبحانه وفي لفظ لذكر الله تعالى العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى وعن ابن عباس أنه قال ذلك ثم قرأ أذكروني أذكركم
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي مالك أنه قال ذكر الله تعالى العبد في الصلاة أكبر من الصلاة فذكر مصدر مضاف الى الفاعل والمفعول محذوف وكذا المفضل عليه وهو خاص على ما سمعت وجوز
(20/164)

أن يكون عاما أي أكبر من كل شيء وقيل : المعنى ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة وقيل : أي ولذكر العبد لله في الصلاة أكبر من ذكره إياه سبحانه خارج الصلاة وقيل : أي ولذكر العبد لله تعالى أكبر من سائر أعماله وروي عن جماعة من السلف ما يقتضيه أخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال : ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله تعالى قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله تعالى قال : ولا أن يضرب بسيفه إلى أن ينقطع لأن الله تعالى يقول في كتابه ولذكر الله أكبر
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي الدرداء قال : ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها الى مليككم وأسماها في درجاتكم وخير من أن تغزوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم وخير من اعطاء الدنانير والدراهم قالوا : وما هو يا ابا الدرداء قال ذكر الله تعالى ولذكر الله أكبر وأخرج ابن جرير عن سلمان أنه سئل أي العمل أفضل قال : أما تقرأ القرآن ولذكر الله أكبر لا شيء أفضل من ذكر الله ونسب في البحر إلى أبي الدرداء وسلمان رضي الله تعالى عنهما القول الذي ذكرناه أولا عمن سمعت ولعل ذلك إحدى روايتين عنهما وجاء عن ابن عباس أيضا رواية تشعر بأن المراد بذكر الله تعالى ذكر العبد له سبحانه
أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الايمان عن عنترة قال : قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي العمل أفضل قال : ذكر الله أكبر وما قعد قوم في بيت من بيوت الله تعالى يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم الا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف الله تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره وما سلك رجل طريقا يلتمس فيه العلم الا سهل الله تعالى له طريقا الى الجنة
وقيل : المراد بذكر الله الصلاة كما في قوله تعالى : فاسعوا الى ذكر الله أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها به للايذان بأن ما فيها من ذكر الله تعالى هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات وقيل : ولذكر الله تعالى عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر في الزجر من الصلاة فذكر على هذه الأقوال مصدر مضاف للمفعول والمفضل عليه محذوف وجوز أن لا يكون أفعل للتفضيل سواء كانت إضافة المصدر للفاعل ام للمفعول كما في الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
54
- من الخير والطاعة فيجازيكم بذلك أحسن المجازاة وقال أبو حيان : يعلم ما تصنعون من الخير والشر فيجازيكم بحسبه ففيه وعد ووعيد وحث على المراقبة 0 21
(20/165)

بسم الله الرحمن الرحيم ولا تجادلوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى وقيل : من نصارى نجران إلا بالتي هي أحسن أي بالخصلة التي هي أحسن كمقابلة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح والسورة بالإناة كما قال سبحانه : أدفع بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم بالإفراد في الإعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق فأستعملوا معهم الغلظة
وأخرج إبن جرير عن مجاهد أن الذين ظلموا هم الذين أثبتوا الولد والشريك أو قالوا يدالله تعالى مغلولة أو الله سبحانه فقير أو آذوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهذه الغلظة التي تفهم الآية الأذن بها لا تصل إلى القتال لأولئك الظالمين من أهل الكتاب على أي وجه من الوجوه المذكورة كان ظلمهم لأن ظاهر كون السورة مكية أن هذه الآية مكية والقتال في المشهور لم يشرع بمكة وليست الغلظة محصورة فيه كما لا يخفى وقيل : المعنى ولا تجادلوا الداخلين في الذمة المؤدين إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فإن أولئك مجادلتهم بالسيف
وأخرج إبن جرير وإبن المنذر : وإبن أبي حاتم عن مجاهد ما يقرب منه وتعقب بأن السورة مكية والحرب والجزية مما شرع بالمدينة وكون الآية بيانا لحكم آت بعد بعيد وأيضا لا قرينة على التخصيص
وقيل : يجوز أن يكون القائل بذلك ذاهبا إلى أن الآية مدنية ومكية السورة بإعتبار أغلب آياتها أو ممن يقول : بأن الحرب شرع بمكة في آخر الأمر والسورة آخر ما نزل بها إلا أنه لم يقع وعدم الوقوع لا يدل على عدم المشروعية
عن إبن زيد أن المراد بأهل الكتاب مؤمنوا أهل الكتاب وبالتي هي أحسن موافقتهم فيما حدثوا به من أخبار أوائلهم وبالذين ظلموا من بقى منهم على كفره وهو كما ترى وأختلف في نسخ الآية فأخرج أبو داؤد في ناسخه وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم وإبن الأنباري في المصاحف عن قتادة أنه قال : نهى في هذه الآية عن مجادلة أهل الكتاب ثم نسخ ذلك فقال سبحانه : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية ولا مجادلة أشد من السيف وقال في مجمع البيان : الصحيح أنها غير منسوخة لأن المراد بالجدال المناظرة وذلك على الوجه الأحسن هو الواجب الذي لا يجوز غيره
وقال بعض الأجلة : إن المجادلة بالحسنى في أوائل الدعوة لأنها تتقدم القتال فلا يلزم النسخ ولا عدم القتال بالكلية وأما كون النهي يدل على عموم الأزمان فيلزم النسخ فلا يتم ما ذكر فيدفعه أن من يقاتل كمانع الجزية داخل في المستثنى فلا نسخ وإنما هو تخصيص بمتصل وكون ذلك يقتضي مشروعية القتال بمكة ليس بصحيح لأنه مسكوت عنه فتأمل
(21/2)

وقرأ إبن عباس ألا بالتي إلخ على أن إلا حرف تنبيه وإستفتاح والتقدير ألا جادلوهم التي هي أحسن وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن و الذي أنزل إليكم أي وبالذي أنزل إليكم من التوراة والإنجيل وهذا القول نوع من المجادلة بالتي هي أحسن وعن سفيان بن حسين أنه قال : هذه مجادلتهم بالتي هي أحسن وأخرج البخاري والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤن الكتاب بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا إمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم الآية والتصديق والتكذيب ليسا نقيضين فيجوز إرتفاعهما
وإلهنا وإلهكم واحد لا شريك له في الألوهية ونحن له مسلمون 64 أي مطيعون خاصة كما يؤذن بذلك تقديم له وفيه تعريض بإتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى
وكذلك أنزلنا إليك الكتاب تجريد للخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه في الفضل أي مثل ذلك الإنزال البديع الشأن الموافق لإنزال سائر الكتب أنزلنا إليك القرآن الذي من جملته هذه الآية الناطقة بما ذكر من المجادلة بالتي هي أحسن وقيل : الإشارة إلى ما تقدم لذكر الكتاب وأهله أي وكما أنزلنا الكتب إلى من ق بلك أنزلنا إليك الكتاب
فالذين آتيناهم الكتاب من الطائفتين اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة والإنجيل والكلام على ظاهره وقيل : هو على حذف مضاف أي آتيناهم علم الكتاب يؤمنون به بالكتاب الذي أنزل إليك وقيل : الضمير له صلى الله تعالى عليه وسلم وهو كما ترى والمراد بهم في قول من تقدم عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أولئك حيث كانوا مصدقين بنزول القرآن حسبما علموا مما عندهم من الكتاب والمضارع لإستحضار تلك الصورة في الحكاية وتخصيصهم بإيتاء الكتاب للإيذان بأن ما بعدهم من معاصري رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نزع عنهم الكتاب بالنسخ وفي قول آخر معاصروه عليه الصلاة و السلام العاملون بكتابهم من عبدالله بن سلام وأضرابه وتخصيصهم بإيتاء الكتاب لما أنهم هم المنتفعون به فكأن من عداهم لم يؤتوه قيل : هذا يؤيد القول : بأن الآيات المذكورة مدنية إذ كونها مكية وعبدالله ممن أسلم بعد الهجرة بناء على أنه أعلام من الله تعالى بإسلامهم في المستقبل والتفصيل بإعتبار الإعلام بعيد جدا وجوز الطبرسي أن يراد بالموصول المسلمون من هذه الأمة وضمير به للقرآن ولا يخفى ما فيه ولعل الأظهر كون المراد به علماء أهل الكتابين الحريون بأن ينسب إليهم إيتاء الكتاب كعبدالله بن سلام وأضرابه ولا بعد في كون الآيات مكية بناء على ما سمعت والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إيمانهم به مترتب على إنزاله على الوجه المذكور ومن هؤلاء أي ومن العرب أو من أهل مكة على أن المراد بالموصول عبدالله وأضرابه أو ممن في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم من اليهود والنصارى على أن المراد به من تقدم من يؤمن به أي بالكتاب الذي أنزل إليك ومن على ما أستظهره بعضهم تبعيضية واقعة موقع المبتدأ وله نظائر في الكتاب الكريم وما يجحد بآياتنا أي وما يجحد به وأقيم هذا الظاهر مقام الضمير للتنبيه على ظهور دلالة الكتاب على
(21/3)

ما فيه وكونه من عند الله عزوجل والإضافة إلى نون العظمة لمزيد التفخيم وفيما ذكر غاية التشنيع على من يجحد به
والجحد كما قال الراغب : نفي ما في القلب ثباته وإثبات ما في القلب نفيه وفسر هنا بالإنكار عن علم فكأنه قيل : وما ينكر آياتنا مع العلم بها إلا الكافرون 74 أي المتوغلون في الكفر المصممون عليه فإن ذلك يمعنهم عن الإقرار والتسليم وقيل : يجوز أن يفسر بمطلق الإنكار ويراد بالكافرين المتوغلون في الكفر أيضا لدلالة فحوى الكلام والتعبير بآياتنا على ذلك أي وما ينكر آياتنا مع ظهورها وإرتفاع شأنها إلا المتوغلون في الكفر لأن ذلك يصدهم عن الإعتناء بها والإلتفات إليها والتأمل فيما يؤديهم إلى معرفة حقيتها والمراد بهم من أتصف بتلك الصفة من غير قصد إلى معين وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه
وما كنت تتلوا من قبله أي وما كنت من قبل إنزالنا إليك الكتاب تقدر على أن تتلو من كتاب أي كتابا على أن من صلة ولا تخطه ولا تقدر على أن تخطه بيمينك أو ما كانت عادتك أن تتلوه ولا تخطه وذكر اليمين زيادة تصوير لما نفى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من الخط فهو مثل العين في قولك : نظرت بعيني في تحقيق الحقيقة وتأكيدها حتى لا يبقى للمجاز مجاز إذا لأرتاب المبطلون 84 أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادها لأرتاب مشركو مكة وقالوا : لعله ألتقطه من كتب الأوائل وحيث لم تكن كذلك لم يكن لإرتيابهم وجه وكأن إحتمال التعلم مما لم يلتفت إليه لظهور أن مثله من الكتاب المفصل الطويل لا يتلقى ويتعلم إلا في زمان طويل بمدارسة لا يخفى مثلها ووصف مشركي مكة بالأبطال بإعتبار إرتيابهم وكفرهم وهو عليه الصلاة و السلام أمي فكأنه قيل : إذن لأرتاب هؤلاء المبطلون الآن وكان إذ ذاك لإرتيابهم وجه وقيل : وصفهم بذلك بإعتبار إرتيابهم وهو صلى الله تعالى عليه وسلم أمي وبإعتبار إرتيابهم وهو عليه الصلاة و السلام ليس بأمي أما كونهم مبطلين بالإعتبار الأول فظاهر وأما كونهم كذلك بالإعتبار الثاني فلأن غاية ما يلزم من عدم أميته إنتفاء أحد وجوه الأعجاز ويكفي الباقي في الغرض فيكون المرتاب مبطلا كالمرتاب في نبوة الأنبياء الذين لم يكونوا أميين وصحة ما جاؤا به
والأول أظهر وكون المراد بالمبطلين مشركي مكة هو المروى عن مجاهد وقال قتادة : هم أهل الكتاب أي لو كنت تتلو من قبل أو تخط لأرتاب أهل الكتاب لأن نعتك في كتابهم أمي ووصفهم بالأبطال قيل : بإعتبار إرتيابهم وهو عليه الصلاة و السلام أمي كما هو الواقع وإلا فهم ليسوا بمبطلين في إرتيابهم على فرض عدم كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أميا وفي الكشف هذا فرض وتمثيل دلالة على أن مدار الأمر على المعجز وإن كونه عليه الصلاة و السلام أميا لا يخط ليس مما لا يتم دعواه به وتلك الدلالة لا تختلف والمنكر مبطل فتأمل
هذا وأختلف في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هل كان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا فقيل : إنه عليه الصلاة و السلام لم يكن يحسن الكتاب وأختاره البغوي في التهذيب وقال : إنه الأصح وأدعى بعضهم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية فلما نزل القرآن وأشتهر الإسلام وظهر أمر الإرتياب تعرف الكتاب حينئذ وروى إبن أبي شيبة وغيره
(21/4)

ما مات صلى الله تعالى عليه وسلم حتى كتب وقرأ
ونقل هذا للشعبي فصدقه وقال : سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه وروى إبن ماجه عن أنس قال : قال صلى الله تعالى عليه وسلم : رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر والقدرة على القراءة فرع الكتابة ورد بإحتمال أقدار الله تعالى إياه عليه الصلاة و السلام عليها بدونها معجزة أو فيه مقدر وهو فسألت عن المكتوب فقيل : إلخ ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخاري وغيره كما ورد في صلح الحديبية فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله الحديث وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة وحكاه عن السمناني وصنف فيه كتابا وسبقه إليه إبن منية ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمى بالزندقة وسب على المنابر ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مادعاه وكتب به إلى علماء الأطراف فأجابوا بما يوافقه ومعرفة الكتابة بعد أميته لا تنافي المعجزة بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم ورد بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب وقال : كل ما ورد في الحديث من قوله : كتب فمعناه أمر بالكتابة كما يقال : كتب السلطان بكذا لفلان وتقديم قوله تعالى : من قبله على قوله سبحانه : ولا تخطه كالصريح في أنه عليه الصلاة و السلام لم يكتب مطلقا وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطرد وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده فقال : يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة و السلام كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الإعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة وأنت تعلم أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذ قيل بحجية المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيته ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة و السلام : أنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ليس نصا في إستمرار نفي الكتاب عنه عليه الصلاة و السلام ولعل ذلك بإعتبار أنه بعث عليه الصلاة و السلام وهو كذا وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالكتابة فخلاف الظاهر وفي شرح صحيح مسلم للنواوي عليه الرحمة نقلا عن القاضي عياض أن قوله في الرواية التي ذكرناها : ولا يحسن يكتب فكتب كالنص في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب بنفسه فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه ثم قال : وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسئلة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا فالله تعالى أعلم
ورأيت في بعض الكتب ولا أدري الآن أي كتاب هو أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن يقرأ ما يكتب لكن إذا نظر إلى المكتوب عرف ما فيه بإخبار الحروف إياه عليه الصلاة و السلام عن أسمائها فكل حرف يخبره عن نفسه أنه حرف كذا وذلك نظير إخبار الذراع إياه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنها مسموعة
وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل بدون خبر صحيح ولم أظفر به بل هو أي القرآن وهذا إضراب عن إرتيابهم أي ليس القرآن مما يرتاب فيه لوضوح أمره بل هو آيات بينات واضحات ثابتة راسخة في صدور الذين أوتوا العلم من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه بحيث لا يقدر على تحريفه بخلاف
(21/5)

غيره من الكتب وجاء في وصف هذه الأمة صدورهم أناجيلهم وكون ضمير هو للقرآن هو الظاهر ويؤيده قراءة عبدالله بل هي آيات بينات وقال قتادة : الضمير للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقرأ بل هو آية بينة على التوحيد وجعله بعضهم له عليه الصلاة و السلام على قراءة الجمع على معنى بل النبي وأموره آيات وقيل : الضمير لما يفهم من النفي السابق أي كونه لا يقرأ ألا يخط آيات بينات في صدور العلماء من أهل الكتاب لأن ذلك نعت النبي عليه الصلاة و السلام في كتابهم والكل كما ترى وفي الأخير حمل الذين أوتوا العلم على علماء أهل الكتاب وهو مروى عن الضحاك والأكثرون على أنهم علماء الصحابة أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلماء أصحابه وروى هذا عن الحسن وروى بعض الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبدالله رضي الله تعالى عنهما أنهم الأئمة من آل محمد وما يجحد بآياتنا مع كونها كما ذكر إلا الظالمون 94 المتجاوزون للحد في الشر والمكابرة والفساد وقالوا أي كفار قريش بتعليم بعض أهل الكتاب
وقيل : الضمير لأهل الكتاب لولا أنزل عليه آيات من ربه مثل ناقة صالح وعصا موسى وقرأ أكثر أهل الكوفة آية على التوحيد قل إنما الآيات عند الله ينزلها حسبما يشاء من غير دخل لأحد في ذلك قطعا وإنما أنا نذير مبين 05 ليس من شأني إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات لا الإتيان بما أقترحتموه فالقصر قصر قلب أو لم يكفهم كلام مستأنف وارد من جهته تعالى ردا على إقتراحهم وبيانا لبطلانه والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقصر ولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات أنا أنزلنا عليك الكتاب الناطق بالحق المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية وأنت بمعزل من مدارستها وممارستها يتلى عليهم تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها وقيل : يتلى عليهم أي أهل الكتاب بتحقق ما في أيديهم من نعتك وعت دينك وله وجه إن كان ضمير قالوا فيما تقدم لأهل الكتاب وأما إذا كان لكفار قريش فلا يخفى ما فيه
إن في ذلك أي الكتاب العظيم الشأن الباقي على ممر الدهور وقيل : الذي هو حجة بينة لرحمة أي نعمة عظيمة وذكرى أي تذكرة لقوم يؤمنون 15 أي همهم الإيمان لا التعنت فالجار والمجرور متعلق بذكرى والفعل مراد به الإستقبال ويجوز أن يكون رحمة وذكرى مما تنازعا في الجار والمجرور فيجوز أن يكون الفعل للحال وأخرج الفريابي والدارمي وأبو داؤد في مراسيله وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال : جاء ناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم فنزلت أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب الآية وأخرج الإسماعيلي في معجمه وإبن مردويه عن يحيى هذا ما هو قريب مما ذكر مرويا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
و يؤمنون على هذا على ظاهره لا غير وتعقب بأن السياق والسباق مع الكفرة وإن الظاهر كون أو لم يكفهم الآية جوابا لقولهم : لولا أنزل إلخ وفي جعل سبب النزول ما ذكر خروج عن ذلك فتأمل
(21/6)

وعليه تكون الآية دليلا لمن تتبع التوراة ونحوها وروى هذا المنع عن عائشة رضي الله تعالى عنها
أخرج إبن عساكر عن أبي مليكة قال : أهدي عبدالله بن عامر بن ركن إلى عائشة رضي الله تعالى عنها هدية فظنت أنه عبدالله بن عمرو وفردتها وقالت : يتتبع الكتب وقد قال الله تعالى : أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم فقيل لها : إنه عبدالله بن عامر فقبلتها وجاء في عدة أخبار ما يقتضى المنع أخرج عبدالرزاق المصنف والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري أن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي عليه الصلاة و السلام يتلون وجهه فقال : والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فأتبعتموه وتركتموني ضللتم من النبيين وأنتم حظي من الأمم
وأخرج عبدالرزاق والبيهقي أيضا عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مر برجل يقرأ كتابا فأستمعه ساعة فأستحسنه فقال للرجل : أكتب لي من هذا الكتاب قال : نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل يقرؤه عليه وجعل وجه رسول الله يتلون فضرب رجل من الأنصار الكتاب وقال : ثكلتك أمك ياإبن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند ذلك : إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه وأختصر لي الحديث إختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون اي الواقعون في كل أمر بغير روية وقيل : المتحيرون إلى ذلك من الأخبار وحقق بعضهم أن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين وذلك مما لا شبهة فيه في صدر الإسلام وعليه تحمل الأخبار وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر
قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا أي عالما بما صدر عني من التبليغ والإنذار وبما صدر عنكم من مقابلتي بالتكذيب والإنكار فيجازي سبحانه كلا بما يليق به يعلم ما في السموات والأرض أي من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم فهو تقرير لما قبله من كفايته تعالى شهيدا وجوز أن يكون المعنى كفى به عزوجل شاهدا بصدقي أي مصدقا لي فيما أدعيته بالمعجزات تصديق الشاهد لدعوى المدعي وجملة يعلم إما صفة شهيدا أو حال أو إستئناف لتعليل كفايتة وقيل عليه : إن هذا الوجه لا يلائمه قوله تعالى : بيني وبينكم سواء تعلق بكفى أو بشهيدا ولا قوله سبحانه : يعلم ما في السموات إلخ وفيه تأمل
وقد يؤيد ذلك بما روى أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يامحمد من يشهد بأنك رسول الله فنزلت قل كفى الآية إلا أن في القلب من صحة هذه الرواية شيئا لما أن السياق والسباق مع كفرة قريش فلا تغفل
وأياما كان فلا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى : وأدعوا شهداءكم من دون الله بناء على أن المعنى لا تستشهدوا بالله تعالى ولا تقولوا الله تعالى يشهد أن ما ندعيه حق كما يقوله العاجز عن إقامة البينة أما لأن الشهيد ههنا بمعنى العالم والكلام وعد ووعيد وأما بمعنى المصدق بالمعجزات وليست الشهادة بأحد المعنيين هناك والباء في بالله زائدة والأسم الجليل فاعل كفى وقال الزجاج : إن الباء دخلت لتضمن كفى معنى أكتف فالباء كما قال اللقاني معدية لا زائدة قال إبن هشام في المعنى : وهو من الحسن بمكان ويصححه قولهم : أتقى الله تعالى أمرؤ فعل خيرا يثب عليه أي ليتق بدليل جزم يثب ويوجبه قولهم : كفى بهند بترك التاء
(21/7)

فإن أحتج بالفاصل فهو مجوز لا موجب بدليل وما تسقط من ورقة فإن عورض بأحسن بهند فالتاء لا تلحق صيغ الأمر وإن كان معناها الخبر
وتعقب ذلك الشيخ يس الحمصي في حواشيه على التصريح فقال : أقول تفسير كفى على هذا القول بأكتف غير صحيح إذ فاعل كفى حينئذ ضمير المخاطب و كفى حينئذ ضمير المخاطب و كفى ماض وهو لا يرفع ضمير المخاطب المستتر وفيه بعد بحث لا يخفى على المتأمل
وظن بعض الناس أن كفى على هذا القول أسم فعل أمر يخاطب به المفرد المذكر وغيره نحو حي في حي عل ىالصلاة فالمعنى هنا أكتفوا بالله وأنت تعلم أن هذا بعيد الإرادة من كلام الزجاج ويأباه كلام إبن هشام وقال إبن السراج : الفاعل ضمير الإكتفاء قال إبن هشام : وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر وهو قول الفارسي والرماني أجازوا مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح وأجاز الكوفيون أعماله في الظرف وغيره ومنع جمهور البصريين أعماله مطلقا
وتعقب ذلك إبن الصائغ فقال : لا نسلم توقف الصحة على ذلك لجواز أن تكون الباء للحال وعليه يكون المعنى كفى هو أي الإكتفاء حال كونه ملتبسا بالله تعالى ولا يخفى أنه ما لم يبطل هذا القول لا يتم ما أدعاه إبن هشام من أن ترك التاء في كفى بهند يوجب كون كفى مضمنا معنى أكتف فتدبر والذين آمنوا بالباطل قال إبن عباس رضي الله تعالى عنهما : أي بغير الله عزوجل وهو شامل لنحو عيسى والملائكة عليهم السلام
والباطل في الحقيقة عبادتهم وليس الباطل هنا مثله في قول حسان : الأ كل شيء مما خلا الله باطل وقال مقاتل : أي بعبادة الشيطان وقيل : أي بالصنم وكفروا بالله مع تعاضد موجبات الإيمان به عزوجل أولئك هم الخاسرون 25 المغبونون في صفقتهم حيث أشتروا الكفر بالإيمان فأستوجبوا العقاب يوم الحساب وفي الكلام على ما قيل : إستعارة مكنية شبه إستبدال الكفر بالإيمان المستلزم للعقاب بإشتراء مستلزم للخسران وفي الخسران إستعارة تخييلية هي قرينتها لأن الخسران متعارف في التجارات وهذا الكلام ورد مورد الإنصاف حيث لم يصرح بأنهم المؤمنون بالباطل الكافرون بالله عزوجل بل أبرزه في معرض العموم ليهجم به التأمل على المطلوب فهو كقوله تعالى : أنا أوإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين وكقول حسان :
فشركما لخيركما الفداء
وهذا من قبيل المجادلة بالتي هي أحسن ويستعجلونك أي ويستعجلك كفار قريش بالعذاب على طريقة الإستهزاء والتعجيز والتكذيب به بقولهم : متى هذا الوعد وقولهم : أمطر علينا حجارة أو إئتنا بعذاب ونحو ذلك ولولا أجل مسمى قد ضربه الله تعالى لعذابهم وسماه وأثبته في اللوح لجاءهم العذاب المعين لهم حسبما أستعجلوا به وقال إبن جبير : المراد بالأجل يوم القيامة لما روى أنه تعالى وعد رسوله أن لا يعذب قومه بعذاب الإستئصال وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة وقال إبن سلام : المراد به أجل ما بين النفختين وقيل : يوم بدر وقيل : وقت فنائهم بآجالهم وفيه بعد ظاهر لما أنهم ما كانوا يوعدون بفنائهم الطبيعي ولا كانوا يستعجلون به وليأتينهم جملة مستأنفة مبينة لما أشير إليه في الجملة السابقة من مجيء العذاب عند حلول الأجل أي وبالله تعالى ليأتينهم العذاب الذي عين لهم عند حلول الأجل بغتة
(21/8)

أي فجأة وهم لا يشعرون 35 أي بإتيانه ولعل المراد بإتيانه كذلك أنه لا يكون بطريق التعجيل عند إستعجالهم والإجابة إلى مسؤلهم فإن ذلك إتيان برأيهم وشعورهم لا أنه يأتيهم وهم قارون آمنون لا يحظرونه بالبال كدأب بعض العقوبات النازلة على بعض الأمم بيانا وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون لما أن إتيان عذاب الآخرة وعذاب يوم بدر ليس من هذا القبيل قاله بعضهم وقال آخرون : إتيانه كذلك من حيث أنه غير متوقع لهم وإتيان عذاب الآخرة ونحوه كذلك لإنكارهم البعث وكذا عذاب القبر أو إعتقادهم شفاعة آلهتهم لهم في دفع العذاب عنهم وكذا إتيان عذاب يوم بدر لأنهم لغرورهم كانوا لا يتوقعون غلبة المسلمين ولا تخطر لهم ببال على ما بين في السير
يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين 45 إستئناف مسوق لغاية تجهيلهم وركاكة رأيهم وهو ظاهر في أن ما أستعجلوه عذاب الآخرة وجملة إن جهنم إلخ في موضع الحال أي يستعجلونك بالعذاب والحال إن محل العذاب الذي لا عذاب فوقه محيط بهم كأنه قيل : يستعجلونك بالعذاب وإن العذاب لمحيط بهم أي سيحيط بهم على إرادة المستقبل من أسم الفاعل أو كالمحيط بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي الموجبة إياه بهم على أن في الكلام تشبيها بليغا أو إستعارة أو مجازا مرسلا أو تجوزا في الإسناد وقيل : إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة لكنها ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة والمراد بالكافرين المستعجلون ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم أو جنس الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا يوم يغشاهم العذاب ظرف لمضمر قد طوى ذكره إيذانا بغاية كثرته وفظاعته كأنه قيل : يوم يأتيهم ويجللهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال وقيل : ظرف لمحيطة على معنى وأن جهنم ستحيط بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم أي من جميع جهاتهم فما ذكر للتعميم كما في الغدو والآصال قيل : وذكر الأرجل لدلالة على أنهم لا يقرون ولا يجلسون وذلك أشد العذاب ويقول أي الله عزوجل وقيل : الملك الموكل بهم
وقرأ إبن كثير وإبن عامر والبصريون ونقول بنون العظمة وهو ظاهر في أن القائل هو الله تعالى
وقرأ أبو البرهسم وتقول بالتاء على أن القائل جهنم ونسب القول إليها هنا كما نسب في قوله تعالى : وتقول هل من مزيد وقرأ إبن مسعود وإبن أبي عبلة ويقال مبنيا للمفعول ذوقوا ما كنتم تعملون 55 أي جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الإستمرار من السيئات التي من جملتها الإستعجال بالعذاب
ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فأعبدون 65 نزلت على ما روى عن مقاتل والكلبي في المستضعفين من المؤمنين بمكة أمروا بالهجرة عنها وعلى هذا أكثر المفسرين وعمم بعضهم الحكم في كل من لا يتمكن من إقامة أمور الدين كما ينبغي في أرض لممانعة من جهة الكفرة أو غيرهم فقال : تلزمه الهجرة إلى أرض يتمكن فيها من ذلك وروى هذا عن إبن جبير وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس وقال مطرف بن الشخير : إن الآية عدة منه تعالى بسعة الرزق في جميع الأرض وعلى القولين فالمراد بالأرض
(21/9)

الأرض المعروفة وعن الجبائي أن الآية عدة منه عزوجل بإدخال الجنة لمن أخلص له سبحانه العبادة وفسر الأرض بأرض الجنة والمعول عليه ما تقدم والفاء في فإياي فاء التسبب عن قوله تعالى : إن أرضي واسعة كما تقول : إن زيدا أخوك فأكرمه وكذلك لو قلت : أنه أخوك فإن أمكنك فأكرمه و إياي معمول لفعل محذوف يفسره المذكور ولا يجوز أن يكون معمولا له لإشتغاله بضميره وذلك المحذوف جزاء لشرط حذف وعوض عنه هذا المعمول والفاء في فأعبدون هي الفاء الواقعة في الجزاء إلا أنه لما وجب حذفه جعل المفسر المؤكد له قائما مقامه لفظا وأدخل الفاء عليه إذ لا بد منها للدلالة على الجزاء ولا تدخل على معمول المحذوف أعني إياي وإن فرض خلوه عن فاء لتمحضه عوضا عن فعل الشرط فتعين الدخول على المفسر وأيضا ليطابق المذكور المحذوف من كل وجه ولزم أن يقدر الفعل المحذوف العامل في إياي مؤخرا لئلا يفوت التعويض عن فعل الشرط مع إفادة ذلك معنى الإختصاص والإخلاص فالمعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها وجعل الشرط إن لم تخلصوا لدلالة الجواب المذكور عليه ولا منع من أن تكون الفاء الأولى واقعة في جواب شرط آخر ترشيحا للسببية على معنى أن أرضي واسعة وإذا كان كذلك فإن لم تخلصوا لي إلخ وقيل الفاء الأولى جواب شرط مقدر وأما الثانية فتكرير ليوافق المفسر المفسر فيقال حينئذ : المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها وتكون جملة الشرط المقدرة أعني إن لم تخلصوا إلخ مستأنفة عرية عن الفاء وما تقدم أبعد مغزى وجعل بعض المحققين الفاء الثانية لعطف ما بعدها على المقدر العامل في إياي قصدا لنحو الإستيعاب كما في خذ الأحسن فالأحسن وتعقب بأنه حينئذ لا يصلح المذكور مفسرا لعدم جواز تخلل العاطف بين مفسر ومفسر البتة وأما ما ذكره الإمام السكاكي في قوله تعالى : فإياي فأرهبون من أن الفاء عاطفة والتقدير فإياي أرهبوا فأرهبون فإنه أراد به أنها في الأصل كذلك لا في الحال على ما حققه صاحب الكشف هذا وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وقد ذكرنا نبذة منه في أوائل تفسير سورة البقرة فراجعه مع ما هنا وتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون 75 جملة مستأنفة جيء بها حثا على إخلاص العبادة والهجرة لله تعالى حيث أفادت أن الدنيا ليست دار بقاء وإن وراءها دار الجزاء أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت ومفارقة البدن البتة فلا بد أن تذوقوه ثم ترجعون إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالكم فمن كانت هذه عاقبته فلا بد له من التزود والإستعداد وفي قوله تعالى : ذائقة الموت إستعارة لتشبيه الموت بأمر كريه الطعم مره والعدول عن تذوق الموت للدلالة على التحقق و ثم للتراخي الزماني أو الرتبي
وقرأ أبو حيوة ذائقة بالتنوين الموت بالنصب وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ترجعون مبنيا للفاعل وروى عاصم يرجعون بياء الغيبة والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوأنهم أي لننزلنهم على وجه الإقامة وجملة القسم وجوابه خبر المبتدأ أعني الذين ورد به وبأمثاله على ثعلب المانع من وقوع جملة القسم والمقسم عليه خبر للمبتدأ وقوله تعالى : من الجنة غرفا أي علالي وقصورا جليلة لا قصور فيها وهي على ما روى عن إبن عباس من الدر والزبرجد والياقوت مفعول ثان للتبوئة
(21/10)

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعبدالله والربيع بن خيثم وإبن وثاب وطلحة وزيد بن علي وحمزة والكسائي لنثوينهم بالثاء المثلثة الساكنة بعد النون وإبدال الهمزة ياء من الثواء بمعنى الإقامة فإنتصاب غرفا حينئذ إما بإجرائه مجرى لننزلنهم فهو مفعول به له أو بنزع الخافض على أن أصله بغرف فلما حذف الجار أنتصب أو على أنه ظرف والظرف المكاني إذا كان محدودا كالدار والغرفة لا يجوز نصبه على الظرفية إلا أنه أجرى هنا مجرى المبهم توسعا كما في قوله تعالى : لأقعدن لهم صراطك المستقيم على ما فصل في النحو
وروى عن إبن عامر أنه قرأ غرفا بضم الراء تجري من تحتها الأنهار صفة لغرفا خالدين فيها أي في الغرف وقيل : في الجنة نعم أجر العاملين 85 أي الأعمال الصالحة والمخصوص بالمدح محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه أي نعم أجرى العاملين الغرف أو أجرهم ويجوز كون التمييز محذوفا أي نعم أجرا أجر العاملين وقرأ إبن وثاب فنعم بفاء الترتيب الذين صبروا صفة للعاملين أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب على المدح أي صبروا على أذية المشركين وشدائد المهاجرة وغير ذلك من المحن والمشاق وعلى ربهم يتوكلون 95 أي ولم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على الله تعالى
وكأين من دابة لا تحمل رزقها لما روى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة المهاجرة إلى المدينة قالوا : كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة فنزلت أي وكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها أو لا تدخره وإنما تصبح ولا معيشة عندها عن إبن عيينة ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفارة وعن إبن عباس لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ويقال : للعقعق مخأبي إلا أنه ينساها وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في حضنيه والظاهر عدم صحته وذكر لي بعضهم أن أغلب الكوامن من الطير يدخر والله تعالى أعلم بصحته
الله يرزقها وإياكم ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم وإجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله تعالى لأن رزق الكل بأسباب هو عزوجل المسبب لها وحده فلا تخافوا على معاشكم بالمهاجرة ولما كان المراد إزالة ما في أوهامهم من الهجرة على أبلغ وجه قيل : يرزقها وإياكم دون يرزقكم وإياها وهو السميع البالغ في السمع فيسمع قولكم هذا العليم 06 البالغ في العلم فيعلم ما أنطوت عليه ضمائركم ولئن سألتهم أي أهل مكة من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله إذ لا سبيل لهم إلى إنكاره ولا التردد فيه والأسم الجليل مرفوع على الإبتداء والخبر محذوف لدلالة السؤال عليه أو على الفاعلية لفعل محذوف لذلك أيضا فأنى يؤفكون 16 إنكار وإستبعاد من جهته تعالى لتركهم العمل بموجبه والفاء للترتيب أو واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان الأمر كذلك فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده عزوجل في الألوهية مع إقرارهم بتفرده سبحانه فيما ذكر من الخلق والتسخير
وقدر بعضهم الشرط فإن صرفهم الهوى والشيطان لمكان بناء يؤفكون للمفعول ولعل ما ذكرناه أولى
الله يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له لا غيره من عباده ويقدر له أي يضيق عليه والضمير
(21/11)

