[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
والأستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مما لاريب فيه جوازه كما أنه لاريب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فانما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا لما تبين له عليه السلام في الوحي على احد القولين المذكورين في سورة التوبة أنه لا يؤمن تركه اشد الترك فالوعد والأنجاز كانا قبل التبين وبذلك فارقا استغفاره عليه السلام لأبيه استغفار المؤمنين لأولى قرابتهم من المشركين لأنه كان بعد التبين ولذا لم يؤذنوا بالتاسي به عليه السلام بالأستغفار قال العلامه الطيبى : أنه تعالى بين للمؤمنين أن أولئك اعداء الله تعالى بقوله سبحانه لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقونه اليهم بالموده وان لا مجال لاظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عدواتهم بقوله عز و جل : إن يثقفوكم يكونوا لكم اعداء ويبسطوا اليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه لن تنفعكم ارحامكم ولا اولادكم يوم القيامة ثم سلاهم عز و جل بالتأسى في القطيعة بابراهيم عليه السلام وقومه بقوله تبارك وتعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم انا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم إلى قوله تعالى شأنه إلا قول ابراهيم لأبيه لأستغفرن لك فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعنى لكم التأسى بابراهيم عليه السلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة والرحمة كما ابدى ابراهيم عليه السلام لأبيه في قوله سأستغفر لك لأنه لم يتبين له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعدواتهم انتهى
واعترض بأن ما ذكر ظاهر في أن الأستغفار الذي وقع من المؤمنين لأولى قرابتهم فنهوا عنه لأنه كان بعد التبين كان كاستغفار ابراهيم عليه السلام بمعنى طلب التوفيق للتوبة والهداية للايمان والذي اعتمده الكثير من العلماء أن قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية في استغفاره صلى الله عليه و سلم لعمه ابي طالب بعد موته وذلك الأستغفار مما لا يكون بمعنى طلب الهداية اصلا وكيف تعقل الهداية بعد الموت بل لو فرض أن استغفاره عليه الصلاة و السلام له كان قبل الموت لا يتصور أيضا أن يكون بهذا المعنى لأن الآية تقتضي أنه كان بعد تبين أنه من اصحاب الجحيم وإذا فسر بتحتم الموت على الكفر كان ذلك دعاء بالهداية إلى الأيمان مع العلم بتحتم الموت على الكفر ومحاليته إذا كانت معلومة لنا بما مر فهي اظهر شئ عنده صلى الله تعالى عليه وسلم بل وعند المقتبسين من مشكاته عليه الصلاة و السلام وهو اعتراض قوى بحسب الظاهر وعليه يجب أن يكون استغفار ابراهيم عليه السلام لابيه بذلك المعنى في حياته لعدم تصور ذلك بعد الموت وهو ظاهر
وقد قال الزمخشري في جواب السؤال بأنه كيف جاز له عليه السلام أن يستغفر للكافر وان يعده ذلك قالوا : اراد اشتراط التوبة عن الكفر وقالوا آمنا استغفر له بقوله : واغفر لابي لأنه وعده أن يؤمن واستشهدوا بقوله تعالى وما كان استغفار ابراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها اياه ثم قال : ولقائل أن يقول : الذي منع من الأستغفار للكافر انما هو السميع فاما قضية العقل فلا تأباه فيجوز أن يكون الوعد بالأستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ويدل على صحته أنه استثنى قول ابراهيم عليه السلام لأستغفرن لك في آية قد كانت لكم اسوة حسنة في ابراهيم الخ عما وجبت فيه الأسوة ولو كان بشرط الأيمان والتوبة لما صح الأستثناء وأما كون الوعد من ابيه فيخالف الظاهر الذي يشهد له قراءة الحسن وغيره وعدها اباه بالباء الموحدة قال في الكشف :
(16/100)

واعترض الأمام حديث الأستثناء بأن الآية دلت على المنع من التأسى لا أن ذلك كان معصية فجاز أن يكون من خواصه ككثير من المباحات التي اختص بها النبي صلى الله عليه و سلم وليس بشئ لأن الزمخشري لم يذهب إلى أن ما ارتكبه ابراهيم عليه السلام كان منكرا بل إنما هو منكر علينا لو ورد السمع
واعترض صاحب التقريب بأن نفي اللازم ممنوع فان الأستثناء عما وجبت فية الأسوة دل على أنه غير واجب لا على أنه غير جائز فكان ينبغي عما جازت فيه الأسوة بدل عما وجبت الخ و الآية لا دلالة فيها على الوجوب والجواب أن جعله مستنكرا ومستثنى يدل على أنه منكر لا الأستثناء عما وجبت فيه فقط وإنما اتى الأستنكار لأنه مستثنى عن الاسوة الحسنة فلو اؤتسى به فيه لكان اسوة قبيحة وأما الدلالة على الوجوب فبينة من قوله تعالى اخرا لقد كان لكم فيهم اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر كما تقرر في الأصول
والحاصل أن فعل ابراهيم عليه السلام يدل على أنه ليس منكرا في نفسه وقوله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا الخ يدل على أنه الآن منكر سمعا وأنه كان مستنكرا في زمن ابراهيم عليه السلام أيضا بعد ما كان غير منكر ولذا تبرا منه وهو ظاهر إلا أن الزمخشري جعل مدرك الجواز قبل النهي العقل وهي مسئلة خلافية وكم قائل أنه السمع لدخوله تحت بر الوالدين والشفقة على امة الدعوة بل قيل : أن الأول مذهب المعنزلة وهذا مذهب أهل السنة انتهى مع تغيير يسير
واعترض القول بأنه استنكر في زمن ابراهيم عليه السلام بعد ما كان غير منكر بأنه لو كان كذلك لم يفعله نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وقد جاء أنه عليه الصلاة و السلام فعله لعمه ابي طالب وأجيب بجواز أنه لم يبلغه إذ فعل عليه الصلاة و السلام والتحقيق في هذه المسئلة أن الأستغفار للكافر الحي المجهول العاقبة بمعنى طلب هدايته للايمان مما لا محذور فيه عقلا ونقلا وطلب ذلك للكافر المعلوم أنه قد طبع على قلبه واخبر الله تعالى أنه لا يؤمن وعلم أن لا تعليق في امره أصلا مما لا مساغ له عقلا ونقلا ومثله طلب المغفرة للكافر مع بقائه على الكفر على ما ذكره بعض المحققين وكان ذلك على ما قيل لما فيه من الغاء أمر الكفر الذي لا شئ يعدله من المعاصى وصيرورة التكليف بالأيمان الذي لا شئ يعدله من الطاعات عبثا مع ما في ذلك مما لا يليق بعظمة الله عز و جل ويكاد يلحق بذلك فيما ذكر طلب المغفرة لسائر العصاة مع البقاء على المعصية إلا أن يفرق بين الكفر وسائر المعاصى وأما طلب المغفرة للكافر بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما يمنعه السمع وفرق بينه وبين طلبها للكافر مع بقائه على الكفر بعدم جريان التليل السابق فيه ويحتاج ذلك إلى تأمل
واستدل على جواز ذلك عقلا بقوله صلى الله عليه و سلم لعمه لا ازال أستغفر لك مالم أنه فنزل قوله تعالى ما كان النبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية وحمل قوله تعالى من بعد ما تبين لهم أنهم اصحاب الجحيم على معنى من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا كفارا والتزم القول بنزول قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك أن يشاء بعد ذلك وإلا فلا يتسنى استغفاره صلى الله عليه و سلم لعمه بعد العلم بموته كافرا وتقدم السماع بأن الله تعالى لا يغفر الكفر وقيل لا حاجة إلى التزام ذلك لجواز أن يكون عليه الصلاة و السلام لو فور شفقة وشدة رافته قد حمل الآية على أنه تعالى لا يغفر الشرك اذا لم يشفع فيه او الشرك الذي تواطأ فيه القلب وسائر الجوارح وعلم من عمه أنه لم يكن شركة كذلك فطلب المغفرة حتى نهى صلى الله عليه و سلم وقيل غير ذلك فتأمل فالمقام
(16/101)

محتاج بعد إلى كلام والله تعالى الموفق
انه كان بى حفيا
47
- بليغا في البر والأكرام يقال حفى به اذا اعتنى باكرامه والجملة تعليل المضمون ماقبلها وتقديم الظرف لرعاية الفواصل مع الأهتمام واعتزلكم الظاهر أنه عطف على ساستغفر والمراد اتباعد عنك وعن قومك وما تدعون من دون الله بالمهاجره بدينى حيث لم تؤثر فيكم نصائحى
يروى أنه عليه السلام هاجر إلى الشام وقيل إلى حران وهو قريب من ذلك وكانوا ابأرض كوثا وفي هجرته هذه تزوج ساره ولقى الجبار الذي اخدم ساره هاجر وجوز حمل على العتزال بالقلب والاعتقاد وهو خلاف الظاهر المأثور وادعوا ربى أي اعبده سبحانه وحده كما يفهم من اجتناب غيره تعالى من المعبودات وللتغاير بين العبادتين الغوير بين العبارتين وذكر بعضهم أنه عبر بالعبادة اولا لأن ذلك اوفق بقول ابيه اراغب انت عن الهتى مع قوله فيما سبق يا ابت لما تعبد مالا يسمع الخ وعبر ثانيا بالدعاء لأنه اظهر في الأقبال المقابل للعتزال
وجوز أن يراد بذلك الدعاء مطلق او ما حكاه سبحانه في سورة الشعراء وهو قوله رب هب لى حكما والحقنى بالصالحين وقيل لا يبعد أن يراد استدعاء الولد أيضا بقوله رب هب لى من الصالحين حسب ما يساعده السياق والسباق عسى أن لا اكون بدعاء ربى شقيا
48
- خائبا ضائع السعى وفيه تعريض بشقاوتهم في عبادة الهتهم وفي تصدير الكلام بعسى من اظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب والتنبيه على حقيقة الحق من أن الاثابه والأجابة بطريق التفضل منه عز و جل لا بطريق الوجوب وان العبره بالخاتمه وذلك من الغيوب المختصه بالعليم الخبير مالا يخفي فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله بالمهاجره إلى ما تقدم وهبنا له اسحق ويعقوب بدل بن فارقهم من ابيه وقومه الكفره لكن لا عقيب المهاجره والمشهور أن أول ما وهب له عليه السلام من الاولاد اسماعيل عليه السلام لقوله تعالى فبشرناه بغلام حليم اثر دعائه بقوله رب هب لى من الصالحين وكان من هاجر فغارت ساره فحملت باسحاق عليه السلام فلما كبر ولد له يعقوب عليه السلام
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله ههنا لبيان كمال عظم النعم التى اعطاها الله تعالى اياه بمقابله من اعتزالهم من الأهل والأقرباء فانهما شجرتا الأنبياء ولهما اولاد واحفاد أولو شأن خطير وذوو عدد كثير مع أنه سبحانه اراد أن يذكر اسماعيل عليه السلام بفضله على الأنفراد وروى أنه عليه السلام لما قصد الشام اتى اولا حران وتزوج سارة وولدت له اسحق وولد لاسحق يعقوب والأول هو الأقرب الأظهر وكلا أي كل واحد من اسحق ويعقوب او منهما او من ابراهيم عليه السلام وهو مفعول أول لقوله تعالى جعلنا نبيا
49
- قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم أي كل واحد منهم جعلنا نبيا لابعضهم دون بعض ولا يظهر في هذا الترتيب على الوجه الثاني في كلا كون ابراهيم عليه السلام نبيا قبل الأعتزال ووهبنا لهم من رحمتنا قال الحسن : النبوة
(16/102)

ولعل ذكر ذلك بعد ذكر جعلهم انبياء للايذان بأن النبوة من باب الرحمة التي يختص بها من يشاء وقال الكلبى : هي المالى والولد قيل هو الكتاب والأظهر انعا عامة لكل خير ديني ودنيوي اوتوه ممالم يؤت احد من العالمين وجعلنا لهم لسان صدق عليا
50
- تفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته عليه السلام بقوله واجعل لي لسان صدق في الأخرين وزيادة على ذلك والمراد باللسان ما يوجد به من الكلام فهو مجاز بعلاقة السببية كاليد في العطية ولسان العرب لغتهم ويطلق على الرسالة الرائعه كما في قول اعشى باهلة : انى اتتنى لسان لا اسر بها
ومنه قول الآخر
ندمت على لسان كان منى
واضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم احقاء بما يثنون عليهم وان محامدهم لا تخفى كانها نار على علم على تباعد الأعصار وتبدل الدول وتغير الملل والنحل وخص بعضهم لسان الصدق بما يتلى في التشهد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم والعموم أولى واذكر في الكتاب موسى قيل قدم ذكره على اسمعيل عليهما السلام لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب عليه السلام وقيل : تعجيلا لاستجلاب أهل الكتاب بعدما فيه استجلاب العرب انه كان مخلصا موحدا اخلص عبادته عن الشرك والرياء او اسلم وجهه لله عز و جل واخلص عن سواه
وقرأ الكوفيون وابو رزين ويحيى وقتاده مخلصا بفتح اللام على أن الله تعالى اخلصه وكان رسولا مرسلامن جهة الله تعالى إلى الخلق بتبليغ ما شاء من الأحكام نبيا
51
- رفيع القدر على كثير من الرسل عليهم السلام او على سائر الناس الذين ارسل اليهم فالنبى من النبوه بمعنى الرفعه ويجوز أن يكون من النبأ واصله نبئ أي المنبئ عن الله تعالى بالتوحيد والشرائع ورجح الأول بأنه ابلغ قيل : ولذلك قال صلى الله عليه و سلم لست بنبئ الله تعالى بالهمزة ولكن نبى الله تعالى لمن خاطبه بالهمز واراد أن يغض منه والذي ذكره الجوهري أن القائل اراد أنه عليه الصلاة و السلام أخرجه قومه من نبأ فاجابه صلى الله عليه و سلم بما يدفع ذلك الأحتمال ووجه الاتيان بالنبى بعد الرسول على الأول ظاهر ووجه ذلك على الثاني موافقة الواقع بناء على أن المراد ارسله الله تعالى إلى الخلق فانبأهم عنه سبحانه
واختار بعضهم أن المراد من كلا اللفظين معناهما اللغوي وان ذكر النبى بعد الرسول لما أنه ليس كل مرسل نبيا لأنه قد يرسل بعطية او مكتوب اونحوهما وناديناه من جانب الطور الايمن الطور جبل بين مصر ومدين والايمن صفه لجانب لقوله تعالى في آية اخرى جانب الطور الايمن بالنصب أي ناديناه من ناحيته اليمنى من اليمين المقابل لليسار : والمراد به يمين موسى عليه السلام أي الناحيه التي تلي يمينه اذ الجبل نفسه لا ميمنه له ولا ميسره ويجوز أن يكون الايمن من اليمين وهو البركة وهو صفه لجانب أيضا أي من جانبه الميمون المبارك
وجوز على هذا أن يكون صفة للطور والأول أولى والمراد من نداءه من ذلك ظهور كلامه تعالى من تلك الجهه والظاهر أنه عليه السلام انما سمع الكلام اللفظي وقال بعض : أن الذي سمعه كان بلا حرف ولا
(16/103)

صوت وانه عليه السلام سمعه بجميع اعضائه من جميع الجهات وبذلك يتيقن أن المنادى هو الله تعالى ومن هنا قيل : أن المراد ناديناه مقبلا من جانب الطور المبارك وهو طور ماوراءطور العقل وفي الخبار ماينادى على خلافه وقربناه نجيا
52
- تقريب تشريف مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ورفع الوسائط بينه وبينه ونجيا فعيل بمعنا مفاعل كجليس بمعنى مخالس ونديم بمعنى منادم من المنجاه المساره بالكلام ونصبه على الحاليه من احد ضميرى موسى عليه السلام في ناديناه وقربناه أي ناديناه او قربناه حال كونه مناجيا وقال غير واحد مرتفعا على أنه من النجو وهو الأرتفاع
فقد أخرج سعيد بن منصور وابن منذر ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير أن جبرائيل عليه السلام اردفه حتى سمع صرير القلم والتوراة تمتب له أي كتابة ثانية وإلا ففي الحديث الصحيح الوارد في شأن محاجه ادم وموسى عليهما السلام انها كتبت قبل خاق ادم عليه السلام باربعين سنة وخبر رفعه عليه السلام إلى السماء حتى سمع صرير القلم رواه غير واحد وصححه الحكم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وعلى ذلك لا يكون المعراج مطلقا مختصا بنبينا صلى الله عليه و سلم بل المعراج الاكمل وقيل معنى نجيا ناجيا بصدقه وروى ذلك عن قتادة ولا يخفى بعده
ووهبنا له من رحمتنا أي من اجل رحمتنا له اخاه أي معاضدة اخيه وموازرته اجابة لدعوته بقوله واجعل لي وزيرا من اهلى هرون اخى لا نفسه عليه السلام لأنه كان اكبر من موسى عليه السلام سنافو جوده سابق على وجوده وهو مفعول وهبنا وقوله تعالى هرون عطف بيان له وقوله سبحانه نبيا
53
- حال منه ويجوز أن تكون من للتبعيض قيل وحينئذ يكون اخاه بدل بعض من كل او كل من كل او اشتمال من من وتعقب بانها أن كانت اسما مرادفة لبعض فهو خلاف الظاهر وان كانت حرفا فابدال الأسم من الحرف مما لم يوجد في كلامهم وقيل : التقدير وهبنا له شيئا من رحمتنا فاخاه بدل من شيئا المقدر وانت تعلم أن الظاهر هو كونه مفعولا واذكر في الكتاب اسماعيل الظاهر أنه ابن ابراهيم عليهما السلام كما ذهب اليه الجمهور وهو الحق وفصل ذكره عن ذكر ابيه واخيه عليهم السلام لابراز كمال الأعتناء بامره بايراده مستقلا وقيل : أنه اسماعيل بن حزقيل بعثه الله تعالى إلى قومه فسلخوا جلدة راسه فخيره الله تعالى فيما يشاء من عذابهم فاستعفاه ورضى بثوابه سبحانه وفوض أمرهم اليه عز و جل في العفو والعقوبة وروى ذلك الامامية عن ابي عبد الله رضى الله تعالى عنه وغالب الظن أنه لا يصح عنه انه كان صادق الوعد تعليل لموجب الأمر وايراده عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرته بذلك
وقد جاء في بعض الأخبار أنه وعد رجلا أن يقيم له بمكان فغاب عنه حولا فلما جاءه قال له : مابرحت من مكانك فقال : لا والله ما كنت لاخلف موعدى وعيل : غاب عنه اثنى عشر يوما وعن مقاتل ثلاثة ايام وعن سهل بن سعد يوما وليلة والأول اشهر ورواه الامامية أيضا عن ابي عبد الله رضى الله تعالى عنه واذا كان هو الذبيح فناهيك في صدقه أنه وعد اباه الصبر على الذبح بقوله ستجدني أن شاء الله من الصابرين فوفى
وقال بعض الأذكياء طال بقاؤه : لا يبعد أن يكون ذلك اشارة إلى هذا الوعد والصدق فيه من اعظم ما يتصور
وكان رسولا نبيا
54
- الكلام فيه كالكلام في السابق بيد أنهم قالوا هنا : أن فيه دلالة على أن الرسول لا يجب
(16/104)

أن يكون صاحب شريعة مستقلة فان اولاد ابراهيم عليهم السلام كانوا على شريعته وقد اشتهر خلافه بل اشترط بعضهم فيه أن يكون صاحب كتاب أيضا والحق أنه ليس بلازم وقيل : أن المراد بكونه صاحب شريعة أن يكون له شريعة بالنسبة إلى المبعوث اليهم واسماعيل عليه السلام كذلك لأنه بعث إلى جرهم بشريعة ابيه ولم يبعث ابراهيم عليه السلام اليهم ولا يخفى ما فيه وكان يامر أهله بالصلاة والزكاة اشتغالا بالاهم وهو أن يبدأ الرجل بعد تطميل نفسه بتكميل من هو اقرب الناس اليه قال الله تعالى وانذر عشيرتك الأقربين وأمر اهلك بالصلاة قوا انفسكم واهليكم نارا او قصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لانهم قدوة يؤتسى بهم
وقال الحسن : المراد باهله امته لكون النبى بمنزله الأب لامته ويؤيد ذللك أن في مصحف عبد الله وكان يأمر قومه والمراد بالصلاة والزكاة قيل معناها المشهور وقيل : المراد بالزكاة مطلق الصدقةوحكى أنه عليه السلام كان يأمر أهله بالصلاة ليلاوالصدقة نهاراوقيل المراد بها تزكيةالنفس وتطهيرها وكان عند ربه مرضيا
55
- لاستقامه اقواله وافعاله وهو اسم مفعول واصله مرضوو فأعل بقلب واوه ياء لانها طرف بعد واو ساكنة فاجتمعت الواو واليء وسبقت احداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وادغمت الياء في الياء وقلبت الضمة كسرة
وقرأ ابن أبى عبله مرضوا من غير اعلال وعن العرب أنهم قالوا : ارض منسية ومنسوة وهي التي تسقى بالسواني واذكر في الكتاب إدريس هو نبى قبل نوح وبينهما على ما في المستدرك عن ابن عباس الف سنة وهو اخنوخ بن يرد مهلاييل بن انوش بن قينان بن شيت ابن ادم عليه السلام وعن وهب بن منبه أنه جد نوح عليه السلام والمشهور أنه جد ابيه فانه ابن لمك من متوشلخ بن اخنوخ وهو أول من نظر في النجوم والحساب وجعل الله تعالى ذلك من معجزاته على ما في البحر وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخمط وكان خياطا وكانوا قبل يلبسون الجلود وأول مرسل بعد ادم وقد انزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفه وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والاسلحة فقاتل بني قابيل وعن ابن مسعود أنه الياس بعث إلى قومه أن يقولوا لا اله إلا الله ويعملوا ما شاؤا فابوا واهلكوا والمعول عليه الأول وان روى القول بأنه الياس ابن ابي حاتم بسند حسن عن ابن مسعود وهذا اللفظ سرياني عند الأكثرين وليس مشتقا من الدرس لأن الأشتقاق من غير العربي مما لم يقل به احد وكونه عربيا مشتقا من ذلك يرده منع صرفه نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة دراسته انه كان صديقا نبيا
56
- هو كما تقدم
ورفعناه مكانا عليا
57
- هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى كما روى عن الحسن واليه ذهب الجبائي وابو مسلم وعن انس وابي سعيد الخدري وكعب ومجاهد السماء الرابعه وعن ابن عباس والضحاك السماء السادسة وفي روايه أخر عن الحسن الجنه لا شئ اعلا من الجنه وعن النابغه الجعدي أنه لما انشد رسول الله صلى الله عليه و سلم الشعب الذي أخره بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وانا لنرجوا فوق ذلك مظهرا
(16/105)

قال عليه الصلاة و السلام له : إلى اين المظهر يا أبا ليلى قال إلى الجنة يا رسول الله قال : اجل أن شاء الله تعالى
وعن قتادة أنه عليه السلام يعبد الله تعالى مع الملائكه عليهم السلام في السماء السابعة ويرتع تاره في الجنة حيث شاء واكثر القائلين برفعة حسا قائلون بأنه حي حيث رفع وعن مقاتل أنه ميت في السماء وهو قول شاذ وسبب رفعه على ما روى عن كعب وغيره أنه مر ذات يوم في حاجة فاصابه وهج الشمس فقال : يارب انى مشيت يوما في الشمس فاصابني منها ما اصابني فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فلما اصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها مالا يعرف فقال : يارب خلقتني لحمل الشمس فماذا الذي قضيت فيه قال : أن عبدى ادريس سألني أن اخفف عنك حملها وحرها فاجبته قال : يارب فاجمع بينى وبينه واجعل بينى وبينه خلة فاذن له حتى اتى ادريس ثم أنه طلب منه رفعه إلى السماء فاذن الله تعالى له بذلك فرفعه وأخرج ابن المنذر عن عمر مولى عفره يرفع الحديث إلى النبى صلى الله عليه و سلم قال : ان ادريس كان نبيا تقيا زكيا وكان يقسم دهره على نصفين ثلاثة ايام يعلم الناس الخير واربعة ايام يسيح في الأرض ويعبد الله تعالى مجتهدا وكان يصعد من عمله وحده إلى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع اعمال بنى ادم وان ملك الموت احبه في الله تعالى فاتاه حين خرج للسياحه فقال له : يا نبي الله انى اريد أن تاذن لي في صحبتك فقال له ادريس وهو لا يعرفه : انك لن تقوى على صحبتى قال : بل انى ارجو أن يقوينى الله تعالى ذلك فخرج معه يومه ذلك حتى اذا كان من أخر النهار مره براعي غنم فقال ملك الموت : يا نبى الله إنا لاندري حيث نمسى فلو اخذنا جفرة من هذه الغنم فافطرنا عليها فقال له : لا تعد إلى مثال هذا اتدعوني إلى اخذ ما ليس لنا من حيث نمسى ياتينا الله تعالى برزق فلما امسى اتاه الله تعالى بالرزق الذي كان ياتيه فقال لملك الموت تقدم فكل فقال : لا والذي اكرمك بالنبوه مااشتهى فاكل وهده وقاما جميعا للصلاة ففتر ادريس ونعس ولم يفتر الملك ولم ينعس فعجب منه وصغرت عنده عبادته مما رأى ثم اصبحا فساحا فلم كان أخر النهار مرا بحديقة عنب فقال له مثل ما قال اولا فلما امسيا اتاه الله تعالى بالرزق فدعاه إلى الأكل فلم ياكل وقاما إلى الصلاة وكان من أمرهما ما كان اولا فقال له ادريس : لا والذي نفسى بيده ما انت من بنى ادم فقال : اجل لست منهم وذكر له أنه ملك الموت فقال : أمرت في بأمر فقال : لو أمرت فيك بأمر ما نظرتك ولكني احبك في الله تعالى وصحبتك له فقال له : انك معي هذه المدة لم تقبض روح احد من الخلق قال : بلى انى معك وانى اقبض نفس من أمرت بقبض نفسه في مشارق الأرض ومغاربها وما الدنيا كلها عند إلا كمائدة بين يدي الرجل يتناول منها ما شاء فقال له : ياملك الموت اسألك بالذي اجبتنى له وفيه إلا قضيت له حاجة اسألكها فقال : سلنى يا نبى الله فقال : احب أن تذيقني الموت ثم ترد علي روحي فقال : مااقدر إلا أن استأذن فستأذن ربه تعالى فأذن له فقبض روحه ثم ردها الله تعالى اليه فقال له ملك الموت : يا نبى الله كيف وجدت الموت قال : اعظم مما كنت احدث واسمع ثم سأله رؤية النار فانطلق إلى احد ابواب جهنم فنادى بعض خزنتها فلما علموا أنه ملك الموت ارتعدت فرائصهم وقالوا : أمرت فينا بأمر فقال لو أمرت فيكم بأمر ما ناظرتكم ولكن نبى الله تعالى ادريس سألني أن تروه لمحه من النار ففتحوا له قدر ثقب المخيط فاصابه ما صعق منه فقال ملك الموت : اغلقوا فغلقوا وجعل يمسح وجهه ادريس ويقول : يا نبى الله تعالى ما كنت احب أن يكون هذا حظك من صحبتي فلما افاق سأله كيف رايت قال : اعظم مما كنت احدث اواسمع ثم سأله أن يريه لمحه من الجنة ففعل نظير ما فعله قبل
(16/106)

فلما فتحوا له اصابه من بردها وطيبها وريهانها ما اخذ بقلبه فقال : يا ملك الموت اني احب أن ادخل الجنة فآكل اكلة من ثمارها واشرب شربة من مائها فلعل ذلك أن يكون اشد لطلبتي ورغبتي فدخل واكل وشرب فقال له ملك الموت : أخرج يا نبى الله تعالى قد اصبت حاجتك حتى يردك الله عز و جل مع الأنبياء عليهم السلام يوم القيامة فاحتضن بساق شجرة من اشجارها وقال : ما انا بخارج وان شئت أن اخاصمك خاصمتك فاوحى الله تعالى إلى ملك الموت قاضه الخصومة فقال له : ماالذي تخاصمني به يا نبى الله تعالى فقال ادريس : قال الله تعالى كل نفس ذائقة الموت وقد ذقته وقال سبحانه وان منكم إلا واردها وقد وردتها وقال جل وعلا لأهل الجنة وما هم منها بمخرجين افأخرج من شئ ساقه الله عز و جل الي فاوحى الله تعالى إلى ملك الموت خصمك عبدي ادريس وعزتى وجلالى أن في سابق علمي أن يكون كذلك فدعه فقد احتج عليك بحجة قوية الحديث والله تعالى أعلم بصحته وكذا بصحة ما قبله من خبر كعب وهذا الرفع لاقتضائه علو الشأن ورفعة القدر كان فيه من المدح ما فيه وإلا فمجرد الرفع إلى مكان عالى حسا ليس بشئ
فالنار يعلوها الدخان وربما يعلو الغبار عمائم الفرسان وادعى بعضهم أن الأقرب أن العلو حسى لأن الرفعه المقترنة بالمكان لاتكون معنويه وتعقب بأن فيه نظرا لأنه ورد مثله بل ما هو اظهر منه كقوله : وكن في مكان اذا ما سقطت تقوم ورجلك في عافيه فتأمل أولئك اشارة إلى المذكورين في السورة الكريمة وما فيه من معنى البعد للاشعار بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى الذين انعم الله عليهم أي بفنون النعم الدينية والدنيوية حسبما اشير اليه مجملا خبره على ما استظهره في البحر والحصر عند القائل به اضامى بالنسبة إلى غير الأنبياء الباقين عليهم الصلاة والسلام لانهم معروفون بكونهم منعما عليهم فينزل الأنعام على غيرهم منزلة العدم وقيل : يقدر مضاف أي بعض الذين انعم الله عليهم وقوله تعالى من النبيين بيان للموصول وقيل : من تبعيضية بناء على أن المراد أولئك المذكورون الذين انعم الله تعالى عليهم بالنعم المعهوده المذكوره هنا فيكون الموضوع والمحمول مخصوما بمن سمعت وهم بعض النبيين وعموم المفهوم المراد من المحمول في نفسه ومن حيث هو في الذهن لاينافي أن يقصد به أمر خاص في الخارج كما لايخفى واختير حمل التعريف في الخبر عن الجنس للمبالغة كما في قوله تعالى ذلك الكتاب والمحذور مندفع بما ذكرنا و من في قوله سبحانه من ذرية إدم قيل بيانيه والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق والمجرور بدل من المجرور باعادة الجار وهو بدل بعض من كل بناء على أن المراد ذريته الأنبياء وهي غير شاملة لآدم عليه السلام ولا يخفى بعده وقيل : هي تبعيضية لأن المنعم عليه اخص من الذرية من وجه لشمولها بناء على الظاهر المتبادر منها غير من انعم عليه دونه ولايضر في ذلك كونها اعم منها من وجه لشموله ادم والملك ومؤمنى الجن دونها وممن حملنا مع نوح أي ومن ذرية من حملناهم معه عليه السلام خصوصا وهم من عدا ادريس عليه السلام لما سمعت من أنه قبل نوح وابراهيم عليه السلام كان بالأجماع من ذرية سام بن نوح عليهما السلام ومن ذرية ابراهيم وهم الباقون
(16/107)

واسرائيل عطف على ابراهيم أي ومن ذرية اسرائيل أي يعقوب عليه السلام وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وفي الآية دليل على أن اولاد البنات من الذرية لدخول عيسى عليه السلام ولا اب له وجعل اطلاق الذرية عليه بطريق التغليب خلاف الظاهر وممن هدينا واجتبينا عطف على قوله تعالى من ذرية ادم ومن للتبعيض أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واخترناهم للنبوه والكرامة
وجوز أن يكون عطفا على قوله سبحانه من النبيين ومن للبيان واورد عليه أن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال : المراد ممن جمعنا له بين النبوة والهداية والأجتباء للكرامة وهو خلاف الظاهر وقوله تعالى اذا تتلى عليهم إيات الرحمن خروا سجدا وبكيا
58
- استئناف مساق لبيان خشيته من الله تعالى واخباتهم له سبحانه مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عز سلطانه
وقيل : خبر بعد خبر لاسم الأشارة وقيل : أن الكلام انقطع عند قوله تعالى واسرائيل وقوله سبحانه وممن هدينا خبر مبتدأمحذوف وهذه الجملة صفه لذلك المحذوف أي وممن هدينا واجتبينا قوم اذا تتلى عليهم الخ ونقل ذلك عن ابي مسلم وروى بعض الأماميه عن علي بن الحسين رضى الله تعالى عنهما أنه قال : نحن عنينا بهؤلاء القوم ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا وحال روايات الأمامية لا يخفى على ارباب التمييز وظاهر صنيع بعض المحققين اختيار أن يكون الموصول صفه لاسم الأشارة على ما هو الشائع فيما بعد اسم الأشارة وهذه الجملة هي الخبر لأن ذلك امدح لهم ووجه ذلك ظاهر عند من يعرف حكم الأوصاف والأخبار وسجدا جمع ساجد وكذا بكيا جمع باك كشاهد وشهود واصله بكوى اجتمعت الواو والياء وسبقت احداهما بالسكون فقلبة الواو ياء وادغمت الياء في الياء وحركت الكاف بالكسر لمناسبة الياء وجمعه المقيس بكاة كرام ورماة إلا أنه لم يسمع على ما في البحر وهو مخالف لما في القاموس وغيره وجوز بعضهم أن يكون مصدر بكى كجلوسا مصدر جلس وهو خلاف الظاهر نعم ربما يقتضيه ما أخرجه ابن ابي الدنيا في البكاء وابن جرير وابن ابي حاتم والبيهقي في الشعب عن عمر رضى الله تعالى عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال : هذا سجود فاين البكى وزعم ابن عطيه أن ذلك متعين في قراءة عبد الله ويحيى والأعمش وحمزه والكسائي بكيا بكسر أوله وليس كما زعم لأن ذلك اتباع وظاهر أنه لايعين المصدرية ونصب الاسمين على الحاليه من ضمير خروا أي ساجدين وباكين والأول حال مقدرة كما قال الزجاج والظاهر أن المراد من السجود معناه الشرعي والمراد من الآيات ما تضمنته الكتب السماويه سواء كان مشتملا على ذكر السجود ام لا وسواء كان متضمنا لذكر العذاب المنزل بالكفار ام لا ومن هنا استدل بالآيه على استحباب السجود والبكى عند تلاوة القرآن
وقد أخرج ابن ماجه واسحق بن راهويه والبزار في مسنديهما من حديث سعيد بن ابي وقاص مرفوعا اتلوا القرآن وابكوا فان لم تبكوا فتباكوا وقيل : المراد من السجود سجود التلاوة حسب ما تعبدنا به عند سماع بعض الآيات القرآنية فالمراد بآيات الرحمن آيات مخصومه متضمنه لذكر السجود وقيل : المراد منه الصلاة وهو قول ساقط جدا وقيل : المراد منه الخشوع والخضوع والمراد من الآيات ما تضمن العذاب المنزل بالكفار وهذا قريب من سابقه ونقل الجلال السيوطي عن الرازي أنه استدل بالآية على وجوب سجود التلاوة وهو كما قال الكيا : بعيد وذكروا أنه ينبغي أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بايتها فههنا يقول : اللهم
(16/108)

اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك وفي آيات الأسراء اللهم اجعلني من الباكين اليك الخاشعين لك وفي آية تنزيل السجدة اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ورحمتك واعوذ بك من أن اكون من المستكبرين عن أمرك
وقرأ عبد الله وابو جعفر وشيبة وشبل ابن عباد وابو حيوة وعبد الله بن احمد العجلي عن حمزة : وقتيبة في رواية وورش في رواية النحاس وابن ذكوان في رواية التغلبي يتلى بالياء التحتيه لأن التانيث غير حقيقي ولوجود الفاصل فخلف من بعدهم خلف أي جاء بعدهم عقب سوء فان المشهورة في الخلف ساكن اللام ذلك والمشهور في مفتوح اللام ضده وقال أبو حاتم : الخلف بالسكون الاولاد الجمع والواحد فيه سواء وبالفتح البدل ولدا كان او غيره وقال النضر بن شميل : الخلف بالتحريك والاسكان القرن السوء أما الصالح فالتحريك لا غير وقال ابن جرير : اكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد ينكس وعلى استعمال المفتوح في الذم جاء قول لبيد : ذهب الذين يعاش في اكنافهم وبقيت في خلف كجلد الاجرب اضاعوا الصلاة وقرأ عبد الله والحسن وابو رزين العقيلي والضحاك وابن مقسم الصلوات بالجمع وهو ظاهر ولعل الأفراد للاتفاق في النوع واضاعتها على ما روى عن ابن مسعود والنخعي والقاسم ابن مخيمرة ومجاهد وابراهيم وعمر بن عبد العزيز تاخيرها عن وقتها وروى ذلك الامامية عن أبى عبد الله رضى الله تعالى عنه واختار الزجاج أن اضاعتها الاختلال بشروطها من الوقت وغيره وقيل : اقامتها في غير جماعة وأخرج ابن أبى حاتم عن محمد بن كعب القرضى أن اضاعتها تركها وقيل : عدم اعتقاد وجوبها وعلى هذا الآية في الكفار وعلى ما قبله لاقطعواستظر انها عليه في قوم مسلمين بناء على أن الكفار غير مكلفين بالفروع إلا أن يقال : المراد أن من شأنهم ذلك فتدبر وعلى ماقبلهما فىي قوم مسلمين قولا واحدا
والمشهور عن ابن عباس ومقاتل انها في اليهودوعن السدى انها فيهم وفي النصارى واختير كونها في الكفرة مطلقا لما سياتى إن شاء الله تعالى قريبا وعليه بنى حسن موقع حكاية قول جبريل عليه السلام الاتى وكونها في قوم مسلمين من هذة الامة مروى عن مجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم قالوا : انهم ياتون عند ذهاب الصالحين يتبادرون بالزنا ينزو بعضهم على بعض في الازقة كالانعام لايستحيون من الناس لا يخافون من الله تعالى واتبعوا الشهوات وانهمكوا في المعاصي المختلفة الأنواع وفي البحر الشهوات عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وعن ذكر الله تعالىوعد بعضهم من ذلك نكاح الأخت من الأب وهو على القول بأن الآية فيما يعم اليهود لأن من مذهبهم فيما قيل ذلك وليس بحق والذي صح عنهم أنهم يجوزون نكاح بنت الأخ وبنت الأخت ونحوهماوعن علي كرم الله تعالى وجهه من بنى المشيد وركب المنظور ولبس المشهور فسوف يلقون غيا
59
- أخرج ابن جرير والطبراني وغيرهما من حديث أبى امامة مرفوعا أنه نهر في اسفل جهنم يسيل فيه صديد أهل النار وفيه لو أن صخرة زنة عشر عشر اوات قذف بها من شفير جهنم مابلغت قعرها سبعين خريفا ثم تنتهي إلى غي واثام ويعلم منه سر التعبير بسوف يلقون
(16/109)

وأخرج جماعة من طرق عن ابن مسعود أنه قال : الغى نهر او واد في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات وحكى الكرمانى أنه ابار في جهنم يسيل اليها الصديد والقيح
وأخرج ابن أبى حاتم عن قتادة أن الغى السوء ومن ذلك قول مرقش الأصغر : فمن يلق خيرا يحمد الناس امره ومن يغو لايعدم على الغى لائما وعن ابن زيد أنه الضلال وهو المعنى المشهور وعليه قيل المراد جزاء غى وروى ذلك عن الضحاك واخياره الزجاجوقيل : المراد غيا عن طريق الجنة وقرىفيما حكى الأخفش يلقون بضم اليء وفتح اللام وشد القاف إلامن تاب وإمن وعمل صالحا استثناء منقطع عند الزجاج وقال في البحر : ظاهره الاتصالوايد بذكر الأيمان كون الآية في الكفرة او عامة لهم ولغيرهم لأن من آمن لايقال إلالمن لمن كان كافرا إلا بحسب التغليظوحمل الأيمان على الكامل خلاف الظاهروكذا كون المراد إلامن جمع التوبه والأيمانوقيل : المراد من الأيمان الصلاة كما في قوله تعالى وما كان الله ليضيع ايمانكم ويكون ذكره في مقابلة اضاعة الصلاة وذكر العمل الصالح في مقابلةاتباع الشهوات فأولئك المنعوتون بالتوبة والأيمان والعمل الصالح يدخلون الجنة بموجب الوعد المحتومولايخفى ما في ترك التسويف مع ذكر أولئك من اللطف
وقرا ابن كثير وابو عمرو وابو بكر ويعقوب يدخلون بالبناء للمفعول من ادخل وقرا ابن غزوان عن طلحة سيدخلون بسين الأستقبال مبنيا للفاعل ولايظلمون شيئا
60
- اي لاينقصون من جزاء اعمالهم شيئا او لاينقصون شيئا من النقص وفيه تنبيه على أن فعلهم السابق لايضرهم ولا ينقص اجورهم واستدل المعتزلة بالآية على أن العمل شرط دخول الجنة وأجيب بأن المراد يدخلون الجنة بلا تسويف بقرينة المقابلة وذلك بتنزيل الزمان السابق على الدخول لحفظهم فيه عما ينال غيرهم منزلة العدم فيكون العمل شرطا لهذا الدخول لا للدخول مطلقا وايضا يجوز أن يكون شرطا لدخول جنة عدن لامطلق الجنة وقيل هو شرط لعدم نقص شيئ من ثواب الأعمال وهو كما ترى وقيل غير ذلك واعترض بعضهم على القول بالشرطية بأنه يلزم أن لايكون من تاب وآمن ولم يتمكن من العمل الصالح يدخل الجنه وأجيب بأن ذلك من الصور النادرة والأحكام انما تناط بالأعم الأغلب فتأمل
جنات عدن بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها اشتمال الكل على الجزء بناء على ما قيل : أن جنات عدن علم لاحدى الجنات الثمان كعلمية بنات اوبر وقيل : أن العلم هو جنة عدن إلا أنه اقيم الجزء الثاني بعد حذف الأول مقام المجموع كما في شهر رمضان ورمضان فكان الأصل جنات جنة عدن والذي حسن هذه الأقامة أن المعتبر علميته في المنقول الأضافي هو الجزء الثاني حتى كأنه نقل وحدة كما قرر في موضعه من كتب النحو المفصله وفي الكشف اذا كانت التسمية بالمضاف والمضاف اليه جعلوا المضاف اليه في نحوه مقدر العلمية لأن المعهود في كلامهم في هذا الباب الأضافة إلى الأعلام والكنى فاذا اضافوا إلى غيرها اجروه مجراها كابي تراب إلا ترى أنهم لا يجوزون ادخال اللام في ابن داية وابي تراب ويوجبونه في نحو امرئ
(16/110)

القيس وماء السماء كل ذلك نظرا إلى أنه لا يغير من حاله كالعلم إلى أخر ما فيه
ويدل على ذلك أيضا منعه من الصرف في بنات أوبر وأبى قترة وابن داية إلىغير ذلك فجنات عدن على القولين معرفة أما على الأول فللعلمية وأما على الثاني فللاضافة المذكورة وان لم يكن عدن في الأصل علما ولا معرفة بل هو مصدر عدن بالمكان يعدن ويعدن أقام به واعتبار كون عدن قبل التركيب علما لاحدى الجنات يستدعى أنتكون الأضافة في جنة عدن من اضافة الأعم مطلقا إلىالأخص بناء على أن المتبادر من الجنة المكان المعروف لا الأشجار ونحوها وهي لا تحسن مطلقا بل منها حسن كشجر الاراك ومدينة بغداد ومنها قبيح كانسان زيد ولا فارق بينهما إلا الذوق وهو غير مضبوط
وجوز أنيكون عدن علما للعدن بمعنى الأقامة كسحر علم للسحر وأمس للامس وتعريف جنات عليه ظاهر ايضا وإنما قالوا ما قالوا تصحيحا للبدلية لأنه لو لم يعتبر التعريف لزم إبدال النكرة من المعرفه وهو على راى القائل لا يجوز إلا إذا كانت النكرة موصوفة وللوصفية بقوله تعالى التي وعد الرحمن عباده وجوز أبو حيان اعتبار جنات عدن نكرة على معنى جنات إقامة واستقرار وقال : أندعوى أنعدا علم لمعنى العدن يحتاج إلىتوقيف وسماع من العرب مع ما في ذلك مما يوهم اقتضاء البناء وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه وعدم جواز إبدال النكرة من المعرفة إلا موصوفه شئ قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع ومذهب البصريين جواز الابدال وان لم تكن النكرة موصوفة وقال أبو على : يجوز ذلك إذا كان في إبدال النكرة فائدة لا تستفاد من المبدل منه مع أنه لا تتعين البدلية لجواز النصب على المدح وكذا لا يتعين كون الموصول صفة لجواز الابدال اه بادنى زيادة
وتعقب إبدال الموصول بأنه في حكم المشتق وقد نصوا على أن إبدال المشتق ضعيف ولعل ابا حيان لا يسلم ذلك ثم أنه جوز كون جنات عدن بدل كل وكذا جوز كونه عطف بيان وجملة لا يظلمون على وجهى البدلية والعطف اعتراض أو حال وقرأ الحسن وابو حيوة وعيسى بن عمر والأعمش واحمد بن موسى عن أبى عمرو جنات عدن بالرفع وخرجه أبو حيان على أنه خبر مبتدأ محذوف أي تلك جنات وغيره على انها مبتدأ والخبر الموصول وقرأ الحسن بن حي وعلى بن صالح جنة عدن بالنصب والأفراد ورويت عن الأعمش وهى كذلك في مصحف عبد الله
وقرأ اليمانى والحسن في رواية واسحق الأزرق عن حمزة جنة عدن بالرفع والأفراد والعائد إلىالموصول محذوف أي وعدها الرحمن والتعرض لعنوان الرحمة للايذان بأن وعدها وإنجازه لكمال سعة رحمته سبحانه وتعالى والباء في قوله عز و جل : بالغيب للملابسة وهي متعلقة بمضمر هو حال من العائد أو من عباده أي وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب أي غائبة عنهم غير حاضرة أو غائبين عنها لا يرونها أو للسببية وهي متعلقة بوعد أي وعدها إياهم بسبب تصديق الغيب والأيمان به وقيل : هي صلة عباده على معنى الذين يعبدونه سبحانه بالغيب أي في السر وهو كما ترى إنه أي الرحمن وجوز كون الضمير
(16/111)

للشان كان وعده أي موعوده سبحانه وهو الجنات كما روى عن ابن جريج أو موعده كائنا ما كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا كما قيل وجوز ابقاء الوعد على مصدريته وإطلاقه على ما ذكر للمبالغة
والتعبير بكان للايذان بتحقق الوقوع أي كان ذلك ماتيا
61
- أي ياتيه من وعد له لا محالة وقيل : ماتيا مفعول بمعنى فاعل أي آنيا وقيل : هو مفعول من أتى اليه إحسانا أي فعل به ما يعد إحسانا وجميلا والوعد على ظاهره ومعنى كونه مفعولا كونه منجزا لأن فعل الوعد بعد صدوره وايجاده إنما هو تنجيزه أي إنه كان وعده عباده منجزا لايسمعون فيها لغوا فضول كلام لاطائل تحته بل هو جارمجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير والكلام كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يجتنب عنه في هذه الدار ما امكن وعن مجاهد تفسير اللغو بالكلام المشتمل على السب والمراد لا يتسابون والتعميم أولى الا سلاما استثناء منقطع والسلام أما بمعناه المعروف أي لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم السلام عليهم أو تسليم بعضهم على بعض أو بمعنى الكلام السالم من العيب والنقص أي لكن يسمعون كلاما سالم من العيب والنقص وجوز أن يكون متصلا وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قوله : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وهو يفيد نفي سماع اللغو بالطريق البرهاني الاقوى والاتصال على هذا على طريق الفرض والتقدير ولولا ذلك لم يقع موقعه من الحسن والمبالغه وقيل : اتصال الأستثناء على أن معنى السلام الدعاء بالسلامة من الآفات وحيث أن أهل الجنة أغنياء عن ذلك إذ لا آفة فيها كان السلام لغوا بحسب الظاهر وان لم يكن كذلك نظرا المقصود منه وهو الأكرام وإظهار التحابب ولذا كان لائقا باهل الجنة
ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا
62
- وارد على عادة المتنعمين في هذه الدار أخرج ابن المنذر عن يحيى ابن كثير قال : كانت العرب في زمانها انما لها أكلة واحدة فمن اصاب اكلتين سمى فلان الناعم فانزل الله تعالى هذا يرغب عباده فيما عنده وروى نحو ذلك عن الحسن وقيل : المراد دوام رزقهم ودروره وإلا فليس في الجنة بكرة ولا عشى لكن جاء في بعض الآثار أن أهل الجنة يعرفون مقدار الليل بارخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق ابان عن الحسن وابى قلابه قالا : جاء رجل إلىرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول الله هل في الجنة من ليل قال : وما هيجك على هذا قال : سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا فقلت : اليل من البكرة والعشي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو وتاتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة عليهم السلام
تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا
63
- استئناف جئ به لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها فاسم الأشارة مبتدأ والجنة خبر له والموصول صفه لها والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي نورثها وبذلك
(16/112)

قرأ الأعمش وقرأ الحسن والأعرج وقتادة ورويس وحميد وابن أبى عبلة وابو حيوة ومحبوب عن أبى عمرو نورث بفتح الواو وتشديد الراء والمراد نبقيها على من كان تقيا من ثمرة تقواه ونمتعه بها كما نبقى على الوارث مال مورثه ونمتعه به فالايراث مستعار للبقاء واثاره على سائر ما يدل على ذلك كالبيع والهبة لأنه اتم انواع التمليك من حيث أنه لا يعقب بفسح ولا استرجاع ولا إبطال وقيل : يورث المتقون من الجنه المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا أخرج ابن أبى حاتم عن ابن شوذب قال : ليس من أحد إلا وله في الجنة منزل وازواج فاذا كان يوم القيامة ورث الله تعالى المؤمن كذا وكذا منزلا من منازل الكفار وذلك قوله تعالى تلك الجنة التي نورث الآية ولا يخفى أن هذا أن صح فيه اثر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلى العين والرأس وإلا فقد قيل عليه : أنه ضعيف لأنه يدل على أن بعض الجنة موروث والنظم الجليل يدل على انها كلها كذلك ولان الايراث ينبئ عن ملك سابق لا على فرضه مع أنه لا داعي للفرض هنا لكن تعقب بأنه يكفى في الايراث كون الموروث كان موجودا لكن بشرط التقوى بناء على ماذهب اليه بعضهم في قوله تعالى جنات عدن التي وعد الرحمن عباده حيث قال : المراد من العباد ما يعم المؤمن التقي وغيره ووعد غير المؤمن التقي مشروط بالأيمان والتقوى نعم اختار الأكثرون أن المراد من العباد هناك المتقون والمراد منهم هنا الأعم والمراد من التقي من آمن وعمل صالحا على ما قيل ولا دلالة في الآية على أن غيره لا يدخل الجنة مطلقا وأخرج ابن أبى حاتم عن داود بن أبى هند أنه الموحد فتذكر ولاتغفل
وما نتنزل إلا بأمر ربك حكاية قول جبرائيل صلوات الله تعالى وسلامه عليهفقد روى أنه احتبس عنه صلى الله عليه و سلم اياما حينا سئل عن قصة اصحاب الكهف وذي القرنبن والروح فلم يدر عليه الصلاة و السلام كيف يجيب حتى حزن واشتد عليه ذلك وقال المشركون : ان ربه ودعه وقلاه فلم نزل قال له عليه الصلاة و السلام : يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ضنى واشتقت اليك فقالك انى كنت اشوق ولكنى عبد مامور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست وانزل الله تعالى هذه الآية وسورة الضحى قاله غير واحدفهو من عطف القصة على القصة على ما قاله الخفاجيوفي الكشف وجه وقوع ذلك هذا الموقع أنه تعالى لم فرغ من اقاصيص الأنبياء عليهم السلام تثبيتا له صلى الله عليه و سلم وذنب بما احدث بعدهم الخلوف واستثنى الاخلاف وذكر جزاء الفريقين عقب بحكاية نزول جبريل عليه السلام وما رماه المشركون به من توديع ربه سبحانه إياه زيادة في التسلية وان الأمر ليس على ما زعم هؤلاء الخلوف وادمج فيه مناسبته لحديث التقوى بما دل على أنهم مأمورون في حركة وسكون منقادون مفوضون لطفا له ولامته صلى الله عليه و سلم ولهذا صرح بعده بقوله تعالى فاعبده واصطبر لاعبادته وفيه انك لاينبغي أن تكترث بما قالت المخالفين إلىان تلقى ربك سعيداوعطف عليه مقالة الكفار بيانا لتباين ما بين المقالتي وما عليه الملك المعصوم والانسان الجاهل الظلوم فهو استطراد شبيه بالاعتراض حسن الموقع انتهىولا يا بنى ما تقدم في النزول ما أخرجه احمد والبخاري والترمذي والنسائي وجماعة في سببه عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لجبريل عليه الصلاة و السلام :
(16/113)

ما يمنعك أن تزورتا اكثر مما تزورنا فنزلت وما نتنزل الابأمر ربك لجواز أن يكون صلى الله عليه و سلم قال ذلك في اثناء محاورته السابق أيضا واقتصر في كل رواية على شئ مما وقع في المحاورةوقيل : أن يكون النزول متكررا نعم ما ذكر في التوجيه انما يحسن على بعض الروايات السابقة في المراد بالخلف الذين اضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات
وقال بعضهم : أن التقدير هذاوقال جبريل : وما نتنزل الخ وبه يظهر حسن العطف ووجهه انتهى وتعقب بأنه لا محصل له وحكى النقاش عن قوم أن الآية متصلة بقول جبريل عليه السلام أولا انما انا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا وهوقول نازل عن درجة القبول جدا والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل يقال نزلته فتنزل وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى انزل وعلى ذلك قوله : فلست لإنسى ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب إذ لا أثر للتدرج في مقصود الشاعر والمعنى مانتنزل وقتا غب وقت إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضية حكمته سبحانه وقرأ الأعرج وما تنزل بالياء والضمير الموحى بقرينة الحال وسبب النزول والكلام لجبريل إلا بأمره تعالى قائلا له ما بين ايدينا ما قدامنا من الزمان المستقبل وما خلفنا من الزمان الماضي وما بين ذلك المذكور من الزمان الحال فلا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمرة سبحانه ومشيئته عز و جل وقال ابن جريج : ما بين الايدي هو ما مر من الزمان فبل الايجاد وما خلف هو ما بعد موتهم إلىاستمرار الاخرة وما بين ذلك هو مدة الحياة وقال أبو العالية : ما بين الايدي الدنيا بأسرها إلىالنفخة الأولى وما خلف ذلك الاخرة من وقت البعث وما بين ذلك ما بين النفختين وهو اربعون سنة وفي كتاب التحرير والتحبير ما بين الايدى الاخرة وما خلف الدنيا ورواه العوفى عن ابن عباس وبه قال ابن جبير وقتادة ومقاتل وسفيان وقال الأخفش : ما بين الايدي هو ما قبل الخلق وما خلف هو ما بعد الفناء وما بين ذلك ما بين الدنيا والاخرة فالمل ات على هذه الاقوال من الزمان
وقال صاحب الفينان : ما بين أيدينا السماء وما خلفنا الأرض وما بين ذلك ما بين الأرض والسماء وقيل : ما بين الأيدي الأرض وما خلف السملء وقيل : ما بين الأيدي المكان الذي ينتقلون اليه وما خلف المكان الذي ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه فالما آت من الأمكنة واختار بعضهم تفسيرها بما يعم الزمان والمكان والمراد أنه تعالى المالك لكل ذلك فلا ننتقل من مكان اللا مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا باذنه عز و جل
وقال البغوي : المراد له علم ما بين ايدينا الخ أي فلا نقدم على مالم يكن موافق حكمته سبحانه وتعالى
واختار بعضهم التعميم أي له سبحانه ذلك ملكا وعلما وما كان ربك نسيا
64
- أي تارك أنبياءه عليهم السلام ويدخل صلى الله عليه و سلم في ذلك دخولا أوليا أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة بالغة وقيل : النسيان على ظاهره يعنى أنه سبحانه لاحاطة علمه وملكه لا يطرأ عليه الغفلة والنسيان حتى يغفل عنك وعن الايحاء اليك وإنما كان تأخير الايحاء لحكمة علمها جل شأنه واختير الأول لأن هذا المعنى لا يجوز عليه سبحانه فلا حاجة إلىنفيه عنه عز و جل مع
(16/114)

أن الأول هو الأوفق لسبب النزول
ورجح الثاني بأنه اوفق بصيغة المبالغة فانها باعتبار كثرة من فرض التعلق به وهي اتم على الثاني مع ما في ذلك من ابقاء اللفظ على حقيقته وكثيرا ما جاء في القرآن نفي ما لايجوز عليه سبحانه وتعالى وفيه نظر نعم لا شبهة في أن المتبادر الثاني وأمر الاوفقية لسبب النزول سهل وفي اعادة اسم الرب المعرب عن تبليغ إلىالكمال اللائق مضافا إلىضميره عليه الصلاة و السلام من تشريفه صلى الله عليه و سلم والأشعار بعلة الحكم ما لا يخفى وقال أبو مسلم وابن بحر : أول الآية إلى وما بين ذلك من كلام المتقين حين يدخلون الجنة والتنزل فيه من النزول في المكان والمعنى وما نحل الجنة ونتخذها منازل إلا بأمر ربك تعالى ولطفه وهو سبحانه مالك الأمور كلها سالفها ومترقبها وحاضرها فما وجدنا وما نجده من لطفه وفضله وقوله سبحانه وما كان ربك نسيا تقرير من جهته تعالى لقولهم أي وما كان سبحانه تعالى تاركا لثوب العاملين أو ما كان ناسيا لاعمالهم والثوب عليها حسبما وعد جل وعلا وفيه أن حمل التنزل على ما ذكر خلاف الظاهر وايضا مقتضاه بأمر ربنا لأن خطاب النبى صلى الله عليه و سلم كما في الوجه الأول غير ظاهر إلا أن يكون حكاه الله تعالى على المعنى لأن ربهم وربه واحد ولو حكى على لفظهم لقيل ربنا وإنما حكى كذلك ليجعل تمهيدا لما بعده وكون ذلك خطاب جماعة المتقين لواحد منهم بعيد وكذا وما كان ربك نسيا إذ لم يقل ربهم وايضا لا يوافق ذلك سبب النزول بوجه وكان القائل انما اختاره ليناسب الكلام ما قبله ويظهر عطفه عليه وقد تحقق انا في غنى عن ارتكابه لهذا الغرض
وقوله تعالى رب السموات والأرض وما بينهما بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحة عظمته وجلاله الغفله والنسيان أو ترك وقلاء من اختاره واصطفاه لتبليغ رسالته ورب خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات الخ أو بدل من ربك في قوله تعالى وما كان ربك نسيا والفاء في قوله سبحانه فاعبده واصطبر لعبادته لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما وقيل : من كونه تعالى غير تارك له عليه الصلاة و السلام أو غير ناس لأعمال العاملين والمعنى فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده الخ فان إيجاب معرفته سبحانه كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفت أنه عز و جل لا ينساك أو لا ينسى اعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ولا تحزن بابطاء الوحي وكلام الكفرة فانه سبحانه يراقبك ويراعيك ويلطف بك في الدنيا والاخرة
وجوز أبو البقاء أن يكون رب السموات مبتدأ والخبر فاعبده والفاء زائده على رأى الأخفش وهو كما ترى
وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى : وما كان ربك نسيا من تتمة كلام المتقين على تقدير أن يكون رب خبر مبتدأ وحذوف ولم يجوز ذلك على تقدير الابدال لأنه لا يظهر حينئذ ترتب قوله سبحانه فاعبده الخ عليه لأنه من كلام الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم في الدنيا بلا شك وجعله جواب شرط محذوف على تقدير ولما عرفت احوال أهل الجنة واقولهم فأقبل على العمل لا يلائم كما في الكشف فصاحة التنزيل للعدول عن السبب الظاهر إلىالخفى وتعديه الاصطبار باللام مع أن المعروف تعديته بعلى كما في قوله تعالى : واصطبر عليها لتضمنه
(16/115)

معنى الثبات للعبادة فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمبارز : اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته وفيه أشارة إلىما يكابد من المجاهدة وان المستقيم من ثبت لذلك ولم يتزلزل وشمة من معنى رجعنا من الجهاد الأصغر إلىالجهاد الأكبر
هل تعلم له سميا
65
- أي مثلا كما جاء في رواية جماعة عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة واصله الشريك في السم وإطلاقه على ذلك لأن الشركة في الأسم تقتضى المماثلة وقال ابن عطية : السمى على هذا بمعنى المسامى والمضاهى وابقاه بعضهم على الأصل وأستظهر أن يراد ههنا الشريك في اسم خاص قد عبر عنه تعالى بذلك وهو رب السموات والأرض وقيل : المراد هو الشريك في الأسم الجليل فان المشركين مع غلوهم في المكابره لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا وقيل : المراد هو الشريك فيما يختص به تعالى في الأسم الجليل والرحمن ونقل ذلك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ايضا وقيل : هو الشريك في اسم الاله والمراد بالتسمية التسمية على الحق وأما التسمية على الباطل فهي كلا تسمية وأخرج الطستى عن ابن عباس أن نافع ابن الازرق سأله عن ذلك فقال : السمي الولد وانشد له قول الشاعر : أما السمى فانت منه مكثر والمال مال يغتدى ويروح وروى ذلك أيضا عن الضحاك واياما كان فالمراد بانكار العلم ونفيه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه واكده والجملة تقرير لوجوب عبادته عز و جل وان اختلف على اعتبار حسب اختلاف الأقوال فتدبر
وقرأ الأخوان وهشام وعلي بن نصر وهرون كلاهما عن أبى عمرو والحسن والأعمش وعيسى وابن محيصن هتعلم بادغام اللام في التاء وهو على ما قال أبو عبيدة لغة كالاظهار وانشدوا لذلك قول مزاحم العقيلي : فذرذا ولكن هتعين متيما على ضوء برق أخر الليل ناصب ويقول الانسان إذا ما مات لسوف أخرج حيا
66
- أخرج ابن المنذر عن ابن جريج انها نزلت في العاصي بن وائل وعن عطاء عن ابن عباس انها نزلت في الوليد بن المغيرة وقيل : في أبى جهل وعن الكلبي انها في أبى ابن خلف اخذ عظما باليا فجعل يفته بيده ويذريه في الريح ويقول : زعم فلان انا نبعث بعد أن نموت ونكون مثل هذا أن هذا شئ لايكون أبدا فال في الانسان على ما قيل للعهد والمراد به أحد هؤلاء الأشخاص وقيل : المراد بالانسان جماعه معينون وهم الكفره المنكرون للبعث
وقال غير واحد : يجوز أن تكون ال للجلس ويكون هناك مجاز في الطرف بأن يطلق جنس الانسان ويراد بعض أفراده كما يطلق الكل على بعض اجزائه أو يكون هنالك مجاز في الاسناد بأن يسند إلىالكل ما صدر عن البعض كما يقال : بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم ومن ذلك قوله : فسيف بنى عبس وقد ضربوا نبا بيدى ورقاء عن راس خالد واعترض هذا بأنه يشترط لصحة ذلك الاسناد رضا الباقين بالفعل أو مساعدتهم عليه حتى يعد كأنه صدر منه ولا شك أن بقية أفراد الانسان من المؤمنين لم يرضوا بهذا القول واجاب بعض مشترطي ذلك للصحة بأن الانكار مركوز في طبائع الكل قبل النظر في الدليل فالرضا حاصل بالنظر إلىالطبع والجبلة
وقال الخفاجي : الحق عدم اشتراط ذلك لصحته وإنما يشترط لحسنه نكته يقتضيها مقام الكلام
(16/116)