عائد على من يشاء الذي يبسط له الرزق أي عائد عليه مع ملاحظة متعلقه فيكون المعنى أنه تعالى شأنه يوسع على شخص واحد رزقه تارة ويضيقه عليه أخرى والواو لمطلق الجمع فقد يتقدم التضييق على التوسيع أو عائد على من يشاء بقطع النظر عن متعلقه فالمراد من يشاء آخر غير المذكور فهو نظير عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر وهذا قريب من الإستخدام فالمعنى أنه تعالى شأنه يوسع على بعض الناس ويضيق على بعض آخر وقرأ علقمة ويقدر بضم الياء وفتح القاف وشد الدال إن الله بكل شيء عليم 26 فيعلم أن كلا من البسط والقدر في أي وقت يوافق الحكمة والمصلحة فيفعل كلا منهما في وقته أو فيعلم من يليق ببسط الرزق فيبسطه له ومن يليق بقدره له فيقدر له وهذه الآية أعني قوله تعالى : والله يبسط إلخ تكميل لمعنى قوله سبحانه : الله يرزقها وإياكم لأن الأول كلام في المرزوق وعمومه وهذا كلام في الرزق وبسطه وقتره وقوله سبحانه : ولئن سألتهم إلخ معترض لتوكيد معنى الآيتين وتعريض بأن الذين أعتمدتم عليهم في الرزق مقرون بقدرتنا وبقوتنا كقوله تعالى : إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين قاله العلامة الطيبي
وقال صاحب الكشف قدس سره : أعترض ليفيد أن الخالق هو الرزاق وإن من أفاض إبتداء وأوجد أولى أن يقدر على الإبقاء وأكد به ما ضمن في قوله عزوجل : وعلى ربهم يتوكلون
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله معترفين بأنه عزوجل الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفرعها ثم إنهم يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته الذي لا يكاد يتوهم منه القدرة على شيء ما أصلا قل الحمد لله على إظهار الحجة وإعترافهم بما يلزمهم وقيل : حمده عليه الصلاة و السلام على العصمة مما هم عليه من الضلال حيث أشركوا مع إعترافهم بأن أصول النعم وفروعها منه جل جلاله فيكون كالحمد عند رؤية المبتلى وقيل : يجوز أن يكون حمدا على هذا وذاك بل أكثرهم لا يعقلون 36 ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد أو لا يعقلون شيئا من الأشياء فلذلك لا يعملون بمقتضى قولهم هذا فيشركون به سبحانه أخس مخلوقاته قيل : إضراب عن جهلهم الخاص في الإتيان بما هو حجة عليهم إلى أن ذلك لأنهم مسلوبو العقول فلا يبعد عنهم مثله وقوله تعالى : قل الحمد لله معترض وجعله الزمخشري في سورة لقمان إلزاما وتقريرا لإستحقاقه تعالى وقيل : لا يعقلون ما تريد بتحميدك عند مقالهم ذلك ولم يرتضه بعض المحققين لخفائه وقلة جدواه وتكلف توجبه الإضراب فيه
وما هذه الحياة الدنيا إشارة تحقير وكيف لا والدنيا لا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة فقد أخرج الترمذي عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء
وقال بعض العارفين : الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليها كلب بيد مجذوم ويعلم مما ذكر حقارة ما فيها من الحياة بالطريق الأولى إلا لهو ولعب أي إلا كما يلهو ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون عنه وهذا من التشبيه البليغ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان اي لهي دار الحياة الحقيقية إذ لا يعرض الموت والفناء لمن فيها أو هي ذاتها حياة للمبالغة و الحيوان مصدر حي سمي به ذو الحياة في غير
(21/12)

هذا المحل وأصله حييان فقلبت الثانية ولوا على خلاف القياس فلامه ياء وإلى ذلك ذهب سيبويه
وقيل : إن لامه واو نظرا إلى ظاهر الكلمة وإلى حياة علم رجل ولا حجة على كونه ياء في حي لأن الواو في مثله تبدل ياء لكسر ما قبلها نحو شقي من الشقوة وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من معنى الحركة والإضطراب اللازم للحياة ولذلك أختير عليها في هذا المقام المقتضى للمبالغة وقد علمتها في وصف الحياة الدنيا المقابلة للدار الآخرة لو كانوا يعلمون 46 شرط جوابه محذوف أي لو كانوا يعلمون لما أروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة ثم ما يحدث فيها من الحياة فيها عارضة سريعة الزوال وشيكة الإضمحلال وكون لو للتمني بعيد فإذا ركبوا في الفلك متصل بما دل عليه شرح حالهم والركوب الإستعلاء على الشيء المتحرك وهو متعد بنفسه كما في لتركبوها وإستعماله ههنا وفي أمثاله نفي للإيذان بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة وحركته قسرية غير إرادية والفاء للتعقيب وفي الكلام معنى الغاية فكأنه قيل : هم مصروفون عن توحيد الله تعالى مع إقرارهم بما يقتضيه لأهون بما هو سريع الزوال ذاهلون عن الحياة الأبدية حتى إذا ركبوا في الفلك ولقوا الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين أي كائنين في صورة من أخلص دينه وملته أو طاعته من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله تعالى ولا يدعون سواه سبحانه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو عزوجل وفيه تهكم به سواء أريد بالدين الملة أو الطاعة أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأنهم لا يستمرون على هذه الحال فهي قبيحة بإعتبار المآل فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون 56 أي فاجؤا المعاودة إلى الشرك ولم يتأخروا عنها ولاوقتا
ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا الظاهر أن اللام في الموضعين لام كي أي يشركون ليكونوا كافرين بما آتيناهم من نعمة النجاة بسبب شركهم وليتمتعوا بإجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها فالشرك سبب لهذا الكفران وأدخلت لام كي على مسببه لجعله كالغرض لهم منه فهي لام العاقبة في الحقيقة وقيل : اللام فيهما لام الأمر والأمر بالكفران والتمتع مجاز في التخلية والخذلان والتهديد كما تقول عند الغضب على من يخالفك : أفعل ما شئت ويؤيده قراءة إبن كثير والأعمش وحمزة والكسائي وليتمتعوا بسكون اللام فإن لام كي لا تسكن وإذا كانت الثانية لذلك لام الأمر فالأولى مثلها ليتضح العطف وتخالفهما محوج إلى التكلف بأن يكون المراد كما قال أبو حيان عطف كلام على كلام لا عطف فعل على فعل وقوله تعالى : فسوف يعلمون 66 أي عاقبة ذلك حين يعاقبون عليه يوم القيامة مؤيد للتهديد أو لم يروا ألم ينظروا ولم يشاهدوا إنا جعلنا أي بلدهم حرما مكانا حرم فيه كثير مما ليس بمحرم في غيره من المواضع إمنا أهله عما يسؤوهم من السبي والقتل على أن أمنه كناية عن أمن أهله أو على أن الإسناد مجازي أو على أن في الكلام مضافا مقدرا وتخصيص أهل مكة وإن أمن كل من فيه حتى الطيور والوحوش لأن المقصود الإمتنان عليهم ولأن ذلك مستمر في حقهم وأخرج جويبر عن الضحاك عن إبن عباس أن أهل مكة قالوا : يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا والعرب أكثر منا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك أختطفنا فكلنا أكلة رأس فأنزل الله تعالى : أو لم يروا إنا جعلنا حرما آمنا
(21/13)

ويتخطف الناس من حولهم يختلسون من حولهم قتلا وسبيا إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب والظاهر أن الجملة حالية بتقدير مبتدأ أي وهم يتخطف إلخ أفبالباطل يؤمنون أن أبعد ظهور الحق الذي لا ريب فيه أو أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها بالصنم وقيل : بالشيطان يؤمنون وبنعمة الله يكفرون 76 وهي المستوجبة للشكر حيث يشركون به تعالى غيره سبحانه وتقديم الصلة في الموضعين للإهتمام بها لأنها مصب الإنكار أو للإختصاص على طريق المبالغة لأن الإيمان إذا لم يكن خاصا لا يعتد به ولأن كفران غير نعمته عزوجل يجنب كفرانها لا يعد كفرانا
وقرأ السلمي والحسن تؤمنون وتكفرون بتاء الخطاب فيهما ومن أظلم ممن أفترى على الله كذبا بأن زعم أن له سبحانه شريكا وكونه كذبا على الله تعالى لأنه في حقه فهو كقولك : كذب على زيد إذا وصفه بما ليس فيه أو كذب بالحق يعني الرسول أو الكتاب لما جاءه اي حين مجيئه إياه وفيه تسفيه لهم حيث لم يتأملوا ولم يتوقفوا حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه
ألإيس في جهنم مثوى للكافرين 86 اي ثواء وإقامة لهم أو مكان يثوون فيه ويقيمون والكلام على كلا الوجهين تقرير لثوائهم في جهنم لأن الإستفهام فيه معنى النفي وقد دخل على نفي ونفي النفي إثبات كما في قول جرير : ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح أي ألا يستوجبون الثواء أو المكان الذي يثوى فيه فيها وقد أفتروا هذا الكذب على الله تعالى وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب أو إنكار وإستبعاد لإجترائهم على ما ذكر من الإفتراء والتكذيب مع علمهم بحال الكفرة أي ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين حتى أجترؤا هذه الجرأة وجعلهم عالمين بذلك لوضوحه وظهوره فنزلوا منزلة العالم به والتعريف في الكافرين على الأول للعهد فالمراد بهم أولئك المحدث عنهم وهم أهل مكة وأقيم الطاهر مقام الضمير لتعليل إستيجابهم المثوى ولا ينافي كون ظاهره أن العلة أفتراؤهم وتكذيبهم لأنه لا يغايره والتعليل يقبل التعدد وعلى الثاني للجنس فالمراد مطلق جنس الكفرة ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا برهانيا والذين جاهدوا فينا في شأننا ومن أجلنا ولوجهنا خالصا ففيه مضاف مقدر وقيل : لا حاجة إلى التقدير بحمل الكلام على المبالغة بجعل ذات الله سبحانه مستقر للمجاهدة وأطلقت المجاهدة لتعم مجاهدة الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعهما لنهدينهم سبلنا سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا والمراد نزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقا لسلوكها فإن الجهاد هداية أو مرتب عليها وقد قال تعالى : والذين أهتدوا زادهم هدى وفي الحديث من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم
ومن الناس من أول جاهدوا بأرادوا الجهاد وأبقى لنهدينهم على ظاهره وقال السدي : المعنى والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبلنا إلى الجنة وقيل : المعنى والذين جاهدوا في الغزو لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة وما ذكر أولا أولى والموصول مبتدأ وجملة القسم وجوابه خبره نظير ما مر من قوله : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا
(21/14)

وإن الله المتصف بجميع صفات الكمال الذي بلغت عظمته في القلوب ما بلغت لمع المحسنين 96 معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد المحتاج لهما قرينة قوية على إرادة ذلك وقال العلامة الطيبي : إن قوله تعالى : لمع المحسنين قد طابق قوله سبحانه : جاهدوا لفظا ومعنى أما اللفظ فمن حيث الإطلاق في المجاهدة والمعية وأما المعنى فالمجاهد للأعداء يفتقر إلى ناصر ومعين ثم إن جملة قوله عزوجل : إن الله لمع المحسنين تذييل للآية مؤكد بكلمتي التوكيد محلي بأسم الذات ليؤذن بأن من جاهد بكليته وشراشره في ذاته جل وعلا تجلى له الرب عز أسمه الجامع في صفة النصرة والإعانة تجليا تاما ثم إن هذه خاتمة شريفة للسورة لأنها مجاوبة لمفتتحها ناظرة إلى فريدة قلادتها أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون لامحة إلى واسطة عقدها ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فأعبدون وهي في نفسها جامعة فاذة
و أل في المحسنين يحتمل أن تكون للعهد فالمراد بالمحسنين الذين جاهدوا ووجه إقامة الظاهر مقام الضمير ظاهر وإلى ذلك ذهب الجمهور ويحتمل أن يكون للجنس فالمراد بهم مطلق جنس من أتى بالأفعال الحسنة ويدخل أولئك دخولا أوليا برهانيا وقد روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر المحسنين بالموحدين وفيه تأييد ما للإحتمال الثاني والله تعالى أعلم
ومن باب الإشارة في الآيات أحسب الناس أن يتركوا الآية قال إبن عطاء : ظن الخلق إنهم يتركون مع دعاوى المحبة ولا يطالبون بحقائقها وهي صب البلاء على المحب وتلذذه بالبلاء الظاهر والباطن وهذا كما قال العارف إبن الفارض قدس سره : وتعذيبكم عذب لدى وجوركم على بما يقضي الهوى لكم عدل وذكروا أن المحبة والمحنة توأمان وبالإمتحان يكرم الرجل أو يهان ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله إشارة إلى حال الكاذبين في دعوى المحبة وهم الذين يصرفون عنها بأذى الناس لهم إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فأبتغوا عند الله الرزق وأعبدوه وأشكروا له إليه ترجعون قال إبن عطاء : أي أطلبوا الرزق بالطاعة والإقبال على العبادة وقال سهل : أطلبوه في التوكل لا في المكسب فإن طلب الرزق فيه سبيل العوام وقال إني مهاجر إلى ربي أي مهاجر من نفسي ومن الكون إليه عزوجل وقال إبن عطاء : أي راجع إلى ربي من جميع مالي وعلي والرجوع إليه عزوجل بالإنفصال عما دونه سبحانه ولا يصح لأحد الرجوع إليه تعالى وهو متعلق بشيء من الكون بل لا بد أن ينفصل من الأكوان أجمع وتأتون في ناديكم المنكر سئل الجنيد قدس سره عن هذه الآية فقال : كل شيء يجتمع الناس عليه إلا الذكر فهو منكر مثل الذين أتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت إتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت أشار سبحانه وتعالى إلى من أعتمد على غير الله عزوجل في أسباب الدنيا والآخرة فهو منقطع عن مراده غير واصل إليه قال إبن عطاء : من أعتمد شيئا سوى الله تعالى كان هلاكه في نفس ما أعتمد عليه ومن أتخذ سواه عزوجل ظهيرا قطع عن نفسه سبيل العصمة ورد إلى حوله وقوته
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون فيه إشارة إلى أن دقائق المعارف لا يعرفها إلا اصحاب الأحوال العالمون به تعالى وبصفاته وسائر شئونه سبحانه لأنهم علماء المنهج وذكر أن العالم على الحقيقة من
(21/15)

يحجزه علمه عن كل ما يبيحه العلم الظاهر وهذا هو المؤيد عقله بأنوار العلم اللدني إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ذكر أن حقيقة الصلاة حضور القلب بنعت الذكر والمراقبة بنعت الفكر فالذكر في الصلاة يطرد الغفلة التي هي الفحشاء والفكر يطرد الخواطر المذمومة وهي المنكر هذا في الصلاة وبعدها تنهى هي إذا كانت صلاة حقيقية وهي التي أنكشف فيها لصاحبها جمال الجبروت وجلال الملكوت وقرت عيناه بمشاهدة أنوار الحق جل وعلأ عن رؤية الأعمال والأعواض وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : الصلاة إذا كانت مقبولة تنهى عن مطالعات الأعمال والأعواض ولذكر الله أكبر قال إبن عطاء : أي ذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم له سبحانه لأن ذكره تعالى بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني والسؤال وأيضا ذكره تعالى صفته وذكركم صفتكم ولا نسبة بين صفة الخالق جل شأنه وبين صفة المخلوق وأين التراب من رب الأرباب بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم فيه إشارة إلى أن عرائس حقائق القرآن لا تنكشف إلا لأرواح المقربين من العارفين والعلماء الربانيين لأنها أماكن أسرار الصفات وأوعية لطائف كشوف الذات قال الصادق على آبائه وعليه السلام : لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فأعبدون قال سهل : إذا عمل بالمعاصي والبدع في أرض فأخرجوا منها إلى أرض المطيعين وكأن هذا لئلا تنعكس ظلمة معاصي العاصين على قلوب الطائعين فيكسلوا عن الطاعة وذكروا أن سفر المريد سبب للتخلية والتحلية وإليه الإشارة بما أخرجه الطبراني والقضاعي والشيرازي في الألقاب والخطيب وإبن النجار والبيهقي عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سافروا تصحوا وتغنموا كل نفس ذائقة الموت فلا يمنعنكم خوف الموت من السفر وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم فلا يمنعنكم عنه فقد الزاد أو العجز عن حمله والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا قال إبن عطاء : أي الذين جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى محل الرضا والمجاهدة كما قال : الإفتقار إلى الله تعالى بالإنقطاع عن كل ما سواه وقال بعضهم : اي الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف لنوصلن أسرارهم إلى اللطائف وقيل : أي الذين جاهدوا نفوسهم لأجلنا وطلبا لنا لنهدينهم سبل المعرفة بنا والوصول إلينا ومن عرف الله تعالى عرف كل شئ ومن وصل إليه هان عنده كل شيء كان عبدالله بن المبارك يقول : من أعتاصت عليه مسئلة فليسأل أهل الثغور عنها لقوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر نسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى والحفظ التام من كل شر بحرمة حبيبه سيد البشر صلى الله تعالى عليه وسلم
سورة الروم
03 - مكية كما روى عن إبن عباس وإبن الزبير رضي الله تعالى عنهم بل قال إبن عطية : وغيره : لا خلاف في مكيتها ولم يستثنوا منها شيئا وقال الحسن : هي مكية إلا قوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون الآية وهو خلاف مذهب الجمهور والتفسير المرضى كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه وآيها ستون وعند بعض تسع وخمسون ووجه إتصالها بالسورة السابقة على ما قاله الجلال السيوطي إنها ختمت بقوله تعالى : والذين
(21/16)

جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأفتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر وفرح المؤمنين بذلك وأن الدولة لأهل الجهاد فيه ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة هذا مع تواخيها لما قبلها في الإفتتاحبالم ولا يخفى أن قتال أهل الكتاب ليس من المجاهدة في الله عزوجل وبذلك تضعف المناسبة ومن وقف على أخبار سبب النزول ظهر له أن ما أفتتحت به هذه السورة متضمنا نصرة المؤمنين بدفع شماتة أعدائهم المشركين وهم لم يزالوا مجاهدين في الله تعالى ولأجله ولوجهه عزوجل ولا يضر عدم جهادهم بالسيف عند انزول وهذا في المناسبة أوجه فيما أرى من الوجه الذي ذكره الجلال فتأمل
بسم الله الرحمن الرحيم ألم 1 الكلام فيه كالذي مر في أمثاله من الفواتح الكريمة غلبت الروم 2 هي قبيلة عظيمة من ولد رومي بن يونان بن علجان بن يافث نوح عليه السلام وقيل : من ولد يافان بن يافث وقيل : من ولد رعويل بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وقال الجوهري : من ولد روم بن عيص المذكور صارت لها وقعة مع فارس على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فغلبتها وقهرتها فارس في أدنى الأرض أي أقربها
والمراد بالأرض أرض الروم على أن أل نائبة مناب الضمير المضاف إليه والأقربية بالنظر إلى أهل مكة لأن الكلام معهم أو المراد بها أرض مكة ونواحيها لأنها الأرض المعهودة عندهم والأقربية بالنظر إلى الروم أو المراد بالأرض أرض الروم لذكرهم والأقربية بالنظر إلى عدوهم أعني فارس لحديث المغلوبية وقد جاء من طرق عديدة أن الحرب وقع بين أذرعات وبصرى وقال إبن عباس والسدي : بالأردن وفلسطين وقال مجاهد : بالجزيرة يعني الجزيرة العمرية لا جزيرة العرب وجعل كل قول موافقا لوجه من الأوجه الثلاثة على الترتيب وصحح إبن حجر القول الأول
وقرأ الكلبي في أداني الأرض وهم أي الروم من بعد غلبهم أي غلب فارس إياهم على أنه مصدر مضاف إلى مفعوله أو إلى نائب فاعله إن كان مصدرا لمجهول ورجحه بعضهم بموافقته للنظم الجليل
وقرأ علي كرم اله تعالى وجهه وإبن عمر رضي الله تعالى عنهما ومعاوية بن قرة غلبهم بسكون اللام وعن أبي عمرو أنه قرأ غلابهم على وزن كتاب والكل مصادر غلب والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : سيغلبون 3 وفي ذلك تأكيد لما يفهم من السين ولكون مغلوبهم من كان غالبهم وفي بناء الجملة على الضمير تقوية للحكم أي سيغلبون فارس البتة وقوله تعالى : في بضع سنين متعلق بسيغلبون أيضا
والبضع ما بين الثلاث إلى العشرة عن الأصمعي وفي المجمل ما بين الواحد : إلى التسعة وقيل : هو ما فوق الخمس دون العشر وقال المبرد : ما بين العقدين في جميع الأعداد روى أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى فغلبوا عليهم فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم وفرح الكفار بمكة وشمتوا فلقوا أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب وقد يظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم الله فأنزل الله تعالى ألم غلبت الروم الآيات فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم
(21/17)

على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرن الله تعالى عينكم فوالله تعالى ليظهرن الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فقام إليه أبي بن خلف فقال : كذبت فقال له : أبو بكر رضي الله تعالى عنه : أنت أكذب ياعدو الله تعالى تعال أنا حبك عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين فناحبه ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة و السلام : ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل فخرج أبو بكر فلقى أبيا فقال : لعلك ندمت قال : لا تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل فأجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال : قد فعلت فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبي كفيلا بالخطر إن غلب فكفل به إبنه عبدالرحمن فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبدالرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ومات أبي من جرح جرحه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة
وجاء في بعض الروايات أنهم ظهروا عليهم يوم الحديبية وأخرج الترمذي وحسنه أنه لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه الخطر من ورثة أبي وجاء به إلى النبي فقال عليه الصلاة و السلام : تصدق به وفي رواية أبي يعلى وإبن أبي حاتم وإبن مردويه وإبن عساكر عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة و السلام قال : هذا السحت تصدق به
وأستشكل بأنه إن كان ذلك قبل تحريم القمار كما أخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم والبيهقي عن قتادة والترمذي وصححه عن نيار بن مكرم السلمي وهو الظاهر لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر من آخر القرآن نزولا فما وجه كونه سحتا وإن كان بعد التحريم فكيف يؤمر بالتصدق بالحرام الغير المختلط بغيره وصاحبه معلوم وفي مثل ذلك يجب رد المال عليه فإن قيل : إنه مال حربي والحادثة وقعت بمكة وهي قبل الفتح دار حرب والعقود الفاسدة تجوز فيها عند أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة لم يظهر كونه سحتا وكأني بك تمنع صحة هذه الرواية وإذا لم تثبت صحتها يبقى الأمر بالتصدق وحينئذ يجوز أن يكون لمصلحة رآها رسول الله وهو تصدق بحلال أما إذا كان ذلك قبل تحريم القمار كما هو المعول عليه فظاهر وأما إن كان بعد التحريم فلأن أبا حنيفة ومحمدا قالا بجواز العقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار وأحتجا على صحة ذلك بما وقع من أبي بكر في هذه القصة وقد تظافرت الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينكر عليه المناحبة وإنما أنكر عليه التأجيل بثلاث سنين وأرشده إلى أن يزايدهم وربما يقال على تقدير الصحة : إن السحت ليس بمعنى الحرام بل بمعنى ما يكون سببا للعار والنقص في المروءة حتى كأنه يسحتها أي يستأصلها كما في قوله : كسب الحجام سحت فقد قال الراغب : إن هذا لكونه ساحتا للمروءة لا للدين فكأنه رأى أن تمول ذلك وإن كان حلالا مخل بمروءة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأطلق عليه السحت ولا يأبى ذلك أذنه عليه الصلاة و السلام في المناحبة لما أنها لا تضر بالمروءة أصلا وفيها من إظهار اليقين بصدق ما جاء به النبي ما فيها وكان عليه الصلاة و السلام على ثقة من صلاح الصديق رضي الله تعالى عنه وأنه إذا أمره بالتصدق بما يأخذه ونهاه عن تموله لم يخالفه وقيل : السحت هنا بمعنى ما لا شيء على من أستهلكه وهو أحد إطلاقاته كما في النهاية والمراد هذا الذي لا شيء عليك إذا أستهلكته وتصرفت فيه حسبما تشاء تصدق به كأنه عليه الصلاة و السلام
(21/18)

بعد أن أخبر الصديق رضي الله تعالى عنه بأنه لا مانع له من التصرف فيه حسبما يريد أرشده إلى ما هو الأولى والأحرى فقال : تصدق به وهو كما ترى وقيل : إن السحت كما في النهاية يرد في الكلام بمعنى الحرام مرة وبمعنى المكروه أخرى ويستدل على ذلك بالقرائن فيجوز أن يكون في الخبر إذا صح فيه بمعنى المكروه إذ الأمر بالتصدق يمنع أن يكون بمعنى الحرام فيتعين كونه بمعنى المكروه وفيه نظر وأما تفسير السحت بالحرام وإلتزام القول بجواز التصدق بالحرام لهذا الخبر فمما لا يلتفت إليه أصلا فتأمل وكانت كلتا الغلبتين في سلطنة خسرو برويز قال في روضة الصفا ما ترجمته : إنه لما مضى من سلطنة خسرو أربعة عشر سنة غدر الروميون بملكهم وقتلوه مع إبنه بناطوس وهرب إبنه الآخر إلى خسرو فجهز معه ثلاثة رؤساء أولى قدر رفيع مع عسكر عظيم فدخلوا بلاد الشام وفلسطين وبيت المقدس وأسروا من فيها من الأساقفة وغيرهم وأرسلوا إلى خسروا الصليب الذي كان مدفونا عندهم في تابوت من ذهب وكذلك أستولوا على الأسكندرية وبلاد النوبة إلى أن وصلوا إلى نواحي القسطنطينية وأكثروا الخراب وجهدوا على طاعة الروميين لإبن قيصر فلم تحصل قيل : إن الروميين جعلوا عليهم حاكما شخصا أسمه هرقل وكان سلطانا عادلا يخاف الله تعالى فلما رأى تخريب فارس قد شاع في بلاد الروم من النهب والقتل تضرع وبكى وسأل الله تعالى تخليص الروميين فصادف دعاؤه هدف الإجابة فرأى في ليالي متعددة في منامه أنه قد جيء إليه بخسرو في عنقه سلسلة وقيل له : عجل بمحاربة برويز لأنه يكون لك الظفر والنصرة فجمع هرقل عسكره بسبب تلك الرؤيا وتوجه من قسطنطينية إلى نصيبين فسمع خسروا فجهز إثني عشر ألفا مع أمير من أمرائه فقابلهم هرقل فكسرهم وقتل منهم تسعة آلاف مع رؤسائهم
وفي بعض الروايات أنهم ربطوا خيولهم بالمدائن ورأيت في بعض الكتب أن سبب ظهور الروم عل فارس أن كسرى بعث إلى أميره شهريار وهو الذي ولاه على محاربة الروم أن أقتل أخاك فرخان لمقالة قالها وهو قوله : لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى فلم يقتله فبعث إلى فارس إني قد عزلت شهريار ووليت أخاه فرخان فأطلع فرخان على حقيقة الحال فرد الملك إلى أخيه وكتب شهريار إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى فغلبت الروم فارس وجاء الخبر ففرح المسلمون وكان ذلك من الآيات البينات الباهرة الشاهدة بصحة النبوة وكون القرآن من عند الله عزوجل لما في ذلك من الأخبار عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى العليم الخبير وقد صح أنه أسلم عند ذلك ناس كثير وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وإبن عباس وإبن عمر وأبو سعيد الخدري والحسن ومعاوية بن قرة غلبت الروم على البناء للفاعل و سيغلبون على البناء للمفعول والمعنى على ما قيل : إن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزول الآية ففتحوا بعض بلادهم وإضافة غلب عليه من إضافة المصدر إلى الفاعل ووفق بين القراءتين بأن الآية نزلت مرتين مرة بمكة على قراءة الجمهور ومرة يوم بدر كما رواه الترمذي وحسنه عن أبي سعيد على هذه القراءة
وقال بعض الأجلة : الصواب أن يبقى نزولها على ظاهره ويراد بغلب المسلمين إياهم ما كان في غزوة موتة وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان وذلك قريب من التاريخ الذي ذكروه لنزول الآية أولا ولا حاجة إلى تعدد النزول فإنه يجوز تخالف معنى القراءتين إذا لم يتناقضا وكون فريق غالبا ومغلوبا في زمانين غير متدافع فتأمل إنتهى
ولا يخفى على من سبر السير أن هذا مما لا يكاد يتسنى لأن الروم لم يغلبهم المسلمون في تلك الغزوة بل أنصرفوا عنهم بعد أن أصيبوا بجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة وعباد بن قيس
(21/19)

في آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين كالمغلوبين بل ذكر إبن هشام إنهم لما أتوا المدينة جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون : يافرار فررتم في سبيل الله تعالى وكان رسول الله يقول : ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى وروى أن أم سلمة قالت لأمرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة : مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومع المسلمين فقالت : والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يافرار فررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته ولم يخرج وذكر أبياتا لقيس اليعمري يعتذر فيها مما صنع يومئذ وصنع الناس وقد تضمنت كما قال بيان أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وأن خالد بن الوليد إنحاز بمن معه على أن فيما ذكر أنه الصواب بحثا بعد فلعل الأولى في التوفيق إذا صحت هذه القراءة ما ذكر أولا فتأمل
وفي البحر كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكى عن أبي الحكم بن برجان أنه أستخرج من قوله تعالى : ألم غلبت الرومإلى سنين إفتتاح المسلمين بيت المقدس معينا زمانه ويومه وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى وإن إبن برجان مات قبل الوقت الذي عينه للفتح وأنه بعد موته بزمان أفتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم وكان أبو جعفر يعتقد في أبي الحكم هذا إنه كان يتطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله تعالى إنتهى وإستخراج بعض العارفين كمحيي الدين قدس سره والعراقي وغيرهم المغيبات من القرآن العظيم أمر شهير وهو مبني على قواعد حسابية وأعمال حرفية لم يرد شيء منها عن سلف الأمة ولا حجر على فضل الله عزوجل وكتاب الله تعالى فوق ما يخطر للبشر وقد سئل علي كرم الله تعالى وجهه هل أسر إليكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا كتمه عن غيركم فقال : لا إلا أن يؤتي الله تعالى عبدا فهما في كتابه هذا ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا لفهم أسرار كتابه بحرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واصحابه
لله الأمر من قبل ومن بعد أي من قبل هذه الحالة ومن بعدها وهو حاصل ما قيل أي من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين وتقديم الخبر للتخصيص والمعنى إن كلا من كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ليس إلا بأمر الله تعالى شأنه وقضائه عزوجل وتلك الأيام نداولها بين الناس وقرأ أبو السمال والجحدري عن العقيلي من قبل ومن بعد بالكسر والتنوين فيهما فليس هناك مضاف إليه مقدر اصلا على المشهور كأنه قيل : لله الأمر قبلا وبعدا أي في زمان متقدم وفي زمان متأخر وحذف بعضهم الموصوف وذكر السكاكي أن المضاف إليه مقدر في مثل ذلك أيضا والتنوين عوض عنه وجوز الفراء الكسر من غير تنوين وقال الزجاج : إنه خطأ لأنه إما أن لا يقدر فيه الإضافة فينون أو يقدر فيبنى على الضم وأما تقدير لفظه قياسا على قوله : بين ذراعي وجبهة الأسد فيقاس مع الفارق لذكره فيه بعد وما نحن فيه ليس كذلك وقال النحاس : للفراء في كتابه في القرآن أشياء كثيرة الغلط منه إنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد بالكسر بلا تنوين وإنما يجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان أي من متقدم ومن متأخر وذهب إلى قول الفراء إبن هشام في بعض كتبه وحكى الكسائي عن بعض بني أسد لله الأمر من قبل ومن بعد على أن الأول مخفوض منون والثاني مضموم بلا تنوين
ويومئذ أي ويوم إذ يغلب الروم فارسا يفرح المؤمنون 4 بنصر الله وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له
(21/20)

ةغيظ من شمتهم من كفار مكة وكون ذلك مما يتفاءل به لغلبة المؤمنين على الكفار وقيل : نصر الله تعالى صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس وقيل : نصره عزوجل أنه ولى بعض الظالمين بعضا وفرق بين كلمتهم حتى تناقضوا وتحاربوا وقلل كل منهما شوكة الآخر وعن أبي سعيد الخدري أنه وافق ذلك يوم بدر وفيه من نصر الله تعالى العزيز للمؤمنين وفرحهم بذلك ما لا يخفى والأول أنسب لقوله تعالى : ينصر من يشاء أي من يشاء أن ينصره من عباده على عدوه ويغلبه عليه فإنه إستئناف مقرر لمضمون قوله تعالى : لله الأمر من قبل ومن بعد والظاهر أن يوم متعلق بيفرح وكذا بنصر وجوز تعلق يوم به وكذا جوز تعلق بنصر بالمؤمنين وقيل : يومئذ عطف على قبل أو بعد كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال ثم إبتدأ الأخبار بفرح المؤمنين وهو العزيز المبالغ في العزة والغلبة فلا يعجزه من شاء أن ينصر عليه كائنا من كان الرحيم 5 المبالغ في الرحمة فينصر من يشاء أن ينصره أي فريق كان والمراد بالرحمة هنا هي الدنيوية أما على القراءة المشهورة فظاهر لأن كلا الفريقين لا يستحق الرحمة الأخروية وأما على القراءة الأخيرة فلأن المسلمين وإن كانوا مستحقين لها لكن المراد ههنا نصرهم الذي هو من آثار الرحمة الدنيوية وتقديم وصف العزيز لتقدمه في الإعتبار
وعد الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة من قوله تعالى : سيغلبون وقوله سبحانه : يفرح المؤمنون ويقال له المؤكد لنفسه لأن ذلك في معنى الوعد وعامله محذوف وجوبا كأنه قيل : وعدالله تعالى ذلك وعدا لا يخلف الله وعده أي وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لما في خلقه من النقص المستحيل عليه عزوجل وإظهار الأسم الجليل في موضع الإضمار للتعليل الحكمي وتفخيمه والجملة إستئناف مقرر لمعنى المصدر وجوز أن يكون حالا منه فيكون كالمصدر الموصوف كأنه سبحانه يقول : وعد الله تعالى وعدا غير مخلف ولكن أكثر الناس لا يعلمون 6 إنه تعالى لا يخلف وعده لجهلهم بشؤونه عزوجل وعدم تفكرهم فيما يجب له جل شأنه وما يستحيل عليه سبحانه أو لا يعلمون ما سبق من شؤونه جل وعلا وقيل : لا يعلمون شيئا أو ليسوا من أولى العلم حتى يعلموا ذلك يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهو ما يسحون به من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم الملائمة لأهوائهم المستدعية لأنهماكهم فيها وعكوفهم عليها
وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما يعلمون منافعها ومضارها ومتى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يجمعون وكيف يبنون أي ونحو ذلك مما لا يكون لهم منه أثر في الآخرة وروى نحوه عن قتادة وعكرمة
وأخرج إبن المنذر وإبن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية : بلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن يصلى وقال الكرماني : كل ما يعلم بأوائل الروية فهو الظاهر وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن وقيل : هو هنا التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها وتعقب بأنهما ليسا مما علموه منها بل من أفعالهم المرتبة على علمهم وعن إبن جبير أن الظاهر هو ما علموه من قبل الكهنة مما تسترقه الشياطين وليس بشيء كما لا يخفى وأياما كان فالظاهر مقابل الباطن وتنوينه للتحقير والتخسيس أي يعلمون ظاهرا حقيرا خسيسا وقيل : هو بمعنى الزائل الذاهب كما في قول الهذلي :
(21/21)

وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها أي يعلمون أمرا زائلا لإبقاء له ولا عاقبة من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة التي هي الغاية القصوى والمطلب الأسني وهم غافلون 7 لا تخطر ببالهم فكيف يتكفرون فيها وفيما يؤدي إلى معرفتها من الدنيا وأحوالها والجملة معطوفة على يعلمون وإيرادها أسمية للدلالة على إستمرار غفلتهم ودوامها و هم الثانية تكرير للأولى وتأكيد لفظي لها دافع للتجوز وعدم الشمول والفصل بمعمول الخبر وإن كان خلاف الظاهر لكن حسنه وقوع الفصل في التلفظ والإعتناء بالآخرة أو هو مبتدأ و غافلون خبره والجملة خبر هم الأولى وجملة يعلمون إلخ بدل من جملة لا يعلمون على ما ذهب إليه صاحب الكشاف فإن الجاهل الذي لا يعلم أن الله تعالى لا يخلف وعده أولا يعلم شؤونه تعالى السابقة ولا يتفكر في ذلك هو الذي قصر نظره على ظاهر الحياة الدنيا والمصحح للبدلية إتحاد ما صدقا عليه والنكتة المرجحة له جعل علمهم والجهل سواء بحسب الظاهر وجملة وهم عن الآخرة إلخ مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة المحققة لمقتضي الجملة السابقة تقريرا لجهالتهم وتشبيها لهم بالبهائم المقصور إدراكها على ظواهر الدنيا الخسيسة دون أحوالها التي هي من مباديء العلم بأمور الآخرة وأختار العلامة الطيبي أن جملة يعلمون إلخ إستئنافية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله تعالى حق وأن لله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد وأنه جل شأنه ينصر المؤمنين على الكافرين ولعله الأظهر أو لم يتفكروا إنكار وإستقباح لقصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا مع الغفلة عن الآخرة والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقوله سبحانه : في أنفسهم ظرف للتفكر وذكره مع أن التفكر لا يكون إلا في النفس لتحقيق أمره وزيادة تصوير حال المتفكرين كما في أعتقده في قلبك وأبصره بعينك وقوله عزوجل : ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق متعلق إما بالعلم الذي يؤدي إليه التفكر ويدل عليه أو بالقول الذي يترتب عليه كما في قوله تعالى : ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا أي أعلموا ظاهر الحياة الدنيا فقط أو أقصروا النظر على ذلك ولم يحدثوا التفكر في قلوبهم فيعلموا أنه تعالى ما خلق السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي هم من جملتها ملتبسة بشيء من الأشياء إلا ملتبسة بالحق أو يقولوا هذا القول معترفين بمضمونه أثر ما علموه والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق أن يثبت لا محالة لإبتنائه على الحكم البالغة التي من جملتها إستشهاد المكلفين بذواتها وصفاتها وأحوالها على وجود صانعها ووحدته وعلمه وقدرته وإختصاصه بالمعبودية وصحة أخباره التي من جملتها إحياؤهم بعد الفناء بالحياة الأبدية ومجازاتهم بحسب أعمالهم عما يتبين المحسن من المسيء ويمتاز درجات أفراد كل من الفريقين حسب إمتياز طبقات علومهم وإعتقاداتهم المترتبة على أنظارهم فيما نصب في المصنوعات من الآيات والدلائل والإمارات والمخايل كما نطق به قوله تعالى : وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح ولذلك فسره عليه الصلاة و السلام بقوله : أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عزوجل
وقوله سبحانه : وأجل مسمى عطف على الحق أي وبأجل معين قدره الله تعالى لبقائها لا بد لها من أن
(21/22)

تنتهي إليه لا محالة وهو وقت قيام الساعة وتبدل الأرض غير الأرض والسموات هذا وجوز أن يكون قوله تعالى : في أنفسهم متعلقا بيتفكروا ومفعولا له بالواسطة على معنى أو لم يتفكروا في ذواتهم وأنفسهم التي هي أقرب المخلوقات إليهم وهم أعلم بشؤونها وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله ظاهرا وباطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من إنتهاء إلى وقت يجازيها الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الإنتهاء إلى ذلك الوقت وتعقب بأن أمر معاد الإنسان ومجازاته بما عمل من الإساءة والإحسان هو المقصود بالذات والمحتاج إلى الإثبات فجعله ذريعة إلى إثبات معاد ما عداه مع كونه بمعزل من الأجزاء تعكيس للأمر فتدبر وجوز أبو حيان أن يكون ما خلق إلخ مفعول يتفكروا معلقا عنه بالنفي وأنت تعلم أن التعليق في مثله ممنوع أو قليل وقوله تعالى : وإن كثيرا من الناس بلقائي ربهم لكافرون تذييل مقرر لما قبله ببيان أن أكثرهم غير مقتصرين على ما ذكر من الغفلة من أحوال الآخرة والإعراض عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها من خلق السموات والأرض وما بينهما من المصنوعات بل هم منكرون جاحدون لقاء حسابه تعالى وجزائه عزوجل بالبعث وهم القائلون بأبدية الدنيا كالفلاسفة على المشهور أو لم يسيروا في الأرض توبيخ لهم بعدم إتعاظهم بمشاهدة أحوال أمثالهم الدالة على عاقبتهم ومآلهم والهمزة للإنكار التوبيخي أو الإبطالي وحيث دخلت على النفي وإنكار النفي إثبات قيل : إنها لتقرير المنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا في الأرض وقوله تعالى : فينظروا عطف على يسيروا داخل في حكمه والمعنى أنهم قد ساروا في أقطار الأرض وشاهدوا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من الأمم المهلكة كعاد وثمود وقوله تعالى : كانوا أشد منهم قوة إلخ بيان لمبدأ أحوالهم ومآلها يعني أنهم كانوا أقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا حيث كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض أي قلبوها للحرث والزراعة كما قال الفراء وقيل : لإستنباط المياه وإستخراج المعادن وغير ذلك
وقرأ أبو جعفر وآثاروا بمدة بعد الهمزة وقال إبن مجاهد : ليس بشيء وخرج ذلك أبو الفتح على الإشباع كقوله ومن ذم الزمان بمنتزاح
وذكر أن هذا من ضرورة الشعر ولا يجيء في القرآن وقرأ أبو حيوة وأثروا من الأثرة وهو الإستبداد بالشيء وآثروا الأرض أي أبقوا فيها آثارا وعمروها أي وعمرها أولئك الذين كانوا قبلهم بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها وقيل : أي أقاموا بها يقال عمرت بمكان كذا وعمرته أي أقمت به أكثر مما عمروها أي عمارة أكثر من عمارة هؤلاء إياها والظاهر أن الأكثرية بإعتبارا لكم وعممه بعضهم فقال : أكثركما وكيفا وزمانا وإذا أريد العمارة بمعنى الإقامة فالمعنى أقاموا بها إقامة أكثر زمانا من إقامة هؤلاء بها وفي ذكر أفعل تهكم بهم إذ لا مناسبة بين كفار مكة وأولئك الأمم المهلكة فإنهم كانوا معروفين بالنهاية في القوة وكثرة العمارة وأهل مكة ضعفاء ملجؤن إلى واد غير ذي زرع يخافون أن يتخطفهم الناس ونحو هذا يقال إذا فسرت العمارة بالإقامة فإن أولئك كانوا مشهورين بطول الأعمار جدا وأعمار أهل مكة قليلة بحيث لا مناسبة يعتد بها بينها وبين أعمال أولئك المهلكين
(21/23)

وجاءتهم رسلهم بالبينات بالمعجزات أو الآيات الواضحات فما كان الله ليظلهم أي فكذبوهم فأهلكهم فما كان الله تعالى شأنه ليهلكهم من غير جرم يستدعيه من قبلهم وفي التعبير عن ذلك بالظلم إظهار لكمال نزاهته تعالى عنه وإلا فقد قال أهل السنة : إن إهلاكه تعالى من غير جرم ليس من الظلم في شيء لأنه عزوجل مالك والمالك يفعل بملكه ما يشاء والنزاع في المسئلة شهير ولكن كانوا أنفسهم يظلمون 9 حيث أرتكبوا بإختيارهم من المعاصي ما أوجب بمقتضى الحكمة ذلك وتقديم أنفسهم على يظلمون للفاصلة وجوز أن يكون للحصر بالنسبة إلى الرسل الذين يدعونهم ثم كان عاقبة الذين أساؤا أي عملوا السيئات ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالإساءة والإشعار بعلة الحكم و ثم للتراخي الحقيقي أو للإستبعاد والتفاوت في الرتبة السوأي أي العقوبة السوأي وهي العقوبة بالنار فإنها تأنيث الأسوأ كالحسنى تأنيث الأحسن أو مصدر كالبشرى وصف به العقوبة مبالغة كأنها نفس السوء وهي مرفوعة على أنها أسم كان خبرها عاقبة
وقرأ الحرميان وأبو عمرو عاقبة بالرفع على أنه أسم كان و السوأي بالنصب على الخبرية وقرأ الأعمش والحسن السوي بإبدال الهمزة واوا وإدغام الواو فيها وقرأ إبن مسعود السوء بالتذكير أن كذبوا بآيات الله علة للحكم المذكور أي لأن أو بأن كذبوا وهو في الحقيقة مبين لما أشعر به وضع الموصول موضع الضمير لأنه مجمل وقوله تعالى : وكانوا بها يستهزؤن 01 عطف على كذبوا داخل معه في حكم العلية وإيراد الإستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على إستمراره وتجدده وجوز أن يكون السوأي مفعولا مطلقا لأساؤا من غير لفظه أو مفعولا به له لأن أساؤا بمعنى أقترفوا وأكتسبوا والسوأي بمعنى الخطيئة لأنه صفة أو مصدر مؤول بها وكونه صفة مصدر أساؤا من لفظه أي الإساءة السوأي بعيد لفظا مستدرك معنى و أن كذبوا أسم كان وكون التكذيب عاقبتهم مع أنهم لم يخلوا عنه إما بإعتبار إستمراره أو بإعتبار أنه عبارة عن الطبع وجوز أيضا أن يكون أن كذبوا بدلا من السوأي الواقع أسما لكان أو عطف بيان لها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أن كذبوا وأن تكون أن تفسيرية بمعنى أي والمفسر أما أساؤا أو السوأي فإن الإساءة تكون قولية كما تكون فعلية فإذن ما قبلها مضمن معنى القول دون حروفه ويظهر ذلك التضمن بالتفسير وإذا جاز وأنطلق الملأ منهم أن أمشوا فهذا أجوز فليس هذا الوجه متكلفا خلافا لأبي حيان وجوز في قراءة الحرميين وأبي عمرو أن تكون السوأي صلة الفعل وأن كذبوا تابعا له أو خبر مبتدأ محذوف أو على تقدير حرف التعليل وخبر كان محذوفا تقديره وخيمة ونحوه وتعقب ذلك في البحر فقال : هو فهم أعجمي لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف وقد تكلف له محذوف لا يدل عليه دليل وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان ألله يبدؤا الخلق أي ينشئهم
وقرأ عبدالله وطلحة يبديء بضم الياء وكسر الدال وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر فما بالعهد من قدم
ثم يعيده بالبعث ثم إليه ترجعون 11 للجزاء وتقديم المعمول للتخصيص وكان الظاهر يرجعون بياء الغيبة إلا أنه عدل عنه إلى خطاب المشركين لمكافحتهم بالوعيد ومواجهتهم بالتهديد وإيهام إن ذلك مخصوص بهم فهو إلتفات للمبالغة في الوعيد والترهيب وقرأ أبو عمرو وروح يرجعون بياء الغيبة كما هو الظاهر
(21/24)

ويوم تقوم الساعة التي هي وقت إعادة الخلق ومرجعهم إليه عزوجل يبلس المجرمون 21 أي يسكتون وتنقطع حجتهم قال الراغب : الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه أشتق إبليس فيما قيل ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعينه قيل أبلس فلان إذا سكت وأنقطعت حجته وأبلست الناقة فهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة وقال إبن ثابت : يقال أبلس الرجل إذا يئس من كل خير وفي الحديث وأنا مبشرهم إذا أبلسوا والمراد بالمجرمين على ما أفاده الطيبي أولئك الذين أساؤا السوأي لكنه وضع الظاهر موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بهذا الوصف الشنيع والإشعار بعلة الحكم
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي يبلس بفتح اللام وخرج على أن الفعل من أبلسه إذا أسكته وظاهره أنه يكون متعديا وقد أنكره أبو البقاء والسمين وغيرهما حتى تكلفوا وقالوا : أصله يبلس إبلاس المجرمين على إقامة المصدر مقام الفاعل ثم حذفه وإقامة المضاف إليه مقامه وتعقبه الخفاجي عليه الرحمة فقال : لا بخفي عدم صحته لأن إبلاس المجرمين مصدر مضاف لفاعله وفاعله هو فاعل الفعل بعينه فكيف يكون نائب الفاعل فتأمل
وأنت تعلم أنه متى صحت القراءة لا تسمع دعوى عدم سماع إستعمال أبلس متعديا
ولم يكن لهم من شركائهم ممن أشركوهم بالله سبحانه في العبادة ولذا أضيفوا إليهم وقيل : إن الإضافة لإشراكهم إياهم بالله تعالى في أموالهم والمراد بهم الأوثان وقال مقاتل : الملائكة عليهم السلام وقيل : الشياطين وقيل : رؤساؤهم شفعاء يجيرونهم من عذاب الله تعالى كما كانوا يزعمون وجيء بالمضارع منفيا بلم التي تقلبه ماضيا للتحقق وصيغة الجمع لوقوعها في مقابلة الجمع أي لم يكن لواحد منهم شفيع أصلا
وقرأ خارجة عن نافع وإبن سنان عن أبي جعفر والأنطاكي عن شيبة ولم تكن بالتاء الفوقية
وكانوا بشركائهم أي بإلهيتهم وشركتهم كما يشير إليه العدول عن وكانوا بهم كافرين 31 حيث يئسوا منهم ووقفوا على كنه أمرهم وكانوا للدلالة على الإستمرار لا للمحافظة على رؤوس الفواصل كما توهم
وقيل : إنها للمضي كما هو الظاهر والباء في بشركائهم سببية أي وكانوا في الدنيا كافرين بالله تعالى بسببهم ولم يرتضه بعض الأجلة إذ ليس في الأخبار بذلك فائدة يعتد بها ولأن المتبادر أن يوم تقوم الساعة ظرف للإبلاس وما عطف عليه ولذا قيل : إن المناسب عليه جعل الواو حالية ليكون المعنى أنهم لم يشفعوا لهم مع أنهم سبب كفرهم في الدنيا وهو أحسن من جعله معطوفا على مجموع الجملة مع الظرف مع أنه عليه ينبغي القطع للإحتياط إلا أن يقال : نه ترك تعويلا على القرينة العقلية وهو خلاف الظاهر وكتب شفعواء في المصحف بواو بعدها ألف وهو خلاف القياس والقياس ترك الواو أو تأخيرها عن الألف لكن الأول أحسن كما ذكر في الرسم وكذا خولف القياس في كتابة السوأي حيث كتبت بالألف قبل الياء والقياس كما في الكشف الحذف لأن الهمز يكتب على نحو ما يسهل ويوم تقوم الساعة أعيد لتهويله وتفظيع ما يقع فيه وهو ظرف للفعل بعده وقوله تعالى : يومئذ على ما ذكره الطبرسي بدل منه
(21/25)

وفي البحر التنوين في يومئذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة أي ويوم تقوم الساعة يوم إذ يبلس المجرمون يتفرقوا 41 وظاهره أن يومئذ ظرف لتقوم ولا يخفى ما في جعل الجملة المعوض عنها التنوين حينئذ ما ذكره من النظر
وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى : يومئذ يتفرقون تهويل ليوم قيام الساعة إثر تهويل وفيه رمز إلى أن التفرق يقع في بعض منه وفي وجه الرمز إلى ذلك بما ذكر خفاء ومضير يتفرقون للمسلمين والكافرين الدال عليهما ما قبل من عموم الخلق وما بعد من التفصيل وذهب إلى ذلك الزمخشري وجماعة
وقال في الإرشاد : هو لجميع الخلق المدلول عليهم بما تقدم من مبدئهم ومرجعهم وإعادتهم لا المجرمون خاصة وقال أبو حيان : يظهر أنه عائد على الخلق قبله وهو المذكور في قوله تعالى : الله يبدأ الخلق ثم يعيده والمراد بتفرقهم إختلافهم في المحال والأحوال كما يؤذن به التفصيل وليس ذلك بإعتبار كل فرد بل بإعتبار كل فريق فقد أخرج إبن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في ذلك هؤلاء في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين والتفصيل يؤذن بذلك أيضا وهذا التفرق بعد تمام الحساب
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون 51 الروضة الأرض ذات النبات والماء وفي المثل أحسن من بيضة في روضة يريدون بيضة النعامة وبإعتبار الماء قيل : أراض الوادي وأستراض أي كثر ماؤه وأراضهم أرواهم بعض الري من أراض الحوض إذا صب فيه من الماء ما يواري أرضه ويقال : شربوا حتى أراضوا أي شربوا عللا بعد نهل وقيل : معنى أراضوا صبوا اللبن على اللبن وظاهر تفسير الكثير للروضة إعتبار النبات والماء فيها وأظن أن إبن قتيبة صرح بأنه لا يقال لأرض ذات نبات بلا ماء روضة
وقيل : هي البستان الحسن وقيل : موضع الخضرة وقال الخفاجي : الروضة البستان وتخصيصها بذات الأنهار بناء على العرف وأياما كان فتنوينها هنا للتفخيم والمراد بها الجنة والحبر السرور يقال : حبره يحبره بالضم حبرا وحبرة وحبورا إذا سره سرورا تهلل له وجهه وظهر فيه أثره وفي المثل أمتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة وحكى الكسائي حبرته أكرمته ونعمته وقيل : الحبرة كل نعمة حسنة والتحبير التحسين ويقال : فلان حسن الحبر والسبر بالفتح إذا كان جميلا حسن الهيئة وأختلفت الأقوال في تفسيره هنا فأخرج إبن جرير وإبن المنذر عن إبن عباس وإبن أبي حاتم عن الضحاك أنهما قالا : يحبرون يكرمون
وأخرج جماعة عن مجاهد يحبرون ينعمون وقال أبو بكر إبن عياش : يتوجون على رؤوسهم
وقال إبن كيسان : يحلون وقال الأوزاعي ووكيع ويحيى بن أبي كثير : يسمعون الأغاني وأخرج عبد بن حميد عن الأخير أنه قال : قيل يارسول الله ما الحبر فقال عليه الصلاة و السلام : اللذة والسماع
وذكر بعضهم أن الظاهر يسرون ولم يذكر ما يسرون به إيذانا بكثرة المسار وما جاء في الخبر فمن باب الإقتصار على البعض ولعل السائل كان يحب السماع فذكره صلى الله تعالى عليه وسلم له لذلك والتعبير بالمضارع للإيذان بتجدد السرور لهم ففي كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة
وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا التي من جملتها الآيات الناطقة بما فصل ولقاء الآخرة أي وكذبوا بالبعث وصرح بذلك مع إندراجه في تكذيب الآيات للإعتناء به وقوله تعالى : فأولئك
(21/26)

إشارة إلى الموصول بإعتبار إتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب بآياته تعالى وبلقاء الآخرة للإيذان بكمال تميزهم بذلك عن غيرهم وإنتظامهم في سلك المشاهدات وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للأشعار ببعد منزلتهم في الشر أي فأولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح في العذاب محضرون 61 على الدوام لا يغيبون عنه أبدا والظاهر أن الفسقة من أهل الإيمان غير داخلين في أحد الفريقين أما عدم دخولهم في الذين كفروا وكذبوا بالآيات والبعث فظاهر وأما عدم دخولهم في الذين آمنوا وعملوا الصالحات فأما لأن ذلك لا يقال في العرف إلا على المؤمنين المجتنبين للمفسقات على ما قيل وأما لأن المؤمن الفاسق يصدق على المؤمن الذي لم يعمل شيئا من الصالحات أصلافهم غير داخلين في ذلك بإعتبار جميع الأفراد وحكمهم معلوم من آيات أخر فلا تغفل
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون 71 وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون 81 أثر ما بين حال فريقي المؤمنين العاملين بالصالحات والكافرين المكذبين بالآيات وما لهما من الثواب والعقاب أرشد سبحانه إلى ما ينجي من الثاني ويفضي إلى الأول من تنزيه الله عزوجل عن كل ما لا يليق بشأنه جل شأنه ومن حمده تعالى والثناء عليه ووصفه بما هو أهله من الصفات الجميلة والشؤون الجليلة وتقديم الأول على الثاني لما أن التخلية متقدمة على التحلية مع أنه أول ما يدعى إليه الذين كفروا المذكورون قبل بلا فصل والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وظاهر كلامهم أن سبحان هنا منصوب بفعل أمر محذوف فكأنه قيل : إذا علمتم ذلك أو إذا صح وأتضح حال الفريقين ومآلهما فسبحوا سبحان الله إلخ أي نزهوه تعالى تنزيهه اللائق به عزوجل في هذه الأوقات قال في الكشف : وفيه إشكال لأن سبحان الله لزم طريقة واحدة لا ينصبه فعل الأمر لأنه إنشاء من نوع آخر والجواب أن ذلك توضيح للمعنى وأن وقوعه جواب الشرط على مونال إن فعلت كذا فنعم ما فعلت فإنه إنشاء ايضا لكنه ناب مناب الخبر وأبلغ كذلك هو لإنشاء تنزيهه تعالى في الأوقات هربا من وبيل عقابه وطلبا لجزيل ثوابه والشرط والجواب مقول على ألسنة العباد إنتهى وفي حواشي شيخ زاده أن الأمر بل الجملة الإنشائية مطلقا لا يصح تعليقها بالشرط لأن الإنشاء إيقاع المعنى بلفظ يقارنه ولو جاز تعليقه للزم تأخره عن زمان التلفظ وأنه غير جائز وإنما المعلق بالشرط هو الإخبار عن إنشاء التمني والترجي وإنشاء المدح والذم والإستفهام ونحوها فإذا قلت : إن فعلت كذا غفر الله تعالى لك أو فنعم ما فعلت كان المعنى فقد فعلت ما تستحق بسببه أن يغفر الله تعالى لك أو أن تمدح بسببه إلا أن الجملة الإنشائية أقيمت مقامه للمبالغة للدلالة على أن الإستحقاق فمعنى الآية إذا كان الأمر كما تقرر فأنتم تسبحون الله تعالى في الأوقات المذكورة وهو في معنى الأمر بالتسبيح فيها إنتهى
ولعله أظهر مما في الكشف بل لا يظهر ما ذكر فيه من دعوى أن الشرط والجواب مقول على ألسنة العباد
ويوهم كلام بعضهم أن الكلام بتقدير القول حيث قال : كأنه قيل إذا صح وأتضح عاقبة المطيعين والعاصين فقولوا : نسبح سبحان إلخ والمعنى فسبحوه تسبيحا في الأوقات ولا يخفى ما فيه وكأني بك تمنع لزوم سبحان طريقة واحدة وهي التي ذكرت أولا ويجوز نصب فعل الأمر لها إذا أقتضاه المقام وأشعر به الكلام ولكن كأنك تميل إلى إعتبار كون الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى بأن يراد بها الأمر لتوافق جملة له الحمد فإنها وإن كانت خبرية إلا أن الإخبار بثبوت الحمد له تعالى ووجوبه على المميزين من أهل السموات والأرض كما يشعر به إتباع ذلك
(21/27)

ذكر الوعد والوعيد وتفريعه عليه بالفاء في معنى الأمر به على أبلغ وجه على ما صرح به بعض الأجلة فكأنه حينئذ قد قيل : فسبحوا الله تعالى تسبيحه اللائق به سبحانه في هذه الأوقات وأحمدوه وظاهر كلام الأكثرين أن جملة له الحمد إلخ معطوفة على الجملة التي قبلها وأن عشيا معطوف على حين تمسون بل هم صرحوا بهذا وعلى ما ذكر يكون جملة له الحمد فاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه وما أشبه الآية حينئذ بآية الوضوء على ما ذهب إليه أهل السنة وفي الكشاف أن عشيا متصل بقوله تعالى : حين تمسون وقوله تعالى : وله الحمد إلخ إعتراض بينهما ومعناه أن على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه
وإلى كون الجملة معترضة ذهب أبو البقاء أيضا وجعل قوله تعالى : في السموات حالا من الحمد وفي جواز مجيء الحال منه على إحتمال كونه مبتدأ وهو الظاهر خلاف ولعل من لا يجوز ذلك يجعل الجار متعلقا بالثبوت الذي تقتضيه النسبة والمراد بالتسبيح والحمد ظاهرهما على ما ذهب إليه جمع من الأجلة وقيل : المراد بالتسبيح الصلاة وأخرج عبدالرزاق والفريابي وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصحهه عن أبي رزين قال : جاء نافع بن الأزرق إلى إبن عباس فقال : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن فقال : نعم فقرأ فسبحان الله حين تمسون صلاة المغرب وحين تصبحون صلاة الصبح وعشيا صلاة العصر وحين تظهرون صلاة الظهر وقرأ ومن بعد صلاة العشاء وأخرج إبن أبي شيبة وإبن جرير وإبن المنذر عنه قال : جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر وحيت تظهرون الظهر وذهب الحسن إلى ذلك حتى أنه ذهب إلى أن الآية مدنية لما أنه يرى فرضية الخمس بالمدينة وأنه كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت أتفقت الصلاة فيه والصحيح أنها فرضت بمكة ويدل عليه حديث المعراج دلالة بينة
وأختار الإمام الرازي حمل التسبيح على التنزيه فقال : إنه أقوى والمصير إليه أولى لأنه يتضمن الصلاة وذلك لأن التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب وهو الإعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعا وهو العمل الصالح والأول هو الأصل والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني وذلك لأن الإنسان إذا أعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحوال أفعاله واللسان ترجمان الجنان والأركان برهان اللسان لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان وهي مشتملة على الذكر باللسان والقصد بالجنان فهو تنزيه في التحقيق فإذا قال سبحانه نزهوني وهذا نوع من أنواع التنزيه والأمر المطلق لا يختص بنوع دون نوع فيجب حمله على كل ما هو تنزيه فيكون هذا أمرا بالصلاة ثم إن قولنا يناسبه ما تقدم وذلك لأن الله تعالى لما بين أن المقام الأعلى والجزاء الأوفى لمن آمن وعمل الصالحات حيث قال عزوجل : فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون قال سبحانه : إذا علمتم أن ذلك المقام لمن آمن وعمل الصالحات والإيمان تنزيه بالجنان وتوحيد باللسان والعمل الصالح إستعمال الأركان فالكل تنزيهات وتحميدات فسبحان الله أي فأتوا بذلك الذي هو الموصل إلى الحبور في الرياض والحضور على الحياض وأنا بالإمام أقتدي في دعوى أولوية الحمل على الظاهر وأختار أيضا أن قوله تعالى : له الحمد إعتراض مؤكد بين المعطوف والمعطوف عليه مطلقا ومعناه على ما سمعت عن الكشاف أن على المميزين كلهم أن يحمدوه فإن حمل التسبيح على الصلاة فهو كلام يؤكد الوجوب لأن الحمد يتجوز به عن الصلاة كالتسبيح ووجه التأكيد دلالته على
(21/28)

أنه أمر عم المكلفين من أهل السموات والأرض وإن حمل على الظاهر فوجهه أن ذلك جار مجرى الإستدراك للأمر بالتسبيح ولما كان من واد واحد كان كل منهما مؤكدا للآخر فدل على دوام وجوب الحمد في الأوقات ووجوب التسبيح على أهل السموات والأرض وأما الدلالة على الوجوب فمن إتباع سبحان الله إلخ ذكر الوعد والوعيد بالفاء فإنه يفهم تعين ذلك طريقا للخلاص عن الدركات والوصول إلى الدرجات وما يتعين طريقا لذلك كان واجبا كذا في الكشف
وذكر الإمام أن في هذا الإعتراض لطيفة وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه قال جل وعلا : بين لهم إن تسبيحهم الله تعالى لنفعهم لا لنفع يعود إلى الله عزوجل فعليهم أن يحمدوا الله تعالى إذا سبحوه جل شأنه وهذا كما في قوله تعالى : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي أسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان
وجوز بعضهم كون عشيا معطوفا على قوله تعالى : في السموات ورد بأنه لا يعطف ظرف الزمان على المكان ولا عكسه وقيل : يحتمل أن يكون معطوفا على مقدر أي وله الحمد في السموات والأرض دائما وعشيا على أنه تخصيص بعد تعميم والجملة إعتراضية أو حالية وهو كما ترى وتخصيص الأوقات المذكورة بالذكر لظهور آثار القدرة والعظمة والرحمة فيها وقدم الإمساء على الإصباح لتقدم الليل والظلمة وقدم العشى على الإظهار لأنه بالنسبة إلى الإظهار كالإمساء بالنسبة إلى الإصباح وفي البحر قوبل بالعشي الإمساء وبالإظهار الإصباح لأن كلا منهما يعقب بما قابله فالعشي يعقبه الإمساء والإصباح يعقبه الإظهار وقال العلامة أبو السعود : إن تقديم عشيا على حين تظهرون لمراعاة الفواصل وليس بذاك وذكر الإمام أنه قدم الإمساء على الإصباح ههنا وأخر في قوله تعالى : سبحوه بكرة وأصيلا لأن أول الكلام ههنا ذكر الحشر والإعادة وكذا آخره والإمساء آخر فذكر الآخر أولا لتذكر الآخرة وتغيير الأسلوب في عشيا لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي كالمساء والصباح والظهيره ولعل السر في ذلك على ما قيل : إنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها كالأوقات المذكورة فإن كلا منها وقت يتغير فيه الأحوال تغيرا ظاهرا أما في المساء والصباح فظاهر وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة كما مرت إليه الإشارة في سورة النور هذا وفضل التسبيح والتحميد أظهر من أن يستدل عليه وذكروا في فضل ما تضمنته الآية عدة أخبار فأخرج الإمام أحمد وإبن جرير وإبن المنذر : وإبن أبي حاتم وإبن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني وإبن مردويه والبيهقي في الدعوات عن معاذ إبن أنس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ألا أخبركم لم سمي الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى لأنه يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون وأخرج أبو داؤد والطبراني وإبن السني وإبن مردويه عن إبن عباس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من قال حين يصبح سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى قوله تعالى : وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في يومه ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته إلى غير ذلك من الأخبار ولعل فيه تأييدا لكون فسبحان إلخ مقولا على ألسنة العباد فتأمل وقرأ عكرمة حينا تمسون وحينا تصبحون بتنوين حين فالجملة صفة حذف منها العائد والتقدير تمسون فيه وتصبحون فيه وعلى قراءة الجمهور الجملة مضاف إليها
(21/29)

ولا تقدير للضمير أصلا يخرج الحي من الميت الإنسان من النطفة ويخرج الميت من الحي النطفة من الإنسان وهو التفسير المأثور عن إبن عباس وإبن مسعود ولعل مرادهما التمثيل وعن مجاهد يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن وقيل : أي يعقب الحياة بالموت وبالعكس ويحيي الأرض بالنبات بعد موتها يبسها فالأحياء والموت مجازان وكذلك أي مثل ذلك الإخراج البديع الشأن تخرجون 91 من قبوركم وقرأ إبن وثاب وطلحة والأعمش تخرجون بفتح التاء وضم الراء وهذا على ما قيل نوع تفصيل لقوله تعالى : يبدأ الخلق ثم يعيده ومن آياته الباهرة الدالة على أنكم تبعثون دلالة أوضح من دلالة ما سبق فإن دلالة بدأ خلقهم على إعادتهم أظهر من دلالة إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي ومن دلالة إحياء الأرض بعد موتها عليها أن خلقكم أي في ضمن خلق آدم عليه السلام لما مر مرارا من أن خلقه عليه السلام منطو على خلق ذرياته إنطواء إجماليا من تراب لم يشم رائحة الحياة قط ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم وقيل : خلقهم من تراب لأنه تعالى خلق مادتهم منه فهو مجاز أو على تقدير مضاف ثم إذا أنتم بشر تنطقون 02 أي في الأرض تتصرفون في أغراضكم وأسفاركم وإذا فجائية و ثم على ما ذهب إليه أبو حيان للتراخي الحقيقي لما بين الخلق والإنتشار من المدة وقال العلامة الطيبيب : إنها للتراخي الرتبي لأن المفاجأة تأبى الحقيقة ورد بأنه لا مانع من أن يفاجيء أحدا أمر بعد مضي مدة من أمر آخر أو أحدهما حقيقي والآخر عرفي وتعقب بأنه على تسليم صحته يأباه الذوق فإنه كالجمع بين الضب والنون فما ذكره الطيبي أنسب بالنظم القرآني والظاهر أن الجملة معطوفة عل ىالمبتدأ قبلها وهي بتأويل مفرد كأنه قيل : ومن آياته خلقكم من تراب ثم مفاجأتكم وقت كونكم بشرا منتشرين كذا قيل وفي وقوع الجملة مبتدأ بمثل هذا التأويل نظر إلا أن يقال : إنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ويتخيل من كلام بعضهم أن العطف على خلقكم بحسب المعنى حيث قال : أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين ويفهم من كلام صاحب الكشف في نظير الآية أعنى قوله تعالى الآتي : ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون أنه أقيمت الجملة مقام المفرد من حيث المعنى لأنها تفيد فائدته والكلام على أسلوب مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا لأنه في معنى وأمن داخله وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم وفائدة هذا الأسلوب الإشعار بأن ذلك آية خارجة من جنس الآيات مستقلة بشأنها مقصودة بذاتها فتأمل ومن آياته الدالة على البعث أيضا أن خلق لكم أي لأجلكم من أنفسكم أزواجا فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم عليه السلام متضمن لخلقهن من أنفسكم على ما عرفت من التحقيقفمن تبعيضية والأنفس بمعناها الحقيقي ويجوز أن تكون من إبتدائية والأنفس مجاز عن الجنس أي خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر قيل : وهو الأوفق بقوله تعالى : لتسكنوا إليها أي لتميلوا إليها يقال : سكن إليه إذا مال فإن المجانسة من دواعي النظام والتعارف كما أن
(21/30)

المخالفة من أسباب التفرق والتنافر وجعل بينكم أي بين الأزواج أما على تغليب الرجال على النساء في الخطاب أو على حذف ظرف معطوف عل ىالظرف المذكور أي جعل بينكم وبينهن كما في قوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله وقيل : بين أفراد الجنس أو بين الرجال والنساء وتعقب بأنه ياباه قوله تعالى : مودة ورحمة فإن المراد بهما ما كان منهما بعصمة الزواج قطعا أي جعل بينكم بالزواج الذي شرعه لكم توادا وترحما من غير أن يكون بينكم سابقة معرفة ولا مرابطة مصححة للتعاطف من قرابة أو رحم قيل : المودة والرحمة من الله تعالى والفرك وهو بغض أحد الزوجين الآخر من الشيطان
وقال الحسن ومجاهد وعكرمة المودة كناية عن النكاح والرحمة كناية عن الولد وكون المودة بمعنى المحبة كناية عن النكاح أي الجماع للزومها له ظاهر وأما كون الرحمة كناية عن الولد للزومها له فلا يخلو عن بعد وقيل : مودة للشابة ورحمة للعجوز وقيل : مودة للكبير ورحمة للصغير وقيل : هما إشتباك الرحم والكل كما ترى إن في ذلك أي فيما ذكر من خلقهم من تراب وخلق أزواجهم من أنفسهم وإلقاء المودة والرحمة فهو إشارة إلى جميع ما تقدم وقيل : إلى ما قبله وليس بذاك وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للأشعار ببعد منزلته لآيات عظيمة لا يكتنه كنهها كثيرة لا يقادر قدرها لقوم يتفكرون 12 في تضاعيف تلك الأفاعيل المبنية على الحكم والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله مع التنبيه على أن ما ذكر ليس بآية فذة بل هي مشتملة على آيات شتى وإنها تحتاج إلى تفكر كما تؤذن بذلك الفاصلة وذكر الطيبي أنه لما كان القصد من خلق الأزواج والسكون إليها وإلقاء المحبة بين الزوجين ليس مجرد قضاء الشهوة التي يشترك بها البهائم بل تكثير النسل وبقاء نوع المتفكرين الذين يؤديهم الفكر إلى المعرفة والعبادة التي ما خلقت السموات والأرض إلا لها ناسب كون المتفكرين فاصلة هنا ومن آياته خلق السموات والأرض وإختلاف ألسنتكم أي لغاتكم بأن علم سبحانه كل صنف لغته أو ألهمه جل وعلا وضعها وأقدره عليها فصار بعض يتكلم بالعربية وبعض بالفارسية وبعض بالرومية إلى غير ذلك مما الله تعالى أعلم بكميته وعن وهب أن الألسنة إثنان وسبعون لسانا في ولد حام سبعة عشر وفي ولد سام تسعة عشر وفي ولد يافث ستة وثلاثون وجوز أن يراد بالألسنة أجناس النطق وأشكاله فقد أختلف ذلك إختلافا كثيرا فلا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية من كل وجه ولعل هذا أولى مما تقدم والإمام حكى الوجه الأول وقدم عليه ما هو ظاهر في أن المراد بالألسنة الأصوات والنغم ونص على أنه أصح من المحكي وألوانكم بياض الجلد وسواده وتوسط فيما بينهما أو تصوير الأعضاء وهيئاتها وألوانها وحلاها بحيث وقع التمايز بين الأشخاص حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة وإن كانا في غاية التشابه فالألوان بمعنى الضروب والأنواع كما يقال : ألوان الحديث وألوان الطعام وهذا التفسير أعم من الأول وإنما نظم إختلاف الألسنة والألوان في سلك الآيات الآفاقية من خلق السموات والأرض مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالإنتظام في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم للإيذان بإستقلاله والإحتراز عن توهم كونه من متممات خلقهم إن في ذلك أي فيما ذكر من خلق السموات والأرض وإختلاف الألسنة والألوان لآيات عظيمة كثيرة للعالمين 22
(21/31)