حتى يعد الفعل كأنه صدر عن الجميع فقد تكون الرضا المظاهره وقد تكون عدم الغوث والمدد ولذا اوجب الشرع القسامة والدية وقد تكون غير ذلك وكانه النكته هنا أنه لما وقع لهم بينهم إعلان قول لا ينبغي أن يقال مثله وإذ قيل لا ينبغي أن يترك قائله بدون منع أو قتل جعل ذلك بمنزلة الرضا حثا لهم على انكاره قولا أو فعلا انتهى
وقيل : لعل الحق أن الاسناد إلىالكل هنا للأشارة إلىقلة المؤمنين بالبعث على الوجه الذي اخبر به الصادق وما اكثر الناس ولو حرصتا بمؤمنين فتأمل وعبر بالمضارع عما استحضارا للصورة الماضية لنوع غرابة وأما ليفادة الأستمرار التجددي فان هذا القول لا يزال يتجدد حتى ينفخ في الصور والهمزة للانكار وإذا ظرف متعلق بفعل محذوف دل عليه أخرج ولم يجوزوا تعلقهم بالمذكور لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله وعد ابن عطية توسط سوف مانعا من العمل ايضا ورد عليه بقوله : فلما رأته آمنا هانا وجدها وقالت ابونا هكذا سوف يفعل وغير ذلك مما سمع ونقل عن الرضى أنه جعل إذا هنا شرطية وجعل عاملها الجزاء وقال : إن كلمة الشرط تدل على لزوم الجزاء للشرط ولتحصيل هذا الغرض عمل في إذا جزاؤه مع كونه بعد حرف لا يعمل ما بعده فيما قبله كالفاء في فسبح وان في قولك : إذا جئتنى فانى مكرم ولام الأبتداء في قوله تعالى : ائذا ما مات لسوف أخرج حيا ومختار الأكثرين أن إذا هنا ظرفية وما ذكره الرضى ليس بمتفق عليه وتحقيق ذلك في كتب العربية وفي الكلام معطوف محذوف لقيام القرينه عليه أي ائذا ما مات وصرت رميما لسوف الخ
واللام هنا لمجرد التوكيد ولذا ساغ اقترانها بحرف الأستقبال وهذا على القول بانها إذا دخلت المضارع خلصته للحال وأما على القول بانها لاتخلصه فلا حاجة إلىدعوى تجريدها للتوكيد لكن الأول هو المشهور وما في إذا ما للتوكيد أيضا والمراد من الأخراج الأخراج من الأرض أو من حال العناء والخروج على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز عن الأنتقال من حال إلىاخرى وايلاء الظرف همزة الأنكار دون الأخراج لأن ذلك الأخراج ليس بمنكر مطلقا وإنما المنكر كونه وقت اجتماع الأمرين فقدم الظرف لأنه محل الأنكار والأصل في المنكر أن يلي الهمزة ويجوز أن يكون المراد انكار وقت ذلك بعينه أي انكار مجيء وقت فيه حياة بعد الموت يعنى أن هذا الوقت لا يكون موجودا وهو ابلغ من انكار الحياة بعد الموت لما أنه يفيد انكاره بطريق برهانى وبعضهم لم يقدر معطوفا واعتبر زمان الموت ممتدا لاأول زهوق الروح كما هو المتبادر وقيل : لا حاجة إلىجميع ذلك لانهم إذا احالة في حالة الموت علم احالته إذا كانوا رفاتا بالطريق الأولى واياما كان فلا اشكال في الآية
وقرأ جماعة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه اذا بدون همرة الأستفهام وهي مقدرة معه لدلالة المعنى على ذلك وقيل : لاتقدير والمراد الاخبار على سبيل الهزء والسخريه بمن يقول ذلك وقرأ طلحة بن مصرف سأخرج بسين الأستقبال وبغير لام وعلى ذلك تكون إذا متعلقة بالفعل المذكور على الصحيح وفي رواية اخرى عنه لساخرج بالسين واللام وقرأ الحسن وابو حيوة أخرج مبنيا للفاعل او لا يذكر الانسان من الذكر الذي يراد به التفكر والأظهار في موضع الاضمار لزيادة التقرير والأشعار بأن الانسانية من دواعي التفكر
(16/117)

فيما جرى عليه من شؤون التكوين المانعة عن القول المذكور وهو السر في اسناده الجنس اوالى الفرد بذلك العنوان على ما قيل والهمزة للانكار التوبيخي وهي على أحد المذهبين المشهورين في مثل هذا التركيب داخلة على محذوف ماعطوف عليه ما بعد والتقدير ههنا ايقول ذالك ولا يذكر ان خلقناه من قبل اي من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه وقيل أي من قبل بعثه ولم يك شيا
67
- اي والحال أنه لم يكن حين اذن موجودا فحيث خلقناه وهو في تلك الحاله المنافيه للخلق بالكليه مع كونه ابعد من الوقوع فلان نبعثه باعاده ماعدم منه وقد كان متصفا بالوجود في وقت على مااختره بعض أهل السنه أو بجمع المواد المتفرقه وايجاد مثل ما كان فيها من الأعراض على ما اختاره بعض أخر منهم أيضا أولى واظهر فماله لا يذكره فيقع فيما يقع فيه من النكير وقيل : أن العطف على يقول المذكور سابقا والهوزة لانكار الجمع لدخولها على الواو المفيدة له ولا يخل ذلك بصدارتها لانها بالنسبة إلىجملتها فكانه قيل ايجمع بين القول المذكور وعدم الذكر : ومحصلة ايقول ذلك ولا يذكر انا خلقناه الخ
وقرأ غير واحد من السبعة يذكر بفتح الذال والكاف وتشديدهما واصله يتذكر فادغام التاء في الذال وبذلك قرأ أبى فوربك اقسامه باسمه عزت اسماؤه مضافا إلىضميره صلى الله عليه و سلم لتحقيق الأمر بالأشعار بعلته وتفخيم شأنه عليه الصلاة السلام ورفع منزلته لتحشرتهم أي لتجمعن القائلين ما تقدم بالسوق إلىالمحشر بعدما أخرجناهم احياء وفي القسم على ذلك دون البعث اثباته له على ابلغ وجه واكده كأنه أمر واضح غنى عن التصريح به بعد بيان امكانه بما تقدم من الحجة البالغة وإنما المحتاج إلىالبيان ما بعد ذلك من الاهوال وكون الضمير للكفرة القائلين هو الظاهر نظرا إلىالسياق واليه ذهب ابن عطيه وجماعة ولا ينافى ذلك ارادة الواحد من الانسان كما لا يخفى
واستظهر أبو حيان أنه للنلس كلهم مؤمنهم وكافرهم والشياطين معطوف على الضمير المنصوب أو مفعول معه روى أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يفووتهم كل منهم مع شيطانه في سلسلة ووجه ذلك على تقدير عود الضمير للناس أنهم لما حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعا على طرز ما قبل في نسبة القول إلىالجنس وقيل : يحشر كل واحد من التاس مؤمنهم وكافرهم مع قرينه من الشياطين ولا يختص الكافر بذلك وقد يستانس له بما في الصحيحين عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه مرفوعا ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن قالوا : واياك يا رسول الله قال : واياى إلا أن الله تعالى أعاننى عليه فاسلم فلا يأمرنى إلا بخير ثم لتحضرنهم حول جهنم جثيا
68
- بلركيت على الركب واصله جثوو بواوين فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين فكسرت الثاء للتخفيف فائقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبقت احداهما بالسكون فقلبت الواو ياء فادغمت الياء بالياء وكسرت الجيم اتباعا لما بعدها
وقرأ غير واحد من السبعه بضمها وهو جمع جاث في القراءتين وجوز الراغب كونه مصدرا نظير ما قيل في بكى وقد مر ولعل إحضار الكفرة بهذه الحال اهانا لهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة
(16/118)

وقال بعضم : إن المحاسبه تكون حول جهنم فيجثون لمخاصمة بعضهم بعضا ثم يتبرأ بعضهم من بعض وقال السدى : يجثون لضيق المكان بهم فالحال على القولين مقدرة بخلافه على ما تقدم وقيل : انها عليه مقدرة أيضا لأن المراد الجثى حول جهنم ومن جعل الضمير للكفرة وغيرهم قال : أنه يحضر السعداء والأشقياء حول جهنم ليرى السعداء ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غبطى وسرور أو ينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم ويزدادوا غيضا من رجوع السعداء عنهم إلىدار الثواب وشماتتهم بهم وجثون كلهم ئم لما يداهمهم من هول المطلع لضيق المكان أو لأن ذلك من توابع التواقف للحساب والتقأول قبل الوصول إلىالثواب والعقاب وقيل أنهم يجثون على ركبهم اظهارا للذل في ذلك الموطن العظيم ويدل على جثى جميع أهل الموقف ظاهر قوله تعالى وترى كل امه جاثيه لكن سيأتي قريبا أن شاء الله تعالى ما هو ظاهر في عدم جثي الجميع من الأخبار والله أعلم والحال قيل : مقدرة وقيل : غير مقدرة إلا أنه اسند ما للبعض إلىالكل وجعلها مقدرة بالنسبة إلىالسعداء وغير مقدرة بالنسبة إلىالأشقياء لا يصح وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه فسر جثيا بجماعات على أنه جمع جثوا وهو المجموع من التراب والحجارة أي لنحضرنهم جماعات ثم لتنزعنا من كل شيعة أي جماعه تشايعة وتعاونة على الباطل أو شاعة وتبعت الباطل على ما يقتضيه كون الآية في الكفرة أو جماعة شاعت دينا مطلقا على ما يقتضيه كونها في المؤمنين وغيرهم أيهم أشد على الرحمن عتيا
69
- أي نبوة عن الطاعه وعصيانا وعن ابن عباس جراءة وعن مجاهد كفرا وقيل : افتراء بلغة تميم والجمهور على التفسير الأول وهو على سائر التفاسير مصدر وفيه القراءتان السابقتان في جثيا
وزعم بعضهم أنه فيهما جمع جاث وهو خلاف الظاهر هنا والنزع الأخراج كما في قوله تعالى ونزع يده والمراد استمرار ذلك أي انا نخرجوا ونفوز من كل جماعه من جماعات الكفر اعصاهم فاعصاهم إلىان يحاط بهم فاذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم وذلك قوله تعالى : ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا
70
- فالمراد بالذين هم أولى المنتزعون باعتبار الترتيب وقد يراد بهم أولئك باعتبار المجموع فكانه قيل : ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وهم أولى بالصلى من بين سائر الصالحين ودركاتهم اسفل وعذابهم أشد ففي الكلام إقامة الظهر مقام المضمر وفسر بعضهم النزع بالرمى من نزعت السهم عن القوس أي رمته فالمعنى لنرمين فيها الاعصى فالاعصى من كل طائفة من تلك الطوائف ثم لتحن أعلم بتصليتهم وحمل الآية على البداء بالأشد فالأشد مروى عن ابن مسعود رضى الله الله تعالى عنه
وجوز أن يراد بأشدهم عتيا رؤساء الشيع وائمتهم لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالا مضلين قال الله نعالى : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم
وأخرج ذلك ابن أبى حاتم عن قتادة وعليه لا يجب الأستمرار والاحاطة واورد على القول بالعموم أن قوله تعالى أشد عتيا يقتضى اشتراك الكل في العتى بل في أشديته وهو لا يناسب المؤمنين وأجيب عنه بأن ذلك من نيبة ما للبعض إلىالكل والتفضيل على طائفة لا يقتضى مشاركة كل فرد فرد فاذا قلت هو اشجع العرب لا يلزمه وجود الشجاعة في جميع أفرادهم وعلى هذا يكون في الآية ايماء إلىالتجاوز عن الكثير حيث خص الذلب بالأشد معصية و أيهم مفعول ننزعن وهو اسم موصول بمعنى الذي مبنى على الضم محله
(16/119)

النصب و أشد خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد والجملة صلة ةالعائد المبتدأ وعلى الرحمن متعلق بأشد وعتيا تمييز محول عن المبتدأ ومن زعم أنه جمع جعله حالاوجوز في الجار أن يكون للبيان فهو متعلق بمحذوف كما في سقيالك ويجوز تعلقه بعتيا أما أن كان وصفا فبالاتفاق وأما إذا كان مصدارا فعند القائل بجواز تقدم معمول المصدر لاسيما إذا كان ظرفا وكذا الكلام بها من قوله تعالى هم أولى بها صليا فانه جوز أن يكون الجار للبيان وان يكون متعلقا بأولى وان يكون متعلقا بصليا وقد قرئ بالضم والكسروجوز فيه المصدريه والوصفيه وهو على الوصيفه حال وعلى المصدريه تمييز على طراز ما قيل في عتيا الا أنه جوز فيه أن يكون تمييزا عن النسبه بين أولى والمجرور وقد اشير إلىذلك فيما مر
والصلى من صلى النار كرضى وبها قاس حرها وقال الراغب : يقال صلى بالنار وبكذا أي بلى به وعن الكلبى أنه فسر الصلى بالدخول وعن ابن جريج أنه فسره بالخلود وليس كل من المعنيين لحقيقى له كما لايخفى ثم ما ذكر من بناء أي هنا هو مذهب سيبويه وكان حقها أن تبنى في كل موضع كسائر الموصولات لشبهها الحرف بافتقارها لما بعدها من الصلى لكنها لما لزمت الأضافه إلىالمفرد لفظا أو تقديرا وهي من خواص الأسماء بعد الشبه فرجعت إلىالأصل في الأسماء وهو الأعراب ولكنها إذا اضيفت إلىنكره كانت بمعنى كل وإذا اضيفت إلىمعرفه كانت بمعنى بعض فحملت في الأعراب على ماهي بمعناه وعادت هنا عنده إلىماهو حق الموصول وهو البناء لأنه لما حذف صدر صلتها ازداد نقصها المعنوي وهو الأبهام والافتقار للصله بنقص الصله التي هي كجزئها فقويت مشابهتها للحرف ولم يرتض كثير من العلماء ما ذهب اليه
قال أبو عمرو الجرمى فخرجت من البصرة فلم اسمع منذ فارقت الخندق إلىمكة احدا يقول : لاضربن أيهم قائم بالضم وقال أبو جعفر : النحاس ما علمت احدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذه المسئلة
وقال الزجاج : ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا احدهما فانه يقول باعراب أي إذا افردت عن الأضافة فكيف يبنيها إذا اضيفت وقد تكلف شيخنا علاء الدين علا الله تعالى مقامه في عليين للذب عن سيبويه في ذلك بما لا يفى بمؤنة نقله وقد ذكرنا بعضا منه في حواشينا على شرح القطر للمصنف
نعم يؤيد ما ذهب اليه سيبويه من المفعوليه قراءة طلحة بن مصرفومعاذ بن مسلم الهراء استاذ الفراء وزائدة عن الأعمش أيهم بالنصب لاكنه ترد ما نقل عنه من تحتم البناء إذا اضيفت وحذف صدر صلتها وينبغي إذا كان واقفا على هذه القراءة أن يقول بجواز الأمرين فيها حينئذ وقال الخليل : مفعول ننزعن موصول محذوف واى هنا استفهامية مبتدأ وأشد خبره والجملة محكية بقول وقع صلة للموصول المحذوف أي لننزعن الذين يقال فيهم : أيهم أشد وتعقب بأنه لا معنى لجعل النزع لمن يسأل عنه بهذا الأستفهام وأجيب بأن ذلك مجاز عن تقارب احوالهم وتشابهها في العتو حتى يستحق أن يسأل عنها أو المراد الذين يجاب بهم عن هذا السؤال وحاصله لننزعن الأشد عتيا وهو من تكلفه فيه حذف الموصول مع بعض الصلة وهو تكلف على تكلف ومثله لا ينقاس نعم مثله في الحذف على ماقيل قول الشاعر : ولقد ابيت من الفتاة بمنزل فابيت لا حرج ولا محروم وذهب الكسائى والفراء إلىماقاله الخليل إلا انهما جعلا الجمله في محل نصب بننزعن والمراد لننزعن من يقع في جواب هذا السؤال والفعل معلق بالاستفهام وساغ تعليقة عندهما لأن المعنى لننادين وهما
(16/120)

يريان تعليق النداء وان لم يكن من افعال القلوب والى ذلك ذهب المهدوي وقيل : لما كان النزع متضمنا معنى الافراز والتمييز وهو مما يلزمه العلم عومل معاملة العلم فساغ تعليقه ويونس لا يراى التعليق مختصا بصنف من الأفعال بل سائر اصنافها سواء في صحة التعليق عنده وقيل : الجملة الاستفهامية استئنافية والفعل واقع على كل شيعة على زيادة من في الأثبات كما يراه الأخفش أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة بجعل من مفعولا لتأويلها باسم ثم إذا كان الأستئناف بيانيا واقعا في جواب من المنزعون احتيج إلىالتأويل كان يقال : المراد الذين يقعون في جواب أيهم أشد أو نحو ذلك وإذا كانت أي على تقدير الاستئناف ووقوع الفعل على ما ذكر موصوله لم يحتج إلىالتأويل إلىان في القول بالاستئناف عدولا عن الظاهر من كون الكلام جملة واحدة إلىخلاف الظاهر من كونه جملتين
ونقل بعضهم عن المبرد أن أيهم غاعل شيعة لأن معناه يشيع والتقدير لننزعن من كل فريق يشيع أيهما هو أشد واى على هذا على ما قال أبو البقاء ونقل عن الرضى بمعنى الذي وفي البحر قال المبرد : أيهم متعلق بشيعة فلذلك ارتفع والمعنى من الذين تشايعوا أيهم أشد كانهم يتبادرون إلىهذا ويلزمه أن يقدر مفعولا لننزعن محذوفا وقدر أيضا في هذا المذهب من الذين تشايعوا أيهم أشد على معنى من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد قال النحاس : وهذا قول حسن انتهى وهو خلاف ما نقل أولا ولعمرى أن انسب إلىالمبرد أولا واخيرا ابرد من يخ وقيل : أن الجملة استفهامية وقعت صفة لشيعة على معنى لننزعن من كل شيعة مقول فيهم أيهم أشد أي من كل شيعة متقاربى الأحوال ومن زيده والنزع الرمى وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في أيهم معنى الشرط تقول : ضربت القوم أيهم غضب والمعنى أن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو حيان فعلى هذا ليكون التقدير هنا أن اشتد عتوهم أو لم يشتد انتهى وهوكما ترى والوجه الذي ينساق اليه الذهن ويساعده اللفظ والمعنى هو ما ذهب اليه سيبويه ومدار ما ذهب اليه في أي من الأعراب والبناء هو السماع في الحقيقة وتعليلات النحويين على ما فيها انما هي بعد الوقوع وعدم سماع غيره لا يقدح في سماعه فتدبر
وان منكم التفات إلى خطاب الانسان سواء اريد منه العموم أو خصوص الكفرة لاظهار مزيد الاعتناء بمضمون الكلام وقيل : هو خطاب للناس وابتدأ كلام منه عز و جل بعد ما اتم الغرض من الأول فلا التفات اصلا وامله الأسبق إلىالذهن لكن قيل يؤيد الأول قراءة ابن عباس وعكرمة وجماعة وان منهم أي وما منكم أحد الا واردها أي دخلها كما ذهب إلىذلك جمع كثير من سلف المفسرين وأهل السنة وعل ذلك قوله تعالى انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم انتم لها واردون وقوله تعالى : في فرعون يقدم قومه يوم القيامة فاوردهم النار وبئس الورد المورود
واحتج ابن عباس بما ذكر على ابن الأزرق حين انكر عليه تفسير الورود بالدخول وهو جار على تقدير عموم الخطاب أيضا فيدخلها المؤمن إلا انها لا نضره على ما قيل فقد أخرج احمد والحكيم الترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه وجماعه عن أبى سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن وقال أخر : يدخلونها جميعا ثم ينجى الله تعالى الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله رضى الله تعالى
(16/121)

عنه فذكرت له فقال : واهوى باصبعيه إلىاذنيه صمتا أن لم اكن سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا يبق بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على ابراهيم عليه السلام حتى أن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجى الله نعالى الذين اتقوا وقد ذكر الأمام الرازى لهذا الدخول عدة فوائد في تفسيره فليراجع
وأخرج عبد بن حميد وابن الأنبارى والبيهقى عن الحسن الورود المرور عليها من غير دخول وروى ذلك أيضا عن قتادة وذلك بالمرور على الصراط الموضوع على متنها على ما رواه جماعة عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه ويمر المؤمن ولا يشعر بها بناء على ما أخرج ابن أبى شيبه وعبد بن حميد والحكيم وغيرهم عن خالد بن معدان قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ربنا الم تعدنا أن نرد النار قال : بلى ولكنكم مررتم عليها وهي خامدة ولا ينافى هذا ما أخرجه الترمذي والطبراني وغيرهما عن يعلى ابن امية عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال : تقول النار للمؤمن : يوم القيامة جز يا مؤمن فقد اطفأ نورك لهبى لجواز أن لا يكون متذكرا هذا القول عند السؤال أو لم يكن سمعه لاشتغاله وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد أنه قال في الآية ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها وورود المشركين أن يدخلوها ولا بد على هذا من ارتكاب عموم المجاز عند من لا يرى جواز استعمال اللفظ في معنيين وعن مجاهد أن ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لما صح من قوله صلى الله عليه و سلم الحمى من فيح جهنم ولا يخفى خفاء الأستدلال به على المطلوب
واستدل بعضهم على ذلك بما أخرجه ابن جرير عن أبى هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يعود رجلا من اصحابه وعكا وانا معه فقال عليه الصلاة و السلام : ان الله تعالى يقول هي نارى اسلطها على عبدى المؤمن لتكون حظه من النار في الاخرة وفيه خفاء ايضا والحق أنه لا دلالة فيه على عدم ورود المؤمن المحموم في الدنيا النار فيى الاخرةوقصارى ما يدل عليه أنه يحفظ من الم النار يوم القيامة وأخرج عبد ابن حميد عن عبيد بن عمير أن الورود الحضور والقرب كما في قوله تعالى ولما ورد ماء مدين واختار بعضهم أن المراد حضورهم جاثين حواليها واستدل عليه بما ستعلمه أن شاء الله تعالى ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى أولئك عنها مبعدون لأن المراد مبعدون عن عذابها وقيل : المراد ابعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبا منها كان أي ورودهم إياها على ربك حتما اورا واجبا كما روى عن ابن عباس والمراد بمنزلة الواجب في تحتم للوقوع إذ لا يجب على الله تعالى شئ عند أهل السنة مقضيا
71
- قضى بوفوعة البتة
وأخرج الخطيب عن عكرمة أن معنى كان حتما مقضيا كان قسما واجبا وروى ذلك أيضا عن ابن مسعود والحسن وقتادة قيل : والمراد منه انشاء القسم وقيل : أن على ربك المقصود منه اليمين كما تقول : لله تعالى على كذا إذ لا معنى له إلا تاكد اللزوم والقسم لا يذكر إلا لمثله وعلى ورد في كلامهم كثيرا للقسم كقوله : على إذا ما جئت ليلى ازورها زيارة بيت الله رجلان حافيا فان صيعة النذر قد يراد بها اليمين كما صرحوا به ويجوز أن يكون المراد بهذه الجملة القسم كقولهم : عزمت عليك إلا فعلت كذا انتهى ويعلم مما ذكر المراد من القسم فيما أخرجه البخارى ومسلم والترمذي والنسائى وابن ماجه وغيرهم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه مسلم : لا يموت لمسلم ثلاثة من
(16/122)

الولد فيلج النار إلا تحلة القسم
وقال أبو عبيدة وابن عطية وتبعهما غير واحد : أن القسم في الخبر أشارة إلىالقسم في المبتدأ اعنى وان منكم إلا واردها وصرح بعضهم أن الواو فيه للقسم وتعقب ذلك أبو حيان بأنه لا يذهب نحوى إلىان مثل الواو واو القسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وابقاء الجار وهو لايجوز إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما في قوله :
والله ما ليلى بتام صاحبه
وقال ايضا : نص النحويون على أنه لايستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا أن كان الجواب باللام أو بأن واين ذلك في الآيةوجعل ابن هشام تحله القسم كناية عن القلة وقد شاع في ذلكومنه قول كعب : تخذى على يسرات وهي لاحقة ذوابل مسهن الأرض تحليل فان المعنى مسهن الأرض قليل كما يحلف الانسان على شئ ليفعلنه فيفعل منه اليسير ليتحلل به من قسمه ثم قال : أن فيما قاله جماعه من المفسرين من أن القسم على الأصل وهو أشارة إلىقوله تعالى : وان منكم إلا واردها الخ نظرا لأن الجملة لاقسم فيها إلا أن عطفت على الجمل التي أجيب بها القسم من قوله تعالى : فوربك لنحشرنهم الى آخرها وفيه بعد انتهى والخفاجي جوز الحالية والعطف وقال : حديث البعد غير مسموع لعدم تخلل الفاصل وهو كما ترى ولعل الاسلم من القيل والقال جعل ذلك مجازا عن القلة وهو مجاز مشهور فيما ذكر ولايعكر على هذا ما أخرجه احمد والبخاري في تاريخه والطبرانى وغيرهم عن معاذ بن انس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تعالى متطوعا لاياخذه سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فان الله تعالى يقول : وان منكم إلا واردها
فان التعليل صحيح مع ارادة القلة من ذلك أيضا فكانه قيل : لم ير النار إلا قليلا لأن الله تعالى اخبر بورود كل احدإياها ولابد من وقوع ما اخبر به ولولا ذلك لجاز أن لايراها اصلا ثم ننجى الذين اتقوا بالأخراج منها على ماذهب اليه الجمع الكثير ونذر الظالمين فيها جثيا
72
- على ركبهم كما روى عن ابن عناس ومجاهد وقتادة وابن زيدوهذه الآية ظاهره عندي في أن المراد بالورود الدخول وهو الأمر المشترك
وقال بعضهم : انها دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وذلك لأن ننجى ونذر وتفصيل للجنس فكانه قيل ننجى هؤلاء ونترك هؤلاء على حالهم الذي احضروا فيه جاثين ولابد على هذا من أن يكون التقدير في حواليها وانت تعلم أن الظاهر عدم التقدير والجثو لايوجب ذلك وخولف بين قوله تعالى : اتقوا وقوله سبحانه الظالمين ليؤذن بترجيح جانب الرحمه وان التوحيد هو المنجي والاشراك هو المردى فكانه قيل : ثم ننجى من وجد منه تقوى ما وهو الاحتراز من الشرك ونهلك من اتصف بالظلم أي بالشرك وثبت عليه في ايقاع نذر مقابلا لننجى اشعار بتلك اللطيفة ايضا قال الراغب : يقال فلان يذر الشئ أي يقذفه لقله اعداده به ومن ذلك قيل لقطعة اللحم التي لايعتد بها وذر وجئ بثم للايذان بالتفاوت بين فعل الخلق وهو ورودهم النار وفعل الحق سبحانه وهو النجاة والادمار زمانا ورتبه قاله العلامه الطيى طيب
(16/123)

الله تعالى ثراه والذي تقتضيه الاثار الواردة في عصاة المؤمنين أن يقال : أن التنجيه المذكوره ليست دفعيه بل تحصل أولا فأولا على حسب قوة التقوى وضعفها حتى يخرج من الثار من في قلبه وزن ذرة من خير وذلك بعد العذاب حسب معصيته وما ظاهره من الأخبار كخبر جابر السابق أن المؤمن لاتضره النار مؤول بحمل المؤمن على المؤمن الكامل لكثرة الأخبار الدالة على أن بعض المؤمنين يعذبون
ومن ذلك ما أخرجه الترمذي عن جابر رضى تعالى عنه أيضا قال : قالرسول الله صلى الله عليه و سلم يعذب ناس من أهل التوحد في النار حتى يكونوا حمما ثم تدركهم الرحمه فيخرجون فيطرحون على ابواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيلومن هنا حظر بعض العلماء أن يقال في الدعاء : اللهم اغفر لجميع امه محمد صلى الله عليه و سلم جميع ذنوبهم أو اللهم لاتعذب أحد من امة محمد صلى الله عليه و سلم هذا وقال بعضهم : ان المراد من التنجيه على تقدير أن الخطاب خاص بالكفرة أن يساق الذين اتقوا إلىالجنة بعد أن كانوا على شفير النار وجئ بثم لبيان التفاويت بين ورود الكافرين النار وسوق المذكورين إلىالجنة وان الأول للاهانة والأخر للكرامة وانت تعلم أن النين يذهب بهم إلىالجنة من الذين اتقوا من غير دخول في النار اصلا ليسوا إلا الخواص والمعتزلة خصوا الذين اتقوا بغير اصحاب الكبائر وادخلوهم في الضالمين واستدلوا بالآية على خلودهم في النار وكانوا ظالمين
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود وابى رضى الله تعالى عنهم والجحدرى ومعاةية بن قرة ويعقوب ثم بفتح الثاء أي هناك وابن أبى ليلى ثمه بالفتح مع هاء السكت وهو ظرف متعلق بما بعده وقرأ يحيى والأعمش والكسائى وابن محيصم ويعقوب ننجى بتخفيف الجيم وقرئ ينجى وينجى بالتشديد والتخفيف مع البناء للمفعول وقرأة فرقة نجى بنون واحدة مضمومه وجيم مشددة وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ننحى بحاء مهملة وهذه القراءة تؤيد بظاهرها تفسير الورود بالقرب والحضور وإذا تتلا عليهم الآية إلىاخرها حكاية لما قالوا عند سماع الآيات الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة ما لهم أي وإذا تتلى على المشركين إياتنا التي من جملتها الآيات السابقة بينات أي ظاهرات الاعجاز تحدا بها فلم يقدر على معارضتها أو مرتلات الالفاظ ملخصات المعنى مبينات المقاصد أما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات أو تبيين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قولا أو فعلا والوجه كما في الكشاف أن يكون بينات حالا مؤكدة لمضمون الجملة وان لم يكن عقدها من اسمين لأن المعنى عليه
وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن وإذا يتلى بالياء التحتية لأن المرفوع مجازي التأنيث مع وجود الفاصل قال الذين كفروا أي قالوا ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادين له أو قال الذين مردو منهم على الكفر فاصروا على العتوا والعناد وهم النضر من الحرث واتباعه الفجرة فان الآية نزلت فيها واللام في قوله تعالى للذين آمنوا للتبليغ كما في قلت له كذا إذا خاطبته به وقيل لام الاجل أي قالوا لاجلهم وفي حقهم المرجح الأول بأن قولهم ليس في
(16/124)

حق المؤمنين فقط كما ينطق به قوله تعالى اي الفريقين أي المؤمنين والكافرين كانهم قالوا : اينا خير نحن اوانتم مقاما أي مكانا ومنزلا واصله موضع القيام ثم استعمال لمطلق المكان وقال ابن كثير وابن محيصن وحميد والجعفي وابوا حاتم عن أبى عمرو مقاما بضم الاميم واصله موضع الأقامة المراد به أيضا المنزل والمكان فتتوافق القرأتان
وجوز في البحر احتمال المفتوح والمضموم للمصدرية على أن الأصل مصدر قام يقوم والثاني مصدر أقام يقيم ورايت في بعض المجموعات كلاما ينسب لابى السعود عليه الرحمه في الفرق بين المقام بالفتح والمقام بالضم وقد سأله بعضهم عن ذلك بقوله : يا وحيد الدهر يا شيخ الانام نبتغي فرق المقام والمقام وهو أن الأول يعنى المفتوح الميم موضع قيام الشئ اعم من أن يكون قيامه فيه بنفسه أو باقامة غيره ومن أن يكون ذلك بطريق المكث فيه أو بدونه والثاني موضع إقامة الغير إياه أو موضع قيامه بنفسه قياما ممتدا فان كان الفعل الناصب ثلاثيا فمقتضى الكلام هو الأول وكذا أن كان رباعيا ولم يقصد بيان كون المقام موضع قيام المضاف اليه باقامة غيره أو موضع قيامه الممتد وأما إذا قصد ذلك فان مقتضاه الثاني كما إذا قلت :
ت تاء القسم مقام الواو تنبيها على انها خلف عن الباء التي هي الأصل من احرف القسم
ومقامات الكلمات كلها وان كانت منوطه بوضع الوضع لكن مفامها المنوط باصل الوضع لكنه مقاما اصليا لها قد نزل منزل موضع قيامها بانفسها وجعل مقامها المنوط بالاستعمال الطارئ جاريا مجرى المقام الضطراري لذوات الاختيار هذا إذا كان المقام ظرفا أما إذا كان مصدر ميما والفعل الناصب رباعي فحقه ضم الميم انتهى المراد منه
وانت تعلم أنه في هذا المقام ليس منصوبا على الظرفية ولا على المصدرية بل منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ على ما قيل : أي اى الفريقين مقامة خير واحسن نديا
73
- أي مجلسا ومجتمعا وفي البحر هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثه أو مشورة وقيل : مجلس أهل الندى أي الكرم وكذا النادي يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنوها ويتطيبون ويلبسون مفاخر الملابس ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين الذين لا يقدرون على ذلك إذا توليت عليهم الآيات قال الأمام : ومرادهم من ذلك معارضت المؤمنين كانهم قالوا لوا كنتم على الحق وكنا على الباطل كان حالكم في الدنيا احسن واطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءة المخلصين في العذاب والذل واعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة لكن الكفار كانوا في النعمة والراحة والمؤمنين كانوا بعكس ذلك فعلم أن الحق ليس مع المؤمنين وهذا مع ظهور أنه قياس عقيم ناشئ من راى سقيم نقضه الله تعالى وابطله بقوله سبحانه وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم احسن اثاثا ورءيا
74
-
وحاصله أن كثيرا ممن كان اعضم نعمه منكم في الدنيا كعاد وثمود واضرابهم من الأمم الاعاتيه قد أهلكهم الله تعالى فلو دل حصول نعمة الدنيا للانسان على كونه مكرم عند الله تعالى وجب أن لا يهلك أحد من المتنعمين في الدنيا وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفي كأنه قيل فلينظر هؤلاء أيضا مثل ذلك و كم خبرية للتكثير مفعول
(16/125)

أهلكنا وقدمت لصدارتها وقيل : استفهامية والأول هو الظاهرو من قرن بيان لابهامها والقرن أهل كل عصرا وقد اختلف في مدته وهو من قرن الدابة سمى به لتقدمة ومنه قرن الشمس لأول ما يطلع منها وهم احسن في حيز النصب على ما ذهب اليه الزمخشري وتبعه أبو البقاء صفه لكم ورده أبو حيان بأنه قد صرح الأصحاب بأن كم سواء كانت خبرية أو استفهامية لا توصف ولا يوصف بها وجعله صفة قرن وضمير الجمع لاشتمال القرن على أفراد كثيرة ولو افرد الضمير لكان عربيا ايضا ولا يرد عليه كما قال الخفاجي : كم من رجل قام وكم من قرية هلكت بنا على أن الجار والمجرور يتعين تعلقه بمحذوف هو صفة لكم كما ادعى بعضهم أن الرضى أشارة اليه بأنه يجوز في الجار والمجرور أن يكون خبر لمبتدأ محذوف والجملة مفسرا إلا محلها من الأعراب فما ادعى غير مسلم عنده واثاثا تمييز وهو متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها واحدها اثاثة وقيل : لا واحد لها وقيل : الاثاث ما جد من المتاع والخرثى ما قدم وبلى وانشد الحسن بن علي الطوسي : تقادم العهد من ام الوليد بنا دهرا وصارا اثاث البيت خريثا والرئى المنظر كما قال ابن عباس وغيره وهو فعل بمعنى مفعول من الرؤيه كالطحن والسقي وقرأ الزهري وابو حعفر وشيبة وطلحة في روايت الهمداني وايوب وابن سعدان وابن ذكوان وقالون ريا بتشديد الياء من غير همز فاحتمل أن يكون من ذلك على قلب الهمزة ياء وادغامها واحتمل أن يكون من الرى ضد العطش والمراد به النضارة والحسد وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش ريئا بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا وقرئ رياء بياء بعدها الف بعدها همزة حكاها اليزيد ومعنها كما في الدرب المصون مراءاة بعضهم بضعا
وقرأ ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ريا بحذف الهمزة والوقصر وتجاسر بعض الناس وقال : هي لحن وليس كذلك بل خرجت على وجهين احدهما أن يكون الأصل ريا بتشديد الياء فخفف بحذف احدى الياءين وهي الثانية لانها التي حصل بها الثقل ولان الآخر وحل التغيير وذلك كما حذفت في لاسيما والثاني أن يكون الأصل ريئا بياء ساكنة بعدها همزة فنقلت حركة الهمزة إلىالياء ثم حذفت على القاعدة المعروفة
وقرأ ابن عباس أيضا وابن جبير ويزيد البربري والاعصم المكي زيا بالزاى وتشديد الياء وهو المحاسن المجموعة يقال : زواه زيا بالفتح أي جمعه ويراد منه الاثاث أيضا كما ذكره المبرد في قول الثقافي : اشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الاثاث والظاهر في الآية المعنى الأول قل من كان في الضلالة الخ أمر منه تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم بأن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ الدنيوية على المؤمنين ببيان ما آل أمر الفريقين أما على وجه كلى متنأول لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللذة الفانية المبتهجين بها على أن من على عمومها وأما على وجه خاص بهم على انها عبارة عنهم ووصفهم بالتمكن في الضلالة لذمهم والأشعار بعلة الحكم أي من كان مستقرا في الضلالة مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور فليمدد له الرحمن مدا أي يمد سبحانه له ويمهاه بطول العمر واعطاء المال والتمكن من التصرفات في الطلب في معنى الخبر واختير للايذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما ينبئ عنه قوله تعالى : او لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر فيكون حاصل
(16/126)

المعنى من كان في الضلالة فلا عذر له فقد امعلع الرحمن ومد له مدا وجوز أن يكون ذلك للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى انما نملى لهم ليزدادوا إثما وحاصل المعنى من كان في الضلالة فعادة الله تعالى أن يمدله ويستدرجه ليزداد اثما وقيل : المراد الدعاء بالمد اظهارا لعدم بقاء عذر بعد هذا البيان الواضح فهو على اسلوب ربنا ليضلوا عن سبيلك أن حمل على الدعاء قال في الكشف : الوجه الأول اوفق بهذا المقام والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المدمن احكامها حتى إذا راوا ما يوعدون إلىاخره غاية للمد وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من كما أن الأفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها وما اسم موصول والجملة بعده صلة والعائد محذوف أي الذي يوعدونه واعتبار ما مصدرية خلاف الظاهر
وقوله تعالى : اما العذاب وأما الساعة بدل من ما وتفصيل للموعود على طريق منع الخلو والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي بغلبة المؤمنين واستيلائهم عليهم والمراد بالساعة قيل : يوم القيامة وهو الظاهر
وقيل : ما يشنل حين الموت ومعاينة العذاب ومن مات فقد قامت قيانته وذلك لتتصل الغاية بالمغيا فان المد لا يتصل بيوم القيامة وأجيب بأن أمر الفاصل سهل لأن امور هذه الدنيا لزوالها وتقضيها لا تعد فاصلة كما قيل : ذلك في قوله تعالى : اغرقوا فادخلوا نارا وقوله تعالى : فسيعلمون جواب الشرط وهما في الحقيقة الغاية أن قلنا : أن المجموع هو الكلام أو مفهومه فقط أن قلنا : أنه هو الكلام والشرط ايد له حتى عند ابن مالك جارة وهي لمجرد الغاية لاجارة ولا عاطفة عند الجمهور وهكذا هي كلما دخلت على إذا الشرطية وهي منصوبة بالشرط أو الجزء على الخلاف المشهور والجملة مستأنفة لا محل لها من الأعراب والمراد حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي أو الاخروى فقط فسيعلمون حينئذ من هو شر مكانا من القريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنه شر مكانا لاخير مقاما وفي التعبير في المكان هنا دون المقام المعبر به هناك مبالغة في اظهار سوء حالهم واضعف جندا
75
- أي فئة وانصارا لا احسن نديا ووجه التقابل أن احسن الندى باجتماع وجوه القوم واعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم
وقيل : أن المراد من الندى هناك من فيه كما يقال المجلس العالى للتعظيم وليس المراد ام له ثمة جندا ضعيفا كلا ولم يكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا وإنما ذكر ذلك ردا لما كانوا يزعمونه من أن لهم اعوانا من شركائهم والظاهر أن من موصولة وهي في محل نصب مفعول يعلمون وتعدى إلىواحد لأن العلم بمعنى المعرفة وجملة هو شر صلة الموصول وجوز أبو حيان كونها استفهاميه والعلم على بابه والجملة في موضع نصب سادة مسد المفعولين وهو عند أبى البقاء فصل لا مبتدأ
وجوز الزمخشري وظاهر صنيعه اختياره أن يكون ما تقدم غاية لقول الكفرة أي الفريقين خير الخ وقوله تعالى : كم أهلكنا الخ وقل من كان الخ جملتان معترضتان للانكار عليهم أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلىان يشاهدوا الموعود راى عين أما العذاب في الدنيا بايدي المؤمنين وأما يوم القيامة وما يناله فيه من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون فان الأمر على عكس ما قدروه وتعقبه في البحر بأنه في غاية البعد لطول الفصل بين الغاية والمغيا مع أن الفصل بجملتي اعتراض فيه
(16/127)

خلاف ابي على فانه لايجيزه وانت تعلم أيضا بعد اصلاح أمر انقطاع القول حين الموت وعدم امتداده إلىيوم القيامة أن اعتبار استمرار القول وتكرره لايتم بدون اعتبار استمرار التلاوة لوقوع القول في حيز جواب إذا وهو كما ترى
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى كلام مستأنف سيق لبيان حال المهتدين اثر بيان حال الضالين كما اختاره أبو السعود واختاره الزمخشري وتبعه أبو البقاء أنه عطف على موضع فايمدد الخ ولم يجوزه أبو حيان سواءا كان فليمدد دعاء أو خبرا في سورة الطلب لأنه في موضع الخبر أن كانت من موصوله وفي موضع الجزاء أن كانت شرطية وموضع المعطوف موضع المعطوف عليه والجملة التي جعلت معطوفه خاليه من ضمير يربط الخبر بالمبتدأ والجواب بالشرط وقيل عليه أيضا أن العطف غير منايب من غير المعنى كما أنه غير مناسب من جهة الأعراب إذ لا يتجه أن يقال : من كان في الضلالة يزيد الله الذين اهتدوا هدى وأجيب عن هذا بأن المعنى من كان في الضلالة زيد في ضلالته وزيد في هداية اعداءه لأنه مما يغيضه وعما سبق بأن من شرطية لا موصولة واشتراط ضمير يعود من الجزاء على اسم الشرط غير الظرف ممنوع وهو غير متفق عليه عند النحاة كما في الدر المصون مع أنه مقدر كما سمعت ولا يخفى أن هذا العطف لا يخلو عن تكلف واختار البيضاوي أنه عطف على مجموع قوله تعالى من كان في الضلالة فليمدد الخ ليتم التقابل فانه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أن يجبهم عن قولهم للمؤمنين أي الفريقين الخ فاليات بذكر القسمين اصالة قال الطيبى : فكانه قيل : قل من كان في الضلالة من الفريقين فليمهله الله تعالى وينفس في مدة حياته ليزيد في الغي ويجمع الله تعالى له عذاب الدارين ومن كان في الهدايا منهما يزيد الله تعالى هدايته ويجمع سبحانه له خير الدارين وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم وفيه معنى قول حسان : اتهجوه ولست له بكفء فشركما لخير كما في ذا في الدعاء والأحتراز عن المواجه وفي الكشف أن هذا أولى مما اختاره الزمخشري والباقيات الصالحات قد تقدمت الأقوال الماثور في تفسيرها واختير انها الطاعات التي تبقى فوائدها وتدوم عوائدها لعمومه وكلها خير عند ربك ثوابا بمعناه المتعارف وقيل : عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها وخير من ذلك أيضا مردا
76
- أي مرجعا وعاقبه لأن عاقبتها المسرة الأبدية والنعيم المقيم وعاقبة ذلك الحسرة السرمدية والعذاب الاليم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الأضافة إلىضميره صلى الله تعالى عليه وسلم من اللطف والتشريف ما لا يخفى وتكرير الخير لمزيد الأعتناء ببيان الخيرية وتاكيدها لها وفي الآية على ما ذكره الزمخشري ضرب من التهكم بالكفرة حيث أشارة تاى تسمية جزاءه ثوابا ومفاضلة على ما قال على طريقة الصيف احر من الشتاء أي ابلغ في حرة من الشتاء في برده وليست على التهكم لانك لو قلت : النار خير من الزمهرير أو بالعكس تهكما كان التهكم على بابه في المفضل والمفضل عليه وذلك مما لا يتمشى فيما نحن فيه وحاصل ما اراده أن المراد ثواب هؤلاء ابلغ من ثواب أولئك أي عقابهم وقول صاحب التقريب فيه : أنه غير معلوم جرابة كيف لا وقد سبقت الرحمة الغضب وفي الجنة من الضعف والأفضال
(16/128)

ما لا يقادر قدره والنار من عدله تعالى وقوله : أنه غير مناسب لمقام التهديد مع ما فيه من المنع يرد عليه أن الكلام مبني على التقابل وانه على المشاكلة في قولهم اى الفريقين خير مقاما واحسن نديا فوعد هؤلاء ليس لمجرد تهديد أولءك بل مقصود لذاته قاله في الكشف
وقال صاحب الفرائد ما قاله الزمخشري بعيد عن الطبع والأستعمال وليس في كلامهم ما يشد له ويمكن أن يقال : المراد ثواب الأعمال الصالحة في الاخرة خير من ثوابه في الدنيا وهو ما حصل لهم منها من الخير بزعمهم ومما اوتوا من المال والجاه والمنافع الحاصلة منهما اه ورد انكاره له بأن الزجاج ذكره في قوله تعالى اذلك خير ام جنة الخلد التي وعد المتقون وان له نظائر والبعد عن الطبع في حيز المنع
وقال بعض المحققين أن افعل في الآية للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى الزيادة المطلقة كما قيل في يوسف عليه السلام احسن اخوته وهي احدى حالاته الاربع التي ذكرها بعض علماء العربية فالمعنى أن ثوابهم ومردهم متصف بالزيادة في الخيرية على المتصف بها بقطع النظر عن هؤلاء المفتخرين بدنياهم فلا يلزم مشاركتهم في الخيرية فتامل والجملة على ما ذهب اليه أبو السعود على تقديرى الاستئناف والعطف فيما قبلها مستأنفه وارده من جهته تعالى لبيان فضل اعمال المهتدين غير داخلة في حيز الكلام الملقن بقوله سبحانه عند ربك وقال العلامه الطيبي : الذي يقتضيه النظم الكريم أن هذه الجملة تتميم لمعنى قوله سبحانه ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ومجتملة على تسلية قلوب المؤمنين مما عسى أن يختلج فيها من مفاخرة الكفره شئ كما أن قوله تعالى حتى إذا راوا إلى جندا تتميم لوعيدهم وكلاهما من تتمه الأمر بالجواب عن قولهم اى الفريقين خير مقاما واحسن نديا وجعل التعبير بخير واردا على طريق المشاكلة وما ذكره من كون ذلك من تتمة الجواب هو المنساق إلىالذهن إلا أن ظاهر الخطاب يأباه وقد يتكلف له ولعل قد اسلفنا في هذه السورة ما ينفعك في أمره فتذكر
افرايت الذي كفر باياتنا أي باياتنا التي من جملتها ايات البعث أخرج البخارى ومسلم والترمذي والطبراني وابن حيان وغيرهم عن خباب بن الارت قال : كنت رجلا قينا وكان لى العاصى بن وائل دين فاتيته اتقاضاه فقال : لا والله لا اقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه و سلم فقلت : لا والله لا اكفر بمحمد صلى الله عليه و سلم حتى تموت ثم تبعث قال : فانى إذا مت ثم بعثت جئتنى ولى ثم مال وولد فاعطيك فانزل الله تعالى افرايت الخ
وفي رواية أن خبابا قال له لا والله لا اكفر بمحمد صلى الله عليه و سلم حيا ولا ميتا ولا إذا بعثت فقال العاصى : فاذا بعثت جئتنى الخ وفي رواية أن رجلا من اصحاب النبى صلى الله عليه و سلم اتوه يتقاضون دينا لهم عليه فقال : الستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ومن كل الثمرات قالوا : بلىقال : موعدكم الاخرة والله لاوتين مالا وولدا ولاوتين مثل كتابكم الذي جئتم به فنزلت وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وقد كانت له اقوال تشبه ذلك وقال أبو مسلم : هي عامة في كل من له هذه الصفة والأول هو الثابت في كتب الصحيح والهمزة للتعجيب من حال ذلك الكافر والايذان بانها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن ترى ويقضى منها العجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي انظرت فرايت الذى كفر بايتنا الباهرة التي حقها أن يؤمن بها كل من وقف عليها وقال
(16/129)

مستهزأ بها مصدرا كلامه باليمين الفاجر والله لاوتين في الاخرة واردة في الدنيا كما حكاه الطبرسى عن بعضعم تاباه الاخبار الصحيحة إلا أن يحمل الايتاء على ماقيل على الايتاء المستمر إلىالاخرة أي لاوتين ايتاء مستمرا مالا وولدا
77
- والمراد انظر اليه فتعجب من حالته البديعه وجراته الشنيعة وقيل : أن الرؤية مجاز عن الأخبار من اطلاق السبب وارادة المسبب والأستفهام مجاز عن الأمر به لأن المقصود من نحو قولك : ما فعلت اخبرنى فهو انشاء تجوز به عن انشاء أخر والفاء على اصلها
والمعنى اخبر بقصة هذا الكافر عقيب حديث أولئك الذين قالوا : اي الفريقيين خير مقاما الآية وقيل : عقيب حديث من قال : ائذا ما مات الخ وما قدمنا في معنى الآية هو الأظهر واختارع العلامه أبو السعود
وتعقب الثاني بقوله : انت خبير بأن المشهور استعمال ارايت في معنى اخبرني بطريق الأستفهام جاريا على اصله أو مخرجا إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالاخبار لغيره وارادة اخبرني هنا مما لا يكاد يصح كما لا يخفى
وقيل : المراد لاوتين في الدنيا ويأباه سبب النزول قال العلامه : إلا أن يحمل على الايتاء المستمر إلى الآخرة فحينئذ ينطبق على ذلك وقرأ حمزة والكسائى والأعمش وطلحة وابن أبى ليلى وابن عيسى الأصبهاني ولدا بضم الواو وسكون اللام فقيل : هو جمع ولد كاسد واسد وانشدوا له قوله : ولقد رايت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا وقيل هو لغة في ولد كالعرب والعرب وانشدوا له قوله : فليت فلانا كان في بطن امه وليت فلانا كان ولد حمار والحق أنه ورد في الكلام العرب مفردا وجمعا وكلاهما صحيح هنا وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر ولدا بكسر الواو وسكون اللام وهو بمعنى ذلك وقوله تعالى : اطلع الغيب رد لكلمته الشنعاء واظهار لبطلانها اثر ما اشير اليه بالتعجب منها فالجملة مستانفة لا محل لها من الأعراب وقيل : انها في محل نصب واقعه موقع مفعول ثان لارايت على أنه بمعنى اخبرنى وهو كما ترى والهمزة للاستفهام والأصل ااطلع فحذفت همزة الوصل تخفيفا وقرئ اطلع بكسر الهمزة وحذف همزة الاستفهام لدلالة ام عليها كما في قوله :
بسبع رمين الجمر ام بثمان
والفعل متعد بنفسه وقد يتعدى بعلى وليس بلازم حتى تكون الآية من الحذف والايصال والمراد من الطلوع الظهور على وجه العلو والتملك ولذا اختير على التعبير بالعلم ونحو ه أي اقد بلغ من عظمة الشان إلى أن ارتقى علم الغيب الذي استاثر به العليم الخبير جل جلاله حتى ادعى علم أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا واقسم عليه وعن ابن عباس أن المعنى انظر في اللوح المحفوظ ام اتخذ عند الحمن عهدا
78
- قال لا اله إلا الله يرجو بها ذلك وعن قتادة العهد العمل الصالح الذي وعد الله تعالى عليه الثواب فالمعنى أعلم الغيب ام عمل عملا يرجو ذلك في مقابلته وقال بعضهم : العهد على ظاهره والمعنى أعلم الغيب ام اعطاه الله تعالى عهدا وموثقا وقال له : أن ذلك كائن لا محالة
ونقل هذا الكلبى وهذه مجاراة مع اللعين بحسب منطوق مقاله كما أن كلامه كذلك والتعرض لعنوان الرحمانية للاشعار بعلية الرحمة لايتاء ما يدعيه كلا ردع وزجر عن التفوه بتلك العظيمة وفي ذلك تنبيه
(16/130)

علي خطئه وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد وعامة البصريين في هذا الحرف وفيه مذاهب لعلنا نشير اليها أن شاء الله تعالى وهذا أول موضع وقع فيه من القرآن وقد تكرر في النصف الأخير فوقع في ثلاثة وثلاثين موضعا ولم يجوز أبو العباس الوقف عليه في موضع
وقال الفراء : هو على اربعة اقسام أحدها ما يحسن الوقوف عليه ويحسن الأبتداء به والثاني ما يحسن التوقف عليه ولا يحسن الأبتداء به والثالث ما يحسن الأبتداء به ولا يحسن الوقف عليه والرابع ما لا يحسن فيه شئ من الأمرين أماالقسم الأول ففي عشرة مواضع ما نحن فيه وقوله تعالى ليكونوا لهم عزا كلا وقوله سبحانه لعلى اعمل صالحا فيما تركت كلا وقوله عز و جل الذين الحقتم به شركاء كلا وقوله تبارك وتعالى ان يدخل جنة نعيم كلا وقوله جل وعلا ان ازيد كلا وقوله عز اسمه صحفاه منشرة كلا وقوله سبحانه وتعالى ربى اهانن كلا وقوله تبارك اسمه ان ماله اخلده كلا وقوله تعالى شأنه ثم ننجيه كلا فمن جعله في هذه المواضع ردا لما قبله وقف عليه ومن جعله بمعنى إلا التي للتنبيه أو بمعنى حقا ابتدأ به وهو يحتمل ذلك فيها وأماالقسم الثاني ففي موضعين قوله جل جلاله حكاية فاخاف أن يقتلون قال كلا وقوله عز شأنه انا لمدركون قال كلا وأماالثالث ففي تسعة عشر موضعا قوله تعالى شأنه : كلا انها تذكرة كلا والقمر كلا بل تكذبون بالدين كلا إذا بلغت التراقى كلا لا وزر كلا بل تحبون العاجلة كلا سيعلمون كلا لما يقض ما امره كلا بل ران على قلوبهم كلا بل لا تكرمون اليتيم كلا أن كتاب الفجار كلا أن كتاب الابرار كلا أنهمعن ربهم كلا إذا دكت الأرض كلا أن الانسان ليطغى كلا لئن لم ينته كلا لا تطعه كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون لأنه ليس للرد في ذلك وأماالقسم الرابع ففي موضعين ثم كلا سوف تعلمون ثم كلا سيعلمون فانه لا يحسن الوقف على ثم لأنه حرف عطف ولا على كلا لأن الفائدة فيما بعد وقال بعضهم : أنه يحسن الوقف على كلا في جميع القرآن لأنه بمعنى انته إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى كلا والقمر لأنه موصول باليمين بمنزلة قولك أي وربى سنكتب ما يقول أي سنظهر انا كتبنا قوله كقوله : إذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة ولم تجدى من أن تقرى به بدا أي إذا انتسبنا علمت وتبين انى لست بابن لئيمة أو سننتقم من انتقام من كتب جريمة الجانى وحفظها عليه فان نفس كتبه ذلك لا تكاد تتأخر عن القول لقوله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وقوله سبحانه جل وعلا ورسلنا لديهم يكتبون فمبنى الأول تنزيل اظهار الشئ ما لخفى منزلة احداث الأمر المعدوم بجامع أن كل منهما أخراج من الكمون إلى البروز فيكون استعارة تبعية مبنية على تشبيه اظهار الكتابة على رؤس الاشهاد بأحداثها ومدار الثاني تسمية الشئ باسم سببه فان كتبه جريمة المجرم سبب لعقوبته قطعا قال أبو السعود وقيل : أن الكتابه في المعنى الثاني استعارة للوعيد بالانتقام وفيه خفاء وقال بعضهم : لا مجاز في الآية بيد أن السين للتاكيد والمراد نكتب في الحال ورد بأن السين إذا اكدت فانما تؤكد الوعد أو الوعيد وتفيد أنه كائن لا محالة في المستقبل وأماانها تؤكد ما يراد به الحال فلا كذا قيل : فليرجع
وقرأ الأعمش سيكتب بالياء التحتية والبناء للمفعول وذكرت عن عاصم ونمد له من العذاب مدا
79
- مكان ما يدعيه لنفسه من الامداد بالمال والولد أي نطول له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه منضاعفه
(16/131)

له من المدد يقال : مده وامده بمعنى وتدل عليه قراءة على كرم الله تعالى وجهه ونمد بالضم وهو بهذا المعنى يجوز أن يستعمل باللام وبدونها ومعناه على الأول نفعل المدله وهو ابلغ من نمده واكد بالمصدر ايذان بفرط غضب الله تعالى عليه لكفره وافترائه على الله سبحانه واستهزائه باياته العظام نعوذ بالله عز و جل مما يستوجب الغضب
ونرثه ما يقول أي نسلب ذلك وناخذه بموته اخذ الوارث ما يرثه والمراد بما يقول مسماه ومصداقه وهو ما اوتيه في الدنيا من المال والولد يقول الرجل : انا املك كذا فتقول : ولى فوق ما تقول والمعنى على المضى وكذا في يقول السابق وفيه ايذان بأنه ليس لما قاله مصداق موجود سوى ما ذكر وما أمابدل من الضمير بدل اشتمال وأمامفعول به أي نرث منه ما اتيناه في الدنيا وياتينا يوم القيامة فردا
80
- لا يصحبه مال ولا ولد كان له فضلا أي يؤتى ثمة زائدا وفي حرف ابن مسعود ونرثه ما عنده وياتينا فردا لا مال له ولا ولد وهو ظاهر في المعنى المذكور وقيل : المعنى نحرمه ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد ونعطيه لغيره من المستحقين وروى هذا عن أبى سهل وتفسير الارث بذلك تفسير باللازم وما يقةل مراد منه مسماه أيضا والولد الذي يعطى للغير ينبغى أن يكون ولد ذلك الغير الذي كان له في الدنيا واعطاؤه إياه بأن يجمع بينه وبين نه حسبما يشتهيه وهذا مبنى على أنه لا توالد في الجنة
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال جمع : منهم مجاهد وطاوس وابراهيم النخعى : بعدم التوالد احتجاجا بما في حديث لقيط رضى الله تعالى عنه الطويل الذي عليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادى على صحبته وقال فيه أبو عبد الله بن منده لا ينكره إلا جاحد أو جاهل وقد خرجه جماعة من ائمة السنة من قوله : قلت يا رسول الله أولنا فيها ازواج أو منهن مصلحات قال صلى الله عليه و سلم : المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذلتكم في الدنيا غير أن لا تتوالد وبما روى عن أبى ذر العقيلي عن النبى صلى الله عليه و سلم قال : ان أهل الجنة لا يكون لهم ولد وقالت فرقة بالتوالد احتجاجا بما أخرجه الترمذي في جامعه عن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعه واحدة كما يشتهى وقال حسن غريب وبما أخرجه أبو نعيم عن أبى سعيد أيضا قيل يا رسول الله ايولد لأهل الجنة فان الولد من تمام السرور فقال عليه الصلاة و السلام : نعم والذي نفسي بيده وما هو إلا كقدر ما يتمنى أحدكم فيكون حمله واضاعه وشبابه واجبت عما تقدم بأن المراد نفي أن يكون توالد أو ولد على الوجه المعهود في الدنيا وتعقب ذلك بأن الحديث الأخير ضعيف كما قال البيهقي
والحديث الأول قال فيه السفاريني : اجود اسانيده اسناد الترمذى وقد حمك عليه بالغرابة وانه لا يعرف إلا من حديث أبى الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتاره يروى عنه إذا اشتهى الولد وتاره أنه يشتهى الولد وتاره أن الرجل من أهل الجنة ليولد له وإذ قلنا له بأن على الروايا السابقة سندا حسنا كما اشار اليه الترمذى فلقائل أن يقول : أن فيه تعليقا بالشرط وجاز أن لا يقع وإذا وانا كانت ظاهرة في المحقق لكنها قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم وأماالجواب عن الحديثين السابقين بما مر فاوهن من بيت العنكبوت كما على يخفى وبالجملة المرجح عند الأكثرين عدم التوالد ورجح ذلك السفاريني بعشرة اوجه لكن للبحث في اكثرها
(16/132)

مجال والله تعالى أعلم وقيل : المراد بما يقول نفس القول المذكور لا مسمى والمعنى انما يقول هذا القول ما دام حيا فاذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله وياتينا رافضا له مفرد عنه
وتعقب بأن هذا مبنى على صدور القول المذكور عنه بطريق الأعتقاد وانه مستمر على التفوه به راج لوقوع مضمونه ولا ريب في أن ذلك مستحيل ممن كفر بالبعث وإنماقال ما قال بطريق الاستهزائ وأجيب بانا لا نسلم البناء على ذلك لجواز أن يكون المراد انما يقول ذلك ويستهزئ ما دام حيا فاذا قبضناه حلنا بينه وبين الاستهزائ بما ينكشف له ويحل به أو يقال : أن مبنى ما ذكر على مجاراة مع اللعين كما تقدم
وقيل : المعنى نحفظ قوله لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به وياتينا على فقره ومسكنته فردا من المال والولد لم نوله ساؤله ولم ناته متمناه فيجتمع عليه امران أمر أن تبعه قوله ووباله وقفد المطموع فيه والى تفسير الارث بالحفظ ذهب النحاس وجعل من ذلك العلماء ورثة الأنبياء أي حفظة ما قالوه وانت خبير بأن حفظ قوله قد علم من قوله تعالى سنكتب ما يقول
وفي الكشاف يحتمل أنه قد تمنى وكمع أن يؤتيه الله تعالى مالا وولدا في الدنيا وبلغت بع اشعبيته أن تالى على ذلك فقال سبحانه هب انا أعطيناه مااشتهاه أمانرثه من في العاقبة وياتينا غدا فردا بلا مال ولا ولد كقوله تعالى لقد جئيمونا فرادى فما يجدي عليه تمنيه وتاليه انتهى ولا يخفى أنه احتمال بعيد جدا في نفسه ومن جهة سبب البزول والتكلف لتطبيقه عليه لا يقربه كما لا يخفى و فردا حال على جميع الأقوال لكن قيل : أنه حال مقدرة حيث اريد حرمانه عن المال والولد واعطاء ذلك لمستحقه لأن الأنفراد عليه يقتضى التفاوت بين الضال والمهتدى وهو انما يكون بعد الموقف بخلاف ما إذا اريد غير ذلك مما تضمنته الأقوال لعدم اقتضائه التفاوت بينهما وكفاية فردية الموقف في الصحة وان كانت مشتركة
وزعم بعضهم أن الحال مقدرة على سائر الأقوال لأن المراد دوام الأنفراد عن المال والولد أو عن القول المذكور والدوام غير محقق عند الاتيان بل مقدر كما في قوله تعالى ادخلوها خالدين ولا يخفى ما فيه
واتخذوا من دون الله إلهة حكاية لجناية عامة للكل مستتبعه لضد مايرجون ترتبه عليها اثر حكاية مقالة الكافر المعهود واستتباعها لنقيض مضمونها أي اتخذ الكفرة الظالمون الأصنام أو ما يعمهم وسائر المعبودات الباطلة آلهة متجاوزين الله تعالى ليكونوا لهم عزا
81
- أي ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة اليه عز و جل وشفعاء عنده كلا ردع لهم وزجر عن ذلك وفيه انكار لوقوع ما علقوا به اطماعهم الفارغة سيكفرون بعبادتهم أي ستجحد الالهة عبادة أولئك الكفرة اياها وينطق الله تعالى من لم يكن ناطقا منها فتقول جميعا ما عبدتمونا كما قال سبحانه : وإذا راى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فالقوا اليهم القول انكم لكاذبون أو ستنكر الكفرة حين يشاهدون عاقبة سوء كفرهم عبادتهم اياها كما قال سبحانه لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين
ومعنى قوله تعالى ويكونون عليهم ضدا
82
- على الأول على ما قيل تكون الالهة التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزا ضدا للعزاى ذلا وهو انا أو اعوانا عليهم كما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وهو
(16/133)

اظهر من التفسير السابق وكونهم اعوانا عليهم لانهم يلعنونهم وقيل : لأن عبادتهم كانت سببا للعذاب
وتعقب بأن هذا لم يحدث يوم القيامة وظاهر الآية الحدوث ذلك اليوم والأمر فيه هين وقيل : لانهم يكونون الة لعذابهم حيث يجعلون وقود النار وحصب جهنم وهذا لا يتسنى إلا على تقدير أن يراد بالالهة الأصنام واطلاق الضد على العون لما أن عون الرجل يضاد عدوه وينافيه باعانته له عليه وعلى الثاني يكون الكفرة على الالهة أي اعداء لها من قولهم : الناس عليكم أي أعداؤكم ومنه اللهم كن لنا ولا تكن علينا ضدا أي منافين ما كانوا عليه كافرين بها بعد ما كانوا يعبدونها فعليهم على ما قيل خبر يكون وضدا حال مؤكدة والعداوة مرادة مما قبله وقيل : انها مرداة منه وهو الخبر و عليهم في موضع الحال وقد فسره باعداء الضحاك وهو على ما نقل عن الأخفش كالعدو يستعمل مفردا وجمعا
وبذلك قال صاحب القاموس وجعل ما هنا جمعا وانكر بعضهم كونه مما يطلق على الواحد والجمع وقال : هو للواحد فقط وإنماوحد هنا لوحدة المعنى الذي يدور عليه مضادتهم فانهم بذلك كالشئ الواحد كما في قوله صلى الله عليه و سلم فيما رواه النسائى وهم يد على من سواهم وقال صاحب الفرائد : انما وحد لأنه ذكر في مقابلة قوله تعالى عزا وهو مصدر يصلح لأن يكون جمعا فهذا وان لم يكن مصدرا لكن يصلح لأن يكون جمعا نظرا إلى ما يراد منه وهو الذل وهذا إذا تم فانما يتم على المعنى الأول وقد صرح في البحر أنه على ذلك مصدر يوصف به الجمع كما يوصف به الواحد فليرجع وقرأ أبو نهيك هنا وفيما تقدم كلا بفتح الكاف والتنوين فقيل انها الحرف الذي للردع إلا أنه نوى الوقف عليها فصار الفها كالف الاطلاق ثم ابدلت تنوينا ويجوز أن لا يكون نوى الوقف بل اجريت الالف مجرى الف الاطلاق لما أن الف المبنى لم يكن لها اصل ولم يجز أن تقع رويا ويسمى هذا تنوين الغالى وهو يلحق الحروف وغيرها ويجامع الألف واللام كقولك : اقلى اللوم عاذل والعتابن وقولى أن اصبت لقد اصابن وليس هذا مثل قواريرا كما لا يخفى خلافا لمن زعمه وفي محتسب ابن حنى أن كلا مصدر من كل السيف إذا نبا وهومنصوب بفعل مضمر من لفظه والتقدير هنا كل هذا الراى والاعتقاد كلا والمراد ضعف ضعفا وقيل : هو مفعول به بتقدير حملوا كلا ويقال نظير ذلك فيما تقدم وقال ابن عطيه : هو نعت الالهة والمراد به الثقيل الذي لا خير فيه والأفراد لأنه بزنة المصدر وهو كما ترى والأوفق بالمعنى ما تقدم وان قيل فيه تعسف لفظى وانه يلزم عليه اثبات التنوين خطا كما في امثال ذلك
وحكى أبو عمر والدانى عن أبى نهيك أنه قرأ كلا بضم الكاف والتنوين وهي على هذا منصوبة بفعل محذوف دل عليه سيكفرون على أنه من باب الاشتغال نحوا زيدا مررت به أي يجحدون كلا أي عبادة كل من الالهة ففيه مضاف مقدر وقد لا يقدر وذكر الطبرى عنه أنه قرأ كل بضم الكاف والرفع وهو على هذا مبتدأ والجملة بعده خبره الم تر انا ارسلنا الشياطين على الكافرين قيضناهم وجعلناهم قرناء لهم مسلطين عليهم أو سلطانهم عليهم ومكناهم من اضلالهم تؤزهم ازا
83
- تغريهم وتهيجهم على المعاصى تهييجا شديدا بانواع التسويلات والوساوس فان الاز والهز والاستفزاز اخوات مهناخا شدة الأزعاج وجملة تؤزهم أماحال مقدرة من الشياطين أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من صدر الكلام كأنه قيل : ماذا تفعل الشياطين بهم فقيل تؤزخم الخ والمراد من الآية نعجيب رسول الله صلى الله عليه و سلم مما تضمنته الآيات السابقة الكريمة
(16/134)