أي المتصفين بالعلم كما في قوله تعالى : وما يعقلها إلا العالمون وقرأ الكثير العالمين بفتح اللام وفيه دلالة على وضوح الآيات وعدم خفائها على أحد من الخلق كافة ومن آياته منامكم أي نومكم بالليل والنهار لإستراحة القوى النفسانية وتقوى القوى الطبيعية وإبتغاؤكم أي طلبكم من فضله اي بالليل والنهار وحذف ذلك لدلالة ما قيل عليه ونظيره قوله : عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ومقتلهم عند الوغى كان أغدرا فإنه أراد يقتلون نفوسهم عند السلم وحذف لدلالة الوغى في الشطر الثاني عليه والنوم بالليل والإبتغاء من الفضل أي الكسب بالنهار أمران معتادان وأما النوم بالنهار فكتوم القيلولة وأما الكسب بالليل فكما يقع من بعض المكتسبين وأهل الحرف من السعي والعمل ليلا لا سيما في أطول الليالي وعدم وفاء نهارهم بأغراضهم ومن ذلك حراسه الحوانيت بالأجرة وكذا قطع البراري في الأسفار ليلا للتجارة ونحوها وقال الزمخشري : وهذا من باب اللف وترتيبه ومن آياته منامكم وإبتغاؤكم من فضله بالليل والنهار إلا أنه فصل بين الفريقين الأولين أعني منامكم وإبتغاؤكم بالقرينين الآخرين أعني الليل والنهار لأنهما ظرفان والظرف والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة على الإتحاد وهو الوجه الظاهر لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دل عليه القرآن إنتهى والظاهر أنه أراد باللف الإصطلاحي ولا يابى ذلك توسيط الليل لأنهما في نية التأخير وإنما وسطا للإهتمام بشأنهما لأنهما من الآيات في الحقيقة لا المنام والإبتغاء على ما حققه في الكشف مع تضمن توسيطهما مجاورة كل لما وقع فيه فالجار والمجرور قيل حال مقدمة من تأخير أي كائنين بالليل والنهار وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي وذلك بالليل والنهار والجملة في النظم الكريم معترضة وعلى كلا القولين لا يرد على الزمخشري لزوم كون النهار معمولا للإبتغاء مع تقدمه عليه وعطفه على معمول منامكم وفي إقتران الفضل بالإبتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه جل وعلا
إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون 32 أي شأنهم أن يسمعوا الكلام سماع تفهم وإستبصار وفيه إشارة إلى ظهور الأمر بحيث يكفي فيه مجرد السماع لمن له فهم وبصيرة ولا يحتاج إلى مشاهدة وإن كان مشاهدا
وقال الطيبي : جيء بالفاصلة هكذا لأن أكثر الناس منسدحون بالليل كالأموات ومترددون بالنهار كالبهائم لا يدرون فيم هم ولم ذلك لكن من ألقى السمع وهو شهيد يتنبه لوعظ الله تعالى ويصغى إليه لأن مر الليالي وكر النهار يناديان بلسان الحال الرحيل الرحيل من دار الغرور إلى دار القرار كما قال تعالى : وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا وذكر الإمام أن من الأشياء ما يحتاج في معرفته إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهم إذا سمع من ذلك المرشد ولما كان المنام والإبتغاء قد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد فيحتاج معرفة أنهما من آياته تعالى إلى مرشد يعين الفكر قيل : لقوم يسمعون فكأنه قيل : لقوم يسمعون ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد إنتهى ولعل الإحتياج إلى مرشد يعين الفكر في أن الليل والنهار من الآيات بناء على ما سمعت في بيان نكتة التوسيط أظهر فتأمل ومن آياته يريكم البرق ذهب أبو علي إلى أنه بتقدير أن المصدرية والأصل أن يريكم فحذف أن وأرتفع الفعل وهو الشائع بعد الحذف في مثل ذلك وشذ بقاؤه منصوبا بعده وقد روى بالوجهين قول طرفة :
(21/32)

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي وجوز كونه مما نزل فيه الفعل منزلة المصدر فلا نقدر أن بل الفعل مستعمل في جزء معناه وهو الحدث مقطوع فيه النظر عن الزمان فيكون أسما في صورة الفعل فيريكم بمعنى الرؤية وحمل على ذلك في المشهور قولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وجوز فيه أن يكون مما حذف فيه أن وأيد بأنه روى فيه تسمع بالنصب أيضا ولم يرتضه بعض الأجلة لأن المعنى ليس على الإستقبال وأما أن تراه فالإستقبال فيه بالنسبة إلى السماع فلا ينافيه ومثله قوله : فقالوا ما تشاء فقلت الهو إلى الأصباح آر ذي أثير ورجح الحمل على التنزيل منزلة اللازم دلالة على أنه كالحال إهتماما بشأن المراد لقوله : آثر ذي أثير والتعليل بأن ما تشاء سؤال عما يشاؤه في الحال وأن للإستقبال ليس بالوجه لأن المشيئة تتعلق بالمستقبل أبدا وقال الجامع الأصفهاني : تقدير الآية ومن آياته آية يريكم البرق على أن يريكم صفة وحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه كما في قوله : وما الدر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح أي فمنهما تارة أموت قيل فلا بد من راجع فقدر فيها أو بها ونص على الثاني الرماني كما في البحر وكلاهما لا يسدكما في الكشفعليه المعنى وقيل : التقدير ومن آياته البرق قم أستؤنف يريكم البرق وقيل : من آياته حال من البرق أي يريكم البرق حال كونه من آياته وجوز أبو حيان تعلقه بيريكم و من لإبتداء الغاية وفيه مخالفة لنظرائه
وفي الكشف لعل الأوجه أن يكون من آياته خبر مبتدأ محذوف أي من آياته ما يذكر أو ما يتلى عليكم ثم قيل : يريكم البرق بيانا لذلك ثم قال : وهذا أقل تكلفا من الكل وأنت تعلم أن الأوجه ما توافق الآية به نظائرها
خوفا أي من الصواعق وطمعا في المطر قاله الضحاك وقال قتادة : خوفا للمسافر لأنه علامة المطر وهو يضره لعدم ما يكنه ولا نفع له فيه وطمعا للمقيم وقيل : خوفا أن يكون خلبا وطمعا أن يكون ماطرا وقال إبن سلام : خوفا من البرد أن يهلك الزرع وطمعا في المطر ونصبهما على العلة عند الزجاج وهو على مذهب من لا يشترط في نصب المفعول له إتحاد المصدر والفعل المعلل في الفاعل ظاهر وأما على مذهب الأكثرين المشترطين لذلك فقيل في توجيهه : إن ذلك على تقدير مضاف أي إرادة خوف وطمع أو على تأويل الخوف والطمع بالإخافة والإطماع إما بأن يجعل أصلهما ذلك على حذف الزوائد أو بأن يجعلا مجازين عن سببيهما
وقيل : إن ذلك لأن إرادتهم تستلزم رؤيتهم فالمفعولون فاعلون في المعنى فكأنه قيل : لجعلكم رائين خوفا وطمعا
وأعترض بأن الخوف والطمع ليسا غرضين للرؤية ولا داعيين لها بل يتبعانها فكيف يكونان علة على فرض الأكتفاء بمثل ذلك عند المشترطين ووجه بأنه ليس المراد بالرؤية مجرد وقوع البصر بل الرؤية القصدية بالتوجه والإلتفات فهو مثل قعدت عن الحرب جبنا ولم يرتض ذلك أبو حيان أيضا ثم قال : لو قيل على مذهب المشترطين أن التقدير يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا فحذف العامل للدلالة عليه لكان إعرابا سائغا وقيل : لعل الأظهر
(21/33)

نصبهما على العلة للإراءة لوجود المقارنة والإتحاد في الفاعل فإن الله تعالى هو خالق الخوف والطمع وكون معنى قول النحاة لا بد أن يكون المفعول له فعل الفاعل أنه لا بد من كونه متصفا به كالإكرام في قولك : جئتك إكراما لك أن سلم فلا حجر من الإنتصاب على التشبيه في المقارنة والإتحاد المذكور
وتعقب بأن يكون المعنى ما ذكر مما لا شبهة فيه وقد ذكره صاحب الإنتصاف وغيره فإن الفاعل اللغوي غير الفاعل الحقيقي فالتوقف فيه وإدعاء أنه لا حجر من الإنتصاب على التشبيه مما لا وجه له وأنا أميل إلى عدم إشتراط الإتحاد في الفاعل لكثرة النصب مع عدم الإتحاد كما يشهد بذلك التتبع والرجوع إلى شرح الكافية للرضى والتأويل مع الكثرة مما لا موجب له وجوز أن يكون النصب هنا عل ىالمصدر أي تخافون خوفا وتطمعون طمعا على أن تكون الجملة حالا وأولى منه أن يكونا نصبا عل ىالحال أي خائفين وطامعين
وينزل من السماء ماء وقرأ غير واحد بالتخفيف فيحيي به أي بسبب الماء الأرض بأن يخرج سبحانه به النبات بعد موتها يبسها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون 42 يستعملون عقولهم في إستنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع جل شأنه وحكمته سبحانه وقال الطيبي : لما كان ما ذكر تمثيلا لأحياء الناس وإخراج الموتى وكان التمثيل لأدناء المتوهم المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة لقوم يعقلون
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره
أي بقوله تعالى قوما أو بإرادته عزوجل والتعبير عنها بالأمر للدلالة على كمال القدرة والغنى عن المبادي والأسباب وليس المراد بإقامتهما إنشاءهما لأنه قد بين حاله بقوله تعالى : ومن آياته خلق السموات والأرض ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس كما قيل فإن ذلك من تتمات إنشائهما وإن لم يصرح به تعويلا على ما ذكر في موضع آخر من قوله تعالى : خلق السموات بغير عمد ترونها الآية بل قيامهما وبقاؤهما على ما هما عليه إلى أجلهما الذي أشير إليه بقوله تعالى فيما قيل : ما خلق الله السموات والازض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى
ولما كان البقاء مستقبلا بإعتبار أواخره وما بعد نزول هذه الآية أظهرت هنا كلمة أن التي هي علم في الإستقبال والإمام ذهب إلى أن القيام بمعنى الوقوف وعدم النزول ثم قال على ما لخصه بعضهم : ذكرت أن ههنا دون قوله تعالى : ومن آياته يريكم البرق لأن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعلبأن العلم في الإستقبال وجعل مصدرا ليدل على الثبوت وإراءة البرق لما كانت من الأمور المتجددة جيء بلفظ المستقبل ولم يذكر معه ما يدل على المصدر ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون 52 إذ الأولى شرطية والثانية فجائية نائبة مناب الفاء في الجزاء لإشتراكهما في التعقيب والجملة الشرطية قيل : معطوفة على أن تقوم على تأويل مفرد كأنه قيل : ومن آياته قيام السماء والأرض بأمره ثم خروجكم من قبوركم بسرعة إذا دعاكم وصاحب الكشف يقول : إنها أقيمت مقام المفرد من حيث المعنى وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى : ومن آياته أن تقوم وذلك على أسلوب مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا وفائدته ما سمعته قريبا وظاهر كلام بعض الأفاضل أن العطف عليه ظاهر في عدم قصد عد ما ذكر آية وأختار أبو السعود عليه الرحمة كون العطف من عطف الجمل وأن المذكور ليس من الآيات قال : حيث كانت آية قيام السماء والأرض بأمره تعالى متأخرة عن سائر الآيات المعدودة متصلة
(21/34)

بالبعث في الوجود أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا فقيل : ثم إذا دعاكم الآية والكلام مسوق للأخبار بوقوع البعث ووجوده بعد إنقضاء أجل قيامهما مترتب على تعدد آياته تعالى الدالة عليه غير منتظم في سلكها كما قيل كأنه قيل : ومن آياته قيام السماء والأرض على هيئتهما بأمره عزوجل إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما ثم إذا دعاكم أي بعد إنقضاء الأجل في الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال سبحانه : أيها الموتى أخرجوا فجأتم الخروج منها ولعل ما أشار إليه صاحب الكشف أدق وأبعد مغزى فتأمل ومن الأرض متعلق بدعا و من لإبتداء الغاية ويكفي في ذلك إذا كان الداعي هو الله تعالى نفسه لا الملك بأمره سبحانه كون المدعو فيها يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلى لا بدعوة فإنه إذا جاء نهر الله جل وعلا بطل نهر معقل نعم جوز كون ذلك صفة لها وأن يكون حالا من الضمير المنصوب ولا بتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها وقال إبن عطية : إن من عندي لإنتهاء الغاية وأثبت ذلك سيبويه وقال أبو حيان : إنه قول مردود عند أصحابنا وظواهر الأخبار أن الموتى يدعون حقيقة للخروج من القبور وقيل : المراد تشبيه ترتب حصول الخروج على تعلق إرادته بلا توقف وإحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابه الداعي المطاع على دعائه ففي الكلام إستعارة تمثيلية أو تخييلية ومكنية بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم متهيئين لذلك وإثبات الدعوة لهم قرينتها أو هي تصريحية تبعية في قوله تعالى : دعاكم إلى آخرها وثم أما للتراخي الزماني أو للتراخي الرتبي والمراد عظم ما في المعطوف من إحياء الموتى في نفسه وبالنسبة إلى المعطوف عليه فلا ينافي قوله تعالى الآتي : وهو أهون عليه وكونه أعظم من قيام السماء والأرض لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء وبه إستقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات وهو المقصود من خلق الأرض والسموات فأندفع ما قاله إبن المنير من أن مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا مع إن كون المعطوف في مثله أرفع درجة أكثري لا كلي كلما صرح به الطيبي فلا مانع من إعتبار التراخي الرتبي لو لم يكن المعطوف أرفع درجة ويجوز حمل التراخي على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي
وقرأ السبعة ما عدا حمزة والكسائي تخرجون بضم التاء وفتح الراء : وهذه الآية ذكر أنها مما تقرأ على المصاب أخرج إبن أبي حاتم عن الأزهر بن عبدالله الجرازي قال : يقرأ عل ىالمصاب إذا أخذ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون وذكر الإمام وأبو حيان في وجه ترتيب الآيات وتذييل كل منهما بما ذيل كلاما طويلا إن أحتجته فأرجع إليه
وله عزوجل خاصة كل من في السموات والأرض من الملائكة والثقلين خلقا وملكا وتصرفا ليس لغيره سبحانه شركة في ذلك بوجه من الوجوه كل له لا لغيره جل وعلا قانتون 62 منقادون لفعله لا يمتنعون عليه جل شأنه في شأن من الشؤون وإن لم ينقد بعضهم لأمره سبحانه فالمراد طاعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة وهذا حاصل ما روى عن إبن عباس وقال الحسن : قانتون قائمون بالشهادة على وحدانيته تعالى كما قال الشاعر : وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
(21/35)

وقال إبن جبير : قانتون مخلصون وقيل : مقرون بالعبودية وعليهما ليس العموم على ظاهره وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده بعد الموت والتكرير لزيادة التقرير لشدة إنكارهم البعث والتمهيد لما بعده من قوله تعالى : وهو أهون عليه الضمير المرفوع للإعادة وتذكيره لرعاية الخبر أو لأنها مؤولة بأن والفعل وهو في حكم المصدر المذكر أو لتأويلها بالبعث ونحوه وكونه راجعا إلى مصدر مفهوم من يعيد وهو لم يذكر بلفظ الإعادة لا يفيد على ما قيل لأنه آشتهر به فكأنه إذا فهم منه يلاحظ فيه خصوص لفظه والضمير المجرور لله تعالى شأنه و أهون للتفضيل أي والإعادة أسهل على الله تعالى من المبدأ والأسهلية على طريقة التمثيل بالنسبة لما يفعله البشر مما يقدرون عليه فإن إعادة شيء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده إبتداء والمراد التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث وإلا فكل الممكنات بالنسبة إلى قدرته تعالى عزوجل سواء فكأنه قيل : وهو أهون عليه بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم
وذكر الزمخشري وجها آخر للتفضيل وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد من فعله لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب والأفعال أما محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور وأما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة وأما تفضل والتفضل حاله بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله وأما واجب لا بد من فعله ولا سبيل إلى الإخلال به فكان الواجب أبعد الأفعال من الإمتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الإمتناع وإذا كانت أبعدها منه كانت أدخلها في التأني والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت كذلك كانت أهون من الإنشاء قال في التقريب : وفيه نظر لأنه مبني على الوجوب العقلي ولأن الوجوب إذا كان بالذات نافي القدرة كالإمتناع وإلا كان ممكنا فتساوى الفعلان لإشتراكهما في مصحح المقدوية وهو الإمكان
وتعقبه الكشف بقوله أقول : إنه غير واجب بالذات ولا يلزم منه المساواة مع التفضل في سهولة التأتي وأما المساواة في مصحح المقدورية فلا مدخل لها فيما نحن فيه والحاصل منه أنه لو سلم منه أن الداعي إلى فعله أقوى فلا شك أنه أقرب إلى الوجود مما لا يكون الداعي كذلك نعم إذا خلص الداعي إلى القسمين صارا سواء وليس البحث على ذلك التقدير
والحق ما قاله أبو السعود من أنه ليس المراد بأهونية الفعل أقربيته إلى الوجود بإعتبار كثرة الأمور الداعية للفاعل إلى إيجاده وقوة إقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتيه وصدوره عنه عند تعلق قدرته بوجوده وكونه واجبا بالغير ولا تفاوت في ذلك بين أن يكون ذلك التعلق بطريق الإيجاب أو بطريق الإختيار وروى الزجاج عن أبي عبيدة وكثير من أهل اللغة أن أهون ههنا بمعنى هين وروى ذلك عن إبن عباس والربيع وكذا هو في مصحف عبدالله وهذا كما يقال : الله تعالى أكبر أي كبير وأنت أوحد الناس أي واحدهم وإني لأوجل أي وجل وفي الكشف التحقيق أنه من باب الزيادة المطلقة وإنما قيل بمعنى الهين لأنه يؤدي مؤداه وقيل : أفعل على ظاهره وضمير عليه عائد عل ىالخلق على معنى أن الإعادة أيسر على المخلوق لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنسانا والإعادة لا تحتاج إلى التدريجات في الأطوار إنما يدعوه الله تعالى فيخرج
(21/36)

وأما على معنى أن الإعادة أسهل على المخلوق أي أن يعيدوا شيئا ويفعلوه ثانيا بعد ما زاولوا فعله وعرفوه ولا أسهل من أن يفعلوه أولا قبل المزاولة وإذا كان هذا حال المخلوق فما بالك بالخالق ولا يخفى أن الظاهر رجوع الضمير إليه تعالى ثم إن الجار والمجرور صلة أهون وقدمت الصلة في قوله تعالى : وهو علي هين وأخرت هنا لأنه قصد هنالك الإختصاص وهو محزه فقيل هو علي هين وإن كان صعبا عندكم أن يولد بين هم وعاقر وأما ههنا فلا معنى للإختصاص كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الإبتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى ولما أخبر سبحانه بأن الإعادة أهون عليه على طريق التمثيل عقب ذلك بقوله تعالى : وله تعالى شأنه خاصة المثل أي الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة وسائر صفات الكمال الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فضلا عما يساويه فكأنه قيل هذا لتفهيم العقول القاصرة إذ صفاته تعالى عجيبة وقدرته جل شأنه عامة وحكمته سبحانه تامة فكل شيء بدأ وإعادة وإيجادا وإعداما على حد سواء ولا مثل له تعالى ولاند وعن قتادة ومجاهد أن المثل الأعلى لا إله إلا الله ولعلهما أرادا بذلك الوحدانية في ذاته تعالى وصفاته سبحانه والكلام عليه مرتبط بما قبله أيضا كأنه قيل : ما ذكر لتفهيم العقول القاصرة لأنه تعالى لا يشاركه أحد في ذاته تعالى وصفاته عزوجل وقيل : مرتبط بما بعده من قوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم وقال الزجاج : المثل قوله تعالى : هو أهون عليه قد ضربه الله تعالى مثلا فيما يسهل ويصعب عندكم وينقاس على أصولكم فاللام في المثل للعهد وهو محمول على ظاهره غير مستعار للوصف العجيب الشأن في السموات والأرض متعلق بمضمون الجملة المتقدمة على معنى أنه سبحانه قد وصف بذلك وعرف به فيهما على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل وقيل : بالأعلى وقيل : بمحذوف هو حال منه أو من المثل أو من ضميره في الأعلى وقيل : متعلق بما تعلق به له أي له في السموات والأرض المثل الأعلى والمراد أن دلالة خلقهما على عظيم القدرة أتم من دلالة الإنشاء فهو أدل على جواز الإعادة ولهذا جعل أعلى من الإنشاء فتأمل وهو العزيز القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن وإعادته الحكيم 72 الذي يجري الأفعال على سنن الحكمة والمصلحة ضرب لكم مثلا يتبين به بطلان الشرك من أنفسكم أي منتزعا من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم وأظهرها دلالة على ما ذكر من بطلان الشرك لكونها بطريق الأولوية و من لإبتداء الغاية وقوله تعالى : هل لكم إلى آخره تصوير للمثل والإستفهام إنكاري بمعنى النفي و لكم خبر مقدم وقوله تعالى : من ما ملكت أيمانكم في موضع الحال من شركاء بعد لأنه نعت نكرة تقدم عليها والعامل فيها كما في البحر هو العامل في الجار والمجرور الواقع خبرا و من للتبعيض و ما واقعة على النوع وقوله تعالى : من شركاء مبتدأ و من مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من الإستفهام وقوله تعالى : في ما رزقناكم متعلق بشركاء أي هل شركاء فيما رزقناكم من الأموال وما يجري مجراها مما تنصرفون فيه كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم من نوع العبيد والأماء كائنون لكم
وجوز أن يكون لكم متعلقا بشركاء ويكون فيما رزقناكم في موضع الخبر كما تقول لزيد في المدينة
(21/37)

مبغض فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ وفي المدينة الخبر أي هل شركاء لكم كائنون مما ملكته أيمانكم كائنون فيما رزقناكم وقوله تعالى : فأنتم فيه سواء جملة في موضع الجواب للإستفهام الأنكاري وفيه متعلق بسواء وفي الكلام محذوف معطوف على أنتم أي فأنتم وهم أي المماليك مستوون فيه لا فرق بينكم وبينهم في التصرف فيه وقيل : لا حذف وأنتم شامل للمماليك بطريق التغليب وقوله تعالى : تخافونهم خبر آخر لأنتم وقال أبو البقاء : حال من ضمير أنتم الفاعل في سواء وقوله تعالى : كخيفتكم أنفسكم في موضع الصفة لمصدر محذوف أي تخافونهم أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم يعني الأحرار المساهمين لكم والمقصود نفي مضمون ما فصل من الجملة الإستفهامية أي لا ترضون بأن يشارككم فيما رزقناكم من الأموال ونحوها مماليككم وهم أمثالكم في البشرية غير مخلوقين لكم بل لله تعالى فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية التي هي من خصائصه تعالى الذاتية مخلوقه سبحانه بل مصنوع مخلوقه جل وعلا حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه
وقرأ إبن أبي عبلة أنفسكم بالرفع على أن المصدر مضاف للمفعول وأنفسكم فاعله قال أبو حيان : وهو وجه حسن ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل كذلك أي مثل ذلك التفصيل الواضح نفصل الآيات أي نبينها ونوضحها لا تفصيلا أدنى منه فإن التمثيل تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحسوس وإبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس فيكون في غاية الإيضاح والبيان
لقوم يعقلون 82 أي يستعملون عقولهم في تدبير الأمثال وقيل : في تدبير الأمور مطلقا ويدخل في ذلك الأمثال دخولا أوليا وخصهم بالذكر مع عموم تفصيل الآيات للكل لأنهم المنتفعون بها وذكر العلامة الطيبي أنه لما كان ضرب الأمثال لأدناء المتوهم إلى المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة لقوم يعقلون وهذه النكتة هنا أظهر منها فيما تقدم فتذكر
وقرأ عباس عن أبي عمرو يفصل بياء الغيبة رعيا لضرب إذ هو مسند لما يعود للغائب وقراءة الجمهور بالنون للحمل على رزقناكم وذكر بعض العلماء إن في هذه الآية دليلا على صحة أصل الشركة بين المخلوقين لإفتقار بعضهم إلى بعض كأنه قيل : الممتنع المستقبح شركة العبيد لساداتهم أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا تمتنع ولا تستقبح بل أتبع الذين ظلموا إعراض عن مخاطبتهم ومحاولة إرشادهم إلى الحق بضرب المثل وتفصيل الآيات وإستعمال المقدمات الحقة المعقولة وبيان لإستحالة تبعيتهم للحق كأنه قيل : لم يعقلوا شيئا من الآيات المفصلة بل أتبعوا أهواءهم الزائغة ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم في ذلك الإتباع ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه أو ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بغير علم أي جاهلين ببطلان ما أتوا منكبين عليه لا يصرفهم عنه صارف حسبما يصرف العالم إذا أتبع الباطل علمه ببطلانه فمن يهدي من أضل الله أي خلق فيه الضلال وجعله كاسبا له بإختياره وما لهم أي لمن أضله الله تعالى والجمع بإعتبار المعنى من ناصرين 92 يخلصونهم من الضلال
(21/38)

ويحفظونهم من تبعاته وآفاته على معنى ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور في مقابلة الجمع بالجمع ومن مزيدة لتأكيد النفي والكلام مسوق لتسلية رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وتوطئة لأمره عليه الصلاة و السلام بقوله سبحانه : فأقم وجهك للدين حنيفا قال العلامة الطيبي : إنه تعالى عقيب ما عدد الآيات البينات والشواهد الدالة على الوحدانية ونفي الشرك وإثبات القول بالمعاد وضرب سبحانه المثل وقال سبحانه : كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون أراد جل شأنه أن يسلي حبيبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه ويوطنه على اليأس من إيمانهم فأضرب تعالى عن ذلك وقال سبحانه : بل أتبع الذين ظلموا أهواءهم وجعل السبب في ذلك أنه عزوجل ما أراد هدايتهم وأنه مختوم على قلوبهم ولذلك رتب عليه قوله تعالى : فمن يهدي من أضل الله على التقريع والإنكار ثم ذيل سبحانه الكل بقوله تعالى : وما لهم من ناصرين يعني إذا أراد الله تعالى منهم ذلك فلا مخلص لهم منه ولا أحد ينقذهم لا أنت ولا غيرك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فأهتم بخاصة نفسك ومن تبعك وأقم وجهك إلخ ومنه يعلم حال الفاء في قوله تعالى : فمن وكذا في قوله سبحانه : فأقم وقدر النيسابوري للثانية إذا تبين الحق وظهرت الوحدانية فأقم إلخ ولعل ما أشار إليه الطيبي أولى ثم إنه يلوح من كلامه إحتمال أن يكون الموصول قائما مقام ضمير الذين ظلموا فتدبر
وأقم من أقام العود ويقال قوم العود أيضا إذا عدله والمراد الأمر بالإقبال على دين الإسلام والإستقامة والثبات عليه والإهتمام بترتيب أسبابه على أن الكلام تمثيل لذلك فإن من أهتم بشيء محسوس بالبصر عقد إليه طرفه وسدد إليه نظره وأقبل عليه بوجه غير ملتفت عنه فكأنه قيل : فعدل وجهك للدين واقبل عليه إقبالا كاملا غير ملتفت يمينا وشمالا وقال بعض الأجلة : إن إقامة الوجه للشيء كناية عن كمال الإهتمام به ولعله أراد بالكناية المجاز المتفرع على الكناية فإنه لا يشترط فيه إمكان إرادة المعنى الحقيقي ونصب حنيفا على الحال من الضمير في أقم أو من الدين وجوز أبو حيان كونه حالا من الوجه وأصل الحنف الميل من الضلال إلى الإستقامة وضده الجنف بالجيم فطرت الله نصب على الإغراء أي ألزموا فطرة الله تعالى ومن أجاز إضمار أسماء الأفعال جوز أن يقدر هنا عليكم أسم فعل وقال مكي : هو نصب بإضمار فعل أي أتبع فطرة الله ودل عليه قوله تعالى : فأقم وجهك للدين لأن معناه أتبع الدين وأختاره الطيبي وقال : إنه أقرب في تأليف النظم لأنه موافق لقوله تعالى : بل أتبع الذين ظلموا أهواءهم ولترتب قوله تعالى : فأقم وجهك عليه بالفاء
وجوز أن يكون نصبا بإضمار أعني وأن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف دل عليه ما بعد أي فطركم فطرة الله ولا يصح عمل فطر المذكور بعد فيه لأنه من صفته وأن يكون منصوبا بما دل عليه الجملة السابقة على أنه مصدر مؤكد لنفسه وأن يكون بدلا من حنيفا والمتبادر إلى الذهن النصب على الإغراء وإضمار الفعل على خطاب الجماعة مع أن المتقدم فأقم هو ما أختاره الزمخشري ليطابق قوله تعالى : منيبين إليه وجعله حالا من ضمير الجماعة المسند إليه الفعل وجعل قوله تعالى : وأتقوه وأقيموا ولا تكونوا معطوفا على ذلك الفعل
وقال الطيبي : بعد ما أختار تقدير أتبع ورجحه بما سمعت : وأما قوله تعالى : منيبين فهو حال من الضمير في أقم وإنما جمع لأنه مردد على المعنى لأن الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو خطاب لامته
(21/39)

فكأنه قيل : أقيموا وجوهكم منيبين
وقال الفراء : أي أقم وجهك ومن أتبعك كقوله تعالى : فأستقم كما أمرت ومن تاب معك فلذلك قال سبحانه : منيبين وفي المرشد أن منيبين متعلق بمضمر أي كونوا منيبين لقوله تعالى بعد : ولا تكونوا من المشركين ولا يخفى على المنصف حسن كلام الزمخشري وما ذكر من أن خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم خطاب الأمة يؤكد الدلالة وعلى ذلك المضمر لا أنه يجوز أن يكون منيبين حالا من الضمير في أقم وظاهر كلام الفراء يقتضي كون الحال من مذكور ومحذوف وهو قليل في الكلام وإضمار كونوا مع إضمار فعل ناصب لفطرة الله موجب لكثرة الإضمار وإضماره دون إضمار فيما قبل موجب لإرتكاب خلاف المتبادر هناك والفطرة على ما قال إبن الأثير للحالة كالجلسة والركبة من الفطر بمعنى الإبتداء والإختراع وفسرها الكثير هنا بقابلية الحق والتهيء لإدراكه وقالوا : معنى لزومها الجريان على موجبها وعدم الإخلال به بإتباع الهوى وتسويل شياطين الإنس والجن ووصفها بقوله تعالى : ألتي فطر الناس عليها لتأكيد وجوب إمتثال الأمر وعن عكرمة تفسيرها بدين الإسلام
وفي الخبر ما يدل عليه أخرج إبن مردويه عن حماد بن عمر الصفار قال : سألت قتادة عن قوله تعالى : فطرة الله التي فطر الناس عليها فقال : حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فطرة الله التي فطر الناس عليها دين الله تعالى والمراد بفطرهم دين الإسلام خلقهم قابلين له غير نابين عنه ولا منكرين له لكونه مجاوبا للعقل مساوقا للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما أختاروا عليه دينا آخر ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء والمراد بالناس على التفسيرين جميعهم
وزعم بعضهم أن المراد بهم على التفسير الثاني المؤمنون وليس بشيء وأستشكل الإستغراق بأنه ورد في الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع على الكفر وأجيب بأن معنى ذلك أنه قدر أنه لو عاش يصير كافرا بإضلال غيره له أو بآفة من الآفات البشرية وهذا على ما قيل هو المراد من قوله عليه الصلاة و السلام : الشقي شقي في بطن أمه وذلك لا ينافي الفطر على دين الإسلام بمعنى خلقه متهيأ له مستعدا لقبوله فتأمل فالمقام محتاج بعد إلى تحقيق وقيل : فطرة الله العهد المأخوذ على بني آدم ومعنى فطرهم على ذلك على ما قيل خلقهم مركوزا فيهم معرفته تعالى كما أشير إليه بقوله سبحانه : ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقوله سبحانه : لا تبديل لخلق الله تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الإمتثال به فالمراد بخلق الله فطرته المذكورة أولا ففيه إقامة المظهر مقام المضمر من غير لفظه السابق والمعنى لا صحة ولا إستقامة لتبديل فطرة الله تعالى بالإخلال بموجبها وعدم ترتيب مقتضاها عليها بإتباع الهوى وقبول وسوسة الشياطين وقيل : المعنى لا يقدر أحد على أن يغير خلق الله سبحانه وفطرته عزوجل فلا بد من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسا ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق والتمكن من إدراكه ضرورة فإن التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعا فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة
(21/40)

في كل أحد فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإخلال به بما ذكر من إتباع الهوى ووسوسة الشياطين وقال الإمام : يحتمل أن يقال : إن الله تعالى خلق خلقه للعبادة وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية وهذا لبيان فساد قول من يقول : العبادة لتحصيل الكمال وإذا كمل للعبد بها لا يبقى عليه تكليف
وقول المشركين : إن الناقض لا يصلح لعبادة الله تعالى وإنما يعبد نحو الكواكب وهي عبيدالله تعالى وقول النصارى : إن عيسى عليه السلام كمل بحلول الله تعالى فيه وصار إلها وفيه ما فيه ومما يستغرب ما روى عن إبن عباس من أن معنى لا تبديل لخلق الله النهي عن خصاء الفحول من الحيوان وقيل : إن الكلام متعلق بالكفرة كأنه قيل : فأقم وجهك للدين حنيفا وألزم فطرة الله التي فطر الناس عليها فإن هؤلاء الكفرة خلق الله تعالى لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي أنهم لا يفلحون وأنت تعلم أنه لا ينبغي حمل كلام الله تعالى على نحو هذا ذلك إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو إلى لزوم فطرة الله تعالى المستفاد من الإغراء أو إلى الفطرة والتذكير بإعتبار الخبر أو بتأويل المشار إليه بمذكر الدين القيم المستوى الذي لا عوج فيه ولا إنحراف عن الحق بوجه من الوجوه كما ينبيء عنه صيغة المبالغة وأصله قيوم على وزن فيعل أجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها ولكن أكثر الناس لا يعلمون 03 ذلك فيصدون عنه صدودا
وقيل : أي لا علم لهم أصلا ولو علموا لعلموا ذلك على أن الفعل منزل منزلة اللازم منيبين إليه أي راجعين إليه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل من ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى ومنه النوب أي النحل سميت بذلك لرجوعها إلى مقرها وقيل : أي منقطعين إليه تعالى من الناب السن خلف الرباعية لما يكون بها من الإنقطاع ما لا يكون بغيرها وتعقب بأنه بعيد لأن الناب يائي وهذا واوي وقد تقدم غير بعيد عدة أقوال في وجه نصبه وزاد عليها في البحر القول بكونه نصبا على الحال من الناس في قوله تعالى : فطر الناس وقدمه على سائر الأقوال وهو كما ترى وتقدم أيضا ما قيل في عطف قوله تعالى : وأتقوه أي من مخالفة أمره تعالى وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين 13 المبدلين لفطرة الله سبحانه تبديلا والظاهر أن المراد بهم كل من أشرك بالله عزوجل والنهي متصل بالأوامر قبله وقيل : بأقيموا الصلاة والمعنى ولا تكونوا من المشركين بتركها وإليه ذهب محمد بن أسلم الطوسي وهو كما ترى وقوله تعالى : من الذين فرقوا دينهم بدل من المشركين بإعادة الجار وتفريقهم لدينهم إختلافهم فيما يعبدونه على إختلاف أهوائهم وقيل : إختلافهم في إعتقاداتهم مع إتحاد معبودهم وفائدة الإبدال التحذير عن الإنتماء إلى حزب من أحزاب المشركين ببيان أن الكل على الضلال المبين
وقرأ حمزة والكسائي فارقوا أي تركوا دينهم الذي أمروا به أو الذي أقتضته فطرتهم وكانوا شيعا
(21/41)

أي فرقا تشايع كل فرقة أمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله كل حزب بما لديهم من الدين المعوج المؤسس على الرأي الزائغ والزعم الباطل فرحون 23 مسرورون ظنا منهم أنه حق والجملة قيل إعتراض مقرر لمضمون ما قبله من تفريق دينهم وكونهم شيعا وقيل : في موضع نصب على أنها صفة شيعا بتقدير العائد أي كل حزب منهم وزعم بعضهم كونها حالا وجوز أن يكون فرحون صفة لكل كقول الشماخ : وكل خليل غير هاضم نفسه لوصل خليل صارم أو معارز والخبر هو الظرف المتقدم أعني قوله تعالى : من الذين فرقوا دينهم فيكون منقطعا عما قبله وضعف بأنه يوصف المضاف إليه في نحوه صرح به الشيخ إبن الحاجب في قوله : وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان وفي البحر أن وصف المضاف إليه في نحوه هو الأكثر وأنشد قوله : جادت عليه كل عين ترة فتركن كل حديقة كالدرهم وما قيل : إنه إذا وصف به كل دل على أن الفرح شامل للكل وهو أبلغ ليس بشيء بل العكس أبلغ لو تؤمل أدنى تأمل وإذا مس الناس ضر أي شدة دعوا ربهم منيبين إليه راجعين إليه تعالى من دعاء غيره عزوجل من الأصنام وغيرها ثم إذا أذاقهم منه رحمة خلاصا من تلك الشدة إذا فريق منهم بربهم الذي كانوا دعوه منيبين إليه يشركون 33 أي فاجأ فريق منهم الإشراك وذلك بنسبة خلاصهم إلى غيره تعالى من صنم أو كوكب أو نحو ذلك من المخلوقات وتخصيص هذا الفعل ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك وتنكير ضر ورحمة للتعليل إشارة إلى أنهم لعدم صبرهم يجزعون لأدنى مصيبة ويطغون لأدنى نعمة و ثم للتراخي الرتبي أو الزماني ليكفروا بما آتيناهم اللام فيه للعاقبة وكونها تقتضي المهلة ولذا سميت لام المآل والشرك والكفر متقاربان لا مهلة بينهما كما قيل لا وجه له وقيل : للأمر وهو للتهديد كما يقال عند الغضب أعصني ما أستطعت وهو مناسب لقوله سبحانه : فتمتعوا فإنه أمر تهديدي وإحتمال كونه ماضيا معطوفا على يشركون لا يخفى حاله والفاء للسببية والتمتع التلذذ وفيه إلتفات من الغيبة إلى الخطاب فسوف تعلمون 43 وبال تمتعكم وقرأ أبو العالية فيمتعوا بالياء التحتية مبنيا للمفعول وهو معطوف على يكفروا فسوف يعلمون بالياء التحتية أيضا وعن أبي العالية أيضا فيتمتعوا بياء تحتية قبل التاء وهو معطوف على يكفروا أيضا وعن إبن مسعود وليتمتعوا باللام والياء التحتية وهو عطف على ليكفروا أم أنزلنا عليهم سلطانا إلتفات من الخطاب إلى الغيبة إيذانا بالإعراض عنهم وتعديدا لجناياتهم لغيرهم بطريق المبائة و ام منقطعة والسلطان الحجة فالإنزال مجاز عن التعليم أو الإعلام وقوله تعالى : فهو يتكلم بمعنى فهو يدل على أن التكلم مجاز عن الدلالة ولك أن تعتبر هنا جميع ما أعتبروه في قولهم : نطقت الحال من الإحتمالات ويجوز أن يراد بسلطانا ذا سلطان أي ملكا معه برهان فلا مجاز أولا وآخرا
وجملة هو يتكلم جواب للإستفهام الذي تضمنته ام إذ المعنى بل أأنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم
(21/42)