من قوله سبحانه ويقول الانسان ائذا مامت إلى هنا وكته عن هؤلاء الكفرة الغواة والمرادة العتاة من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل والتمادى في الغى والانهماك في الضلال والأفراط في العناد والتصميم على الكفر من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم والأجماع على مدافعة الحق بعد ايضاحة وانتفاء الشرك عنه بالكلية وتنبيه على أن جميع ذلك باضلال الشياطين واغوائهم لا لأن هناك قصور في التبليغ أو مسوغا في الجملة وفيها تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم فهى تذييل لتلك الآيات لما ذكر وليس المراد منها تعجيبه عليه الصلاة و السلام من ارسال الشيلطين عليهم كما يوهمه تعليق الرؤية به بل مما ذكر من احوالهم من حيث كونها من آثار اغواء الشياطين كما ينبئ عن ذلك قوله سبحانه تؤزهم ازا فلا تعجل عليهم بأن يهلكوا حسبما تقتضيه جناياتهم ويبيد عن أخرهم وتطهر الأرض من خباثاتهم والفاء للاشعار بكون ما قبلها مظنة الوقوع المنهى عنه محوجة إلى النهى كما في قوله تعالى ان هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة
وقوله تعالى : إنما نعد لهم عدا
84
- تعليل لموجب النهى ببيان اقتراب هلاكهم فانه لم يبق لهم إلا ايام وانفاس نعدها عدا أي قليلة كما قيل في قوله تعالى : دراهم معدودة ولا ينافى هذا ما مر من أنه يمد لمن كان في الضلالة أي يطول لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله عز و جل وقيل : أن التعليل بماذكر دل أن انفاسهم وايامهم تنته بانتهاء العد ولا شك انها على كثرتها يستوفى احصاؤها في ساعة فعبر بهذا المعنى عن القليل فكانه قيل : ليس ليس بينك وبين هلاكهم إلا ايام محصورة وانفاس معدودة كانها في سرعة تقضيها الساعة التى تعد فيها لو عدت وهذا ليس مبنيا على أن كل ما يعد فهو قليل انتهى والأول هو الظاهر وهذا ابعد مغزى وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : أخر العدد خروج نفسك أخر العدد فراق اهلك أخر العدد دخول قبرك وعن ابن السماك أنه كان عند المامون فقراها فقال : إذا كانت الانفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما اسع ما تنفد ولله تعالى در من قال : أن الحبيب من الاحباب مختلس لا يمنع الموت بواب ولا حرس وكيف يفرح بالدنيا ولذتها فتى يعد عليه اللفظ والنفس وقيل : المراد انما نعد اعمالهم لنجازيهم عليها يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
85
- أي ركبانا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وأخرج ابن أبى الدنيا في صفة الجنة وابن أبى حاتم وابن مردوية من طرق عن على كرم الله تعالى وجهة قال سالت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الآية فقلت : يا رسول الله هل الوفد إلا الركب فقال عليه الصلاة و السلام : والذي نفسي بيده أنهماذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها اجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلالا كل خطوة منها مثل مد البصر وينتهون إلى باب الجنة الحديث وهذه النوق من الجنة كما صرح به في حديث أخرجه عبد الله بن الأمام احمد وغيره موقوفا على على كرم الله تعالى وجهه وروى عن عمرو بن قيس أنهميركبون على تماثيل من اعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن ويروى أنه يركب كل منهم ما احب من ابل أو خيل أو سفن تجئ عائمة بهم واصل الوفد جمع وافد كالوفود والاوغاد والوفد من وفد اليه وعليه يفد وفدا ووفودا ووفادة قدم وورد
(16/135)

وفي النهاية الوفد هم القوم يجتمعون ويردون البلاد وأحدهم وافد وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك وقال الراغب : الوفد والوفود هم الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج ومنه الوفد من الأبل وهو السابق لعيرها وذا المعنى الذى ذكره هو المشهور ومن هنا قيل : أن لفظة الوفد مشعرة بالأكرام والتبجيل حيث اذنت بتشبيه حالة المتقين بحالة وفود الملوك وليس المراد حقيقة الوفادة من سائر الحيثيات لانها تتضمن الأنصراف من الموفود عليه والمتقون مقيمون ابدا في ثواب ربهم عز و جل والكلام على تقدير مضاف أي إلى كرامة الرحمن أو ثوابه وهو الجنة أو إلى دار كرامته أو نحو ذلك وقيل : الحشر إلى الرحمن كناية عن ذلك فلا تقدير وكان الظاهر ضمير بأن يقال يوم نحشر المتقين الينا إلا أنه اختير الرحمن اذانا بأنه يجمعون من اماكن متفرقة واقطار شاسعة إلى من يرحمهم قال القاضى : وللاختيار الرحمن في هذه السورة شأن ولعله أن مساق الكلام فيها لتعداد النعم الجسام وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها فكانه قيل : هنا يوم نحشر المتقين إلى ربهم الذي غمرهم من قبل برحمته وشملهم برافته وحاصله يوم نحشرهم إلى من عودهم الرحمه وفي ذلك من عظيم البشاره ما فيه وقد قابل سبحانه ذلك بقوله جل وعلا ونسوق المجرمين كما تساق البهائم إلى جهنم وردا
86
- أي عطاشا كما روى عن ابن العباس وابى هريرة والحسن وقتادة ومجاهد واصله مصدر ورد أي سار إلى الماء قال الراجز : ردى ردى ورد قطاة صما كدرية اعجبها بردا لما واطلاقه على العطاش مجاو لعلاقة اللزوم لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش وجوز أن يكون المراد من الورد الدواب التي ترد الماء والكلام على التشبيه أي نسوقهم كالدواب التي ترد الماء وفي الكشف في لفظ الورد تهكم واستخفاف عظيم لا سيما وقد جعل المورد جهنم اعاذنا الله تعالى منها برحمته فلينظر ما بين الجملتي من الفرق العظيم وقرأ الحسن والجحدري يحشر المتقون ويساق المجرمون ببناء الفعلين للمفعول واستدل بالاية على أن اهوال القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الأبتداء يحشرون مكرمين فكيف ينالهم بعد ذلك شدة وفي البحر الظاهر أن حشر المتقين إلى الرحمن وقد ابعد انقضاء الحساب وامتياز الفريقين وحكاه ابن الحوزى عن أبى سليمان الدمشقى وذكر ذلك النيسابورى احتمالا بحثا في الاستدلال السابق
وانت تعلم أن ذلك لا يتاتي على ما سمعت في الخبر المروى على علي كرم الله تعالى وجهه فانه صريح في أنهميركبون عند خروجهم من القبور وينتهون إلى باب الجنة وهو ظاهر في أنهملا يحاسبون
وقال بعضهم : أن المراد بالمتقين الموصوفون بالتقوى الكاملة ولا يبعد أن يدخلوا الجنة بلا حساب فقد صحت الأخبار بدخول طائفة من هذه الامة الجنة كذلكففي الصحيحين عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : خرج الينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات يوم فقال عرضت على الأمم يمر النبى معه الرجل والنبى معه الرجلان والنبى ليس معه أحد والنبى معه الرهط فرايت سوادا كثيرا فرجوت أن يكون امتى فقيل : هذا موسى وقومه ثم قيل : انظر فرايت سوادا كثيرا فقيل : هؤلاء امتك ومع هؤلاء سبعون الفا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتذاكر اصحابه فقالوا : اما نحن فولدنا في الشرك ولكن قد آمنا بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم هؤلاء ابناؤنا
(16/136)

فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون والحديث وأخرج الترمذى وحسنه عن أبى امامه رضى الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وعدنى ربى أن يدخل الجنة من امتي سبعين الفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل الف سبعين الفا وثلاث حثيات من حثيات ربى وأخرج الأمام احمد والبزار والطبرانى عن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ان ربى اعطاني سبعين الفا من امتي يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر رضى الله تعالى عنه : هل استزدته قال قد استزدته فاعطاني هكذا وفرج بين يديه وبسط باعيه وحثي قال هشام : هذا من الله عز و جل لا يدري ما عدده وأخرج الطبرانى والبيهقى عن عمرو بن حزم الأنصارى رضى الله تعالى عنه قال : احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثا لا يخرج إلا إلى صلاة مكتوبة ثم يرجع فلما كان اليوم الرابع خرج الينا صلى الله تعالى عليه وسلم فقلنا يا رسول الله احتبست عنا حتى ظننا أنه حدث حدث قال : لم يحدث الأخير أن ربى وعدنى أن يدخل من امتى الجنة سبعين الفا لا حساب وانى سالت ربى في هذه الثلاث ايام المزيد فوجدت ربى ماجدا كريما فاعطانى مع كل واحد سبعين الفا الخبر إلى غير ذلك من الأخبار وفي بعضها ذكر من يدخل الجنة بغير حساب بوصفه كالحامدين الله تعالى شأنه في السراء والضراء وكالذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع وكالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى وكالذي يموت في طريق مكة ذاهبا أو راجعا وكطالب العلم والمراة المطيعة لزوجها والولد البار بوالديه وكالرحيم الصبور وغير ذلك ووجه الجمع بين الأخبار ظاهر ويلزم على تخصيص المتقين بالموصوفي بالتقوى الكاملة دخول عصاة المؤمنين في المجرمين أو عدم احتمال الآية على بيان حالهمواستدل بعضهم بالاية على ما روى من الخبر على عدم احضار المتقين جثيا حول جهنم فما يدل على العموم مخصص بمثل ذلك فتامل والله تعالى الموفق ونصب يوم على الظرفية بفعل محذوف مؤخر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين من الأفعال مالا يحيط ببيانه نطاق المقال وقيل : على المفعوليه بمحذوف مقدم خوطب به سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم أي اذكر لهم بطريق الترغيب والترهيب يوم نحشر الخ وقيل : على الظرفية بنعد باعتبار معنى المجازاةوقيل : بقوله سبحانه وتعالى سيكفرون بعبادتهم
وقيل : بقوله جل وعلا يكونون عليهم ضدا وقيل : بقوله تعالى شأنه : لا يملكون الشفاعة والذي يقتضيه مقام التهويل وتستدعيه جزالت التنزيل أن ينتصب بأحد الوجهين الأولين ويكون هذا استئنافا مبينا لبعض ما في ذلك اليوم من الأمور الدالة على هوله وضمير الجمع لما يعم المتقين والمجرمين أي العباد مطلقا وقيل : للمتقين وقيل : للمجرمين من أهل الأيمان وأهل الكفر والشفاعة على الأولين مصدر المبنى بالفاعل وعلى الثالث أن يكون مصدر المبنى للمفعول
وقوله تعالى الا من اتخذ عند الرحمن عهدا
87
- استثناء متصل من الضمير على الأول ومحل المستثنى أماالرفع على البدل أو النصب على اصل الأستثناء والمعنى لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من اتصف منهم بما يستاهل معه أن يشفع وهو المراد بالعهد وفسره ابن عباس بشهادة أن لا اله إلا الله والتبرى من الحول والقوة عدم رجاء أحد إلا الله تعالى وأخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم والطبرانى وابن مردوية
(16/137)

والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قرأ الآية وقال : أن الله تعالى يقول يوم القيامة : من كان له عندي عهد فليقم فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة انى اعهد اليك في هذه الحياة الدنيا انك أن تكلنى إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وانى لا اثق إلا برحمتك فاجعله لى عهدا عندك تؤديه إلى يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد وأخرج ابن أبى شيبة عن مقاتل أنه قال العهد الصلاح وروى نحوه عن السدي وابن جريج وقال الليث : هو حفظ كتاب الله تعالى وتسميت ما ذكر عهد على سبيل التشبيه وقيل : المراد بالعهد الأمر والاذن من قولهم : عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا امره به أي لا يملك العباد أن يشفعوا إلا من اذن الله عز و جل له بالشفاعه وامره بها فانه يملك ذلك ولا يابى عند الاتخاذ اصلا فانه كما يقال : اخذت الاذن في كذا يقال : اتخذته نعم في قوله تعالى عند الرحمن نوع اباء عنه مع أن الجمهور على الأول والمراد بالشفاعه على القولين ما يعم الشفاعه في دخول الجنة والشفاعه في غيره ونازع في ذلك المعتزله فلم يجوزوا الشفاعه في دخول الجنة والأخبار تكذبهم فعن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أن الرجل من امتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة بشفعاتهم وان الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته وجوز ابن عطيه أن يراد بالشفاعه الشفاعه العامه في فصل القضاء وبمن اتخذ النبى صلى الله عليه و سلم وبالعهد الوعد بذلك في قوله سبحانه وتعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وهو خلاف الظاهر جدا وعلى الوجه الثاني في ضمير الجمع الأستثناء من الشفاعه بتقدير مضاف وهو متصل ايضا وفي المستثنى الوجهان السابقان أي لا يملك المتقون الشفاعه إلا شفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدا والمراد به الأيمان واضافة المصدر إلى المفعول وقيل : المستثنى من محذوف على هذا الوجه أي لا يملك المتقون الشفاعة لأحد إلا من اتخذ الخ أي إلا لمن اتصف بالأيمان وجوز أن يكون الأستثناء من الشفاعة بتقدير المضاف على الوجه الأول في الضمير أيضا وان يكون المصدر مضافا لفاعله أو مضافا لمفعوله وجوز عليه أيضا أن يكون المستثنى منه محذوفا كما سمعت وعلى الوجه الثالث الأستثناء من الضمير وهو متصل ايضا وفي المستثنى الوجهان أي لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان مؤمن فانه يملك أن يشفع له وقيل : الأستثناء على تقدير رجوع الضمير إلى المجرمين منقطع لأن المراد بهم الكفار وحمل ذلك على العصاة والكفار بعيد كما قال أبو حيان والمستثنى حينئذ لازم النصب عند الحجازين جائز نصبه وإبداله عند تميم
وجوز الزمخشرى أن تكون الواو في لايملكون علامة الجمع كالاتي في اكلونى البراغيث والفاعل من اتخذ لأنه في معنى الجمع وتعقبه أبو حيان بقوله لا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرا وذكر الاستاذ أبو الحسن بن عصفور انها لغة ضعيفة وايضا فالواو والالف والنون التي تكون علامات لا يحفظ ما يجيئ بعدها فاعلا إلا بصريح الجمع وصريح التثنيه أو العطف أماأن ياتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو مثنى فيحتاج في اثباته إلى نقل وأماعود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب فيمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الاحوط أن لا يقال ذلك إلا بسماع انتهى وتعقبه أيضا ابن المنير بأن فيه تعسفا لأنه إذا جعل الواو علامة لمن ثم اعادا على لفظها بالأفراد ضمير اتخذ كان ذلك اجمالا بعد إيضاح وهو تعكيس في طريق البلاغة التي
(16/138)

هي الايضاح بعد الاجمال والوا على اعرابه وان لم تكن عائده على من إلا انها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد لها ثم قال : فتنبه لهذا النقد فانه اروج من النقد وفي عنق النساء يستحسن العقد انتهى ومنه يعلم القول بجواز رجوع الضمير لها اولا باعتبار معناها وثانيا باعتبار لفظها لا يخلو عن كدر
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا
88
- حكاية لجناية القائلين عزيز ابن الله وعيسى ابن الله والملائكة بنات الله من اليهود والنصارى والعرب تعالى شأنه عما يقولون علوا كبيرا اثر حكاية جناية من عبد ما عبد من دونه عز و جل بطريق عطغ القصة على القصة فالضمير راجع لمن علمت وان يذكر صريحا لظهور الأمر
وقيل : راجعا للمجرمين وقيل : للكافرين وقيل : للضالمين وقيل : للعباد المدلول عليه بذكر الفريقين المتقين والمجرمين وفيه اسناد ما لبعض إلى الكل مع أنهملم يرضوه وقد تقدم البحث فيه
وقوله تعالى : لقد جئتم شيئا إدا
89
- رد لمقالتهم الباطله وتهويل لأمرها بطريق الالتفات من الغيبه إلى الخطاب المنبئ عن كما السخط وشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح وتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجهل والجرأة وقيل : لا التفات والكلام بتقدير قل لهم لقد جئتم الخ والاد بكسر الهمزة كما في قراءة الجمهور وبفتحها كما قرأ السلمي العجب كما قال ابن خالويه وقيل : العظيم المنكر والاده الشدة وادنى الأمر وادنى اثقلني وعظم علي وقال الراغب : الاد المنكر فيه جلب من قولهم : ادت الناقة تئد أي رجعت حنينها ترجيعا شديدا وقيل : الاد بالفتح مصدر وبالكسر اسم أي فعلتم أمرا عجبا أو منكرا شديدا لا يقادر قدره فان جاء واتى يستعملان بمعنى فعل فيتعديان تعديته وقال الطبرسي : هو من باب الحذف والايصال أي جئتم بشئ اد تكاد السموات يتفطرن منه في موضع الصفه لادا أو استئناف لبيان عظم شأنه في الشدة والهول والتفطر على ما ذكره الكثير التشقق مطلقا وعلى ما يدل عليه الكلام الراغب التشقق طولا حيث فسر الفطر وهو منه بالشق كذلك وموارد الأستعمال تقتضي عدم التقييد بما ذكر نعم قيل : انها تقضي أن يكون الفطر من عوارض الجسم الصلب فانه يقال : اناء مفطور ولا يقال : ثوب مفطور بل مشقوق وهو عندى في أعراف الرد والقبول وعليه يكون في نسبة التفطر إلى السماوات والأنشقاق إلى الأرض في قوله تعالى : وتنشق الأرض اشارة إلى أن السماء أصلب من الأرض والتكثير الذي تدل عليه صيغة التفعل قيل بالفعل لأنه الأوفق بالمقام وقيل : في متعلقه ورجح بأنه قد قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وابو بكر عن عاصم ويعقوب وابو بحرية والزهرى وطلحة وحميد واليزيدى وابو عبيد ينفطرن مضارع انفطر وتوافق القراءتين يقتضي ذلك وبانه قد اختير الأنفعال في تنشق الأرض حيث لا كثرة في المفعول ولذا أول ومن الأرض مثلهن بالاقاليم ونحوه كما سياتي أن شاء الله تعالى ووجه بعضهم اختلاف الصيغة على القول بأن التكثير في الفعل بأن السماوات لكونها مقدسة لم يعص الله تعالى فيها اصلا نوعا ما من العصيان لم يكن لها الف ما بالمعصية ولا كذلك الأرض فهي تتاثر من عظم المعصيه ما لا تتاثر الأرض
وقرأ ابن مسعود يتصدعن قال في البحر : وينبغي أن يجعل ذلك تفسيرا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولرواية الثقات عنه أنه قرأ كالجمهور انتهى ولا يخفى عليك أن في ذلك كيفما كان تاييدا لمن ادى
(16/139)

أن الفطر من عوارض الجسم الصلب بناء على ما في القاموس من أن الصدع شق في شئ صلب
وقرأ نافع والكسائى وابو حيوة والأعمش يكاد بالياء من تحت وتخر الجبال تسقط وتنهد هدا
90
- نصب على أنه مفعول مطلق لتخر لأنه بمعنى تنهد كما اشرنا اليه واليه ذهب ابن النحاس وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لتنهد مقدرا والجملة في موضع الحال وقيل : هو مصدر بمعنى المفعول منصوب على الحال من هد المتعدى أي مهدودة وجوز أن يكون مفعولا له أي لانها تنهد على أنه من هد اللازم بمعنى انهدم ومجيئه لازما مما صرح به أبو حيان وهو امام اللغة والنحو فلا عبرة ممن انكره وحينئذ يكون الهد من فعل الجبال فيتحد فاعل المصدر والفعل المعلل به وقيل : أنه ليس من فعلها لكنها إذا هدها أحد يحصل لها الهد فصح أن يكون مفعولا له وفي الكلام تقرير لكون ذلك ادا والكيدودة فيه على ظاهرها من مقاربة الشئ وفسرها الأخفش هنا وفى قوله تعالى : اكاد اخفيها بالأرادة وانشد شاهدا على ذلك قول الشاعر : كادت وكدت وتلك خير ارادة لو عاد من زمن الصبابة ما مضى ولاحجة له فيه والمعنى أن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها بحيث لو تصور بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام وتفرقت اجزاؤها من شدتها أو أن حق تلك الكلمة لو فهمتها تلك الجمادات العظام أن تنفطر وتنشق وتخر من فظاعتها وقيل : المعنى كادت القيامة أن تقوم فان هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة وقيل : الكلام كناين عن غضب الله تعالى على قائل تلك الكلمة وانه لولا حلمه سبحانه وتعالى لوقع ذلك وهلك القائل وغيره أي كدت افعل ذلك غضبا لولا حلمى
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : أن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيما لله تعالى وفيه اثبات لتلك الأجرام والأجسام لائق بهن وقد تقدم ما يتعلق بذلك وفي الدار المنثور في الكلام على هذه الآية أخرج احمد في الزهد وابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبى شيبة وابو الشيخ في العظمة وابن أبى حاتم والطبرانى والبيهقى في شعب الأيمان من طريق عون عن ابن مسعود قال : أن الجبل لينادى الجبل بايمه يا فلان هل مر بك اليوم أحد ذاكر لله تعالى فاذا قال : نعم استبشر قال عون : افلا يسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير هن للخير اسمع وقرأ وقالوا الآيات اه وهو ظاهر في الفهم
وقال ابن المنير : يظهر لى في الآية معنى لم اره لغيرى وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد استعار لدلالة هذه الأجرام على وجوده عز و جل موصوفا بصفاي الكمال الواجبة له سبحانه أن جعلها مسبحه بحمدة قال تعالى : تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وان من شئ إلا يسبح بحمده ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد اليه : وفي كل شئ له اية تدل على أنه واحد فالمهتقد نسبة الولد اليه عز و جل قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله تعالى وتقديسه فاستعير لابطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها ابطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق اه
(16/140)

واعترض عليه بأن الموجودات انما تدل على خالق قادر عالم حكيم لدلالة الاثر على المؤثر والقدرة على المقدور وانتقان العمل يدل على العلم والحكمة وأمادلالتها على الوحدانيه فلا وجه له ولا يثبت مثله بالشعر ورد بانها لولم تدل جاء حديث التمانع كما حققه المولى الخيالى في حواشيه على شرح عقائد النسفى للعلامة الثاني
وقال بعضهم : انها تدل على عظم شأنه تعالى وانه لا يشابهه ولا يدانيه شئ فلزم أن لا يكون له شريك ولا ولد لأنه لو كان كذلك لكان نظيرا عز و جل ولذا عبر عن هذه الدلالة بالتسبيح والتنزيه
ولعل ما اشرنا اليه أولى وادق وليس مراد من نسب الولد اليه عز و جل إلا الشرك فتامل والجمهور على أن الكلام لبيان بشاعة تلك الكلامة على معنى انها لو فهمتها الجمادات لاستعظمتها وتفتتت من بشاعتها ونحو هذا مهيع للعرب قال الشاعر : لما اتى خبر الزبير تواضعت صور المدينة والجبال الخشع وقال الاخر : فاصبح بطن مكة مقشعرا كان الأرض ليس بها هشام وقال الاخر : الم ترى صدعا في السماء مبينا على ابن لبين الحرث بن هشام إلى غير ذلك ذلك وهو نوع من المبالغة ويقبل إذا اقترن بنحو كاد كما في الآية الكريمة وقد بين ذلك في محله
ان دعوا للرحمن ولدا
91
- بتقدير اللام التعليليه ومحله بعد الحذف نصب عند سيبوية وجر عند الخليل والكسائى وهو علة للعلية التي تضمنها منه لكن باعتبار ما تدل عليه الحال اعنى قوله تعالى : وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا
92
- وقيل : علة لتكاد الخ واعترض بأن كون يكاد الخ معللا بذلك قد علم من منه فيلزم التكرار وايجيب بما لا يخلو عن نظر وقيل : علة لهذا وهو علة للخرور وقيل : ليس هنالك لام مقدره بل أن وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بالابدال من الهاء في منه كما في قوله : على حالة لو أن في القوم حاتما على جوده لظن بالماء حاتم بجر حاتم بالابدال من الهاء في جودة واستبعده أبو حيان للفصل بجملتين بين البدل والمبدل منه وقيل : المصدر مرفوع على أنه خبر محذوف أي الموجب لذلك دعائهم للرحمن ولدا وفيه بحث وقيل : هو مرفوع على أنه فاعل هدا ويعتبر مصدرا مبنيا للفاعل أي هدها دعائهم للرحمن ولدا وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا لأن الظاهر كون هذا المصدر تاكيديا والمصدر التاكيدي لا يعمل ولو فرض غير تاكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان امرا كضربا زيدا أو بعد استفهام كاضربا زيدا وما هنا ليس أحد الأمرين وما جاء عاملا وليس أحدهما كقوله وقوفا بها صحبى على مطيهم نادر والتزم كون ما هنا من النادر لا يدفع البعد ولعل ما ذكرناه ادق الأوجه واولاها فتدبر والله تعالى الهادى إلى سواء السبيل و دعوا عند الاكثرين بمعنى سموا والدعاء بمعنى التسمية يتعدى لمفعولين بنفسه كما في قوله : دعتنى اخاها ام عمرو ولم اكن اخاها ولم اضع لها بلبلن وقد يتعدى للثاني بالباء فيقال دعوت ولدى بزيد واقتصر هنا على الثاني وحذف الأول دلالة على العموم والأحاطة لكل ما دعى له عز و جل ولدا من عيسى وعزيز عليهما السلام وغيرهما وجوز أن يكون من دعا بمعنى نسب الذي مكاوعه ما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم من ادعى إلى غير مواليه وقول الشاعر :
(16/141)

انا بني نهشل لا ندعى لاب عنه ولا هو بالابناء يشرينا فيتعدى لواحد والجار والمجرور جوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من ولدا وان يكون متعلقا بما عنده وجملة ما ينبغى حال من فاعل دعوا وقيل : من فاعل قالوا وينبغى مضارع انبغى مطاوع بغى بمعنى طلب وقد سمع ماضيه فهو فعل متصرف في الجملة وعده ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وغلطه في ذلك أبو حيان ويمكن أن يقال : مراده أنه لا يتصرف تاما وان يتخذ في تأويل مصدر فاعله والمراد لا يليق به سبحانه اتخاذ الولد ولا يتطلب له عز و جل لا ستحالة ذلك في نفسه لاقتضائه الجزئية أو المجانسة واستحالة كل ظاعر ووضع الرحمن موضع الضمير للاشعار بعلة الحكم بالتنبيه على أن كل ي - سواه تعالى أمانعمة أو منعم عليه واين ذلك ممن هو مبدأ النعم وموالى اصولها وفروعها
وقد اشير إلى ذلك بقوله سبحانه ان كل من في السموات والأرض أي ما منهم أحد من الملائكة والثقلين إلا إتى الرحمن عبدا
93
- أي إلا وهو مملوك له تعالى ياوى اليه عز و جل بالعبودية والانقياد لقضائه وقدره سبحانه وتعالى فالاتيان معنوى وقيل : هو حسى والمراد إلا ماتى محل حكمه وهو ارض المحشر منقادا لا يدعى لنفسه شيئا مما نسبوه اليه وليس بذاك كما لا يخفى و من موصولة بمعنى الذي و كل تدخل عليه لأنه يراد منه الجنس كما قيل في قوله تعالى والذي جاذ بالصدق وقوله
وكل الذي حملتنى اتجمل
وقيل : موصوفة لانها وقعت بعد كل نكرة وقوعها بعد رب في قوله : رب من انضجت غيظا صدره قد تمنى لى موتا لم يطع ورجح في البحر الأول بأن مجيئها موصوفة بالنسبة إلى مجيئها موصولة قليل : وقرأ عبد الله وابن الزبير وابو حيوة وطلحة وابو بحرية وابن أبى عبلة ويعقوب مات بالتنوين الرحمن بالنصب على الأصل
ونصب عبدا في القراءتين على الحال واستدل بالاية على أن الوالد لا يملك ولده وانه يعتق عليه إذا ملكه
لقد احصيهم حصرهم واحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج أحد منهم من حيطة علمه وقبضة قدرته جل جلاله
وعدهم عدا
94
- أي عد اشخاصهم وانفاسهم وافعالهم فان كل شئ عنده تعالى بمقدار
وكلهم اتية يوم القيمة فردا
95
- أي منفرد من التباع والنصار منقطعا اليه تعالى غاية الانقطاع محتاجا إلى اعانته ورحمته عز و جل فكيف يجانسه ويناسبه ليتخذه ولدا وليشرك به سبحانه وتعالى عما يقول الضالمون علوا كبيرا وقيل : أي كل واحد من أهل السموات والأرض العابدين والمعبودين اتيه عز و جل منفردا عن الأخر فينفرد العابدون عن الالهة التي زعموا انها انصار أو شفعاء والمعبودون عن الاتباع الذين عبدوهم وذلك يقتضى عدم النفع وينتفى بذلك المجانسة لمن بيده ملكوت كل شئ تبارك وتعالى وفي اتيه من الدلالة على اتيانهم كذلك البتة ما ليس في ياتيه فلذا اختير عليه وهو خبر كلهم وكل إذا اضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم أو كل الناس فالمنقول أنه يجوز عود الضمير عليه مفردا مراعاة للفظه فيقال كلكم ذاهب ويجوز عوده عليه جمعا مراعاة لمعناه فيقال : كلكم ذاهبون
وحكى ابراهيم بن اصبغ في كتاب رؤس المسائل الأتفاق على جواز الأمرين وقال أبو زيد السهيلى : أن كلا إذا ابتدئ به وكان مضافا لمظا أي إلى معرفة لم يحسن إلا أفراد الخبر حملا على المعنى لأن معنى كلكم
(16/142)

ذاهب مثلا كل واحد منكم ذاهب وليس ذلك مراعاة للفظ والالجاز القوم ذاهب لأن كلا من كل والقوم اسم جمع مفرد اللفظ اه وفي البحر يحتاج في اثبات كلكم ذاهبون بالجمع إلى نقل عن العرب والزمخشري في تفسير هذه الآية استعمل الجمع وحسن الظن فيه أنه وجد ذلك في كلامهم وإذا حذف المضاف اليه المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان ولا كلام في ذلك
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا
96
- أي مودة في القلوب لايمانهم وعملهم الصالح والمشهور أن ذلك الجعل في الدنيا فقد أخرج البخارى ومسلم والترمذى وعبد بن حميد وغيرهم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا احب الله تعالى عبدا نادى جبريل انى قد احببت فلانا فاحبه فينادى في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض فذلك قول الله تعالى ان الذين آمنوا الآية والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن الموعود من آثارها والسين لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم سبحانه ذلك ثم نجزه حين كثر الاسلام وقوى بعد الهجرة وذكر أن الآية نزلت في المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه وعد سبحانه أن يجعل لهم محبة في قلب النجاشى
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردوية عن الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق اصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعقبة بن ربيعه وامية بن خلف فانزل الله تعالى هذه الآية وعلى هذا تكون الآية مدنية وأخرج ابن مردوية والديلمى عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي كرم الله تعالى وجهه : قل اللهم اجعل لى عندك عهدا واجعل لى في صدور المؤمنين ودا فانزل الله سبحانه هذه الآية وكان محمد بن الحنفية رضى الله تعالى عنه يقول : لا تجد مؤمنا إلا وهو يحب عليا كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته
وروى الامامية خبر نزولها في على كرم الله تعالى وجهه عن ابن عباس والباقر وايدوا ذلك بما صح عندهم أنه كرم الله تعالى وجهه قال : لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفى هذا على أن يبغضنى ما ابغضنى ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبنى ما احبنى وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق والمراد المحبة الشرعية التي لا غلو فيه وزعم بعض النصارى حبه كرم الله تعالى وجهه فقد انشد الأمام اللغوى رضى الدين أبو عبد الله محمد بن على بن يوسف الانصارى الشاطى لابن اسحق النصرانى الرسغنى : عدى وتيم لا احاول ذكرهم بسوء ولكنى محب لهاشم وما تعترينى في على ورهطه إذا ذكروا في الله لومة لائم يقولون مابال النصارى تحبهم وأهل النهى من اعرب واعاجم فقلت لهم انى لاحسب حبهم سرى في قلوب الخلق حتى البهائم وانت تعلم أنه إذا صح الحديث ثبت كذبه واظن أنه نسبة هذه الأبيات للنصرانى لا اصل لها وهى من ابيات الشيعة بيت الكذب وكم لهم مثل هذه المكايد كما بين في التحفة الاثنى عشرية والظاهر أن الآية على هذا مدنية ايضا ثم العبرة على سائر الروايات في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
وذهب الجبائى إلى أن ذلك في الآخرة فقيل في الجنة إذ يكونون اخوانا على سرر متقابلين وقيل :
(16/143)

حين تعرض حسناتهم على رؤس الاشهاد وأمر السين على ذلك ظاهر ولعلا أفراد هذا الوعد من بين ما سيولون يوم القيامة من الكرامات السنية لما أن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تباغض وتضاد وتقاطع وتلاعن وذكر في وجه الربط أنه لما فصلت قبائح احوال الكفرة عقب ذلك بذكر محاسن احوال المؤمنين وقد يقال فيه بناء على أن ذلك في الآخرة : أنه جل شأنه لما اخبرا باتيان كل من أهل السموات والأرض اليه سبحانه يوم القيامة فردا انس المؤمنين بأنه جل وعلا يجعل لهم ذلك اليوم ودا وفسره ابن عطيه على هذا الوجه بمحبته تعالى اياهم واراد منها اكرامه تعالى اياهم ومغفرته سبحانه وتعالى ذنوبهم وجوز أن يكون الوعد بجعل الود في الدنيا والاخرة ولا اراه بعيدا عن الصواب ولا يابى هذا ولا ما قبله التعرض لعنوان الرحمانية لجواز أن يدعى العموم فقد جاء يا رحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما
وقرأ أبو الحرث الحنفى ودا بفتح الواو وقرأ جناح بن حبيش ودا بكسرها وكل ذلك لغة فيه وكذا في الوداد فانما يسرناه أي القرآن بأن انزلناه بلسانك أي بلغتك وهو في ذلك مجاز مشهور والباء بمعنى على أو على اصله وهو الالصاق لتضمين يسرنا معنى انزلنا أي يسرناه منزلين له بلغتك والفاء لتعليل أمر ينساق اليه النضم الكريم كأنه قيل : بعد ايحاء هذه السورة الكريمة بلغ هذا المنزل وابشر به وانذر فانما يسرناه بلسانك العربي المبين لتبشر به المتقين المتصفين بالتقوى لامتثال ما فيه من الأمر والنهى أو الصاغرين اليها على أنه من مجاز الأول وتنذر به قوما لدا
97
- لايؤمنون به لجاجا وعنادا واللد جمع الالد وهو كما قال الراغب : الخصم الشديد التابى واصله الشديد اللديد أي صفحت العنق وذلك إذ لم يمكن صرفه عما يريده
وعن قتادة اللد ذوو الجدل بالباطل الأخذون في كل لديد أي جانب المراء وعن ابن عباس تفسير اللد بالظلمةوعن مجاهد تفسيره بالفجار وعن الحسن تفسيره بالصم وعن أبى صالح تفسيره بالعوج وكل ذلك تفسير باللازم والمراد بهم أهل مكة كما روى عن قتادة وكم أهلكنا قبلهم من قرن وعد لرسول الله صلى الله عليه و سلم في ضمن وعيد هؤلاء القوم بالأهلاك وحث له عليه الصلاة و السلام على الانذار أي قرنا كثيرا اهلكنا قبل هؤلاء المعاندين هل تحس منهم من أحد استئناف مقرر لمضمون ماقبله والأستفهام في معنى النفى أي ما تشعر باحد منهم
وقرأ ابن حيوة وابو بحرية وابن انى عبلة وابو جعفر المدنى تحس بفتح التاء وضم الحاء او تسمع لهم ركزا
98
- اى صوتا خفيا واصل التركيب هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز للمال المدفونوخص بعضهم الركز بالصوت الخفى دون نطق بحروف ولافموالأكثرون على الأولوخص الصوت الخفى لأنه الأصل الأكثر ولان الاثر الخفى إذا زال فزوال غيره بطرق الأولى
والمعنى أهلكناهم بالكلية واستاصلناهم بحيث لاترى منهم أحد ولاتسمع منهم صوتا خفيا فضلا عن غيرهوقيل : المعنى أهلكناهم بالكلية بحيث لاترى منهم احا ولاتسمع من يخبر عنهم ويذكرهم بصوت خفىوالحاصل أهلكناهم فلا عين ولا خبروالخطاب أمالسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح للخطاب
(16/144)

وقرأ حنظلة تسمع مضارع اسمعت مبنيا للمفعول والله تعالى أعلم
ومن باب الأشارة في الآيات واذكر في الكتاب ابراهيم أنه كان صديقا نبيا أمر للحبيب أن يذكر الخليل وما من الله تعالى به عليه من احكام الخلة ليستشير المستعدين إلى التحلى بما امكن لهم منها والصديق على ما قال ابن عطاء القائم مع ربه سبحانه على حد الصدق في جميع الأوقات لا يعارضه في صدقه معارض بحال وقال أبو سعيد الخراز : الصديق الاخذ باتم الحظوظ من كل مقام سنى حتى يقرب من درجات الأنبياء عليهم السلام وقال بعضهم : من تواترت انوار المشاهدة واليقين عليه واحاطت به انوار العصممة
وقال القاضى : هو الذي صعدت نفسه تاره بمراقى النظر في الحجج والآيات واخرى بمعارج التصفية والرياضة إلى اوج العرفان حتى اطلع على الأشياء واخبر عنها على ما هي عليه ومقام الصديقية قبل : تحت مقام النبوة ليس بينهما مقام
وعن الشيخ الأكبر قدس سره إثبات مقام بينهما وذكر أنه حصل لابى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه والمشهور بهذا الوصف بين الصحابة رضى الله تعالى عنهم أبو بكر ارضى الله تعالى عنه وليس ذلك مختصا به فقد أخرج أبو نعيم في المعرفة وابن عساكر وابن مردويه من حديث عبد الرحمن ابن أبى ليلى عن ابيه أبى ليلى الأنصارى عن النبى صلى الله عليه و سلم قال : الصدقون الثلاثة حبيب النجار مؤمن آل يس الذي قال : يا قوم اتبعوا المرسلين وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال : اتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وعلى بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه وكرم وجهه وهو افضلهم إذ قال لابيه يا ابت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا الخ فيه من لطف الدعوة إلى اتباع الحق والارشاد اليه مالا يخفى وهذا مطلوب في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا سيما إذا كان ذلك مع الأقراب ونحوهم قال سلام عليك هذا سلام الاعراض عن الاغيار وتلطف الأبرار مع الجهال قال أبو بكر بن طاهر : أنه لما بدا من ازر في خطابه عليه السلام ما لا يبدو إلا من جاهل جعل جوابه السلام لأن الله تعالى قال : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما واعتزلكم وما تدعون من دون الله أي اهاجر عنكم بدينى ويفهم منه استحباب هجر الأشرار
وعن أبى تراب النخشبى صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالاخيار وقد تضافرت الادلة السمعية والتجربة على أن مصاحبتهم تورث القسوة وتثبط عن الخير وادعوا ربى عسى أن لا اكون بدعاء ربى شقيا فيه من الدلالة على مزيد ادبه عليه السلام مع ربه عز و جل ما فيه ومقام الخلة يقتضى ذلك فان من لا ادب له لا يصلح أن يتخذ خليلا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له اسحق ويعقوب كان ذلك كان عوضا عمن اعتزل من ابيه وقومه لئلا يضيق صدره كما قيل : ولما اعتزل نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الكون اجمع ما زاغ البصر وما طغى عوض عليه الصلاة و السلام بأن قال له سبحانه : ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم
واذكر ايها الحبيب في الكتاب موسى الكليم انه كان مخلصا لله تعالى في سائر شؤنه قال الترمذى : المخلص على الحقيقة من يكون مثل موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر على السلام ليتادب به فلم يسامحه في شئ ظهر له منه وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا قالوا النداء بداية والنجوى نهاية النداء مقام الشوق والنجوى مقام كشف السر ووهبنا له من رحمتنا اخاه هرون نبيا قيل : علم الله تعالى ثقل الأسرار على
(16/145)

موسى عليه السلام فاحتار له اخاه هرون مستودعا لها فهرون عليه السلام مستودع سر موسى عليه السلام واذكر في الكتاب اسماعيل أنه كان صادق الوعد بالصبر على بذل نفسه أو بما وعد به استعداده من كمال التقوى لربه جل وعلا والتحلى بما يرضيه سبحانه من الأخلاق واذكر في الكتاب ادريس أنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا وهو نوع من القرب من الله تعالى به عليه عليه السلام وقيل : السماء الرابعة والتفضل عليه بذلك لما فيه من كشف بعض اسرار الملكوت اولءك الذين انعم الله تعالى عليهم بما لا يحيط نطاق الحصر به من النعم الجليلة إذا تتلى عليهم ايات الرحمن حروا سجدا مما كشف لهم من اياته تعالى وقد ذكر أن القرآن اعظم مجلى لله عز و جل وبكيا من مزيد فرحهم بما وجدوه أو من خوف عدم استمرار ما حصل لهم من التجلى : ونبكى أن ناوا شوقا اليهم ونبكى أن دنوا خوف الفراق ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا قيل : الرزق ههنا مشاهدة الحق يبحانه ورؤيته عز و جل وهذا لعموم أهل الجنة وأماالمحبوبون والمشتاقون فلا تنقطع عنهم مشاهدة لمحة ولو حجبوا لما توا من الم الحجاب رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا مثلا يلتفت اليه ويطلب منه شئ وقال الحسين بن الفضل : هل يستحق أحد أن يسمى باسم من اسمائه تعالى على الحقيقة وان منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا وذلك لتظهر عظمة قهره جل جلاله وآثار سطوته لجميع خلقه عز و جل ثم ننجى الذين اتقوا جزاء تقواهم ونذر الضالمين فيها جثيا جزاء ظلمهم وهذه الآية كم اجرت من عيون العيون العيون
فعن عبد الله بن رواحة رضى الله تعالى عنه أنه كان يبكى ويقول : قد علمت انى وارد النار ولا ادرى كيف الصدور بعد الورود وعن الحسن كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا التقوا يقول الرجل لصاحبه : هل اتاك انك وارد فيقول : نعم فيقول : هل اتاك انك خارج فيقول لا فيقول : ففيم الضحك اذن قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا لما افتخروا بحظوظ الدنيا التي لا يفخر بها إلا ذوو الهمم الدنية رد الله تعالى عليهم بأن ذلك استدراج ليس باكرام والأشارة فيه أن كل ما يشغل عن الله تعالى والتوجه اليه عز و جل فهو شر لصاحبه يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ركبانا على نجائب النور وقال ابن عطاء : بلغنى عن الصادق رضى الله تعالى عنه أنه قال : ركبانا على متون المعرفة ان كل من في السموات والأرض إلا اتى الرحمن عبدا فقيرا ذليلا منقادا مسلوب الأنانية بالكلية ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا في القلوب المفطورة على حب الله تعالى وذلك أثر محبنه سبحانه لهم وفي الحديث لا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى احبه فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به الخ ولا يشكل على هذا انا نرى كثيرا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ممقوتين لأن الذين يمقتونهم قد فطرت قلوبهم على الشر وان لم يشعروا بذلك ومن هنا يعلم أن بعض الصالحين علامة خبث الباطن ربنا اغفر لنا ولا خواننا الذين سبقونا بالأيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا وقيل : معنى سيجعل لهم الرحمن ودا سيجعل لهم لذة وحلاوة في الطاعة والأخبار تؤيد ما تقدم والله تعالى أعلم وله الحمد على اتمام تفسير سورة مريم ونسأله جل شأنه التوفيق لاتمام تفسير سائر سور كتابه المعظم بحرمة نبيه صلى الله عليه و سلم
(16/146)

سورة طه
أيضا سورة الكليم كما ذكر السخاوى في جمال القراء وهى كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضى الله تعالى عنهم مكية واستثنى بعضهم منها قوله تعالى : واصبر على ما يقولون الآية
وقال الجلال السيوطي : ينبغى أن يستثنى اية اخرى فقد أخرج البزار وأبو يعلى عن أبى رافع قال : اضاف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ضيفا فارسلنى إلى رجل من اليهود أن اسلفنى دقيقا إلى هلال رجب فقال : لا إلا برهن فاتيت النبى عليه الصلاة و السلام فاخبرته فقال : أما والله انى لأمين في السماء أمين في الأرض فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ازواجا منهم الآية انتهى
ولعل ما روى عن الحبرين على القول باستثناء ما ذكر باعتبار الأكثر منها واياتها كما قال الدانى مائة واربعون اية شامى وجمس وثلاثون كوفى واربع حجازى وايتان بصرى ووجه النرنيب على ما ذكره الجلال أنه سبحانه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء عليهم السلام وبعضها مبسوط كقصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وبعضها بين البسط والايجاز كقصة ابراهيم عليه السلام وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام وإشارة إلى بقية النبيين عليهم السلام اجمالا ذكر جل وعلا في هذه السورة شرح قصة موسى عليه السلام التي اجملها تعالى هناك فاستوعبها سبحانه غاية الأستيعاب وبسطها تبارك وتعالى أبلغ بسط ثم اشار عز شأنه إلى تفصيل قصة آدم عليه السلام الذي وقع في مريم مجرد ذكر اسمه ثم اورد جل جلاله في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر قصته في مريم كنوح ولوط وداود وسليمان وايوب واليسع وذى الكفل وذى النون عليهم السلام واشير فيها إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى وهرون وإسمعيل وذكرت تلو مريم أن لتكون السورتان كالمتقابلتين وبسطت فيها قصة ابراهيم عليه السلام البسط التام فيما يتعلق به مع قومه ولم يذكر حاله مع ابيه إلا اشاره كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه اشاره ومع ابيه مبسوطا وينضم إلى ما ذكر اشتراك هذه السورة وسورة مريم في الأفتتاح بالحروف المقطعه وقد روى عن أبى عباس وجابر بن زيد رضى الله تعالى عنه أن طه نزلت بعد سورة مريم ووجه رابط أول هذه بآخر تلك أنه سبحانه ذكر هناك تيسير القرآن بلسان الرسول عليه الصلاة و السلام معللا بتبشير المتقين وانذار المعاندين وذكر تعالى هنا ما فيه نوع من تاكيد ذلك وجاءت آثار تدل على مزيد فضلها
أخرج الدارمى وابن خزيمه في التوحيد والطبرانى في الاوسط والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ان الله تبارك وتعالى قرأ طه و يس قبل أن يخلق السموات والأرض بالفى عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت : طوبى لامة ينزل عليها هذا وطوبى لاجواف تحمل هذا وطوبى لالسنة تتكلم بهذا وأخرج الديلمي عن انس مرفوعا نحوه وأخرج ابن مردويه عن أبى امامة عن النبى صلى الله عليه و سلم قال : كل قران يوضع عن أهل الجنة فلا يقرؤن منه شيئا إلا سورة طهويس فانهم يقرؤن بهما في الجنة إلى غير ذلك من الآثار
بسم الله الرحمن الرحيم طه
1
- فخمها على الأصل ابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب وهو احدى
(16/147)

الرواتين عن قالون وورش والرواية الاخرى انهما فخما الطاء وامالا الهاء وهو المروى عن أبى عمرو وأمال الحرفين حمزة والكسائى وأبو بكر ولعل إمالة الطاء مع انها من حروف الاستعلاء والاستعلاء يمنع الأمالة لانها تسفل لقصد التجانس وهي من الفواتح التي تصدر بها السور الكريمة على احدى الروايتين عن مجاهد بل قيل : هي كذلك عند جمهور المتقنين وقال السدى : المعنى يا فلان وعن ابن عباس في رواية جماعة عنه والحسن وابن جبير وعطاء وعكرمة وهي الرواية الاخرى عن مجاهد أن المعنى يا رجل واختلفوا فقيل : هو كذلك بالنبطية وقيل : بالحبشية وقيل : بالعبرانية وقيل بالسريانية وقيل بلغة عكل وقيل : بلغة عك وروى ذلك عن الكلبى قال : لو قلت في عك : يا رجل لم يجب حتى تقول : طاها وانشد الطبرى في ذلك قول متمم بن نويرة : دعوت بطاها في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا وقول الاخر : أن السفاهة طاها من خلائقكم لا بارك الله في القوم الملاعين وقال ابن الأنبارى : أن لغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا لأن الله تعالى لم يخاطب نبيه صلى الله عليه و سلم بلسان غير لسان قريش ولا يخفى أن مسئلة وقوع شئ بغير لغة قريش من لغات العرب في القرآن خلافية وقد بسط الكلام عليها في الاتقان والحق الوقوع وتخرص الزمخشرى على عك فقال : لعل عكا تصرفوا في يا هذا كانهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا : في يا طا واختصروا هذا واقتصروا على ها وتعقبه أبو حيان بأنه لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء وكذلك حذف اسم الأشارة في النداء واقرارها الت للتنبيه ولم يقل ذلك نحوى وذكر في البيت الاخير أنه أن صح فطه فيه قسم بالحروف المقطعة أو اسم السورة على أنه شعر اسلامى كقوله حم لا ينصرون
وتعقب بأنه احتمال بعيد وهو كذلك في المثال وقد رواه النسائى مرفوعا ولفظ الخبر إذا لقيكم العدو فليكن شعاركم حم لا ينصرون وليس في سياقه دليل على ذلك ويحتمل أن يكون لا ينصرون مستانفا والشعار التلفظ بحم فقط كأنه قيل : ماذا يكون إذا كان شعارنا ذلك فقيل : لا ينصرون وأخرج ابن منذر وابن مردويه عن ابن عباس أنه قسم اقسم الله تعالى به وهو من اسمائه سبحانه وعن أبى جعفر أنه من اسماء النبى صلى الله عليه و سلم
وقرأت فرقة منهم أبو حنيفة والحسن وعكرمة وورش طه بفتح الطاء وسكون الهاء كبل فقيل : معناه يا رجل ايضا وقيل : أمر للنبى صلى الله عليه و سلم بأن يطا الأرض بقدميه فانه عليه الصلاة و السلام كما روى عن الربيع بن انس كان إذا صلى قام على رجل واحدة فأنزل الله تعالى طه الخ وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه لما نزل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يا ايها المزمل قم الليل إلا قليلا قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع رجلا فهبط عليه جبريل عليه السلام فقال طه الآية والأصل طا فقلبت الهمزة هاء كما قالوا في إياك وارقت ولانك هياك وهرقت ولهنك أو قلبت الهمزة في فعله الماضى والمضارع القا كما في قول الفرزدق : راحت بمسلمة البغال عشية فارعى فزاره لا هناك المرتع وكما قالوا في سأل سأل وحذفت في الأمر لكونه معتل الأخر وضم اليه هاء السكت وهو في مثل ذلك لازم خطأ ووقفه وقد يجري الوصل مجرى الوقف فتئبت لفظا فيه وجوز بعضهم أن يكون اصل طه
(16/148)

في القراءة المشهورة طاها على أن طا أمر له صلى الله عليه و سلم بأن يطا الأرض بقدميه وها ضمير مؤنث في موضع المفعول به عائد على الأرض وان لم يسبق لها ذكر واعترض بأنه لو كان كذلك لم تسقط منه الالفان ورسم المصحف وان كان لا ينقاس لكن الأصل فيه موافقته للقياس فلا يعدل عنه لغير داع وليست هذه الألف في اسم ولا وسطا في كما في الحرث ونحوه لتحذف لاسيما وفي حذفها لبس فلا يجوز كما فصل في باب الخط من التسهيل
واعترض بهاذا أيضا على تفسيره بيا رجل ونحوه فقيل : توجه ذلك على الأصل ويعلم منه توجيه أخر لقراءة أبى حنيفه رضى الله تعالى عنه ومن معه أن يقال : اكتفى من طأ بطاء متحركة ومن ها الضمير بهاء ثم عبر عنهما باسميهما فها ليست ضميرا بل هي كالقاف في قوله : قلت لها قفي فقالت قاف
واعترض أيضا بأنه كان ينبغى على هذا أن لا تكتب صورة المسمى بل صورة الأسم وأجيب بأن كتابة الأسماء بصور المسميات أمر مخصوص بحروف التهجى وتعقب بأن ما ذكر لا يقطع ماده إلا يراد إذ لو كان كذلك لا نفصل الحرفان في الخط بأن يكتبان هكذا ط ه فان قيل : أن خط المصحف لا ينقاس قيل عليه ما قيل والحق أن دعوى أن خط المصحف لا ينقاس قوية جدا وما قيل عليها لا يعول عليه وما صح عن السلف يقبل ولا يقدح فيه عدم موافق القياس وان كانت الموافقة هي الأصل
وقد روى عن علي كرم الله تعالى وجهه والربيع بن انس انهما فسرا طه بطأ الأرض بقدميك يا محمد ولم اقف لا طعن في الرواية والله تعالى أعلم
واختلف في إعرابه حسب الأختلاف في المراد منه فهو على ما نقل عن الجمهور من أن المراد منه طائفه من حروف المعجم مسروده على نمط التعديد افتتحت بهاء السورة لا محل له من الأعراب وكذا ما بعده من قوله تعالى : ما انزلنا عليك القرإن لتشقى
2
- فانه استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه و سلم عما كان يعتريه من جهد المشركين من التعب فان الشقاء شاسع في ذلك المعنى ومنه المثل اشقى من رائض مهر وقول الشاعر : ذو العقل يشقى في النعيم بعقله واخو الجهالة في الشقاء ينعم أي ما انزلناه عليك لتتعب بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العتاه ومحاورة الطغاة وفرط التاسف على كفرهم به والتحسر على أن يؤمنوا به كقوله تعالى شأنه فلعلكا باخع نفسك على آثارهم الآية بل لتبلغ وتذكر وقد فعلت فلا عليك أن لم يؤمنوا بعد ذلك أو لصرفه عليه الصلاة و السلام عما كان عليه من المبالغة في المجاهده في العباده كما سمعت فيما أخرج ابن مردوية عن علي كرم الله تعالى وجه أي ما انزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضات الشاقة والشدائد الفادحة وما بعثت إلا بالحنفية السمحة وقال مقاتل : أن ابا جهل والنظر بن الحرث والمطعم قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم لما راوا كثرة عبادته : انك لتشقى بترك ديننا وان القرإن أنزل عليك لتشقى به فرد الله تعالى عليهم ذلك بانا ما انزلناه عليك لما قالوا والشقاء في كلامهم يحتمل أن يكون بمعناه الحقيقى وهو ضد السعادة والتعبير به في كلامه تعالى من باب المشاكله وان اريد منه القرآن بتأويله بالمتحد به من جنس هذه الحروف
فيجوز فيه أن يكون محله الرفع على الأبتداء والجملة بعده خبره وقد أقيم فيها الظاهر اعنى القرآن مقام
(16/149)

الضمير الرابط لنكته وهو أن القرآن رحمة يرتاح لها فكيف ينزل للشقاء وقيل : الخبر محذوف وقيل : هو خبر لمبتدأ محذوف والجملة على القولين مستانفة وجوز أن يكون محله النصب على اضمار اتل وقيل : على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب بفعله مضمرا نحو قوله :
ان على الله أن تبايعا
وجوز أن يكون محاه الجر بتقدير حرف القسم نظير قوله من وجه اشارت كليب بالاكف الأصابع
والجملة بعده على تقدير ارادة القسم جواب القسم وجوزت هذه الاحتمالات على تقدير أن يكون المراد منه السورة
وأمر ربط الجملة على تقدير ابتدائيته وخبريتها أن كان القرآن خاصا بهذه السورة باعتبار كون تعريفه عهديا حضوريا ظاهر وان كان عاما فالربط به لشموله للمبتدأ كما قيل في نحو زيد نعم الرجل
ومنع بعضهم ارادة السورة مطلقا لاتفاق المصاحف على ذكر سورة في العنوان مضافة إلى طه وحينئذ يكون التركيب كانسان زيد وقد حكموا بقبحه وفيه بحث لا يكاد يخفى حتى على بهيمة الأنعام وبعضهم ارادة ذلك على تقدير الأخبار بالجملة بعد قال : لأن نفي كون انزال القرآن للشقاء يستدعى وقوع الشقاء مترتبا على انزاله قطعا أما بحسب الحقيقة كما إذا اريد به التعب أو بحسب زعم الكفرة كما لو اريد به ضد السعادة ولا ريب في أن ذلك إنما يتصور في انزال ما أنزل من قبل وأما انزال السورة الكريمة فليس مما يمكن ترتب الشقاء السابق عليه حتى يتصدى لنفيه عنه أما باعتبار اتحاد القرآن بالسورة فظاهر وأما باعتبار الأندراج فلان ما له أن يقال : هذه السورة ما انزلنا القرآن المشتمل عليها لتشقى ولا يخفى أن جعلها مخبرا عنها مع أنه لا دخل لانزالها في الشقاء السابق اصلا مما لا يليق بشأن التنزيل اه ولا يخلو عن حسن وعلى ما روى عن أبى جعفر من أنه من اسملئه صلى الله عليه و سلم يكون منادى وحكمه مشهور والجملة جواب النداء ومحله على ما أخرج ابن منذر وابن مردويه عن الحبر من أنه قسم اقسم الله تعالى به وهو من اسمائه تباركت اسماؤه النصب أو الجر على ما سمعت انفا
وعلى ما روى عن الأمير كرم الله تعالى وجهه والربيع يكون جملة فعلية وقد مر لك تفصيل ذلك والجملة بعده مستانفة استئنافا نحويا أو بيانيا كأنه قيل لم اطؤها فقيل : ما انزلنا عليك القرآن لتشقى وقرأ طلحة ما نزل عليك القرآن بتشديد الفعل وبناءئه للمفعول واسناده للقران الا تذكرة نصب على الأستثناء المنقطع أي ما انزلناه لشقائك لكن تذكيرا لمن يخشى
3
- أي لمن شأنه أن يخشى الله تعالى ويتاثر بالانذار لرقة قليه ولين عريكته أو لمن علم الله تعالى أنه يخشى بالتخويف والجار والمجرور متعلق بتذكرة أو بمحذوف صفة لها وخص الخاشبى بالذكر مع أن القإن تذكرة للناس كلهم لتنزيل غيره منزلة العدم فانه المنتفع به
وجوز الزمخشرى كون تذكرة مفعولا له لانزلنا وانتصب لاستجماع الشرائط بخلاف المفعول الأول لعدم اتحاد الفاعل فيه والمشهور عن الجمهور اشتراطه للنصب فلذا جر ويجوز تعدد العلة بدون عطف وابدال إذا اختلفت جهة العمل كما هنا لظهور أن الثانى مفعول صريح والأول جار ومجرور وكذا إذا اتحدت وكانت احدى العلتين علة للفعل والاخرى علة له بعد تعليله نحوا كرمته لكونه غريبا لرجاء الثواب أو كانت العلة الثانية علة للعلة الأولى نحو لا يعذب الله تعالى التائب لمغفرته له لاسلامه فما قيل عليه من أنه لا يجوز
(16/150)

تعدد العلة بدون اتباع غير مسلم
وفي الكشف أن المعنى على هذا الوجه ما انزلناه عليك لتحتمل مشاقه ومتاعبه إلا ليكون تذكرة وحاصله أنه نظير ما ضربتك للتاديب إلا اشفاقا ويرجع المعنى إلى ما ادبتك بالضرب إلا للاشفاق كذلك المعنى هنا ما اشقيناك بانزال القرآن إلا للتذكرة وحاصله حسبك ما حملته من متاعب التبليغ ولا تنهك بدنك ففي ذلك ابلاغ اه واعترض القول بجعله نظير ما ضربتك للتاديب إلا اشفاقا بأنه يجب في ذلك أن يكون بين العلتين ملابسة بالسببية والمسببية حتما كما في المثال المذكور وفي قولك : ما شافهته بالسوء ليتاذى الازجرا لغيره فان التاديب في الأول مسبب عن الاشفاق والتاذى في الثانى يبب لزجر الغير وما بين الشقاء والتذكرة تناف ظاهر ولا يجدى أن يراد به التعب في الجملة المجامع للتذكرة لظهور أن لا ملابسة بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكان الا تذكرة إلا تكثيرا لثوابك فان الاجر بقدر التعب كما في الحديث انتهى
ولعل قائل ذلك يمنع وجوب أن يكون بين العلتين الملابسة المذكورة أو يدعى تحققها بينهما في الآية بناء على أن التذكرة أي التذكير سبب للتعب كما يشعر بذلك قول المدقق في الحاصل الأخير حسبك ما حملته من متاعب التبليغ الخ وقد خفى المراد من الآية على هذا الوجه على ابن المنير فقال : أن فيه بعدا لأنه حينئذ يكون الشقاء سبب النزول وان لم تكن اللام سببية وكانت للصيرورة مثلا لم يكن فيه ماجرت عادة الله تعالى به مع نبيه صلى الله عليه و سلم من نهيه عن الشقاء والحزن على الكفرة وضيق الصدر بهم وكان مضمون الآية منافيا لقوله تعالى فلا يكن في صدرك حرج فلعلك باخع نفسك على آثارهم اه وانت تعلم بعد الوقوف على المراد أن لا منافاة نعم بعد هذا الوجه وكون الآية نظيرا ما ضربتك للتاديب إلا اشفاقا مما يشهد به الذوق ويجوز أن تكون حالا من الكاف أو القرآن والاستئناء مفرغ والمصدر مؤول بالصفة أو قصد به المبالغة
وجوز الحوفى كونها بدلا من القرآن والزجاج كونها بدلا من محل لتشقى لأن الأستثناء من غير الموجب يجوز فيه الابدال وتعقب بأن ذلك إذا كان متصلا بأن كان المستثنى من جنس المستثنى منه والبدلية حينئذ البدلية البعضية في المشهور وقيل : بداية الكل من الكل ولايخفى عدم تحقق ذلك بين التذكرة والشقاء والقول ببدلية الاشتمال في مثل ذلك لتصحيح البدلية هنا بناء على أن التذكرة تشتمل على التعب مما لم يقله أحد من النحاة واعتبارها من هذا الاشتمال من جنس الشقاء فكانها متحدة معه لايجعل الأستثناء متصلا كما قيل وقد سمعت اشتراطه وبالجمله هذا الوجه ليس بالوجية وقد انكره أبو على على الزجاج
وجوز أن يكون مفعولا له لانزلنا و لتشقى ظرف مستقر في موضع الصفة للقرآن أي ما انزلنا القرإن الكائن أو المنزل لتعبك إلا تذكرة وفيه تقدير المتعلق مقرونا باللام وحذف الموصول مع بعض صلته وقد اباه بعض النحاة وكون ال حرف تعريف خلاف الظاهر وقيل : هي نصب على المصدرية لمحذوف أي لاكن ذكرناه به تذكرة وقوله تعالى تنزيلا كذلك أي نزل تنزيلا والجملة مستانفه مقررة لما قبلها : وقيل : لما تفيد الجملة الاستئنافية فانها متضمنة لأن يقال : انا انزلناه للتذكرة والأول انسب لما بعده من الالتفات وقيل : منصوب على المدح والاختصاص وقيل : بيخشى على المفعولية واستبعدهما أبو حيان وعد
(16/151)