بما كانوا به يشركون 53 أي بإشراكهم بالله عزوجل وصحته على أن ما مصدرية وضمير به له تعالى أو بالأمر الذي يشركون بسببه وألوهيته على أن ما موصولة وضمير به لها والباء سببية والمراد نفي أن يكون لهم مستمسك يعول عليه في شركهم وإذا أذقنا الناس رحمة أي نعمة من صحة وسعة ونحوهما فرحوا بها بطرا وأشرا فإنه الفرح المذموم دون الفرح حمدا وشكرا وهو المراد في قوله تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا وقال الإمام : المذموم الفرح بنفس الرحمة والممدوح الفرح برحمة الله تعالى من حيث أنها مضافة إلى الله تعالى وإن تصبهم سيئة شدة بما قدمت أيديهم بشؤم معاصيهم إذا هم يقنطون 63 أي فاجؤا القنوط من رحمته عزوجل والتعبير بإذا أولا لتحقق الرحمة وكثرتها دون المقابل وفي نسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة تعليم للعباد أن لا يضاف إليه سبحانه الشر وهو كثير كقوله تعالى : أنعمت والمغضوب في الفاتحة وعدم بيان سبب إذاقة الرحمة وبيان سبب إصابة السيئة إشارة إلى أن الأول تفضل والثاني عدل والتعبير بالمضارع في إذا هم يقنطون لرعاية الفاصلة والدلالة على الإستمرار في القنوط والمراد بالناس أما فريق آخر غير الأول على أن التعريف للعهد أو للجنس وأما الفريق الأول لكن الحكم الأول ثابت لهم في حال تدهشهم كمشاهدة العرق وهذا الحكم في حال آخر لهم فلا مخالفة بين قوله تعالى : وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه وقوله سبحانه : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون فلا يحتاج إلى تكلف التوفيق بأن الدعاء اللساني جار على العادة فلا ينافي القنوط القلبي ولذا سمع بعض الخائضين في دم عثمان رضي الله تعالى عنه يدعو في طوافه ويقول : اللهم أغفر لي ولا أظنك تفعل أو المراد يفعلون فعل القانطين كالإهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء ولا يخفى أن في المفاجأة نبوة ما عن هذا فتأمل
وقريء يقنطون بكسر النون أو لم يروا أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه تعالى له ويقدر أي ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه وهذا إما بإعتبار شخصين أو بإعتبار شخص واحد في زمانين والمراد إنكار فرحهم وقنوطهم في حالتي الرخاء والشدة أي أو لم يروا ذلك فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين إن في ذلك المذكور أي البسط وضده أو جميع ما ذكر لآيات لقوم يؤمنون 73 فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة ولله تعالى در من قال : نكد الأريب وطيب عيش الجاهل قد أرشدك إلى حكيم كامل قال الطيبي : كانت الفاصلة قوله تعالى : لقوم يؤمنون إيذانا بأنه تعالى يفعل ذلك بمحض مشيئته سبحانه وليس الغني بفعل العبد وجهده ولا العدم بعجزه وتقاعده ولا يعرف ذلك إلا من آمن بأن ذلك تقدير العزيز العليم كما قال : كم من أريب فهم قلبه مستكمل العقل مقل عديم ومن جهول مكثر ماله ذلك تقدير العزيز العليم فآت ذا القربى حقه من الصلة والصدقة وسائر المبرات والمسكين وإبن السبيل ما يستحقانه والخطاب للنبي على أنه عليه الصلاة و السلام المقصود أصالة وغيره من المؤمنين تبعا وقال الحسن :
(21/43)

هو خطاب لكل سامع وجوز غير واحد أن يكون لمن بسط له الرزق ووجه تعلق هذا الأمر بما قبله وإقترانه بالفاء على ما ذكره الزمخشري أنه تعالى لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك وحاصله على ما في الكشف أن إمتثال أوامره تعالى مجلبة رضاه والحياة الطيبة تتبعه كما أن عصيانه سبحانه مجلبة سخطه والجدب والضيقة من روادفه فإذا أستبان ذلك فآت يامحمد ومن تبعه أو فآت يامن بسط له الرزق ذا القربى حقه إلخ وذكر الإمام وجها آخر مبنيا على أن الأمر متفرع على حديث البسط والقدر وهو أنه تعالى لما بين أنه سبحانه يبسط ويقدر أمر جل وعلا بالإتفاق إيذانا بأنه لا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان فإن الله تعالى إذا بسط الرزق لا ينقص بالإنفاق وإذا قدر لا يزداد بالإمساك كما قيل : إذ جادت الدنيا عليك فجدبها على الناس طرا إنها تتقلب فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب قال صاحب الكشف روح الله تعالى روحه : إن ما ذكره الزمخشري أوفق لتأليف النظم الجليل فإن قوله تعالى : أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لتتميم الإنكار على من فرح بالنعمة عن شكر المنعم ويئس عند زوالها عنه والظاهر على ما ذكره الإمام أن المراد بالحق الحق المالي وكذا المراد به في جانب المسكين وإبن السبيل وحمل ذلك بعضهم على الزكاة المفروضة وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة وإستثناء هذه الآية ودعوى أنها مدنية يحتاج إلى نقل صحيح وسبق النزول على الحكم بعيد ولذا لم يذكر هنا بقية الأصناف وحكى أن أبا حنيفة أستدل بالآية على وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا أو عاجزا عن الكسب ووجه بأن آت أمر للوجوب والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه مالي ولو كان المراد الزكاة لم يقدم حق ذوي القربى إذ الظاهر من تقديمه المغايرة والشافعية أنكروا وجوب النفقة على من ذكر وقالوا : لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين على ما بين في الفقه والمراد بالحق المصرح به في ذي القربى صلة الرحم بأنواعها وبالحق المعتبر في جانب المسكين وإبن السبيل صدقة كانت مفروضة قبل فرض الزكاة أو الزكاة المفروضة والآية مدنية أو مكية والنزول سابق على الحكم وأعترض على هذا بأنه إذا فسر حق الأخيرين بالزكاة وجب تفسير الأول بالنفقة الواجبة لئلا يكون لفظ الأمر للوجوب والندب ولذا أستدل أبو حنيفة عليه الرحمة بالآية على ما تقدم وفيه بحث
وقال بعض أجلة الشافعية رادا على الإستدلال : إنه كيف يتم مع إحتمال أن يكون الأمر بإيتاء الصدقة أيضا بدليل ما تلاه ثم إن ذا القربى مجمل عند المستدل ومن أين له أنه بين بذي الرحم المحرم وكذلك قوله تعالى : حقه ثم قال : والحق أنه أمر بتوفير حقه من الصلة لا خصوص النفقة وصلة الرحم من الواجبات المؤكدة إنتهى والحق أحق بالإتباع ودليل الإمام عليه الرحمة ليس هذا وحده كما لا يخفى على علماء مذهبه
وخص بعض الخطاب به صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : المراد بذي القربى بنو هاشم وبنو المطلب أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤتيهم حقهم من الغنيمة والفيء وفي مجمع البيان للطبرسي من الشيعة المعنى وآت يامحمد ذوي قرابتك حقوقهم التي جعلها الله تعالى لهم من الأخماس وروى أبو سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه الصلاة و السلام فاطمة رضي الله تعالى عنها فدكا وسلمه إليها وهو المروى عن أبي جعفر وأبى عبدالله إنتهى وفيه أن هذا ينافي ما أشتهر عند الطائفتين من أنها رضي الله تعالى عنها
(21/44)

أدعت فدكا بطريق الأرث وزعم بعضهم أنها أدعت الهبة وأتت على ذلك بعلي والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم وبأم أيمن رضي الله تعالى عنها فلم يقبل منها لمكان الزوجية والبنوة وعدم كفاية المرأة الواحدة في الشهادة في هذا الباب فأدعت الأرث فكان ما كان وهذا البحث مذكور على أتم وجه في التحفة أن أردته فأرجع إليه وخص بعضهم إبن السبيل بالضيف وحقه بالإحسان إليه إلى أن يرتحل والمشهور أنه المنقطع عن ماله وبين المعنيين عموم من وجه وقدم ذو القربى إعتناء بشأنه وهو السر في تقديم المفعول الثاني على العطف والعدول عن وآت ذا القربى والمسكين وإبن السبيل حقهم وعبر عن القريب بذي القربى في جميع المواضع ولم يعبر عن المسكين بذي المسكنة لأن القرابة ثابتة لا تتجدد وذو كذا لا يقال في الأغلب إلا في الثابت ألا ترى أنهم يقولون لمن تكرر منه الرأي الصائب فلان ذو رأي ويكاد لا تسمعهم يقولون لمن أصاب مرة في رأيه كذلك وكذا نظائر ذلك من قولهم : فلان ذو جاه وفلان ذو أقدام والمسكنة لكونها مما تطرأ وتزول لم يقل في المسكين ذو مسكنة كذا قال الإمام : ذلك أي الإيتاء المفهوم من الأمر خير في نفسه أو خير من غيره للذين يريدون وجه الله أي ذاته سبحانه أي يقصدونه عزوجل بمعروفهم خالصا أو جهته تعالى أي يقصدون جهة التقرب إليه سبحانه لا جهة أخرى والمعنيان كما في الكشف متقاربان ولكن الطريقة مختلفة
وأولئك المتصفون بالإيتاء هم المفلحون 83 حيث حصلوا بإتفاق ما يفني النعيم المقيم والحصر إضافي على ما قيل : أي أولئك هم المفلحون لا الذين بخلوا بما لهم ولم ينفقوا منه شيئا
وقيل : هو حقيقي على أن المتصفين بالإيتاء المذكور هم الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وأنابوا إليه تعالى وأتقوه عزوجل فلا منافاة بين هذا الحصر والحصر المذكور في أول سورة البقرة فتأمل وما آتيتم من ربا الظاهر أنه أريد به الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرمها الشارع وإليه ذهب الجبائي وروى ذلك عن الحسن ويشهد له ما روى عن السدي من أن الآية نزلت في ربا ثقيف كانوا يربون وكذا كانت قريش وعن إبن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وطاوس وغيرهم أنه أريد به العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة وعليه فتسميتها ربا مجاز لأنها سبب للزيادة وقيل : لأنها فضل لا يجب على المعطي
وعن النخعي أن الآية نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضيل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع لهم وهي رواية عن إبن عباس فالمراد بالربا العطية التي تعطى للأقارب للزيادة في أموالهم ووجه تسميتها بما ذكر معلوم مما ذكرنا وأياما كانفمن بيانلما لا للتعليل
وقرأ إبن كثير أتيتم بالقصر ومعناه على قراءة الجمهور أعطيتم وعلى هذه القراءة جئتم أي ما جئتم به من عطاء ربا ليربوا في أموال الناس أي ليزيد ذلك الربا ويزكو في أموال الناس الذين آتيتموهم إياه وقال إبن الشيخ : المعنى عل ىتفسير الربا بالعطية ليزيد ذلك الربا في جذب أموال الناس وجلبها وفي معناه ما قيل ليزيد ذلك بسبب أموال الناس وحصول شيء منها لكم بواسطة العطية وعن إبن عباس والحسن وقتادة وأبي رجاء والشعبي ونافع ويعقوب وأبي حيوة لتربوا بالتاء الفوقية مضمومة وإسناد الفعل إليهم وهو باب الأفعال المتعدية لواحد بهمزة التعدية والمفعول محذوف أي لتربوه وتزيدوه في أموال الناس أو هو من
(21/45)

قبيل يجرح في عراقيبها تصلى أي لتربوا وتزيدوا أموال الناس ويجوز أن يكون ذلك للصيرورة أي لتصيروا ذوي ربا في أموال الناس وقرأ أبو مالك لتربوها بضمير المؤنث وكان الضمير للربا على تأويله بالعطية أو نحوها فلا يربوا عندالله أي فلا يبارك فيه في تقديره تعالى وحكمه عزوجل وما آتيتم من زكاة أي من صدقة تريدون وجه الله تبتغون به وجهه تعالى خالصا فأولئك هم المضعفون 93 أي ذوو الإضعاف على أن مضعفا أسم فاعل من أضعف أي صار ذا ضعف بكسر فسكون بأن يضاعف له ثواب ما أعطاه كأقوى وأيسر إذا صار ذا قوة ويسار فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله ويجوز أن يكون من أضعف والهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة ويؤيد هذا الوجه قراءة أبي المضعفون أسم مفعول وكان الظاهر أن يقال : فهو يربو عند الله لأنه الذي تقتضيه المقابلة إلا أنه غير في العبارة إذ أثبت غير ما قبله وفي النظم إذ أتى فيما قبل بجملة فعلية وهنا بجملة أسمية مصدرة بأسم الإشارة مع ضمير الفصل لقصد المبالغة فأثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة على طريق التأكيد بالأسمية والضمير وحصر ذلك فيهم بالإستحقاق مع ما في الإشارة من التعظيم لدلالته على علو المرتبة وترك ما أتوا وذكر المؤتى إلى غير ذلك والإلتفات عن الخطاب حيث قيل : فأولئك دون فأنتم للتعظيم كأنه سبحانه خاطب بذلك الملائكة عليهم السلام وخواص الخلق تعريفا لحالهم ويجوز أن يكون التعبير بما ذكر للتعميم بأن يقصد بأولئك هؤلاء وغيرهم والراجح في الكلام إلى ما محذوف أن جعلت موصولة وكذلك إن جعلت شرطية على الأصخح لأنه خبر على كل حال أي فأولئك هم المضعفون به أو فمؤتوا على صيغة أسم الفاعل أولئك هم المضعفون والحذف لما في الكلام من الدليل عليه وعلى تقدير مؤتوه العام لا يكون هناك إلتفات بالمعنى المتعارف وإعتبار الألتفات أولى وفي الكشاف أن الكلام عليه أملا بالفائدة وبين ذلك بأن الكلام مسوق لمدح المؤتين حثا في الفعل وهو على تقدير الإلتفات من وجوه أحدها الإشارة بأولئك تعظيما لهم والثاني تقريع الملائكة عليهم السلام بمدحهم والثالث ما في نفس الإلتفات من الحسن والرابع ما في أولئك على هذا من الفائدة المقررة في نحو
فذلك أن يهلك فحسبي ثناؤه
بخلافه إذا جعل وصفا للمؤتين وعلى ذلك التقدير يفيد تعظيم الفعل لا الفاعل وإن لزم بالعرض فلا يعارض ما يفيده بالإصالة فتأمل والآية على المعنى الأول للربا في معنى قوله عزوجل : أيمحق الله الربا ويربي الصدقات سواء بسواء والذي يقتضيه كلام كثير أنها تشعر بالنهي عن الربا بذلك المعنى لكن أنت تعلم أنها لو أشعرت بذلك لأشعرت بحرمة الربا بمعنى العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة على تقدير تفسير الربا بها مع أنهم صرحوا بعدم حرمة ذلك على غيره صلى الله تعالى عليه وسلم وحرمتها عليه عليه الصلاة و السلام لقوله تعالى : ولا تمنن تستكثر وكذا صرحوا بأن ما يأخذه المعطي لتلك العطية من الزيادة على ما أعطاه ليس بحرام ودافعه ليس بآثم لكنه لا يثاب على دفع الزيادة لأنها ليست صلة مبتدأ بل بمقابلة ما أعطى أولا ولا ثواب فيما يدفع عوضا وكذا لا ثواب في إعطاء تلك العطية أولا لأنها شبكة صيد ومعنى قول بعض التابعين الجانب المستغزر يثاب من هبته أن الرجل الغريب إذا أهدى إليك شيئا لتكافئه وتزيده شيئا فأثبه من هديته وزده
الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء الظاهر أن الأسم
(21/46)

الجليل مبتدأ و الذي خبره والإستفهام إنكاري و من شركائكم خبر مقدم و من مبتدأ مؤخر و من فيه للتبعيض و من ذلكم صفة شيء قدمت عليه فأعربت حالا و من فيه للتبعيض أيضا و شيء مفعول يفعل و من الداخلة عليه مزيدة لتأكيد الإستغراق وجوز الزمخشري أن يكون الأسم الجليل مبتدأ و الذي صفته والخبر هل من شركائكم إلخ والرابط أسم الإشارة المشار به إلى أفعاله تعالى السابقة فمن ذلكم بمعنى من أفعاله ووقعت الجملة المذكورة خبرا لأنها خبر منفي معنى وإن كانت إستفهامية ظاهرا فكأنه قيل : الله الخالق الرازق المميت المحيي لا يشاركه شيء ممن لا يفعل أفعاله هذه وبعضهم جعلها خبرا بتقدير القول فكأنه قيل : الله الموصوف بكونه خالقا ورازقا ومميتا ومحييا مقول في حقه هل من شركائكم من هو موصوف بما هو موصوف به
وتعقب ذلك أبو حيان بأن أسم الإشارة لا يكون رابطا إلا إذا أشير به إلى المبتدأ وهو هنا ليس إشارة إليه لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى وخالفه الناس وذلك في قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن فإن التقدير يتربصن أزواجهم فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الذين فحصل به الربط
وكذلك قدر الزمخشري من ذلكم بمن أفعاله المضاف إلى ضمير المبتدأ لكن لا يخفى أن الإضافة غير معتبرة وعلى تقدير إعتبارها يلزم تقدير مضاف آخر وجوز أن تكون من الأولى لبيان من يفعل ومتعلقها محذوف و من يفعل فاعل لفعل محذوف أي هل حصل وأستقر من يفعل كائنا من شركائكم وكذا جوز في من الثانية أن تكون لبيان المستغرق وقيل : إن من الأولى ومن الثانية زائدتان كالثالثة وهو كما ترى والآية على ما قلناه أولا متضمنة جملتين دلت الأولى على إثبات ما هو من اللوازم المساوية للألوهية من الخلق والرزق والأماتة والأحياء له عزوجل وأفادت الثانية بواسطة عكس السالبة الكلية نفيها رأسا عن شركائهم الذين أتخذوهم شركاء له سبحانه من الأصنام وغيرها مؤكدا بالإنكار والعقل حاكم بأن ما يتخذ شريكا كالذي أتخذ في الحكم المذكور أعني نفي تأتي تلك الأفعال منه وإن شئت جعلت شركائكم شاملا للصنفين ويفهم من ذلك عدم صحة الشركة إذ لا يعقل شركة ما ليس باله لعدم وجود لازم الألوهية فيه لمن هو إله في الألوهية ولتأكيد ذلك قال سبحانه وتعالى : سبحانه وتعالى عما يشركون 04 أي عن شركهم والتعبير بالمضارع لما في الشرك من الغرابة أو للأشعار بإستمراره وتجدده منهم وأشار بعضهم إلى أن تينك الجملتين يؤخذ منهما مقدمتان موجبة وسالبة كلية مرتبتان على هيئة قياس من الشكل الثاني وإن قوله تعالى : سبحانه إلخ يؤخذ منه سالبة كلية هي نتيجة ذلك القياس فتكون الجملتان المذكورتان في حكم قياس من الشكل الثاني وقوله تعالى : سبحانه إلخ في حكم النتيجة له ولا يخفى إحتياج ذلك إلى تكلف فتأمل جدا وقرأ الأعمش وإبن وثاب تشركون بتاء الخطاب ظهر الفساد في البر والبحر كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الصيادين والغاصة ومحق البركات من كل شيئ وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضار وعن إبن عباس أجدبت الأرض وأنقطعت مادة البحر وقالوا : إذا أنقطع القطر عميت دواب البحر وقال مجاهد : ظهر الفساد في البر بقتل إبن آدم أخاه وفي البحر باخذ السفن غصبا وفي رواية عن إبن عباس بأخذ جلندي كل سفينة غصبا ولعل المراد التمثيل وكذا يقال في قتل إبن آدم أخاه وكان أول معصية ظهرت في البر قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي إبن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذبا وكان لا يفترس الأسد البقر ولا الذئب
(21/47)

الغنم فلما قتل قابيل هابيل أقشعر ما في الأزض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا زعافا وقصدا وقصد الحيوان بعضه بعضا
وذكر أن أول معصية في البحر غصب جلندي كل سفينة تمر عليه فكأن تخصيص الأمرين بالذكر لذلك وأياما كان فالبر والبحر على ظاهرهما وعن مجاهد البر البلاد البعيدة من البحر والبحر السواحل والمدن التي عند البحر والأنهار وقال قتادة : البر القيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري والعمود والبحر المدن والعرب تسمى الأمصار بحارا لسعتها ومنه قول سعد بن عبادة في عبدالله بن أبي بن سلول ولقد أجمع أهل هذه البحيرة يعني المدينة ليتوجوه
قال أبو حيان : ويؤيده هذا قراءة عكرمة والبحور بالجمع ورويت عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وجوز النحاس أن يكون البحر على ظاهره إلا أن الكلام على حذف مضاف أي مدن البحر فهو مثل وأسأل القرية وجوز أيضا أن يراد بالفساد والمعاصي من قطع الطريق والظلم وغيرهما و أل في البر والبحر للجنس وكذا في الفساد أي ظهر جنس الفساد من الجدب والموتان ونحوهما في جنس البر وجنس البحر بما كسبت أيدي الناس أي بسبب ما فعله الناس من المعاصي والذنوب وشه وهذا كقوله تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم وهو على التفسير الأول للفساد ظاهر وأما على تفسيره بالمعاصي فالمعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر بكسب الناس إياها وفعلهم لها ومعنى قوله تعالى : ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون 14 على الأول ظاهر وهو أن الله تعالى قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لعلهم يرجعون عما هم عليه وأما على الثاني فاللام مجاز على معنى أن ظهور المعاصي بسببهم مما أستوجبوا به أن يذيقهم الله تعالى وبال أعمالهم إرادة الرجوع فكأنهم إنما فسدوا وتسببوا لفشوا المعاصي في الأرض لأجل ذلك
وقرأ السلمي والأعرج وأبو حيوة وسلام وسهل وروح وإبن حسان وقنبل من طريق إبن مجاهد وإبن الصباح وأبي الفضل الواسطي عنه ومحبوب عن أبي عمرو لنذيقهم بالنون وظهور الفساد المذكور على ما أخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم عن قتادة كان قبل أن يبعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلما بعث عليه الصلاة و السلام رجع من رجع من الناس عن الضلال والظلم وقيل : كان أوائل البعثة وذلك أن كفار قريش فعلوا ما فعلوا من المعاصي والإصرار على الشرك وإيذاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فدعا صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم فأقحطوا وحل بهم من البلاء ما حل فأخبر الله سبحانه أن ذلك بسبب معاصيهم ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون
وفسر هذا القائل : الناس بكفار قريش وقيل : كان في زمان سابق على زمان النزول أعم من أن يكون الزمان الذي قبيل البعثة أو بعيدها أو غير ذلك وحكم الآية عام في كل فساد يظهر إلى يوم القيامة ومن هنا قيل : من أذنب ذنبا يكون جميع الخلائق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماءه يوم القيامة لأنه تعالى يمنع المطر بشؤم المعصية فيتضرر بذلك أهل البر والبحر جميعا وروى عن شقيق الزاهد أنه قال : من أكل الحرام فقد خان جميع الناس ووجه تعلق الآية بما قبلها نعى ما يعم الشرك وغيره من المعاصي
(21/48)

وفيما قبل نعى الشرك وفيها من تخويف المشركين ما فيها
وقال الإمام : في وجه التعلق هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وإذا كان الشرك سببه جعل الله تعالى إظهارهم الشرك مورثا لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم لفسدت السموات والأرض كما قال سبحانه : تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وإلى هذا أشار عزوجل بقوله سبحانه : ولنذيقهم بعض الذي عملوا إنتهى فتأمل وأنصف وقوله تعالى : قل سيروا في الأرض فأنظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل مسوق لتأكيد تسبب المعاصي لغضب الله تعالى ونكاله حيث أمروا بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله تعالى الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم ويتحققوا صدق ما تقدم وقوله تعالى : كان أكثرهم مشركين 24 إستئناف للدلالة على أن الشرك وحده لم يكن سبب لدمير جميعهم بل هو سبب للتدمير في أكثرهم وما دونه من المعاصي سبب له في قليل منهم
وجوز أن يكون للدلالة على أن سوء عاقبتهم لفشو الشرك وغلبته فيهم ففيه تهويل لأمر الشرك بأنه فتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة فأقم وجهك للدين القيم أي إذا كان الأمر كذلك فأقم وتمام الكلام فيما هنا يعلم مما تقدم في هذه السورة الكريمة من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله جوز أن يتعلق بمرد وهو مصدر بمعنى الرد والمعنى لا يرده سبحانه بعد أن يجيء به ولا رد له من جهته عزوجل فيفيد إنتفاء رد غيره تعالى له بطريق برهاني وأعترض بأنه لو كان كذلك للزم تنوين يوم لمشابهته للمضاف
وأجيب بأنه مبنى على ما قال إبن مالك في التسهيل من أنه قد يعامل الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه وحمل عليه قوله عليه الصلاة و السلام لا مانع لما أعطيت وتفصيله في شرحه وبعضهم جعله متعلقا بمحذوف يدل عليه مرد أي لا يرد من جهته تعالى أي لا يرده هو عزوجل وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف والتقدير هو أي الرد المنفي كائن من الله تعالى والجملة إستئناف جواب سؤال تقديره ممن ذلك الرد المنفي وقيل : هو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا للا وقيل : متعلق بالنفي أو بما دل عليه وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة ليوم وجوز كثير تعلقه بيأتي أي من قبل أن يأتي من الله تعالى يوم لا يقدر أحد أن يرده
وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر من اللفظ والمعنى وهو مع ذلك قليل الفائدة وإرتضاء الطيبي فقال : هذا الوجه أبلغ لإطلاق الرد وتفخيم اليوم وإن إتيانه من جهة عظيم قادر ذي سلطان قاهر ومنه يعلم أن ذلك ليس قليل الفائدة نعم أن فيه الفصل الملبس وحال سائر الأوجه لا يخفى على ذي تمييز يومئذ أي يوم إذ يأتي يصدعون 34 أصله يتصدعون فقلبت تاؤه صادا وأدغمت والتصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم أستعمل في مطلق التفرق أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير وقيل : يتفرقون تفرق الأشخاص على ما ورد في قوله تعالى : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث لا تفرق الفريقين فإن المبالغة في التفرق المستفادة من يصدعون إنما تناسب الأول ورجح الثاني بأنه المناسب للسياق والسباق إذ الكلام في المؤمنين والكافرين فما ذكر بيان
(21/49)

لتباينهم في الدارين ويكفي للمبالغة شدة بعد ما بين المنزلتين حسا ومعنى وهو تفسير رواه عبد بن حميد وإبن جرير وإبن المنذر عن قتادة وروى أيضا عن إبن زيد من كفر فعليه كفره اي وبال كفره وهي النار المؤبدة ففي الكلام مضاف مقدر أو الكفر مجاز عن جزائه بل عن جميع المضار التي لا ضرر وراءها وإفراد الضمير بإعتبار لفظ من وفيه إشارة إلى قلة قدرهم عند الله تعالى وحقارتهم مع ما علم من كثرة عددهم وجمعه في قوله تعالى : ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون 44 بإعتبار معناها وفيه مع رعاية الفاصلة إشارة إلى كثرة قدرهم وعظمهم عند الله تعالى و يمهدون من مهد فراشه وطأه أي يوطيء الرجل لنفسه فراشه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينيبه وينغص عليه مرقده من نتوء أو قضض أو بعض ما يؤذي الراقد فكأنه شبه حالة المكلف مع عمله الصالح وما يتحصل به من الثواب ويتخلص من العقاب بحالة من يمهد فراشه ويوظوه ليستريح عليه ولا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه وجوز أن يكون المعنى فعلى أنفسهم يشفقون على أن ذلك من قولهم في المثل للمشفق أم فرشت فأنامت فيكون الكلام كناية إيمائية عن الشفقة والمرحمة والأول أظهر والظاهر أن هذه التوطئة لما بعد الموت من القبر وغيره وأخرج جماعة عن مجاهد أنه قال : فلأنفسهم يمهدون أي يسوون المضاجع في القبر وليس بذاك وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الإختصاص وقيل : للإهتمام ومقابلة من كفر بمن عمل صالحا لا بمن آمن أما للتنويه بشأن الإيمان بناء على أنه المراد بالعمل الصالح وإما لمزيد الإعتناء بشأن المؤمن العامل بناء على أن المراد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي والقالبي ويشعر بأن المراد بمن عمل صالحا المؤمن العامل قوله تعالى : ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله فإنه علة ليمهدون وأقيم فيه الموصول مقام الضمير تعليلا للجزاء لما أن الموصول في معنى المشتق والتعليق به يفيد علية مبدأ الإشتقاق وذكر من فضله للدلالة على أن الإثابة تفضل محض وتأويله بالعطاء أو الزيادة على ما يستحق من الثواب عدول عن الظاهر وجوز أن يكون ذلك علة ليصدعون والإقتصار على جزاء المؤمنين للأشعار بأنه المقصود بالذات والإكتفاء بفحوى قوله تعالى : إنه لا يحب الكافرين 54 فإن عدم المحبة كناية عن البغض في العرف وهو يقتضي الجزاء بموجبه فكأنه قيل : وليعاقب الكافرين وفي الكشاف أن تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده تعالى إلا المؤمن الصالح وقوله تعالى : إنه إلخ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس ويعني بذلك كل كلامين يقرر الأول الثاني وبالعكس سواء كان صريحا وإشارة أو مفهوما ومنطوقا وذلك كقول إبن هانيء : فما جازه جود ولا حل دونه
ولكن يصير الجود حيث يصير وبيانه فيما نحن فيه أن قوله تعالى : ليجزي الذين آمنوا يدل بمنطوقه على ما قرر على إختصاصهم بالجزاء التكريمي وبمفهومه على أنهم أهل الولاية والزلفى وقوله سبحانه : إنه لا يحب الكافرين لتعليل الإختصاص يدل بمنطوقه على أن عدم المحبة يقتضي حرمانهم وبمفهومه على أن الجزاء لإضدادهم موفر فهو جل وعلا محب للمؤمنين وذكر العلامة الطيبي الظاهر أن قوله تعالى : فأقم وجهك للدين القيم الآية بتمامها كالمورد للسؤال والخطاب لكل أحد من المكلفين وقوله تعالى : من كفر فعليه كفره الآية وارد على الإستئناف منطو على
(21/50)

الجواب فكأنه لما قيل : أقيموا على الدين القيم قبل مجيء يوم يتفرقون فيه يتفرقون فيه فقيل : ما للمقيمين على الدين وما على المنحرفين عنه وكيف يتفرقون فأجيب من كفر فعليه كفره الآية وأما قوله سبحانه : ليجزي الذين آمنوا الآية فينبغي أن يكون تعليلا للكل ليفصل ما يترتب على ما لهم وعليهم لكن يتعلق بيمهدون وحده لشدة العناية بشأن الإيمان والعمل الصالح وعدم الأعباء بعمل الكافر ولذلك وضع موضعه إنه لا يحب الكافرين إنتهى فلا تغفل وفي الآية لطيفة نبه عليها الإمام قدس سره وهي أن الله عزوجل عند ما أسند الكفر والإيمان إلى العبيد قدم الكافر وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن لأن قوله تعالى : من كفر وعيد للمكلف ليمتنع عما يضره لينقذه سبحانه من الشر وقوله تعالى : ومن عمل صالحا تحريض له وترغيب في الخير ليوصله إلى الثواب والإنقاذ مقدم عند الحكيم الرحيم وأما عند الجزاء فأبتدأ جل شأنه بالإحسان إظهارا للكرم والرحمة
هذا ولما ذكر سبحانه ظهور الفساد والهلاك بسبب المعاصي ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر عزوجل أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم يذكر لعقابه سببا لئلا يتوهم منه الظلم ولا يذكر ذلك لإحسانه فقال عز من قائل : ومن آياته أن يرسل الرياح الجنوب ومهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا والصبا ومهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش والشمال ومهبها من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر فإنها رياح الرحمة وأما الدبور ومهبها من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل فريح العذاب وذكر أن الثلاثة الأول تلقح السحاب الماطر وتجمعه فلذا كانت رحمة وعن أبي عبيدة الشمال عند العرب للروح والجنوب للأمطار والأنداء والصبا لإلقاح الأشجار والدبور للبلاء وأهونه أن تثير غبارا عاصفا يقذى العين وهي أقلهن هبوبا وروى الطبراني والبيهقي في سننه عن إبن عباس من حديث ذكر فيه ما كان يفعله ويقوله إذا هاجت ريح : اللهم أجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا وهو مبني على أن الرياح للرحمة والريح للعذاب وفي النهاية العرب تقول : لا تلقح السحاب إلا من رياح مختلفة فكأنه قال صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم أجعلها لقاحا للسحاب ولا تجعلها عذابا ثم قال : وتحقيق ذلك مجيء الجمع في آيات الرحمة والواحد شديرغننب كالريح العقيم وريحا صرصرا وقال بعضهم : أن ذاك لأن الريح إذا كانت واحدة جاءت من جهة واحدة فصدمت جسم الحيوان والنبات من جهة واحدة فتؤثر فيه أثرا أكثر من حاجته فتضره ويتضرر الجانب المقابل لعكس ممرها ويفوته حظه من الهواء فيكون داعيا إلى فساده بخلاف ما إذا كانت رياحا فإنها تعم جوانب الجسم فيأخذ كل جانب حظه فيحدث الإعتدال وأنت تعلم أنه قد تفرد الريح حيث لا عذاب كما في قوله تعالى : وجرين بهم بريح طيبة وقوله سبحانه : ولسليمان الريح والحديث مختلف فيه فرمز السيوطي لحسنه وقال الحافظ الهيثمي : في سنده حسين بن قيس وهو متروك وبقية رجاله رجال الصحيح ورواه إبن عدي في الكامل من هذا الوجه وأعله بحسين المذكور ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي نعم أن الحافظ عزاه في الفتح لأبي يعلى وحده عن أنس رفعه وقال إسناده صحيح فليحفظ ذلك
وقرأ إبن كثير والكسائي والأعمش الريح مفردا على إرادة معنى الجمع ولذا قال سبحانه : مبشرات أي بالمطر وليذيقكم من رحمته يعني المنافع التابعة لها كتذرية الحبوب وتخفيف العفونة وسقي الأشجار إلى غير ذلك من اللطف والنعم وقيل : الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها ولا وجه للتخصيص والواو للعطف والعطف على علة محذوفة دل عليها مبشرات أي ليبشركم وليذيقكم أو على
(21/51)

مبشرات بإعتبار المعنى فإن الحال قد يقصد بها التعليل نحو أهن زيدا مسيئا أي لإساءته فكأنه قيل : لتبشركم وليذيقكم وكونه من عطف التوهم توهم أو على يرسل بإضمار فعل معل والتقدير ويرسلها ليذيقكم وكون التقدير ويجري الرياح ليذيقكم بعيد قيل : أو على جملة ومن آياته إلخ بتقدير وليذيقكم أرسلها أو فعل ما فعل ولم يعتبره بعضهم لأن المقصود إندراج الإذاقة في الآيات وقيل : الواو زائدة ولتجري الفلك في البحر عند هبوبها بأمره عزوجل وإنما جيء بهذا القيد لأن الريح قد تهب ولا تكون مواتية فلا بد من إنضمام إرادته تعالى وأمره سبحانه للريح حتى يتأتى المطلوب وقيل : للإشارة إلى أن هبوبها مواتية أمر من أموره تعالى التي لا يقدر عليها غيره عزوجل ولتبتغوا من فضله بتجارة البحر ولعلكم تشكرون 64 أي ولتشكروا نعمة الله تعالى فيما ذكر ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم إعتراض لتسليته بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له عليه الصلاة و السلام والوعيد لمن عصاه وفي ذلك أيضا تحذير عن الإخلال بمواجب الشكر
والمراد بقومهم أقوامهم والأفراد للإختصار حيث لا لبس والمعنى ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى أقوامهم كما أرسلناك إلى قومك فجاؤهم بالبينات أي جاء كل قوم رسولهم بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك فأنتقمنا من الذين أجرموا الفاء فصيحة أي فآمن بعض وكذب بعض فأنتقمنا وقيل أي فكذبوهم فأنتقمنا منهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بالعلة والتنبيه على مكان المحذوف وجوز أن تكون تفصيلا للعموم بأن فيهم مجرما مقهورا ومؤمنا منصورا وكان حقا علينا نصر المؤمنين 74 فيه مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم وإشعار بأن الإنتقام لأجلهم والمراد بهم ما يشمل الرسل عليهم الصلاة والسلام وجوز تخصيص ذلك بالرسل بجعل التعريف عهديا وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا وفي بعض الآثار ما يشعر بعدم إختصاصه بها وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة
أخرج إبن أبي حاتم والطبراني وإبن مردويه عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله يقول ما من أمريء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا عليه الصلاة و السلام وكان حقا علينا نصر المؤمنين وفي هذا إشعار بأن حقا خبر كان ونصر المؤمنين الأسم كما هو الظاهر وإنما أخر الأسم لكون ما تعلق به فاصلة وللإهتمام بالخبر إذ هو محط الفائدة على ما في البحر
قال إبن عطية : ووقف بعض القراء على حقا على أن أسم كان ضمير الإنتقام أي وكان الإنتقام حقا وعدلا لا ظلما ورجوعه إليه على حد أعدلوا هو أقرب للتقوى و علينا نصر المؤمنين جملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر المؤيد بالخبر وإن لم يكن فيه محذور من حيث المعنى الله الذي يرسل الرياح إستئناف مسوق لبيان ما أجمل فيما سبق من أحوال الرياح فتثير سحابا تحركه وتنشره فيبسطه بسطا تاما متصلا تارة في السماء في سمتها لا في نفس السماء بالمعنى المتبادر كيف يشاء سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير فالجملة الإنشائية حال بالتأويل ويجعله كسفا أي قطعا تارة أخرى
وقرأ إبن عامر بسكون السين على أنه مخفف من المفتوح أو جمع كسفة أي قطعة أو مصدر كعلم وصف به مبالغة أو بتأويله بالمفعول أو بتقدير ذا كشف فترى يامن يصح منه الرؤية الودق أي المطر
(21/52)

يخرج من خلاله أي فرجه جمع خلل في التارتين الإتصال والتقطع فالضمير للسحاب وهو أسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه وجوز على قراءة كسفا بالسكون أن يكون له وليس بشيء
فإذا أصاب به من يشاء من عباده بلادهم وأراضيهم والباء في به للتعدية إذا هم يستبشرون 84 فاجؤا الإستبشار بمجيء الخصب وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم الودق من قبله أي التنزيل لمبلسين 94 أي آيسين والتكرير للتأكيد وأفاد كما قال إبن عطية الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الإستبشار وذلك أن من قبل أن ينزل عليهم يحتمل الفسحة في الزمان فجاء من قبله للدلالة على الإتصال ودفع ذلك الإحتمال وقال الزمخشري : أكد ليدل على بعد عهدهم بالمطر فيفهم منه إستحكام يأسهم وما ذكره إبن عطية أقرب لأن المتبادر من القبلية الإتصال وتأكيد دال على شدته وأبو حيان أنكر على كلا الشيخين وقال : ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر وإنما هو عندي لمجرد التأكيد ويفيد رفع المجاز فقط وقال قطرب : ضمير قبله للمطر فلا تأكيد وأنت تعلم أنه يصير التقدير من قبل تنزيل المطر من قبل المطر وهو تركيب لا يسوغ في كلام فصيح فضلا عن القرآن وقيل : الضمير للزرع الدال عليه المطر أي من قبل تنزيل المطر من قبل أن يزرعوا وفيه أن من قبل أن ينزل متعلق بمبلسين ولا يمكن تعلق من قبله به أيضا لأن حرفي جر بمعنى لا يتعلقان بعامل واحد إلا أن يكون بوساطة حرف العطف أو على جهة البدل ولا عاطف هنا ولا يصح البدل ظاهرا وجوز بعضهم فيه بدل الإشتمال مكتفيا فيه بكون الزرع ناشئا عن التنزيل فكان التنزيل مشتملا عليه وهو كما ترى
وقال المبرد : الضمير للسحاب لأنهم لما أراوا السحاب كانوا راجين المطر والمراد من قبل رؤية السحاب ويحتاج أيضا إلى حرف عطف حتى يصح تعلق الحرفين بمبلسين وقال علي بن عيسى : الضمير للأرسال وقال الكرماني : للإستبشار لأنه قرن بالإبلاس ومن عليهم به وأورد عليهما أمر التعلق من غير عطف كما أورد على من قبلهما فإن قالوا بحذف حرف العطف ففي جوازه في مثل هذا الموضع قياسا خلاف
وأختار بعضهم كونه للإستبشار على أن من متعلقة بينزل و من الأولى متعلقة بملبسين لأنه يفيد سرعة تقلب قلوبهم من اليأس إلى الإستبشار بالإشارة إلى غاية تقارب زمانيهما ببيان إتصال اليأس بالتنزيل المتصل بالإستبشار بشهادة إذا الفجائية فتأمل و إن مخففة من الثقيلة واللام في لمبلسين هي الفارقة ولا ضمير شأن مقدرا لإن لأنه إنما يقدر للمفتوحة وأما المكسورة فيجب إهمالها كما فصله في المعنى وبعض الأجلة قال بالتقدير فأنظر إلى آثار رحمت الله المترتبة على تنزيل المطر من النبات والأشجار وأنواع الثمار والفاء للدلالة على سرعة ترتبها عليه
وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر أثر بالإفراد وفتح الهمزة والثاء وقرأ سلام إثر بكسر الهمزة وإسكان الثاء وقوله تعالى : كيف يحيي أي الله تعالى الأرض بعد موتها في حيز النصب بنزع الخافض و كيف معلق لأنظر أي فأنظر لإحيائه تعالى البديع للأرض بعد موتها وقال إبن جني : على الحالية بالتأويل أي محييا وأياما كان فالمراد بالأمر بالنظر التنبيه على عظيم قدرته تعالى وسعة رحمته عز
(21/53)

وجل مع ما فيه من التمهيد لما يعقبه من أمر البعث
وقرأ الجحدري وإبن السميقع وأبو حيوة تحيي بتاء التأنيث والضمير عائد على الرحمة وجوز على قراءة الحرميين ومن معهما أن يكون الضمير للأثر على أنه أكتسب التأنيث من المضاف إليه وليس بشيء كما لا يخفى إن ذلك العظيم الشأن لمحيي الموتى لقادر على أحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية وقيل : يحتمل أن يكون النبات الحادث من أجزاء تفتت وتبددت وأختلطت بالتراب الذي فيه عروقها في بعض الأعوام السالفة فيكون كالأحياء بعينه بإعادة المواد والقوى لا بإعادة القوى فقط وهو إحتمال واهي القوى بعيد ولا نسلم أن المسلم المسترشد يعلم وقوعه وقوله تعالى : وهو على كل شيء قدير 05 تذييل مقرر لمضمون ما قبله أي مبالغ في القدرة على جميع الأشياء التي من جملتها أحياؤهم لما أن نسبة قدرته عز و جل إلى الكل سواء
ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا أي النبات المفهوم من السياق كما قال أبو حيان أو الأثر المدلول عليه بالآثار أو النبات المعبر عنه بها على ما قاله بعضهم والنبات في الأصل مصدر يقع على القليل والكثير ثم سمى به ما ينبت وقال إبن عيسى : الضمير للسحاب لأنه إذا كان مصفرا لم يمطر وقيل : للريح وهي تذكر وتؤنث وكلا القولين ضعيفان كما في البحر
وقرأ جناح بن حبيش مصفارا بألف بعد الفاء واللام في لئن موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط والفاء في فرأوه فصيحة واللام في قوله تعالى : لظلوا لام جواب القسم الساد مسد الجوابين والماضي بمعنى المستقبل كما قاله أبو البقاء ومكي وأبو حيان وغيرهم وعلل ذلك بأنه في المعنى جواب إن وهو لا يكون إلا مستقبلا وقال الفاضل اليمنى : إنما قدروا الماضي بمعنى المستقبل من حيث أن الماضي إذا كان متمكنا متصرفا ووقع جوابا للقسم فلا بد فيه من قد واللام معا فالقصر على اللام لأنه مستقبل معنى وفيه نظر وقدروه بمضارع مؤكد بالنون أي وبالله تعالى لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفار فرأوه مصفرا بعد خضرته ونضارته ليظلن من بعده أي من بعد الإرسال أو من بعد إصفرار زرعهم وقيل : من بعد كونهم راجين مستبشرين يكفرون 15 من غير تلعثم نعمة الله تعالى وفيما ذكر من ذمهم بعدم تثبتهم وسرعة تزلزلهم بين طرفي الإفراط والتفريط مالا يخفى حيث كان الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله سبحانه في كل حال ويلجؤا إليه عزوجل بالإستغفار إذا أحتبس عنهم المطر ولا ييأسوا من روح الله تعالى ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جل وعلا برحمته ولا يفرطوا في الإستبشار وأن يصبروا على بلائه تعالى إذا أعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعماته جل شأنه فعكسوا الأمر وأبوا ما يجديهم وأتوا بما يؤذيهم ولا يخفى ما في الآيات من الدلالة على ترجيح جانب الرحمة على جانب العذاب فلا تغفل
وقوله تعالى : فإنك لا تسمع الموتى تعليل لما يفهم من الكلام السابق كأنه قيل : لا تحزن لعدم إهتدائهم بتذكيرك فإنك إلخ وفي الكشف أعلم أن قوله تعالى : الله الذي يرسل الرياح كلام سيق مقررا لما فهم
(21/54)

من قوله سبحانه : ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم الآية لدلالته على أنه عزوجل ينتقم من المكذبين برسول الله وينصر متابعيه فذكر فيه من البينات ما أجمل هنالك مما يدل على القدرة والحكمة والرحمة وأختير من الأدلة ما يجمع الثلاثة وفيه ما يرشد إلى تحقيق طرفي الإيمان أعني المبدأ والمعاد وصرح بكفرانهم بالنعمة وذمهم في الحالات الثلاث لأن ذلك مما يعرفه أهل الفطرة السليمة ويتخلق به وأدمج فيه دلالته على المعاد بقوله تعالى : فأنظر إلى آثار رحمة الله ولما فرغ من حديث ذمهم بنى على هذا المدمج وما دل عليه سياق الكلام من تماديهم في الضلالة مثل هذه البينات التي لا أتم منها في الدلالة فقال سبحانه : فإنك لا تسمع إلى قوله تعالى : فهم مسلمون وفيه أنهم إذا لا محالة من الذين ينتقم منهم وأنك وأشياعك من المنصورين والله تعالى أعلم فتأمله مع ما ذكرنا
وقد تقدم الكلام في هذه الجملة خالية عن الفاء في سورة النمل وكذا في قوله تعالى : ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين 25 وما أنت بهاد العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون 35 بيد أنا نذكر هنا ما ذكره الأجلة في سماع الموتى وفاء بما وعدنا هنالك فنقول ومن الله تعالى التوفيق : نقل عن العلامة إبن الهمام أنه قال : أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع إستدلالا بقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ونحوها يعني من قوله تعالى : وما أنت بمسمع من في القبور ولذا لم يقولوا يتلقين القبر وقالوا : لو حلف لا يكلم فلانا فكلمه ميتا لا يحنث وحكى السفاريني في البحور الزاخرة أن عائشة ذهبت إلى نفي سماع الموتى ووافقها طائفة من العلماء على ذلك ورجحه القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنايعني الحنابلةفي كتابه الجامع الكبير وأحتجوا بقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ونحوه وذهبت طوائف من أهل العلم إلى سماعهم في الجملة
وقال إبن عبدالبر : إن الأكثرين على ذلك وهو إختيار إبن جرير والطبري وكذا ذكر إبن قتيبة وغيره وأحتجوا بما في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما قال : لما كان يوم بدر وظهر عليهميعني مشركي قريشرسول الله امر ببضعة وعشرين رجلا وفي رواية أربع وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى أي بئر من أطواء بدر وأن رسول الله ناداهم ياأبا جهل بن هشام ياأمية بن خلف ياعتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعد ربي حقا فقال عمر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال : والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم زاد في رواية لمسلم عن أنس ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا وبما أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال : كانت أمرأة بالمدينة تقم المسجد فماتت فلم يعلم بها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فمر على قبرها فقال عليه الصلاة و السلام : ما هذا القبر فقالوا : أم محجن قال : التي كانت تقم المسجد قالوا : نعم فصف الناس فصلى عليها فقال : أي العمل وجدت أفضل قالوا يا رسول الله أتسمع قال : ما أنتم بأسمع منها فذكر عليه الصلاة و السلام أنها أجابته قم المسجد وبما رواه البيهقي والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال : أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى فزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة وبما أخرج إبن عبدالبر وقال عبدالحق الأشبيلي إسناده صحيح عن إبن عباس مرفوعا ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن
(21/55)

كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه وبما أخرج إبن أبي الدنيا عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال : الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له : أتسمع ما يقال لك فإذا بلغ حفرته دفنه معه وبما في الصحيحين من قوله : إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم وأجابوا عن الآية فقال السهيلي : إنها كقوله تعالى : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمى أي إن الله تعالى هو الذي يسمع ويهدي
وقال بعض الأجلة : إن معناها لا تسمعهم إلا أن يشاء الله تعالى او لا تسمعهم سماعا ينفعهم وقد ينفي الشيء لإنتفاء فائدته وثمرته كما في قوله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها الآية وهذا التأويل يجوز أن يعتبر في قوله تعالى : ولا تسمع الصم ويكون نكتة العدول عنفإنك لا تسمع الموتى ولا الصمإلى ما في النظم الجليل العناية بنفي الإسماع ويجوز أن لا يعتبر فيه ويبقى الكلام على ظاهره ويكون نكتة العدول الإشارة إلى أن لا تسمع في كل من الجملتين بمعنى
وقال الذاهبون إلى عدم سماعهم : الأصل عدم التأويل والتمسك بالظاهر إلى أن يتحقق ما يقتضي خلافه وأجابوا عن كثير مما أستدل به الآخرون فقال بعضهم : إن ما وقع في حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه يجوز أن يكون معجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم وهو مراد من قال : إنه من خصوصياته عليه الصلاة و السلام وهي من خوارق العادة والكلام في موافقها وهو الذي نفى في آية إنك لا تسمع الموتى ونحوها وفي قوله عليه الصلاة و السلام : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم دون ما أنتم بأسمع لما يقال ونحوه منهم تأييد ما لذلك وحديث أبي الشيخ مرسل وحكم الإستدلال به معروف على أن إحتمال الخصوصية قائم فيه أيضا : وفي صحيح البخاري قال قتادة : أحياهم الله تعالى يعني أهل الطوى حتى أسمعهم قوله صلى الله تعالى عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما ويؤيد ما أخرج البخاري ومسلم والنسائي وإبن أبي حاتم وإبن مردويه عن إبن عمر قال : وقف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قليب بدر فقال : هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ثم قال عليه الصلاة و السلام : إنهم الآن يسمعون ما أقول حيث قيد صلى الله تعالى عليه وسلم سماعهم بالآن وإذا قلنا بأن الميت يسئل سبعة أيام في قبره مؤمنا كان أو منافقا أو كافرا وأنه حين السؤال تعاد إليه روحه كان لك أن تقول : يجوز أن يكون خطاب أهل القليب حين إعادة أرواحهم إلى أبدانهم للسؤال فإنه كما في حديث أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داؤد والترمذي والنسائي كان في اليوم الثالث من قتلهم ويحتمل أن يكون خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم لأم محجن كان وقت السؤال بأن يكون ذلك قبل مضي سبعة أيام عليها وعليه لا يكون سماعهم من المتنازع فيه لأنهم حين سمعوا إحياء لا موتى ويرد على هذا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له عليه الصلاة و السلام : ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ولم ينكر ذلك عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بل قال عليه الصلاة و السلام له : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولو كان الأمر كما قال قتادة لكان الظاهر أن يقول صلى الله تعالى عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه : ليس الأمر كما تقول أن الله عزوجل أحياهم لي أو نحو ذلك وعائشة رضي الله تعالى عنها أنكرت ما وقع في الحديث مما أستدل به على المقصود ففي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه قال : ذكر عند عائشة أن إبن عمر رفع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فقالت :
(21/56)

وهل إبن عمر إنما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن قالت : وذلك مثل قوله : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم ليسمعون ما أقول إنما قال : إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ثم قرأت إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور وتعقب ذلك السهيلي فقال : عائشة رضي الله تعالى عنها لم تحضر قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فغيرها ممن حضر أحفظ للفظه عليه الصلاة و السلام وقد قالوا له : يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيفوا فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم قالوا : وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين يعني كما تقول عائشة جاز أن يكونوا سامعين وهو كلام قوي ولا يقدح عدم حضورها في روايتها لأنه مرسل صحابي وهو محمول على أنه سمع ذلك ممن حضره أو من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولو كان ذلك قادحا في روايتها لقدح في رواية إبن عمر السابقة فإنه لم يحضر أيضا ولا مانع من أن يكون النبي عليه الصلاة و السلام قال اللفظين جميعا فإنه كما علم من كلام السهيلي لا تعارض بينهما وقال بعضهم فيما رواه البيهقي والحاكم وصححه وغيرهما : أنا لا نسلم صحته وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الإعتبار وإن سلمنا صحته نلتزم القول بأن الموتى الذين لا يسمعون هم من عدا الشهداء أما الشهداء فيسمعون في الجملة لإمتيازهم على سائر الموتى بما أخبر عنهم من أنهم أحياء عند الله عزوجل وقيل في حديث إبن عبدالبر : إن عبدالحق وإن قال إسناده صحيح إلا أن الحافظ إبن رجب تعقبه وقال : إنه ضعيف بل منكر وفي حديث إبن أبي الدنيا إنه على تسليم صحته لا يثبت المطلوب لأن خطاب الملك عليه السلام للروح الذي بيده وهو ليس بميت وفي حديث الصحيحين من سماع العبد قرع نعال أصحابه إذا دفنوه وأنصرفوا عنه إنه إذ ذاك تعود إليه روحه للسؤال فيسمع وهو حي والجمهور على عود الروح إلى الجسد أو بعضه وقت السؤال على وجه لا يحس به أهل الدنيا إلا من شاء الله تعالى منهم ووراء ذلك مذاهب فمذهب إبن جرير وجماعة من الكرامية أن السؤال في القبر على البدن فقط وأن الله تعالى يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم وعلى هذا المذهب يمكن أن يقال نحو ما قيل على الأول ومذهب إبن حزم وإبن ميسرة أنه على الروح فقط ومذهب أبي الهذيل وإتباعه أن الميت لا يشعر بشيء أصلا إلا بين النفختين والحق أن الموتى يسمعون في الجملة وهذا على أحد وجهين أولهما أن يخلق الله عزوجل في بعض أجزاء الميت قوة يسمع بها متى شاء الله تعالى السلام ونحوه مما يشاء الله سبحانه سماعه إياه ولا يمنع من ذلك كونه تحت أطباق الثرى وقد أنحلت منه هاتيك البنية وأنفصمت العرى ولا يكاد يتوقف في قبول ذلك من يجوز أن يرى أعمى الصين بقة أندلس وثانيهما أن يكون ذلك السماع للروح بلا وساطة قوة في البدن ولا يمتنع أن تسمع بل أن تحس وتدرك مطلقا بعد مفارقتها البدن بدون وساطة قوى فيه وحيث كان لها على الصحيح تعلق لا يعلم حقيقته وكيفيته إلا الله عزوجل بالبدن كله أو بعضه بعد الموت وهو غير التعلق بالبدن الذي كان لها قبله أجرى الله سبحانه عادته بتمكينها من السمع وخلقه لها عند زيارة القبر وكذا عند حمل البدن إليه وعند الغسل مثلا ولا يلزم من وجود ذلك التعلق والقول بوجود قوة السمع ونحوه فيها نفسها أن تسمع كل مسموع لما أن السماع مطلقا وكذا سائر
(21/57)

الإحساسات ليس إلا تابعا للمشيئة فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه من السلام ونحوه وهذا الوجه هو الذي يترجح عندي ولا يلزم عليه إلتزام القول بأن أرواح الموتى مطلقا في أفنية القبور لما أن مدار السماع عليه مشيئة الله تعالى والتعلق الذي لا يعلم كيفيته وحقيقته إلا هو عزوجل فلتكن الروح حيث شاءت أو لا تكن في مكان هو رأى من يقول بتجردها
ويؤخذ من كلام ذكره العارف إبن برجان في شرح أسماء الله الحسنى تحقيق على وجه آخر وهو أن للشخص نفسا مبرأة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وروحا أوجدها الله تبارك وتعالى من باطن ما برأ منه النفس وهي للنفس بمنزلة النفس للجسم فالنفس حجابها وبعد المفارقة في العبد المؤمن تجعل الحقيقة الروحانية عامرة العلو من السماء الدنيا إلى السماء السابعة بل إلى حيث شاء الله تعالى من العلو في سرور ونعيم وتجعل الحقيقة النفسانية عامرة السفل من قبره إلى حيث شاء الله الله تعالى من الجو ولذلك لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم موسى قائما يصلي في قبره وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده عليه الصلاة و السلام إلى السماء ولقيهما عليهما السلام بعد الصعود في السموات العلا فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما وكذا يقال في الكافر إلا أن الحقيقة الروحانية له لا تكون عامرة العلو فلا تفتح لهم أبواب السماء بل تكون عامرة دار شقائها والعياذ بالله تعالى وبين الحقيقتين إتصال وبوساطة ذلك ومشيئته عزوجل يسمع من سلم عليه في قبره السلام ولا يختص السماع في السلام عند الزيارة ليلة الجمعة ويمها وبكرة السبت أو يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها بل يكون ذلك في السلام عند الزيارة مطلقا فالميت يسمع الله تعالى روحه السلام عليه من زائره في أي وقت كان ويقدره سبحانه وما أخرجه العقيلي من أنهم يسمعون السلام ولا يستطيعون رده محمول على نفي إستطاعة الرد على الوجه المعهود الذي يسمعه الأحياء وقيل : رد السلام وعدمه مما يختلف بإختلاف الأشخاص فرب شخص يقدره الله تعالى على الرد لا يثاب عليه لإنقطاع العمل وشخص آخر لا يقدره عزوجل وعندي أن التعلق أيضا مما يتفاوت قوة وضعفا بحسب الأشخاص بل وبحسب الأزمان أيضا وبذلك يجمع بين الأخبار والآثار المختلفة
وأما الجواب عن الآية التي الكلام فيها ونحوها مما يدل بظاهره على نفي السماع فيعلم مما تقدم فليفهم والله تعالى أعلم الله الذي خلقكم من ضعف مبتدأ وخبر أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى : و خلق الإنسان ضعيفا فمن إبتدائية وفي الضعف إستعارة مكنية حيث شبه بالأساس والمادة وفي إدخال من عليه تخييل ويجوز أن يراد من الضعف الضعيف بإطلاق المصدر على الوصف مبالغة أو بتأويله به أو يراد من ذي ضعف والمراد بذلك النطفة أي الله تعالى الذي أبتدأ خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة كقوله تعالى : من ماء مهين وهذا التفسير وإن كان مأثورا عن قتادة إلا أن الأول أولى وأنسب بقوله تعالى : ثم جعل من بعد ضعف قوة وذلك عند بلوغكم الحلم أو تعلق الروح بإبدانكم ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة إذا أخد منكم السن والمراد بالضعف هنا إبتدأوه ولذا أخر الشيب عنه أو الأعم فقوله سبحانه : شيبة للبيان أو للجمع بين تغيير قواهم وظواهرهم وفتح عاصم وحمزة ضاد ضعف في الجمع وهي قراءة عبدالله : وأبي رجاء
(21/58)

وقرأ الجمهور بضمها فيه والضم والفتح لغتان في ذلك كما في الفقر والفقر الفتح لغة تميم والضم لغة قريش ولذا أختار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قراءة الضم كما ورد في حديث رواه أبو داؤد والترمذي وحسنه وأحمد وإبن المنذر والطبراني والدارقطني وغيرهم عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الله الذي خلقكم من ضعف أي بالفتح فقال : من ضعف يابني أي بالضم لأنها لغة قومه عليه الصلاة و السلام ولم يقصد صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك رد القراءة الأخرى لأنها ثابتة بالوحي أيضا كالقراءة التي أختارها وروى عن عاصم الضم أيضا وعنه أيضا الضم في الأولين والفتح في الأخير وروى عن أبي عبدالرحمن والجحدري والضحاك الضم في الأول والفتح فيما بعد
وقرأ عيسى بضم الضاد والعين وهي لغة أيضا فيه وحكى عن كثير من اللغويين أن الضعف بالضم ما كان في البدن والضعف بالفتح ما كان في العقل والظاهر أنه لا فرق بين المضموم والمفتوح وكونهما مما يوصف به البدن والعقل والمراد بضعف الثاني عين الأول ونكر لمشاكلة قوة وبالأخير غيره فإنه ضعف الشيخوخة وذاك ضعف الطفولية والمراد بقوة الثانية عين الأولى ونكرت لمشاكلة ضعفا وحديث النكرة إذا أعيدت كانت غير أغلبي وتكلف بعضهم لتحصيل المغايرة فيما نكر وكرر في الآية فتدبر يخلق ما يشاء خلقه من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الضعف والقوة والشيبة وخلقها إما بمعنى خلق أسبابها أو محالها وأما إيجادها أنفسها وهو الظاهر ولا داعي للتأويل فإنها ليست بعدم صرف وهو العليم القدير 45 المبالغ في العلم والقدرة فإن الترديد فيما ذكر من الأحوال المختلفة مع إمكان غيره من أوضح دلائل العلم والقدرة
يوم تقوم الساعة أي القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وصارت علما لها بالغلبة كالنجم للثريا والكواكب للزهرة والمراد بقيامها وجودها أو قيام الخلائق فيها يقسم المجرمون ما لبثوا أي ما أقاموا في القبور كما روى عن الكلبي ومقاتل والمراد به ما أقاموا بعد الموت غير ساعة أي قطعة من الزمان قليلة وروى غير واحد عن قتادة أنهم يعنون ما لبثوا في الدنيا غير ساعة ورجح الأول بأنه الأظهر لأن لبثهم مغيا بيوم البعث كما سيأتي إن شاء الله تعالى وليس لبثهم في الدنيا كذلك وقيل : يعنون ما لبثوا فيما بين فناء الدنيا والبعث وهو ما بين النفختين وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما بين النفختين أربعون قيل أربعون يوما يا أبا هريرة قال أبيت قيل أربعون شهرا قال أبيت قيل أربعون سنة قال أبيت وعني بقوله رضي الله تعالى عنه أبيت : أمتنعت من بيان ذلك لكم أو أبيت أن أسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك ولهذا الحديث قيل لا يعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن بعضهم دعوى إتفاق الروايات على أن ما بين النفختين أربعون عاما وأنا أقول : الحق أنه لا يعلمه إلا الله تعالى ودعوى الإتفاق لم يقم عندي دليل عليها
وذكر الزمخشري أن ذلك وقت ينقطع عذابهم فيه وأستقلوا مدة لبثهم كذبا على ما روى عن الكلبي أو نسيانا لما عراهم من هول المطلع على ما قيل وجوز أن يكون إستقلالهم تلك المدة بالإضافة إلى مدة عذابهم يومئذ ولا يبعد علمهم بها سواء كان هذا القول في أول وقت الحشر أو في أثنائه أو بعد دخول النار وجوز أن يكونوا عدوا مدة بقائهم ساعة لعدم إنتفاعهم بها والكثير بلا نفع قليل كما أن القليل مع النفع كثير
(21/59)

فالكلام تأسف وتحسر على إضاعتهم أيام حياتهم وبين الساعة وساعة جناس تام مماثل كما أطبق عليه البلغاء إلا من لا يعتد به ولا يضر في ذلك إختلاف الحركة الإعرابية ولا وجود أل في إحدى الكلمتين لزيادتها على الكلمة وكذا لا يضر إتحاد مدلولهما في الأصل لأن المعرف فيه كالمنكر بمعنى القطعة من الزمان لمكان النقل في المعرف وصيرورته علما على القيامة كسائر الأعلام المنقولة وأخذ أحدهما من الآخر لا يضر أيضا كما يوضح ذلك ما قرروه في جناس الإشتقاق وظن بعضهم أن الساعة في القيامة مجاز ولذا أنكر التجنيس هنا إذ التجنيس المذكور لا يكون بين حقيقة ومجاز فلا تجنيس في نحو ركبت حمارا ولقيت حمارا معمما تعني رجلا بليدا وأشتهر أنه لم يقع في القرآن الكريم هذا النوع من الجناس إلا في هذا الموضع وأستنبط شيخ الإسلام إبن حجر عليه الرحمة موضعا آخر وهو قوله تعالى يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار لأن الأبصار الأول جمع بصر والأبصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة وتعقب بأنه وإن كان الإبصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة إلا أنه ليس من باب الحقيقة بل بطريق المجاز والإستعارة لأن البصيرة ما تجمع على أبصار بل على بصائر فقد قال علماء العربية : إن صيغة أفعال من جموع القلة لا تطرد إلا في أسم ثلاثي مفتوح الفاء كبصر وأبصار أو مكسورها كعنب وأعناب أو مضمومها كرطب وأرطاب ساكن العين كثوب وأثواب أو محركها كما تقدم وكعضد وأعضاد وفخذ وأفخاذ وصيغة فعائل من جموع الكثرة لا تطرد إلا في أسم رباعي مؤنث بالتاء أو بالمعنى ثالثه مدة سحابة وسحائب وبصيرة وبصائر وحلوبة وحلائب وشمال وشمائل وعجوز وعجائز وسعيد علم أمرأة وسعائد فأستعيرت الأبصار للبصائر بجامع ما بينهما من الإدراك والتمييز وقد سمعت أن هذا النوع لا يكون بين حقيقة ومجاز فليحفظ كذلك أي مثل ذلك الإفك كانوا أي في الدنيا يؤفكون 55 أي يصرفون عن الصدق والتحقيق والغرض من سوق الآية الإغراق في وصف المجرمين بالتمادي في التكذيب والإصرار على الباطل أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الإغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة فسوق الكلام للتعجب من إغترارهم بلا مع السراب والغرض أن يحقر عندهم ما فيه من التمتعات وزخارف الدنيا كي يقلعوا عن العناد ويرجعوا إلى سبيل الرشاد فكانه : قيل مثل ذلك الإفك العغجيب الشأن كانوا يؤفكون في الدنيا إغترار بما عدده ساعة إستقصارا والصارف لهم هو الله تعالى أو الشيطان أو الهوى وأياما كان فليس ذاك إلا لسوء إختيارهم وخباثة إستعدادهم وفي الآية على أحد الأقوال دليل على وقوع الكذب في الآخرة من الكفرة
وأستدل بها بعضهم على نفي عذاب القبر وليس بشيء وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في الدنيا من الملائكة أو الأنس أو منهما جميعا لقد لبثتم في كتاب الله أي في علمه وقضائه أو ما كتبه وعينه سبحانه أو اللوح المحفوظ أو القرآن وهو قوله تعالى : ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون وأياما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده
وأخرج عبد بن حميد وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتموفيه من البعد ما فيه إن الكلام على التقديم والتأخير والأصل وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث والكلام رد لما قالوه مؤكد باليمين أو توبيخ وتفضيح وتهكم بهم فتأمل فهذا يوم البعث الذي كنتم توعدون في الدنيا والفاء فصيحة كأنه قيل : إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه أي فنخبركم أنه قد تبين بطلان إنكاركم
(21/60)

وجوز أن تكون عاطفة والتعقيب ذكرى أو تعليلية ولكنكم كنتم لا تعلمون 65 أنه حق لتفريطكم في النظر فتستعجلون به إستهزاء وقيل : لا تعلمون البعث ولا تعترفون به فلذا صار مصيركم إلى النار
وقرأ الحسن البعث بفتح العين فهما وقريء بكسرهما وهو أسم والمفتوح مصدر وفي الآية من الدلالة على فضل العلماء ما لا يخفى فيومئذ أي يوم إذ يقع ذلك من أقسام الكفار وقول أولى العلم لهم لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم أي عذرهم
وقرأ الأكثر تنفع بالتاء محافظة على ظاهر الأمر للفظ وإن توسط بينهما فاصل ؤلا هم يستعتبون 75 الإستعتاب طلب العتبى وهي الأسم من الإعتاب بمعنى إزالة العتب كالعطاء والإستعطاء أي لا يطلب منهم إزالة عتب الله تعالى والمراد به غضبه سبحانه عليهم بالتوبة والطاعة فإنه قد حق عليهم العذاب وإن شئت قلت : أي لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة كما كان يقال لهم ذلك في الدنيا وقيل : اي لا يستقيلون فيستقالون بردهم إلى الدنيا
وقال إبن عطية : هذا إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة بأنهم لا ينفعهم الإعتذار ولا يعطون عتبى وهي الرضا و يستعتبون بمعنى يعتبون كما تقول يملك ويستملك والباب في أستفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه لأن المعنى يفسد إذا كان المفهوم منه ولا يطلب منهم عتبى إنتهى فجعل أستفعل بمعنى فعل
وحاصل المعنى عليه على ما في البحر هم من الإهمال وعدم الإلتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب وقيل : المعنى عليه هم لا يعاتبون على سيآتهم بل يعاقبون وما ذكرناه أولا هو الذي ينبغي أن يعول عليه وياليت شعري أين ما أدعاه إبن عطية من الفساد إذا كان المفهوم منه لا يطلب منهم عتبى على ما سمعت
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل أي وبالله تعالى لقد وصفنا للناس من كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل صفة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وما يقولون وما يقال لهم وما لا ينفع من إعتذارهم ولا يسمع من إستعتابهم فضرب المثل إتخاذه وصنعه من ضرب الخاتم واللبن
والمثل مجاز عن الصفة الغريبة والمراد بهذا القرآن إما هذه السورة الجليلة الشأن أو المجموع وهو الظاهر و من تبعيضية وجوزت الزيادة وقيل : المعنى وبالله تعالى لقد بينا للناس من كل مثل ينبؤهم عن التوحيد والبعث وصدق الرسول عليه الصلاة و السلام فضرب بمعنى بين والمثل على أصله وقيل : بمعنى الدليل العجيب والقرآن بمعنى المجموع ولئن جئتهم بآية أي مع ضربنا لهم من كل مثل في هذا القرآن الجليل الشأن لئن جئتهم بآية من آياته ليقولن الذين كفروا لفرط عتوهم وعنادهم وقساوة قلوبهم مخاطبين لك وللمؤمنين إن أنتم إلا مبطلون 85 أي مزورون وجوز حمل الآية على المعجزة أي لئن جئتهم بمعجزة من المعجزات التي أقترحوها ليقولن الذين كفروا إلخ والإتيان بالموصول دون الضمير لبيان السبب الحامل على القول المذكور وإذا أريد بالناس ما يعم الكفرة وغيرهم فوجه الإظهار ظاهر وتوحيد الخطاب في جئتهم على ما يقتضيه الظاهر وأما جمعه في قولهم : إن أنتم فلئلا يبقى بزعمهم له عليه الصلاة
(21/61)

والسلام شاهد من المؤمنين حيث جعلوا الكل مدعين وقال الإمام : في توحيد الخطاب في جئتهم وجمعه في أنتم لطيفة وهي أن الله تعالى قال : إن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل عليهم السلام ويمكن أن يجاء بها يقولوا : أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون إنتهى ولا يخفى أن ما ذكرناه أحسن والطف كذلك أي مثل ذلك الطبع الفظيع وجوز أن يكون المعنى مثل ذلك القول يطبع أي يختم الله الذي جلت عظمته وعظمت قدرته على قلوب الذين لا يعلمون 95 أي لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق بل يصرون على خرافات إعتقدوها وترهات إبتدعوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق ومن هنا قالوا : هو شر من الجهل البسيط وما ألطف ما قيل : قال حمار الحكيم توما لو أنصفوني لكنت أركب لأنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب وإطلاق العلم على الطلب مجاز لما أنه لازم له عادة وقيل : المعنى يطبع الله تعالى على قلوب الذين ليسوا من أولى العلم وليس بذاك والمراد من الذين لا يعلمون يحتمل أن يكون الذين كفروا فيكون قد وضع الموصول موضع ضميرهم للنعي بما في حيز الصلة ويحتمل أن يكون عاما ويدخل فيه أولئك دخولا أوليا
وظاهر كلام بعض الأجلة يميل إلى الإحتمال الأول وقد تقدم الكلام في طبعه وختمه عزوجل على القلب
فأصبر أي إذا علمت حالهم وطبع الله تعالى على قلوبهم فأصبر على مكارههم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة إن وعد الله حق وقد وعدك عزوجل بالنصرة وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق ولا بد من إنجازه والوفاء به لا محالة ولا يستخفنك لا يحملنك على الخفة والقلق الذين لا يوقنون 06 بما تتلو عليهم من الآيات البينة بتكذيبهم إياها وإيذائهم لك بأباطيلهم التي من جملتها قولهم : إن أنتم إلا مبطلون فإنهم شاكون ضالون ولا يستبدع أمثال ذلك منهم وقيل : أي لا يوقنون بأن وعد الله حق وهو كما ترى والحمل وإن كان لغيره صلى الله تعالى عليه وسلم لكن النهي راجع إليه عليه الصلاة و السلام فهو من باب لا أرينك ههنا وقد مر تحقيقه فكأنه قيل : لا تخف لهم جزعا وفي الآية من إرشاده تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وتعليمه سبحانه له كيف يتلقى المكاره بصدر رحيب ما لا يخفى
وقرأ إبن أبي إسحاق ويعقوب ولا يستحقنك بحاء مهملة وقاف من الإستحقاق والمعنى لا يفتننك الذين لا يوقنون ويكونوا أحق بك من المؤمنين على أنه مجاز عن ذلك لأن من فتن أحدا إستماله إليه حتى يكون أحق به من غيره والنهي على هذه القراءة راجع إلى أمته عليه الصلاة و السلام دونه صلى الله تعالى عليه وسلم لمكان العصمة وقد تقدم نظائر ذلك وما للعلماء من الكلام فيها
وقرأ الجمهور بتشديد النون وخففها إبن أبي عبلة ويعقوب ومن لطيف ما يروى ما أخرجه إبن أبي شيبة وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين فأجابه كرم الله تعالى وجهه وهو في الصلاة فأصبر إن وعد الله
(21/62)