الثاني في غاية البعد لأن يخشى راس إية فلا يناسب أن يكون تنزيلا مفعوله وتعقب أيضا بأن تعليق الخشية والخوف ونظائرهما بمطلق التنزيل غير معهود نعم قد تعلق ذلك ببعض اجزائه المشتملة على الوعيد ونحوه كما في قوله تعالى يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم
وانت تعلم أن المعنى على هذا الوجه إلا تذكرة لمن يخشى المنزل من قادر قاهر وهو مما لا خلل فيه وأمر عدم المعهودية سهل وقيل : هو بدل من تذكرة بناء على انها حال من الكاف أو القرإن كما نقل سابقا وهو بدل اجتمال وتعقبه أبو حيان بأن جعل المصدر حالا لا ينقاس ومع هذا فيه دغدغه لا تخفى ولم تجوز البدليه منها على تقدير أن تكون مفعولا له لانزلنا لفظا أو معنى لأن البدل هو المقصود في فيصير المعنى انزلناه لاجل التنزيل وفي ذلك تعليل الشئ بنفسه أن كان الأنزال والتنزيل بمعنى بحسب الوضع أو بنوعه أن كان الأنزال عاما والتنزيل مخصوصا بالتدريجى وكلاهما لا يجوز
وقرأ ابن عبله تنزيل بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو تنزيل ممن خلق الأرض والسموات العلى
4
- متعلق بتنزيل وجوز أن يكون متعلقا بمضمر هو صفة له مؤكدة لما في تنكيره من الفخامه الذاتية بالفخامه الأضافيه ونسبة التنزيل إلى الموصول بطريق الالتفاف إلى الغيبة بعد نسبة الانزال إلى نون العظمة لبيان فخامته تعالى شأنه بحسب الأفعال والصفات اثر بيانها بحسب الذت بطريق الابهام ثم التفسير لزيادة تحقيق تقرير
واحتمال كون انزلنا الخ حكاية اكلام جبريل والملائكة النازلين معه بعيد غاية البعد
وتخصيص خلق الأرض والسموات بالذكر مع أن المراد خلقهما بجميع ما يتعلق بهما كما يؤذن به قوله تعالى له ما في السموات وما في الأرض الآية لاصالتهما واستتباعهما لما عداها وقيل : المراد بهما ما في جهة السفل وما في جهة العلو وتقديم خلق الأرض قيل لأنه مقدم في الوجود على خلق السموات السبع كما هو ظاهر آيه حم السجدة ائنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين الآية وكذا ظاهر اية البقرة هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن الآية
ونقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السموات مقدم واختاره كثير من المحققين اتقديم السموات على الأرض في معظم الآيات التى ذكرا فيها واقتضاء الحكمة تقديم خلق الأشراف والسماء اشرف من الأرض ذاتا وصفهه مع ظاهر اية النزعات اانتم خلقا ام السماء بناها الآية واختار بعض المحققين أن خلق السموات بمعنى ايجادها بمادتها قبل خلق الأرض وخلقها بمعنى اظهارها بآثارها بعد خلق الأرض وبذلك يجمع بين الآيات التي يتوهم تعارضها وتقديم السموات في الذكر على الأرض تاره والعكس اخرى بحسب اقتضاء المقام وهو اقرب إلى التحقيق وعليه وعلى ما قبله فتقديم خلق الأرض هنا قيل اوفق بالتنزيل الذي هو من احكام رحمته تعالى كما ينبئ عنه ما بعد وقوله تعالى الرحمن علم القرإن ويرمز اليه ما قبل فان الأنعام على الناس بخلق الأرض اظهر واتم وهى اقرب إلى الحس وقيل : لأنه اوفق بمفتتح السورة بناء على جعلطه جمله فعليه أي طأ الأرض بقدميك أو لقوله تعالى ما انزلنا عليك القرإن لتشقى بناء على أنه جملة مستانفه لصرفه صلى الله عليه و سلم كما كان عليه من رفع احدى رجليه عن الأرض في الصلاة كما جاء في سبب النزول ووصف السموات بالعلى وهو جمع العليا كالكبرى تانيث الاعلى لتاكيد الفخامه مع ما فيه
(16/152)

من مراعاة الفواصل وكل ذلك إلى قوله تعالى له الأسماء الحسنى مسوق لتعظيم شأن المنزل عز و جل المستتبع لتعظيم المنزل الداعى إلى ازتنزال المتمردين عن رتبة العلو والطغيان واستمالتهم إلى التذكر والأيمان
الرحمن رفع على المدح أي هو الرحمن
وجوز ابن عطيه أن يكون بدلا من الضمير المستتر في خلق وتعقبه أبو حيان فقال : ارى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه ولا يحل ههنا لئلا يلزم خلو الصلة من العائد اه ومنع بعضهم لزوم اطراد الحلول ثم قال : على تسليمه يجوز اقامة الظاهر مقام الضمير العائد كما في قوله : وانت الذي في رحمة الله اطمع
نعم اعتبار البدلية خلاف الظاهر وجوز أن يكون مبتدأ واللام للعهد والأشارة إلى الموصول وخبره قوله تعالى على العرش استوى
5
- ويقدر هو ويجعل خبرا عنه على احتمال البدلية وعلى الاحتمال الأول يجعل خبرا بعد خبر لما قدر اولا على ما في البحر وغيره وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ الرحمن بالجر وخرجه الزمخشرى على أنه صفه لمن وتعقبه أبو حيان بأن مذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التى لا تتم إلا بصلاتها كمن ومالا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوز نعتهما فعندهم لا يجوز هذا التخريج فالاحسن أن يكون الرحمن بدلا من من وقد جرى في القرآن مجرى العلم في وقوعه بعد العوامل وقيل : أن من يحتمل أن تكون نكره موصوفة وجملة خلق صفتها و الرحمن صفة بعد صفة وليس ذاك من وصف الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها غاية ما في الباب أن فيه تقديم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو جائز اه وهو كما ترى
وجملة على العرش استوى على هذه القراءة خبر هو مقدرا والجار والمجرور على كل الاحتمالات متعلق باستوى قدم عليه لمراعاة الفواصل و العرش في اللغة سرير الملك وفي الشرع سرير ذو قوائم له حملة من الملائكة عليهم السلام فوق السموات مثل القبة ويدل على أن له قوائم ما أخرجاه في الصحيحين عن أبى سعيد قال : جاء رجل من اليهود إلى النبى صلى الله عليه و سلم قد لطم وجهه فقال : يا محمد رجل من اصحابك قد لطم وجهى فقال النبى عليه الصلاة و السلام : ادعوه فقال : لم لطمت وجهه فقال : يا رسول الله انى مررت بالسوق وهو يقول : والذي اصطفى موسى على البشر فقلت : يا خبيث وعلى محمد صلى الله عليه و سلم فاخذتنى غضبة فلطمته فقال النبى صلى الله عليه و سلم : لا تخيروا بين الأنبياء فان الناس يصعقون واكون أول من يفيق فاذا انا بموسى عليه السلام اخذ بقائمة من قوائم العرش فلا ادرى افاق قبلى ام جوزى بصعقة الطور وعلى أن له حملة من الملائكة عليهم السلام قوله تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به
وما رواه أبو داود عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال : اذن لى أن احدث عن ملك من ملائكة الله عز و جل من حملة العرش أن ما بين اذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة وعلى أنه فةق السموات مثل القبة ما رواه أبو داود أيضا عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن ابيه عن جده قال : اتى رسول الله صلى الله عليه و سلم اعرأبى فقال : يا رسول الله جهدت الانفس ونهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فانا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ويحك اتدرى ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه و سلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك
(16/153)

في وجوه اصحابه ثم قال : ويحك أنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله تعالى اعظم من ذلك ويحك اتدري ما الله أن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سمواته لهكذا وقال باصبعه مثل القبة وانه ليئط به اطيط الرجل الجديد بالراكب ومن شعر امية بن أبى الصلت : مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء امسى كبيرا بالبناء العالى الذي بهر لنا س وسوى فوق السماء سريرا شرجعا لا يناله طرف الع ين ترى حوله الملائك صورا وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أنه مستدير من جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة وهو محدد الجهات وربما سموه الفلك الاطلس والفلك التاسع وتعقبه بعض شراح عقيدة الطحاوى بأنه ليس بصحيح لما ثبت بالشرع من أن له قوائم تحمله الملائكة عليهم السلام وأيضا أخرجا في الصحيحين عن جابر أنه قال : سمعت النبى صلى الله عليه و سلم يقول : اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ والفلك التاسع عندهم متحرك دائما بحركة متشابهة ومن تأول ذلك على أن المراد باهتزازه استبشار حملة العرش وفرحهم فلا بدله من دليل على أن سياق الحديث ولفظه كما نقل عن أبى الحسن الطبرى وغيره بعيد عن ذلك الأحتمال وأيضا جاء في صحيح مسلم من حديث جويرية بنت الحرث ما يدل على أنه له زنة هي اثقل الاوزان والفلك عندهم لا ثقيل ولا خفيف وأيضا العرب لا تفهم منه الفلك والقرآن إنما نزل بما يفهمون
وقصارى ما يدل عليه خبر أبى داود عن جبير بن مطعم التقبيب وهو لا يستلزم الأستدارة من جميع الجوانب كما في الفلك ولا بد لها من دليل منفصل ثم أن القوم إلى الان بل إلى أن ينفخ في الصور لا دليل لهم على حصر الافلاك في تسعة ولا على أن التاسع اطلس لا كوكب فيه وهو غير الكرسى على الصحيح فقد قال ابن جرير : قال أبو ذر رضى الله تعالى عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما الكرسى في العرش إلا كحلقة من حديد القيت بين ظهرى فلاة من الأرض
وروى ابن أبى شيبه في كتاب صفة العرش والحاكم في مستدركه وقال : أنه على شرط الشيخين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الكرسى موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى وقد روى مرفوعا والصواب وقفه على الحبر وقيل : العرش كناية عن الملك والسلطان وتعقبه ذلك البعض بأنه تحريف لكلام الله تعالى وكيف يصنع قائل ذلك بقوله تعالى : ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ايقول ويحمل ملكه تعالى يومئذ ثمانية وقوله عليه الصلاة و السلام فاذا انا بموسى اخذ بقائمة من قوائم العرش ايقول إخذ بقائمة من قوائم المللك وكلا القولين لا يقولهما من له ادنى ذوق وكذا يقول : ايقول في : اهتز عرش الرحمن الحديث اهتز ملك الرحمن وسلطانه وفيما رواه البخارى وغيره عن أبى هريرة مرفوعا لما قضى الله تعالى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتى سبقت غضبى فهو عنده سبحانه وتعالى فوق الملك والسلطان وهذا كذينك القولين والاستواء على الشئ جاء بمعنى الأرتفاع والعلو عليه وبمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى واستوت على الجودى ولتستوا واعلى طهوره وحيث كان ظاهر ذلك مستحيلا عليه
(16/154)

تعالى قيل : الأستواء هنا بمعنى الأستيلاء كما في قوله :
قد استوى بشر على العراق
وتعقب بأن الأستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وذلك محال في حقه تعالى وأيضا إنما يقال : استولى فلان على كذا إذا كان له منازغ ينازعه وهو في حقه تعالى محال ايضا وأيضا إنما يقال ذلك إذا كان المستولى عليه موجودا قبل والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه سبحانه وأيضا الأستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة
واجاب الأمام الرازى بأنه إذا فسر الأستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية ولا يخفى حال هذا الجواب على المنصف وقال الزمخشرى : لما كان الأستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على العرش يريدون ملك وان لم يقعد على العرش البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر ونحوه قولك : يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد راسا قيل فيه يده مبسوطة لمساوته عندهم قولهم : جواد ومنه قوله تعالى وقالت اليهود يد الله الآية عنوا الوصف بالبخل ورد عليهم بأنه جل جلاله جواد من غير تصور يد ولاغل ولابسط انتهى وتعقبه الأمام قائلا : انا لو فتحنا هذا الباب لا نفتحت تأويلات الباطنية فانهم يقولون ايضا : المراد من قوله تعالى اخلع نعليك الأستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل وقوله تعالى يا نار كونى بردا وسلاما على ابراهيم المراد منه تخصيص ابراهيم عليه السلام عن يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب النصراف عنه وليت من لم يعرف شيئا لم يخض فيه انتهى ولا يخفى عليك أنه لا يلزم من فتح الباب في هذه الآية انفتاح تأويلات الباطنية فيما ذكر من الآيات إذ لا داعى لها هناك والداعى للتأويل بما ذكره الزمخشرى قوى عنده ولعله الفرار من لزوم المحال مع رعاية جزالة المعنى فان ما اختاره اجزل اجزل من معنى الاستيلاء سواء كان معنى حقيقيا للاستواء كما ظاهر كلام الصحاح والقاموس وغيرهما أو مجازيا كما هو ظاهر جعلهم الحمل عليه تأويلا واستدل الأمام على بطلان ارادة المعنى الظاهر بوجوه الأول أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولما خلق الخلق لم يحتج إلى ما كان غنيا عنه الثانى أن المستقر على العرش لابد وان يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الجزء الحاصل منه في يساره فيكون سبحانه وتعالى في نفسه مؤلفا وهو محال في حقه تعالى للزوم الحدوث الثالث أن المستقر على العرش أما أن يكون متمكنا من الأنتقال والحركة ويلزم حينئذ أن يكون سبحانه وتعالى محل الحركة والسكون وهو قول بالحدوث أو لا يكون متمكنا من ذلك فيكون جل وعلا كالزمن بل اسوأ حالا منه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا الرابع أنه أن قيل بتخصيصه سبحانه وتعالى بهذا المكان وهو العرش احتيج إلى مخصص وهو افتقار ينزه الله تعالى عنه وان قيل بأنه عز و جل يحصل بكل مكان لزم مالا يقوله عاقل الخامس أن قوله تعالى ليس كمثله شئ عام في نفى المماثلة فلو كان جالسا لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ تبطل الآية السادس أنه تعالى لو كان مستقرا على العرش لكان محمولا
(16/155)

للملائكة لقوله تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية وحامل حامل الشئ حامل لذلك الشئ وكيف يحمل المخلوق خالقه السابع أنه لو كان المستقر في المكان الها ينسد باب القدح في الهية الشمس والقمر الثامن أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى قوم هي تحت بالنسبة إلى أخرين وبالعكس فيلزم من اثبات جهة الفوق للمعبود سبحانه اثبات الجهة المقابلة لها أيضا بالنسبة إلى بعض زباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال : المعبود تحت
التاسع أن الامة اجمعت على أن قوله تعالى قل هو الله أحد من المحكمات وعلى فرض الاستقرار على العرش يلزم التركيب والانقسام فلا يكون سبحانه وتعالى أحدا في الحقيقة فيبطل ذلك المحكم
العاشر أن الخليل عليه السلام قال لا احب الافلين فلو كان تعالى مستقرا على العرش لكان جسماآ فلا ابدا فيندرج تحت عموم هذا القول انتهى : ثم أنه عفا الله تعالى عنه ضعف القول بانا نقطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به الظاهر بل مراده سبحانه شئ أخر ولكن لا نعين ذلك المراد خوفا من الخطأ بأنه عز و جل لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا نريد باللفظ إلا موضوعه في لسانهم وإذا كان لا معنى للاستواء في لسانهم إلا الأستقرار والأستيلاء وقد تعذر حمله على الأستقرار فوجب حمله على الاستيلاء والالزوم تعطيل اللفظ وانه غير جائز والى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض فتاويه : طريقة التأويل بشرطه وهو قرب التأويل اقرب إلى الحق لأن الله تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه وقد نصب الادلة على مراده من ايات كتابه لأنه سبحانه قال ثم أن علينا بيانهولتبين للناس ما نزل اليهم وهذا عام في جميع ايات القرآن فمن وقف على الدليل افهمه الله تعالى مراده من كتابه وهو اكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون وفيه توسط في المسئلة
وقد توسط ابن الهمام في المسليرة وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصرينا ابن عابدين الشامى في رد المختار حاسية الدار المختار توسطا اخص من هذا التوسط فذكر ما حاصله وجوب الأيمان بأنه تعالى استوى على العرش مع نفى التشبيه وأما كون المراد استولى فأمر جائز الأرادة لا واجبها إذ لا دليل عليه وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الأستلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسيمة فلا باس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء فانه قد ثبت اطلاقه عليه لغة في قولع : فلما علونا واستوينا عليهم جعلناهم مرعى لنسر وطائر وقوله قد استوى بشر البيت المشهور وعلى نحو ما ذكر كل ما ورد مما ظاهره الجسيمة في الشاهد كالأصبع والقدم واليد ومخلص ذلك التوسط في القريب بين أن تدعو الحاجة اليه لخلل في فهم العوام وبين أن لا تدعو لذلك ونقل احمد زروق عن أبى حامد أنه قال : لا خلاف في وجوب التأويل عند تعين شبهة لا ترتفع إلا به وانت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام واساطين الاسلام الامساك عن التأويل مطلقا مع نفى التشبيه والتجسيم منهم الأمام أبو حنيفة والأمام مالك والأمام احمد والأمام الشافعى ومحمد بن الحسن وسعد بن معاذ المروزى وعبد الله بن المبارك وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سيفان الثورى واسحاق بن راهويه ومحمد بن اسمعيل البخارى والترمذى وأبو داود السجستانى
ونقل القاضى أبو العلاء صاعد بن محمد في كتاب الاعتقاد عن أبى يوسف عن الأمام أبى حنيفة أنه قال : لا ينبغى لأحد أن ينطق في الله تعالى بشئ من ذاته ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه ولا يقول فيه
(16/156)

برأيه شيئا تبارك الله تعالى رب العالمين
وأخرج ابن أبى حاتم في مناقب الشافعى عن يونس بن عبد الاعلى قال : سمعت الشافعى يقول الله تعالى اسماء وصفات لا يسع احدا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر وأما قبل قيام الحجة فانه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر فنثبت هذه الصفات وننفى عنها التشبيه كما نفى سبحانه عن نفسه فقال ليس كمثله شئ وذكر الحافظ ابن حجر في فتح البارى أنه قد اتفق على ذلك أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلى الله تعالى عليه وسلم وكلام امام الحرمين في الارشاد يميل إلى طريقة التأويل وكلامه في الرسالة النظامية مصرح باختياره طريقة التفويض حيث قال فيها : والذي نرتضيه رايا وندين به عقدا اتباع سلف الامة فالأولى الأتباع وترك الابتداع والدليل السمعى القاطع في ذلك اجماع الصحابة رضى الله تعالى عنهم فانهم درجوا على ترك التعرض لمعانى المتشابهات مع أنهم كانوا لا يالون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصى بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون اليه منها فلو كان تأويل هذه الظواهر مسنونا أو محتوما لا وشك أن يكون اهتمامهم بها فوق الأهتمام بفروع الشريعة وقد اختاره أيضا الأمام أبو الحسن الاشعرى في كتابه الذى صنفه في اختلاف المضلين ومقالات الاسلاميين وفي كتابه الابانة في اصول الديانة وهو أخر مصنفاته فيما قيل : وقال البيضاوى في الطوالع : والأولى اتباع السلف في الأيمان بهذه الأشياء يعنى المتشابهات ورد العلم إلى الله تعالى بعد نفى ما يقتضى التشبيه والتجسيم عنه تعالى انتهى
وعلى ذلك جرى محققو الصوفية فقد نقل عن جمع منهم أنهم قالوا : أن الناس ما احتاجوا إلى تأويل الصفات إلا من ذهولهم عن اعتقاد أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق وإذا كانت مخالفة فلا يصح في ايات الصفات قط تشبيه إذ التشبيه لا يكون إلا مع موافقة حقيقته تعالى لحقائق خلقه وذلك محال
وعن الشعر انى أن من احتاج إلى التأويل فقد جهل اولا واخرا أما اولا فبتعقله صفة التشبيه في جانب الحق وذلك محال وأما اخرا فلتأويله ما أنزل الله تعالى على وجه لعله لا يكون مراد الحق سبحانه وتعالى
وفي الدرر المنثورة له أن المؤول انتقل عن شرح الأستواء الجثمانى على العرش المكانى بالتنزيه عنه إلى التشبيه بالأمر السلطانى الحادث وهو الأستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث إخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى : ليس كمثله شئ إلا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلى في الأستواء بقول الشاعر :
قد استوى البيت واين استواء بشر على العراق من استواء الحق سبحانه وتعالى على العرش فالصواب أن يلزم العبد الأدب مع مولاه ويكل معنى كلامه اليه عز و جل
ونقل الشيخ ابراهيم الكورانى في تنبيه العقول عن الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال في الفتوحات اثناء كلام طويل عجيب فيه من الاشاعرة والمجسمة : الأستواء حقيقة معقولة معنوية تنسب إلى كل ذات بحسب ما تعطيه حقيقة تلك الذات ولا حاجة لنا إلى التكلف في صرف الأستواء عن ظاهره والفقير قد رأى في الفتوحات ضمن كلام طويل أيضا في الباب الثالث منها ما نصه ماضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الفهم من غير نظر فيما يجب لله تعالى من التنزيه فقادهم ذلك إلى الجهل المحض والكفر الصراح ولو طلبوا السلامة وتركوا الأخبار والآيات على ماجاءت من غير عدول منهم فيها إلى شئ البتة ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ويقولون :
(16/157)

لا ندرى كان يكفيهم قول الله سبحانه وتعالى : ليس كمثله شئ ثم ذكر بعد في الكلام على قوله صلى الله عليه و سلم : الذي رواه مسلم : إن قلوب بنى إدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف شاء التخيير بين التفويض لكن بشرط نفى الجارحة ولا بد وتبيين ما في ذلك اللفظ من وجوه التنزيه وذكر أن هذا واجب على العالم عند تعينه في الرد على بدعى مجسم مشبهوقال أيضا فيما رواه عنه تلميذه المحقق اسمعيل بن سودكين في شرح التجليات : ولا يجوز للعبد أن يتاول ما جاء من اخبار السمع لكونها لا تطابق دليله العقلى كاخبار النزول وغيره لأنه لو خرج الخطاب عما وضع له لما كان به فائدة وقد علمنا أنه عليه الصلاة و السلام ارسل ليبين للناس ما أنزل اليهم ثم رايناه صلى الله عليه و سلم مع فصاحته وسعة علمه وكشفه لم يقل لنا أنه تنزل رحمته تعالى ومن قال تنزل رحمته فقد حمل الخطاب على الأدلة العقلية والحق ذاته مجهولة فلا يصح الحكم عليه بوصف مقيد معين والعرب تفهم نسبة النزول مطلقا فلا تقيده بحكم دون حكم وحيث تقرر عندها أنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شئ يحصل لها المعنى مطلقا منزها وربما يقال لك هذا يحيله العقل فقل الشأن هذا إذا صح أن يكون الحق من مدركات العقول فانه حينئذ تمضى عليه سبحانه وتعالى احكامها انتهى وقال تلميذه الشيخ صدر الدين القونوى في مفتاح الغيب بعد بسط كلام في قاعدة جليلة الشأن حاصلها أن التغاير بين الذوات يستدعى التغاير في نسبة الأوصاف اليها ما نصه : وهذه قاعدة من عرفها أو كشف له عن سرها عرف سر الآيات والاخبار التي توهم التشبيه عند أهل العقول الضعيفة واطلع على المراد منها فيسلم من ورطتى التأويل والتشبيه وعاين الأمر كما ذكر مع كمال التنزيه انتهى وخلاصة الكلام في هذا المقام أنه قد ورد في الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة الفاظ توهم التشبيه والتجسيم وما لا يليق بالله تعالى الجليل العظيم فتشبث المجسمة والمشبهة بما توهمه فضلوا واضلوا ونكبوا عن سواء السبيل وعدلوا وذهب جمع إلى أنهم هالكون وبربهم كافرون وذهب أخرون إلى أنهم مبتدعون وفصل بعض فقال : هم كفرة أن قالوا : هو سبحانه وتعالى جسم كسائر الأجسام ومبتدعة أن قالوا : جسم لا كالاجسام وعصم الله تعالى أهل الحق مما ذهبوا اليه وعولوا في عقائدهم عليه فاثبتت طائفة منهم ما ورد كما ورد مع كمال التنزيه المبراعن التجسيم والتشبيه فحقيقة الأستواء مثلا منسوب اليه تعالى شاته لا يلزمها ما يلزم في الشاهد فهو جل وعلا مستو على العرش مع غناه سبحانه وتعالى عنه وحمله بقدرته للعرش وحملته وعدم مماسة له أو انفصال مسافى بينه تعالى وبينه ومتى صح للمتكلمين أن يقولوا : أنه تعالى ليس عين العالم ولا داخلا فيه ولاخارجا عنه مع أن البداهة تكاد تقضى ببطلان ذلك بين شئ وشئ صح لهؤلاء الطائفة أن يقولوا ذلك في استوائه تعالى الثابت بالكتاب والسنة فالله سبحانه وصفاته وراء طور العقل فلا يقبل حكمه إلا فيما كان في طور الفكر فان القوة المفكرة شأنها التصرف فيما في الخيال والحافظة من صور المحسوسات والمعانى الجزئية ومن ترتيبها على القانون يحصل للعقل علم أخر بينه وبين هذه الأشياء مناسبة وحيث لا مناسبة بين ذات الحق جل وعلا وبين شئ لا يستنتج من المقدمات التي يرتبها العقل معرفة الحقيقة فاكف الكيف مشلولة واعناق التطاول إلى معرفة الحقيقة مغلولة واقدام السعى إلى التشبيه مكبلة واعين الابصار والبصائر عن الادراك والاحاطة مسملة : مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد وقد أخرج اللالكائى في كتاب السنة من طريق الحسن عن امه عن ام سلمة انها قالت : الأستواء غير
(16/158)

مجهول والكيف غير معقول والاقرار به ايمان والجحود به كفر ومن طريق ربيعة بن عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش فقال : الأستواء غير مجهول والكيف غير معقول وعلى الله تعالى ارساله وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم ومتى قالوا بنفى اللوازم بالكلية اندفع عنهم ما تقدم من الاعتراضات وحفظوا عن سائر الافات وهذه الطائفة قيل هم السلف الصال وقيل : أن السلف بعد نفى ما يتوهم من التشبيه يقولون : لا ندرى ما معنى ذلك والله تعالى أعلم بمراده واعترض بأن الآيات والأخبار المشتملة على نحو ذلك كثيرة جدا ويبعد غاية البعد أن يخاطب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم العباد فيما يرجع إلى الأعتقاد بما لا يدرى معناه وأيضا قد ورد في الأخبار ما يدل على فهم المخاطب المعنى من مثل ذلك فقد أخرج أبو نعيم عن الطبرانى قال : حدثنا عياش ابن تميم حدثنا يحيى بن ايوب المقابرى حدثنا سام بن سالم حدثنا خاجة بن مصعب عن زيد بن اسلم عن عطاء ابن يسار عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أن الله تعالى يضحك من ياس عباده وقنوطهم وقرب الرحمة منهم فقلت : يأبى انت وامى يا رسول الله أو يضحك ربنا قال : نعم والذي نفسى بيده أنه ليضحك قلت : فلا يعد منا خيرا إذا ضحك فانها رضى الله تعالى عنها لو لم تفهم من ضحكه تعالى معنى لم تقل ما قالت
وقد صح عن بعض السلف أنهم فسروا ففى صحيح البخارى قال مجاهد : استوى على العرش علا على العرش وقال أبو العالية : استوى على العرش ارتفع وقيل : أن السلف قسمان قسم منهم بعد أن نفوا التشبيه عينوا المعنى الظاهر المعرى عن اللوازم وقسم راوا صحة تعيين ذلك وصحة تعيين معنى أخر لا يستحيل عليه تعالى كما فعل بعض الخلف فراعوا الأدب واحتاطوا في صفات الرب فقالوا : لا ندرى ما معنى ذلك أي المعنى المراد له عز و جل والله تعالى أعلم بمراده
وذهبت طائفة من المنزهين عن التشبيه والتجسيم إلى أنه ليس المراد الظواهر مع نفى اللوازم بل المراد معنى معين هو كذا وكثيرا مايكون ذلك معنى مجازيا وقد تكون معنى حقيقيا للفظ وهؤلاء جماعة من الخلف وقد يتفق لهم تفويض المراد اليه جل وعلا أيضا وذلك إذا تعددت المعانى المجازية أو الحقيقية التي لا يتوهم منها محذور ولم يقم عندهم قرينة ترجح واحدا منها فيقولون : يحتمل اللفظ كذا وكذا والله تعالى أعلم بمراده من ذلك ومذهب الصوفية على ما ذكرة الشيخ ابراهيم الكورانى وغيره اجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفى اللوازم والتنزيه بليس كمثله شئ كمذهب السلف الأول وقولهم بالتجلى في المظاهر على هذا النحو وكلام الشيخ الأكبر قدس سره في هذا المقام مضطرب كما يشهد بذلك ما سمعت نقله عنه اولا مع ما ذكرة في الفصل الثانى من الباب الثانى من الفتوحات فانه قال في عد الطوائف المنزهة : وطائفة من المنزهة أيضا وهى العالية وهم اصحابنا فرغوا قلوبهم من الفكر والنظر واخلوها وقالوا : حصل في نفوسنا من تعظيم الله تعالى الحق جل جلاله بحيث لا نقدر أن نصل إلى معرفه ما جاءنا من عنده بدقيق فكر ونظر فاشبهوا في هذا العقد المحدثين السالمة عقائدهم حيث لم ينظروا ولم يؤولؤا بل قالوا : ما فهمنا فقال اصحابنا بقولهم ثم انتقلوا عن مرتبة هؤلاء بأن قالوا : لنا أن نسلك طريقة اخرى في فهم هذه الكلمات وذلك بأن نفرغ قلوبنا من النظر الفكرى ونجلس مع الحق تعالى بالذكر على بساط الاديب والمراقبة والحضور والتهئ لقبول ما يرد منه تعالى حتى يكون الحق سبحانه وتعالى متولى تعليمنا بالكشف والتحقق
(16/159)

لما سمعوه تعالى يقول واتقوا الله ويعلمكم الله وان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وقل ربى زدني علما وعلمناه من لدنا علما فعندما توجهت قلوبهم وهممهم إلى الله عز و جل ولجأت اليه سبحانه وتعالى والقت عنها ما استمسك به الغير من دعوىالبحث والنظر ونتائج العقول كانت عقولهم سليمه وقلوبهم مطهرة فارغة فعند ماكان منهم هذا الأستعداد تجلى لهم الحق عيانا معلما فاطلعتهم تلك المشاهدة على معاني تلك الكلمات دفعة واحدة فعرفوا المعنى التنزيهي الذي سيقت له ويختلف ذلك بحسب اختلاف مقامات ايرادها وهذا حال طائفة منا وحال طائفة اخرى منا أيضا ليس لهم هذا التجلى لكن اهم الالقاء والالهام واللقاء والكتاب وهم معصومون فيما يلقى اليهم بعلامات عندهم لا يعرفها سواهم ويخبرون بما خوطبوا به وبما الهموا وما القى اليهم أو كتب اه المراد منه ولعل من يقول باجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفى اللوازم كمذهب السلف الأول من الصوفيه طائفة لم يحصل لهم ما حصل لهاتين الطائفين والفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء هذا بقى يسمى ما عليه السلف تأويلا ام لا المشهور عدم تسمية ما عليه المفوضة منهم تأويلا وسماه بعضهم تأويلا كالذي عليه الخلف قال اللقانى : اجمع الخلف ويعبر عنه بالمؤوله والسلف ويعبر عنهم بالمفوضة على تنزيهه تعالى عن المعنى المحاد الذي دل عليه الظاهر وعلى تأويله وأخراجه عن ظاهره المحال وعلى الأيمان به بأنه من عند الله تعالى جاء به رسوله صلى الله عليه و سلم وإنما اختلفوا في تعيين محمل له معنى صحيح وعدم تعينه بناء على أن الوقف على قوله تعالى والراسخون في العلم أو على قوله سبحانه الا الله ويقال لتأويل السلف اجمالى ولتأويل الخلف تفصيلي انتهى ملخصا
وكان شيخنا العلامة علاء الدين يقول : ما عليه المفوضة تأويل واحد وما عليه المؤوله تأويلان ولعله راجع إلى ما سمعت واماما عليه القائلون بالظواهر مع نفي اللوازم وظاهر الالفاظ انفسها تقتضيها ففيه أخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر وأخراج اللفظ عن ذلك لدليل ولو مرجوحا تأويل ومعنى كونه قائلين بالظواهر أنهم قائلون بها في الجملة وقيل : لا تأويل فيه لأنه يعتبرون اللفظ من حيث نسبتعم اليه عز شأنه وهو من هذه الحيثية لا يقتضى اللوازم فليس هناك أخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر إلا ترى أن أهل السنة والجماعة اجمعوا على رؤية الله تعالى في الآخرة مع نفي لوازم الرؤيا في الشاهد من المقابلة والمسافة المخصوصة وغيرهما مع أنه لم يقل أحد منهم : أن ذلك من التأويل في شئ وقال بعض الفضلاء : كل من فسر فقد أول وكل من لم يفسر لم يؤول لأن التأويل هو التفسير فمن عدا المفوضة مؤولة وهو الذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به بناء على أن الوقف على الا الله ولا يخفى أن القول بأن القائلين بالظواهر مع نفى اللوازم من المؤوله الغير الداخلين في الراسخين في العلم بناء على الوقف المذكور لا يتسنى مع القول بانهم من السلف الذين هم هم وقد يقال : أنهم داخلون في الراسخين والتأويل بمعنى أخر يظهر بالتتبع والتامل وقد تقدم الكلام في المراد بالمتشابهات وذكرنا ما يفهم منه الأختلاف في معنى التأويل وانا اميل إلى التأويل وعدم القول بالظواهر مع نفى اللوازم في بعض ما ينسب إلى الله تعالى مثل قولهم سبحانه سنفرغ لكم ايها الثقلان وقوله عز و جل يا حسرة على العباد كما في بعض القراات وكذا قوله صلى الله عليه و سلم أن صح : الحجر الاسود يمين الله في ارضه فمن قبله أو صافحه فكانما صافح الله تعالى وقبل يمينه فاجعل الكلام فيه خارجا مخرج التشبيه لظهور القرينة ولا اقول : الحجر الاسود من صفاته تعالى كما قال السلف
(16/160)

في اليمين وارى من يقول بالظواهر ونفى اللوازم في الجميع بينه وبين القول بوحدة الوجود على الوجه الذي قاله محققو الصوفية مثل ما بين سواد العين وبياضها واميل أيضا إلى القول بتقبيب العرش لصحة الحديث في ذلك والأقرب إلى الدليل العقلى القول بكريته ومن قال بذلك اجاب عن الاخبار السابقة بما لا يخفى على الفطن
وقال الشيخ الأكبر محي الدين قدس سره في الباب الحادى والسبعين والثلاثمائة من الفتوحات : أنه ذو اركان اربعة ووجه اربعة هي قوائمه الاصليه وبين كل قائمتين قوائم وعددها معلوم عندنا ولاابينها إلى أخر ما قال ويفهم كلامه أن قوائمه ليست بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن وصرح بأنه أحد حملته وانه أنزل عند افضل القوائم وهي خزانة الرحمه وذكر أن العمى محيط به وان صورة العالم بجملته صورة دائرة فلكية واطال الكلام في هذا الباب واتى فيه بالعجب العجاب وليس له في اكثر ما ذكره فيه مستند نعلمه من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ومنه ما لا يجوز لنا أن نقول بظاهره والظاهر أن العرش واحد وقال من قال من الصوفية بتعدده ولا يخفى ما في نسبة الأستواء اليه تعالى بعنوان الرحمانية مما يزيد قوة الرجاء به جل وعلا وسبحان من وسعت رحمته كل شئ
وجعل فاعل والاستواء ما في قوله تعالى : له ما في السموات وما في الأرض و له متعلق به على ما يقتضيه ما روى عن ابن عباس من أن الوقف على العرش ويكون المعنى استقام له تعالى كل ذلك وهو على مراده تعالى بتسويته عز و جل إياه كقوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات أو استوى كل شئ بالنسبه اليه تعالى فلا شئ اقرب اليه سبحانه من شئ كما يشير اليه لا تفضلونى على ابن متى مما لا ينبغى أن يلتفت اليه اصلا والرواية عن ابن عباس غير صحيحة ولعل الذي دعى القائل به اليه الفرار من نسبة الأستواء اليه جل جلاله وياليتى شعرى ماذا يصنع بقوله تعالى : الرحمن على العرش استوى وهو بظاهره الذي يظن مخالفته لما يقتضيه عقله مثل الرحمن على العرش استوى بل له خبر مقدم و ما في السماوات مبتدأ مؤخر أي له عز و جل وحده دون غيره لا شركة ولا استقلالا من حيث الملك والتصرف والأحياء والاماتة والايجاد والاعدام جميع ما في السموات والأرض سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما وما بينهما من الموجودات الكائنة في الجو دائما كالهواء والسحاب وخلق لا نعلمهم هو سبحانه يعلمهم أو اكثريا كالطير الذي نراه وما تحت الثرى
6
- أي ما تحت الأرض والسابعة على ما روى عن ابن عباس وأخرجه ابن أبى حاتم عن محمد بن كعب وأخرج عن السدى أنه الصخرة التي تحت الأرض السابعه وهي صخرة خضراء وأخرج أبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه و سلم سئل ما تحت الأرض قال : الماء قيل : فما تحت الماء قال : ظلمة قيل فما تحت الظلمة قال : الهواء قيل : الثرى قيل : فما تحت الثرى قال : انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق
وأخرج ابن مردويه عنه نحوه من حديث طويل وقال غير واحد الثرى التراب الندى أو الذي إذا بل لم يصر طينا كالثريا ممدودة ويقال : في تثنيته ثريان وثروان وفي جمعه اثراء ويقال : ثريت الأرض كرضى تثرى ثرى فهي ثرية كغنية وثرياء إذا ندية ولانت بعد الجدوبة واليبس واثرت كثر ثراؤها وثرى التربة تثرية
(16/161)

بلها والمكان رشه وفلانا الزم يده الثرى وفسر بمطلق التراب أي وله تعالى ما واراه التراب وذكرة مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادة التقرير وإذا كان ما في الأرض ما هو عليه فالأمر ظاهر وما تقدم من الأشارة إلى أن المراد له تعالى كل ذلك ملكا وتصرفا هو الظاهر
وقيل : المعنى له علم ذلك أي أن علمه تعالى محيط بجميع ذلك والأول هو الظاهر وعليه يكون قوله تعالى وإن تجهر بالقول الخ بيان لاحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء اثر بيان شمول قدرته تعالى لجميع الكائنات والخطاب على ما قاله في البحر للنبى صلى الله عليه و سلم والمراد امته عليه الصلاة و السلام وجوز أن يكون عاما وان ترفع صوتك ايها الانسان بالقول فانه يعلم السر أي ما اسررته إلى غيرك ولم ترفع صوتك به واخفى
7
- أي وشيئا اخفى منه وهو ما اخطرته ببالك من غير أن تتفوه به اصلا وروى ذلك عن الحسن وعكرمه أو ما ايررته في نفسك وما ستسره فيها وروى ذلك عن سعيد بن جبير وروى عن السيدين الباقر والصادق السر ما اخفيته في نفسك والاخفى ما خطر ببالك ثم انسيته
وقيل : اخفى فعل ماض عطف على يعلم يعنى أنه تعالى يعلم اسرار العباد واخفى ما يعلمه سبحانه عنهم وهو كقوله تعالى يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وروى ذلك أبو الشيخ في العظمه عن زيد بن اسلم وهو خلاف الظاهر جدا فالمعول عليه أنه افعل تفضيل والتنكير للمبالغة في الخفاء والمتبادر من القول ما يشمل ذكر الله تعالى وغيره واليه ذهب بعضه وخصه جماعة بذكره سبحانه ودعائه على أن التعريف للعهد لأن استواء الجهو والسر عنده سبحانه المدلول عليه في الكلام يقتضى أن الجهر المذكور في خطابه عز و جل وعلى القولين قوله تعالى فانه الخ قائم مقام جواب الشرط وليس الجواب في الحقيقة لأن علمه تعالى السر واخفى ثابت قبل الجهر بالقول وبعده وبدونه
والأصل عند البعض وان يجهر بالقول فاعلم أن الله تعالى يعلمه فانه يعلم السر واخفى فضلا عنه وعند الجماعة وان تجهر فاعلم أن الله سبحانه غنى عن جهرك فانه الخ وهذا على ما قيل إرشاد للعباد إلى التحري والاحتياط حين الجهر فان من علم أن الله تعالى يعلم جهره أن لم يجهر بسوء وخص الجهر بذلك لأن اكثر المحاورات ومخاطبات الناس به وقيل : إرشاد للعباد إلى أن الجهر بذكر الله تعالى ودعائه ليس لاسماعه سبحانه بل لغرض أخر من تصوير النفس بالذكر وتثبيته فيها ومنعها من الأشتغال بغيرها وقطع الوسوسة وغير ذلك وقيل : نهى عن الجهر بالذكر والدعاء كقوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول وانت تعلم أن القول بأن الجهر بالذكر والدعاء منهى لا ينبغى أن يكون على اطلاقه
والذي نص عليه الأمام النووى في فتاويه أن الجهر بالذكر حيث لا محذور شرعيا مشروع مندوب اليه بل هو افضل من الأخفاء في مذهب الأمام الشافعى وهو ظاهر مذهب الأمام احمد واحدى الروايتين عن الأمام مالك بنقل الحافظ ابن حجر في فتح البارى وهو قول لقا ضيخان في فتاويه في ترجمة مسائل كيفية القراءة وقوله في باب غسل الميت : ويكره رفع الصوت بالذكر فالظاهر أنه لمن يمشي مع الجنازة كما هو مذهب الشافعية لا مطلقا كما تفهمه عبارة البحر الرائق وغيره وهو قول الأمامين في تكبير عيد الفطر كالاضحى ورواية عن الأمام أبى حنيفة نفسه رضى الله تعالى عنه بل في مسنده ما ظاهره استحباب الجهر بالذكر مطلقا نعم قال
(16/162)

ابن نجيم في البحر نقلا عن المحقق ابن الهمام في فتح القدير ما نصه قال أبو حنيفه : رفع الصوت بالذكر بدعة مخالفة للأمر من قوله تعالى واذكر ربك في نفسك الآية فيقتصر على مورد الشرع وقد ورد بة في الاضحى وهوقوله سبحانه واذكروا الله في ايام معدودات
واجاب السيوطي في نتيجة الذكر عن الأستدلال بالاية السابقة بثلاثة اوجه الأول انها مكية ولما هاجر صلى الله عليه و سلم سقط ذلك الثاني أن جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن اسلم وابن جرير حملوا الآية على الذر حال قراءة القرآن وانه أمر له عليه الصلاة و السلام بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقران أن ترفع عنده الاصوات ويقويه اتصالها بقوله تعالى وإذ قرئ القرآن الآية الثالث ما ذكره بعض الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبى صلى الله عليه و سلم الكامل المكمل وأما غيره عليه الصلاة و السلام ممن هو محل الوساوس فمامور بالجهر لأنه اشد تاثيرا في دفعها وفيه ما فيه
واختار بعض المحققين أن المراد دون الجهر البالغ أو الزائد على قدر الحاجة فيكون الجهر المعتدل والجهر بقدر الحاجة داخلا في المامور به فقد صح ما يزيد على عشرين حديثا في أنه صلى الله عليه و سلم كثيرا ما كان يجهر بالذكر وصح عن أبى الزبير أنه سمع عبد الله ابن الزبير يقول : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سلم من صلاته يقول بصوته الاعلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير لا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعبد إلا إياه له النعمه وله الفضل وله الفناء الحسن لا اله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون وهو محمول على اقتضاء حاجة التعليم ونحوه لذلك وما في الصحيحين من حديث أبى موسى الأشعرى قال : كنا مع النبى صلى الله عليه و سلم وكنا إذا اشرفنا على واد هللنا وكبرنا وارتفعت اصواتنا فقال النبى صلى الله عليه و سلم : يا ايها الناس اربعوا على أنفسكم فانكم لا تدعون اصم ولا غائبا أنه معكم أنه سميع قريب محمول على أن النهى المستفاد التزاما من أمر اربعوا الذي بمعنى ارفقوا ولا تجهدوا أنفسكم مراد به النهى عن المبالغة في رفع الصوت وبتقسيم الجهر واختلاف اقسامه في الحكم يجمع بين الروايتين المختلفتين عن الأمام أبى حنيفة وما ذكر في الواقعات عن ابن مسعود من أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال : ما اراكم إلا مبتدعين حتى أخرجه من المسجد لا يصح عند الحفاظ من الأئمة المحدثين وعلى فرض صحته هو معارض بما يدل على ثبوت الجهر منه رضى الله تعالى عنه مما رواه غير واحد من الحفاظ أو محمول على الجهر البالغ وخبر خير الذكر الخفى وخير الرزق أو العيش ما يكفي صحيح
وعزاه الأمام السيوطي إلى الأمام احمد وابن حيان والبيهقي عن سعد ابن أبى وقاص وعزاه أبو الفتح في سلاح المؤمن إلى أبى عوانه في مسنده الصحيح أيضا وهو محمول على من كان في موضع يخاف فيه الرياء أو الأعجاب أو نحوهما وقد صح أيضا أنه عليه الصلاة و السلام جهر بالدعاء وبالمواعض لكن قال غير واحد من الأجلة : أن اخاء الدعاء افضل وحد بالجهر على ما ذكره ابن حجر الهيتمى في المنهج القويم أن يكون بحيث يسمع غيره والأسرار بحيث يسمع نفسه وعند الحنفيه في رواية ادنى الجهر اسماع نفسه وادنى المخافتة تصحيح الحروف وهو قول الكرخى
وفي كتاب الأمام محمد إشارة اليه والأصح كما في المحيط قول الشيخين الهندوانى والفضلى هو الذي عليه الأكثر أن أدنى الجهر اسماع غيره وأدنى المخافتة إسماع نفسه ومن هنا قال في فتح القدير : إن تصحيح
(16/163)

الحروف بلا صوت إيماء إلى الحروف بعضلات المخارج لا حروف إذ الحروف كيفية تعرض للصوت فاذا انتفى الصوت المعروف انتفى الحرف العارض وحيث لا حرف فلا كلام بمعنى المتكلم به فلا قراءة بمعنى التكلم الذي هو فعل اللسان فلا مخافتة عند انتفاء الصوت كما لا جهر انتهى محررا وقد ألف الشيخ ابراهيم الكورانى عليه الرحمة في تحقيق هذه المسألة رسالتين جليلتين سمى اولاهما نشر الزهر في الذكر بالجهر وثانيتهما باتحاف المنيب الاواه بفضل الجهر بذكر الله رد فيها على بعض أهل القرن التاسع من علماء الحنفية من اعيان دولة ميرزا الغ بيك بن شاه دخ الكوركانى حيث اطلق القول بكون الجهر بالذكر بدعة محرمة والف في ذلك رسالة ولعله ياتى أن شاء الله تعالى زيادة بسط لتحقيق هذه المسألة والله تعالى الموفق
وقوله سبحانه الله خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مسوق لبيان أن ماذكر من صفات الكمال موصوفها ذلك المعبود الحق أي ذلك المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة عز و جل وقوله تعالى : لا اله إلا هو تحقيق بالحق وتصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الالوهيه به سبحانه فانما اسند اليه عز شأنه من خلق جميع الموجودات والعلو اللائق بشأنه على جميع المخلوقات والرحمانية والمالكية للعلويات والسفليات والعلم الشامل بما يقتضيه اقتضاء بينا وقبله تبارك اسمه له الأسماء الحسنى
8
- بيان لكون ما ذكر من الخالقية وغيرها اسماءه تعالى وصفاته من غير تعدد في ذاته تعالى وجاء الأسم بمعنى الصفة ومنه قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء قل سموهم والحسنى تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة وقيل : تضمنها الأشارة إلى عدم التعدد حقيقة بناء على عدم زيادة صفاته تعالى على ذاته واتحادها معها وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في غاية الظهور وجوز أبو حيان كون الأسم الجليل مبتدأ وجملة لا اله إلا هو خبره وجملة له الأسماء الحسنى خبر بعد خبر وظاهر صنيعه يقتضى اختياره لأنه المتبادر للذهن ولا يخفى على المتأمل أولية ما تقدم وقوله تعالى وهل أتاك حديث موسى
9
- مسوق لتقرير أمر التوحيد الذي انتهى اليه مساق الحديث وبيان أنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء عليهم السلام كابرا عن كابر وقد خوطب به موسى عليه السلام حيث قيل له اننى انا الله لا اله إلا انا وبه ختم عليه السلام مقاله حيث قال : انما الهكم الله الذي لا اله إلا هو وقيل : نسوق لتسليته صلى الله عليه و سلم كقوله تعالى : ما انزلنا عليك القرآن لتشقى بناء على ما نقل عن مقاتل في سبب النزول إلا أن الأول تسلية له عليه الصلاة و السلام برد ما قاله قومه وهذا تسلية له صلى الله عليه و سلم بأن اخوانه من الأنبياء عليهم السلام قد عراهم من اممهم ما عراهم وكانت العاقبة لهم وذكر مبدأ نبوة موسى عليه السلام نظير ما ذكر انزال القرآن عليه عليه الصلاة و السلام
وقيل : مسوق بترغيب النبى صلى الله عليه و سلم في الائتساء بموسى عليه السلام في تحمل اعباء النبوة والصبر على مقاساة الخطوب في تبليغ احكام الرسالة بعد ما خاطبه سبحانه بأنه كلفه التبليغ الشاق بناء على أن معنى قوله تعالى ما انزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى انا انزلنا عليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاه من اعداء الاسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من انواع المشاق وتكليف النبوة وما انزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة فالواو كما قاله غير واحد لعطف القصة على القصة ولا نظر في ذلك إلى تناسقهما خيرا وطلبا بل يشترط التناسب فيما سيقتاله مع أن المعطوف ههنا قد يؤول بالخبر
(16/164)

ولا يخفى أن ما تقدم جار على سائر الأوجه والاقوال في الآية السابقة وسبب نزولها ولا يأباه شئ من ذلك والاستفهام تقريرى وقيل : هل بمعنى قد وقيل : الاستفهام انكارى ومعناه النفى أي ما اخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى عليه السلام ونحن الآن مخبروك بها والمعول عليه الأول والحديث الخبر ويصدق على القليل والكثير ويجمع على احاديث على غير قياس
قال الفراء : نرى أن واحد الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعا للحديث وقال الراغب : الحديث كل كلام يبلغ الانسان من جهة السمع أو الوحى في يقظته أو منامه ويكون مصدرا بمعنى التكلم وحمله بعضهم على هذا هنا بقرينة فقال الخ وعلق به قوله تعالى إذ رإ نارا ولم يجوز تعلقه على تقدير كونه اسما للكلام والخبر لأنه حينئذ كالجوامد لا يعمل والاظهر أنه اسم لما ذكر لأنه هو المعروف مع أن وصف القصة بالاتيان أولى من وصف التحدث والتكلم به وأمر التعلق سهل فان الظرف يكفى لتعلقه رائحة الفعل ولذا نقل الشريف عن بعضهم أن القصة والحديث والخبر والنبا يجوز اعمالها في الظروف خاصة وان لم يرد بها المعنى المصدرى لتضمن معناها الحصول والكون
وجوز أن يكون ظرفا لمضمر مؤخر أي حين رأى نارا كان كيت وكيت وان يكون مفعولا لممضمر متقدم أي فاذكر وقت رؤيته نارا روى أن موسى عليه السلام استاذن شعيبا عليه السلام في الخروج من مدين إلى مصر لزيارة امه واخيه وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره فاذن له وكان عليه السلام رجلا غيورا فخرج بأهله ولم يصحب رفقة لئلا ترى امرأته وكانت على اتان وعلى ظهرها جوالق فيها اثاث البيت ومعه غنم له واخذ عليه السلام على غير الطريق مخافة من ملوك الشام فلما وافى وادى طوى وهو بالجانب الغربى من الطور ولد له ابن في ليلة مظلمة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعه وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده فبينما هو كذلك إذ رأى نارا على يسار الطريق من جانب الطور فقال لأهله امكثوا أي اقيموا مكانكم أمرهم عليه السلام بذلك لئلا يتبعوه فيما عزم عليه من الذهاب إلى النار كما هو المعتاد لا لئلا ينتقلوا إلى موضع أخر فانه مما لا يخطر بالبال والخطاب قيل : للمرأة والولد والخادم وقيل : للمرأة وحدها والجمع أما لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم كما في قول من قال :
وان شئت حرمت النساء سواكم
وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية لأهله امكثوا بضم الهاء انى ما نست نارا أي ابصرتها ابصارا بينا لا شبهة فيه ومن ذلك انسان العين والانس خلاف الجن وقيل : إلا يناس خاص بابصار ما يؤنس به وقيل : هو بمعنى الوجدان قال الحرث بن حلزة : آنست نبأة وقد راعها القن اص يوما وقد دنا الامساء والجملة تعليل للأمر والمامور به ولما كان الايناس مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم وإن لم يكن ثمت تردد أو إنكار لعلى إتيكم منها أي اجيئكم من النار بقبس بشعلة مقتبسة تكون على رأس عود ونحوه ففعل بمعنى مفعول وهو المراد بالشهاب القبس وبالجذوة في موضع أخر
(16/165)

وتفسيره بالجمرة ليس بشئ وهذا الجار والمجرور متعلق باتيكم وأما منها فيتحمل أن يكون متعلقا به وان يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من قبس على ما قاله أبو البقاء او اجد على النار هدى هاديا يدلنى على الطريق على أنه مصدر سمى به الفاعل مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذا هداية أو على أنه إذا وجد الهادى فقد وجد الهدى وعن الزجاج أن المراد هاديا يدلنى على الماء فانه عليه السلام قد ضل عن الماء وعن مجاهد وقتادة أن المراد هاديا يهدينى إلى ابواب الدين فان افكار الابرار مغمورة بالهمم الدينية في عامة احوالهم لا يشغلهم عنها شاغل وهو بعيد فان مساق النظم الكريم تسلية أهله مع أنه قد نص في سورة القصص على ما يقتضى ما تقدم حيث قال : لعلى آتيكم منها بخير أو جذوة الآية والمشهور كتابة هذه الكلمة بالياء
وقال أبو البقاء : الجيد أن تكتب بالالف ولا تمال لا الالف بدل التنوين في القول المحقق وقد امالها قوم وفيه ثلاثة اوجه الأول أن يكون شبه الف التنوين بلام الكلمة إذا اللفظ بهما في المقصور واحد الثاني أن يكون لام الكلمة ولم يبدل من التنوين شئ في النصب والثالث أن يكون على رأى من وقف في الاحوال الثلاثة من غير ابدال انتهى وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وعل على بابها من الاستعلاء والاستعلاء على النار مجاز مشهور صار حقيقة عرفية في الاستعلاء على مكان قريب ملاصق لها كما قال سيبويه في مررت بزيد : أنه لصوق بمكان يقرب منه وقال غير واحد : أن الجار والمجرور في موقع الحال من هدى وكان في موضع الصفة له فقدم والتقدير أو اجد هاديا أو ذا هدى مشرفا على النار والمراد مصطليا بها وعادة المصطلى الدنو من النار والاشراف عليها
وعن الأنبارى أن على ههنا بمعنى عند أو بمعنى مع أو بمعنى الباء ولا حاجة إلى ذلك وكان الظاهر عليها إلا أنه جئ بالظاهر تصريحا بما هو كالعلة لوجدان الهدى إذ النار لا تخلو من اناس عندها وصدرت الجملة بكلمة الترجى لما أن الآيتان وما عطف عليه ليسا محققى الوقوع بل هما مترقبان متوقعان وهى على ما في ارشاد العقل السليم أما علة لفعل قد حذف ثقة بما يدل عليه من الأمر بالمكث والاخبار بايناس النار وتفاديا عن التصريح بما يوحشهم وأما حال من فاعله أي فاذهب اليها لآتيكم أو كى آتيكم أو راجيا أن آتيكم منها بقبس الآية وقيل : هى صفة لنارا ومتى جاز جعل جملة الترجى صلة كما في قوله : وانى لراج نظرة قبل التى لعلى وان شطت نواها ازورها فليجز جعلها صفة فان الصلة والصفة متقاربان ولا يخفى ما فيه فلما اتاها أي النار التى آنسها وكانت كما في بعض الروايات عن ابن عباس في شجرة عناب خضراء يا نعمة وقال عبد الله بن مسعود : كانت في سمرة وقيل : في شجرة عوسج وأخرج الامام احمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن وهب ابن منية قال : لما رأى موسى عليه السلام النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا فاذا هو بنار عظيمة تفور من ورق شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق الاخضرة وحسنا فوقف ينظر لا يدرى علام يضع أمرها إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق واوفد اليها بوقد فنالها فاحترقت وانه إنما يمنع النار شدة خضرتها وكثرة مائها وكثافة ورقها وعظم جذعها فوضع أمرها على هذا فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شئ فيقتبسه فلما طال عليه ذلك اهوى اليها بضغث
(16/166)

في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها فلما فعل ذلك مالت نحوه كأنها تريده فاستاخر عنها وهاب ثم عاد فطاف بها ولم تزل تكمعه ويطمع بها ثم لم يكن شئ باوشك من خمودها فاشتد عند ذلك عجبه وفكر في أمرها فقال : هي نار ممتنعة لا يقتبس منها ولكنها لتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ثم خمودها على قدر عظمها في اوشك من طرفة عين فلما رأى ذلك قال أن لهذه لشانا ثم وضع أمرها على أنها مامورة أو مصنوعة لا يدرى من أمرها ولا بم أمرت ولا من صنعها ولا لم صنعت فوقف متحيرا لا يدرى ايرجع ام يقيم فبينما هو على ذلك إذ رمى بطرفه نحو فرعها فاذا اشد ما كان خضرة ساطعة في السماء ينظر اليها تغشى الظلام ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبيض حتى صارت نورا ساطعا عمودا بين السماء والارض عليه مثل شعاع الشمس يكل دونه الابصار كلما نظر اليه يكاد يخطف بصره فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه فرد يده على عينيه ولصق بالارض وسمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظما فلما بلغ موسى عليه السلام الكرب واشتد عليه الهول كان ما قص الله تعالى وروى أنه عليه السلام كان كلما قرب منها تباعدت فاذا ادبر اتبعته فايقن أن هذا أمر من امور الله تعالى الخارقة للعادة ووقف متحيرا وسمع من السماء تسبيح الملائكة والقيت عليه السكينة وكان ما كان
وقالوا : النار أربعة اصناف صنف يأكل ولا يشرب وهى نار الدنيا وصنف يشرب ولا يأكل وهى نار الشجر الاخضر وصنف يأكل ويشرب وهى نار جهنم وصنف لا يأكل ولا يشرب وهى نار موسى عليه السلام وقالوا أيضا هى اربع أنواع نوع له نور واحراق وهى نار الدنيا ونوع لا نور له ولا احراق وهى نار الأشجار ونوع له احراق بلا نور وهى نار جهنم ونوع له نور بلا احراق وهى نار موسى عليه السلام بل قال بعضهم : إنها لم تكن نارا بل هي نور من نور الرب تبارك وتعالى وروى هذا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وذكر ذلك بلفظ النار بناء على حسبان موسى عليه السلام وليس في اخباره عليه السلام حسب حسبانه محذور كما توهم واستظهر ذلك أبو حيان واليه ذهب الماوردى
وقال سعيد بن جبير هي النار بعينها وهى احدى حجب الله عز و جل واستدل له نما روى عن أبى موسى الاشعرى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال : حجابه النار لو كشفها لا حرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه ذكر ذلك البغوى وذكر في تفسير الخازن أن الحديث أخرجه مسلم وظاهر الآية يدل على أنه عليه السلام حين اتاها نودى من غير ريث وبذلك رد بعض المعتزلة الاخبار السابقة الدالة على تخلل زمان بين المجئ والنداء وانت تعلم أن تخلل مثل ذلك الزمان مما لا يضر في مثل ما ذكر وزعم أيضا امتناع تحقق ظهور الخارق عند مجيئه النار قبل أن ينبا إلا أن يكون ذلك معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السلام وعندنا أن ذلك من الارهاص الذي ينكره المعتزلة والظاهر أن القائم مقام فاعل نودى ضمير موسى عليه السلام وقيل : ضمير المصدر أي نودى النداء وقيل : هو قوله تعالى : يا موسى
11
- الخ وكان ذلك على اعتبار تضمين النداء معنى القول وارادة هذا اللفظ من الجملة وإلا فقد قيل : أن الجملة لا تكون فاعلا ولا قائما مقامه في مثل هذا التركيب إلا بنحو هذا الضرب من التأويل
وفي البحر مذهب الكوفيين معاملة النداء معاملة القول ومذهب البصريين اضمار القول في مثل هذه الآية أي نودى فقيل : يا موسى انى انا ربك ولذلك كسرت همزة أن في قراءة الجمهور وقرأ ابن كثير
(16/167)

وابو عمرو بفتحها على تقدير حرف الجر أي بانى والجار والمجرور على ما قال أبو البقاء وغيره متعلق بنودى والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد اب على : ناديت باسم ربيعة بن مكرم أن المنوه باسمه الموثوق ولا يخفى على ذى ذوق سليم حال التركيب على هذا التخريج وانه إنما يحلو لو لم يكن المنادى فاصلا
وقيل : على تقدير حرف التعليل وتعلقه بفعل الأمر بعد وهو كما ترى واختير أن الكلام على تقدير العلم أي أعلم انى الخ وتكرير ضمير المتكلم لتاكيد الدلالة وتحقيق المعرفة واماطة الشبهة واستظهر أن علمه عليه السلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه تعالى فيه وقيل : بالاستدلال بما شاهد قبل النداء من الخارق وقيل : بما حصل له من ذلك بعد النداء فقد روى أنه عليه السلام لما نودى يا موسى قال عليه السلام : من المتكلمفقال : انا ربك فوسوس اليه ابليس اللعين لعلك تسمع كلام شيطان فقال عليه السلام : انا عرفت أنه كلام الله تعالى بانى اسمعه من جميع الجهات بجميع الاعضاء والخارق فيه أمران سماعه من جميع الجهات وكون ذلك بجميع الاعضاء التي من شأنها السماع والتي لم يكن من شأنها وقيل : الخارق فيه أمر واحد وهو السماع بجميع الاعضاء وهو المراد بالسماع من جميع الجهات واياما كان فلا يخفى صحة الاستدلال بذلك على المطلوب إلا أن في صحة الخبر خفاء ولم ار له سندا يعول عليه وحضور الشيطان ووسوسته لموسى عليه السلام في ذلك الوادي المقدس والحضرة الجليلة في غاية البعد والمعتزلة اوجبوا أن يكون العلم بالاستدلال بالخرق ولم يجوزوا أن يكون بالضرورة قالوا لأنه لو حصل العلم الضرور بكون هذاالنداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضرورى بوجود الصانع القادر العالم لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوما بالضرورة لخرج موسى عليه السلام عن كونه مكلفا لأن حصول العلم الضروري ينافى التكليف وبالاتفاق أنه عليه السلام لم يخرج عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالخارق وفي تعيينه اختلاف
وقال بعضهم : لا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك الخالق ما هو وأخرج احمد وغيره عن وهب عليه السلام لما اشتدا عليه الهول نودى من الشجرة فقيل : يا موسى فاجاب سريعا وما يدرى من دعائه وما كان سرعة اجابته إلا استئناسا بالانس فقال : لبيك مرارا انى لاسمع صوتك واحس حسك ولا ارى مكانك فاين انت : قال : انا فوقك ومعك وامامك وخلفك واقرب اليك من نفسك فلما سمعى هذا موسى عليه السلام علم أنه لا ينبغى ذلك إلا لربه تعالى فأيقن به فقال : كذلك أنت يا إلهى فكلامك أسمع أم رسولك قال : بل انا الذي اكلامك ولا يخفى تخريج هذا الأثر على مذهب السلف ومذهب الصوفية وانه لا يحصل الإيقان بمجرد سماع مالا ينبغى أن يكون إلا لله تعالى من الصفات إذا فتح باب الوسوسة ثم أن هذا الأثر ظاهر في أن موسى عليه السلام سمع الكلام اللفظى منه تعالى بلا واسطه ولذا اختص عليه السلام باسم الكريم وهو مذهب جماعه من أهل السنة وذلك الكلام قديم عندهم واجابوا عن استلزام اللفظ الحدوث لأنه لا يوجد بعضه إلا بتقضى بعض آخر بأنه إنما يلزم من التلفظ بآلة وجارحة وهى اللسان أما إذا كان بدونها فيوجد دفعه واحدة وما يشاهد في الحروف الموسومة بطبع الخاتم دون القلم ويلزمة أن يؤولوا قوله تعالى : فلما اتاها نودى الخ بأن يقولوا : المراد فلما أتاها أسمع النداء أو نحو ذلك ولا فمجئ النار حادث والمرتب على الحادث حادث
(16/168)