حق لا يستخفنك الذين لا يوقنون ولا بدع في هذا الجواب من باب مدينة العلم وأخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا
ومن باب الإشارة في الآيات ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون إلى آخره قيل : الألف إشارة إلى ألفة طبع المؤمنين واللام إلى لؤم طبع الكافرين والميم إلى مغفرة رب العالمين جل شأنه والروم إشارة إلى القلب وفارس المشار إليهم بالضمير النائب عن الفاعل إشارة إلى النفس والمؤمنون إشارة إلى الروح والسر والعقل ففي الآية إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة ويغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله تعالى ونصره سبحانه تارة أخرى وذلك في بضع سنين من أيام الطلب ويومئذ يفرح المؤمنون الروح والسر والعقل وعلى هذا المنهاج سلك النيسابوري : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فيه إشارة إلى حال المحجوبين ووقوفهم على ظواهر الأشياء وما من شيء إلا له ظاهر وهو ما تدركه الحواس الظاهرة منه وباطن وهو ما يدركه العقل بإحدى طرق الإدراك من وجوه الحكمة فيه ومنه ما هو وراء طور العقل وهو ما يحصل بواسطة الفيض الألهي وتهذيب النفس أتم تهذيب وهو وإن لم يكن من مستنبطات العقل إلا أن العقل يقبله وليس معنى أنه ما وراء طور العقل يحيله ولا يقبله كما يتوهم ومما ذكرنا يعلم أن الباطن لا يجب أن يتوصل إليه بالظاهر بل قد يحصل لا بواسطته وذلك أعلى قدرا من حصوله بها فقول من يقول : إنه لا يمكن الوصول إلى الباطن إلا بالعبور على الظاهر لا يخلو عن بحث فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون أي يسرون بالسماع في روضة الشهود وذلك غذاء أرواحهم ونعيمها وأعلى أنواع السماع في هذه النشأة عند السادة الصوفية ما يكون من الحضرة الألهية بالأرواح القدسية والأسماع الملكوتية وهذه الأسماع لم يفارقها سماع ألست بربكم وأشتهر عندهم السماع في سماع الأصوات الحسنة وسماع الأشياء المحركة لما غلب عليهم من الأحوال من الخوف والرجاء والحب والتعظيم وذلك كسماع القرآن والوعظ والدف والشبابة والأوتار والمزمار والحداء والنشيد وفي ذلك الممدوح والمذموم وفي قواعد عزالدين عبدالعزيز بن عبدالسلام الكبرى تفصيل الكلام في ذلك على أتم وجه وسنذكر إن شاء الله تعالى قريبا ما يتعلق بذلك والله تعالى هو الموفق للصواب فسبحان الله حين تمسون إلخ فيه إشارة إلى أنه ينبغي إستغراق الأوقات في تنزيه الله سبحانه والثناء عليه جل وعلا بما هو سبحانه وتعالى أهله فإن ذلك روضة هذه النشأة وفي الأثر إن حلق الذكر رياض الجنة يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فيه إشارة إلى أن الفرع لا يلزم أن يكون كأصله
إنما الورد من الشوك ولا ينبت النرجس إلا من بصل ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها فيه إشارة إلى أن الإشتراك في الجنسية من أسباب الألفة
إن الطيور على أشباهها تقع
كل حزب بما لديهم فرحون فيه إشارة إلى أنه عزوجل لم يكره أحدا على ما هو عليه إن حقا وإن باطلا وإنما وقع التعاشق بين النفوس بحسب إستعدادها وما هي عليه فأعطى سبحانه جلت قدرته كل عاشق معشوقه الذي هام به قلب إستعداده وصار حبه ملء فؤاده وهذا
(21/63)

سر الفرح وما ألطف ما قال قيس بن ذريح
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ومن قبل ما كنا نطافا وفي المهد فزاد كما زدنا فأصبح ناميا وليس إذا متنا بمنفصم العقد ولكنه باق على كل حادث وزائرنا في ظلمة القبر واللحد وإذا مس الناس الآية فيها إشارة إلى أن طبيعة الإنسان ممزوجة من هداية الروح وإطاعتها ومن ضلال النفس وعصيانها فالناس إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومستهم البلية وأنكسرت نفوسهم وسكنت دواعيها وتخلصت أرواحهم عن أسر ظلمة شهواتها رجعت أرواحهم إلى الحضرة ووافقتها النفوس على خلاف طباعها فدعوا ربهم منيبين إليه فإذا جاد سبحانه عليهم بكشف ما نالهم ونظر جل وعلا باللطف فيما أصابهم عاد منهم من تمرد إلى عادته المذمومة وطبيعته الدنية المشؤمة ظهر الفساد في البر والبحر إلخ فيه إشارة إلى أن الشرور ليست مرادة لذاتها بل هي كبط الجرح وقطع الأصبع التي فيها آكلة فأصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون فيه إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يوقنون بصدق أحوالهم ولذا يستخفون بهم وينظرون إليهم بنظر الحقارة ويعيرونهم وينكرون عليهم فيما يقولون ويفعلون نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الموقنين وأن يحفظنا وأولادنا وإخواننا من الأمراض القلبية والقالبية بحرمة نبيه الأمين صلى الله تعالى وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
سورة لقمان
13 - أخرج إبن الضريس وإبن مردويه والبيهقي في الدلائل عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : أنزلت سورة لقمان بمكة ولا إستثناء في هذه الرواية وفي رواية النحاس في تاريخه عنه إستثناء ثلاث آيات منها وهي ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام إلى تمام الثلاث فإنها نزلن بالمدينة وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما هاجر قال له أحبار اليهود : بلغنا أنك تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أعنيتنا أم قومك قال : كلا عنيت فقالوا : إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء فقال عليه الصلاة و السلام : ذلك في علم الله تعالى قليل فأنزل الآيات
ونقل الداني عن عطاء وأبو حيان عن قتادة أنهما قالا : هي مكية إلا آيتين هما ولو أن ما في الأرض إلى آخر الآيتين وقيل : هي مكية إلا آية وهي قوله تعالى : الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة فإن إيجابهما بالمدينة وأنت تعلم أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء كما في صحيح البخاري وغيره فما ذكر من أن إيجابها بالمدينة غير مسلم ولو سلم فيكفي كونهم مأمورين بها بمكة ولو ندبا فلايتم التقريب فيها نعم المشهور أن الزكاة إيجابها بالمدينة فلعل ذلك القائل أراد أن إيجابهما معا تحقق بالمدينة لا أن إيجاب كل منهما تحقق فيها ولا يضر في ذلك أن إيجاب الصلاة كان بمكة وقيل : إن الزكاة إيجابها كان بمكة كالصلاة وتقدير الأنصباء هو الذي كان بالمدينة وعليه لا تقريب فيهما وآيها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني وأربع وثلاثون في عدد الباقين
(21/64)

وسبب نزولها على ما في البحر أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع إبنه وعن بر والديه فنزلت ووجه مناسبتها لما قبلها على ما فيه أيضا أنه قال تعالى فيما قبل : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة وأنه كان في آخر ما قبلها ولئن جئتهم بآية وفيها وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا وقال الجلال السيوطي : ظهر لي في إتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الإفتتاح بألمإن قوله تعالى : هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون متعلق بقوله تعالى : فيما قبل : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث الآية فهذا عين إيقانهم بالآخرة وهم المحسنون الموصوفون بما ذكر وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات وإبتداء الخلق
وذكر في السابقة في روضة يحبرون وقد فسر بالسماع وذكر هنا ومن الناس من يشتري لهو الحديث وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي
وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك وأقول في الإتصال أيضا : إنه قد ذكر فيما تقدم قوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وهنا قوله سبحانه : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة وكلاهما يفيد سهولة البعث وقرر ذلك هنا بقوله عز قائلا : إن الله سميع بصير وذكر سبحانه هناك قوله تعالى : وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون وقال عزوجل هنا : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد فذكر سبحانه في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الأخرى إلى غير ذلك
وما ألطف هذا الإتصال من حيث أن السورة الأولى ذكر فيها مغلوبية الروم وغلبتهم المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تحاربا عليها وخرج بذلك عن مقتضى الحكمة فإن الحكيم لا يحارب على دنيا دنية لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وهذه ذكر فيها قصة عبد مملوك على كثير من الأقوال حكيم زاهد في الدنيا غير مكترث بها ولا ملتفت إليها أوصى إبنه بما يأبى المحاربة ويقتضي الصبر والمسالمة وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى
بسم الله الرحمن الرحيم آلم 1 تلك آيات الكتاب الحكيم 2 أي ذي الحكمة ووصف الكتاب بذلك عند بعض المغاربة مجاز لأن الوصف بذلك للتملك وهو لا يملك الحكمة بل يشتمل عليها ويتضمنها فلأجل ذلك وصف بالحكيم بمعنى ذي الحكمة وأستظهر الطيبي أنه على ذلك من الإستعارة المكنية والحق أنه من باب عيشة راضية على حد لإبن وتامر
نعم يجوز أن يكون هناك إستعارة بالكناية أي الناطق بالحكمة كالحي ويجوز أن يكون الحكيم من صفاته عزوجل ووصف الكتاب به من باب الإسناد المجازي فإنه منه سبحانه بدا وقد يوصف الشيء بصفة مبدئه كما في قول الأعشى : وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها وأن يكون الأصل الحكيم منزله أو قائله فحذف المضاف إلى الضمير المجرور وأقيم المضاف إليه مقامه
(21/65)

فأنقلب نرفوعا ثم أستكن في الصفة المشبهة وأن يكون الحكيم فعيلا بمعنى مفعل كما قالوا : عقدت العسل فهو عقيد أي معقد وهذا قليل وقيل : هو بمعنى حاكم وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في الكلام على نظيرها هدى ورحمة بالنصب عل ىالحالية من آيات والعامل فيهما معنى الإشارة على ما ذكره غير واحد وبحث فيه
وقرأ حمزة والأعمش والزعفراني وطلحة وقنبل من طريق أبي الفضل الواسطي ونظيف بالرفع على الخبر بعد الخبرلتلك على مذهب الجمهور أو الخبر لمحذوف أي هي أو هو هدى ورحمة عظيمة للمحسنين 3 أي العاملين الحسنات والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة للمتعاطفين وقوله تعالى : الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون 4 أما مجرور على أنه صفة كاشفة أو بدل أو بيان لما قبله وأما منصوب أو مرفوع على القطع وعلى كل فهو تفسير للمحسنين على طريقة قول أوس بن حجر : الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا فقد حكى عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد عليه وهذا ظاهر على تقدير أن يراد بالحسنات مشاهيرها المعهودة في الدين وأما على تقدير أن يراد بها جميع ما يحسن من الأعمال فلا يظهر إلا بإعتبار جعل المذكورات بمنزلة الجميع من باب كل الصيد في جوف الفرا وقيل : إذا أريد بالحسنات المذكورات يكون الموصول صفة كاشفة وقوله تعالى : أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون 5 إستئنافا وإذا أريد بها جميع ما يحسن من الأعمال وكان تخصيص المذكورات بالذكر لفضل إعتداد بها يكون الموصول مبتدأ وجملة أولئك على هدى إلخ خبره والكلام إستئناف بذكر الصفة الموجبة للإستئهال
وقيل : إن الموصول على التقديرين صفة إلا أنه على التقدير الأول كاشفة وعلى التقدير الثاني صفة مادحة للوصف لا للموصوف وبناء يوقنون على هم للتقوى وأعيد الضمير للتأكيد ولدفع توهم كون بالآخرة خبرا وجبرا للفصل بين المبتدأ وخبره ولم يؤخر الفاصل للفاصلة
وذكر بعض أجلة المفسرين في قوله تعالى أول سورة البقرة : وهم بالآخرة هم يوقنون إن بناء يوقنون على هم يدل على أن مقابليهم ليسوا من اليقين في ظل ولا فيء وإن تقديم في الآخرة يدل على أن ما عليه مقابلوهم ليس من الآخرة في شيء وذلك لإفادة تقديم الفاعل المعنوي وتقديم الجار على متعلقه الإختصاص فأنظر هل يتسنى نحو ذلك هنا وقد مر أول سورة البقرة ما يعلم منه وجه إختيار أسم الإشارة ووجه تكراره وفي الآية كلام بعد لا يخفى على من راجع ما ذكروه من الكلام على ما يشبهها هناك وتأمل فراجع وتأمل
ومن الناس أي بعض من الناس أو بعض الناس من يشتري لهو الحديث أي الذي أو فريق يشتري على أن مناط الإفادة والمقصود بالإصالة هو إتصافهم بما في حيز الصلة أو الصفة لا كونهم ذوات أولئك المذكورين والجملة عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل : من الناس هاد مهدي ومنهم ضال مضل أو عطف قصة على قصة وقيل : إنها حال من فاعل الإشارة أي أشير إلى آيات الكتاب حال كونها هدى
(21/66)

ورحمة والحال من الناس من يشتري إلخ و لهو الحديث على ما روى عن الحسن كل ما شغلك عن عبادة الله تعالى وذكره من السمر والإضاحيك والخرافات والغناء ونحوها والإضافة بمعنى من أن أريد بالحديث المنكر كما في حديث الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش بناء على أنها بيانية وتبعيضية أن أريد به ما هو أعم منه بناء على مذهب بعض النحاة كإبن كيسان والسيرافي قالوا : إضافة ما هو جزء من المضاف إليه بمعنى من التبعيضية كما يدل عليه وقوع الفصل بها في كلامهم والذي عليه أكثر المتأخرين وذهب إليه إبن السراج والفارسي وهو الأصح أنها على معنى اللام كما فصله أبو حيان في شرح التسهيل وذكره شارح اللمع
وعن الضحاك أن لهو الحديث الشرك وقيل : السحر وأخرج إبن أبي شيبة وإبن أبي الدنيا وإبن جرير وإبن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الصهباء قال : سألت عبدالله إبن مسعود عن قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال : هو والله الغناء وبه فسر كثير والأحسن تفسيره بما يعم كل ذلك كما ذكرناه عن الحسن وهو الذي يقتضيه ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وإبن أبي الدنيا وإبن جرير وإبن أبي حاتم وإبن مردويه والبيهقي في سننه عن إبن عباس أنه قال : لهو الحديث هو الغناء وأشباهه وعلى جميع ذلك يكون الإشتراء إستعارة لإختياره على القرآن وإستبداله به وأخرج إبن عساكر عن مكحول في قوله تعالى : من يشتري لهو الحديث قال الجواري الضاربات
وأخرج آدم وإبن جرير والبيهقي في سننه عن مجاهد أنه قال فيه : هو إشتراؤه المغنى والمغنية والإستماع إليه وإلى مثله من الباطل وفي رواية ذكرها البيهقي في السنن عن إبن مسعود أنه قال : في الآية هو رجل يشتري جارية تغنيه ليلا أو نهارا وأشتهر أن الآية نزلت في النضر بن الحرث ففي رواية جويبر عن إبن عباس أنه أشترى قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا أنطلق به إلى قينته فيقول : آطعميه وأسقيه وغنيه ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه فنزلت
وفي أسباب النزول للواحدي عن الكلبي ومقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم وفي بعض الروايات كتب الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشا ويقول لهم : إن محمدا عليه الصلاة و السلام يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم وأسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون إستماع القرآن فنزلت وقيل : إنها نزلت في إبن خطل أشترى جارية تغني بالسب ولا يأبى نزولها فيمن ذكر الجمع في قوله تعالى بعد : أولئك لهم كما لا يخفى عل ىالفطن والإشتراء على أكثر هذه الروايات على حقيقته ويحتاج في بعضها إلى عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى على من دقق النظر جعل المغنية ونحوها نفس لهو الحديث مبالغة كما جعل النساء في قوله تعالى : زين للناس حب الشهوات من النساء نفس الزينة
وفي البحر إن أريد بلهو الحديث ما يقع عليه الشراء كالجواري المغنيات وككتب الأعاجم فالإشتراء حقيقة ويكون الكلام على حذف مضاف أي من يشتري ذات لهو الحديث
وقال الخفاجي : عليه الرحمة لا حاجة إلى تقدير ذات لأنه لما أشتريت المغنية لغنائها فكأن المشتري هو الغناء نفسه فتدبره وفي الآية عند الأكثرين ذم للغناء بأعلى صوت وقد تضافرت الآثار وكلمات كثير من العلماء الأخيار على ذمه مطلقا لا في مقام دون مقام فأخرج إبن أبي الدنيا والبيهقي في شعبه عن إبن مسعود قال : إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه شيطان فقال : تغنه فإن كان لا يحسن قال : تمنه وأخرجا أيضا عن
(21/67)

الشعبي قال : عن القاسم بن محمد أنه سئل عن الغناء فقال للسائل : أنهاك عنه وأكرهه لك فقال السائل : أحراء هو قال : أنظر ياإبن أخي إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء وأخرجا عنه أيضا أنه قال : لعن الله تعالى المغنى والمغنى له وفي السنن عن إبن مسعود قال : قال رسول الله الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وأخرج عنه نحوه إبن أبي الدنيا ورواه عن أبي هريرة والديلمي عنه وعن أنس وضعفه إبن القطان : وقال النووي لا يصح وقال العراقي : رفعه غير صحيح لأن في إسناده من لم يسم وفيه إشارة إلى أن وقفه على إبن مسعود صحيح وهو في حكم المرفوع إذ مثله لا يقال من قبل الزاي وأخرج إبن أبي الدنيا وإبن مردويه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله تعالى إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك وأخرج إبن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي عثمان الليثي قال : قال يزيد بن الوليد الناقص : يابني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المرؤة وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا وقال الضحاك : الغناء منفذة للمال مسخطة للرب مفسدة للقلب وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والترمذي وإبن ماجه وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم والطبراني وغيرهم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا تيبعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية ومن الناس من يشتري لهو الحديث إلى آخر الآية وفي رواية إبن أبي الدنيا وإبن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والإستماع إليها ثم قرأ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ويعود هذا ونحوه إلى ذم الغناء
وقيل : الغناء جاسوس القلب وسارق المرؤة والعقول يتغلغل في سويداء القلوب ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى بيت التخييل فينشر ما غرز فيها من الهوى والشهوة والسخافة والرعونة فبينما ترى الرجل وعليه سمت الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار العلم كلامه حكمة وسكوته عبرة فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه وذهبت مرؤته وبهاؤه فيستحسن ما كان قبل السماع ويبدي من أسراره ما كان يكتمه وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى كثرة الكلام والهذيان والإهتزاز كأنه جان وربما صفق بيديه ودق الأرض برجليه وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك وأختلف العلماء في حكمه فحكى تحريمه عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه القاضي أبو الطيب والقرطبي والماوردي والقاضي عياض
وفي التاتار خانية أعلم أن التغني حرام في جميع الأديان وذكر في الزيادات أن الوصية للمغنين والمغنيات مما هو معصية عندنا وعند أهل الكتاب وحكى عن ظهير الدين المرغنياني : أنه قال من قال لمقريء زماننا أحسنت عند قراءته كفر وصاحبا الهداية والذخيرة سمياه كبيرة هذا في التغني للناس في غير الأعياد والأعراس ويدخل فيه تغني صوفية زماننا في المساجد والدعوات بالأشعار والأذكار مع إختلاط أهل الأهواء والمرد بل هذا أشد من كل تغن لأنه مع إعتقاد العبادة وأما التغني وحده بالأشعار لدفع الوحشة أو في الأعياد والأعراس فأختلفوا فيه والصواب منعه مطلقا في هذا الزمان إنتهى
وفي الدر المختار التغني لنفسه لدفع الوحشة لا بأس به عند العامة على ما في العناية وصححه
(21/68)

العيني وغيره قال ولو فيه وعظ وحكمة فجائز إتفاقا ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدف فيه ومنهم من أباحه مطلقا ومنهم من كرهه مطلقا إنتهى وفي البحر والمذهب حرمته مطلقا فأنقطع الإختلاف بل ظاهر الهداية أنه كبيرة ولو لنفسه وأقره المنصف وقال : ولا تقبل شهادة من يسمع الغناء أو يجلس مجلسه إنتهى كلام الدر
وذكر الأمام أبو بكر الطرسوسي في كتابه في تحريم السماع أن الإمام أبا حنيفة يكره الغناء ويجعله من الذنوب وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا إختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا بين أهل البصرة في كراهة ذلك والمنع منه إنتهى وكأن مراده بالكراهة الحرمة والمتقدمون كثيرا ما يريدون بالمكروه الحرام كما في قوله تعالى : كل ذلك كان سيؤه عند ربك مكروها ونقل عليه الرحمة فيه أيضا عن الإمام مالك إنه نهى عن الغناء وعن إستماعه وقال : إذا أشترى جارية فوجدها مغنية فله أن يردها بالعيب وأنه سئل ما ترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق ونقل التحريم عن جمع من الحنابلة على ما حكاه شارح المقنع وغيره وذكر شيخ الإسلام إبن تيمية في كتاب البلغة أن أكثر أصحابهم على التحريم وعن عبدالله إبن الإمام أحمد أنه قال : سألت أبي عن الغناء فقال ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ثم ذكر قول مالك : إنما يفعله عندنا الفساق وقال المحاسبي في رسالة الإنشاء الغناء حرام كالميتة ونقل الطرسوسي أيضا عن كتاب أدب القضاء أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه قال : إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال من أستكثر منه فهو سفيه ترد شهادته وفيه أنه صرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب والطبري والشيخ أبي إسحاق في التنبيه وذكر بعض تلامذة البغوي في كتابه الذي سماه التقريب أن الغناء حرام فعله وسماعه وقال إبن الصلاح في فتاواه بعد كلام طويل : فإذن هذا السماع حرام بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين إنتهى
والذي رأيته في الشرح الكبير للجامع الصغير للفاضل المناوي أن مذهب الشافعي أنه مكروه تنزيها عند أمن الفتنة وفي المنهاج يكره الغناء بلا آلة قال العلامة إبن حجر لما صح عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه وذكر الحديث السابق الموقوف عليه وأنه جاء مرفوعا من طرق كثيرة بينها في كتابه كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ثم قال : وزعم أنه لا دلالة فيه على كراهته لأن بعض المباح كلبس الثياب الجميلة ينبت النفاق في القلب وليس بمكروه يرد بأنا لا نسلم أن هذا ينبت نفاقا أصلا ولئن سلمناه فالنفاق مختلف الذي ينبته الغناء من التخنث وما يترتب عليه أقبح وأشنع كما لا يخفى ثم قال : وقد جزم الشيخان يعني النووي والرافعي في موضع بأنه معصية وينبغي حمله على ما فيه وصف نحو خمر أو تشبب بأمرد أو أجنبية ونحو ذلك مما يحمل غالبا على معصية قال الأذرعي : أما ما أعتيد عند محاولة عمل وحمل ثقيل كحداء الأعراب لإبلهم والنساء لتسكين صغارهن فلا شك في جوازه بل ربما يندب إذا نشط على سير أو رغب في خير كالحداء في الحج والغزو وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض الصحابة إنتهى وقضية قولهم بلا آلة حرمته مع الآلة قال الزركشي لكن القياس تحريم الآلة فقط وبقاء الغناء على الكراهة إنتهى
(21/69)

ومثل الإختلاف في الغناء الإختلاف في السماع فأباحه قوم كما أباحوا الغناء وأستدلوا على ذلك بما رواه البخاري عن عائشة قالت : دخل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فأضطجع على الفراش وحول وجهه وفي رواية لمسلمتسجى بثوبه ودخل أبو بكر فأنتهرني وقال مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : دعهما فلما غفل غمرتهما فخرجتا وكان يوم عيد الحديث ووجه الإستدلال أن هناك غناء أو سماعا وقد أنكر عليه الصلاة و السلام إنكار أبي بكر رضي الله تعالى عنه بل فيه دليل أيضا على جواز سماع الرجل صوت الجارية ولو لم تكن مملوكة لأنه عليه الصلاة و السلام سمع ولم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره وقد أستمرتا تغنيان إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج وإنكار أبي بكر على إبنته رضي الله تعالى عنهما مع علمه بوجود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان لظن أن ذلك لم يكن بعلمه عليه الصلاة و السلام لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه فظنه نائما وفي فتح الباري أستدل جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة
ويكفي في رد ذلك ما رواه البخاري أيضا بعبده عن عائشة أيضا قالت : دخل على أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت : وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر : أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ياأبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا فنفت فيه عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح
قال القرطبي : قولها ليستا بمغنيتين أي ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك وهذا منهما تجوز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه وأما ما أبتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة وإنتهى التواقع بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وأن ذلك يثمر سني الأحوال وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرقة والله تعالى المستعان إنتهى كلام القرطبي وكذا الغرض من كلام فتح الباري وهو كلام حسن بيد أن قوله : وإنما يسمي بذلك من ينشد إلخ لا يخلو عن شيء بناء على أن المتبادر عموم ذلك لما يكون في المنشد منه تعريض أو تصريح بالفواحش ولما لا يكون فيه ذلك وقال بعض الأجلة : ليس في الخبر الإباحة مطلقا بل قصارى ما فيه إباحته في سرور شرعي كما في الأعياد والأعراس فهو دليل لمن أجازه في العرس كما أجاز ضرب الدف فيه وأيضا إنكار أبي بكر رضي الله تعالى عنه ظاهر في أنه كان سمع من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذم الغناء والنهي عنه فظن عموم الحكم فأنكر وبإنكاره عليه الصلاة و السلام عليه إنكاره تبين له عدم العموم وفي الخبر الآخر ما يدل على أنه أوضح له صلى الله تعالى عليه وسلم الحال مقرونا ببيان الحكمة وهو أنه يوم عيد فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس ومع هذا أشار صلى الله تعالى عليه وسلم بثوبه وتحويل وجهه الشريف إلى أن الإعراض عن ذلك أولى وسماع
(21/70)

صوت الجارية الغير المملوكة بمثل هذا الغناء إذا أمنت الفتنة مما لا بأس به فليكن الخبر دليلا على جوازه
وأستدل بعضهم على ذلك بما جاء عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من دهاة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكان يتغنى ولا يخفى ما فيه فإن هذا التغني ليس بالمعنى المشهور ونحوه التغني في قوله عليه الصلاة و السلام : ليس منا من لم يتغن بالقرآن وسفيان بن عيينة وأبو عبيدة فسرا التغني في هذا الحديث بالإستغناء فكأنه قيل : ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره وهو مع هذا تغن لإزالة الوحشة عن نفسه في عقر داره ومثله ما روى عن عبدالله بن عوف قال : أتيت باب عمر رضي الله تعالى عنه فسمعته يغني
فكيف ثوائي بالمدينة بعدما قضى وطرا منها جميل بن معمر أراد به جميلا الجمحي وكان خاصا به فلما أستأذنت عليه قال لي : أسمعت ما قلت قلت : نعم قال : أنا إذا خلونا ما يقول الناس في بيوتهم وحرم جماعة السماع مطلقا وقال الغزالي : السماع أما محبوب بأن غلب على السامع حب الله تعالى ولقائه ليستخرج به أحوالا من المكاشفات والملاطفات وإما مباح بأن كان عنده عشق مباح لحليته أو لم يغلب عليه حب الله تعالى ولا الهوى وإما محرم بأن غلب عليه هوى محرم
وسئل العز بن عبدالسلام عن إستماع الإنشاد في المحبة والرقص فقال : الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل فلا يصلح إلا للنساء وأما إستماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به بل يندب عند الفتور وسآمة القلب ولا يحضر السماع من في قلبه هوى خبيث فإنه يحرك ما في القلب وقال أيضا : السماع يختلف بإختلاف السامعين والمسموع منهم وهم إما عارفون بالله تعالى ويختلف سماعهم بإختلاف أحوالهم فمن غلب عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخرقات نحو حزن وبكاء وتغير لون وهو إما خوف عقاب أو فوات ثواب أو أنس وقرب وهو أفضل الخائفين والسامعين وتأثير القرآن فيه أشد ومن غلب عليه الرجاء أثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات فإن كان رجاؤه للأنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في المرتبة الثانية وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني ومن غلب عليه حب الله تعالى لإنعامه فيؤثر فيه سماع الأنعام والإكرام أو لجماله سبحانه المطلق فيؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات وهو أفضل مما قبله لأن سبب حبه أفضل الأسباب ويشتد التأثير فيه عند ذكر الإقصاء والأبعاد ومن غلب عليه التعظيم والإجلال وهو أفضل من جميع ما قبله وتختلف أحوال هؤلاء في المسموع منه فالسماع من الولي أشد تأثيرا من السماع من عامي ومن نبي أشد تأثيرا منه ومن ولي ومن الرب عزوجل أشد تأثيرا من السماع من نبي لأن كلام المهيب أشد تأثيرا في الهائب من كلام غيره كما أن كلام الحبيب أشد تأثيرا في المحب من كلام غيره ولهذا لم يشتغل النبيون والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء وأقتصروا على كلام ربهم جل شأنه ومن يغلب عليه هوى مباح كمن يعشق حليلته فهو يؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فسماعه لا بأس به ومن يغلب عليه هوى محرم كعشق أمرد أو أجنبية فهو يؤثر فيه السعي إلى الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام وأما من لم يجد في نفسه شيئا من هذه الأقسام الستة فيكره سماعه من جهة أن الغالب على العامة إنما هي الأهواء الفاسدة فربما هيجه السماع إلى صورة محرمة فيتعلق بها ويميل إليها ولا يحرم عليه ذلك لأنا لا نتحقق السبب المحرم وقد يحضر السماع قوم من الفجرة
(21/71)

فيبكون وينزعجون لأغراض خبيثة أنطووا عليها ويراؤن الحاضرين بأن سماعهم لشيء محبوب وهؤلاء قد جمعوا بين المعصية وبين إبهام كونهم من الصالحين وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم ويذكرهم المنشد فراق الأحبة وعدم الأنس فيبكي أحدهم ويوهم الحاضرين إن بكاءه لأجل رب العالمين جل وعلا وهذا مراء بأمر غير محرم ثم قال : أعلم أنه لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنية والأفعال الرضية ولكل صفة من الصفات حال مختص بها فمن ذكر صفة الرحمة أو ذكر بها كانت حاله حال الراجين وسمعه سماعهم ومن ذكر شدة النقمة أو ذكر بها كانت حاله حال الخائفين وسماعه سماعهم وعلى هذا القياس وقد تغلب الأحوال على بعضهم بحيث لا يصغي إلى ما يقوله المنشد ولا يلتفت إليه لغلبة حاله الأولى عليه إنتهى وقد نقله بعض الأجلة وأقره وفيه ما يخالف ما نقل عن الغزالي
ونقل القاضي حسين عن الجنيد قدس سره أنه قال : الناس في السماع أما عوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم وأما زهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهدتهم وإما عارفون وهو مسحتب لهم لحياة قلوبهم وذكر نحوه أبو طالب المكي وصححه السهروردي عليه الرحمة في عوارفه والظاهر أن الجنيد أراد بالحرام معناه الإصطلاحي
وأستظهر بعضهم أنه لم يرد ذلك وإنما أراد أنه لا ينبغي ونقل بعضهم عن الجنيد قدس سره أنه سئل عن السماع فقال : هو ضلال للمبتديء والمنتهي لا يحتاج إليه وفيه مخالفة لما سمعت
وقال القشيري رحمه الله تعالى : إن للسماع شرائط منها معرفة الأسماء والصفات ليعلم صفات الذات من صفات الأفعال وما يمتنع في نعت الحق سبحانه وما يجوز وصفه تعالى به وما يصح إطلاقه عليه عز شأنه من الأسماء وما يمتنع ثم قال : فهذه شرائظ صحة السماع على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول وأما عند أهل الحقائق فالشرط فناء النفس بصدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة فمن لم تتقدم بالصحة معاملته ولم تحصل بالصدق منازلته فسماعه ضياع وتواجده طباع والسماع فتنة يدعو إليها إستيلاء العشق إلا عند سقوط الشهوة وحصول الصفوة وأطال بما يطول ذكره قيل : وبه يتبين تحريم السماع على أكثر متصوفة الزمان لعقد شروط القيام بأدائه ومن العجب أنهم ينسبون السماع والتواجد إلى رسول الله ويروون عن عطية أنه عليه الصلاة و السلام دخل على أصحاب الصفة يوما فجلس بينهم وقال عليه الصلاة والتحية : هل فيكم من ينشدنا أبياتا فقال واحد : لسعت حية الهوى كبدي ولا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي فقام عليه الصلاة و السلام وتمايل حتى سقط الرداء الشريف عن منكبيه فأخذه أصحاب الصفة فقسموه فيما بينهم بأربعمائة قطعة وهو لعمري كذب صريح وإفك قبيح لا أصل له بإجماع محدثي أهل السنة وما أراه إلا من وضع الزنادقة فهذا القرآن العظيم يتلوه جبريل عليه السلام عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ويتلوه هو أيضا ويسمعه من غير واحد ولا يعتريه عليه الصلاة و السلام شيء مما ذكروه في سماع بيتين هما كما سمعت سبحانك هذا بهتان عظيم وأنا أقول : قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع ولا يتحاشى من ذلك في المساجد وغيرها بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والحانات وسائر ما يعد من المحظورات ومع ذلك قد وظف لهم من غلة الوقف ما وظف ويسمونهم الممجدين
(21/72)

ويعدون خلو الجوامع من ذلك من قلة الإكتراث بالدين وأشنع من ذلك ما يفعله أبالسة المتصوفة ومردتهم ثم أنهم قبحهم الله تعالى إذا أعترض عليهم بما أشتمل عليه نشيدهم من الباطل يقولون : نعني بالخمر المحبة الألهية وبالسكر غلبتها وبمية وليلى وسعدى مثلا المحبوب الأعظم وهو الله عزوجل وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه وفي القواعد الكبرى للعز بن عبدالسلام ليس من أدب السماع أن يشبه غلبة المحبة بالسكر من الخمر فإنه سوء الأدب وكذا تشبيه المحبة بالخمر لأن الخمر أم الخبائث فلا يشبه ما أحبه الله تعالى بما أبغضه وقضى بخبثه ونجاسته فإن تشبيه النفيس بالخسيس سوء الأدب بلا شك فيه وكذا التشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات ولقد كره لبعضهم قوله : أنتم روحي ومعلم راحتي ولبعضهم قوله : فأنت السمع والبصر لأنه شبه من لا شبيه له بروحه الخسيسة وسمعه وبصره اللذين لا قدر لهما ثم أنه وإن أباح بعض أقسام السماع حط على من يرقص ويصفق عنده فقال : أما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة برعونة الإناث لا يفعلها إلا أرعن أو متصنع كذاب وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه وقد قال عليه الصلاة و السلام : خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك وإنما أستحوذ الشيطان على قوم يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله تعالى شأنه ولقد مانوا فيما قالوا وكذبوا فيما أدعوا من جهة أنهم عند سماع المطربات وجدوا لذتين إحداهما لذة قليل من الأحوال المتعلقة بذي الجلال والثانية لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات ليست من آثار الدين ولا متعلقة بأموره فلما عظمت عندهم اللذات غلطوا فظنوا أن مجموع ما حصل لهم إنما حصل بسبب حصول ذلك القليل من الأحوال وليس كذلك بل الأغلب عليهم حصول لذات النفوس التي ليست من الدين في شيء وقد حرم بعض العلماء التصفيق لقوله عليه الصلاة و السلام : إنما التصفيق للنساء ولعن رسول الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء ومن هاب الإله وأدرك شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق ولا يصدران إلا من جاهل ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء ولا معتبر من أتباعهم وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء وقد قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ولقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئا من ذلك فما ذاك إلا غرض من أغراض النفس وليس بقربة إلى الرب جل وعلا وفاعله إن كان ممن يقتدي به ويعتقد أنه ما فعله إلا لكونه قربة فبئس ما صنع لإيهامه أن هذا من الطاعات وإنما هو من أقبح الرعونات وأما الصياح والتغاشي ونحوهما فتصنع ورياء فإن كان ذلك عن حال لا يقتضيهما فأثم الفاعل من جهتين إحداهما إيهامه الحال الثابتة الموجبة لهما والثانية تصنعه ورياؤه وإن كان عن مقتض أثم أثم رياء لا غير وكذلك نتف الشعور وضرب الصدور وتمزيق الثياب محرم لما فيه من إضاعة المال وأي ثمرة لضرب الصدور ونتف الشعور وشق الجيوب إلا رعونات صادرة عن النفوس كلامه ومنه يعلم ما في نقل الأسنوي عنه رحمه الله تعالى أنه كان يرقص في السماع والعلامة إبن حجر قال : يحمل ذلك على مجرد القيام والتحرك لغلبة وجد وشهود وتجل لا يعرفه إلا أهله ومن ثم قال الإمام إسماعيل الحضرمي : موقف الشمس عن قوم يتحركون في السماع هؤلاء
(21/73)

قوم يروحون قلوبهم بالأصوات الحسنة حتى يصيروا روحانيين فهم بالقلوب مع الحق وبالأجساد مع الخلق ومع هذا فلا يؤمن عليهم العدو ولا يعول عليهم فيما فعلوا ولا يقتدي بهم فيما قالوا وما ذكره فيمن يصدر عنه نحو الصياح والتغاشي عن حال يقتضيه لا يخلو عن شيء فقد قال البلقيني فيما يصدر عنهم من الرقص الذي هو عند جمع ليس بمحرم ولا مكروه لأنه مجرد حركات على إستقامة أو إعوجاج ولأنه عليه الصلاة و السلام أقر الحبشة عليه في مسجده يوم عيد وعند آخرين مكروه وعند هذا القائل حرام إذا كثر بحيث أسقط المرؤة إن كان بإختيارهم فهم كغيرهم وإلا فليسوا بمكلفين وأستوضحه بعض الأجلة وقال : يجب إطراده في سائر ما يحكى عن الصوفية مما يخالف ظواهر الشرع فلا يحتج به لأنه إن صدر عنهم في حال تكليفهم فهم كغيرهم أو مع غيبتهم لم يكونوا مكلفين به والذي يظهر لي أن غناء الرجل بمثل هذه الألحان إن كان لدفع الوحشة عن نفسه فمباح غير مكروه كما ذهب إليه شمس الأئمة السرخسي لكن بشرط أن لا يسمعه من يخشى عليه الفتنة من أمرأة أو غيرها ولا من يستخف به ويسترذله وبشرط أن لا يغير أسم معظم بنحو زيادة ليست فيه في أصل وضعه لأجل أن لا يخرج عن مقتضى الصنعة مثل أن يقول في الله إيلاه وفي محمد موحامد هذا هذا مع كون ما يتغنى به مما لا بأس بإنشاده وإن كان للناس للهو في غير حادث سرور كعرس بأجرة أو بدونها أزدري به لذلك أو لم يزدر كان ما يتغنى به مباح الإنشاد أو لم يكن فحرام وإن أمنت الفتنة وأراه من الصغائر كما يقتضيه كلام الماوردي حيث قال : وإذا قلنا بتحريم الأغاني والملاهي فهي من الصغائر دون الكبائر وإن كان في حادث سرور فهو مباح إن أمنت الفتنة وكان ما يتغنى به جائز الإنشاد ولم يغير فيه أسم معظم ولم يكن سببا للأزدراء به وهتك مرؤته ولا لإجتماع الرجال والنساء على وجه محظور وإن كان سببا لمحرم فهو حرام وتتفاوت مراتب حرمته حسب تفاوت حرمة ما كان هو سببا له وإن كان للناس لا للهو بل لتنشيطهم على ذكر الله تعالى كما يفعل في بعض حلق التهليل في بلادنا فمحتمل الإباحة إن لم يتضمن مفسدة ولعله إلى الكراهة أقرب
وربما يقال : إنه حينئذ قربة كالحداء وهو ما يقال خلف الإبل من زجر وغيره إذا كان منشطا لسير هو قربة لأن وسيلة القربة قربة إتفاقا فيقال : لم نقف على خبر في إشتمال حلق الذكر على عهد رسول الله وكذا على عهد خلفائه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وهم أحرص الناس على القرب على هذا الغناء ولا على سائر أنواعه وصحت أحاديث في الحداء ولذا أطلق جمع القول بندبه وكونهم نشطين بدون ذلك لا يمنع أن يكون فيهم من يزيده ذلك نشاطا فلو كان لذلك قربة لفعلوه ولو مرة ولم ينقل أنهم فعلوه أصلا على أنه لا يبعد أن يقال : إنه يشوش على الذاكرين ولا يتم لهم معه تدبر معنى الذكر وتصوره وهو بدون ذلك لا ثواب فيه بالإجماع ولعل ما يفعل على المنائر مما يسمونه تمجيدا منتظم عند الجهلة في سلك وسائل القرب بل يعده أكثرهم قربة من حيث ذاته وهو لعمري عند العالم بمعزل عن ذلك وإن كان لحاجة مرض تعين شفاؤه به فلا شك في جوازه وإلا كباب على المباح منه يخرم المرؤة كإتخاذه حرفة وقول الرافعي : لا يخرمها إذا لاق به رده الزركشي بأن الشافعي نص على رد شهادته وجرى عليه أصحابه لأنها حرفة دنية ويعد فاعلها في العرف ممن لا حياء له وعن الحسن أن رجلا قال له : ما تقول في الغناء قال : نعم الشيء الغناء يوصل به الرحم وينفس به عن المكروب ويفعل فيه المعروف قال : إنما أعني الشد قال : وما الشد أتعرف منه شيئا قال :
(21/74)

نعم قال : فما هو فأندفع الرجل يغني ويلوي شدقيه ومنخريه ويكسر عينيه فقال الحسن : ما كنت أرى أن عاقلا يبلغ من نفسه ما أرى وأختلفوا في تعاطي خارم المرؤة على أوجه ثالثها إن تعلقت به شهادة حرم وإلا فلا
قال بعض الأجلة : وهو الأوجه لأنه يحرم عليه التسبب في إسقاط ما تحمله وصار أمانة عنده لغيره ويظهر لي أنه إن كان ذلك من عالم يقتدي به أو كان ذلك سببا للإزدراء حرم أيضا وإن سماعه أي إستماعه لا مجرد سماعه بلا قصد عند أمن الفتنة وكون ما يتغنى به جائز الإنشاد وعدم تسببه لمعصية كإستدامة مغن لغناء آثم به مباح وإلا كباب عليه كما قال النووي : بسقط المرؤة كالإكباب على الغناء المباح والإختلاف في تعاطي مسقطها قد ذكرناه آنفا وأما سماعه عند عدم أمن الفتنة وكون ما يتغنى به غير جائز الإنشاد وكونه متسببا لمعصية فحرام وتتفاوت مراتب حرمته ولعلها تصل إلى حرمة كبيرة ومن السماع المحرم سماع متصوفة زماننا وإن خلا عن رقص فإن مفاسده أكثر من أن تحصى وكثير مما يسمعونه من الأشعار من أشنع ما يتلى ومع هذا يعتقدونه قربة ويزعمون أن أكثرهم رغبة فيه أشدهم رغبة أو رهبة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون
ولا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم عن القشيري وغيره أن سماعهم مذموم عند من يعتقدون إنتصار
لهم ويحسبون أنهم وإياه من حزب واحد فويل لمن شفعاؤه خصماؤه وأحباؤه أعداؤه وأما رقصهم عليه فقد زادوا به في الطنبور رنة وضموا كسر الله تعالى شوكتهم بذلك إلى السفه جنة وقد أفاد بعض الأجلة أنه لا تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف الذي قيل يباح او يسن ضربه لعرس وختان وغيرهما من كل سرور ومنه قدوم عالم ينفع المسلمين رادا على من زعم القبول فقال : وعن بعضهم تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف لإعتقادهم أن ذلك قربة كما تقبل شهادة حنفي شرب النبيذ لإعتقاده إباحته وكذا كل من فعل ما أعتقد إباحته ورد بأنه خطأ قبيح لأن إعتقاد الحنفي نشأ عن تقليد صحيح ولا كذلك غيره وإنما منشؤه الجهل والتقصير فكان خيالا باطلا لا يلتفت إليه
ثم إني أقول : لا يبعد أن يكون صاحب حال يحركه السماع ويثير منه ما يلجئه إلى الرقص أو التصفيق أو الصعق والصياح وتمزيق الثياب أو نحو ذلك مما هو مكروه أو حرام فالذي يظهر لي في ذلك أنه إن علم من نفسه صدور ما ذكر كان حكم الإستماع في حقه حكم ما يترتب عليه وإن تردد فيه فالأحوط في حقه إن لم نقل بالكراهة عدم الإستماع ففي الخبر دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ثم إن ما حصل له شيء من ذلك بمجرد السماع من غير قصد ولم يقدر على دفعه أصلا فلا لوم ولا عتاب فيه عليه وحكمه في ذلك حكم من إعتراه نحو عطاس وسعال قهريين ولا يشترط في دفع اللوم والعتاب عنه كون ذلك مع غيبته فلا يجب على من صدر منه ذلك إن لم يغب إعادة الوضوء للصلاة مثلا ويلنظر فيما لو إعتراه وهو في الصلاة بدون غيبة هل حكمه حكم نحو العطاس والسعال إذا إعتراه فيها أم لا والذي سمعته عن بعض الكبار الثاني فتدبر ومن الناس من يعتريه شيء مما ذكر عند سماع القرآن أما مطلقا أو إذا كان بصوت حسن وقلما يقع ذلك من سماع القرآن أو غيره لكامل
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها إنه قيل لها : إن قوما إذا سمعوا القرآن صعقوا فقالت : القرآن أكرم من أن يسرق منه عقول الرجال ولكنه كما قال الله تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وكثيرا ما يكون لضعف تحمل الوارد وبعض المتصنعين يفعله رياء وعن إبن سيرين إنه سئل عمن يسمع القرآن فيصعق فقال : ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره
(21/75)

فإن صعقوا فهو كما قالوا ولا يرد على إباحة الغناء وسماعه في بعض الصور خبر إبن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل لا لأن الغناء فيه مقصور وأن المراد به غني المال الذي هو ضد الفقر إذ يرد ذلك أن الخبر روى من وجه آخر بزيادة والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع ومقابلة الغناء بالذكر ظاهر في المراد به التغني على أن الرواية كما قال بعض الحفاظ بالمدبل لأن المراد أن الغناء من شأنه أن يترتب عليه النفاق أي العملي بأن يحرك إلى غدر وخلف وعد وكذب ونحوها ولا يلزم من ذلك إطراد الترتب
وربما يشير إلى ذلك التشبيه في قوله : كما ينبت الماء البقل فإن إنبات الماء البقل غير مطرد ونظير ذلك في الكلام كثير والقائل بإباحته في بعض الصور إنما يبيحه حيث لا يترتب عليه ذلك نعم لا شك أن ما هذا شأنه الأحوط بعد كل قيل وقال عدم الرغبة فيه كذا قيل
وقيل : يجوز أن يكون أريد بالنفاق الإيماني ويؤيده مقابلته في بعض الروايات بالإيمان ويكون مساق الخبر للتنفير عن الغناء إذ كان الناس حديثي عهد بجاهلية كان يستعمل فيها الغناء للهو ويجتمع عليه في مجالس الشرب ووجه إنباته للنفاق إذ ذاك أن كثيرا منهم لقرب عهده بلذة الغناء وما يكون عنده من اللهو والشرب وغيره من أنواع الفسق يتحرك قلبه لما كان عليه ويحن حنين العشار إليه ويكره لذلك الإيمان الذي صده عما هنالك ولا يستطيع لقوة شوكة الإسلام أن يظهر ما أضمر وينبذ الإيمان وراء ظهره ويتقدم إلى ما عنه تأخر فلم يسعه إلا النفاق لما أجتمع عليه مخافة الردة والإشتياق فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك وأما الآية فإن كان وجه الإستدلال بها تسمية الغناء لهوا فكم لهو هو حلال وإن كان الوعيد على إشترائه وإختياره فلا نسلم أن ذلك على مجرد الإشتراء لجواز أن يكون على الإشتراء ليضل عن سبيل الله تعالى ولا شك أن ذلك من الكبائر ولا نزاع لنا فيه وقال إبن عطية : الذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافا إلى الكفر فلذلك أشتدت ألفاظ الآية بقوله تعالى : ليضل إلخ
ومما ذكرنا يعلم ما في الإستدلال بها على حرمة الملاهي كالرباب والجنك والسنطير والكمنجة والمزمار وغيرها من الآلات المطربة بناء على ما روى عن إبن عباس والحسن أنهما فسرا لهو الحديث بها نعم أنه يحرم إستعمالها وإستماعها لغير ما ذكر فقد صح من طرق خلافا لما وهم فيه إبن حزم الضال المضل فقد علقه البخاري ووصله الإسماعيلي وأحمد وإبن ماجه وأبو نعيم وأبو داؤد بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها وصححه جماعة آخرون من الأئمة كما قاله بعض الحفاظ أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال ليكونن في أمتي قوم يستحلون الخز والخمر والمعارف وهو صريح في تحريم جميع آلات اللهو المطربة ومما يشبه الصريح في ذلك ما رواه إبن أبي الدنيا في كتاب ذم الملاهي عن أنس وأحمد والطبراني عن إبن عباس وأبي أمامة مرفوعا ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور وأتخذوا القينات وضربوا بالمعازف وهي الملاهي التي سمعتها ومنها الصنج العجمي وهو صفر يجعل عليه أوتار يضرب بها على ما ذهب إليه غير واحد خلافا للماوردي حيث قال : إن الصنج يكره مع الغناء ولا يكره منفردا لأنه بإنفراده غير مطرب ولعله أراد به العربي وهو قطعتان من صفر تضرب أحدهما بالأخرى فإنه بحسب الظاهر هو الذي لا يطرب منفردا لكن يزيد الغناء طربا وذكر أنه يستعمله المخنثون في بعض البلاد ولا يبعد عليه القول بالحرمة ومنها اليراع وهو الشبابة فإنه مطرب بإنفراده بل قال بعض أهل الموسيقى : إنه آلة كاملة جامعة لجميع النغمات إلا يسيرا وقد أطنب الإمام الدولقي وهو من أجلة
(21/76)

العلماء في دلائل تحريمه ومنها القياس وهو إما أولى أو مساو وقال : العجب كل العجب ممن هو من أهل العلم بزعم أن الشبابة حلال ومنه يعلم ما في قول التاج السبكي في توشيحه لم يقر عندي دليل على تحريم اليراع مع كثرة التتبع والذي أراه الحل فإن أنضم إليه محرم فلكل منهما حكمه ثم الأولى عندي لمن ليس من أهل الذوق الإعراض عنه مطلقا لأن غاية ما فيه حصول لذة نفسانية وهي ليست من المطالب الشرعية وأما أهل الذوق فحالهم مسلم إليهم وهم على حسب ما يجدونه من أنفسهم
وحكى عن العز بن عبدالسلام وإبن دقيق العيد أنهما كانا يسمعان ذلك والظاهر أنه كذب لا أصل له وبذلك جزم بعض الأجلة ولا يبعد حلها إذا صفر فيها كالأطفال والرعاء على غير القانون المعروف من الأطراب
ومنها العود وهو آلة للهو غير الطنبور وأطلقه بعضهم عليه وحكاية النجس إبن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان يسمع العود من جملة كذبه وتهوره كدعواه إجماع الصحابة والتابعين على إباحة الغناء واللهو ومثله في المجازفة وإرتكاب الأباطيل على الجزم إبن حزم لا الدف فيجوز ضربه من رجل وأمرأة لا من أمرأة فقط خلافا للحليمي وإستماعه لعرس ونكاح وكذا غيرهما من كل سرور في الأصح وبحل ذي الجلاجل منه وهي إما نحو حلق يجعل داخله كدف العرب أو صنوج عراض من صفر تجعل في حروف دائرته كدف العجم جزم جماعة وجزم آخرون بحرمته وبها أقول لأنه كما قال الأذرعي أشد إطرابا من أكثر الملاهي المتفق على تحريمها وبعض المتصوفة ألفوا رسائل في حل الأوتار والمزامير وغيرها من آلات اللهو وأتوا فيها بكذب عجيب على الله تعالى وعلى رسوله وعلى أصحابه رضي الله تعالى عنهم والتابعين والعلماء العاملين وقلدهم في ذلك من لعب به الشيطان وهوى به الهوى إلى هوة الحرمان فهو عن الحق بمعزل وبينه وبين حقيقة التصوف ألف ألف منزل وإذا تحقق لديك قول بعض الكبار بحل شيء من ذلك فلا تغتر به لأنه مخالف لما عليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من الأكابر المؤيد بالأدلة القوية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك ما عدا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن رزق عقلا مستقيما وقلبا من الأهواء الفاسدة سليما لا يشك في أن ذلك ليس من الدين وأنه بعيد بمراحل عن مقاصد شريعة سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وأستدل بعض أهل الإباحة على حل الشبابة بما أخرجه إبن حبان في صحيحه عن نافع عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع صوت زمارة راع فجعل إصبعيه في أذنيه وعدل عن الطريق وجعل يقول : يانافع أتسمع فأقول نعم فلما قلت : لا رجع إلى الطريق ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفعله وأخرجه إبن أبي الدنيا والبيهقي عن نافع أيضا وسئل عنه الحافظ محمد بن نصر السلامي فقال : إنه حديث صحيح ووجه الإستدلال به أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمر إبن عمر وكان عمره إذ ذاك كما قال الحافظ المذكور سبع عشرة سنة بسد أذنيه ولا نهي الفاعل فلو كان ذلك حراما لأمر ونهى عليه الصلاة و السلام وسد أذنيه صلى الله تعالى عليه وسلم يحتمل أن يكون لكونه عليه الصلاة و السلام إذ ذاك في حال ذكر أو فكر وكان السماع يشغله عليه الصلاة و السلام والتحية ويحتمل أن يكون إنما فعله تنزيها وقال الأذرعي : بهذا الحديث أستدل أصحابنا على تحريم المزامير وعليه بنوا التحريم في الشبابة
والحق عندي أنه ليس نصافي حرمتها لأن سد الأذنين عند السماع من باب فعله وليس مما وضح فيه أمر الجبلة ولا ثبت تخصيصه به عليه الصلاة و السلام ولا مما وضح أنه بيان لنص علم جهته من الوجوب
(21/77)

والندب والإباحة فإن كان مما علمت صفته فلا يخلو من أن تكون الوجوب أو الندب أو الإباحة لا جائز أن تكون الوجوب المستلزم لحرمة سماع اليراع إذ لا قائل بأنه يجب على أحد سد الأذنين عند سماع محرم إذ يأمن الإثم بعدم القصد فقد قالوا : إن الحرام الإستماع لا مجرد السماع بلا قصد وفي الزواجر الممنوع هو الإستماع لا السماع لا عن قصد إتفاقا ومن ثم صرح أصحابنايعني الشافعية أن من بجواره آلات محرمة ولا يمكنه إزالتها لا يلزمه النقلة ولا يأثم بسماعها لا عن قصد وإصغاء والظاهر أن الأمر كذلك عند سائر الأئمة نعم لهم تفصيل في القعود في مكان فيه نحو ذلك قال في تنوير الإبصار وشرحه الدر المختار : دعى إلى وليمة وثمة لعب وغناء قعد وأكل ولو على المائدة لا ينبغي أن يقعد بل يخرج معرضا لقوله تعالى : فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين فإن قدر على المنع فعل وإلا يقدر صبران لم يكن ممن يقتدي به فإن كان مقتدي به ولم يقدر على المنع خرج ولا يقعد لأن فيه شين الدين والمحكي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كان قبل أن يصير مقتدي به وإن علم أولا لا يحضر أصلا سواء كان ممن يقتدي به أولا فتعين كونها الندب أو الإباحة وكلا الأمرين لا يستلزمان الحرمة فيحتمل أن يكون ذلك حراما أو مكروها يندب سد الأذنين عند سماعه إحتياطا من أن يدعو إلى الإستماع المحرم أو المكروه وإن كان مما لم تعلم صفته فقد قالوا فيما كان كذلك : المذاهب فيه بالنسبة إلى الأمة خمسة الوجوب والندب والإباحة والوقف والتفصيل وهو أنه إن ظهر قصد القربة فالندب وإلا فالإباحة ويعلم مما ذكرنا الحال على كل مذهب والذي يغلب على الظن أن ما أشار إليه الخبر أن كان الزمر بزمارة الراعي على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات كما يفعله من جعل ذلك صنعته اليوم فإستماعه حرام وسد الأذنين المشار إليه فيه لعله كان منه عليه الصلاة و السلام تعليما للأمة أحد طرق الإحتياط المعلوم حاله لئلا يجرهم ذلك إلى الإستماع وإلا فالإستماع لمكان العصمة مما لا يتصور في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم ومن عرف قدر الصحابة وأطلع على سبيلهم وحرصهم على التأسي به عليه الصلاة و السلام لم يشك في أن إبن عمر رضي الله تعالى عنه سد أذنيه أيضا تأسيا ويكون حينئذ قوله عليه الصلاة و السلام الذي يشير إليه الخبر له رضي الله تعالى عنه أتسمع على معنى تسمع أتسمع وإنما أسقط تسمع لدلالة الحال عليه إذ من سد أذنيه لا يسمع وإنما أذن له صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك لموضع الحاجة وهذا أقرب من إحتمال كون سد الأذنين منه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه كان في حال ذكر أو فكر وكان يشغله صلى الله تعالى عليه وسلم عند السماع
وأما عدم نهيه عليه الصلاة و السلام من كان يزمر عن الزمر والإنكار عليه فلا يسلم دلالته على الجواز فإنه يجوز أن يكون الصوت جاء من بعيد وبين الزامر وبينه عليه الصلاة و السلام ما يمنع من الوصول إليه أو لم يعرف عينه لأن الصوت قد جاء من وراء حجاب ولا تتحقق القدرة معه على الإنكار ويجوز أيضا أن يكون التحريم معلوما من قبل وعلم من النبي الصرار عليه وأن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله فيكون ذلك كإختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم وفي مثل ذلك لا يدل السكوت وعدم الإنكار على الجواز إجماعا ومن قال بأن الكافر غير مكلف بالفروع قال : يجوز أن يكون الزامر كافرا وأن السكوت في حقه ليس دليل الجواز وإن كان الزمر بها لا على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات فلا بعد في
(21/78)

أن يقال بالجواز والإباحة فعلا وإستماعا وسد الأذنين عليه لغاية التنزه اللائق به عليه الصلاة و السلام وقول الأذرعي في الجواب أن قوله في الخبر : زمارة راع لا يعين إنها الشبابة فإن الرعاة يضربون بالشعيبية وغيرها يوهم أن ما يسمى شعيبية مباح مفروغ منه وفيه نظر فإنها عبارة عن عدة قصبات صغار ولها إطراب بحسب حذق متعاطيها فهي شبابة أو مزمار لا محالة وفي إباحة ذلك كلام وبعد هذا كله نقول : إن الخبر المذكور رواه أبو داؤد وقال : إنه منكر وعليه لا حجة فيه للطرفين وكفى الله تعالى المؤمنين القتال ثم إنك إذا إبتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو إستماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له من المتصوفة فلو كان الأمر كما زعموا لما أهمل الأنبياء أن يفعلوه ويأمروا إتباعهم به ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أشار إليه كتاب من الكتب المنزلة من السماء وقد قال الله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم ولو كان إستعمال الملاهي المطربات أو إستماعها من الدين ومما يقرب إلى حضرة رب العالمين لبينه وأوضحه كمال الإيضاح لأمته وقد قال عليه الصلاة و السلام والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكمم عن الجنة إلا نهيتكم عنه وما ذكر داخل في الشق الثاني كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل مستقيم فتأمل وأنصف وإياك من الإعتراض قبل أن تراجع تعرف ولنا عودة إن شاء الله تعالى للكلام في هذا المطلب يسر الله تعالى ذلك لنا بحرمة حبيبه الأعظم
وأستدل بعضهم بالآية على القول بأن لهو الحديث الكتب التي أشتراها النضر بن الحرث على حرمة مطالعة كتب تواريخ الفرس القديمة وسماع ما فيها وقراءته وفيه بحث ولا يخفى أن فيها من الكذب ما فيها فالإشتغال بها لغير غرض ديني خوض في الباطل وعده إبن نجيم في رسالته في بيان المعاصي من الصغائر ومثل له بذكر تنعم الملوك والأغنياء فأفهم هذا ومن الغريب البعيد وفيه جعل الإشتراء بمعنى البيع ما ذهب إليه صاحب التحرير قال : يظهر لي أنه أراد سبحانه بلهو الحديث ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم والأمر بالدوام عليه وتغيير صفة الرسول عليه الصلاة و السلام وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق عليه السلام يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان وأطلق أسم الإشتراك لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم وقال : يؤيده قوله تعالى : ليضل عن سبيل الله وهو كما ترى والمراد بسبيله تعالى دينه عزوجل أو قراءة كتابه سبحانه أو ما يعمهما واللام في ليضل للتعليل وقرأ إبن كثير وأبو عمرو ليضل بفتح الياء والمراد ليثبت على ضلاله ويزيد فيه فإن المخبر عنه ضال قبل : واللام للعاقبة وكونها على أصلها كما قيل بعيد وجوز الزمخشري أن يكون قد وضع ليضل على هذه القراءة موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة فدل بالرديف وهو الضلال على المردوف وهو الإضلال ووجه الدلالة أنه أريد بالضلال الضلال المضاعف في شأن من جانب سبيل الله تعالى وتركه رأسا وهذا الضلال لا ينفك عن الإضلال وبالعكس وبه يندفع نظر صاحب الفرائد بأن الضلال لا يلزمه الإضلال وفيه توافق القراءتين وبقاء اللام على حقيقتها وهي على الوجهين متعلقة بقوله سبحانه : يشتري وقوله عزوجل : بغير علم يجوز أن يكون متعلقا به أيضا أي يشتري ذلك بغير علم بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث أستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق ويجوز أن يكون متعلقا بيضل أي ليضل عن سبيله تعالى جاهلا أنها سبيله عزوجل أو جاهلا أنه يضل أو جاهلا الحق ويتخذها
(21/79)

بالنصب عطفا على يضل والضمير للسبيل فإنه مما يذكر ويؤنث وجوز أن يكون للآيات وقيل : يجوز أن يكون للأحاديث لأن الحديث أسم جنس بمعنى الأحاديث وهو كما ترى هزوا أي مهزوا به وقرأ جمع من السبعة يتخذها بالرفع عطفا على يشتري وجوز أن يكون على إضمار هو أولئك لهم عذاب مهين 6 لما أتصفوا به من إهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه وترغيب الناس فيه والجزاء من جنس العمل و أولئك إشارة إلى من وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى بعد المنزلة في الشرارة والجمع في أسم الإشارة والضمير بإعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين بإعتبار لفظها وكذا في قوله تعالى : وإذا تتلى عليه ففي الآية مراعاة اللفظ ثم مراعاة المعنى ثم مراعاة اللفظ ونظيرها في ذلك قوله تعالى في سورة الطلاق : ومن يؤمن بالله الآية قال أبو حيان : ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غير هاتين الآيتين وقال الخفاجي : ليس كذلك فإن لها نظائر أي وإذا تتلى على المشتري المذكور آياتنا الجليلة الشأن ولى أعرض عنها غير معتد بها مستكبرا مبالغا في التكبر فالإستفعال بمعنى التفعل كأن لم يسمعها حال من ضمير ولى أو من ضمير مستكبرا أي مشابها حاله في إعراضه تكبرا أو في تكبره حال من لم يسمعها وهو سامع وفيه رمز إلى أن من سمعها لا يتصور منه التولية والإستكبار لما فيها من الأمور الموجبة للإقبال عليها والخضوع لها على طريقة قول الخنساء : أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على إبن طريف و كأن المخففة ملغاة لا حاجة إلى تقدير ضمير شأن فيها وبعضهم يقدره كأن في أذنيه وقرا أي صمما مانعا من السماع وأصل معنى الوقر الحمل الثقيل أستعير للصمم ثم غلب حتى صار حقيقة فيه والجملة حال من ضمير لم يسمعها أو هي بدل منها بدل كل من كل أو بيان لها ويجوز أن تكون حالا من أحد السابقين ويجوز أن تكون كلتا الجملتين مستأنفتين والمراد من الجملة الثانية الترقي في الذم وتثقيل كأن في الثانية كأنه لمناسبته للثقل في معناه وقرأ نافع في أذنيه بسكون الذال تخفيفا فبشره بعذاب أليم 7 أي أعلمه أن العذاب المفرط في الإيلام لاحق به لا محالة وذكر البشارة للتهكم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات بيان لحال المؤمنين بآياته تعالى أثر بيان حال الكافرين بها أي أن الذين آمنوا بآياته تعالى وعملوا بموجبها لهم بمقابلة ما ذكر من إيمانهم وعملهم جنات النعيم 8 أي النعيم الكثير وإضافة الجنات إليه بإعتبار إشتمالها عليه نظير قولك : كتب الفقه
وفي هذا إشارة إلى أن لهم نعيمها بطريق برهاني فهو أبلغ من لهم نعيم الجنات إذ لا يستدعي ذلك أن تكون نفس الجنات ملكا لهم فقد يتنعم بالشيء غير مالكه وقيل : في وجه الأبلغية أنه لجعل النعيم فيه أصلا ميزت به الجنات فيفيد كثرة النعيم وشهرته وأياما كان فجنات النعيم هي الجنات المعروفة
وأخرج إبن أبي حاتم عن مالك بن دينار قال : جنات النعيم بين جنات الفردوس وبين جنات عدن وفيها جوار خلقن من ورد الجنة قيل : ومن يسكنها قال : الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمتي راقبوني والذين أنثنت أصلا بهم في خشيتي والله تعالى أعلم بصحة الخبر والجملة خبران قيل : والأحسن أن يجعل لهم هو الخبر لأن
(21/80)

و جنات النعيم مرتفعا به على الفاعلية وقوله تعالى : خالدين فيها حال من الضمير المجرور أو المستتر في لهم بناء على أنه خبر مقدم أو من جنات بناء على أنه فاعل الظرف لإعتماده بوقوعه خبرا والعامل ما تعلق به اللام
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما خالدون بالواو وهو بتقدير هو وعد الله مصدر مؤكد لنفسه أي لما هو كنفسه وهي الجملة الصريحة في معناه أعني قوله تعالى : لهم جنات النعيم فإنه صريح في الوعد
وقوله تعالى : حقا مصدر مؤكد لتلك الجملة أيضا إلا أنه يعد مؤكدا لغيره إذ ليس كل وعد حقا في نفسه
وجوز أن يكون مؤكدا لوعد الله المؤكد وأن يكون مؤكدا لتلك الجملة معدودا من المؤكد لنفسه بناء على دلالتها على التحقيق والثبات من أوجه عدة وهو بعيد وفي الكشف لا يصح ذلك لأن الأخبار المؤكدة لا تخرج عن إحتمال البطلان فتأمل وهو العزيز الذي لا يغلبه شيء ليمنع من إنجاز وعده وتحقيق وعيده الحكيم 9 الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ويفهم هذا الحصر من الفحوى والجملة تذييل لحقية وعده تعالى المخصوص ممن ذكر المومي إلى الوعيد لأضدادهم خلق السموات بغير عمد إلخ إستئناف جيء به للإستشهاد بما فصل فيه على عزته عزوجل التي هي كمال القدرة وحكمته التي هي كمال العلم وإتقان العمل وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وإبطال أمر الإشراك وتبكيت أهله والعمد جمع عماد كأهب جمع أهاب وهو ما يعمد به أي يسند يقال عمدت الحائط إذا دعمته أي خلقها بغير دعائم على أن الجمع لتعدد السموات وقوله تعالى : ترونها إستئناف في جواب سؤال تقديره ما الدليل على ذلك فهو مسوق لإثبات كونها بلا عمد لأنها لو كانت لها عمد رؤيت فالجملة لا محل لها من الأعراب والضمير المنصوب للسموات والرؤية بصرية لا علمية حتى يلزم حذف أحد مفعوليها وجوز أن يكون صفة لعمد فالضمير لها أي خلقها بغير عمد مرئية على التقييد للرمز إلى أنه تعالى عمدها بعمد لا ترى وهي عمد القدرة وروى ذلك عن مجاهد وكون عمادها في كل عصر الإنسان الكامل في ذلك العصر ولذا إذا أنقطع الإنسان الكامل وذلك عند إنقطاع النوع الإنساني تطوى السموات كطي السجل للكتب كلام لا عماد له من كتاب أو سنة فيما نعلم وفرق كل ذي علم عليم وألقى في الأرض رواسي بيان لصنعه تعالى البديع في قرار الأرض إثر بيان صنعه عزوجل الحكيم في قرار السموات أي ألقى فيها جبالا شوامخ أو ثوابت كراهة أن تميد أو لئلا تميد أي تضطرب بكم لو لم يلق سبحانه وتعالى فيها رواسي لما أن الحكمة أقتضت خلقها على حال لو خلت معه عن الجبال لمادت بالمياه المحيطة بها الغامرة لأكثرها والرياح العواصف التي تقتضي الحكمة هبوبها أو بنحو ذلك وقد يعد منه حركة ثقيل عليها وقد ذكر بعض الفلاسفة أنه يلزم بناء على كرية الأرض ووجوب إنطباق مركز ثقلها على مركز العالم حركتها مع ما فيها من الجبال بسب حركة ثقيل من جانب منها إلى آخر لتغير مركز الثقل حينئذ إلا أنه لم يظهر ذلك لكون الأثقال المتحركة عليها كلا شيء بالنسبة إليها مع ما فيها ولعل من يعد حركة الثقيل عليها من أسباب الميد لو خلت من الجبال يقول : لا يبعد حركة ثقيل عليها كماء جرى من مكان إلى آخر فأجتمع حتى صار بحرا عظيما مع ما ينضم إلى ذلك مما تنقله الأهوية من الرمال الكثيرة والتراب يكون له مقدار يعتد به بالنسبة إلى الأرض خالية من الجبال فتتحرك بحركته إلى خلاف جهته ثم إن الميد لولا الرواسي بنحو المياه والرياح متصور على
(21/81)

تقدير كون الأرض كرية كما ذهب إليه الغزالي وكذا ذهب إلى كرية السماء وجاء في رواية عن إبن عباس ما يقتضيه وإليه ذهب أكثر الفلاسفة مستدلين عليه بما في التذكرة وشروحها وغير ذلك وهو الذي يشهد له الحس والحدس وعلى تقدير كونها غير كروية كما ذهب إليه من ذهب وأختلفوا في شكلها عليه وتفصيل ذلك يطلب من محله ولا دلالة في الآية على إنحصار حكمة إلقاء الرواسي فيها بسلامتها عن الميد فإن لذلك حكما لا تحصي
وكذا لا دلالة فيها على عدم حركتها على الإستعارة دائما كما ذهب إليه أصحاب فيثاغورس ووراءه مذاهب أظهر بطلانا منه نعم الأدلة النقلية والعقلية على ذلك كثيرة وبث فيها أي أوجد وأظهر وأصل البث الإثارة والتفريق ومنه فكانت هباء منبثا وكالفراش المبثوث وفي تأخيره إشارة إلى توقفه على إزالة الميد من كل دابة من كل نوع من أنواعها وأنزلنا من السماء ماء هو المطر والمراد بالسماء جهة العلو وجوز تفسيرها بالمظلة وكون الإنزال منها بضرب من التأويل وترك التأويل لا ينبغي أن يعول عليه إلا ذأ وجد من الأدلة ما يضطرنا إليه لأن ذلك خلاف المشاهد فأنبتنا فيها أي بسبب ذلك الماء من كل زوج أي صنف كريم 01 أي شريف كثير المنفعة والإلتفات إلى ضمير العظمة في الفعلين لإبراز مزيد الإعتناء بهما لتكررهما مع ما فيهما من إستقامة حال الحيوان وعمارة الأرض ما لا يخفى
هذا أي ما ذكر من السموات والأرض وسائر الأمور المعدودة خلق الله أي مخلوقه فأروني أي أعلموني وأخبروني والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم ذلك فأروني ماذا خلق الذين من دونه مما أتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة حتى أستحقوا به العبودية و ماذا يجوز أن يكون أسما واحدا إستفهاميا ويكون مفعولا لخلق مقدما لصدارته وأن يكون ما وحدها أسم إستفهام مبتدأ و ذا أسم موصول خبرها وتكون الجملة معلقا عنها سادة مسد المفعول الثاني لأروني وأن يكون ماذا كله أسما موصولا فقد أستعمل كذلك على قلة على ما قال أبو حيان ويكون مفعولا ثانيا له والعائد محذوف في الوجهين وقوله تعالى : بل الظالمون في ضلال مبين 11 إضراب عن تبكيتهم بما ذكر إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة لإستحالة أن يفهموا منها شيئا فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه ووضع الظاهر موضع ضميرهم للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه ومتعدون عن الحد وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد
ولقد أتينا لقمان الحكمة كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك بالنقل بعد الإشارة إلى بطلانه بالعقل
ولقمان أسم أعجمي لا عربي مشتق من اللقم وهو على ما قيل : إبن باعوراء قال وهب : وكان إبن أخت أيوب عليه الصلاة و السلام وقال مقاتل : كان إبن خالته وقال عبدالرحمن السهيلي : هو إبن عنقا بن سرون وقيل : كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داؤد عليه السلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه فلما بعث قطع الفتوى فقيل له فقال : ألا أكتفي إذا كفيت وقيل : كان قاضيا في بني إسرائيل ونقل ذلك عن الواقدي إلا أنه قال : وكان زمانه بين محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام وقال عكرمة والشعبي
(21/82)