ولذا زعم أهل ما وراء النهر من أهل السنة القائلين بقدم الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام حادث وهو صوت خلقه الله تعالى في الشجرة وأهل البدعه اجمعوا على أن الكلام اللفظى حادث بيد أن منهم من جوز قيام الحوادث به تعالى شأنه ومنهم من لم يجوز وزعم أن الذي سمعه موسى عليه السلام خلقه الله عز و جل في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها
وقال إلا شعري : إن الله تعالى أسمع موسى عليه السلام كلامه النفسى الذي ليس بحرف ولاصوت ولا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك وقد حققه بعضهم بأنه عليه السلام تلقى ذلك الكلام تلقيا روحانيا كما تتلقا الملائكة عليهم السلام كلامه تعالى لا من جارحة ثم افاضته الروح بواسطة قوة العقل على القوى النفسية ورسمته في الحس المشترك بصور الفاظ مخصوصة فصلر لقوة تصوره كأنه يسمعه من الخارج وهذا كما يرى النائم أنه يكلم ويتكلم ووجه وقوف الشيطان المار بالخبر الذي سمعت ما فيه على هذا بأنه يحتمل أن يكون كذلك ويحتمل أن يكون بالتفرس من كون هيئته عليه السلام على هيئة المصغى المتأمل لما يسمعه وهو كما ترى وقد تقدم لك في المقدمات ما عسى ينفعك مراجعته هنا فراجعه وتامل واعلم أن شأن الله تعالى شأنه كله غريب وسبحان الله العزيز الحكيم فاخلع نعليك ازلهما من رجليك والنعل معروفة وهى مؤنثه يقال في تصغيرها نعيلة ويقال فيها نعل : بفتح العين أنشد الفراء : له نعل لا يطبى الكلب ريحها وان وضعت بين المجالس شمت وأمر صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك لما انهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ كما روى عن الصادق رضى الله تعالى عنه وعكرمة وقتادة والسدى ومقاتل والضحاك والكلبى وروى كونهما من جلد حمار في حديث غريب فقد أخرج الترمذى بسنده عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال : كان على موسى عليه السلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف اىقلنسوة صغيرة وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار وعن الحسن ومجاهد وسعيد ابن جبير وابن جريج انهما كانتا من جلد بقرة ذكيت ولكن أمر عليه السلام بخلعهما ليباشر بقدمه الأرض فتصيبه بركة الوادى المقدس
وقال الأصم : لأن الحفوة ادخل في التواضع وحسن الادب ولذلك كان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين ولا يخفى أن هذا ممنوع عند القائل بافضلية الصلاة بالنعال كما جاء في بعض الآثار ولعل الاصم لم يسمع ذلك أو يجيب عنه
وقال أبو مسلم : لأنه تعالى امنه من الخوف واوقفه بالموضع الطاهر وهو عليه السلام إنما لبسهما اتقاء من الانجاس وخوفا من الحشرات وقيل : المعنى فرغ قلبك من الأهل والمال وقيل : من الدنيا والاخرة
ووجه ذلك أن يراد بالنعل كل ما يرتفق به وغلب على ما ذكر تحقيرا ولذا اطلق على الزوجة نعل كما في كتب اللغة ولا يخفى عليك أنه بعيد وان وجه بما ذكر وهو اليق بباب الاشارة والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فان ربوبيته تعالى له عليه السلام من موجبات الأمر ودواعه وقوله تعالى انك بالواد المقدس تعليل لموجب الخلع المؤمور به وبيان لسبب ورود الأمر بذلك من شرف البقعة وقدسها روى أنه عليه السلام
(16/169)

حين أمر خلعهما والقاهما وراء الوادى طوى
12
- بضم الطاء غير منون
وقرأ الكوفييون وابن عامر بضمها منونا وقرأ حسن والأعمش وابو حيوة وابن أبى اسحق وابو السمال وابن محيصن بكسرها منونه وقرأ أبو زيد عن أبى عمرو بكسرها غير منون وهو علم لذلك الوادى فيكون بدلا أو عطف بيان ومن نونه فعلى تأويل المكان ومن لم ينونه فعلى تأويل البقعة فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتانيث وقيل طوى المضموم الطاء الغير منون ممنوع من الصرف للعلمية والعدل كزفر وقثم وقيل : للعلمية والعجمة وقال قطرب : يقال طوى من الليل أي قدس لك ساعة من الليل وهي ساعة أن نودى فيكون معمولا للمقدس وفي العجائب للكرمانى وقيل : هو معرب معناه ليلا وكانه اراد قول قطرب وقيل : هو رجل بالعبرانية وكانه على هذا منادى وقال الحسن : طوى بكسر الطاء والتنوين مصدر كثنى لفظا ومعنى وهو عنده معمول للمقدس أيضا أي قدس مرة بعد اخرى وجوز أن يكون معمولا لنودى أي نودى ندامين وقال ابن السيد : أنه ما يطوى من جلد الحية ويقال : فعل الشئ طوى أي مرتين فيكون موضوعا موضد المصدر وانشد الطبرسى لعدى بن زيد : اعاذل أن اللوم في غير كنهه على طوى من غيك التردد وذكر الراغب أنه إذا كان بمعنى مرتين بفتح أوله ويكسر ولا يخفى عليك أن الاظهر كونه اسما للوادى في جميع القراءات وانا اخترتك أي اصطفيتك من الناس أو من قومك للنبوة والرسالة وقرأ السلمى وابن هرمز والأعمش في رواية وانا بكسر الهمزة وتشديد النون مع الف بعدها اخترناك بالنون والالف وكذا قرأ طلحة وابن أبى ليلى وحمزة وخلف والأعمش في روايا اخرى إلا انهم فتحوا همزة ان وذلك بتقدير أعلم أي واعلم انا اخترناك وهو على ما قيل عطف على اخلع ويجوز عند من قرأ انى انا ربك بالفتح أن يكون العطف عليه سواء كان متعلقا بنودى كما قيل أو معمولا لا علم مقدرا كما اختير
وجوز أبو البقاء أن يكون بتقدير اللام وهو متعلق بما بعده أي لانا اخترناك فاستمع وهو كما ترى والفاء في قوله تعالى فاستمع لترتيب الأمر والمامور به على ما قبلها فان اختاره عليه السلام لما ذكر من موجبات الاستماع والأمر به واللام في قوله سبحانه لما يوحى
13
- متعلقة باستمع وجوز أن تكون متعلقة باخترناك ورده أبو حيان بأنه يكون حينئذ من باب الاعمال ويجب أو يختار حينئذ اعادة الضمير مع الثانى بأن يقال : فاستمع له لما يوحى
وأجيب بأن المراد جواز تعلقها بكل من الفعلين على البدل لا على أنه من الاعمال واعترض على هذا بأن قوله تعالى اننى انا الله لا اله إلا انا بدل من ما يوحى ولا ريب في أن اختياره عليه السلام ليس لهذا فقط ةالتعلق باخترناك كيفما كان يقتضيه وأجيب أنه من باب التنصيص على ما هو الأهم والأصل الأصيل وقيل : هي سيف خطيب فلا متعلق لها كما في ردف لكم وما موصولة
وجوز أن تكون مصدرية أي فاستمع للذي يوحى اليك أو للوحى وفي أمره عليه السلام بالاستماع اشارة إلى عظم ذلك وانه يقتضى التاهب له قال أبو الفضل الجوهرى : لما قيل لموسى عليه السلام استمع
(16/170)

لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله والقى ذقنه على صدره واصغر بشراشره
وقال وهب : أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والاصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل وذلك هو الاستماع لما يحب الله تعالى وحذف الفاعل في يوحى للعلم به ويحسنه كونه فاصله فانه لو كان مبنيا للفاعل لم يكن فاصلة والفاء في قوله تعالى فاعبدنى لترتيب المؤمور به على ما قبلها فان اختصاص الالوهيه به تعالى شأنه من موجبات تخصيص العباده به عز و جل والمراد بها غاية التذلل والانقياد له تعالى في جميع ما يكلفه به وقيل : المراد بها هنا التوحيد كما في قوله سبحانه وما خلقة الجن والانس إلا ليعبدون والأول أولى واقم الصلوة خصت الصلاة بالذكر وافردت بالأمر مع اندراجها في الأمر في العباده لفضلها وانافتها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره وقد سماها الله تعالى ايمانا في قوله سبحانه وما كان الله ليضيع ايمانكم
واختلف العلماء في كفر تاركها كسلا كما فصل في محله وقوله تعالى لذكرى
14
- الظاهر أنه متعلق باقم أي اقم الصلاة لتذكرنى فيها لاشتمالها على الاذكار وروى ذلك عن مجاهد وقريب منه ما قيل أي لتكون لى ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وافكارهم به وفرق بينهما بأن المراد بالاقامة على الأول وتعديل الاركان وعلى الثانى الادامة وجعلت الصلاة في الأول مكانا للذكر ومقره وعلته وعلى الثاني جعلت اقامة الصلاة أي ادامتها علة لادامة الذكر كأنه قيل ادم الصلاة لتستعين بها على استغراق فكرك وهمك فى الذكر كقوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة
وجوز أن يكون متعلقا باعبدنى أو باقم على أنه من باب الاعمال أي لتكون ذاكرا لى بالعبادة واقامة الصلاة وإذا عمم الذكر ليتناول القلبى والقالبى جاز اعتبار باب الاعمال في الأول أيضا وهو خلاف الظاهر
وقيل : المراد اقم الصلاة لذكرى خاصة لا ترائى بها ولا تشوبها بذكر غيرى أو لاخلاص ذكرى وابتغاء وجهى ولا تقصد بها غرضا أخر كقوله تعالى فصل لربك أو لأن اذكرك بالثناء أي لاثنى عليك واثيبك بها وا لذكرى اياها في الكتب الالهية وامرى بها أو لاوقات ذكرى وهى مواقيت الصلوات فاللام وقتيه بمعنى عند مثلها في قوله تعالى يا ليتنى قدمت لحياتى وقولك : كان ذلك لخمس ليال خلون ومن الناس من حمل الذكر على ذكر الصلاة بعد نسيانها وروى ذلك عن أبى جعفر واللام حينئذ وقتيه أو تعليلية والمراد اقم الصلاة عند تذكرها أو لاجل تذكرها والكلام على تقدير مضاف والأصل لذكر صلاتى أو يقال : أن ذكر الصلاة سبب لذكر الله تعالى فاطلق المسبب على السبب أو أنه وقع ضمير الله تعالى موقع ضمير الصلاة لشرفها أو أن المراد للذكر الحاصل منى فاضيف الذكر إلى الله عز و جل لهذه الملابسة والذي حمل القائل على هذا الحمل أنه ثبت في الصحيح من حديث أبى هريرة أنه صلى الله عليه و سلم نام عن صلاة الصبح فلما قضاها قال : من نسى صلاة فليقضها إذا ذكرها فان الله تعالى قال : اقم الصلاة لذكرى فظن هذا القائل أنه لو لم يجعل هذا الحمل لم يصح التعليل وهو من بعض الظن فان التعليل كما في الكشف صحيح والذكر على ما فسر في الوجه الأول واراد عليه الصلاة و السلام أنه إذا ذكر الصلاة انتقل من ذكرها إلى ذكر ما شرعت له وهو ذكر الله تعالى فيحمله على اقامتها وقال بعض المحققين : أنه لما جعل المقصود الاصلى من الصلاة ذكر الله تعالى وهو حاصل مطلوب في كل وقت فاذا فانه الوقت المحدود له ينبغى المبادرة اليه ما امكنه فهو من اشارة النص لا من منطوقه حتى يحتاج إلى التمحل فافهم
(16/171)

وإضافة ذكر إلى الضمير تحتمل أن تكون من إضافة المصدر إلى مفعوله وان تكون من اضافة المصدر إلى فاعله حسب اختلاف التفسير
وقرأ السلمى والنخعى وابو رجاء للذكرى بلام التعريف والف التانيث وقرأت فرقة لذكرى بالف التانيث بغير لام التعريف واخرى للذكر بالتعريف والتذكير وقوله تعالى ان الساعة اتيه تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة أي كائنة لا محالة وإنما عبر عن ذلك بالاتيان تحقيقا لحصولها بابرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين اكاد اخفيها اقرب إلى اخفى الساعة ولا لظهرها بأن اقول إنها آتيه ولو لا أن في الاخبار بذلك من اللطف وقطع الاعذار لما فعلت وحاصله اكاد ابالغ في إخفائها فلا اجمل كما لم افصل والمقاربة هنا مجاز كما نص عليه أبو حيان أو اريد إخفاء وقتها المعين وعدم اظهاره والى ذلك ذهب الأخفش وابن الأنبارى وابو مسلم ومن مجئ كاد بمعنى اراد كما قال ابن جنى غي المحتسب قوله : كادت وكدت وتلك خير ارادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى وروى عن ابن عباس وجعفر الصادق رضى الله تعالى عنهما أن المعنى اكاد اخفيها من نفسى ويؤيده أن في مصحف أبى كذلك وروى ابن خالويه عنه ذلك بزيادة فكيف اظهركم عليها وفي بعض القراآت بزيادة فكيف اظهرها لكم وفى مصحف عبد الله بزيادة فكيف يعلمها مخلوق وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا اراد المبالغة في كتمان الشئ قال : كدت اخفيه من نفسى ومن ذلك قوله : ايام تصحبنى هند واخبرها ما كدت اكتمه عنى من الخبر ونحو هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه و سلم في حديث السبعة الذين يظلهم تحت ظله ورجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ويجعل ذلك من باب المبالغة يندفع ما قيل أن اخفاء ذلك من نفسه سبحانه محال فلا يناسب دخول كاد عليه ولا حاجة لما قيل : أن معنى من نفسى من تلقائى ومن عندى والقرينة على هذا المحذوف اثباته في المصاحف وكونه قرينة خارجية لا يضر إذ لا يلزم في القرينة وجودها في الكلام وقيل : الدليل عليه أنه لابد لاخفيها من متعلق وهو من يخفى منه ولا يجوز أن يكون من الخلق لأنه تعالى اخفاها عنهم لقوله سبحانه ان الله عنده علم الساعة فيتعين ما ذكر وفيه أن عدم صحة تقدير من الخلق ممنوع لجواز ارادة اخفاء تفصيلها وتعيينها مع أنه يجوز أن لا يقدر له متعلق والمعنى اوجد اخفاءها ولا اقول : أنها إتية
وقال أبو على : المعنى اكاد اظهرها بايقاعها على أن اخفيها من الفاظ السلب بمعنى ازيل خفاءها أي سائرها وهو في الأصل ما يلف به القربة ونحوها من كساء وما يجرى مجراه ومن ذلك قول امرئ القيس : فان تدفنوا الداء لا نخفه وان توقدوا الحرب لا نقعد ويؤيده قراءة أبى الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد ورويت عن ابن كثير وعاصم اخفيها بفتح الهمزة فان خفاه بمعنى اظهره لا غير في المشهور وقال أبو عبيدة كما حكاه أبو الخطاب أحد رؤساء اللغة : خفيت واخيفت بمعنى واحد ومتعلق الاخفاء على الوجه السابق في تفسيره قراءة الجمهور والاظهار ليس شيءا واحدا حتى تتعارض القراءتان وقالت فرقة : خبر كاد محذوف اكاد اتى بها كما حذف في قول صابئ البرجمى :
(16/172)

هممت ولم افعل وكدت وليتنى تركت على عثمان تبكى حلائله أي وكدت افعل وتم الكلام ثم استانف الاخبار بأنه تعالى يخفيها واختار النحاس وقالت فرقة اخرى : اكاد زائدة لا دخول لها في المعنى بل المراد الاخبار بأن الساعة اتيه وان الله تعالى يخفى وقت اتيانها وروى هذا المعنى عن ابن جبير واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى : لم يكد يراها وبقول زيد الخيل : سريع إلى الهجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس ولا حجة في ذلك كما لا يخفى لتجزى كل نفس بما تسعى
15
- متعلق بآيته كما قال صاحب اللوامح وغيره وما بينهما اعتراض لا صفة حتى يلزم اعمال اسم الفاعل الموصوف وهولا يجوز على رأى البصريين أو باخفيها على أن المراد اظهرها لا على أن المراد استرها لأنه لا وجه لقولك استرها لاجل الجزاء وبعضهم جوز ذلك ووجهه بأن تعمية وقتها لتنتظر ساعة فساعة فيحترز عن المعصية ويجتهد في الطاعة وتعقب بأنه تكلف ظاهر مع أنه لا صحة له إلا بتقدير لينتظر الجزاء أو لتخاف وتخشى وما مصدرية أي لتجزى بسعيها وعملها أن خيرا فخير وان شرا فشر وهذا التعميم هو الظاهر وقيل : لتجزى بسعيها في تحصيل ما ذكر من الامور المامور بها وتخصيصه في معرض الغاية لاتيانها مع أنه لجزاء كل نفس بما صدر عنها سواء كان سعيا فيما ذكر أو تقاعدا عنه بالمرة أو سعيا في تحصيل ما يضاده للايذان بأن المراد بالذات من اتيانها هو الاثابة بالعبادة وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات سواء اختيار العصاة وبان المامور به في قوة الوجوب والساعة في شدة الهول والفظاعة بحيث يوجبان على كل نفس أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجد في تحصيل ما ينجيها من الطاعات وتحترز عن اقتراف ما يرديها من المعاصى انتهى
ولا يخفى ما فيه وقيل : ما موصولة أي بالذي تسعى فيه وفيه حذف العائد المجرور بالحرف مع فقد شرطه
وأجيب بأنه يجوز أن يكون القائل لا يشترط وقيل : يقدر منصوبا على التوسع فلا يصدنك خطاب لموسى عليه السلام وزعم بعضهم أنه لنبينا صلى الله عليه و سلم لفظا ولامته معنى وهو في غاية البعد عنها أي الساعة والمراد عن ذكرها ومراقبتها وقيل : عن الأيمان باتيانها ورجح الأول بأنه الاليق بشأن موسى عليه السلام وان كان النهى بطريق التهييج والالهاب ورجوع ضمير عنها إلى الساعة هو الظاهر وكذا رجوع ضمير بها في قوله تعالى من لا يؤمن بها وقيل : الضميران راجعان إلى الصلاة وقيل : ضمير عنها راجع إلى الصلاة وضمير بها راجع إلى الساعة وقيل : الضميران راجعان إلى كلمة لا اله إلا انا وقيل : الأول راجع إلى العبادة والثانى راجع إلى الساعة وقيل : هما راجعان إلى الخصال المذكورة وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولان في المؤخر نوع طول ربما يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم والنهى وان كان بحسب الظاهر نهيا للكافر عن صد موسى عليه السلام عن الساعة لكنه في الحقيقة نهى له عليه السلام عن الانصداد عنها على ابلغ وجه واكده فان النهى عن اسباب الشئ ومباديه المؤدية اليه نهى عنه بالطريق البرهانى وابطال للسببية عن اصلها كما في قوله تعالى لايجرمنكم الخ فان صدر الكافر حيث كان سببا لانصداده عليه السلام كان النهى عنه نهيا باصلة وموجبه وابطالا له بالكلية ويجوز أن يكون نهيا عن السبب على أن يراد نهيه عليه
(16/173)

السلام عن اظهار لين الجانب للكفرة فان ذلك سبب لصدهم إياه عليه السلام كما في قوله : لا ارينك ههنا فان المراد به نهى المخاطب عن الحضور لديه الموجب لرؤيته فكانه قيل : كن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالساعة وينكر البعث أنه يطمع في صدك كما انت عليه وفيه حث على الصلابة في الدين وعدم اللين المطمع لمن كفر وانبع هواه أي ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية فصده عن الأيمان فتردى
16
- أي فتهلك فان الاغفال عن الساعة وعن تحصيل ما ينجى عن احوالها مستتبع للهلاك لا محالة
وذكر العلامة الطيبى أنه يمكن أن يحمل من لايؤمن على المعرض عن عبادة الله تعالى المتهالك في الدنيا المنغمس في لذاتها وشهواتها بدليل واتبع الخ ويحمل نهى الصد على نهى النظر إلى متمتعاته من زهرة الحياة الدنيا ليكون على وزان قوله تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ازواجا الخ ويحمل متابعة الهوى على الميل إلى الاخلاد إلى الأرض كقوله تعالى ولكنه اخلد إلى الأرض واتبع هواه يعنى تفرغ لعبادتى ولا تلتفت إلى ما الكفرة فيه فانه مهلك فان ما أو ليناك واخترناه لك هو المقصد الاسنى وفي هذا حث عظيم على الاشتغال بالعبادة وزجر بليغ عن الركون إلى الدنيا ونعيمها ولا يخلو عن حسن وان كان خلاف الظاهر و تردى يحتمل أن يكون منصوبا في جواب النهى وان يكون مرفوعا والجملة خبر مبتدأ محذوف أي فانت تردى بسبب ذلك وقرأ يحيى فتردى بكسر التاء
وما تلك بيمينك يا موسى
17
- شروع في حكاية ما كلفه عليه السلام من الامور المتعلق بالخلق اثر حكاية ما أمر به من الشؤن الخاصة بنفسه فما استفهاميه في محل الرفع بالابتداء و تلك خبره أو بالعكس وهو ادخل بحسب المعنى واوافق بالجواب و بيمينك متعلق بمضمر وقع حالا من تلك أي وما تلك قارة أو ماخوذة بيمينك والعامل فيه ما فيه من معنى الاشارة كما في قوله عز وعلا حكاية وهذا بعلى شيخا وتسميه النحاة عاملا معنويا
وقال ابن عطية : تلك اسم موصول و بيمينك متعلق بمحذوف صلته أي وما التى استقرت بيمينك وهو على مذهب الكوفيين الذين يقولون أن كل اسم اشارة يجوز أن يكون اسما موصولا ومذهب البصريين عدم جواز ذلك إلا فى ذا بشرطه والاستفهام تقريرى وسياتى قريبا أن شاء الله تعالى بيان المراد منه قال هى عصاى نسبها عليه السلام إلى نفسه تحقيقا لوجه كونها بيمينه وتمهيدا لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة اليه عليه السلام واسمها على ما روى عن مقاتل نبعة وكان عليه السلام قد اخذها من بيت عصى الأنبياء عليهم السلام التي كانت عند شعيب حين أستاجره للرعى هبط بها آدم عليه السلام من الجنة وكانت فيما يقال من اسهاوقال وهب : كانت من العوسج وطولها عشرة اذرع على مقدار قامته عليه السلاموقيل : اثنتا عشرة ذراعا بذراع موسى عليه السلام وذكر المسند اليه وان كان هو الأصل لرغبته عليه السلام في المناجاة ومزيد لذاذته بذلكوقرأ ابن أبى إسحق والجحدرى عصى بقلب الالف ياء وادغامها في ياء المتكلم على لغة هذيل فانهم يلبون الالف التي قبل ياء المتكلم ياء للمجانسة كما يكسر ماقبلها في الصحيح قال شاعرهم : سبقوا هوى واعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع وقرأ الحسن عصاى بكسر الياء وهي مروية عن أبى ابن اسحق أيضا وابى عمرووهذه الكسرة
(16/174)

لالتقاء الساكنين كما في البحروعن ابن أبى اسحق عصاى بسكون الياء كأنه اعتبر الوقف ولم يبال بالتقاء الساكنين والعصا من المؤنثات السماعية ولاتلحقها التاء وأول لحن سمع بالعراق كما قال الفراء : هذه عصاتى وتجمع على عصى بكسر أوله وضمه وأعص وأعصاء اتوكؤا عليها اى أتحامل عليها في المشى والوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك واهش بها اى اخبط بها ورق الشجر واضربه ليسقط على غنمى فتأكله وقرأ النخعى كما ذكر أبو فضل الرازي وابن عطية أهش بكسر الهاء ومعناه معنى مضموم العاءوالمفعول على القراءتين محذوف كما اشرنا اليه
وقال أبو الفضل : يحتمل أن يكون ذلك من هش يهش هشاشه إذا مال أي اميل بها على غنمي بما يصلهحا من السوق واسقاط الورق لتاكله ونحوهما ويقال : هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولان انتها وعلى هذا لا حذف
وقرأ الحسن اهس بضم الهاء والسين المهملة من الهس وهو زجر الغنم وتعديته بعلى لتضمين معنى الانحناء يقال : انحى عليه بالعصى إذ رفعها عليه موهما للضرب أي ازجرها منحيا عليها وفي كتاب السين والشين لصاحب القاموس يقال هس الشئ وهشه إذا فته وكسره فهما بمعنى ونقل ابن خالويه عن النخعى أنه قرأ أهش من أهش رباعيا
وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة ومجاهد أهش بضم الهاء وتخفيف الشين المعجمه ثم قال : لا اعرف وجهه إلا أن يكون بمعنى اهش بالتضعيف لكن فر منه لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي فيكون كتخفيف ظلت ونحوه اه وهو في غاية البعد وقرأت جماعة غنمي بسكون النون واخرى على غنمى على أن على جار ومجرور غنمى مفعول صريح للفعل السابق ولم اقف على ذكر كيفية قراءة هذه الجماعة ذلك الفعل وهو على قراءة الجمهور مما لا يظهر تعديه للغنم وكذا على قراءة غيره إلا بنوع تكلف والغنم الشاة وهو اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكر والاناث وعليهم جميعا ولا واحد له من لفظه وإنما واحدة شاه وإذا صغرته قلت غنيمة بالهاء ويجمع على اغنام وغنوم واغانم وقالوا : غنمان في التثنية على ارادة قطعتين وقدم عليه السلام بيان مصلحة نفسه في قوله اتوكأ عليها وثنى بمصلحة رعيته في قوله : واهش بها على غنمى ولعل ذلك لأنه عليه السلام كان قريب العهد بالتوكؤ فكان اسبق إلى ذهنه ويليه الهش على غنمه وقد روى الامام احمد أنه عليه السلام بعد أن ناده ربه سبحانه وتحقق أنه جل وعلا هو المنادى قال سبحانه له : ادن منى فجمع يديه في العصا ثم تحامل حتى استقل قائما فرعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه وانقطع لسانه وانكسر قلبه ولم يبقى منه عظم يحمل أخر فهو بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجرى فيه ثم زحف وهو مرعوب حتى وقف قريبا من الشجرة التي نوديا منها فقال له الرب تبارك وتعالى ما تلك بيمينك يا موسى فقال ما قص عز و جل وقيل : لعل تقديم التوكؤ عليها لأنه الاوفق للسؤال بما تلك بيمينك ثم أنه عليه السلام اجمل اوصافها في قوله ولى فيها مارب اخرى
18
- أي حاجات أخر ومفردة مأربه مثلثة الراء وعومل في الوصف معاملة مفرده فلم يقل أخر وذلك جائز في غير الفواصل وفيها كما هنا اجوز واحسن
(16/175)

ونقل الاهوازى في كتاب الاقناع عن الزهر وشيبه أنهما قرأ مارب بغير همز وكأنه يعنى بغير همز محقق ومحصله أنهما سهلا الهمزة بين بين وقد روى الامام احمد وغيره عن وهب في تعين هذه المآرب أنه كان لها شعبتان ومحجم تحتهما فاذا طال الغصن حناه بالمحجم وإذا اراد كسره لواه بالشعبتين وكان إذا شاء عليه السلام القاها على عاتقه فعلق بها قوسه وكنانته ومخلاته وثوبه وزادا أن كان معه وكان إذا رتع في البريه حيث لا ظل له ركزها ثم عرض بالزندين الزند الاعلى والزند السفلى على شعبتيها والقى فوقها كساءه فاستظل بها ما كان مرتعا وكان إذا ورد ماء يقصر عنه غشائه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه
وذكر بعضهم أنه كان عليه السلام يستقى بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين وإذا ظهر عدو حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فاورقت واثمرت وكان يحمل عليها زاده وسقاه فجعلت تماشيا ويركزها فينبع الماء وإذا رفعها نبض وكان تقية بالهوام وكانت تحدثه وتؤنسه ونقل الطبرسى كثيرا مما ذكر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما
والظاهر أن ذلك مما كان فيها بعد وتكلف بعضهم للقول بأنهم مما كان قبل ويحتمل أن صح خبر في ذلك ولا اراه يصح فيه شئ وكان المراد من سؤاله تعالى إياه عليه السلام أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه تعالى عقب ذلك الآية العظيمة كأنه جل وعلا يقول : اين انت عن هذه المنفعه العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها فما طلبة للوصف أو يقدر المنفعة بعدها واختيار ما يدل على البعد في اسم الاشارة للاشارة إلى التعظيم وكذا في النداء ايماء اليه والتعداد في الجواب لاجله و مآرب اخرى تتميم للاستعظام بأنها اكثر من أن تحصى وذكر العصا في الجواب ليجرى عليها النعوت المادحة وفيه من تعظيم شأنها ما ليس في ترك ذكرها ويندفع بهذا ما اورد من أنه يلزم على هذا الوجه استدراك هى عصاى إذ لا دخل له في تعداد المنافع
ويجوز أن يكون المراد اظهاره عليه السلام حقارتها ليريه عز و جل عظيم ما يخترعه في الخشبة اليابسة مما يدل على باهر قدرته سبحانه كما هو شأن من أراد أن يظهر من الشئ الحقير شيئا عظيما فانه يعرضه على الحاضرين ويقول ما هذا فيقولون هو الشئ الفلانى ويصفونه بما يبعد عما يريد اظهاره منه ثم يظهر ذلك فما طالبة للجنس و تلك للتحقير والتعداد في الجواب لاجله ومآرب اخرى تتميم لذلك أيضا بأن المسكوت عنه من جنس المنطوق فكانه عليه السلام قال : هي خشبة يابسة لا تنفع إلا منافع سائر الخشبات ولذلك ذكر عليه السلام العصا واجرى عليها ما اجرى وقيل أنه عليه السلام لما رأى من ايات ربه ما رأى غلبت عليه الدهشة والهيبة فسأله سبحانه وتكلم معه ازالة لتلك الهيبة والدهشة فما طالبة أما للوصف أو للجنس وتكرير النداء لزيادة التانيس ولعل اختيار ما يدل على البعد في اسم الاشارة لتنزيل العصا منزلة البعيد لغفلته عليه السلام عنها بما غلب عليه من ذلك والاجمال في قوله : ولى فيها مارب اخرى يحتمل أن يكون رجاء أن يسأله سبحانه عن تلك الماآرب فيسمع كلامه عز و جل مرة اخرى وتطول المكالمة وتزداد اللذاذة التي لأجلها اطنب أولا وما الذ مكالمة المحبوب ومن هنا قيل : واملى حديثا يستطاب فليتنى اطلت ذنوبا كى يطول عتابه
(16/176)

ويحتمل أن يكون لعود غلبة الدهشة اليه عليه السلام وزعم بعضهم أنه تعالى سأله عليه السلام ليقرره على أنها خشبة حتى إذا قلبها حية لا يخافها وليس بشئ وعلى جميع هذه الأقوال السؤال واحد والجواب واحد كما هو الظاهر وقيل : اتوكؤا عليها الخ جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال : هي عصاى قال له تعالى : فما تصنع بها فقال : اتوكؤا عليها الخ وقيل : إنه تعالى سأله عن شيئين عن العصا بقوله سبحانه وما تلك وعما يملكهه منها بقوله عز و جل : بيمينك فاجاب عليه السلام عن الأول بقوله : هى عصاى وعن الثانى بقوله : اتؤكوا عليها الخ ولايخفى أن كلا القولين لاينبغي أن يتوكأ عليهما لاسيما الاخير
هذا واستدل بالاية على استحباب التوكؤ على العصا وان لم يكن الشخص بحيث تكون وترا لقوسه وعلى استحباب الاقتصاد في المرعى بالهش وهو ضرب الشجر ليسقط الورق دون الاستئصال ليخلف فينتفع به الغير
وقد ذكر الامام فيها فوائد سنذكر بعضها في باب الاشارة لأن ذلك اوفق به قال استئناف مبني على سؤال ينساق اليه الذهن كأنه قيل : فماذا قال الله عز و جل فقيلقال : القها يا موسى
19
- لترى من شأنها ماترى والالقاء الطرح على الارض ومنه قوله : فالقت عصاها واستقرت بها النوى كما قرى عينا بالاياب المسافر وتكرير النداء لمزيد التنبيه والاهتمام بشأن العصا وكون قائل هذا هو الله تعالى هو الظاهر وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون القائل الملك بأمر الله تعالى وقد ابعد غاية البعد فالقيها ريثما قيل له القها فاذا هى حية تسعى
20
- تمشى وتنتقل بسرعة والحية اسم جنس ينطلق على الصغير والكبير والانثى والذكر وقد انقلبت حين القاها عليه السلام ثعبانا وهو العظيم من الحيات كما يفصح عنه قوله تعالى : فاذا هى ثعبانمبين وتشبيهها بالجان وهو الدقيق منها في قوله سبحانه : فلما رآها تهتز كأنها جان من حيث الجلادة وسرعة الحركة لا من حيث صغر الجثة فلا منافاة وقيل : أنها انقلبت حين القاها عليه السلام حية صفراء في غلظ العصا ثم انتفخت وغلظت فلذلك شبهت بالجان تارة وسميت ثعبانا اخرى وعبر عنها بالاسم العام للحالين والأول هو الاليق بالمقام مع ظهور اقتضاء الآية التي ذكرناها له وبعدها عن التأويل وقد روى الاكمام احمد وغيره عن وهب أنه عليه السلام حانت منه نظرة بعد أن القاها فاذا باعظم ثعبان نظر اليه الناظرون يرى يلتمس كأنه يبتغى شيئا يريد اخذه يمر بالصخرة مثل الخلفة من الابل فيلتقمها ويطعن بالناب من انيابه في اصل الشجرة العظيمة فيجتثها عيناه توقيدان نارا وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك وعاد الشعبتان فما مثل القليب الواسع فيه اضراس وانياب لها صريف
وفي بعض الآثار أن بين لحييه اربعين ذراعا فلما عاين ذلك موسى عليه السلام ولى مدبرا ولم يعقب فذهب حتى امعن ورأى أنه قد اعجز الحية ثم ذكر ربه سبحانه فوقف استحياء منه عز و جل ثم نودى يا موسى إلى ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف فأمره سبحانه وتعالى باخذها وهو ما قص الله تعالى بقوله عز قائلا قال أي الله عز و جل والجملة استئناف كما سبق خذها أي الحية وكانت على ما روى عن ابن عباس ذكرا وعن وهب أنه تعالى قال له : خذها بيمينك ولا تخف منها ولعل ذلك الخوف
(16/177)

مما اقتضته الطبيعة البشرية فان البشر بمقتضى طبعه يخاف عند مشاهدة مثل ذلك وهو لا ينافى جلالة القدر
وقيل : إنما خاف عليه السلام لأنه رأى امرا هائلا صدر من الله عز و جل بلا واسطة ولم يقف على حقيقة أمره وليس ذلك كنار ابراهيم عليه السلام لأنها صدرت على يد عدو الله تعالى وكانت حقيقة أمرها كنار على علم فاذلك لم يخف عليه السلام منها كما خاف موسى عليه السلام من الحية وقيل : إنما خاف لأنه عرف ما لقى من ذلك الجنس حيث كان له مدخل في خروج ابيه من الجنة وإنما عطف النهى على الأمر للاشعار بأن عدم المنهى عنه مقصود لذاته لا لتحقيق المامور به فقط وقوله تعالى سنعيدها أي بعد الاخذ سيرتها أي حالتها الأولى
21
- التي هي العصوية استئناف مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهى فان اعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات اخذها وعدم الخوف منها ودعوى أن فيه مع ذلك عدة كريمة باظهار معجزة اخرى على يده عليه السلام وايذانا بكونها مسخرة له عليه السلام ليكون على طمانينة من أمره ولا تعترية شائبة تزلزل عند محاجة فرعون لا تخلو عن خفاء وذكر بعضهم أن حكمة انقلابها حية وأمره باخذها ونهيه عن الخوف تانيسه فيما يعلم سبحانه أنه سيقع منه مع فرعون ولعل هذا ماخذ تلك الدعوى
قيل : بلغ عليه السلام عند هذا الخطاب من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها وياخذ بلحييها وفي رواية الامام احمد وغيره عن وهب أنه لما امره الله تعالى باخذها ادنى طرف المدرعة على يده وكانت عليه مدرعة من الصوف قد خلها بخلال من عيدان فقال له ملك : ارايت يا موسى لو اذن الله تعالى بما تحاذر اكانت المدرعة تغنى عنك شيئا قال : لا ولكنى ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الاضراس والانياب ثم قبض فاذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها فيه إذا توكا بين الشعبتين والرواية الأولى اوفق بمنصبه الجليل عليه السلام واخج ابن أبى حاتم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه عليه السلام نودى المرة الأولى يا موسى خذها فلم ياخذها ثم نودى الثانية خذها ولا تخف فلم ياخذها ثم نودى الثالثة إنك من الآمنين فاخذها وذكر مكى في تفسيره أنه قيل له في المرة الثالثة : سنعيدها سيرتها الأولى ولا يخفى أن ما ذكر بعيد عن منصب النبوة فلعل الخبر غير صحيح
والسيرة فعلة من السير تقال للهيءة والحالة الواقعة فيه ثم جردت لمطلق الهيئة والحالة التي يكون عليها الشئ ومن ذلك استعمالها في المذهب والطريقة في قولهم مسيرة السلف وقول الشاعر : فلا تغضبن من سيرة انت سرتها فاول راض سيرة من يسيرها واختلف في توجيه نصبها في الآية فقيل : إنها منصوبة بنزع الخافض والأصل إلى سيرتها أو لسيرتها وهو كثير وإن قالوا : إنه ليس بمقيس وهذا ظاهر قول الحوفى : إنها مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار نحو واختار موسى قومه واليه ذهب ابن مالك وارتضاه ابن هشام وجوز الزمخشرى أن يكون اعاد منه ولا من عاده بمعنى عاد اليه ومنه قول زهير :
فصرم حبلها إذ صرمته
وعادك أن تلاقيها عداء
فيتعدى إلى مفعولين والظاهر أنه غير التوجيه الأول لاعتبار النقل فيه والخافض يحذف من اعاد من غير نظر إلى ثلاثيه وتعدى عاد بنفسه مما صح به النقل فقد نقل الطيبى عن الاصمعى أن عادك في البيت متعد بمعنى صرفك وكذا نقل الفاضل اليمنى وفي المغرب العود الصيرورة ابتداء وثانيا ويتعدى بنفسه وبالى وعلى وفي اللام
(16/178)

وفى مشارق اللغة للقاضى عياض مثله ونقل عن الحديث اعدت فتانا يا معاذ وقال أبو البقاء : هي بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال وجوز أن يكون النصب على الظرفية أي سنعيدها في طريقتها الأولى
وتعقبه أبو حيان قائلا : أن سيرتها وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى اليه الفعل على طريقة الظرفية إلا بواسطة في ولا يجوز الحذف إلا في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب وحاصله أن شرط الانتصاب على الظرفية هنا وهو الابهام مفقود وفي شرح التسهيل عن نحاة المغرب انهم قسموا المبهم إلى أقسام منها المشتق من الفعل كالمذهب والمصدر الموضوع للظرف نحو قصدك ولم يفرقوا بين المختوم بالتاء وغيره فالنصب على الظرفية فيما ذكر غير شاذ ولاضرورة وجوز الزمخشرى واستحسنه أن يكون سنعيدها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشاناها اولا و سيرتها منصوبا على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر أي تسير سيرتها الأولى أي سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكا عليها وتهش بها على غنمك ولك فيها الماآرب التي عرفتها انتهى
والظاهر أنه جعل الجملة من الفعل المقدر وفاعله حالا ويجوز أن يكون استئنافا ولا يخفى عليك أن ما ذكره وان حسن معنى إلا أنه خلاف المتبادر هذا والآية ظاهرة في جواز انقلاب الشئ عن حقيقته كانقلاب النحاس إلى الذهب وبه قال جمع ولا مانع في القدرة من توجه الأمر التكوينى إلى ذلك وتخصيص الارادة له وقيل : لا يجوز لأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به والحق الأول بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس مثلا ذهبا على ماهو رأى بعض المحققين أو بأن يسلب عن اجزاء النحاس الوصف الذى صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذى بصير به ذهبا على ما هو رأى بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشئ في الزمن الواحد نحاسا وذهبا وانقلاب العصا حية كان باحد هذين الاعتبارين والله تعالى أعلم بايهما كان والذي اميل اليه الثاني فان في كون خلق البدل انقلابا خفاء كما لا يخفى
وقوله تعالى : واضمم يدك إلى جناحك أمر له عليه السلام بعد ما اخذ الحية وانقلبت عصا كما كانت والضم الجمع والجناح كما في القاموس اليد والعضد والابط والجانب ونفس الشئ ويجمع على اجنحة واجنح وفي البحر الجناح حقيقة في جناح الطائر والملك ثم توسع فيه فانطلق على اليد والعضد وجنب الرجل
وقيل : لمجتنبى العسكر جناحان على سبيل الاستعارة وسمى جناح الطائر بذلك لأنه يجنحه أي يميله عند الكيران والمراد ادخل يدك اليمنى من طوق مدرعتك واجعلها تحت ابط اليسرى أو تحت عضدها عند الابط أو تحتها عنده فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى : ادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء جعله بعضهم مجزوما في جواب الأمر المذكور على اعتبار معنى الادخال فيه وقال أبو حيان : وغيره أنه مجزوم في جواب أمر مقدر واصل الكلام لضمم يدك تنضم وأخرجها تخرج فحذف ما حذف من الأول والثانى وابقى ما يدل عليه فهو ايجاز يسمى بالاحتباك ونصب بيضاء على الحال من الضمير في تخرج والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من الضمير في بيضاء أو صفة لبيضاء كما قال الحوفى أو متعلق به كما قال
(16/179)

أبو حيان كأنه قيل : ابيضت من غبر سوء أو متعلق بتخرج كما جوزه غير واحد والسوء الرداءة والقبح في كل شئ وكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسواة لما أن الطباع تنفر عنه والأسماع تمجه وهو أبغض شئ عند العرب ولهذا كنوا عن جذيمة صاحب الزباء وكان أبرص بالأبراش والوضوح وفائدة التعرض لنفى ذلك الاحتراس فانه لو اقتصر على قوله تعالى : تخرج بيضاء لأ وهم ولو بعد أن ذلك من برص ويجوز أن يكون الاحتراس عن توهم عيب الخروج عن الخلقة الأصلية على أن المعنى تخرج بيضاء من غير عيب وقبح في ذلك الخروج أو عن توهم عيب مطلقا يروى أنها خرجت بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشى البصر وكان عليه السلام ادم اللون إية اخرى
22
- أي معجزة اخرى غير العصا وانتصابها على الحالية من ضمير تخرج والصحيح جواز تعدد الحال لذى حال واحدا ومن ضمير بيضاء أو من الضمير في الجار والمجرور على ما قيل أو على البدلية من بيضاء ويرجع إلى الحالية من ضمير تخرج ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مضمر أي خذ اية وحذف لدلال الكلام وظاهر كلام الزمخشرى جواز تقدير دونك عاملا وهو مبنى على ما هو ظاهر كلام سيبويه من جواز عمل اسم الفعل محذوفا ومنعه أبو حيان لأنه نائب عن الفعل ولا يحذف النائب والمنوب عنه ونقض بيا الندائية فأنها تحذف مع أنها نائبة عن ادعوا وقيل : أنها مفعول ثان لفعل محذوف مع مفعوله الأول أي جعلناها أو آتيناك آية أخرى وجعل هذا القائل قوله تعالى : لنريك من آياتنا الكبرى
23
- متعلقا بذلك المحذوف ومن قدر خذ ونحوه جوز تعلقه به وجوز الحوفى تعلقه باضمم وتعلقه بتخرج وابو البقاء تعلقه بما دل عليه آية أي دللنا بها لنريك ومنع تعلقه بها لأنها قد وصفت وبعضهم تعلقه بالق واختار بعض المحققين أنه متعلق بمضمر ينساق اليه النظم الكريم كأنه قيل : فعلنا ما فعلنا لنريك بعض آياتنا الكبرى على أن الكبرى صفة لآياتنا على حد مآرب اخرى و من آياتنا في موضع المفعول الثانى ومن فيه للتبعيض أو لنريك بذلك الكبرى من آياتنا على أن الكبرى هو المفعول الثانى لنريك ومن آياتنا متعلق بمحذوف حال منه ومن فيه للابتداء أو للتبعيض وتقديم الحال مع أن صاحبه معرفة لرعاية الفواصل وجوز كلا الاعرابين في من آياتنا الكبرى الحوفى وابن عطية وابو البقاء وغيرهم
واختار في البحر الاعراب الأول ورجحه بأن فيه دلالة على أن اياته تعالى كلها كبرى بخلاف الاعراب الثانى وبانه على الثانى لا تكون الكبرى صفة العصا واليد معا وإلا لقيل : الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن في كل منهما معنى التفضيل ويبعد ما قال الحسن وروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما من أن اليد اعظم من الاعجاز من العصا لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والاعضاء المختلفة مع عودها عصا بعد ذلك فكانت اعظم في الاعجاز من اليد وجوز أن تكون الكبرى صفة لهما معا ولاتحاد المقصود جعلتا اية واحدة وافردت الصفة لذلك وان تكون صفة لليد والعصا غنية عن الوصف بها لظهور كونها كبرى
وانت تعلم أن هذا كله خلاف الظاهر وكذا ما قيل : من أن من على الاعراب الثانى للبيان بأن يكون المراد لنريك الآيات الكبرى من اياتنا ليصح الحمل الذى يقتضيه البيان ولا يترجح بذلك الاعراب الثانى على الأول ولا يساويه اصلا ولا يخفى عليك أن كل احتمال من احتمالات متعلق اللام خلا من الدلالة على وصف اية
(16/180)

العصا بالكبر لا ينبغى أن يعول عليه ويعتذر بأن عدم الوصف للظهور مع ظهور الاحتمال الذى لا يحتاج معه إلى الاعتذار عن ذلك المقال فتامل والله تعالى العاصم من الزلل اذهب إلى فرعون تخلص إلى ما هو المقصد من تمهيد المقدمات السالفة فصل عما قبله من الاوأمر ايذانا باصالته أي اذهب اليه بما رايته من آياتنا الكبرى وادعه إلى عبادتى وحذره نقمتى
وقوله تعالى انه طغى
24
- تعليل للأمر أو لوجوب المامور به أي جاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر حتى تجاسر على العظيمة التى هي دعوى الربوبية قال وهب بن منبه : أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام : ادن فلم يزل يدنيه حتى شد ظهره بجذع الشجرة فاستقر وذهبت عنه الرعدة وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه ثم قال له بعد أن عرفه نعمته تعالى عليه : انطلق برسالتى فانك بعينى وسمعى وان معك ايدى ونصرى وانى قد البستك جنة من سلطانى تستكمل بها القوة في امرى فانت جند عظيم من جنودى بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقى بطر نعمتى وآمن مكرى وغرته الدنيا حتى جحد حقى وانكر ربوبيتى وعبد من دمنى وزعم أنه لا يعرفنى وانى لأقسم بعزتى لو لا العذر والحجة اللذان وضعت بينى وبين خلقى لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والارض والجبال والبحار فان أمرت السماء حصبته وان أمرت الأرض لبتلعته وان أمرت البحار غرقته وان أمرت الجبال دمرته ولكنه هان على وسقط من عينى ووسعه حلمى واستغنيت بما عندى وحق لى انى انا الغنى لا غنى غيري فبلغه رسالتى وادعه إلى عبادتى وتوحيدى واخلاص اسمى وذكره بايامى وحذره نقمتى وباسى واخبره أنه لا يقوم شئ لغضبى وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى واخبره انى إلى العفو والمغفرة اسرع منى إلى الغضب والعقوبة ولا يروعنك ما البسته من لباس الدنيا فان ناصيته بيدى ليس بطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا باذنى وقل له : اجب ربك فانه واسع المغفرة وانه قد امهلك اربعمائة سنة في كلها انت مبارزه بالمحاربة تتشبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء وينبت لك الأرض لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ولو شاء أن يفعل ذلك بك فعل ولكنه ذو اناة وحلم عظيم في كلام طويل
وفي بعض الروايات أن الله تعالى لما امره عليه السلام بالذهاب إلى فرعون سكت سبعة ايام وقيل : اكثر فجاءه ملك فقال : انفذ ما امرك ربك وفي القلب من صحة ذلك شئ قال استئناف بيانى كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام حين قيل له ما قيل فاجاب بأنه قال : رب اشرح لى صدرى
25
- ويسر ويسر لى امرى
26
- الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى اذهب إلى فرعون الخ وذلك أنه عليه السلام علم من الأمر بالذهاب اليه والتعليل بالعلة المذكورة أنه كلف امرا عظيما وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جاش رابط وصدر فسيح فاستوهب ربه تعالى أن يشرح صدره ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى أن يرد عليه في طريق التبليغ والدعوة إلى مر الحق من الشدائد التى يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات وان يسهل عليه مع ذلك امره الذى هو أجل الأمور وأعظمها وأصعب الخطوب وأهولها بتوفيق الأسباب ورفع الموانع فالمراد من شرح الصدر جعله بحيث لا يضجر ولا يقلق ما يقتضى بحسب البشرية الضجر والقلق من
(16/181)

الشدائد وفي طلب ذلك اظهار لكمال الافتقار اليه عز و جل واعراض عن الانانية بالكلية : ويحسن اظهار التجلد للعدا ويقبح إلا العجز عند الاحبة وذكر الراغب أن اصل الشرح البسط ونحوه وشرح الصدر بسطه بنور الهى وسكينة من جهة الله تعالى وروح منه عز و جل ولهم فيه عبارات اخرى لعل بعضها سياتى أن شاء الله تعالى في باب الاشارة وقال بعضهم : أن هذا القول معلق بما خاطبه الله تعالى به من لدن قوله سبحانه انى انا ربك فاخلع نعليك إلى هذا المقام فيكون قد طلب عليه السلام شرح الصدر ليقف على دقائق المعرفة واسرار الوحى ويقوم بمراسم الخدمة والعبادة على اتم وجه ولا يضجر من شدائد التبليغ وقيل : أنه عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم وخوطب بما خوطب في ذلك المقام احتاج إلى تكاليف شاقة من تلقى الوحى والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى واصلاح العالم السفلى فكانه كلف بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالأخر فسأل شرح الصدر حتى يفيض عليه من القوة ما يكون وافيا بضبط تدبير العالمين وقد يقال : أن الأمر بالذهاب إلى فرعون قد انطوى فيه الاشارة إلى منصب الرسالة المستتبع تكاليف لائقة به منها ما هو راجع إلى الحق ومنها ما هو منوط بالخلق وقد استشعر موسى عليه السلام كل ذلك فبسط كف الضراعة لطلب ما يعينه على اداء ذلك على اكمل وجه فلا يتوقف تعميم شرح الصدر على تعلقه بأول الظلام كما لا يخفى ثم أن الصدر عنه علماء الرسوم يراد منه القلب لأنه المدرك أو مما به الادراك والعلاقة ظاهرة
ولعلماء القلوب كلام في ذلك سياتى أن شاء الله تعالى في باب الاشارة مع بعض ما اكنب به الامام في تفسير هذه الآية وفي ذكر كلمة لى مع انتظام الكلام بدونها تاكيد لطلب الشرح والتيسير بابهام المشروح والميسر اولا وتفسيرهما ثانيا فانه لما قال اشرح لى علم أن ثم مشروحا يختص به حتى لو اكتفى لتم فاذا قيل صدرى افاد التفسير والتفصيل أما لو قيل اشرح واكتفى به فلا وكذا الكلام في يسر لى وقيل : ذكر لى لزيادة الربط كما في قوله تعالى اقترب للناس حسابهم وتعقب بأنه لا منافاة وهو الذي افاد هذا المعنى وفي الانتصاف أن فائدة ذكرها الدلالة على أن منفعة شرح الصدر راجعة اليه فانه تعالى لا يبالى بوجوده وعدمه وقس عليه يسر لى امرى واحلل عقدة من لسانى
27
- روى أنه كان في لسانه عليه السلام رتة من جمرة ادخالها فاه في صغره
وذلك أن فرعون حمله ذات يوم فاخذ خصله من لحيته لما كان فيها من الجواهر وقيل : لطمه وقيل : ضربه ضربه بقضيب في يده على رأسه فتطير فدعا بالسياف فقالت اسية بنت مزاحم أمراته وكانت تحب موسى عليه السلام : إنما هو صبى لا يفرق بين الياقوت والجمر فاحضرا واراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه السلام يده إلى الجمرة فاخذها فوضعها في فيه فاحترق لسانه
وفي هذا دليل على فساد قول القائلين بأن النار تحرق بالطبيعة من غير مدخلية لاذن الله تعالى في ذلك إذ لو كان الأمر كما زعموا لأحرقت يده وذكر في حكمة إذن الله تعالى لها باحراق لسانه دون يده أن يده صارت الة لما ظاهره الاهانة لفرعون ولعل تبييضها كان لهذا أيضا وان لسانه كان إلة لضد ذلك بناء على ما روى أنه عليه السلام دعاه بما يدعو به الاطفال الصغار ابائهم وقيل : احترقت يده عليه السلام أيضا فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ولعل ذلك لئلا يدخلها عليه السلام مع فرعون في قصة واحدة فتفقد
(16/182)

بينهما حرمة المؤاكلة فلما دعاه قال : إلى أي رب تدعونى قال : إلى الذي ابرا يدى وقد عجزت عنه وكان الظاهر على هذا أن يطرح عليه السلام النار من يده ولا يوصلها إلى فيه ولعله لم يحس بالالم إلا بعد أن اوصلها فاه أو احس لكنه لم يفرق بين القائها في الأرض والقائها في فمه وكل ذلك بتقدير الله تعالى ليقضى الله امرا كان مفعولا وقيل : كانت العقدة في لسانه عليه السلام خلقة وقيل : أنها حدثت بعد المناجاة وفيه بعد
واختلف في زوالها بكمالها فمن قال به كالحسن تمسك بقوله تعالى قد أوتيت سؤلك يا موسى من لم يقل به كالجبائى احتج بقوله تعالى هو افصح منى وقوله سبحانه ولا يكاد يبين
وبما روى أنه كان في لسان الحسين رضى الله تعالى عنه رتة وحبسة فقال النبى صلى الله عليه وسلام فيه : أنه ورثها من عمه موسى عليه السلام وأجاب عن الأول بأنه عليه السلام لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية بل عقدة تمنع الافهام ولذلك نكرها ووصفها بقوله من لسانى ولم يضفها مع أنه اخصر ولا يصلح ذلك للوصفية إلا بتقدير مضاف وجعل من تبعيضية أي عقدة كائنة من عقد لسانى فان العقدة للسان لا منه وجعل قوله تعالى : يفقهوا قولى
28
- جواب الطلب وغرضا من الدعاء فبحلها من الجملة يتحقق ايتاء سؤله عليه السلام واعترض على ذلك بأن قوله تعالى هو افصح منى قال عليه السلام قبل استدعاء الحل على أنه شاهد على عدم بقاء اللكنة لأن فيه دلالة على أن موسى عليه السلام كان فصيحا غايته أن فصاحة اخيه اكثر وبقية اللكنة تنافى الفصاحة اللغوية المرادة هنا بدلالة قوله لساناويشهد لهذه المنافاة ما قاله ابن هلال في كتاب الصناعتين : الفصاحة تمام إلة البيان ولذا لا يقال : لله تعالى فصيح وان قيل لكلامه سبحانه فصيح ولذلك لا يسمى الالثغ والتمتام فصيحين لنقصان إلتهما عن اقامة الحروف وبان قوله تعالى ولا يكاد يبين معناه لا ياتى ببيان وحجة وقد قال ذلك اللعين تمويها ليصرف الوجوه عنه عليه السلام ولو كان المراد نفى البيان وافهام الكلام لاعتقال اللسان لدل على عدم زوال العقدة اصلا ولم يقل به أحد وبانا لا نسلم صحة الخبر وبان تنكير عقدة يجوز أن يكون لقلتها في نفسها ومن يجوز تعلقها باحلل كما ذهب اليه الحوفى واستظهره أبو حيان فان المحلول إذا كان متعلقا بشئ ومتصلا به فكما يتعلق الحل به يتعلق بذلك الشئ أيضا باعتبار ازالته عنه أو ابتداء حصوله منه وعلى تقدير تعلقها بمحذوف وقع صفة لعقدة لا نسلم وجوب تقدير مضاف وجعل من تبعيضية ولا مانع من أن تكون بمعنى في ولا تقدير أي عقدة في لسانى بل قيل : ولا مانع أيضا من جعلها ابتدائية مع عدم التقدير واى فساد في قولنا : عقدة ناشئة من لسانىوالحاصل أن ما استدل به على بقاء عقدة ما في لسانه عليه السلام وعدم زوالها بالكلية غير تام لكن قال بعضهم : أن الظواهر تقتضى ذلك وهى وهى تكفى في مثل هذه المطالب وثقل ما في اللسان لا يخفف قدر الانسانوقد ذكر أن في لسان المهدى المنتظر رضى الله تعالى عنه حبسة وربما يتعذر عليه الكلام حتى يضرب بيده اليمنى فخذ رجله اليسرى وقد بلغك ما ورد في فضله وقال بعضهم : لا تقاوم فصاحة الذات اعراب الكلمات وأنشد قول القائل : سر الفصاحة كامن في المعدن لخصائص الأرواح لا للالسن وقول الاخر : لسان فصيه معرب في كلامه فيا ليته في موقف الحشر يسلم وما ينفع الاعراب أن لم يكن تقى وما ضر ذا تقوى لسان معجم
(16/183)

نعم ما يخل بأمر التبليغ من رتة تؤدى إلى عدم فهم الوحى معها ونفرة السامع عن سماع ذلك مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام فهم كلهم فصحاء اللسان لا يفوت سامعهم شئ من كلامهم ولا ينفر عن سماعه وان تفاوتوا في مراتب تلك الفصاحة وكانه عليه السلام إنما لم يطلب اعلا مراتب فصاحة اللسان وطلاقته عند الجبائى ومن وافقه لأنه لم ير في ذلك كثير فضل وغاية ما قيل فيه أنه زينة من زينة الدنيا وبهاء من بهائها والفضل الكثير في فصاحة البيان بالمعنى المشهور في عرف أهل المعانى والبيان وما ورد مما يدل على ذم ذلك فليس على اطلاقه كما بين في شروح الأحاديث ثم أن المشهور تفسير اللسان بالالة الجارحة نفسها وفسره بعضهم بالقوة النطقية القائمة بالجارحة والفقه العلم بالشئ والفهم له كما في القاموس وغيره وقال الراغب : هو التوصيل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم
والظاهر هنا الفهم أي احلل عقدة من لسانى يفهموا قولى واجعل لى وزيرا من اهلى
29
- هرون اخى
30
- أي معاونا في تحمل أعباء ما كلفته على أن اشتقاقه من الوزر بكسر فسكون بمعنى الحمل الثقيل فهو في الأصل صفة من ذلك ومعناه صاحب وزر أي حامل حمل ثقيل وسمى القائم بأمر الملك بذلك لأنه يحمل عنه وزر الأمور وثقلها أو ملجأ اعتصم برايه على أن اشتقاقه من الوزر بفتحتين واصله الجبل يتحصن به ثم استعمل بمعنى الملجأ مطلقا كما في قوله : شر السباع الضوارى دونه وزر والناس شرهم ما دونه وزر كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع وما ترى بشرا لم يؤذه بشر وسمى وزير الملك بذلك لأن الملك يعتصم برايه ويلتجئ اليه في أمره فهو فعيل بمعنى مفعول على الحذف والايصال أي ملجوء اليه أو هو للنسب وقيل : اصله ازير من الازر بمعنى القوة ففعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قابت همزته واوا كقلبها في موازر وقلبت فيه لأنضمام ما قبلها ووزير بمعناه فحمل عليه وحمل النظير على النظير كثير في كلامهم إلا أنه سمع مؤازر من غير ابدال ولم يسمع ازير بدونه على أنه مع وجود الاشتقاق الواضح وهو ما تقدم لا حاجة إلى هذا الاشتقاق وادعاء القلب ونصبه على أنه مفعول ثان لاجعل قدم على الأول الذي هو قوله تعالى هرون اعتناء بشأن الوزارة لأنها المطلوبة و لى صلة للجعل أو متعلق بمحذوف وقع حالا من وزيرا وهو صفة له في الأصل و من اهلى أما صفة لوزيرا أو صلة لاجعل وقيل : مفعولاه لى وزيرا و من اهلى على ما مر من الوجهين و هرون عطف بيان للوزير بناء على ما ذهب الية الزمخشرى والرضى من أنه لا يشترط التوافق في التعريف والتنكير وقيل : هو بدل من مزيرا وتعقب بأنه يكون حينئذ هو المقصود بالنسبة مع أن وزارته هي المقصودة بالقصد الأول هنا
وجوز كونه منصوبا بفعل مقدر في جواب من اجعل أي اجعل هرون وقيل : مفعولاه وزيرا من اهلى و لى تيبين كما في سقيا له
واعترض بأن شرط المفعول في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية منهما ولو ابتدات بوزيرا واخبرت عنه بمن أهل لم يصح إذ لا مسوغ للابتداء به وأجيب بأن مراد القائل : أن من اهلى هو المفعول الأول لتأويله ببعض اهلى كأنه قيل اجعل بعض اهلى وزيرا فقدم للاهتمام به وسداد المعنى يقتضيه ولا يخفى
(16/184)

بعده ومن ذلك قيل الاحسن أن يقال : أن المسوغ للابتداء بالنكرة هنا عطف المعرفة وهو هرون عليها عطف بيان وهو غريب وحوز في هرون أيضا على هذا القول كونه مفعولا لفعل مقدور وكونه بدلا وقد سمعت ما فيه
والظاهر أنه يجوز فيه لى عليه أيضا أن يكون صلة للجعل كما يجوز فيه على بعض الأوجه السابقة أن يكون تبيينا ولم يظهر لى وجه عدم ذكر هذا الاحتمال هناك ولا وجه عدم ذكر احتمال كونه صلة للجعل هنا ويفهم من كلام البعض جواز كل من الاحتمالين هنا وهناك وكذا يجوز أيضا أن يكون حالا من وزيرا ولعل ذلك مما يسهل أمر الانعقاد على ما قيل وفيه ما فيه و اخى على الوجوه عطف بيان للوزير ولا ضير في تعدده لشئ واحد أو لهرون ولا يشترط فيه كون الثانى اشهر كما توهم لأن الايضاح حاصل من المجموع كما حقق في المطول وحواشيه ولا حاجة إلى دعوى أن المضاف إلى الضمير أعرف من العلم لما فيها من الخلاف و ذا إلى ما في الكشف من أن اخى في هذا المقام اشهر من اسمه العلم لأن موسى عليه السلام هو العلم المعروف والمخاطب الموصوف بالمناجاة والكرامة والمتعرف به هو المعرفة في الحقيقة ثم أن البيان ليس بالنسبة اليه سبحانه لأنه جل شأنه لا تخفى عليه خافية وإنما اتيان موسى عليه السلام به على نمط ما تقدم من قوله هى عصاى الخ وجوز أن يكون اخى مبتدأ خبره أشدد به ازرى
31
- وأشركه في امرى
32
- وتعقبه أبو حيان بأنه خلاف الظاهر فلا يصار اليه لغير حاجة والكلام في الأخبار بالجملة الانشائية مشهور والجملة على هذا استئنافية والازر القوة وقيدها الراغب بالشديدة وقال الخليل وابو عبيدة : هو الظهر وروى ذلك عن ابن عطية والمراد احكم به قوتى واجعله شريكى في أمر الرسالة حتى نتعاون على ادائها كما ينبغى
وفصل الدعاء الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصال بينهما فان شد الازر عبارة عن جعله وزيرا وأما الاشراك في الأمر فحيث كان من احكام الوزارة توسط بينهما العاطف كذا قيل لكن في مصحف ابن مسعود وأشدد بالعطف على الدعاء السابق وعن أبى أشركه في أمرى وأشدد به ازرى فتأمل
وقرا زيد بن علي رضى الله تعالى عنهما والحسن وابن عامر أشدد بفتح الهمزة وأشركه بضمها على أنهما فعلان مضارعان مجزومان في جواب الدعاء اعنى قوله : اجعل وقال صاحب اللوامح : عن الحسن أنه قرا أشدد به مضارع شدد للتكثير والتكرير وليس المراد بالأمر على القراءة السابقة الرسالة لأن ذلك ليس في يد موسى عليه السلام بل أمر الارشاد والدعوة إلى الحق وكان هرون كما أخرج الحاكم عن وهب اطول من موسى عليهما السلام واكثر لحما وابيض جسما واعظم الواحا واكبر سنا وقيل : كان اكبر منه باربع سنين وقيل : بثلاث سنين وتوفى قبله بثلاث ايضا وكان عليه السلام ذا تؤدة وحلم عظيم
كى نسبحك كثيرا
33
- ونذكرك كثيرا
34
- غاية للادعية الثلاثة الأخيرة فان فعل كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثرا لفعل الأخر ومضاعفا له بسبب انضمامه اليه مكثر له في نفسه أيضا بسبب تقويته وتاييده إذ ليس المراد بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو في الخلوات حتى لا يتفاوت حاله عند التعدد والأنفراد بل ما يكون منهما في تضاعيف اداء الرسالة ودعوة المردة العتاة إلى الحق وذلك مما
(16/185)

لا ريب في اختلاف حالة في حالتى التعدد والأنفراد فان كلا منهما يصدر عنه بتاييد الأخر من اظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله حال الأنفراد و كثيرا في الموضعين نعت لمصدر محذوف أو زمان محذوف أي ننزهك عما لايليق بك من الصفات والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ويقبله من فئته الباغية من الشركة في الالوهية ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال تنزيها كثيرا ووصفا كثيرا أو زمانا كثيرا من جملته زمان دعوة فرعون واوان المحاجة معه كذا في ارشاد العقل السليم
وجوز أبو حيان كونه منصوبا على الحال أي نسبحك التسبيح في حال كثرته وكذا يقال في الأخير وليس بذاك وتقديم التسبيح على الذكر من باب تقديم التخلية على التحلية وقيل : لأن التسبيح تنزيه عما يليق ومحله القلب والذكر ثناء بما يليق ومحله اللسان والقلب مقدم على اللسان وقيل : أن المعنى كى نصلى لك كثيرا ونحمدك ونثنى عليك كثيرا بما اوليتنا من نعمتك ومننت به علينا من تحميل رسالتك ولا يخفى أنه لا يساعده المقام
انك كنت بنا بصيرا
35
- عالما باحوالنا وبان ما دعوتك به مما يصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كلفته من اقامة مراسم الرسالة وبان هرون نعم الردء في اداء ما أمرت به والباء متعلقة ببصيرا قدمت عليه لمراعاة الفواصل والجملة في موضع التعليل للمعلل الأول بعد اعتبار تعليله بالعلة الأولى وروى عبد بن حميد عم الأعمش أنه سكن كاف الضمير في المواضع الثلاثة وجاء أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دعا بمثل هذا الدعاء إلا أنه أقام عليا كرم الله تعالى وجهه مفام هرون عليه السلام فقد أخرج ابن مردميه والخطيب وابن عساكر عن اسماء بنت عميس قالت رايت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بازاء ثبير وهو يقول أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم انى اسألك مما اسألك اخى موسى أن تشرح لى صدرى وان تيسر لى أمرى وان تحل عقدة من لسانى يفقه قولى واجعل لى وزيرا من اهلى عليا اخى أشدد به ازرى وأشركه في أمرى كى نسبحك كثيرا أو نذكرك كثيرا انك كنت بنا بصيرا ولا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الارشاد والدعوة إلى الحق ولا يجوز حمله على النبوة ولا يصح الاستدلال بذلك على خلاف علي كرم الله تعالى وجهه بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلا فصل
ومثله فيما ذكر ما صح من قوله عليه الصلاة و السلام له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته : اما ترضى أن تكون منى بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى كما بين في التحفة الاثنى عشرية نعم في ذلك من الدلالة على مزيد فضل علي كرم الله تعالى وجهه مالا يخفى وينبغى أيضا أن يتأول طلبه صلى الله عليه و سلم حل العقدة بنحو استمرار ذلك لما أنه عليه الصلاة و السلام كان أفصح الناس لسانا قال قد اوتيت سؤلك يا موسى
36
- أي قد اعطيت سؤلك ففعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول والايتاء عبارة عن تعلق ارادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له عليه السلام كان البتة وتقديره تعالى اياها حتما فكلها حاصلة له عليه السلام وان كان وقوع بعضها بالفعل مرتبا بعد كتيسير الأمور وشد الازر وباعتباره قيل : سنشد عضدك باخيك وظاهر بعض الآثار يقتضى أن شركة هرون عليه السلام في النبوة أي استنبائه كموسى عليه السلام وقعت في ذلك المقام وان لم يكن عليه السلام فيه مع اخيه فقد أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال في قوله : وأشركه في امرى نبئ هرون ساعتئذ حين نبئ موسى عليهما السلام وندائه عليه السلام تشريف له بالخطاب اثر تشريف
(16/186)

ولقد مننا عليك استئناف مسوق لتقرير ما قبله وزيادة توطين لنفس موسى عليه السلام بالقبول ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء وطلب منه فلان ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى واحرى وتصديره بالقسم لكمال الأعتناء بذلك أي وبالله لقد انعمنا مرة أخرى
37
- أي في وقت غير هذا الوقت على أن أخرى تانيث أخر بمعنى مغايرة و مرة ظرف زمان والمراد به الوقت الممتد الذى وقع فيه ما سياتى أن شاء الله تعالى ذكره في المنن العظيمة الكثيرة وهو في الأصل اسم للمرور الواحد ثم اطلق على كل فعلة واحجة متعدية كانت أولا زمة ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ماله أفراد متجددة فصار علما في ذلك حتى جعل معيارا لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منه الكرة والتارة والدفعة وقال أبو حيان : المراد منه غير هذه المنة وليست أخرى تانيث أخر بكسر الخاء لتكون مقابلة للاولى وتوهم ذلك بعضهم فقال : سماها سبحانه أخرى وهى أولى لأنها أخرى في الذكر
إذ أوحينا إلى امك ما يوحى
38
- ظرف لمننا سواء كان بدلا من مرة ام لا وقيل : تعليل وهو خلاف الظاهر والمراد بالايحاء عند الجمهور ما كان بالهاء كما في قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل وتعقب بأنه بعيد لأنه قال تعالى في سورة القصص : انا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين ومثله لا يعلم بالالهام وليس بشئ لأنها قد تكون شاهدت منه عليه السلام ما يدل على نبوته وانه تعالى لا يضيعه والهام الأنفس القدسية مثل ذلك لا بعد فيه فانه نوع من الكشف إلا ترى قول عبد المطلب وقد سمى نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم محمدا فقيل له : لم سميت ولدك محمدا وليس من اسماء ابائك : أنه سيحمد وفى رواية زجوت أن محمد في السماء والأرض مع أن كون ذلك داخلا فى الملهم ليس بلازم
وأستظهر أبو حيان أنه كان يبعث ملك اليها لا على جهة النبوة كما بعث إلى مريم وهو مبنى على أن الملك يبعث إلى غير الأنبياء عليهم السلام وهو الصحيح لكن قيل : عليه أنه حينئذ ينتقص تعريف النبى بأنه من أوحى اليه ولو قيل : من أوحى اليه على وجه النبوة دار التعريف وأجيب بأنه لا يتعين ذلك ولو قيل : من أوحى اليه باحكام شرعية لكنه لم يؤمر بتبليغها لم يلزم محذور وقال الجبائى : أنه كان بالاراءة منا ما وقيل : كان على لسان نبى في وقتها كما في قوله تعالى وإذ اوحيت إلى الحواريين وتعقب بأنه خلاف الظاهر فانه لم ينقل أنه كان نبى في مصر زمن فرعون قبل موسى عليه السلام
وأجيب بأن ذلك لا يتوقف على كون النبى في مصر وقد كان شعيب عليه السلام نبيا في زمن فرعون في مدين فيمكن أن يكون اخبرها بذلك على أن كثرة انبياء بنى اسرائيل عليهم السلام مما شاع وذاع والحق أن انكار كون ذلك خلاف الظاهر مكابرة واختلف في اسم أمه عليه السلام والمشهور أنه يوحانذ وفي الاتقان هى محيانة بنت يصهر بن لاوى وقيل : بارخا وقيل : بازخت وما اشتهر من خاصية فتح الأقفال به بعد رياضة مخصوصة له مما لم نجد فيه اثرا ولعله حديث خرافة والمراد بما يوحى ما قصه الله تعالى فيما بعد من الأمر بقذفه في التابوت وقذفه في البحر أبهم اولا تهويلا له وتفخيما لشأنه ثم فسر ليكون اقر عند النفس وقيل : معناه ما ينبغى أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الأهتمام به كما يقال هنا مما يكتب وقيل : ما لا يعلم إلا بالوحى والأول أوفق بكل من المعانى السابقة المرادة بالايحاء إلا أنه قيل : عليه أنه لو كان المراد
(16/187)

منه التفخيم والتهويل لقيل إذ أوحينا كما قال سبحانه فأوحى إلى عبده ما أوحى وقال تعالى : فغشيهم من اليم ما غشيهم فان تم هذا فما قيل في معناه ثانيا أولى فتدبر
وان في قوله تعالى ان اقذفيه فى التابوت مفسرة لأن الوحى من باب القول أو مصدرية حذف عنها الباء أي بأن اقذفيه وقال ابن عطية : ان وما بعدها في تأويل مصدر بدل من ما وتقدم الكلام في وصل أن المصدرية بفعل الأمر والمراد بالقذف ههنا الوضعواما في قوله تعالى فاقذفيه في اليم فالمراد به الالقاء والطرح ويجوز أن يكون المراد به الوضع في الموضعين و اليم البحر لايكسر ولايجمع جمع سلامه وفي البحر هو اسم للبحر العذب وقيل : اسم للنيل خاصة وليس بصحيح وهذا التفصيل هنا هو المراد بقوله تعالى فاذا خفت عليه فالقيه فى اليم لاالقذف بلا تابوت فليلقه اليم بالساحل أي بشاطئه وهو الجانب الخالي عن الماء مأخوذ من سحل الحديد أي برده وقشره وهو فاعل بمعنى مفعول لأن الماء يسحله أي يقشره أو هو للنسب أي ذو سحل يعود الأمر إلى مسحول وقيل : هو من السحيل وهو من النهيق لأنه يسمع منه صوت والمراد به هنا مايقابل الوسط وهو مايلى الساحل من البحر حيث يجرى ماؤه إلى نهر فرعون
وقيل : المراد بالساحل الجانب والطرف مطلقا والمراد من الأمر الخبر واختير للمبالغة ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم قوموا فلأ صل لكم ولأخراج ذلك مخرج الأمر حسن الجواب فيما بعد وقال غير واحد : أنه لما كان القاه البحر إياه بالساحل أمرا واجب الوقوع لتعلق الأرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر ففى اليم استعارة بالكناية واثبات الأمر تخييل وقيل : أن فى قوله تعالى فليلقه استعارة تصريحية تبعية والضمائر كلها لموسى عليه السلام إذ هو المحدث عنه والمقذوف فى البحر والملقى بالساحل وان كان هو التابوت اصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تبعا له فى ذلك وقيل : الضمير الأول لموسى عليه السلام والضمير أن الأخير للتابوت ومتى كان الضمير صالحا لأن يعود على الأقرب وعلى الابعد كان عوده على الأقرب راجحا كما نص عليه النحويون وبهذا رد على أبى محمد بن حزم فى دعواه عود الضمير فى قوله تعالى فانه رجس على لحم لأنه المحدث عنه لاعلى خنزير فيحل شحمه وغضروفه وعظمه وجلده عنده لذلك والحق أن عدم التفكيك فيما نحن فيه أولى وما ذكره النحويون ليس على اطلاقه كما لايخفى ياحذه عدو لى وعدو له جواب للأمر بالالقاء وتكرير العدو للمبالغة من حيث أنه يدل على أن عداوته كثيرة لاواحدة وقيل : اب الأول للواقع والثانى للمتوقع وليس من التكرير للمبالغة فى شئ لأن ذلك فرع جواز أن يقال : عدو لى وله وهو لايجوز إلا عند القائلين بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز وأجيب بأن ذلك جائز وليس فيه الجمع المذكور فان فرعون وقت الأخذ متصف بالعداوه لله تعالى وله فى الواقع أما اتصافه بعداوه الله تعالى فظاهر وأما اتصافه بعداوة موسى فمن حيث أنه يبغض كل مولود فى تلك السنة ولو قلنا بعدم الاتصاف بعداوة موسى عليه السلام إذ ذاك يجوز أن يقال ذلك أيضا ويعتبر عموم المجاز وهو الملخص عن الجمع بين الحقيقة والمجاز فيما يدعى فيه ذلك
(16/188)

وقال الخفاجى : أنه لايلزم الجمع لأن عدو صفة مشبهه دالة على ثبوت الشامل للواقع والمتوقعولايخف أن هذا قول بأن الثبوت فى الصفة المشبههبمعنى الدواموقد قال هو فى الكلام على تفسير قوله تعالى : ولاتمش فى الأرض مرحا : ان معنى دلالتها على الثبوت أنها لاتدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام كما ذكره النحاة فما يقال : أن مرحا صفة مشبهه تدل على الثبوت ونفيه لايقتضي نفى اصله مغالطة نشات من عدم فهم معنى الثبوت فيها انتهى على أن كلامه هنا بعد الاغماض عن منافاته لما ذكره قبل لايخلو عن شئ
ومما ذكره فيما تقدم من تفسير معنى الثبوت يعلم أن الأستدلال بهذه الآية على أن فرعون لم يقبل ايمانه ومات كافرا كما هوالحق ليس بصحيح وكم له من دليل صحيح والظاهر أنه تعالى أبهم لها هذا العدو ولم يعلمها باسمه وإلالما قالت لاخته قصيه
والقيت عليك محبة منى كلمة من متعلقه بمحذوف وقع صفة لمحنوف مؤكدة لما فى تنكيرها من الفخامة الذاتيةبالفخامة الاضافية أي محبة عظيمة كائنة منى قد زرعتها فى القلوب فكل من رآك احبك بحيث لايصبر عنك قال مقاتل : كان فى عينيه ملاحة مارآه أحد إلا احبه وقال ابن عطية : جعلت عليه مسحة جمال لايكاد يصبر عنه من رآه روى أن أمه عليه السلام حين أوحى اليها ما أوحى جعلته فى تابوت من خشب وقيل : من بردى عمله مؤمن آل فرعون وسدت خروقه وفرشت فيه نطعا وقيل قطنا محلوجا وسدت فمه وجصصته وقيرتهوالقته فى اليم فبينما فرعون فى موضع يشرف على النيل وامرأته معه إذ رأى التابوت عند السحل فأمر به ففتح فاذا صبى اصبح الناس وجها فاحبه هو وامرأته حبا شديدا
وقيل : أن التابوت جاء فى الماء إلى المشرعة التى كانت جوارى امراة فرعون يستقين الماء فاخذن التابوت وجئن به اليهاوهن يحسبن أن فيه مالا فلما فتحته رأته عليه السلام فاحبته واعلمت فرعون وطلبت منه أن يتخذه ولد وقالت : قرة عين لى ولك لاتقتلوه فقال لها : يكون لك وأما انا فلاحاجة لى فيه ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كما رواه النسائى وجماعة عن ابن عباس : والذى يلف به لو اقر فرعون بأن يكون قرة عين له كما قالت امرأته لهداه الله تعالى به كما هدى به امرأته ولكن الله عز و جل حرمه ذللك وقيل : أن فرعون كان جالسا على رأس بركة له فى بستان ومعه امرأته فرأى التابوت وقد دفعه الماء إلى البركة من نهر يشرع من اليم فأمر بأخراجه فأخرج ففتح فاذا صبى اجمل الناس وجها فاحبه حتى لايكاد يصبر عنه وروى أنه كان بحضرته حين رأى التابوت اربعمائة غلام وجارية فحين اشارة باخذه وعد من يسبق إلى ذلك بالاعتاق فتسابقوا جميعا ولم يظفر باخذه إلا واحد منهم فاعتق الكلوفى هذا ما يطمع المقصر فى العمل من المؤمنين برحمة الله تعالى فانه سبحانه أرحم الراحمين واكرم الأكرمين وقيل : كلمة من متعلقة بالقيت فالمحبة الملقاة بحسب الذوق هى محبة الله تعالى له أي احببتك ومن احبه الله تعالى احبته القلوب لامحالة واعيرض القاضى على هذا بأن فى الصغر لايوصف الشخص بمحة الله تعالى إياه فانها ترجع إلى ايصال الثواب لوهو إنما يكون للمكلف ورد بأن محبة الله تعالى عند المؤولين عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو اعم من أن يكون جزاء على عمل اولا يكون والرد عند من لايؤول اظهر وجوز بعضهم ارادة المعنى الثانى على القول الأول فى التعلق وارادة المعنى الأول على القول الثانى فيه وزعم أن وجه التخصيص غير ظاهر وهو لايخفى
(16/189)

على ذي ذهن مستقيم وذوق سليم
وقوله تعالى ولتصنع على عينى
39
- متعلق بالقيت على أنه عطف على علة مضمرة أي ليتعطف عليك ولتصنع أو متعلق بفعل مضمر موخر أي ولتصنع الخ فعلت ذلك أي القاء المحبة عليك وزعم أنه متعلق بالقيت على أن الواء مقحمة ليس بشئ وعلى عينى أي بمرى منى متعلق بمحذف وقع حالا من المستتر فى تصنع وهو استعارة تمثيلية للحفظ والصون فان المصون يجعل بمرأى والصنع الاحسان قال النحاس : يقال صنعت الفرس إذا احسنت اليه والمعنى وليفعل بك الصنيعة والاحسان وتربى بالحنو والشفقة وانا وراعيك ومراقبك كما يراعى الرجل الشئ بعينه إذا اعتنى به ويجعل ذلك تمثيلا يندفع ما قاله الواحدى من أن تفسير على عيتى بما تقدم صحيح ولكن لا يكون في ذلك تخصيص لموسى عليه السلام فان جميع الأشياء بمرأى من الله تعالى على أنه قد يقال : هذا الاختصاص للتشريف كاختصاص عيسى عليه السلام بكلمة الله تعالى والكعبة بيت الله تعالى مع أن الكل موجود بكن وكل البيوت بيت الله سبحانه وقال : قتادة المعنى لتغذى على محبتى وارادتى وهو اختيار أبى عبيدةوابن الأنبارى وزعم الواحدى أنه الصحيح وقرا الحسن وابو نهيك ولتصنع بفتح التاء قال ثعلب : المعنى لتكون حركتك وتصرفك على عين منى لئلا تخالف امرى
وقرا أبو جعفر فى رواية ولتصنع بكسر اللام وجزم الفعل بها لأنها لام الأمر وأمر المخاطب باللام شاذ لكن لما كان الفعل مبنيا للمفعول هنا وكان اصله مسندا للغائب ولا كلام في أمره باللام استصحب ذلك بعد نقله إلى المفعول للاختصار والظاهر أن الهطف على قوله تعالى : والقيت عليك محبة منى إلا أن فيه عطف الأنشاء على الخبر وفيه كلام مشهور لكن قيل هنا : أنه هون أمره كون الأمر في معنى الخبر
وقال صاحب للوامح : أن العطف على قوله تعالى : فليلقه فلا عطف فيه للانشاء على الخبر
وقرا شيبة وابو جعفر في رواية أخرى كذلك إلا أنه سكن اللام وهى لام الأمر أيضا وبقية الكلام نحو ما مر ويحتمل أن تكون لام كى سكنت تخفيفا ولم يظهر فتح العين للادغام قال الخفاجى : وهذا حسن جدا
إذ تمشى أختك ظرف لتصنيع كما قال الحوفى وغيره على أن المراد به وقت وقع فيه مشى الأخت وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالحنو وهو المصداق لقوله تعالى : ولتصنع على عينى إذ لا شفقة اعظم من شفقة الأم وصنيعها على موجب مراعاته تعالى وجوز أن يكون ظرفا لا لقيت وان يكون بدلا من إذ أوحينا على انالمراد بها وقت متسع فيتحد الظرفان وتصح البدلية ولا يكون من ابدال أحد المتغايرين الذى لا يقع في فصيح الكلام
ورجح هذا صاحب الكشف فقال : هو الأوفق لمقام الامتنان لما فيه من تعداد المنة على وجه ابلغ ولما في تخصيص الالقاء أو التربية بزمان مشى الأخت من العدول إلى الظاهر فقبله كان عليه السلام محبوبا محفوظا ثم أولى الوجهين جعله ظرفا لتصنع وأما النصب باضمار اذكر فضعيف اهوانت تعلم أن الظاهر كونه ظرفا لتصنع والتقييد بعلى عينى يسقط التربية قبل في غير حجر الأم عن العين
واعترض أبو حيان وجه البدلية بأن كلا من الظرفين ضيق ليس بمتسع لتخصيصهم بما أضيف اليه وليس ذلك كالسنة في الامتداد وفيه تامل واسم اخته عليه السلام مريم وقيل : كلثوم وصيغة المضارع لحكاية
(16/190)

الحال الماضية وكذا قيال في قوله تعالى : فتقول هل أدلكم على من يكفله أي يضمه إلى نفسه ويربيه
فرجعناك إلى امك الفاء فصيحة أي فقالوا : دلينا على ذلك فجاءت بامك فرجعناك اليها كي تقر عينها بلقائك وقرئ تقر بكسر القاف وقرا جناح بن حبيش تقر بالبناء للمفعول ولا تحزن أي لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عن بقرة العين فان التخلية مقدمة على التحلية وقيل : الضمير المستتر في تحزن لموسى عليه السلام أي ولا تحزن انت بفقد اشفاقها وهذا وان لم يأبه النظم الكريم إلا أن حزن الطفل غير ظاهر وما في سورة القصص يقتضى الأول والقرآن يفسر بعضه بعضا
أخرج جماعة من خبر طويل عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن آسية حين أخرجت موسى عليه السلام من التابوت واستوهبته من فرعون فوهبه لها ارسلت إلى من حولها من كل امراة لها لبن لتختار لها ظئرا فلم يقبل ثدى واحدة منهن حتى اشفقت أن يمتنع من اللبن فيموت فاحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا ياخذ ثديها فلم يفعل واصبحت أمه والهة وقالت لاخته : قصى اثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا احى ابنى ام قد اكلته الدواب ونسيت الذي كان وعدها الله تعالى فبصرت به عن جنب فقالت من الفرح : انا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فاخذوها فقالوا : وما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه وشكوا في ذلك فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه لرغبتهم في رضا الملك والتقرب اليه فتركوها وسالوها الدلالة فانطلق إلى أمه فاخبرتها الخبر فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلاء جنباه ريا وانطلق البشرى إلى امراة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا فاارسلت اليها فاتيت بها وبه فلما رات ما يصنع بها قالت لها : امكثى عندى ارضعى ابنى هذا فانى لم احب حبه شيئا قط قالت : لا استطيع أن أدع بيتى وولدى فيضيع فان طابت نفسك أن تعطينيه فاذهب به إلى بيتى فيكون معى لا الوه خيرا فعلت وإلا فانى غير تاركه بيتى وولدى فذكرت ام موسى ماكان الله عز و جل وعدها فتعاسرت على امراة فرعون لذلك وايقنة أن الله عز و جل منجز وعده فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها فانبته الله تعالى نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه فلما ترعرع قالت امراة فرعون لأنه ارينى ابنى فوعدتها يوما تزورها به فيه فقالت لخزانها وقهارمتها : لا يبقى منكم أحد إلا استقبل ابنى بهدية وكرأمه ارى ذلك فيه وانا باعثه أمينه يحصى ما صنع كل انسان منكم فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل عليها فلما دخل اكرمته ونحلته وفرحت به ونحلت أمه لحسن اثرها عليه ثم انطلقت به إلى فرعون لينحله وليكرمه فكان ما تقدم من جلب لحيته ومن هذا الخبر يعلم أن المراد إذ تمشى أختك في الطريق لطلبك وتحقيق امرك فتقول : لمن انت بايديهم يطلبون لك ظئرا ترضعك هل أدلكم الخ
وفي روايه أنه لما اخذ من التابوت فشا الخبر بأن آل فرعون وجدو غلاما في النيل لا يرتضع ثدى امراة واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت اخته لتعرف خبره فجاءتهم متنكره فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا فالمراد على هذا إذ تمشى اختك إلى بيت فرعون فتقول إلى فرعون واسية أو لاسية هل أدلكم الخ
(16/191)

وقتلت نفسا هي نفس القطبى واسمه قانون الذى استغاثه عليه الاسرائيلى واسمه موسى بن ظفر وهو السامرى وكان سنه عليه السلام حين قتل على ما في البحر اثنتى عشرة سنة وفي الخبر عن الحبر ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه عليه السلام حين قتل القطبى كان من الرجال وكان قتله إياه بالوكز كما يدل عليه قوله تعالى : فوكزه موسى فقضى عليه وكان المراد وقتلت نفسها فاصابك غم فنجيناك من الغم وهو الغم الناشئ من القتل وقد حصل له من وجهين خوف عقاب الله تعالى حيث لم يقع القتل بامره سبحانه وخوف اقتصاص فرعون وقد نجاه الله تعالى من ذلك بالمغفرة حين قال : رب انى ظلمت نفسى فاغفر لى وبالمهاجرة إلى مدين وقيل : هو غم التابوت وقيل : غم البحر وكلا القولين ليس بشئ والغم في الأصل ستر الشئ ومنه الغمام لستره ضوء الشمس ويقال : لما يغم القلب بسبب خوف أو فوات مقصود وفرق بينه وبين الهم بأنه من أمر ماض والهم من أمر مستقبل وظاهر كلام كثير عدم الفرق وشمول كل لما يكون من أمر ماض وأمر مستقبل وفتناك فتونا أي ابتليناك ابتلاء على أن فتونا مصدر على فعول في المتعدى كالثبور والشكور والكفور والأكثر في هذا الوزن أن يكون مصدر اللازم أو فتونا من الابتلاء على أنه جمع فتن كالظنون جمع ظن أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بالتاء لأنها في حكم الانفصال كما قالوا في حجوز جمع حجزة وبدور جمع بدرة ونظم الابتلاء في سلك المنن قيل : باعتبار أن المراد ابتليناك واختبرناك بايقاعك في المحن وتخليصك منها وقيل : أن المعنى أوقعناك في المحنة وهو ما يشق على الانسان ونظم ذلك في ذلك السلك باعتبار أنه موجب للثواب فيكون من قبيل النعم وليس بشئ وقيل : أن فتناك بمعنى خلصناك من قولهم : فتنت الذهب بالنار إذا خلصته بها من الغش ولا يخفى حسنه والمراد سواء اعتبر الفتون مصدرا أو جمعا خلصناك مرة بعد أخرى وهو ظاهر على اعتبار الجمعية وأما على اعتبار المصدرية فلاقتضاء السياق ذلك وهذا اجمال ما ناله عليه السلام في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الالاف والمشى راجلا وفقد الزاد
وقد روى جماعة أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس عن الفتون فقال له : استانف النهار يا ابن جبير فان لها خبرا طويلا فلما اصبح غدا عليه فاخذ ابن عباس يذكر ذلك فذكر قصة فرعون وقتله اولاد بنى اسرائيل ثم قصة القاء موسى عليه الصلاة و السلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الارنضاع من الاجانب وارجاعه إلى أمه ثم قصة اخذه بلحية فرعون وغضب فرعون من ذلك وارادته قتله ووضع الجمرة والجوهرة بين يديه واخذه الجمرة ثم قصة قتله القبطى ثم هربه إلى مدين وصيرورته اجبيرا لشعيب عليه السلام ثم عوده إلى مصر واخطاء الطريق في الليلة المظلمة وتفرق غنمه فيها وكان رضى الله تعالى عنه عند تمام كل واحدة يقول هذه من الفتون يا ابن جبير ولكن قيل : الذى يقتضيه النظم الكريم أن لا يعد اجارة نفسه وما بعدها من تلك الفتون ضرورة أن المراد بها ما وقع قبل وصوله عليه السلام إلى مدين بقضية الفاء في قوله تعالى : فلبثت سنين في أهل مدين إذ لا ريب في أن الاجارة المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصول اليهم وقد اشير بذكر لبثه عليه السلام فيهم دون وصوله إلى جميع ما قساه عليه السلام
(16/192)

من فنون الفتون في تضاعيف مدة اللبث وهى فيما قيل عشر سنين وقال وهب : ثمان وعشرون سنة أقام في عشر منها يرعى غنم شعيب عليه السلام مهرا لابنته وفي ثمان عشرة مع زوجته وولد له فيها وهو الأوفق بكونه عليه السلام نبئ على رأس الأربعين إذا قلنا بأن سنه عليه السلام حين يخرج إلى مدين اثنتا عشرة سنة ومدين بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر
ثم جئت أي إلى المكان الذى ناديتك فيه وفي كلمة التراخى ايذان بأن مجيئه عليه السلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرق الغنم في الليلة المظلمة الشاتية وغير ذلك على قدر أي تقدير والمراد به المقدر أي جئت على وفق الوقت الذى قدرته وعينته لتكليمك واستنبائك بلا تقدم ولا تأخر عنه وقيل : هو بمعنى المقدر أي جئت على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السلام وهو رأس اربعين سنة
وضعف بأن المعروف في هذا المعنى القدر بالسكون لا التحريك وقيل : المراد على موعد وعدناكه وروى ذلك عن مجاهد وهو يقتصى تقدم الوعد على لسان بعض الأنبياء عليهم السلام وهو كما ترى وقوله تعالى يا موسى
40
- تشريف له عليه السلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية اولا وقوله سبحانه واصطنعتك لنفسى
41
- تذكير لقوله تعالى وانا اخترتك وتمهيد لارساله عليه السلام إلى فرعون مؤيدا باخيه حسبما استدعاه بعد تذكير المنن السابقة تاكيدا لوثوقه عليه السلام بحصول نظائرها اللاحقة ونظم ذلك الأمام في سلك المنن المحكية وظاهر توسيط النداء يؤيد ما تقدم والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة وهى الاحسان فمعنى اصطنعه جعله محل صنيعته واحسانه وقال القفال : يقال اصطنع فلان فلانا إذا احسن اليه حتى يضاف اليه فقال : هذا صنيع فلان وخريجه ومعنى لنفسى ما روى عن ابن عباس لوحيى ورسالتى وقيل : لمحبتى وعبر عنها بالنفس لأنها أخص شئ بها وقال الزجاج : المراد اخترتك لأقامة حجتى وجعلتك بينى وبين خلقى حتى صرت في التبليغ عنى بالمنزلة التي اكون انا بها لو خاطبتهم واحتجبت عليهم وقال غير واحد من المحققين : هذا تمثيل لما خوله عز و جل من جعله نبيا مكرما كليما منعما عليه بحلائل النعم بتقريب الملك من يراه أهلا لأن يقرب فيصطنعه بالكرامة والاثرة ويجعله من خواص نفسه وندمائه ولا يخفى حسن هذه الاستعارة وهى أوفق بكلامه تعالى وقوله تعالى لنفسى عليها ظاهر
وحاصل المعنى جعلتك من خواصى واصطفيتك برسالتى وبكلامى وفي العدول عن نون العظمة الواقعة في قوله سبحانه وفتناك ونظيريه السابقين تمهيد لأفراد النفس اللائق بالمقام فانه ادخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص وقوله تعالى اذهب انت واخوتك باياتى استئناف مسوق لبيان ما هو المقصود بالاصطناع واخوك فاعل بفعل مضمر أي وليذهب اخوك حسبما استدعيت وقيل : معطوف على الضمير المستتر المؤكد بالضمير البارز ورب شئ يصح تبعا ولا يصح استقلالا
والايات المعجزات والمراد بها في قول اليد والعصا وحل العقدة وعن ابن عباس الآيات التسع وقيل : إلا ولان فقط واطلاق الجمع على الاثنين شائع ويؤيد ذلك أن فرعون لما قال له عليه السلام : فات با أية القى
(16/193)

العصا ونزع اليد وقال : فذانك برهانان وقال بعضهم : أنهما وان كانتا اثنتين لكن في كل منهما ايات شتى كما في قوله تعالى : ايات بينات مقام ابراهيم فان انقلاب العصا حيوانا آية وكونها ثعبانا عظيما لا يقادر قدره آية أخرى وسرعة حركته مع عظم جرمه إية أخرى وكونه مع ذلك مسخرا له عليه السلام بحيث يده في فمه فلا يضره آية أخرى ثم انقلابها عصا كما كانت آية أخرى وكذلك اليد البيضاء فان بياضها في نفسه آية وشعاعها آية ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى وقيل : المراد بها ما أعطى عليه السلام من معجزة ووحى واذي يميل اليه القلب أنه العصا واليد لما سمعت من المؤيد مع ما تقدم من أنه تعالى بعد ما أمره بالقاء العصا واخذها بعد انقلابها حية قال سبحانه : واضم يدك إلى جناحيك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ثم قال سبحانه : اذهب إلى فرعون أنه طغى من غير تنصيص على غير تلك الآيتين ولا تعرض لوصف حل العقدة ولا غيره بكونه آية ثم أن الباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالايات متمسكين بها في اجراء احكام الرسالة واكمال الدعوة ولا مجرد اذهابها وايصالها اليه وهذا ظاهر في تحقق الآيات إذ ذاك واكثر التسع لم يتحقق بعد
ولاتينا من الونى بمعنى الفتور وهوفعل لازم وإذا عدى عدى بفى وبعن وزعم بعض البغداديين أنه فعل ناقص من اخوات زال وبمعناها واختاره ابن مالك وفى الصحاح فلان لا ينى يفعل كذا أي لا يزال يفعل كذا وكان هذا المعنى مأخوذ من نفى الفتور وقرا ابن وثاب ولاتنيا بكسر التاء اتباعه لحركة النون وفي مصحف عبد الله لاتهنا وحاصله أيضا لا تفترا في ذكرى
42
- بما يليق بى من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتى والدعاء إلى عبادتى وقيل : المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتى فان الذكر يقع مجازا على جميع العبادات وهو من اجلها واعظمها وروى ذلك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وقيل : لا تنسيانى حيثما تقلبتما واستمدا به العون والتاييد واعلما أن امرا من الأمور لا يتاتى ولا يتسنى إلا بذكرى
وجمع هرون مع موسى عليه السلام في صيغة نهى الحاضر بناء على القول بغيبته إذ ذاك للتغلب ولا بعد في ذلك كما لا يخفى وكذا جمعه في صيغة أمر الحاضر بناء على ذلك أيضا قوله تعالى إذهبا إلى فرعون أنه طغى
43
- وروى أنه أوحى إلى هرون وهو بمصر أن يتلقى موسى عليهما السلام وقيل : الهم ذلك وقيل : سمع باقباله فتلقاه ويحتمل أنه ذهب إلى الطور واجتمعا هناك فخوطبا معا ويحتمل أن هذا الأمر بعد اقبال موسى عليه السلام من الطور إلى مصر واجتماعه بهرون عليه السلام مقبلا اليه من مصر وفوق بعضهم بين هذا وقوله تعالى اذهب انت واخوك بأنه لم يبين هناك من يذهب اليه وبين هنا وبعض أخر بأنه أمرا هنا بالذهاب إلى فرعون وكان الأمر هناك بالذهاب إلى عموم أهل الدعوة وبعض أخر بأنه لم يخاطب هرون هناك وخوطب هنا وبعض أخر بأن الأمر هناك بذهاب كل منهما على الأنفراد نصا أو احتمالا والأمر هنا بالذهاب على الاجتماع نصا ولا يخفى ما في بعض هذه الفروق من النظر والفرق ظاهر بين هذا الأمر والأمر في قوله تعالى اولا خاطابا لموسى عليه السلام اذهب إلى فرعون أنه طغى فقولا له قولا لينا قرا أبو معاذ لينا بالتخفيف والفاء لترتيب ما بعدها على طغيانه فان تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ويلين قسوة
(16/194)

الطغاة ويعلم من ذلك أن الأمر بالانة القول ليس لحق التربية كما قيل والمعنى كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : لاتعنفاه فى قولكماوارفقا به فى الدعاء ويتحقق ذلك بعبارات شتى منها ماسيأتى أن شاء الله تعالى قريبا وهو إنا رسولا ربك الخ ومنها ما فى النازعات وهو هل لك إلى أن تزكى واهديك إلى ربك فتخشى وهذا ظاهر غاية الظهور فى الرفق فى الدعاء فانه فى صورة العرض والمشورة وقيل : كنياه واستدل به على جواز تكنية الكافر وروى ذلك عن على كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضى الله تعالى عنهما ايضا وسفيان الثورى وله كنى اربع أبو الوليد وابو مصعب وابو العباس وابو مرة وقيل : عداه شبابا لايهرم بعده وملكا لاينزع منه إلا بالموت وان يبقى له لذة المطعم والمشرب والنكح إلى حين موتهوعن الحسن قولا له : أن لك ربا وان لك معادا وان بين يديك جنة ونارا فآمن بالله تعالى يدخلك الجنة ويقك عذاب النار وقيل : أمرهما سبحانه بأن يقدما له الوعد على الوعيد من غير تعيين قول كما قيل : أقدم بالوعد قبل الوعيد لينهى القبائل جهالها وروى عن عكرمة أن القول اللين لا إلة إلا الله ولينه خفته على اللسان وهذا ابعد الأقوال واقربها الأول وكان الفضل بن عيسى الرقاشى إذا تلا هذه الآية قال : يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه وقرأت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال : إلهى هذا رفقك بمن يقول انا الاله فكيف رفقك بمن يقول انت الله وفيها دليل على استحباب الانة القول للظالك عند وعظه لعله يتذكر ويتامل فيبذل النصفة من نفسه والاذعان للحق فيدعوه ذلك إلى الأيمان او يخشى
44
- أن يكون الأمر كما تصفان فيجره انكاره إلى الهلكة وذلك يدعوه إلى الأيمان أيضا إلا أن الأول للراسخين ولذا قدم وقيل : يتذكر حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وابعد وخر لله تعالى ساجدا راغبا أن لا يخجله ثم ركب فاخذ النيل يتبع حافز فرسه فيستدل بذلك على عظيم حلم الله تعالى وكرمه أو يخشى ويحذر من بطش الله تعالى وعذابه سبحانه والمعول على ما تقدم
ولعل للترجى وهو راجع للمخاطبين والجملة في محل النصب حال من ضميرها في قولا أي فقولا له قولا لينا راجين أن يتذكر أو يخشى وكلمة أو بمنع الخلو
وحاصل الكلام باشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد بطبعه ويحتشد باقصى وسعه وقيل : حال من ضميرهما اذهبا والأول أولى وقيل : لعل هنا للاستفهام أي هل يتذكر أو يخشى وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قيل : وهو القول اللين وأخرج ذلك مخرج قولك : لقل لزيد هل يقوم
وقال الفراء : هي هنا بمعنى كى التعليلية وهى أحد معانيها كما ذهب اليه جماعة منهم الأخفش والكسائى بل حكى البغوى عن الواقدى أن جميع ما في القرآن من لعل فانها للتعليل إلا قوله تعالى لعلكم تخلدون فان للتشبيه كما في صحيح البخارى وأخرج ابن أبى حاتم من طريق السدى عن أبى مالك قال : لعل في القرآن بمعنى كى غير آية في الشعراء لعلكم تخلدون فان المعنى كانكم تخلدون وأخرج عن قتادة أنه قال : قرئ كذلك ولا يخفى أن كونها للتشبيه غريب لم يذكره النحاة وحملها على الأستفهام هنا بعيد ولعل التعليل اسبق إلى كثير من الاذهان من الترجى لكن الصحيح كما في البحر أنها للترجى وهو المشهور من معانيها وقيل : أن
(16/195)

الترجى مجاز عن مطلق الطلب وهو راجع اليه عز و جل والذي لا يصح منه سبحانه هو الترجى حقيقة والمحققون على الأول والفائدة في ارسالهما عليهما السلام اليه مع العلم بأنه لا يؤمن الزام الحجة وقطع المعذرة
وزعم الأمام أنه لا يعلم سر الارسال اليه مع علمه تعالى بامتناع حصول الأيمان منه إلا الله عز و جل ولا سبيل في امثال هذا المقام لغير التسليم وترك الاعتراض
واستدل بعض المتبعين لمن قال بنجاة فرعون بهذه الآية فقال : أن لعل كذا من الله تعالى واجب الوقوع فتدل الآية على أن أحد الأمرين التذكر والخشية واقع وهو مدار النجاة وقد تقدم لك ما يعلم منه فساد هذا الاستدلال ولا حاجة بنا إلى ما قيل من أنه تذكر وخشى لكن حيث لم ينفعه ذلك وهو حين الغرق بل لا يصح حمل التذكر والخشية هنا على ما يشمل التذكر والخشية الذين زعم القائل حصولهما لفرعون فتذكر
قالا استئناف بيانى كأنه قيل : فماذا قالا حين امرا بما امرا فقيل قالا الخ واسند القول اليهما مع أن القائل هو موسى عليه السلام على القول بغيبة هرون عليه السلام للتغليب كما مر
ويجوز أن يكون هرون عليه السلام قد قال ذلك بعد اجتماعه مع موسى عليه السلام فحكى قوله مع قول موسى عند نزول الآية كما في قوله تعالى يا ايها الرسل كلوا من الطيبات فان هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب آل بطريق الأنفراد وجوز كونهما مجتمعين عند الطور وقالا جميعا ربنا اننا نخاف أن يفرط علينا أي أن يجعل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى اتمام الدعوة واظهار المعجزة من فرط إذا تقدم ومنه الفارط المتقدم المورود والمنزل وفرس فارط يسبق الخيل وفاعل يفرط على هذا فرعون وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون التقدير أن يفرط علينا منه قول فاضمر القول كما تقول فرط منى قول وهو خلاف الظاهر
وقرا يحيى وابو نوفل وابن محيصن في رواية يفرط بضم الياء وفتح الراء من أفرطته إذا حملته على العجلة أي نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار أو الخوف على الملك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب وقرأت فرقة والزعفرانى عن ابن محيصن يفرط بضم الياء وكسر الراء من الافراط في الاذية واستشكل هذا القول مع قوله تعالى : سنشد عضدك باخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما فانه مذكور قبل قولهما هذا بدلالة سنشد وقد دل على أنهما محفوظان من عقوبته واذاه فكيف يخافان من ذلك وأجيب : بأنه لا يتعين أن يكون المعنى لا يصلون بالعقوبة لجواز أن يراد لا يصلون إلى الزامكما بالحجة مع أن التقدم غير معلوم ولو قدم في الحكاية لا سيما والواو لا تدل على ترتيب والتفسير المذكور ماثور عن كثير من السلف منهم ابن عباس ومجاهد وهو الذي يقتضيه الظاهر وزعم الأمام أنهما قد آمنا وقوع ما يقطعهما عن الاداء بالدليل العقلى إلا أنهما طلبا بما ذكر ما يزيد في ثبات قلوبهما بأن ينضاف الدليل النقلى إلى الدليل العقلى وذلك نظير ما وقع لابراهيم عليه السلام من قوله : ربى ارنى كيف تحيى الموتى ولا يخفى أن في دعوى علمهما بالدليل العقلى عدم وقوع ما يقطعهما عن الاداء جثا واستشكل أيضا حصول الخوف لموسى عليه السلام بأنه يمنع عن حصول شرح الصدر له الدال على تحققه قوله تعالى بعد سؤاله إياه قد اوتيت سؤلك يا موسى واجاب الأمام بأن شرح الصدر عبارة عن قوته على ضبط تلك الأوامر والنواهى وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق
(16/196)

اليها السهو والتحريف وذلك شئ أخر غير زوال الخوف وانت تعلم أن كثيرا من المفسرين ذهبوا إلى أن شرح الصدر هنا عبارة عن توسيعه وهو عبارة عن عدم الضجر والقلق القلبى مما يرد من المشاق في طريق التبليغ وتلقى ذلك بحميل الصبر وحسن الثبات
وأجيب على هذا بأنه لا منافاة بين الخوف من شئ والصبر عليه وعدم الضجر منه إذا وقع إلا ترى كثيرا من الماملين يخافون من البلاء ويسألون الله تعالى الحفظ منه وإذا نزل بهم استقبلوه بصدر واسع وصبروا عليه ولم يضجروا منه وقيل : أنهما عليهما السلام لم يخافا من العقوبة إلا لقطعها الأداء المرجو به الهداية فخوفهما في الحقيقة ليس إلا من القطع وعدم اتمام التبليغ ولم يسأل موسى عليه السلام شرح الصدر لتحمل ذلك واستشكل بأن موسى عليه السلام كان قد سأل واوتى تيسير أمره بتوفيق الأسباب ورفع الموانع فكيف يخاف قطع الأداء بالعقوبة وأجيب : بأن هذا تنصيص على طلب رفع المانع الخاص بعد طلب رفع المانع العام وطلب للتنصيص على رفعه لمزيد الأهتمام بذلك وقيل : أن في الآية تغليبا منه لاخيه هرون على نفسه عليهما السلام ولم يتقدم ما يدل على امنه عليه فتامل واستشكل أيضا عدم الذهاب والتعلل بالخوف مع تكرر الأمر بأنه يدل على المعصية وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام على الصحيح
واجاب الأمام بأن الدلالة مسلمة لو دل الأمر على الفور وليس فليس ثم قال : وهذا من اقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضى الفور إذا ضممت اليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام و او في قوله تعالى او أن يطغى
45
- لمنع الخلو والمراد أو أن يزداد طغيانا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغى لكمال جراءته وقساوته واطلاقه من حسن الأدب وفيه استنزال لرحمته تعالى واظهار كلمة أن مع سداد المعنى بدونه لاظهار كمال الاعتناء بالأمر والأشعار بتحقق الخوف من كل من المتعاطفين
قال استئناف كما مر ولعل اسناد الفعل إلى ضمير الغيبة كما قيل للاشعار بأنتقال الكلام من مساق إلى مساق أخر فان ما قبله من الأفعال الواردة على صيغة التكلم حكاية لموسى عليه السلام بخلاف ما سياتى أن شاء الله تعالى قلنا لا تخف انك انت الاعلى فان ما قبله أيضا وارد بطريق الحكاية لرسول الله صلى الله عليه و سلم كأنه قيل : فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما اليه سبحانه فقيل : قال أي لهما لا تخافا مما ذكرتما
وقوله تعالى : اننى معكما تعليل لموجب النهى ومزيد تسلية لهما والمراد بمعيته سبحانه كمال الحفظ والنصرة كما يقال : الله تعالى معك على سبيل الدعاء واكد ذلك بقوله تعالى : اسمع وارى
46
- وهو بتقدير المفعول أي ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل فافعل في كل حال ما يليق بها من دفع شر وجلب خير
وقال القفال : يحتمل أن يكون هذا في مقابلة القول السابق ويكونان قد عينا اننا نخاف أن يفرط علينا بأن لا يسمع منا أو أن يطغى بأن يقتلنا فاجابهم سبحانه بقوله : اننى معكما اسمع أي كلامكما فاسخره للاستماع وارى افعاله فلا اتركه يفعل بكما ما تكرهانه فقدر المفعول أيضا لكنه كما ترى وقال الزمخشرى : جائزان لا يقدر شئ وكانه قيل : انا حافظ لكما وناصر سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وهو يدل على أنه لا نظر إلى المفعول وقد نزل الفعل المتعدى منزلة اللازم لأنه اريد تتميم ما يستقل به الحفظ
(16/197)

والنصرة وليس من باب قول المتنبى : شجو حساده وغيظ عداه أن يرى مبصر ويسمع واع على ما زعم الطيبى واستدل بالاية على أن السمع والبصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله تعالى اننى معكما دال على العلم ولو دل اسمع وارى عليه ليضا لزم التكرار وهو خلاف الأصل
فاتياه أمر باتيانه الذي هو عبارة عن الوصول اليه بعدما أمر بالذهاب اليه فلا تكرار وهو عطف على لا تخافا باعتبار تعليله بما بعده فقولا انا رسول ربك أمرا بذلك تحقيقا للحق من أول الأمر ليعرف الطاغية شأنهما ويبنى جوابه عليه وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الأضافه إلى ضميره من اللطف ما لا يخفى وان رأى اللعين أن في ذلك تحقيرا له حيث أنه يدعى الربوبية لنفسه ولا يعد ذلك من الاغلاط في القول وكذا قوله تعالى فارسل معنا بنى اسرائيل إلى أخره خلافا للامام والفاء في فارسل لترتيب ما بعدها على ما قبلها فان كونهما عليه السلام رسولى ربه تعالى مما يوجب ارسالهم معهما والمراد بالارسال اطلاقهم من الاسر وأخراجهم من تحت يده العادية لا تكليفهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبئ عنه قوله سبحانه ولا تعذبهم أي بابقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فانهم كانوا تحت ملكة القبط يستخدمونهم في الأعمال الشاقة كالحفر والبناء ونقل الاحجار وكانوا يقتلون ابناءهم عاما دون عام ويستخدمون نساءهم ولعلهما إنما بدا ابطلب ارسال بنى اسرائيل دون دعوة الطاغية وقومة إلى الأيمان للتدريج في الدعوة فان اطلاق الاسرى دون تبديل الاعتقاد وقيل : لأن تخليص المؤمنين من الكفرة اهم من دعوتهم إلى الأيمان وهذا بعد تسليمه مبنى على أن بنى اسرائيل كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام في الباطن أو كانوا مؤمنين بغيره من الأنبياء عليهم السلام ولا بد لذلك من دليل وقيل : إنما بدا ابطلب ارسالهم لما فيه من ازالة المانع عن دعوتهم واتباعهم وهى اهم من دعوة القبط
وتعقب بأن السياق هنا لدعوة فرعون ودفع طغيانه فهى الأهم دون دعوة بنى اسرائيل وقيل : أنه أول ما طلبا منه الأيمان كما ينبى عن ذلك آية النازعات إلا أنه لم يصرح به هنا اكتفاء بما هناك كما أنه لم يصرح هناك بهذا الطلب اكتفاء بما هنا وقوله تعالى : قد جئناك باية من ربك استئناف بيانى وفيه تقرير لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة وتعليل لوجوب الارسال فان مجيئهما باية من جهته تعالى مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب الأمتثال بأمرهما واظهار اسم الرب في موضع الاضمار مع الأضافة إلى ضمير المخاطب لتاكيد ما ذكر من التقرير والتعليل وجئ بقد للتحقيق والتاكيد ايضا وتكلف لافادتها التوقع وتوحيد الآية مع تعددها لأن المراد اثبات الدعوى ببرهانها لا بيان تعدد الحجة فكانه قيل : قد جئناك بما يثبت مدعانا وقيل : المراد بالاية اليد وقيل : العصا والقولان كما ترى
والسلام على من اتبع الهدى
47
- أي السلامة من العذاب في الدارين لمن اتبع ذلك بتصديق ايات الله تعالى الهادية إلى الحق فالسلام مصدر بمعنى السلامة كالرضاع والرضاعة وعلى بمعنى اللام كما ورد عكسه في قوله تعالى لهم اللعنة وحروف الجر كثيرا ماتتقارض وقد حسن ذلك هنا المشاكلة حيث جئ بعلى في قوله تعالى انا قد أوحى الينا من جهة ربنا ان العذاب الدنيوى والأخروى على من كذب بآياته
(16/198)

عز و جل وتولى
48
- أي أعرض عن قبولها وقال الزمخشرى : أي وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين وتحقيقه على ما قيل أنه جعل السلام تحية خزنة الجنة للمهتدين المتضمنة لوعدهم بالجنة وفيه تعريض لغيرهم بتوبيخ خزنة النار المتضمن لوعيدهم بعذابها لا المقام للترغيب فيما هو حسن العاقبة وهو تصديق الرسل عليهم السلام والتنفير عن خلافه فلو جعل السلام بمعنى السلامة لم يفد أن ذلك في العاقبة فما قيل : أنه لا اشعار في اللفظ بهذا التخصيص غير مسلم والقول بأنه ليس بتحية حيث لم يكن في ابتداء اللقاء يرده أنه لم يجعل تحية الأخوين عليهما السلام بل تحية الملائكة عليهم السلام وانت تعلم أن هذا التفسير خلاف الظاهر جدا وانكار ذلك المكابرة
وفي البحر هو تفسير غريب وانه إذا اريد من العذاب العذاب في الدارين ومن السلام السلامة من ذلك العذاب حصل الترغيب في التصديق والتنفير عن خلافه على اتم وجه وقال أبو حيان : الظاهر أنه قوله تعالى والسلام الخ فصل للكلام والسلام فيه بمعنى التحية وجاء ذلك على ما هو العادة من التسليم عند الفراغ من القول إلا أنهما عليهما السلام رغبا بذلك عن فرعون وخصابه متبعى الهدى ترغيبا له بالانتظام في سلكهم واستدل به على منع السلام على الكفار وإذا احتيج اليه في خطاب أو كتاب جئ بهذه الصيغة
وفي الصحيحين ان رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى هرقل من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على اتبع الهدى وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبهيقى في الشعب عن قتادة قال : التسليم على أهل الكتاب إذا دخلت عليهم بيوتهم أن تقول : السلام على من اتبع الهدى ولا يخفى أن الاستظهار المذكور غير بعيد لو كان كلامهما عليهما السلام قد انقطع بهذا السلام لكنه لم ينقطع به بل قالا بعده انا قد وحى الينا الخ وكان هذه الجملة على جميع التفاسير استئناف للتعليل وقد يستدل به على صحة القول بالمفهوم فتامل والظاهر أن كلتا الجملتين من جملة المقول الملقن
وزعم بعضهم أن المقول الملقن قد تم عند قوله تعالى قد جئناك بآية من ربك وما بعد كلام من قبلهما عليهما السلام اتيا به للوعد الوعيد واستدل المرجئة بقوله سبحانه انا قد أوحى الخ على أن غير الكفرة لا يعذبون اصلا وأجيب بأنه إنما يتم إذا كان تعريف العذاب للجنس اة الاستغراق أما إذا كان للعهد أي العذاب الناشئ عن شدة الغضب أو الدائم مثلا فلا وكذا إذا اريد الجنس أو الاستغراق الادعائى مبالغة وجعل العذاب المتناهى الذي يعقبه السلامة الغير المتناهية كلا عذاب لم يلزم أن لا يعذب المؤمن المقصر في العمل اصلا
قال أي فرعون بعد ما اتياه وبلغاه ما امرا به وإنما طوى ذكر ذلك للايجاز والأشعار بأنهما كما امرا بذلك سارعا إلى الأمتثال به من غير ريث وبان ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به وجاء عن ابن عباس أنهما لما أمر اباتيانه وقول ما ذكر له جاءا جميعا إلى بابه فاقاما حينا لا يؤذن لهما ثم اذن لهما بعد حجاب شديد فدخلا وكان ما قص الله تعالى
وأخرج احمد وغيره عن وهب بن منبه أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بما أمر أقبل إلى فرعون في مدينة قد جعل حولها الاسد في غيضة قد غرسها والاسد فيها مع ساستها إذا اشلتها على أحد أكل وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة فأقبل موسى عليه السلام من الطريق الأعظم الذي يراه فرعون فلما رأته الاسد
(16/199)

صاحت صياح الثعالب فانكر ذلك الساسة وفرقوا من فرعون فأقبل حتى انتهى إلى الباب فقرعه بعصاه وعليه جبة صوف وسراويل فلما رآه البواب عجب من جراته فتركه ولم ياذن له فقال : هل تدرى باب من انت تضرب إنما انت تضرب باب سيدك قال : انت وانا وفرعون عبيد لربى فانا ناصره فاخبر البواب الذي يليه من البوابين حتى بلغ ذلك أدناهم ودونه سبعون حاجبا كل حاجب منهم تحت يده من الجنود ما شاء الله تعالى حتى خلص الخبر إلى فرعون فقال : ادخلوه علي فلما أتاه قال له فرعون : أعرفك قال : نعم قال : الم نربك فينا وليدا فرد اليه موسى عليه السلام الذي رد قال فرعون خذوه فبادر عليه السلام فالقى عصاه فاذا هى ثعبان مبين فحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون الفا قتل بعضهم بعضا وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت فقال : يا موسى اجعل بيننا وبينك اجلا ننظر فيه قال موسى : لم اومر بذلك إنما أمرت بمناجزتك وان انت لم تخرج إلى دخلت عليك فأوحى الله تعالى اليه أن اجعل بينك وبينه اجلا وقل له انت اجعل ذلك فقال فرعون : اجعله إلى اربعين يوما ففعل وكان لا ياتى الخلا إلا في كل اربعين يوما مرة فاختلف ذلك اليوم اربعين مرة وخرج موسى عليه السلام من المدينة فلما مر بالاسد خضعت له باذنابها وسارت معه تشيعه ولا تهيجه ولا احدا من بنى اسرائيل واظاهر أن هرون كان معه حين الآيتان ولعله إنما لم يذكر في هذا الخبر اكتفاء بموسى عليه السلام وقيل : أنهما حين عرضا عليهما السلام على فرعون ما عرضا شاور آسية فقالت ما ينبغى لأحد أن يرد ما دعيا اليه فشاور هامان وكان لا يبت امرا دون رايه فقال له : كنت اعتقد انك ذو عقل تكون مالكا فتصير مملوكا وربا فتصير مربوبا فامتنع من قبول ما عرض عليه موسى عليه السلام وظاهر هذا أن المشاورة قبل المقاولة ويحتمل أنها بعدها والأولى في امثال هذه القصص الاكتفاء بما في المنزل وعدم الالتفات إلى غيره إلا أن يوثق بصحته اولا يكون في المنزل ما يعكر عليه كالخبر السابق فان كون فرعون جعل الاجل يعكر عليه ما سياتى أن شاء الله تعالى من قول موسى عليه السلام حين طلب منه فرعون أن يجعل موعدا موعدكم يوم الزينة والظاهر عدم تعدد الحادثة والجملة استئناف بيانى كأنه قيل فماذا قال حين اتياه وقالا له ما قالا فقيل : قال فمن ربكما يا موسى
49
- لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى انا رسولا ربك وقوله سبحانه قد جئناك باية من ربك لغاية عتوه ونهاية طغيانه بل اضافه اليهما لما أن المرسل لابد أن يكون ربا للرسول وقيل : لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل بأن قالا : انا رسول رب العالمين كما وقع في سورة الشعراء والاقتصار ههنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود والفاء لترتيب السؤال على ما سبق من كونهما رسولى ربهما أي إذا كنتما رسولى ربكما الذي ارسلكما فاخبرا من ربكما الذى ارسلكما وتخصيص النداء بموسى عليه السلام مع توجيه الخطاب اليهما لما ظهر له من أنه الأصل في الرسالة وهرون وزيره ويحتمل أن يكون للتعريض بأنه ربه كما قال : الم نربك فينا وليدا قيل : وهذا أوفق بتلبيسه على الأسلوب الأحمق وقيل : لأنه قد عرف أن له عليه السلام رتة فاراد أن يسكته وهو مبنى على ما عليه كثير من المفسرين من بقاء رتة في لسانه عليه السلام في الجملة وقد تقدم الكلام في ذلك
قال أي موسى عليه السلام واستبد بالجواب من حيث أنه خص بالسؤال ربنا مبتدأ
(16/200)

وقوله تعالى : الذى أعطى كل شئ خلقه خبره وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا والموصول صفته والظاهر أنه عليه السلام اراد بضمير المتكلم نفسه واخاه عليهما السلام
وقال بعض المحققين : اراد جميع المخلوقات تحقيقا للحق وردا عن اللعين كما يفصح عنه ما فى حيز الصلة و كل شئ مفعول أول لاعطى و خلقه مفعوله الثانى وهو مصدر بمعنى اسم المفعول والضمير المجرور لشئ والعموم المستفاد من كل يعتبر بعد ارجاعه اليه لئلا يرد الاعتراض المشهور فى مثل هذا التركيب والظاهر أنه عموم الأفراد أي أعطى كل شئ من الأشياء الأمر الذي طلبه بلسان استعداده من الصورة والشكل والمنفعة والمضرة وغير ذلك أو الأمر اللائق بما نيط به من الخواص والمنافع المطابق له كما أعطى العين الهيئة التى تطابق الابصار والاذن الشكل الذى يوافق الاستماع وكذلك الانف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه وقيل : الخلق باق على مصدريته بمعنى الايجاد أي أعطى كل شئ الايجاد الذى استعد له أو اللائق به بمعنى أنه تعالى اوجد كل شئ حسب استعداده أو على الوجه اللائق به وهو كما ترى
وحمل بعضهم العموم على عموم الأنواع دون عموم الأفراد وقيل : أن ذلك لئلا يلزم الخلف ويرد النقض بأن بعض الأفراد لم يكمل لعارض يعرض له والحق أن الله تعالى راعى الحكمة فيما خلق وأمر تفضلا ورحمة لاوجوبا وهذا مما اجمع عليه أهل السنة والجماعة كما نقل صاحب المواقف وعيون الجواهر فكل شئ كامل فى مرتبته حسن فى حد ذاته فقد قال تعالى العزيز الرحيم الذى احسن كل شئ خلقه وجعل العموم فى هذا عموم الأنواع مما لايكاد يقول به أحد وقال سبحانه : ماترى فى خلق الرحمن من تفاوت أي من حيث اضافته إلى الرحمن وخلقه إياه على طبق الحكمة بمقتضى الجود والرحمة والتفاوت بين الأشياء إنما هو إذا أضيف بعضها إلى بعض فالعجول عما هو ظاهر من عموم الأفراد إلى عموم الأنواع لما ذكر ناشئ من قلة التحقيق وقيل : أن سبب العدول كون أعطى حقيقة فى الماضى فلو حمل كل شئ على عموم الأفراد يلزم أن يكون جميعها قد وجد وأعطى مع أن منها بل اكثرها لم يوجد ولم يعط بعد بخلاف ما إذا حمل على عموم الأنواع فانه لامحذور فيه إذ الأنواع جميعها قد وجد ولايتجدد بعد ذلك نوع وان كان ذلك ممكنا وفيه بحث ظاهر فليفهم
وروى عن ابن عباس وابن جبير والسدى أن المعنى أعطى كل حيوان ذكر نظيره فى الخلق والصورة انثى وكانهم جعلوا كلا للتكثير وإلا فالعموم مطلقا باطل كما لايخفى وعندى أن هذا المعنى من فروع المعنى السابق الذى ذكرناه ولعل مراد من قاله التمثيل وإلا فهو بعيد جدا ولايكاد يقوله من نسب اليه
وقيل : خلقه هو المفعول الأول والمصدر بمعنى اسم المفعول ايضا والضمير المجرور للموصول و كل شئ هو المفعول الثانى والمعنى أعطى مخلوقاته سبحانه كل شئ يحتاجن اليه ويرتفقون به وقد المفعول الثانى للاهتمام به من حيث أن المقصود الأمتنن به ونسب هذا القول إلى الجبائى والأول اظهر لفظا ومعنى
وقرا عبد الله واناس من اصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وابو نهيك وابن أبى اسحق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائى وابن نوح عن قتيبة وسلام خلقه على صيغة الماضى المعلوم
(16/201)

على أن الجملة صفة للمضاف اليه أو المضاف على شذوذ وحذف المفعول الثانى اختصارا لدلالة قرينة الحال عليه أي أعطى كل شئ خلقه تعالى ما يصلحه أو ما يحتاج اليه وجعل ذلك الزمخشرى من باب يعطى ويمنع أي كل شئ خلقه سبحانه لم يخله من عطائه وانعامه ورجح فى الكشف بأنه ابلغ واظهر وقيل : الأول احسن صناعة وموافقه المقام وهو عندى أوفق بالمعنى الأول للقراءة الأولى وفيما ذكره فى الكشف تردد
ثم هدى
50
- أي ارشد ودل سبحانه بذلك على وجوده وجوده فان من نظر في هذه المحدثات وما تظمنته من دقائق الحكمة علم أن لها صانعا واجب الوجود عظيم العطاء والجود ومحصل الآية ربنا الذي خلق كل شئ حسب استعداده أو على الوجه اللائق به وجعله دليلا عليه جل جلاله وهذا الجعل وان كان متأخر بالذات عن الخلق وليس بينهما تراخ في الزمان اصلا لكنه جئ بكلمة ثم للتراخى بحسب الرتبة كما لا يخفى وجهه على المتامل وفي ارشاد العقل السليم ثم هدى إلى طريق الانتفاع والارتفاق بما اعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله أما اختيارا كما في الحيوانات أو طبعا كما في الجمادات والقوى الطبيعية النباتية والحيوانية
ولما كان الخلق الذى هو تركيب الأجزاء وتسوية الاجسام متقدما على الهداية التي هي عبارة عن ابداع القوى المحركة والمدركة في تلك الاجساد وسط بينهما كلمة التراخى انتهى ولا يخفى عليك أن الخلق لغة اعم مما ذكره وان القوى المحركة والمدركة داخلة فى عموم كل شئ سواء كان عموم الأفراد أو عموم الأنواع وانه لا بد من ارتكاب نوع من المجاز في هدى على تفسيره وقيل : على التفسير المروى عن ابن عباس ومن معه ثم هداه إلى الاجتماع بالفة والمناكحة وقيل غير ذلك والله تعالى در هذا الجواب ما اقصره وما اجمعه وما ابينه لمن القى الذهن ونظر بعين الانصاف وكان طالبا للحق ومن هنا قيل : كان من الظاهر أن يقول عليه السلام : ربنا رب العالمين لا لكن سلك طريق الارشاد والاسلوب الحكيم واشار إلى حدوث الموجودات باسرها واحتياجها اليه سبحانه واختلاف مراتبها هو القادر الحكيم الغنى المنعم على الاطلاق
واستدل بالاية على أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا لأن جملة الصلة لا بد أن تكون معلومة ومتى كانت هذه الجملة معلومة له كان عارفا به سبحانه وهذا مذهب البعض فيه عليه اللعنة واستدلوا له أيضا بقوله تعالى : لقد علمت ما انزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض وقوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا وقوله تعالى في سورة القصص : وظنوا أنهم الينا لا يرجعون فانه ليس فيه إلا انكار المعاد دون المبدا وقوله تعالى في الشعراء : وما رب العالمين إلى قوله سبحانه : ان رسولكم الذى ارسل اليكم لمجنون فانه عنى به انى اطلب منه شرح الماهيه وهو يشرح الوجود فدل على أنه معترف باصل الوجود وبان ملكه لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام إلا ترى أن موسى عليه السلام لما هرب إلى مدين قال له شعيب : ولا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف يعتقد أنه اله العالم وبانه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا وكل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ومن كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر وبانه سأل ههنا بمن طالبا للكيفية وفى الشعراء بما طالبا للماهية
والظاهر أن السؤال بمن سابق فكان موسى عليه السلام لما أقام الدلالة على الوجود ترك المنازعة معه
(16/202)

في هذا المقام لعلمه بظهوره وشرع فى مقام اصعب لأن العلم بما هيته تعالى غير حاصلة للبشر ولا يخفى ما في هذه الادلة من القيل والقال ومن الناس من قال : أنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد فى نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما واختلفوا فى كيفية جهله فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع اصلا ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن فى وجوده إلى مؤثر وان وجود العالم اتفاقى كما نقل عن ديمقراطيس واتباعه ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ويحتمل أنه كان من عبدة الأصنام ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره واستدل فى شروعه فى المناظرة وطلب الحجة دون السفاهة والشغب مع كونه جبارا شديد البطش على أن الشغب والسفاهة مع من يدعو إلى الحق فى غاية القبح فلا ينبغى لمن يدعى الاسلام والعلم أن يرتضى لنفسه ما لم يرتضه فرعون لنفسه وباشتغال موسى عليه السلام بأقامة الدليل على المطلوب على فساد التقليد فى امثال هذا المطلوب وفساد قول القائل : أن معرفة الله تعالى تستفاد من قول الرسول وبحكاية كلام فرعون وجواب موسى عليه السلام على أنه يجوز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك وعلى أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها قال فما بال القرون الاولى
51
- لما شاهد اللعين ما نظمه عليه السلام فى سلك الجواب من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس حقية مقالاته عليه السلام وبطلان خرافات نفسه ظهورا بينا اراد أن يصرفه عليه السلام عن سننه إلى مالا يعنيه من الأمور التى لا تعلق لها في نفس الأمر بالرسالة من الحكايات موهما أن لها تعلقا بذلك ويشغله عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوع غفلة فيتساق بذلك إلى أن يدعى بين يدى قومه نوع معرفة فقال فما بال الخ واصل البال الفكر يقال : خطر ببالى كذا ثم اطلق على الحال التى يعتنى بها وهو المراد ولا يثنى ولا يجمع إلا شذوذا فى قولهم بالات وكان الفاء لتفريع ما بعدها على دعوى الرسالة أي إذا كنت رسولا فاخبرنى ما حال القرون الماضية والأمم الخاليه وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة
قال موسى عليه السلام علمها عند ربى أي أن ذلك من الغيوب التى لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما انا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بالرسالة والعلم باحوال القرون وما جرى عليهم على التفصيل مما لا ملابسة فيه بمنصب الرسالة كما زعمت وقيل : إنما سأله عن ذلك ليختبر أنه نبى أو هو من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة وقال النقاش : أن اللعين لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون يا قومى انى أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب الآية سأل عن ذلك فرد عليه السلام علمه إلى الله تعالى لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة فانه كان نزولها بعد هلاك فرعون
وقال بعضهم : أن السؤال مبنى على قوله عليه السلام والسلام على من اتبع الهدى الخ أي فما حال القرون السالفة بعد موتهم من السعادة والشقاوة والمراد بيان ذلك تفصيلا كأنه قيل : إذا كان الأمر كما ذكرت ففصل لنا حال من مضى من السعادة والشقاوة ولذا رد عليه السلام العلم إلى الله عز و جل فاندفع ما قيل : أنه لو كان المؤول عنه ما ذكر من السعادة والشقاوة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن
(16/203)

تولى فقد عذب حسبما نطق به قوله تعالى والسلام الخ وقيل : أنه متعلق بقوله سبحانه انا قد أوحى الينا الخ أي إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى كذبوا ثم ما عذبوا وقيل : هو متعلق به والسؤال عن البعث والضمير فى علمها للقيامة وكلا القولين كما ترى وعود الضمير على القيامة ادهى من أمر التعليق وأمر
وقيل : أنه متعلق بجواب موسى عليه السلام اعتراضا على ما تضمنه من علمه تعالى بتفاصيل الأشياء وجزئياتها المستتبع احاطة قدرته جل وعلا بالأشياء كلها كأنه قيل : إذا كان علم الله تعالى كما اشرت فما تقول في القرون الخالية مع كثرتهم وتمادى مدتهم وتباعد أطرافهم كيف احاطة علمه تعالى بهم وباجزائهم وأحوالهم فأجاب بأن علمه تعالى محيط بذلك كله إلى أخر ما قص الله تعالى وتخصيص القرون الأولى على هذا بالذكر مع أولوية التعميم قيل لعلم فرعون ببعضها وبذلك يتمكن من معرفة صدق موسى عليه السلام : أن بين احوالها وقيل : أنه لالزام موسى عليه السلام وتبكيته عند قومه في أسرع وقت لزعمه أنه لو عمم ربما اشتغل موسى عليه السلام بتفصيل علمه تعالى بالموجودات المحسوسة الظاهرة فتطول المدة ولا يتمشى ما اراده واياما كان يسقط ما قيل : أنه يابى هذا الوجه تخصيص القرون الأولى من بين الكائنات فانه لو اخذها بجملتها كان أظهر وأقوى في تمشى ما اراد نعم بعد هذا الوجه مما لا ينبغى أن ينكر وقيل : أنه اعتراض عليه بوجه أخر كأنه قيل : إذا كان ما ذكرت من دليل إثبات المبدأ في هذه الغاية من الظهور فما بال القرون الأولى نسوه سبحانه ولم يؤمنوا به تعالى فلو كانت الدلالة واضحة وجب عليهم أن لا يكونوا غافلين عنها وماله على ما قال الأمام معارضة الحجة بالتقليد وقريب منه ما يقال أنه متعلق بقوله ثم هدى على التفسير الأول كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى لم يستدلوا بذلك فلم يؤمنوا وحاصل الجواب على القولين أن ذلك من سر القدر وعلمه عند ربى جل شأنه في كتاب الظاهر أنه خبر ثان لعلمها والخبر الأول عند ربى
وجوز أن يكونا خبرا واحدا مثل هذا حلو حامض وان يكون الخبر عند ربى و في كتاب في موضع الحال من الضمير المستتر في الظرف أو هو معمول له وان يكون الخبر في كتاب وعند ربى في موضع الحال من الضمير المستتر فيه والعامل الظرف وهو يعمل متأخرا على رأى الأخفش وقيل : يكون حالا من المضاف اليه في علمها وقيل : يكون ظرفا للظرف الثاني وقيل : هو ظرف للعلم ذكر جميع ذلك أبو البقاء ثم قال : ولا يجوز أن يكون في كتاب متعلقا بعلمها وعند ربى الخبر لأن المصدر لا يعمل فيما بعد خبره
وانت تعلم أن أول الأوجه هو الأوجه وكانه عنى عليه السلام بالكتاب اللوح المحفوظ أي علمها مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله وهذا من باب المجاز إذ المثبت حقيقة إنما هو النقوش الدالة على الالفاظ المتضمنة شرح أحوالهم المعلومة له تعالى وجوز أن يكون المراد بالكتاب الدفتر كما هو المعروف في اللغة ويكون ذلك تمثيلا لتمكنه وتقرره في علمه عز و جل بما استحفظه العالم وقيده بكتبته فى جريدة ولعله أولى ويلوح اليه قوله تعالى لا يضل ربى ولا ينسى
52
- فان عدم الضلال والنسيان اوفق باتقان العلم والظاهر أن فيه على الوجهين دفع توهم الأحتياج لأن الأثبات في الكتاب إنما يفعله من يفعله لخوف النسيان والله تعالى منزه عن ذلك والأثبات في اللوح المحفوظ لحكم ومصالح يعلم بعضها العالمون وقيل : أن هذه الجملة على الأول تكميل لدفع ما يتوهم من أن الأثبات فى اللوح للاحتياج لاحتمال خطأاو نسيان تعالى الله سبحانه عنه وعلى
(16/204)

الثاني تذييل لتاكيد الجملة السابقة والمعنى لا يخطئ ربى ابتداء بأن لا يدخل شئ من الأشياء فى واسع علمه فلا يكون علمه سبحانه محيطا بالأشياء ولا يذهب عليه شئ بقاء بأن يخرج عن دائرة علمه جل شأنه بعد أن دخل بل هو عز و جل محيط بكل شئ علما ازلا وابدا وتفسير الجملتين بما ذكر مما ذهب اليه القفال ووافقه بعض المحققين ولا يخفى حسنه
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن مجاهد انهما بمعنى واحد وليس بذاك والفعلان قيل : منزلان منزلة اللازم وقيل : هما باقيان على تعديهما والمفعول محذوف أي لا يضل شيئا من الأشياء ولا ينساه وقيل : شيئا من احوال القرون الأولى وعن الحسن لا يضل وقت البعث ولا ينساه وكانه جعل السؤال عن البعث وخصص لاجله المفعول وقد علمت حاله وعن ابن عباس أن المعنى لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يحازيه وكانه رضى الله تعالى عنه جعل السؤال عن حالهم من حيث السعادة والشقاوة والجواب عن ذلك على سبيل الأجمال فتدبر ولا تغفل
وزعم بعضهم أن الجملة فى موضع الصفة لكتاب والعائد اليه محذوف أي لا يضله ربى ولا ينساه وقيل : العائد ضمير مستتر في الفعل و ربى نصب على المفعول أي لا يضل الكتاب ربى أي عنه وفى ينسى ضمير عائد اليه أيضا أي ولا ينسى الكتاب شيئا أي لا يدعه على حد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها
والعجب كل العجب من العدول عن الظاهر إلى مثل هذه الأقوال واظهار ربى فى موقع الاضمار للتلذذ بذكره تعالى ولزيادة التقرير والأشعار بعلية الحكم فان الربوبية مما تقتضى عدم الضلال والنسيان حتما
وقرأ الحسن وقتادة والجحدرى وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفى لا يضل بضم الياء من اضل واضللت الشئ وضللته قيل بمعنى
وفى الصحاح عن ابن السكيت يقال : اضللت بعيرى إذا ذهب منك وضللت المسجد والزاد إذا لم تعرف موضعهما وكذلك كل شئ مقيم لا يهتدى اليه وحكى نحوه عن الفراء وابن عيسى وذكر أبو البقاء فى توجيه هذه القراءة وجهين جعل ربى منصوبا على المفعوليه والمعنى لا يضل أحد ربى عن علمه وجعله فاعلا والمعنى لا يجد ربى الكتاب ضالا أي ضائعا وقرأ السلمى لا يضل ربى ولا ينسى ببناء الفعليت لما لم يسم فاعله
الذى جعل لكم الأرض مهدا الخ يحتمل أن يكون ابتداء كلام منه عز و جل وكلام موسى عليه السلام قد تم عند قوله تعالى : ولاينسى فيكون الموصول خبر مبتدأ محذوف والجملة على ما قيل : مستانفه استئنافا بيانيا كأنه سبحانه لما حكى كلام موسى عليه السلام إلى قوله : لايضل ربى ولاينسى سئل ما اراد موسى بقوله : ربى فقال سبحانه : هو الذى جعل الخ واخيار هذا الأمام بل قال : يجب الجزم به ويحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام على أن يكون قد سمعه من الله عز و جل فادرجه بعينه فى كلامه ولذا قال : لكم دون لنا وهومن قبيل الأقتباس فيكون الموصول أما مرفوع المحل على أنه صفة لربى أو خبر مبتدأ محذوف كما فى الأحتمال السابق وأما منصوب على المدح واختار هذا الزمخشرى وعلى الاحتمالين يكون فى قوله تعالى : فأخرجنا التفات بلا اشتباه أو على أن موسى عليه السلام قال ذلك من عنده غير سامع له من الله عز و جل وقال : فأخرج به باسناد أخرج إلى ضمير الغيبة إلا أن الله تعالى لما حكاه اسند إلى ضمير
(16/205)

المتكلم لأن الحاكى هو المحكى عنه فمرجع الضميرين واحد وظاهر كلام ابن المنير اختيار هذا حيث قال بعد تقريره : وهذا وجه حسن رقيق الحاشية وهو اقرب الوجوه إلى الالتفات
وانكر بعضهم أن يكون فيه التفات أو على أنه عليه السلام قاله من عنده بهذا اللفظغير مغير عند الحكاية وقوله : أخرجنامن باب قول خواص الملك امرنا وعمرنا وفعلنا وإنما يريدون الملك أو هو مسند إلى ضمير الجماعة بارادة أخرجنا نحن معاشر العبادبذلك الماء بالحراثة ازواجا من نبات شتى على ما قيل وليس فى أخرجنا على هذا وما قبله التفات ويحتمل أن يكون ذلك كلام موسى عليه السلام إلى قوله تعالى : ماء وما بعده كلام الله عز و جل اوصله سبحانه بكلام موسى عليه السلام حين الحكاية لنبينا صلى الله عليه و سلم واللاولى عندى الأحتمال الأول بل يكاد يكون كالمتعين ثم الأحتمال الثانى ثم الأحتمال الثالث وسائر الأحتمالات ليس بشئ ووجه ذلك لايكاد يخفى وسياتى أن شاء الله تعالى فى الزخرف نحو هذه الآية والمهد فى الأصل مصدر ثم جعل اسم جنس لما يمهد للصبى ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل أن كان بمعنى صير أو حال أن كان بمعنى خلق والمراد جعلها لكم كالمهد ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته غير منقول لما ذكر والمراد جعلها ذات مهد أو ممهده أو نفس المهد مبالغة وجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر من لفظه أي مهدها مهدا بمعنى بسطها ووطاها والجملة حال من الفاعل أو المفعول وقرأ كثير مهادا وهو على ماقال المفضل كالمهد والمصدرية والنقل
وقال أبو عبيد : المهاد اسم والمهد مصدر وقال بعضهم : هو جمع مهد ككعب وكعاب والمشهور فى جمعه مهود والمعنى على الجمع جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم وسلك لكم فيها سبلا أي حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال والأودية تسلكونها من قطر إلى قطر تقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها وللدلالة على أن الأنتفاع مخصوص بالانسان كرر لكم وذكره اولا لبيان أن المقصود بالذات من ذلك الأنسان وانزل من السماء من جهتها أو منها نفسها على ما فى بعض الآثار ماء هو المطر فأخرجنا به أي بذلك الماء وواسطته حيث أن الله تعالى اودع فيه ما اودع كما ذهب إلى ذلك الماتريدية وغيرهم من السلف الصالح لكنه لايؤثر إلا باذن الله تعالى كسائر الأسباب فلا ينافى كونه عز و جل هو المؤثر الحقيقى وإنما فعل ذلك سبحانه مع قدرته تعالى الكاملة على ايجاد ما شاء بلا توسيط شئ كما اوجد بعض الأشياء كذلك مراعاة للحكمة
وقيل : به أي عنده واليه ذهب الاشاعرة فالماء كالنار عندهم فى أنه ليس فيه قوة الرى مقلا والنار كالماء فى انها ليس فيها قوة الاحراق وإنما الفرق بينهما فى أن الله تعالى قد جرت عادته أن يخلق الرى عند شرب الماء والاحراق عند مسيس النار دون العكس وزعموا أن من قال : أن فى شئ من الأسباب قوة تاثير اودعها الله تعالى فيه فهو إلى الكفر افرب منه إلى الأيمان وهو لعمرى من المجازفة بمكان
والظاهر أن يقال : فأخرج إلا أنه التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة بواسطة أنه لا يسند إلى العظيم إلا أمر عظيم والايذان بأنه لا يتاتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ينقاد لأمره ويذعن لمشيئته الأشياء المختلفة فان مثل هذا التعبير يعبر به الملوك والعظماء النافذ أمرهم ويقوى
(16/206)

هذا الماضي الدال على التحقيق كالفاء الدالة على السرعة فانها للتعقيب على ما نص عليه بعض المحققين وجعل الأنزال والأخراج عبارتين عن أرادة النزول والخروج معللا باستحالة مزاولة العمل فى شأنه تعالى شأنه
واعترض عليه بما فيه بحث ولا يضر فى ذلك كونه تعقيبا عرفيا ولم تجعل للسببية لانها معلومة من الباء
وقال الخفاجى : لك أن تقول أن الفاء لسببية الأرادة عن الأنزال والباء لسببية النبات عن الماء فلا تكرار كما فى قوله تعالى : لنحيى به ولعل هذا اقرب انتهى
وانت تعلم أن التعقيب أظهر وابلغ وقد ورد على هذا النمط من الالتفات للنكتة المذكورة قوله تعالى : الم ترى أن الله انزل من السماء ماء فأخرجنا به الثمرات مختلفا الوانها وقوله تعالى ام من خلق السموات والأرض وانزل لكم من السماء ماء فانبتنا به حدائق ذات بهجة وقوله سبحانه وهو الذى انزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ ازواجا أي اصنافا اطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض
من نبات بيان وصفة لازواجا وكذا قوله تعالى شتى
53
- أي متفرقة جمع شتيت كمريض ومرضى والفه للتانيث وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوى فيه الواحد والجمع يعنى انها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم
وقالوا : من نعمته عز وعلا أن ارزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله تعالى علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على اكله وقوله تعالى كلوا وارعوا انعامكم معمول قول محذوف وقع حالا من ضمير فأخرجنا أي أخرجنا اصناف النبات قائلين كلوا الخ أي معديها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة اذنين في ذلك وجوز أن يكون القول حالا من المفعول أي أخرجنا ازواجا مختلفة مقولا فيها ذلك والأول انسب وأولى ورعى كما قال الزجاج يستعمل لازما ومتعديا يقال : رعت الدابه رعيا ورعاها صاحبها رعايا إذا اسامها وسرحها واراحها ان في ذلك إشارة إلى ما ذكر من شؤنه تعالى وافعاله وما فيه من معنى البعد للايذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الكمال وقيل : لعدم ذلك المشار اليه بلفظه والتنكير في قوله سبحانه لايات للتفخيم كما وكيفا أي لايات كثيرة جليلة واضحة الدلالة على شؤن الله تعالى فى ذاته وصفاته لأولى النهى
54
- جمع نهيه بضم النون سمى بها العقل لنهية عن اتباع الباطل وارتكاب القبيح كما سمى بالعقل والحجر لعقله وحجره عن ذلك ويجئ النهى مفردا بمعنى العقل كما فى القاموس وهو ظاهر ما روى عن ابن عباس هنا فانه قال : أي لذوى العقل وفى رواية أخرى عنه أنه قال : لذوى التقى ولعله تفسير باللازم
واجاز أبو على أن يكون مصدرا كالهدى والأكثرون على الجمع أي لذوى العقول الناهيه عن الاباطيل وتخصيص كونها ايات بهم لأن اوجه دلالتها على شؤنه تعالى يعلمها إلا العقلاء ولذا جعل نفعها عائد اليهم في الحقيقة فقال سبحانه : كلوا وارعوا دون كلوا انت والأنعام منها أي من الأرض
خلقناكم أي فى ضمن خلق ابيكم ادم عليه السلام منها فان كل فرد من افراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه السلام بل كانت انموذجا منطويا على فطرة سائر افراد الجنس انطواء جمالية مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه السلام منها خلقا للكل منها وقيل :
(16/207)

المعنى خلقنا ابدانكم من النطفة المتولدة من الاغذية المتولدة من الأرض بوسائط
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخرسانى قال : أن الملك ينطلق فياخذ من تراب المكان الذى يدفن فيه الشخص فيذره على النطفة فيخلق من التراب والنطفة وفيها نعيدكم بالاماتة وتفريق الأجزاء وهذا وكذا ما بعد مبنى على الغالب بناء على أن من الناس من لا يبلى جسده كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وايثار كلمة فى على كلمة إلى للدلالة على الأستقرار المديد فيها ومنها نخرجكم تارة أخرى
55
- بتاليف اجزائكم المتفتته المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة ورد الأرواح من مقرها اليها وكون هذا الأخراج تاره أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض أخراج لهم منها وان لم يكن على نهج التاره الثانية أو التاره فى الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان ثم اطلق على كل فعله واحد من الفعلات المتجددة كما مر فى المرة وما الطف ذكر قوله تعالى : منها خلقناكم الخ بعد ذكر النبات وأخراجه من الأرض فقد تضمن كل أخراج اجسام لطيفة من الترباء الكثيفة وخروج الاموات اشبه شئ بخروج النبات هذا
ومن باب الأشارة في الآيات طه يا طاهرا بنا هاديا الينا أو يا طائف كعبة الاحدية في حرم الهوية وهادى الانفس الزكية إلى المقامات العلية وقيل : أن ط لكونها بحساب الجمل تسعة وإذا جمع ما انطوت عليه من الاعداد اعنى الواحد والاثنين والثلاثه وهكذا إلى التسعة بلغ خمسة واربعين إشارة إلى ادم لأن اعداد حروفه كذلك و ه لكونها بحساب الجمل خمسة وما انطوت عليه من الاعداد يبلغ خمسة عشر إشارة إلى حوا بلا همز والأشارة بمجموع الأمرين إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أبو الخليقة وامها فكانه قيل : يا من تكونت منه الخليقة وقد اشار إلى ذلك عارف بن الفارض قدس سره بقوله على لسان الحقيقة المحمدية : وانى وان كنت ابن ادم صورة فلى منه معنى شاهد بابوتى وقال في ذلك الشيخ عبد الغنى النابلسى عليه الرحمة : طه النبى تكونت من نوره كل البرية ثم لو ترك القطا وقيل : طه الحساب اربعة عشر وهو إشارة إلى مرتبة البدرية فكانه قيل : يا بدر سماء عالم الامكان ما انزلنا عليك القرإن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى أي إلا لتذكر من يخشى ايام الوصال التى كانت قبل تعلق الأرواح بالابدان وتخبرهم بانها يحصل نحوها لهم لتطيب انفسهم وترتاح ارواحهم أو لتذكرهم ايايها ليشتاقوا اليها وتجرى دموعهم عليها ويجتهدوا في تحصيل ما يكون سببا لعودها ولله تعالى در من قال : سقى الله اياما لنا ولياليا مضت فجرت من ذكرهن كموع فياهل لها يوما من الدهر اوبة وهل لى إلى ارض الحبيب رجوع
(16/208)

وقيل : من يخشى هم العلماء لقوله تعالى انما يخشى الله من عباده العلماء ولما كان العلم مظنة العجب والفخر ونحوهما ناسب أن يذكر صاحبه عظمة الله عز و جل ليكون ذلك سورا له مانعا من تطرق شئ مما ذكر الرحمن على العرش استوى العرش جسم عظيم خلقه الله تعالى كما قيل من نور شعشعانى وجعله موضع نور العقل البسيط الذى هو مشرق انوار القدم وشرفه بنسبة الأستواء الذى لا يكتنه وقيل : خلق من انوار اربعة مختلفة الالوان وهى انوار سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله اكبر ولذا قيل له الأطلس والى هذا ذهبت الطائفة الحادثة فى زماننا المسماة بالكشفية
وذكر بعض الصوفية أن العرش إشارة إلى قلب المؤمن الذى نسبة العرش المشهور اليه كنسبة الخردلة إلى الفلاة بل كنسبة القطرة إلى البحر المحيط وهو محل نظر الحق ومنصه تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه وفي احياء العلوم بحجة الأسلام الغزالى قال الله تعالى لم يسعنى سمائى ولا ارضى ووسعنى قلب عبدى المؤمن اللين الوادع أي الساكن المطمئن وفى الرشده لصدر الدين القونوى قدس سره بلفظ ما وسعنى ارضى ولا سمائى ووسعنى قلب عبدى المؤمن التقى النقى الوادع وليس هذا القلب عبارة عن البضعة الصنوبرية فانها عند كل عاقل احقر من حيث الصورة أن تكون محل سره جل وعلا فضلا عن أن تسعه سبحانه وتكون مطمح نظره الاعلى ومستواه عز شأنه وهى وان سميت قلبا فانما تلك التسمية على سبيل المجاز وتسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول بل القلب الانسانى عباره عن الحقيقة الجامعه بين الأوصاف والشؤن الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعية وتلك الحقيقة تنتشئ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعه بين الصفات والحقائق الالهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية والقلب الصنوبرى منزل تدلى الصورة الظاهرة من بين ما ذكرنا التى هى صورة الحقيقة القلبية ومعنى وسع ذلك للحق جل وعلا على ما فى مسلك الوسط الدانى كونه مظهرا جامعا للاسماء والصفات على وجه لا ينافى تنزيه الحق سبحانه من الحلول والاتحاد والتجزئه وقيام القديم بالحادث ونحو ذلك من الأمور المستحيلة عليه تعالى شأنه هذا لكن ينبغى أن يعلم أن هذا الخبر وان استفاض عند الصوفية قدست اسرارهم إلا أنه قد تعقبه المحدثون فقال العراقى : لم ار له أصلا
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية : هو مذكور في الاسرائيليات وليس اسناد معروف عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكانه اشار بما في الاسرائيليات إلى ما أخرجه الأمام احمد فى الزهد عن وهب ابن منبه قال : أن الله تعالى فتح السموات لحزقيل : حتى نظر إلى العرش فقال حزقيل : سبحانك ما اعظمك يا رب فقال الله تعالى : أن السموات والأرض ضعفن من أن يسعننى ووسعنى قلب عبدى المؤمن الوادع اللين
نعم لذلك ما يشهد له فقد قال العلامه الشمس ابن القيم فى شفاء العليل ما نصه وفى المسند وغيره عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم القلوب انية الله تعالى فى ارضه فاحبها اليه اصلبها وارقها واصفاها انتهى
ورى الطبرانى من حديث أبى عنبسة الخولانى رفعه ان لله تعالى انية من الأرض وانية ربكم قلوب عباده الصالحين واحبها اليه الينها وارقها وهذا الحديث وان كان فى سنده بقية بن الوليد وهو مدلس إلا
(16/209)

أنه صرح فيه بالحديث ويعلم من مجموع الحديثين أربع صفات للقلب الأحب اليه تعالى اللين وهو لقبول الحق والصلابة وهى لحفظه فالمراد بها صفة تجامع اللين والصفاء والرقة وهما لرويته واستواؤه تعالى على العرش بصفة الرحمانية دون الرحيمة للاشارة إلى أن لكل أحد نصيبا من واسع رحمته جل وعلا وان تجهر بالقول فانه يعلم السر واخفى قيل : السر أمر كامن فى القلب كمون النار فى الشجر الرطب حيث تثيره الأرادة لا يطلع عليه الملك ولا الشيطان ولا تحس به النفس ولا يشعر به العقل والاخفى ما فى باطن ذلك
وعند بعض الصوفية السر لطيفه بين القلب والروح وهو معدن الأسرار الروحانية والخفى لطيفة بين الروح والحضرة الالهية وهو مهبط الأنوار الربانية وتفصيل ذلك فى محله وقد استدل بعض الناس بهذه الآيةعلى عدم مشروعية الجهر بالذكر والحق أنه مشروع بشرطه واختلفوا فى أنه هل هو افضل من الذكر الخفى اة الذكر الخفى افضل منه والحق فيما لم يرد نص على طلب الجهر فيه وما لم يرد نص على طلب الاخفاء فيه أنه يختلف الافضل فيه باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان فيكون الجهر افضل من الأخفاء تارة والأخفاء افضل أخرى وهل اتاك حديث موسى إذ رأى نارا قال الشيخ ابراهيم الكورانى عليه الرحمة فى تنبيه العقول : أن تلك النار كانت مجلى الله عز و جل وتجليه سبحانه فيها مراعاة للحكمة من حيث انها كانت مطلوب موسى عليه السلام واحتج على ذلك بحديث رواه عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه وسنذكره أن شاء الله تعالى عند قوله تعالى فلما جاءها نودى أن بورك من فى النار ومن حولها الآية فاخلع نعليكاترك الالتفات إلى الدنيا والاخرة وسر مستغرق القلب بالكلية فى معرفة الله تعالى ولا تلتفت إلى ما سواه سبحانه انك بالوادى المقدس طوى وهو وادى قدس جلال الله تعالى وتنزه عزته عز و جل وقيل : النعلان إشارة إلى المقدمتين اللتين يتركب منهما الدليل لانهما يتوصل بهما العقل إلى المقصود كالنعلين يلبسهما الانسان فيتوصل بالمشى بهما إلى مقصوده كأنه قيل : لا تلتفت إلى المقدمتين ودع الاستدلال فانك فى وادى معرفة الله تعالى المفعم باثار الو هيته سبحانه فاعبدنى قدم هذا الأمر للاشارة إلى عظم شرف العبودية وثنى بقوله سبحانه واقم الصلاة لذكرى لأن الصلاة من اعلام العبودية ومعارج الحضرة القدسية
وما تلك بيمينك يا موسى ايناس منه تعالى له عليه السلام فانه عليه السلام دهش لما تكلم سبحانه معه بما يتعلق بالالوهية فسأله عن شئ بيده ولا يكاد يغلط فيه ليتكلم ويجيب فتزول دهشته قيل وكذلك يعامل المؤمن بعد موته وذلك أنه إذا مات وصل إلى حضرة ذى الجلال فيعتريه ما يعتريه فيسأله عن الأيمان الذى كان بيده فى الدنيا ولا يكاد يغلط فيه فاذا ذكره زال عنه ما اعتره وقيل : أن الله تعالى لما عرفه كمال الالوهية اراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها ما هو اعظم نفعا مما ذكره تنبيها على أن القول قاصرة عن معرفة صفات الشئ الحاضر فلو لا التوفيق كيف يمكنه الوصول إلى معرفة اجل الأشياء واعظمها فالقاها فاذا هى حية تسعى فيه إشارة إلى ظهور اثر الجلال ولذلك خاف موسى عليه السلام فقال سبحانه خذها ولا تخف فهذا الخوف من كمال المعرفة لأنه لم يا من مكر الله تعالى ولو سبق منه سبحانه الايناس وفى بعض الآثار يا موسى لا تامن مكرى حتى تجوز الصراط
وقيل : كان خوفه من فوات المنافع المعدودة ولذا علل النهى بقوله تعالى : سنعيدها سيرتها
(16/210)

الأولى وهذا جهل بمقام موسى عليه السلام وكذا ما قيل : أنه لما رأى الأمر الهائل فر حيث لم يبلغ مقام ففروا إلى الله ولو بغله لم يفر وما قيل : أيضا لعله لما حصل له مقام المكالمة بقى فى قلبه عجب فاراه الله تعالى أنه بعد فى النقص الامكانى ولم يفارق عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من عند الله تعالى وحده
واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء اراد سبحانه أن يريه آية نفسية بعد أن اراه عليه السلام آية إفاقية كما قال سبحانه : سنريهم إياتنا فى الافاق وفى انفسهم وهذا من عنايته جل جلاله : وقد ذكروا فى هذه القصة نكات واشارات منها أنه سبحانه لما اشار إلى العصا واليمين بقوله تعالى : وما ذلك بيمينك حصل فى كل منهما برهان باهر ومعجز قاهر فصار أحدهما وهو الجماد حيوانا والأخر وهو الكثيف نورانيا لطيغا ثم أنه تعالى ينظر فى كل يوم ثلثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فاى عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حياء ستنيرا ومنها أن العصا قد استعدت بيمن يمين موسى عليه السلام للحياة وصارت حية فكيف لا يستعد قلب المؤمن الذى هو بين اصبعين من اصابع الرحمن للحياة ويصير حيا ومنها أن العصا باشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الامارة بالسوء ومنها أن قوله تعالى اولا اخلع نعليك إشارة إلى التخلية وتطهير لوح الضمير من الاغيار وما بعده إشارات إلى التحلية وتحصيل ما ينفى تحصيله واشار سبحانه إلى علم المبدأ بقوله تعالى اننى انا الله والى علم الوسط بقوله عز و جل فاعبدنى واقم الصلاة لذكرى وفيه إشارة إلى الأعمال الجسمانية والروحانية والى علم المعاد بقوله سبحانه ان الساعة اتية ومنها أنه تعالى افتتح الخطاب بقوله عز قائلا وانا اخترتك وهو غاية اللطف وختم الكلام بقوله جل وعلا فلا يصدنك عنها الى فتردى وهو قهر تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وان العبد لا بد أن يكون سلوكه عى قدمى الرجاء والخوف ومنها أن موسى عليه السلام كان في رجله شئ وهو النعل وفى يده شئ وهو العصا وارجل الة الهرب واليد الة الطلب فأمر بترك ما فيهما تنبيها على أن السالك ما دام فى مقام الطلب والهرب كان مشتغلا بنفسه وطالبا لحظه فلا يحصل له كمال الأستغراق فى بحر العرفان وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل والقى العصا فانت مع الف وقر من المعاصى كيف يمكنك الوصول إلى جنابة وحضرته جل جلاله واستشكلت هذه الآيات من حيث انها تدل على أن الله تعالى خاطب موسى عليه السلام بلا واسطة وقد خاطب نبينا صلى الله عليه و سلم بواسطة جبريل عليه السلام فيلزم مزية الكليم على الحبيب عليهما الصلاة والسلام والجواب أنه تعالى شأنه قد خاطب نبينا صلى الله عليه و سلم أيضا بلا واسطة ليلة المعراج غاية ما فى البال أنه تعالى خاطب موسى عليه السلام فى مبدأ رسالته بلا واسطة وخاطب حبيبه عليه الصلاة و السلام فى مبدأ رسالته بواسطة ولا يثبت بمجرد ذلك المزية على أن خطابه لحبيبه الأكرم صلى الله عليه و سلم بلا واسطة كان مع كشف الحجاب ورؤيته عليه الصلاة و السلام إياه على وجه لم يحصل لموسى عليه السلام وبذلك يجبر ما يتوهم فى تاخير الخطاب بلا واسطة عن مبدأ الرسالة وانظر إلى الفرق بين قوله تعالى عن نبينا صلى الله عليه و سلم ما زاغ البصر وما طغى وقوله عن موسى عليه السلام قال هى عصاى الخ ترى الفرق واضحا بين الحبيب والكليم مع أن لكل رتبة التكريم صلى الله تعالى عليهما وسلم
وذكر بعضهم أن في الآيات ما يشعر بالفرق بينهما أيضا عليهما الصلاة والسلام من وجه أخر وذلك
(16/211)

أن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتكل على فضل الله تعالى ورحمته قائلا مع امته ويحسبنا الله ونعم الوكيل ولذا ورد فى حقه حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين على معنى وحسب من اتبعك وايضا أنه عليه السلام بدأ بمصالح نفسه فى قوله : أتوكأ عليها ثم مصالح رعيته بقوله : وأهش بها على غنمى والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشتغل إلا باصلاح أمر امته اللهم اهد قومى فانهم لا يعلمون فلا جرم يقول موسى عليه السلام يوم القيامة نفسى نفسى والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : امتى امتى انتهى وهو ماخوذ من كلام الأمام بل لافرق إلا بيسير جدا ولعمرى أنه لاينبغى أن يقتدى به فى مثل هذا الكلام كما لايخفى على ذوى الافهام وإنما نقلته لانبة على عدم الاغترار به نعوذ بالله تعالى من الخذلان رب اشرح لى صدرى لم يذكر عليه السلام بم يشرح صدره وفيه احتمالات
قال بعض الناس : أنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور الأول ذاته جل شأنه الله نور السموات والأرض الثانى الرسول صلى الله تعالى وسلم قد جاءكم من الله نور وكتاب الثالث الكتاب واتبعوا النور الذى انزل معه الرابع الأيمان يريدون أن يطفئوا نور الله الخامس عدل الله تعالى وأشرقت الأرض بنور ربها السادس القمر وجعل القمر نورا السابع النهار وجعل الظلمات والنور
الثامن البينات إنا انزلنا التوراة فيها هدى ونور التاسع الأنبياء عليهم السلام نور على نور العاشر المعرفه مثل نوره كمشكاة فيها مصباح فكان موسى عليه السلام قال اولا رب اشرح لى صدرى بمعرفة انوار جلال كبريائك وثانيا رب اشرح لى صدرى بالتخلق باخلاق رسلك وانبيائك وثالثا رب اشرح لى صدرى باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك ورابعا رب اشرح لى صدرى بنور الأيمان والأيقان بالهيتك وخامسا رب اشرح لى صدرى بالاطلاع على اسرار عدلك فى قضائك وحكمك
وسادسا رب اشرح لى صدرى بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى انوار جلال عوتك كما فعله ابراهيم عليه السلام وسابعا رب اشرح لى صدرى من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل قهرك وثامنا رب اشرح لى صدرى بالاطلاع على مجاميع اياتك ومعاقد بيناتك فى ارضك وسمواتك وتاسعا رب اشرح لى صدرى فى أن اكون خلف صدق للانبياء المتقدمين ومشابها لهم فى الأنقياد لحكم رب العالمين وعاشرا رب اشرح لى صدرى بأن يجعل سراج الايمان كالمشكاة التى فيها المصباح انتهى
ولا يخفى ما بين اكثر ما ذكر من التلازم واغناء بعضه عن بعض وقال ايضا : أن شرح الصدر عبارة عن ايقاد النور فى القلب حتى يصير كالسراج ولا يخفى أن مستوقد السراج محتاج إلى سبعة اشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن فالزند زند المجاهدة والذين جاهدوا فينا والحجر حجر التضرع ادعوا ربكم تضرعا وخفية والحراق منع الهوى ونهى عن النفس عن الهوى والكبريت الانابة وانيبوا إلى ربكم والمسرجة الصبر واستعينوا بالصبر والصلاة والفتيلة الشكر ولئن شكرتم لازيدنكم والدهن الرضا واصبر لحكم ربك أي ارض بقضائه ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغى أن تطلب المقصود من حضرة ربك جل وعلا قائلا : رب اشرح لى صدرى فهنالك تسمع قد اوتيت سؤلك يا موسى ثم أن هذا النور الروحانى افضل من الشمس الجسمانية لوجوه الأول أن الشمس يحجبها الغيم وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبع اليه يصعد الكلم الطيب الثانى الشمس تغيب
(16/212)

ليلا وشمس المعرفة لا تغيب ليلا إن ناشئة الليل هى أشد وطئا وأقوم قيلا والمستغفرين بالأسحار سبحان الذى أسرى بعبده ليلا
الليل للعاشقين ستر يا ليت أوقاته تدوم الثالث الشمس تفنى إذا الشمس كورت والمعرفه لا تفنى أصلها ثابت وفرعها فى السماء سلام قولا من رب رحيم الرابع الشمس إذا قابلها القمر انكسفت وشمس المعرفة وهى أشهد أن لا إله إلا الله إذا لم تقرن بقمر النبوة وهى أشهد أن محمدا رسول الله لم يصل النور إلى عالم الجوارح الخامس الشمس تسود الوجه والمعرفة تبيض الوجوه يوم تبيض وجوه السادس الشمس تصدع والمعرفة تصعد
السابع الشمس تحرق والمعرفة يمنع من الاحراق جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبى الثامن الشمس منفعتها فى الدنيا والمعرفة منفعتها فى الدارين فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون التاسع الشمس فوقانية الصورة تحتانية المعنى والمعارف الالهية بالعكس العاشر الشمس تقع على الولى والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولى الحادى عشر الشمس تعرف احوال الخلق والمعرفة توصل القلب إلى الخالق ولما كان شرح الصدر الذى هو أول مراتب الروحانيات اشرف من اعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى عليه السلام بطلبه قائلا رب اشرح لى صدرى وعلامة شرح الصدر ودخول النور الالهى فيه التجافى عن دار الغرور والرغبة فى دار الخلود وشبهوا الصدر بقلعة وجعلوا الأول كالخندق لها والثانى كالسور فمتى كان الخندق عظيما والسور محكما عجز عسكر الشيطان من الهوى والكبر والعجب والبخل وسوء الظن بالله تعالى وسائر الخصال الذميمة ومتى لم يكونا كذلك دخل العسكر وحينئذ ينحصر الملك فى قصر القلب ويضيق الأمر عليه
وفرقوا بين الصدر والقلب والفؤاد واللب بأن الصدر مقر الاسلام افمن شرح الله صدره للاسلام والقلب مقر الأيمان حبب اليكم الايمان وزينة فى قلوبكم أولئك كتب فى قلوبهم الأيمان والفؤاد مقر المشاهدة ما كذب الفؤاد ما رأى واللب مقام التوحيد إنما يتذكر أولوا الألباب أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازى وبقوا بلب الوجود الحقيقى وإنما سأل موسى عليه السلام شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس وايضا شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والحرتكفيه الأشارة فاذا علم المولى سبحانه أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة وايضا أنه عليه السلام راعى الادب فى الطلب فاقتصر على طلب الأدنى فلا جرم أعطى المقصود فقيل : قد أوتيت سؤلك يا موسى ولما اجترا فى طلب الرؤية قيل له : لن ترانى ولا يخفى ما بين قول موسى عليه السلام لربه عز و جل رب اشرح لى صدرى وقول الرب لحبيبه صلى الله عليه و سلم ألم نشرح لك صدرك ويعلم منه أن الكليم عليه السلام مريد والحبيب صلى الله عليه و سلم مراد والفرق مثل الصبح ظاهر
ويزيد الفرق ظهورا أن موسى عليه السلام فى الحضرة الالهية طلب لنفسه ونبينا صلى الله عليه و سلم حين قيل له هناك السلام عليك ايها النبى قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقد أطال الأمام الكلام فى هذه الآية بما هو من هذا النمط فارجع اليه أن أردته واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولى كأنه عليه السلام طلب قدرة التعبير عن الحقائق الالهية بعبارة واضحة فان المطلب وعر لا يكاد توجد له عبارة تسهله حتى يا من سامعه عن العثار ولذا ترى كثيرا من الناس ضلوا بعبارات بعض الأكابر من الصوفية
(16/213)

في شرح الأسرار الالهية وقيل : أنه عليه السلام سأل حل عقدة الحياء قانه استحيا أن يخاطب عدو الله تعالى بلسان به خاطب الحق جل وعلا ولعله أراد من القول المضاف القول الذى به ارشاد للعباد فان همة العارفين لا تطلب النطق والمكالمة مع الناس فيما لا يحصل به ارشاد لهم نعم النطق من حيث هو فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال سبحانه الرحمن علم القرإن خلق الانسان علمه البيان من غير توسيط عاطف وعن على كرم الله تعالى وجهه ما الانسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة وقال رضى الله تعالى عنه : المرء مخبوء تحت طى لسانه لا طيلسانه وقال رضى الله تعالى عنه : المرء باصغريه قلبه ولسانه وقال زهير : لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم ومن الناس من مدح الصمت لأنه اسلم يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل وفى نوابغ الكلم ق فاك لا يقرع قفاك والانصاف أن الصمت فى نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمى والمنطق فى نفسه فضيلة لكن قد يصير رذيلة لاسباب عرضية فالحق ما أشار اليه صلى الله عليه و سلم بقوله : رحم الله تعالى امرا قال خيرا فنغم اوسكت فسلم وذكر فى وجه عدم طلبه عليه السلام الفصاحة الكاملة انها نصيب الحبيب عليه الصلاة و السلام فقد كان صلى الله عليه و سلم أفصح من نطق بالضاد فما كان له أن يطلب ما كان له واجعل لى وزيرا من أهلى هرون أخى أشدد به أزرى وأشركه فى أمرى فيه إشارة إلى فضيلة التعاون فى الدين فانه من أخلاق المرسلين عليهم صلوات الله تعالى وسلامه أجمعين والوزارة المتعارفة بين الناس ممدوحة إن زرع الوزير فى ارضها ما لا يندم عليه وقت حصاده بين يدى ملك الملوك وفيه إشارة أيضا إلى فضيلة التوسط بالخير للمستحقين لا سيما إذا كانوا من ذوى القرابة
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وفى تقديم موسى عليه السلام مع أنه أصغر سنا على هرون عليه السلام مع أنه الأكبر دليل على أن الفضل غير تابع للسن فالله تعالى يختص بفضله من يشاء إنك كنت بنا بصيرا فى ختم الأدعية بذلك من حسن الأدب مع الله تعالى مالا يخفى وهو من أحسن الوسائل عند الله عز و جل ومن آثار ذلك استجابة الدعاء ولقد مننا عليك مرة أخرى تذكير له عليه السلام بما يزيد إيقانه وفيه إشارة إلى أنه تعالى لا يرد بعد القبول ولا يحرم بعد الأحسان ومن هنا قيل : إذا دخل الأيمان القلب آمن السلب وما رجع من رجع إلا من الطريق واصطنعتك لنفسى افردتك لى بالتجريد فلا يشغلك عنى شئ فلبثت سنين فى أهل مدين أشير بذلك إلى خدمته لشعيب عليه السلام وذلك تربية منه تعالى له بصحبة المرسلين ليكون متخلقا بأخلاقهم متحليا باآدابهم صالحا للحضرة ولصحبة الأخيار نفع عظيم عند الصوفية وبعكس ذلك صحبة الأشرار ثم جئت على قدر يا موسى وذلك زمان كمال الأستعداد ووقت بعثة الأنبياء عليهم السلام وهو زمن بلوغهم أربعين سنه ومن بلغ الأربعين ولم يغلب خيره على شره فلينح على نفسه وليتجهز إلى النار اذهبا إلى فرعون إنه طغى جاوز الحد فى المعصية حتى ادعى الربوبية وذلك أثر سكر القهر الذى هو وصف النفس الأمارة ويقابله سكر اللطف وهو وصف الروح ومنه ينشا الشطح ودعوى الأنانية قالوا : وصاحبه معذور
(16/214)

وإلا لم يكن فرق بين الحلاج مثلا وفرعون وأهل الغيرة بالله تعالى يقولون : لا فرق فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى فيه إشارة إلى تعليم كيفية الأرشاد وقال النهر جورى : أن الأمر بذلك لأنه احسن إلى موسى عليه السلام في ابتداء الأمر ولم يكافئه منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى إشارة إلى الهياكل واقفاص بلابل الأرواح وإلا فالأرواح أنفسها من عالم الملكوت وقد أشرقت على هذه الأشباح وأشرقت الأرض بنور ربها والله تعالى أعلم
وقد تأول بعض أهل التأويل هذه القصة والآيات على ما فى الأنفس وهو مشرب قد تركناه إلا قليلا والله تعالى الهادى إلى سواء السبيل ولقد أريناه حكاية أخرى إجمالية لما جرى بين موسى عليه السلام وفرعون عليه اللعنة وتصديرها بالقسم لابراز كمال العناية بمضمونها والأراءة من الرؤية البصرية المتعدية إلى مفعول واحد وقد تعدت إلى ثان بالهمزة أو من الرؤية القلبية بمعنى المعرفة وهى أيضا متعدية إلى مفعول واحد بنفسها وإلى آخر بالهمزة ولا يجوز أن تكون من الرؤية بمعنى العلم المتعدى إلى اثنين بنفسه والى ثالث بالهمزة لما يلزمه من حذف المفعول الثالث من الأعلام وهو غير جائز
وإسناد الأراءة إلى ضمير العظمة نظرا إلى الحقيقة لا إلى موسى عليه السلام نظرا إلى الظاهر لتهويل أمر الآيات وتفخيم شأنها واظهار كمال شناعة اللعين وتمادية في الطغيان وهذا الأسناد يقوى كون ما تقدم من قوله تعالى الذى الخ من كلامه عز و جل أي بالله لقد بصرنا فرعون أو عرفناه إياتنا حين قال لموسى عليه السلام : أن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فاذا هى ثعبان مبين ونزع يده فاذا هى بيضاء للناظرين وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين إما لأن إطلاق الجمع على الاثنين شائع على ما قيل أو باعتبار ما فى تضاعيفهما من بدائع الأمور التى كل منها آية بينة لقوم يعقلون وقد ظهر عند فرعون أمور أخر كل منها داهية دهياء فانه روى أنه عليه السلام لما ألقاها انقلبت ثعبانا أشعر فاغرافاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحه الأسفل على الأرض والاعلى على سوار القصر فتوجه نحو فرعون فهرب واحدث فانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذى ارسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصا وقد تقدم نحوه عن وهب بن منبه وروى انها انقلبت حية ارتفعت فى السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول : يا موسى مرنى بما شئت ويقول فرعون : أنشدك الخ ونزع يده من جيبه فاذا هى بيضاء للناظرين بياضا نورانيا خارجا عن حدود العادات قد غلب شاعه شعاع الشمس يتجمع عليه النظارة تعجبا من أمره ففى تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة لكنها لما كانت غير مذكورة صريحا اكدت بقوله تعالى كلها كأنه قيل : أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها قصدإ إلى بيان أنه لم يبقى فى ذلك عذر ما والأضافة على ما قرر للعهد وأدرج بعضهم فيها حل العقدة كما أدرجه فيها فى قوله تعالى اذهب أنت وأخوك بآياتى وقيل : المراد بها آيات موسى عليه السلام التسع كما روى عن ابن عباس فيما تقدم والأضافة للعهد أيضا وفيه أن اكثرها إنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل فى نحو من عشرين سنة ولا ريب فى أن أمر السحرة مترقب بعد وعد بعضهم منها ما جعل لآهلاكهم لا لارشادهم إلى الأيمان من فلق البحر وما ظهر من بعد ملكه من الآيات الظاهرة
(16/215)

لبني اسرائيل من نتق الجبل والحجر الذى انفجرت منه العيون وعد آخرون منها الآيات الظاهرة على أيدى الأنبياء عليهم السلام وحملوا الأضافة على استغراق الأفراد وبنى الفريقان ذلك على أنه عليه السلام قد حكى جميع ما ذكر لفرعون وتلك الحكاية فى حكم الأظهار والأراءة لاستحالة الكذب عليه عليه السلام ولا يخفى أن حكايته عليه السلام تلك الآيات مما لم يجر لها ذكر ههنا مع أن ما سياتى أن شاء الله تعالى من حمل ما أظهره عليه السلام على السحر والتصدى للمعارضة بالمثل مما يبعد ذلك جدا وأبعد من ذلك كله ادراج ما فصله عليه السلام من أفعاله تعالى الدالة على اختصاصه سبحانه بالربوبية وأحكامها فى الآيات وقيل : الأضافة لاستغراق الأنواع وكل تاكيد له أي أريناه أنواع آياتنا كلها والمراد بالآيات المعجزات وأنواعها وهى كما قال السخاوى : ترجع إلى إيجاد معدوم أو اعدام موجود أو تغييره مع بقائه وقد أرى اللعين جميع ذلك فى العصا واليد وفى الأنحصار نظر ومع الاغماض عنه لا يخلو ذلك عند بعد وزعمت الكشفية أن المراد من الآيات على كرم الله تعالى وجهه أظهره الله تعالى لفرعون راكبا على فرس وذكروا من صفتها ما ذكروا والجمع كما فى قوله تعالى آيات بينات مقام ابراهيم وظهور بطلانه يغنى عن التعرض لرده
والفاء فى قوله تعالى فكذب للتعقيب والمفعول محذوف أي فكذب الآيات أو موسى عليه السلام من غير تردد وتاخير وابى
56
- أي قبول الآيات أو الحق أو الأيمان والطاعة أي امتنع عن ذلك غاية الأمتناع وكان تكذيبه وإباؤه عند الأكثرين جحودا واستكبار وهو الأوفق بالذم ومن فسر أرينا بعرفنا وقدر مضافا أي صحة آياتنا وقال : أن التعريف يوجب حصول المعرفة قال بذلك لا محالة
وقولع تعالى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى
57
- استئناف مبين لكيفيه تكذيبه وإبائهوالهمزة لانكار الواقع واستقباحه وزعم أنه أمر محال والمجئ أما على حقيقته أو بمعنى الأقبال على الأمر والتصدى له أي أجئتنا من مكانك الذى كنت فيه بعد ماغبت عنا أو أقبلت علينا لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر وهذا مما لايصدر عن عاقل لكونه من باب محاولة المحال وإنما قال ذلك ليحمل قومه على غايه المقت لموسى عليه السلام بابراز أن مراده ليس مجرد انجاء بنى اسرائيل من ايديهم بل أخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم بالكلية حتى لايتوجه إلى اتباعه أحد ويبالغوا فى المدافعة والمخاصمة إذ الأخراج من الوطن اخو القتل كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم وسمى ما أظهره الله تعالى من المعجزة الباهرة سحرا لتجسيرهم على المقابلة ثم ادعى أنه يعارضه بمثله فقال فلنئتينك بسحلر مثله والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام واقعة فى جواب قسم محذوف كأنه قيل : إذا كان كذلك فوالله لناتينك بسحر مثل سحرك فاجعل بيننا وبينك موعدا أي وعدا على أنه مصدر ميمى وليس باسم زمان ولامكان لأن الظاهر أن قوله تعالى لانخلفه صفة له والضمير المنصوب عائد اليه ومتى كان زمانا أو مكانا لزم تعلق الاخلاف بالزمان أو المكان وهوانما يتعلق بالوعد يقال : أخلف وعده لا زمان وعده ولا مكانه أي لا نخلف ذلك الوعد نحن ولا أنت وإنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه السلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق الحال واظهار الجلادة
(16/216)

واراءة أنه متمكن من تهيئة اسباب المعارضة وترتيب الات المغالبة طال الأمد أم قصر كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السلام وتوسيط كلمة النفى بينهما للايذان بمسارعته إلى عدم الاخلاف وان عدم اخلافه لا يوجب عدم اخلافه عليه السلام ولذلك أكد النفى بتكرير حرفه
وقرأ أبو حعفر وشيبه لا نخلفه بالجزم على أنه جواب للأمر أي أن جعلت ذلك لا نخلفه مكانا سوى
58
- أي منصفا بيننا وبينك كما روى عن مجاهد وقتادة أي محل واقعا على نصف المسافة بيننا سواء بسواء وهذا معنى قول أبى على قربه منكم كقربه منا وعلى ذلك قول الشاعر
وان أبانا كان حل باهله سوى بين قيس قيس غيلان والفزر أو محل نصف أي عدل كما روى عن السدى لا المكان إذا لم يترجح قربه من جانب على أخر كان معدلا بين الجانبين وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد أنه قال : أي مكانا مستويا من الأرض لا وعر فيه ولا جبل ولا أكمة ولا مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض ومراده مكانا يتبين الواقفون فيه ولا يكون ما يستر احدا منهم ليرى كل ما يصدر منك ومن السحرة وفيه من اظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه وهذا المعنى عندى حسن جدا واليه ذهب جماعة وقيل : المعنى مكانا تستوى حالنا فيه وتكون المنازل فيه واحدة لا تعتبر فيه رياسه ولا تؤدى سياسة بل يتحد هناك الرئيس والمرؤوس والسائس والمسوس ولا يخلو عن حسم وربما يرجع إلى معنى منصفا أي محل نصف وعدل
وقيل : سوى بمعنى غير والمراد مكانا غير هذا المكان وليس بشئ لأن سوى بهذا المعنى لا تستعمل إلا مضافة لفظا ولا تقطع عن الأضافة وانتصاب مكانا على أنه مفعول به لفعل مقدر يدل عليه موعدا أي عد مكانا لا لموعدا لأنه كما قال ابن الحاجب : مصدر قد وصف والمنصوب بالمصدر من تتمته ولا يوصف الشئ إلا بعد تمامه فكان كالوصف الموصول قبل تمام صلته وهو غير سائغ
وعن بعض النحاة أنه يجوز وصف المصدر قبل العمل مطلقا وهو ضعيف وقال ابن عطية : يجوز وصفه قبل العمل إذا كان المعمول ظرفا لتوسعهم فيه ما لم يتوسعوا فى غيره ومن هنا جوز بعضهم أن يكون مكانا منصوبا على الظرفية بموعدا ورد بأن شرط النصب على الظرفية مفقود فيه فقد قال الرضى : يشترط فى نصب مكانا على الظرفية أن يكون فى عامله معنى الأستقرار فى الظرف كقمت وقعدت وتحركت مكانك فلا يجوز نحو كتبت الكتاب مكانك وقتلته وشتمته مكانك وتعقب بأن ما ذكره الرضى غير مسلم إذ لا مانع من قولك لمن اراد التقرب منك ليكلمك : تكلم مكانك نعم لا يطرد حسن ذلك فى كل مكان ويجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى : لا نخلفه على أنه مضمن معنى المجئ أو الاتيان وجوز أن يكون ظرفا لمحذوف وقع حالا من فاعل نخلفه ويقدر كونا خاصا لظهور القرينة أي اتين أو جائين مكانا
وقرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عمرو سوى بكسر السين والتنوين وصلا وقرأ باقى السبعة بالضم والتنوين كذلك ووقف أبو بكر وحمزة والكسائى بالامالة وورش وابو عمرو بين بين
وقرأ الحسن فى رواية كباقى السبعة إلا أنه لم ينون
(16/217)

وقفا ووصلا وقرأ عيسى كالأولين إلا أنه لم ينون وقفا ووصلا ايضا ووجه عدم التنوين فى الوصل اجراؤه مجرى الوقف فى حذف التنوين والضم والكسر كما قال محيى السنة وغيره لغتان فى سوى مثل عدى وعدى
وذكر بعض أهل اللغة أن فعلا بكسر الفاء مختص بالأسماء الجامدة كعنب ولم يأت منه فى الصفة إلا عدا جمع عدو وزاد الزمخشرى سوى وغيره روى بمعنى مرو وقال الأخفش : سوى مقصور أن كسرت سينه أو ضممت وممدود أن فتحت ففيه ثلاث لغات ويكون فيها جميعا بمعنى غير وبمعنى عدل ووسط بين الفريقين وأعلى اللغات على ما قال النحاس سوى بالكسر قال أي موسى عليه السلام قال فى البحر : وأبعد من قال إن القائل فرعون ولعمرى لنه لا ينبغى أن يلتفت اليه وكان الذى اضطر قائله الخبر السابق عن وهب بن منبه فليتذكر موعدكم يوم الزينة هو يوم عيد كان لهم فى كل عام يتزينون فيه ويزينون أسواقهم كما روى عن مجاهد وقتادة وقيل : يوم النيروز وكان رأس سنتهم
وأخرج سعيد ابن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه يوم عاشوراء وبذلك فسر فى قوله صلى الله عليه و سلم : من صام يوم الزينة ادرك ما فاته من صيام تلك السنة ومن تصدق يومئذ بصدقة ادرك ما فاته من صدقة تلك السنة وقيل : يوم كسر الخليج وفى البحر أنه باق إلى اليوم وقيل : يوم سوق لهم وقيل : يوم السبت وكان يوم راحة ودعة فيما بينهم كما هو اليوم كذلك بين اليهود وظاهر صنيع أبى حيان اخنيار أنه يوم عيد صادف يوم عاشوراء وكان يوم سبت
والظاهر أن الموعد ههنا اسم زمان للاخبارعنه بيوم الزينة أي زمان وعدكم اليوم المشتهر فيما بينكم وإنما لم يصرح عليه السلام بالوعد بل صرح بزمانه مع أنه أول ما طلبه اللعين منه عليه السلام للاشارة إلى أنه عليه السلام أرغب منه فيه لما يترتب عليه من قطع الشبة وإقامة الحجة حتى كأنه وقع منه عليه السلام قبل طلبه إياه فلا ينبغى له طلبه وفيه ايذان بكمال وثوقه من أمره ولذا خص عليه السلام من بين الأزمنة يوم الزينة الذى هو يوم مشهود وللاجتماع معدود ولم يذكر عليه السلام المكان الذى ذكره اللعين لأنه بناء على المعنى الأول والثالث فيه إنما ذكره اللعين إيهاما للتفضل عليه عليه السلام يريد بذلك اظهار الجلادة فاعرض عليه السلام عن ذكره مكتفيا بذكر الزمان المخصوص للاشارة إلى استغنائه عن ذلك وان كل الأمكنة بعد حصول الأجتماع بالنسبة اليه سواء وأما على المعنى الثانى فيحتمل أنه عليه السلام اكتفى عن ذلك بما يستدعيه يوم الزينة فان من عادة الناس فى الأعياد فى كل وقت وكل بلد الخروج إلى الأمكنة المستوية والأجتماع فى الأرض السهلة التى لا يمنع فيها شئ عن رؤية بعضهم بعضا وبالجملة قد أخرج علية الصلاة والتسليم جوابه على الأسلوب الحكيم ولله تعالى در الكليم ودره النظيم وقيل : الموعد ههنا مصدر أيضا ويقدر مضاف لصحة الأخبار أي وعدكم وعد يوم الزينة ويكتفى عن ذكر المكان بدلالة يوم الزينة عليه وقيل : الموعد فى السؤال اسم مكان وجعله مخلفا على التوسع كما في قوله : ويوما شهدنا أو الضمير فى لا نخلفه للوعد الذى تضمنه اسم المكان على حد اعدلوا هو اقرب للتقوى أو للموعد بمعنى الوعد على طريق الأستخدام والجملة فى الاحتمالين معترضة
ولا يجوز أن تكون صفة إذ لابد فى جملة الصفة من ضمير يعود على الموصوف بعينه والقول بحذفه ليس بشئ
(16/218)

ومكانا على ما قال أبو على مفعول ثان لاجعل وقيل : بدل أو عطف بيان والموعد فى الجواب اسم زمان ومطابقة الجواب من حيث المعنى فان يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس يومئذ فيه أو هو اسم مكان أيضا ومعناه مكان وقوع الموعود به لا مكان لفظ الوعد كما توهم ويقدر مضاف لصحة الأخبار أي مكان يوم الزينة والمطابقة ظاهرة وقيل : الموعد فى الأول مصدر إلا أنه حذف منه المضاف اعنى مكان وأقيم هو مقامه ويجعل مكانا تابع للمقدار أو مفعولا ثانيا وفى الثانى أما اسم زمان ومعناه زمان وقوع الموعود به لا لفظ الوعد كما يرشد اليه قوله : قالوا الفراق فقلت موعده غد
والمطابقة معنوية وأما اسم مكان ويقدر مضاف فى الخبر والمطابقة ظاهرة كما سمعت وأما مصدر أيضا ويقدر مضافان احدهما فى جانب المبتدأ والآخر فى جانب الخبر أي مكان وعدكم مكان يوم الزينة وأمر المطابقة لا يخفى وقيل : يقدر فى الأول مضافان أي مكان انجاز وعدكم أو مضاف واحد لكن تصير الأضافة لأدنى ملابسة والأظهر تأويل المصدر بالمفعول وتقدير مضاف فى الثانى أي موعدكم مكان يوم الزينة وهو مبنى على توهم باطل أشرنا اليه وقيل : هو فى الأول والثانى اسم زمان و لا نخلفه من باب الحذف والايصال والأصل لا نخلف فيه و مكانا ظرف لاجعل والى هذا أشار فى الكشف فقال : لعل الأقرب مأخذا أن يجعل المكان مخلفا على الاتساع والطباق من حيث المعنى أو المعنى اجعل بيننا وبينك فى مكان سوى منصف زمان وعد لا نخلفه فيه فالمطابقة حاصلة لفظا ومعنى و مكانا ظرف لغو انتهى
واعترض بما لا يخفى رده على من احاط خبرا باطراف كلامنا وانت تعلم أن الاحتمالات فى هذه الآية كثيرة جدا والأولى منها ما هو اوفق بجزالة التنزيل مع قلة الحذف والخلو عن نزع الخف قبل الوصول إلى الماء فتامل
وقرأ الحسن والأعمش وعاصم فى رواية وابو حيوة وابن أبى عبلة وقتادة والجحدرى وهبيرة والزعفرانى يوم الزينة بنصب يوم وهو ظاهر فى أن المراد بالموعد المصدر لأن المكان والزمان لا يقعان فى زمان بخلاف الحدث أما الأول فلانه لا فائدة فيه لحصوله فى جميع الأزمنة وأما الثانى فلأن الزمان لا يكون ظرفا للزمان ظرفية حقيقية لأنه يلزم حلول الشئ فى نفسه وأما مثل ضحى اليوم فى اليوم فهو من ظرفية الكل لاجزاءه وهى ظرفية مجازية وما نحن فيه ليس من هذا القبيل كذا قيل وفيه منع ظاهر
وقيل : أنه يستدل بظاهر ذلك على كون الوعد اولا مصدرا أيضا لأن الثانى عين الأول لاعادة النكرة معرفة وفى الكشف لعل الاقرب ماخذا على هذه القراءة أن يجعل الأول زمانا والثانى مصدرا أي وعدكم كائن يوم الزينة
والجواب مطابق معنى دون تكلف إذ لا فرق بين زمان الوعد يوم كذا رفعا وبين الوعد يوم كذا نصبا فى الحاصل بل هو من الأسلوب الحكين لاشتماله على زيادة وقوله تعالى وان يحشر الناس ضحى
59
- عطف على الزينة وقيل : على يوم والأول أظهر لعدم احتياجه إلى التأويل وانتصب ضحى على الظرف وهو ارتفاع النهار ويؤنث ويذكر والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر وهو عند ارتفاع النهار الاعلى
وجوز على القراءة بنصب يوم أن يكون موعدكم مبتدأ بتقدير وقت مضاف اليه على أنه من باب أتيتك خفوق النجم والظرف متعلق به و ضحى خبره على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه
(16/219)

ولو لم يعرف لم يكن مطابقا لمطلبهم حيث سألوه عليه السلام موعدا معينا لا يخلف وعده وقيل : يجوز أن يكون الموعد زمانا و ضحى خبره ويوم الزينة حالا مقدما وحينئذ يستغنى عن تعريف ضحى وليس بشئ ثم أن هذا التعريف بمعنى التعيين معنى لاعلى معنى جعل ضحى أحد المعارف الاصطلاحية كما قد يتوهم
وقال الطيبى : قال ابن جنى : يجوز أن يكون ان يحشر عطفا على الموعد كأنه قيل : انجاز موعدكم وحشر الناس ضحى فى يوم الزينة وكانه جعل الموعد عبارة عما يتجدد فى ذلك اليوم من الثواب والعقاب وغيرهما سوى الحشر ثم عطف الحشر عليه عطف الخاص على العام اه وهو كما ترى
وقرأ ابن مسعود والجحدرى وابو عمران الجونى وابو نهيك وعمرو بن قائد تحشر الناس بتاء الخطاب ونصب الناس والمخاطب بذلك فرعون وروى عنهم أنهم قراوا بياء الغيبة ونصب الناس والضمير فى يحشر على هذه القراءة إما فرعون وجئ به غائبا على سنن الكلام مع الملوك وإما لليوم والأسناد مجازى كما فى صام نهاره وقال صاحب اللوامح : الفاعل محذوف للعلم به أي وان يحشر الحاشر الناس
وانت تعلم أن حذف الفاعل فى مثل هذا لا يجوز عند البصريين نعم قيل فى مثله : أن الفاعل ضمير يرجع إلى اسم الفاعل المفهوم من الفعل فتولى فرعون أي انصرف عن المجلس وقيل : تولى الأمر بنفسه وليس بذاك وقيل : أعرض عن قبول الحق وليس بشئ فجمع كيده أي ما يكاد به من السحرة وادواتهم أو ذوى كيده ثم اتى
60
- أي الموعد ومعه ما جمعه وفى كلمة التراخى إيماء إلى أنه لم يسارع اليه بل أتاه بعد بطء وتعلثم ولم يذكر سبحانه ايتان موسى عليه السلام بل قال جل وعلا قال لهم موسى للايذان أنه أمر محقق غنى عن التصريح به والجملة مستانفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : فماذا صنع موسى عليه السلام عند اتيان فرعون بمن جمعه من السحرة فقيل : قال لهم بطريقة النصيحة ويلكم لا تفتروا على الله كذبا بأن تدعوا إياته التى ستظهر على يدى سحرا كما فعل فرعون فيسحتكم أي يستأصلكم بسبب ذلك بعذاب هائل لا يقادر قدره وقرأ جماعة من السبعة وابن عباس فيسحتكم بفتح الياء والحلق من الثلاثى على لغة أهل الحجاز والاسحات لغة نجد وتميم واصل ذلك اتقصاء الحلق للشعر ثم استعمل فى الاهلاك والاستئصال مطلقا وقد خاب من افترى
61
- اة على الله تعالى كائنا من كان باى وجه كان فيدخل فيه الأفتراء المنهى عنه دخولا أوليا أو قد خاب فرعون المفترى فلا تكونوا مثله فى الخيبة وعدم نجح الطلبة والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها
فتنازعوا أي السحرة حين سمعوا كلامه عليه السلام كان ذلك غاظهم فتنازعوا امرهم الذى اريد منهم من مغالبته عليه السلام وتشاوروا وتناظروا بينهم فى كيفية المعارضة وتجاذبوا اهداب القول فى ذلك وأسروا النجوى
62
- بالغوافى اخفاء كلامهم عن موسى واخيه عليهما السلام لئلا يقفا عليه فيدافعاه وكان نجواهم على ما قاله جماعة منهم الجبائى وابو مسلم ما نطق به قوله تعالى قالوا أي بطريق التناجى والأسرار إن هذان لساحران الخ فانه تفسير لذلك ونتيجة التنازع وخلاصة ما استقرت
(16/220)

عليه إراؤهم بعد التناظر والتشاور
وقيل : كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه السلام ما هذا بقول ساحر وروى ذلك عن محمد بن اسحق وقيل : كان ذلك أن قالوا : أن غلبنا موسى اتبعناه ونقل ذلك عن الفراء والزجاج
وقيل : كان ذلك أن قالوا : إن كان هذا ساحرا فسنغلبه وان كان من السماء فله أمر وروى ذلك عن قتادة وعلى هذا الأقوال يكون المراد من امرهم أمر موسى عليه السلام واضافته اليهم لادنى ملابسة لوقوعه فيما بينهم واهتمامهم به ويكون اسرارهم من فرعون وملئه ويحمل قولهم : ان هذان لساحران الخ على أنهم اختلفوا فيما بينهم من الأقاويل المذكورة ثم استقرت إراؤهم على ذلك وابوا إلا المناصبة للمعارضة وهو كلام مستانف استئنافا بيانيا كأنه قيل : فماذا قالوا للناس بعد تمام التنازع فقيل : قالوا ان هذان الخ
وجعل الضمير فى قالوا : لفرعون وملئه على أنهم قالوا ذلك للسحرة ردا لهم عن الأختلاف وامرا بالاجماع والازماع واظهار الجلادة مخل بجزالة النظم الكريم كما يشهد به الذوق السليم نعم لو جعل ضمير تنازعوا والضمائر الذى بعده لهم كما ذهب اليه اكثر المفسرين أيضا لم يكن فيه ذلك الأخلال وان مخففة من أن وقد اهملت عن العمل واللام فارقة
وقرأ ابن كثير بتشديد نون هذان وهو على خلاف القياس للفرق بين الأسماء المتمكنة وغيرها
وقال الكوفيون : أن نافية واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران ويؤيده أنه قرئ كذلك وفى رواية عن أبى أنه قرأ إن هذان إلا ساحران وقرئ إن ذان بدون هاء التنبيه الا ساحران وعزاها ابن خالوية إلى عبد الله وبعضهم إلى أبى وهى تؤيد ذلك أيضا وقرئ ان ذان لساحران باسقاط هاء التنبيه فقط
وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبه والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف فى اختياره وابو عبيد وابو حاتم وابن عيسى الأصبهانى وابن جرير : وابن جبير الأنطاكى والأخوان والصاحبان من السبعة ان بتشديد النون هذان بالف ونون خفيفة واستشكلت هذه القراءة حتى قيل : إنها لحن وخطأ بناء على ما أخرجه أبو عبيد فى فضائل القرآن عن هشام ابن عروة عن ابيه قال : سألت عائشة رضى الله تعالى عنها عن لحن القرإن عن قوله تعالى إن هذان لساحران وعن قوله تعالى والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة وعن قوله تعالى والذين هادوا والصابئون فقالت : يا ابن اخى هذا عمل الكتاب اخطؤا فى الكتاب واسناده صحيح على شرط الشيخين كما قال الجلال السيوطى وهذا مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة اولا أنهم يلحنون فى الكلام فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللد ثم كيف يظن بهم ثانيا الغلط فى القرإن الذى تلقوه من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كما أنزل ولم يالوا جهدا فى حفظه وضبطه واتقانه ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطا وكتابته ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه ثم كيف يظن خامسا الأستمرار على الخطا وهو مروى بالتواتر خلفا عن سلف ولو ساغ مثل ذلك لارتفع الوثوق بالقرآن
وقد خرجت هذه القراءة على وجوه الأول أن إلا بمعنى نعم والى ذلك ذهب جماعة منهم المبرد والأخفش الصغير وأنشدوا قوله :
(16/221)

بكر العواذل فى الصبو ح يلمننى والومهنه ويلقن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت أنه والجيد الاستدلال بقول ابن الزبير رضى الله تعالى عتهنا لمن قال له : لعن الله ناقة حملتنى اليك أن وراكبها إذ قد قيل : فى البيت إنا لا نسلم أن إن فيه بمعنى نعم والهاء للسكت بل هى الناصبة والهاء ضمير منصوب بها والخبر محذوف أي أنه كذلك ولا يصح أن يقال : إنها فى الخبر كذلك وحذف الجزءان لا حذف الجزأين جميعا لا يجوز وضعف هذا الوجه بأن كونها بمعنى نعم لم يثبت أو هو نادر وعلى تقدير الثبوت من غير ندرة ليس قبلها ما يقتضى جوابا حتى تقع نعم فى جوابه والقول بأنه يفهم من مصدر الاكلام أن منهم من قال : هما ساحران فصدق وقيل : نعم بعيد ومثله القول بأن ذلك تصديق لما يفهم من قول فرعون : اجئتنا لتخرجنا من ارضنا بسحرك يا موسى وايضا إن لام الأبتداء لا تدخل على خبر المبتدأ
وأجيب عن هذا بأن اللام زائدة وليست للابتداء كما فى قوله : ام الحليس لعجوز شهر به ترضى من اللحم بعظم الرقبه أو بانها داخلة على مبتدأ محذوف أي لهما ساحران كما اختاره الزجاج وقال : عرضته على عالمنا وشيخنا واستاذنا محمد بن زيد يعنى المبرد والقاضى اسماعيل بن اسحق بن حماد فقبلاه وذكرا أنه اجود ما سمعناه فى هذا أو بانها دخلت بعد إن هذه لشبهها بأن المؤكدة لفظا كما زيدت أن بعد ما المصدرية لمشابهتها للنافية فى قوله : ورج الفتى للخير ما إن رأيته على السن خيرا لا يزال يزيد ورد الأول بأن زيادتها فى الخبر خاصة بالشعر وما هنا محل النزاع فلا يصح الاحتجاج به كما توهم النيسابورى وزيف الثانى أبو على فى الأغفال بما خلاصته أن التاكيد فيما خيف لبسه فاذا بلغ به الشهرة الحذف استغنى لذلك عن التاكيد ولو كان ما ذكر وجها لم يحمل نحو لعجوز شهربة على الضرورة ولاتقاس على أن حيث حذف معها الخبر فى ان محلا وان مرتحلا
وان اجتمعا فى التاكيد لانها مشبهة بلا وحمل النقيض على النقيض شائع وابن جنى بأن الحذف من باب الايجاز والتاكيد من باب الأطناب والجمع بينهما محال للتنافى
وأجيب : بأن الحذف لقيام القرينة والاستغناء غير مسلم والتأكيد لمضمون الجملة لا للمحذوف والحمل فى البيت ممكن أيضا واقتصارهم فيه على الضرورة ذهول وكم ترك الأول للاخر واجتماع الايجاز والاطناب مع اختلاف الوجه غير محال واصدق شاهد على دخول اللام فى مثل هذا الكلام ما رواه الترمذى واحمد وابن ماجد اغبط اوليائى عندى لمؤمن خفيف الحاذ نعم لا نزاع فى شذوذ هذا الحذف استعمالا وقياسا
الثانى أن إن من الحروف الناصبة واسمها ضمير الشأن وما بعد مبتدأ وخبر والجملة خبرها والى ذلك ذهب قدماء النحاة وضعف بأن ضمير الشأن موضوع لتقوية الكلام وما كان كذلك لا يناسبه الحذف والمسموع من حذفه كما فى قوله : إن من لام فى بنى نبت حسا ن ألمه وأعصه فى الخطوب وقوله : إن من يدخل الكنيسة يوما يلق فيها جآذرا وظباء
(16/222)

ضرورة أو شاذ إلا فى باب أن المفتوحة إذا خفت فاستسهلوه لو روده فى كلام بنى على التخفيف فحذف تبعا لحذف النون ولانه لو ذكر لوجب التشديد إذ الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها ثم يرد بحث دخول اللام فى الخبر وان التزم تقدير مبتدأ داخله هى عليه فقد سمعت ما فيه من الجرح والتعديل الثالث انها الناصبة وهاء ضمير القصة اسمها وجملة ذان اساحران خبرها وضعف بأنه يقتضى وصل ها بأن من اثبات الألف وفصل ها من ذان فى الرسم وما فى المصحف ليس كذلك ومع ذلك يرد بحث دخول اللام
الرابع : أن إن ملغاة وإن كانت مشددة حملا لها على المخففة وذلك كما أعملت المخففة حملا لها عليها فى قوله تعالى : وإن كلا لما ليوفينهم أو حطا لرتبتها عن الفعل لأن عملها ليس بالاصلة بل بالشبه له وما بعدها مبتدأ وخبر والى ذلك ذهب على بن عيسى وفيه أن هذا الألغاء لم ير فى غير هذا الموضع وهو محل النزاع وبحث اللام فيه بحاله الخامس وهو أجود الوجوه وأوجهها واختاره أبو حيان وابن مالك والأخفش وابو على الفارسى وجماعة انها الناصبة واسم الأشارة اسمها : واللام لام الأبتداء وساحران خبرها ومجئ اسم الأشارة بالالف مع أنه منصوب جار على لغة بعض العرب من اجراء المثنى بالألف دائما قال شاعرهم : واها لريا ثم واها واها يا ليت عيناها لنا وفاها وموضع الخلخال من رجلاها بثمن نرضى به اباها وقال الآخر : واطرق اطراق الشجاع ولو يرى مساغا لنا باه الشجاع لصمما وقالوا : ضربته بين أذناه ومن يشترى الخفان وهى لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب ولبنى الحرث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حكى ذلك الكسائى ولبنى العنبر وبنى الهيجم ومراد وعذرة وقال أبو زيد : سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفا وابن الحاجب يقول : إن هذان مبنى لدلالته على معنى الأشارة وإن قول الأكثرين هذين جرا ونصبا ليس أعرابا أيضا
قال ابن هشام : وعلى هذا فقراءة هذان أقيس إذ الأصل فى المبنى أن لا تختلف صيغته مع أن فيها مناسبة لالف ساحران اه وأما الخبر السابق عن عائشة فقد أجاب عنه ابن أشته وتبعه ابن جبارة فى شرح الرائية بأن قولها : اخطؤا على معنى اخطؤا فى اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذى كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز فان مالا يجوز من كل شئ مردود بالأجماع وإن طالت مدة وقوعه وبنحو هذا يجاب عن أخبار رويت عنها أيضا
وعن ابن عباس فى هذا الباب تشكل ظواهرها ثم أخرج عن ابراهيم النخعى أنه قال : إن هذان لساحران وإن هذين لساحران سواء لعلهم كتبوا الألف مكان الياء يعنى أنه من إبدال حرف فى الكتابة بحرف كما وقع فى صلاة وزكاة وحياة ويرد على هذا أنه إنما يحسن لو كانت القراءة بالياء فى ذلك ثم أنت تعلم أن الجواب المذكور لا يحسم مادة الأشكال لبقاء تسمية عروة ذلك فى السؤال لحنا اللهم إلا أن يقال : اراد باللحن اللغة كما قال ذلك ابن اشته فى قول ابن جبير المروى عنه بطرق فى والمقيمين الصلاةهو لحن من الكاتب أو يقال : اراد به اللحن بحسب بادئ الرأى : وابن الأنبارى جنح إلى تضعيف الروايات فى
(16/223)

هذا الباب ومعارضتها بروايات أخر عن ابن عباس وغيره تدل على ثبوت الأحرف التى قيل فيها ما قيل فى القراءة ولعل الخبر الساق الذى ذكر أنه صحيح الاسناد على شرط الشيخين داخل فى ذلك لكن قال الجلال السيوطى : إن الجواب الأول الذى ذكره ابن اشته أولى واقعد وقال العلاء فيما أخرجه ابن الأنبارى وغيره عن عكرمة قال : لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن فقال : لا تغيروها فان العرب ستغيرها أو قال ستقرؤها بالسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملى من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف إن ذلك لا يصح عن عثمان فان اسناده ضعيف مضطرب منقطع
والذى أنجح أنا اليه والعاصم هو الله تعالى تضعيف جميع ما ورد مما فيه طعن بالمتواتر ولم يقبل تأويلا ينشرح له الصدر ويقبله الذوق وإن صححه من صححه والطعن فى الرواة أهون بكثير من الطعن بالائمة الذين تلقوا القرإن العظيم الذى وصل الينا بالتواتر من النبى صلى الله عليه و سلم ولم يلوا جهدا فى اتقانه وحفظه
وقد ذكر أهل المصطلح أن مما يدرك به وضع الخبر ما يؤخذ من حال المروى كان يكون مناقضا لنص القرإن أو السنة المتواترة أو الأجماع القطعى أو صريح العقل حيث لا يقبل شئ من ذلك التأويل أو لم يحتمل سقوط شئ منه يزول به المحذور فلو قال قائل بوضع بعض هاتيك الأخبار لم يبعد والله تعالى أعلم
وقرأ أبو عمرو إن هذين نتشديد نون إن وبالياء فى هذين وروى ذلك عن عائشة والحسن والأعمش والنخعى والجحدرى وابن جبير وابن عبيد واعراب ذلك واضح إذ جاء على المهيع المعروف فى مثله لكن فى الدر المصون قد استشكلت هذه القراءة بانها مخالفه لرسم الأمام فان اسم الأشارة فيه بدون الف وياء فاثبات الياء زيادة عليهز ولذا قال الزجاج : أنا لا أجيزها وليس بشئ لأنه مشترك الألزام ولو سلم فكم فى القراءات ما خالف رسمه القياس مع أن حذف الألف ليس على القياس أيضا
يريدان أن يخرجاكم من ارضكم أي أرض مصر بالأستيلاء عليها بسحرهما الذى اظهراه من قبل ونسبة ذلك لهرون لما أنهم راوه مع موسى عليهما السلام سالكا طريقته وهذه الجملة صفه أو خبر بعد خبر
ويذهبا بطريقتكم المثلى
63
- أي بمذهبكم الذى هو أفضل المذاهب وامثلها باظهار مذهبهما واعلاء دينهما يريدون به ما كان عليه قوم فرعون لا طريقة السحر فانهم ما كانوا يعتقدونه دينا وقيل : أرادوا أهل طريقتكم فالكلام على تقدير مضاف والمراد بهم بنو اسرائيل لقول موسى عليه السلام ارسل معنا بنى اسرائيل وكانوا أرباب علم فيما بينهم
وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس وتعقب بأن أخراجهم من ارضهم إنما يكون بالأستيلاء عليها تمكنا وتصرفا فكيف يتصور حينئذ نقل بنى اسرائيل إلى الشام وحمل الأخراج على أخراج بنى اسرائيل منها مع بقاء قوم فرعون على حالهم مما يجب تنزيه التنزيل عن امثاله على أن هذا المقالة منهم للاغراء بالمبالغة فى المغالبة والأهتمام بالمناصبة فلا بد أن يكون الأنذار والتحذير باشد المكاره واشقها عليهم ولا ريب فى أخراج بنى اسرائيل من بينهم والذهاب بهم إلى الشام وهم آمنون فى ديارهم ليس فيه كثير محذور وهو كلام يلوح عليه مخايل القبول فلعل الخبر عن الحبر لا يصح
وأخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم أيضا عن مجاهد أن الطريقة اسم لوجوه القوم واشرافهم وحكى فلان
(16/224)

طريقة قومه أي سيدهم وكان ذلك على الوجوه مجاز لاتباعهم كما يتبع الطريق وأخرجا عن على كرم الله تعالى وجهه أن إطلاق ذلك عليهم بالسريانية وكانهم أرادوا بهؤلاء الوجوه الوجوه من قوم فرعون أرباب المناصب وأصحاب التصرف والمراتب فيكونوا قد حذروهم بالأخراج من أوطانهم وفصل ذوى المناصب منهم عن مناصبهم وفى ذلك غاية الذل والهوان ونهاية حوادث الزمان فما قيل : إن تخصيص الاذهاب بهم مما لامزية فيه ليس بشئ وقيل : إنهم أرادوا بهم بنى اسرائيل أيضا لأنهم كانوا اكثر منهم نشبا واشرف نسبا وفيه ما مر آنفا واعترض أيضا بأنه ينافيه استعبادهم واستخدامهم وقتل اولادهم وسومهم العذاب
وأجيب بالمنع فكم من متبوع مقهور وشريف بأيدى الأنذال مأسور وهو كما ترى فاجمعوا كيدكم تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما يريدان فازمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه بحيث لايختلف عنه منكم أحد وارموا عن قوس واحدة
وقرأ الزهرى وابن محيصن وابو عمرو ويعقوب فى رواية وابو حاتم فاجمعوا بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع ويعضده قوله تعالى فجمع كيده وفى الفرق بين جمع وأجمع كلام للعلماء قال ابن هشام : أن اجمع يتعلق بالمعانى فقط وجمع مشترك بين المعانى والذوات وفى عمدة الحفاظ حكاية القول بأن اجمع اكثر ما يقال فى المعانى وجمع فى الأعيان فيقال : اجمعت امرى وجمعت قومى وقد يقال بالعكس
وفى المحكم أنه يقال : جمع الشئ عن تفرقه يجمعه جمعا واجمعه فلم يفرق بينهما وقال الفراء : إذا أردت جمع المتفرق قلت : جمعت القوم فهم مجموعون وإذا أردت جمع المال قلت جمعت بالتشديد ويجوز تخفيفه والأجماع والأحكام والعزيمه على الشئ ويتعدى بنفسه وبعلى تقول : اجمعت الخروج وأجمعت على الخروج وقال العاصمعى : يقال جمعت الشئ إذا جئت به من هنا ومن هنا وأجمعته إذا صيرته جميعا وقال أبو الهيثم : اجمع أمره أي جعله جميعا وعزم عليه بعد ما كان متفرقا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا والجمع أن يجمع شيئا إلى شئ وقال الفراء : فى هذه الآية على القراءة الأولى أي لاتدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به ثم ائتوا صفا أي مصتفين أمروا بذلك لأنه أهيب فى صدور الرائين وادخل فى استجلاب الرهبه من المشاهدين قيل : كانوا سبعين الف مع كل منهم حبل وعصا واقبلوا عليه عليه السلام اقباله واحده وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحرا اثنان من القبط والباقى من بنى اسرائيل وقيل : تسعمائة ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة من الاسكندرية وقيل : خمسة عشر ألفا وقيل : بضعه وثلاثين الفا ولا يخفى حال الاخبار فى ذلك والقلب لا يميل إلى المبالغة والله تعالى أعلم ولعل الموعد كان مكان متسعا خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر فى قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم فى قطر آخر منه ثم أمروا أن ياتوا وسطه على الحال المذكوره وقد فسر أبو عبيده الصف بالمكان الذى يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم وفيه بعد وكانه علم لموضع معين من مكان يوم الزينة وعلى هذا التفسير صفا مفعولا به
وقرأ شبل بن عباد وابن كثير فى رواية شبل عنه ثم ايتوا بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء قال أبو على : وهذا غلط ولا وجه بكسر الميم وقال صاحب اللوامح : أن ذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحه فى
(16/225)

قراءة العامة كذلك وقد افلح اليوم من استعلى
64
- اعتراض تذييلى من قبلهم مؤكد لما قبله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب فاستفعل بمعنى فعل كما فى الصحاح أو من طلب العلو والغلب وسعى سعيه على ما فى البحر فاستفعل على بابه ولعله ابلغ فى التحريض حيث جعلوا الفوز لمن طلب الغلب فضلا عمن غلب بالفعل وارادوا بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الاجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى وإنكم لمن المقربين وبمن استعلى أنفسهم جميعا على طريقة قولهم بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون أو من استعلى منهم حثا على بذل المجهود فى المغالبة
وقال الراغب : الأستعلاء قد يكون لطلب العلو المذموم وقد يكون لغيره وهو ههنا يحتملها فلهذا جاز أن يكون هذا الكلام محكيا عن هؤلاء القائلين للتحريض على اجماعهم واهتمامهم وان يكون من كلام الله عز و جل فالمستعلى موسى وهرون عليهما السلام ولا تحريض فيه
وأنت تعلم أن الظاهر هو الأول قالوا استئناف بيانى كأنه قيل : فماذا فعلوا بعدما قالوا ذلك فقيل قالوا : يا موسى وإنما لم يتعرض لاجماعهم واتيانهم مصطفين إشعارا بظهور أمرهما وغنائهما على البيان اما أن تلقى أي ما تلقيه اولا على أن المفعول محذوف لظهوره أو تفعل الألقاء اولا على أن الفعل منزل منزلة اللازم وإما أن تكون أول من القى
65
- ما يلقيه أو أول من يفعل الألقاء خيره عليه السلام وقدموه على انفسهم اظهارا للثقة بأمرهم وقيل : مراعاة للادب معه عليه السلام وان ما مع ما فى حيزها منصوب بفعل مضمر أي إما تختار القاءك أو تختار كوننا أول من القى أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر إما القاؤك أو كوننا أول من القى واختار أبو حيان كونه مبتدأ محذوف الخبر أي القاؤك أول بقرينة او نكون أول من القى وبه تتم المقابلة لكنها معنوية قال استئناف كما مر كأنه قيل فماذا قال عليه السلام فقيل قال : بل القوا انتم أولا إظهارا لعدم المبالاة بسحرهم وإسعافا لما أوهموا من الميل إلى البدء فى شقهم حيث غروا النظم إلى وجه أبلغ إذ كان الظاهر أن يقولوا : وإما أن نلقى وليبرزوا ما معهم ويستفرغوا جهدهم ويستنفذوا قصارى وسعهم ثم يظهر الله تعالى شأنه سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه
قيل وفى ذلك أيضا مقابلة أدب بأدب واستشكل بعضهم هذا الأمر ظنا منه أنه يستلزم تجويز السحر فحمله دفعا لذلك على الوعيد على السحر كما يقال للعبد العاصى : إفعل ما أردت وقال أبو حيان : هو مقرون بشرط مقدر أي القوا أن كنتم محقين وفيه أنه عليه السلام يعلم عدم إحقاقهم فلا يجدى التقدير بدون ملاحظة غيره
وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى ذلك ولا إشكال فان هذا كالأمر بذكر الشبهة لتنكشف والقول بأن تقديم سماع الشبهة على الحجة غير جائز لجواز أن لا يتفرغ لادراك الحجة بعد ذلك فتبقى مما لا يلتفت اليه
فاذا حبالهم وعصيهم يخيل اليه من سحرهم انها تسعى
66
- الفاء فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الألقاء كما فى قوله تعالى : فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفلق أي فالقوا فاذا حبالهم الخ وهى فى الحقيقة عاطفة لجملة المفاجاة على الجملة المحذوفة وإذا فجائية وهى عند الكوفيين حرف وهو مذهب مرجوح عند ابي حيان وظرف زمان عند الرياشى وهو كذلك عنده أيضا وظرف مكان عند المبرد وهو ظاهر كلام سيبوية ومختار
(16/226)

ابي حيان والعامل فيها هنا القوا عند أبى البقاء ورد بأن الفاء تمنع من العمل وفى البحر إنما هى معمولة لخبر المبتدأ الذى هو حبالهم وعصيهم إن لم نجعلها هى فى موضع الخبر جملة يخيل وإذا جعلناها فى موضع الخبر وجعلنا الجملة فى موضع الحال فالأمر واضح وهذا نظير خرجت فاذا الأسد رابض ورابضا ولصحة وقوعها خبرا يكتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاما فيقال : خرجت فاذا الأسد ونص الأخفش فى الأوسط على انها قد يليها جملة فعلية مصحوبة بقد فيقال : خرجت فاذا ضرب زيد عمرا وفى الكشاف التحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف اليها خصت فى بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير فتقدير الآية ففاجأ موسى وقت تخيل سعى حبالهح وعصيهم وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم مخيلة اليه السعى انتهى ةفيه من المخالفة لما قدمنا ما فيه لكن أمر العطف عليه أوفق كما لا يخفى وعنى بقوله : هذا تمثيل أنه تصوير للاعراب وأن إذا وقتية أوقع عليها فعل المفاجأة توسعا لأنها سدت مسد الفعل والمفعول ولان مفاجأة الوقت يتضمن مفاجأة ما فيه بوجه أبلغ وما قيل : إنه أراد الأستعارة التمثيلية فيحتاج إلى تكلف لتحصيلها وضمير اليه الظاهر أنه لموسى عليه السلام بل هو كالمتعين وكان ذلك من باب السيمياء وهى علم يقتدر به على إراء الصورة الذهنية لكن يشترط غالبا أن يكون لها مادة فى الخارج فى الجملة ويكون ذلك على ما ذكره الشيخ محمد عمر البغدادى فى حاشيته على رسالة الشيخ عبد الغنى النابلسى فى وحدة الوجود بواسطة أسماء وغيرها
وذكر العلامة البيضاوى فى بعض رسائله أن علم السيمياء حاصله إحداث مثالات خيالية لا وجود لها فى الحس ويطلق على إيجاد تلك المثالات بصورها فى الحس وتكون صورا فى جوهر الهواء وهى سريعة الزوال بسبب سرعة تغير جوهره ولفظ سيمياء معرب شيم يه ومعناه اسم الله تعالى انتهى وما ذكره من سرعة الزوال لا يسلم كليا وهو عندى بعض من علم السحر وعرفه البيضاوى بأنه علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة باسباب خفيفة ثم قال : والسحر منه حقيقى ومنه غير حقيقى ويقال له : الأخذ بالعيون وسحرة فرعون أتوا بمجموع الأمرين انتهى والمشهور أن هؤلاء السحرة جعلوا من الحبال والعصى زئبقا فلما اصابتها حرارة الشمس اضطربت واهتزت فخيل اليه عليه السلام انها تتحرك وتمشى كشئ فيه حياة
ويروى أنه عليه السلام رآها كأنها حيات وقد اخذت ميلا فى ميل وقيل : حفروا الأرض وجعلوا فيها نارا ووضعوا فوقها تلك الحبال والعصى فلما اصابتها حرارة النار تحركت ومشت وفى القلب من صحة كلا القولين شئ
والظاهر أن التخيل من موسى عليه السلام قد حصل حقيقة بواسطة سحرهم وروى ذلك عن وهب
وقيل : لم يحصل والمراد من الآية أنه عليه السلام شاهد شيئا لو لا علمه بأنه لا حقيقة له لظن فيها انها تسعى فيكون تمثيلا وهو خلاف الظاهر جدا وقرأ الحسن وعيسى عصيهم بضم العين واسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع وهو جمع كما فى القراءة المشهورة وقرأ الزهرى والحسن وعيسى وابو حيوة وقتادة والجحدرى وروح وابن ذكوان وغيرهم تخيل بالتاء الفوقانية مبنيا للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصى و انها تسعى بدل اشتمال من ذلك الضمير ولا يضر الابدال منه كونه رابطا لكونه ليس ساقطا من كل الوجوه
وقرأ أبو السمال تخيل بفتح التاء أي تتخيل وفيه أيضا ضمير ما ذكر و انها تسعى بدل منه أيضا وقال ابن عطيه :
(16/227)

هو مفعول من اجله وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلى الأندلسى فى كتاب الكامل عن أبى السمال أنه قرئ تخيل بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل وانها تسعى نصب على المفعول به ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن وعيسى الثقفى ومن بنى تخيل للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله تعالى للمحنة والأبتلاء
وروى الحسن بن يمن عن أبى حيوة نخيل بالنون وكسر الياء فالفاعل ضميره تعالى وأنها تسعى مفعول به
فاوجس فى نفسه خيفة موسى
67
- الايجاس الأخفاء والخفية الخوف وأصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها وقال ابن عطيه : يحتمل أن يكون خوفه بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب والأول أولى والتنوين للتحقير أي اخفى فيها بعض خوف من مفاجأة ذلك بمقتضى طبع الجبلة البشرية عند رؤية الأمر المهول وهو قول الحسن وقال مقاتل : خاف عليه السلام من أن يعرض للناس ويختلج فى خواطرهم شك وشبهة فى معجزة العصا لما رأوا من عصيهم وإضمار خوفه عليه السلام من ذلك لئلا تقوى نفوسهم إذا ظهر لهم فيؤدى إلى عدم اتباعهم وقيل : التنوين للتعظيم أي اخفى فيها خوفا عظيما وقال بعضهم : إن الصيغة لكونها فعلة وهى دالة على الهيئة والحالة اللازمة تشعر بذلك ولذا اختير على الخوف فى قوله تعالى ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفتهولا يأباه الايجاس وقيل : يأباه والأول هو الأنسب بحال موسى عليه السلام إن كان خوفه مما قاله الحسن والثانى هو الأنسب بحاله عليه السلام إن كان خوفه مما قاله مقاتل وقيل : إنه أنسب أيضا بوصف السحر بالعظم فى قوله تعالى وجاؤا بسحر عظيم وايد بعضهم كون التنوين لذلك باظهار موسى وعدم إضماره فتامل وقيل : إنه عليه السلام سمع لما قالوا إما أن تلقى الخ القوا يا أولياء الله تعالى فخاف لذلك حيث يعلم أن أولياء الله تعالى لا يغلبون ولا يكاد يصح والنظم الكريم يأباه وتاخير الفاعل لمراعاة الفواصل قلنا لا تخف أي لاتستمر على خوفك مما توهمت وادفع عن نفسك ما اعتراك فالنهى على حقيقته وقيل : حرج عن ذلك للتشجيع وتقوية القلب انك انت الاعلى
68
- تعليل لما يوجبه النهى من الأنتهاء عن الخوف وتقرير لغلبته على ابلغ وجه وآكده كما يعرب عن ذلك الأستئناف البيانى وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو المنبئ على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل كما قاله غير واحد والذى أميل اليه أن الصيغة المذكورة لمجرد الزيارة فان كونها للمشاركة والزيادة يقتضى أن يكون للسحرة علو وغلبة ظاهرة أيضا مع أنه ليس كذلك وإثبات ذلك لهم بالنسبة إلى العامة كما قيل ليس بشئ إذ لا مغالبة بينهم وبينهم والق ما فى يمينك أي عصاك كما وقع فى سورة الأعراف
وكان التعبير عنها بذلك لتذكيره ما وقع وشاهده عليه السلام منها يوم قال سبحانه له وما تلك بيمينك يا موسى وقال بعض المحققين : إنما اوثر الأبهام تهويلا لأمرها وتفخيما لشأنها وإيذانا بانها ليست من جنس العصى المعهودة المستتبعة للآثار المعتادة بل خارجه عن حدود سائر أفراد الجنس مبهمة لكونها مستتبعة لآثار غريبة وعدم مراعاة هذه النكتة عند حكاية الأمر فى مواضع أخر لا يستدعى عدم مراعاتها عند وقوع المحكى انتهى وحاصله أن الأبهام للتفخيم كان العصا لفخامة شأنها لا يحيط بها نطلق العلم نحو فغشيهم من اليم ما غشيهم ووقع حكاية الأمر فى مواضع أخر بالمعنى والواقع نفسه ما تضمن هذه النكتة وإن لم يكن بلفظ
(16/228)

عربي وإنما لم يعتبر العكس لأن المتضمن أوفق بمقام النهى عن الخوف وتشجيعه عليه السلام
وقال أبو حيان : عبر بذلك دون عصاك لما فى اليمين من معنى اليمن والبركة وفيه أن الخطاب لم يكن بلفظ عربى وقيل : الأبهام للتحقير بأن المراد لا تبالى بكثرة حبالهم وعصيهم والق العويد الذى فى يدك فانه بقدر الله تعالى يلفقها مع وحدته وكثرتها وصغره وعظمها وتعقب بأنه يلباه ظهور حالها فيما مر مرتين على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلت العصا ما فعلت وهى على الهيئة الأصلية وقد كان منها ما كان وما يحتمل أن ان تكون موصوفة ويحتمل أن تكون موصولة على كل من الوجهين وقيل : الأنسب على الأول الأول وعلى الثانى الثانى وقوله تعالى تلقف ما صنعوا بالجزم جواب الأمر من لقفه ناله بالحذق باليد أو بالفم وامراد هنا الثانى والتأنيث بكون ما عبارة عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعصى التى خيل اليك سعيها والتعبير عنها بما صنعوا للتحقير والايذان بالتمويه والتزوير وقرأ الأكثرون تلقف بفتح اللام وتشديد القاف وإسقاط إحدى التاءين من تتلقف
وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه رفع الفعل على أن الجملة مستانفة استئنافا بيانيا ارحال مقدرة من فاعل الق بناء على تسببه أو من مفعوله أي متلقفا أو متلقفة وجملة الأمر معطوفة على النهى متممة بما فى حيزها لتعليل موجبة ببيان كيفية علوه وغلبه عليه السلام فان ابتلاع عصاه عليه السلام لأباطيلهم التى منها أوجس فى نفسه خفية يقلع مادة الخوف بالكلية وزعم بعضهم أن هذا صريح فى أن خوفه عليه السلام لم يكن من مخالجة الشك للناس فى معجزة العصا وإلا لعلل بما يزيله من الوعد بما يوجب إيمانهم وفيه تأمل
وقوله تعالى انما صنعوا الخ تعليل لقوله تعالى تلقف ما صنعوا وما إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي إن الذى صنعوه أو إن شيئا صنعوه أو إن صنعهم كيد ساحر بالرفع على أنه خبر إن أي كيد جنس الساحر وتنكيره للتوسل به إلى ما يقتضيه المقام من تنكير المضاف ولو عرف لكان المضاف اليه معرفة وليس مرادا واعترض بأنه يجوز أن يكون تعريفه الأضافى حينئذ للجنس وهو كالنكرة معنى وإنما الفرق بينهما حضوره فى الذهن وأجيب بأنه لا حاجة إلى تعيين جنسه فانه مما علم من قوله تعالى يخيل الخ وإنما الغرض بعد تعيينه أن يذكر أنه أمر مموه لا حقيقة له وهذا مما يعرف بالذوق وقيل : نكر ليتوسل به إلى تحقير المضاف وتعقب بأنه بعد تسليم إفادة ذلك تحقير المضاف لا يناسب المقام ولانه يفيد انقسام السحر إلى حقير وعظيم وليس بمقصود وأيضا ينافى ذلك قوله تعالى فى اية اخرى وجاؤا بسحر عظيم إلا أن يقال عظمه من وجه لا ينافى حقارته فى نفسه وهو المراد من تحقيره وقيل : إنما ذكر لئلا يذهب الذهن إلى أن المراد ساحر معروف فتدبر
وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن على عليهم الرحمة كيد بالنصب على أنه مفعول صنعوا وما كافة
وقرأ حمزة والكسائى وابو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبى ليلى وخلف فى اختياره وابن عيسى الأصبهانى وابن جبير الأنطاكى وابن جرير سحر بكسر السين واسكان الحاء على معنى ذى سحر أو على تسمية الساحر سحرا مبالغة كأنه لتوغله فى السحر صار نفس السحر وقيل : على أن الأضافة لبيان أن الكيد من جنس السحر وهذة الأضافة من اضافة العام إلى الخاص وهى على معنى اللام عند شارح الهادى
(16/229)

وعلى معنى من على ما يفهم من ظاهر كلام الشريف فى أول شرح المفتاح وتسمى إضافة بيانية ويحمل فيما وجدت فيه المضاف اليه ولا يشترط أن يكون بين المتضايفين عموم وخصوص من وجه وبعضهم شرط ذلك
وقوله تعالى شأنه ولا يفلح الساحر أي هذا الجنس حيث اتى
69
- حيث كان وأين أقبل فحيث ظرف مكان أريد به التعميم من تمام التعليل ولم يتعرض لشأن العصا وكونها معجزة الهية مع ما فى ذلك من تقوية التعليل للايذان بظهور أمرها وأخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اخذتم الساحر فاقتلوه ثم قرأ : ولا يفلح الساحر حيث اتى قال لا يؤمن حيث وجد وقرأت فرقة اين اتى والفاء فى قوله تعالى فالقى السحرة سجدا فضيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح أي فزال الخوف والقى ما فى يمينه وصارت حية وتلقفت حبالهم وعصيهم وعلموا أن ذلك معجز فالقى السحرة على وجوههم سجدا لله تعالى تائبين مؤمنين به عز و جل وبرسالة موسى عليه السلام
روى أن رئيسهم قال : كنا نغلب الناس وكانت الالآت تبقى علينا فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقينا فاستدل بتغير احوال الاجسام على الصانع القدير العليم وبظهور ذلك على يد موسى عليه السلام على صحة رسالته وكان هاتيك الحبال والعصى صارت هباء منبثا وانعدامها بالكلية ممكن عندنا وفى التعبير بالقى دون فسجد اشارة إلى أنهم شاهدوا ما ازعجهم فلم يتمالكوا حتى وقعوا على وجوههم ساجدين وفيه ايقاظ السامع لالطاف الله تعالى فى نقله من شاء من عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الأيمان والسداد مع ما فيه من المشاكلة والتناسب والمراد أنهم اسرعوا إلى السجود قيل : أنهم لم يرفعوا رؤسهم من السجود حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن عكرمه أنهم لما خروا سجدا اراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم في الجنة واستبعد ذلك القاضي بأنه كالالجاء إلى الأيمان وانه ينافي التكليف وأجيب بأنه حين كان الأيمان مقدما على هذا الكشف فلا منافاة ولا الجاء وفي ارشاد العقل السليم أنه لا ينافيه قولهم : إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا الخ لأن كون تلك المنازل منازلهم باعتبار صدور هذا القول عنهم
قالوا استئناف كما مر غير مرة إمنا برب هرون وموسى
70
- تأخير موسى عليه السلام عند حكاية كلامهم المذكورة في سورة الأعراف المقدم فيه موسى عليه السلام لأنه اشرف من هرون والدعوة والرسالة إنما هي له اولا وبالذات وظهور المعجزة على يده عليع السلام لرعاية الفواصل وجوز أن يكون كلامهم بهذا الترتيب وقدموا هرون عليه السلام بأنه اكبر سنا وقول السيد في شرح المفتاح : إن موسى اكبر من هرون عليهما السلام سهو وأما للمبالغة في الأحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون وقومه حيث كان فرعون ربى موسى عليه السلام فلو قدموا موسى فربما توهم اللعين وقومه من أول الأمر أن مرادهم فرعون وتقدمه في سورة الأعراف تقديم في الحكاية لتلك النكته
وجوز أبو حيان أن يكون ما هنا قول طائفة منهم وما هناك قول اخرى وراعى كل نكته فيما فعل لكنه لما اشترك القول في المعنى صح نسبة كل منهما إلى الجميع واختيار هذا القول هنا لأنه أوفق بآيات هذه السورة
(16/230)

قال أي فرعون للسحرة آمنتم له أي لموسى كما هو الظاهر والأيمان في الأصل متعد بنفسه ثم شاع متعدية بالباء لما فيه من التصديق حتى صار حقيقة وإنما عدى هنا باللام لتضمينه معنى الأنقياد وهو يعدى بها يقال انقاد له لا الأتباع كما قيل : لأنه متعد بنفسه يقال : اتبعه ولا يقال : اتبع له وفي البحر إن آمن يوصل بالباء إذا كان متعلقه الله عز اسمه وباللام إن كان متعلقه غيره تعالى في الأكثر نحو يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين فما آمن لموسى الخ لن نؤمن لك وما انت بمؤمن لنا فاءمن له لوط وجوز أن تكون اللام تعليلية والتقدير إمنتم بالله تعالى لأجل موسى وما شاهدتم منه واختاره بعضهم ولا تفكيك فيه كما توهم وقيل : يحتمل أن يكون ضمير له للرب عز و جل وفي الآية حينئذ تفكيك ظاهر
وقرأ الأكثر أ آمنتم على الاستفهام التوبيخى والتوبيخ هو المراد من الجملة على القراءة الأولى أيضا لا فائدة الخبر أو لازمها قبل أن إذن لكم أي من غير إذني لكم في الأيمان كما في قوله تعالى : لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي لا أن إذنه لهم في ذلك واقع بعد أو متوقع وفرق الطبرسى بين الاذن والأمر بأن الأمر يدل على إرادة الآمر الفعل المامور به وليس في الاذن ذلك إنه يعني موسى عليه السلام لكبيركم لعظيمكم في فنكم واعلمكم به واستاذكم الذي علمكم السحر كأن اللعين وبخهم اولا على إيمانهم له عليه السلام من غير إذنه لهم ليرى قومه أن إيمانهم غير معتد به حيث كان بغير إذنه ثم استشعر أن يقولوا : أي حاجة إلى الإذن بعد أن صنعنا ما صنعنا وصدر منه عليه السلام ما صدر قاجاب عن ذلك بقوله : إنه الخ أي ذلك غير معتد به أيضا لأنه استاذكم في السحر فتواطاتم معه على ما اوقع أو علمكم شيئا دون شئ فلذلك غلبكم فالجملة تعليل لمحذوف وقيل : هي تعليل للمذكور قبل وبالجملة قال ذلك لما اعتراه من الخوف من اقتداء الناس بالسحرة في الأيمان لموسى عليه السلام ثم اقبل عليهم بالوعيد المؤكد حيث قال : فلاقطعن أي إذا كان الأمر كذلك فاقسم لاقطعن ايديكم وارجلكم من خلاف أي اليد اليمنى والرجل اليسرى وعليه عامة المفسرين وهو تخصيص من خارج وإلا فيحتمل أن يراد غير ذلك و من ابتدائية
وقال الطبرسي : بمعنى عن أو على وليس بشئ والمراد من الخلاف الجانب المخالف أو الجهة المخالفة والجار والمجرور حسبما يظهر متعلق باقطعن وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة مصدر محذوف أي تقطيع مبتدأ من جانب مخالف أو من جهة مخالفة وايتدأ التقطيع من ذلك ظاهر ويجوز أن يبقى الخلاف على حقيقته اعني المخالفة وجعله مبتدأ على التجاوز فانه عارض ما هو مبدأ حقيقة وجعل بعضهم الجار والمجرور في حيز النصب على الحالية والمراد لأقطعنها مختلفات فتامل وتعيين هذه الكيفية قيل للايذان بتحقيق الأمر وإيقاعه لا محالة بتعيين كيفيته المعهودة في باب السياسة ولعل اختيارها فيها دون القطع من وفاق لأن فيه إهلاكا وتفويتا للمنفعة وزعم بعضهم انها افظع ولاصلبنكم في جذوع النخل أي عليها وإيثار كلمة في للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه وعلى ذلك قوله : وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا باجدعا
(16/231)

وفيه إستعارة تبعية والكلام في ذلك شهير وقيل : لاستعارة اصلا لأن فرعون نقر جذوع النخل وصلبهم في داخلها ليموتوا جوعا وعطشا ولا يكاد يصح بل في اصلا الصلب كلام فقال بعضهم : إنه انفذ فيهم وعيده وصلبهم وهو أول من صلب ولا ينافيه قوله تعالى : انتما ومن اتبعكما الغالبون لأن المراد الغلبة بالحجة وقال الأمام : لم يثبت ذلك في الأخبار وانت تعلم أن الظاهر السلامة وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير وقرئ بالتخفيف فيهما
ولتعلمن أينا أشد عذابا وابقى
71
- يريد من نا نفسه وموسى عليه السلام بقرينة تقدم ذكره في قوله تعالى إمنتم له بناء على الظاهر فيه واختار ذلك الطبري وجماعة وهذا إما لقصد توضيع موسى عليه السلام والهزء به لأنه عليه السلام لم يكن من التعذيب في شئ وإما لأن ايمانهم لم يكن بزعمه عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبله عليه السلام حيث رأوا ابتلاء عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على انفسهم أيضا واختار أبو حيان أن المراد من الغير الذي اشار اليه الضمير رب موسى عز و جل الذي آمنوا به بقولهم آمنا برب هرون موسى ولتعلمن هنا معلق و أينا أشد جملة استفهامية من مبتدأ وخبر في موضع نصب سادة مسد مفعوليه أن كان العلم على بابه أو في موضع مفعول واحد له أن كان بمعنى المعرفة : ويجوز على هذا الوجه أن يكون اينا مفعولا وهو مبني على رأى سيبويه و أشد خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد والجملة صلة أي والعائد الصدر و عذابا تمييز وقد استغنا بذكره معا اشد عن ذكره مع أبقى وهو مراد أيضا واشتقاق أبقى من البقاء بمعنى الدوام وقيل : لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون من البقاء بمعنى العطاء فان اللعين كان يعطى لمن يرضاه العطايا فيكون للاية شبه بقول نمرود أنا أحي وأميت وهو في غاية البعد عند من له ذوق سليم ثم لا يخفى أن اللعين في غاية الوقاحة ونهاية الجلادة حيث أوعد وهدد وأبرق وأرعد مع قرب عهده بما شاهد من انقلاب العصا حية وما لها من الآثار الهائلة حتى أنها قصدت ابتلاع قبته فاستغاث بموسى عليه السلام ولا يبعد نحو ذلك من فاجر طاغ مثله قالوا غير مكترثين بوعيده ان نؤثرك لن نختارك بالأيمان والأنقياد على ما جاءنا من الله تعالى على يد موسى عليه السلام من البينات من المعجزات الظاهرة التي اشتملت عليها العصا وإنما جعلوا المجئ اليهم وان عم لانهم المتفعون بذلك والعارفون به على أتم وجه من غير تقليد وما موصولة وما بعدها صلتها والعائد الضمير المستتر في جاذ وقيل العائد محذوف وضمير جاءنا لموسى عليه السلام أي على الذي جاءنا به موسى عليه السلام وفيه بعد وان كان صنيع بعضهم اختياره مع أن في صحة حذف مثل هذا المجرور كلاما
والذي فطرنا أي أبدعنا وأوجدنا وسائر العلويات والسفليات وهو عطف على ماجاءنا وتأخيره لأن ما في ضمنه إية عقلية نظرية وما شاهدوه إية حسية ظاهرة وايراده تعالى بعنوان الفاظرية لهم للاشعار بعلة الحكم فان ابدعه تعالى لهم وكون فرعون من جملة مبدعاته سبحانه مما يوجب عدم ايثارهم إياه عليه عز و جل وفيه تكذيب للعين في دعواه الربوبية وقيل : الواو للقسم وجوابه محذوف لدلالة المذكور عليه أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك الخ ولا مساغ لكون المذكور جوابا عند من يجوز تقديم
(16/232)

الجواب أيضا لما أن القسم لايجاب كما قال أبو حيان : بلن إلا في شاذ من الشعر وقولهم : هذا جواب لتوبيخ اللعين بقوله : آمنتم الخ وقوله تعالى فاقض ما أنت قاض جواب عن تهديده بقوله : لأقطعن الخ أي فاصنع ماأنت بصدد صنعه أو فاحكم بما أنت بصدد الحكم به فالقضاء أما بمعنى الايجاد الابداعي كما في قوله تعالى فقضاهن سبع سموات وأما بمعناه المعروف وعلى الوجهين ليس المراد من الأمر حقيقته وما موصولة والعئد محذوف
وجوز أبو البقاء كونها مصدرية وهو مبني على ماذهب اليه بعض النحاة من جواز وصل المصدرية بالاجملة الأسمية ومنع ذلك بعضهم وقوله تعالى إنما تقضى هذه الحيوة الدنيا
72
- مع ما بعده تعليل لعدم المبالاة المستفد مما سبق من الأمر بالفضاء وماكافة و هذه الحياة منصوب محلا على الظرفية لتقضى والقضاء على ما أمر ومفعوله محذوف أي إنما تصنع ماتهوه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا فحسب ومالنا من رغبة في عذبها ولارهبة من عذابها وجوز أن تكون ما مصدرية فهى وما في حيزها في تأويل مصدر اسم أن وخبرها هذه الحياة أي أن قضاءك كائن في هذه الحياة وجوز أن ينزل الفعل في منزلة اللازم فلا حذف
وقرأ أبو حياة وابن ابي عبلة انما تقضى بالبناء للمفعول هذه الحياة بالرفع على أنه اتسع في الظرف فجعل مفعولا به ثم بنى الفعل له نحو صيم يوم الخميس إنا إمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا التي اقترفناها من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بها في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى نتاثر بما اوعدتنا به
وقوله تعالى وما أكرهتنا عليه من السحر عطف على خطايانا أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام باكراهك وحشرك ايانا من المدائن القاصية خصوة بالذكر مع اندراجه في خطاياهم اظاهرا لغاية نفرتهم عنه رغبتهم في مغفرته وذكر الاكراه للايذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستغفار مع صدوره عنهم يالاكراه وفيه نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة وقيل : أن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط والباقي من قوم اسرائيل وكان فرعون اكرههم على تعلم السحر
وأخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس قال : أخذ فرعون أربعين غلاما من بني اسرائيل فأمر أن يتعلموا السحر وقال : علموهم تعليما لا يغلبهم أحد من أهل الأرض وهم من الذين إمنوا بموسى عليهم السلام وهم الذين قالوا إنا آمنا بربنا ليغغر لنا خطايانا وما اكرهتنا عليه من السحر وقال الحسن كان ياخذ ولدان الناس ويجبرهم على تعلم السحر وقيل : إنه أكرههم على المعارضة حيث روى أنهم قالوا لنا : أرنا موسى نائما ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا : ما هذا بسحر فان الساحر إذا نام بطل سحره فابى إلا أن يعارضوه ولا ينافي قولهم : بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون لاحتمال أن يكون قبل ذلك أو تجلدا كما أن قولهم : إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قبله كما قيل : وزعم أبو عبيد أن مجرد أمر السلطان سخصا اكراه وإن لم يتوعده والى ذلك ذهب ساداتنا الحنفيه كما في عامة كتبهم لما في مخالفة أمره من توقع المكروه لا سيما إذا كان السلطان جبارا طاغية والله خير في حد ذاته تعالى وأبقى
73
- أي وأدوم جزاء ثوابا كان أو عقابا أو خير ثوابا
(16/233)

وأبقى عذابا وقوله تعالى : إنه إلى آخر الشرطيتين تعليل من جهتهم لكونه تعالى شأنه خير وأبقى وتحقيق له وابطال لما ادعاه اللعين وتصديرهما بضمير الشأن للتنبيه على فخامة مضمونها ولزيادة تقرير له أي أن الشأن الخطير هذا أي قوله تعالى من يات ربه مجرما بأن مات الكفر والمعاصي
فان لهم جهنم لا يموت فيها فينتهي عذابه وهذا تحقيق لكون عذابه تعالى أبقى ولا يحيى
74
- حياة ينتفع بها ومن ياته مؤمنا به عز و جل وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدناه قد عمل الصالحات من الأعمال فأولئك اشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبارها لفظها وما فيه من معنى البعد للاشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للأعم ال الصالحات لهم بسبب إيمانهم وعملهم ذلك الدرجات العلى
75
- أي المنازل الرفيعة جنات عدن بدل من الدرجات العلى أو بيان وقد تقدم في عدن تجري من تحتها الأنهار حال من الجنات وقوله تعالى : خالدين فيها تحقيق لكون ثوابه تعالى ابقى وهو حال من الضمير في لهم والعمل فيه معنى الأستقرار في الظرف أو ما في أولئك من معنى اشير والحال مقدرة ولا يجوز أن يكون جنات خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات لخلو الكلام حينئذ عن عامل في الحال على ما ذكره أبو البقاء وذلك إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر ومعنى البعد لما أشير اليه من قرب من من التفخيم جزاء من تزكى
76
- تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الأيمان والأعمال الصالحة
وهذا تصريح بما أفادته الشرطية وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان اشدية عذابه عز و جل ودوامه ردا على ما ادعاه فرعون بقوله أينا أشد عذابا وأبقى وقال بعضهم : إن الشرطيتين إلى هنا ابتداء كلام منه وجل زعلا تنبيها على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة والأول أولى خلافا لما حسبه النيسابوري
هذا واستدل المعتزلة بالشرطية الأولى على القطع بعذاب مرتكب الكبيرة قالوا : مرتكب الكبيرة مجرم لأن اصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ثم استعير لاكتساب المكروه وكل مجرم فان له جهنم للآية فان من الشرطية فيها عامة بدليل صحة الأستثناء فينتج مرتكب الكبيرة أن له جهنم وهو دال على القطع بالوعد
واجاب أهل السنة بانا لا نسلم الصغرى لجواز أن يراد بالمجرم الكافر فكثيرا ما جاء في القرآن بذلك المعنى بقوله تعالى يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر إلى قوله سبحانه وكنا نكذب بيوم الدين وقوله تعالى إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون إلى آخر السورة وعلى تقدير تسليم هذه المقدمة لانسلم الكبرى على اطلاقها وإنما هي كلية بشرط عدم العفو مع انا لا نسلم أن من الشرطية قطعية في العموم كما قال الأمام وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد مطلقا وعلى تقدير تسليم المقدمتين يقال يعارض ذلك الدليل عموم الوعد في قوله تعالى ومن يأته مؤمنا الخ ويجعل الكلام فيمن آمن وعمل الصالحات وارتكب الكبيرة
(16/234)

وهو داخل في عموم من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات ولا يخرجه عن العموم ارتكابه الكبيرة ومتى كان له الجنة فعي لمن آمن وارتكب الكبيرة ولم يعمل الأعمال الصالحة أيضا إذ لا قائل بالفرق فاذا قالوا : مرتكب الكبيرة على يقال له مؤمن كما لا يقال كافر لاثباتهم المنزلة بين المنزلتين فلا يدخل ذلك في العموم ابطلنا ذلك وبرهنا على حصر المكلف في المؤمن والكافر ونفي المنزلة بين الأيمان والكفر بما هو مذكور في محله
وعلى تقدير تسليم أن من يأته مؤمنا الخ لا يعم مرتكب الكبيرة يقال : أن قوله تعالى فأولئك لهم الدرجات العلى يدل على حصول العفو لاصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى وجنات عدن لمن اتى بالأيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات الغير العالية والجنات لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الأيمان
ولقد أخرج أبو داود وابن مردويه عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدرى في افق السماء وان ابا بكر وعمر منهم وانعما واستدل على شمول من ياته مؤمنا صاحب الكبيرة بقوله تعالى وذلك جزاء من تزكى بناء على ما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما من أن المراد بمن تزكى من قال لا اله إلا الله كأنه اراد من تطهر عن دنس الكفر والله تعالى أعلم
ثم أن العاصي إذا دخل جهنم لا يكون حاله كحال المجرم الكافر إذا دخلها بل قيل : إنه يموت احتجاجا بما أخرج مسلم واحمد وابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى سعيد الخدرى ان رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب فاتى على هذه الآية أنه من يات الخ فقال عليه الصلاة و السلام : أما اهلها يعني جهنم الذين هم اهلها فانهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا باهلها فان النار تميتهم اماته ثم يقوم الثفعاء فيشفعون فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما تنبت القثاء بحميل السيل وحمل ذلك القائل تميتهم فيه على الحقيقة وجعل المصدر تاكيدا لدفع توهم المجاز كما قيل في قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما وذكر أن فائدة بقائهم في النار بعد امانتهم إلى حيث شاء الله تعالى حرمانهم من الجنة تلك المدة وذلك منضم إلى عذابهم باحراق النار إياهم
وقال بعضهم إن تميتهم مجاز والمراد انها تجعل حالهم قريبة من حال الموتى بأن لا يكون لهم شعور تام بالعذاب ولا يسلم أن ذكر المصدر ينافي التجوز فيجوز أن يقال قتلت زيدا بالعصا قتلا والمراد ضربته ضربا شديدا ولا يصح أن يقال : المصدر لبيان النوع أي نميتهم نوعا من الاماتة لأن الاماتة لا انواع لها بل هي نوع واحد وهو ازهاق الروح ولهذا قيل : ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد واستدل المجسمة بقول سبحانه إنه من يأت ربه على ثبوت مكان له تعالى شأنه وأجيب بأن المراد من إتيانه تعالى إتيان موضع وعده عز و جل أو نحو ذلك ولقد أوحينا إلى موسى حكاية إجمالية لما انتهى اليه أمر فرعون وقومه وقد طوى في البين ذكر ما جرى عليهم بعد أن غلبت السحرة من الآيات المفصلة الظاهرة على يد موسى عليه السلام في نحو من عشرين سنة حسبما فصل في سورة الأعراف وكان فرعون كلما جاءت آية وعد أن يرسل بني اسرائيل عند انكشاف العذاب حتى إذا انكشف نكث فلما كملت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام ان اسر بعبادى وتصدير الجملة بالقسم لا براز كمال العناية بمضمونها
وان إما مفسرة لما في الوحي من معنى القول وإما مصدرية حذف عنها الجار والتعبير عن بني اسرائيل
(16/235)

بعنوان العبودية لله تعالى لاظهار الرحمة والأعتناء بأمرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز و جل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل ولم يراقب فيهم مولاهم الحقيقي جل جلاله والظاهر أن الايحاء بما ذكر وكذا ما بعده كان بمصر أي وبالله تعالى لقد أوحينا اليه عليه السلام أن سر بعبادي الذين ارسلتك لانقاذهم من ملكة غرعون من مصر ليلا فاضرب لهم بعصاك طريقا في البحر مفعول به لاضرب على الأتساع وهو مجاز عقلي والأصل اضرب البحر ليصير لهم طريقا يبسا أي يابسا وبذلك قرأ أبو حيوة على أنه مصدر جعل وصفا لطريقا مبالغة وهو يستوى فيه الواحد المذكر وغيره
وقرأ الحسن يبسا بسكون الباء وهو أما مخفف منه بحذف الحركة فيكون مصدرا أيضا أو صفة مشبهة كصعب أو جمع يابس كصعب وصاحب ووصف الواحد به للمبالغة وذلك أنه جعل الطريق لفرط يبسها كاشياء يابسة كما قيل في قول القطامي : كأن قتود رحلي حين ضمت حوالب غرزا معى جياعا أنه جعل المعى لفرط جوعه كجماعة جياع أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقا يابسا كما قيل في نطفة امشاج وثوب أخلاق أو حيث أريد بالطريق الجنس وكان متعددا حسب تعدد الأسباط لا طريق واحدة على الصحيح جاء وصفه جمعا وقيل : يحتمل أن يكون اسم جمع والظاهر أنه لا فرق هنا بين اليبس بالتحريك واليبس بالتسكين معنى لأن الأصل توافق القراءتين وإن كانت إحدهما شاذة وفي القاموس اليبس بالاسكان ما كان اصله رطبا فجف وما اصله اليبوسة ولم يعهد رطبا يبس بالتحريك وأما طريق موسى عليه السلام في البحر فانه لم يعهد طريقا لا رطبا ولا يابسا إنما اظهره الله تعالى لهم حينئذ مخلوقا على ذلك اه
وهذا مخالف لما ذكره الراغب من أن اليبس بالتحريك ما كان فيه رطوبة فذهبت والمكان إذا كان فيه ماء فذهب وروى أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر وانفاق حتى صارت فيه طرق بعث الله تعالى ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست وذهب غير واحد أن الضرب بمعنى الجعل من قولهم : ضرب له في ماله سهما وضرب عليهم الخراج أو بمعنى الاتخاذ فينصب مفعولين أولهما طريقا وثانيهما لهم
واختار أبو حيان بقاءه على المعنى المشهور وهو اوفق بقوله تعالى ان اضرب بعصاك البحر وزعم أبو البقاء أن طريقا على هذا الوجه مفعول به وقال : التقدير فاضرب لهم موضع طريق لا تخاف دركا في موضع الحال من ضمير فاضرب أو الصفة الاخرى لطريقا والعائد محذوف أي فيها أو هو استئناف كما قال أبو البقاء وقدمه على سائر الحتمالات وقرأ الأعمش وحمزة وابن أبى ليلى لا تخف بالجزم على جوانب الأمر اعني اسر ويحتمل أنه نهى مستانف كما ذكره الزجاج وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش دركا بسكون الراء وهو اسم من الادراك أي اللحوق كالدرك بالتحريك وقال الراغب : الدرك بالتحريك في الآية ما يلحق الأنسان من تبعة أي لا تخاف تبعة والجهور على الأول أي لا تخاف أن يدرككم فرعون وجنوده من خلقكم ولا تخشى
77
- أن يفرقكم البحر من قدامكم وهو عطف على لا تخاف وذلك ظاهر على الأحتمالات الثلاثة في قراءة الرفع وأما على قراءة الجزم فقيل هو استئناف أي وأنت لا تخشى وقيل :
(16/236)

عطف على المجزوم والألف جئ بها للاطلاق مراعاة لأواخر الآى كما في قوله تعالى فاضلونا السبيلا وتظنون بالله الظنونا أو هو مجزوم بحذف الحركة المقدرة كما في قوله : إذا العجوز غضبت فطاق ولا ترضاها ولا تملق وهذا لغة قليلة عند قوم وضرورة عند آخرين فلا يجوز تخريج التنزيل الجليل الشأن عليه أو لا يليق مع وجود مثل الاحتمالين السابقين أو الأول منهما والخشية اعظم الخوف وكانه إنما اختيرت هنا لأن الغرق اعظم من ادراك فرعون وجنوده لما أن ذاك مظنة السلامة ولا ينافي ذلك أنهم إنما ذكروا اولا ما يدل على خوفهم منه حيث قالوا : إنا مدركون ولذا سورع في إزاحته بتقديم نفيه كما يظهر بالتأمل
فاتبعهم فرعون بجنوده أي تبعهم ومعه جنوده على أن اتبع بمعنى وهو متعد إلى واحد والباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال ويؤيد ذلك أنه قرأ الحسن وابو عمرو في رواية فاتبعهم بتشديد التاء وقرئ أيضا فاتبعهم فرعون وجنوده وقيل : اتبع متعد إلى اثنين هنا كما في قوله تعالى : اتبعناهم ذرياتهم والثاني مقدر أي فاتبعهم رؤساء دولته أو عقابه وقيل : نفسه والجار والمجرور في موضع الحال أيضا وعن الأزهرى أن المفعول الثاني جنوده والباء سيف خطيب أي اتبعهم فرعون جنوده وساقهم خلفهم فكان معهم يحثهم على اللحوق بهم وجوز أن يكون المفعول الثاني جنوده والباء للتعدية فيكون قد تعدى الفعل إلى واحد بنفسه والأخر بالحرف وايا ما كان فالفاء فصيحة معربة عن مضمر قد طوى ذكره ثقة بغاية ظهوره وإيذانا بكمال مسارعة موسى عليه السلام إلى الأمتثال بالأمر أي ففعل ما أمر به من الأسراء بعبادي وضرب الطريق لهم فاتبعهم فرعون بجنوده
وزعم بعضهم أن الايحاء بالضرب كان بعد أن اتبعهم فرعون وترائى الجمعان والظاهر الأول روى أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل يريد القلزم وكانوا قد استعاروا من قوم فرعون الحلى والدواب لعيد يخرجون اليه وكانوا ستمائة ألف وثلاثة الأف ونيفا ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين وفي رواية أنهم خرجوا وهم ستمائة ألف وسبعون ألف وأخرجوا معهم جسد يوسف عليه السلام لأنه كان عهد اليهم ذلك ودلتهم عجوز على موضعه فقال لها موسى عليه السلام : احتكمي فقالت : اكون معك في الجنة فاتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وخرج بهم وكان في خيله سبعون ألف أدهم وكانت مقدمته فيما يحكى سبعمائة ألف فارس وقيل : ألف ألف وخمسمائة ألف فقص أثرهم حتى ترائى الجمعان فعظم فزع بني إسرائيل فضرب عليه السلام بعصاه البحر فانفلق اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم فدخلوا ووصل فرعون وجنوده إلى المدخل فرأوا البحر منفلقا فاستعظموا الأمر فقال فرعون لهم : إنما انفلق من هيبتي فدخل على فرس حصان وبين يديه جبريل عليه السلام على فرس حجر وصاحت الملائكة عليهم السلام وكانوا ثلاثة وثلاثين ملكا أن ادخلوا فدخلوا حتى إذا استكملوا دخولا خرج موسى عليه السلام بمن معه من الاسباط سالمين ولم يخرج أحد من فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم
78
- أي علاهم منه وغمرهم ما غمرهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه
(16/237)

وقيل : غشيهم ما سمعت قصته وليس بذلك فان مدار التهويل والتفخيم خروجه عن حدود الفهم والوصف لاسماع القصة والظاهر أن ضميري الجمع لفرعون وجنوده وقيل : لجنوده فقط للقرب ولانه القى بالساحل ولم يتغط بالبحر كما اشير اليه بقوله تعالى فاليوم ننجيك ببدنك وفيه أن الانجاء بعد ما غشيه ما غشى جنوده وشك بنو اسرائيل في هلاكه والقرب ليس بداع قوي فقيل : الضمير الأول لفرعون وجنوده والثاني لموسى عليه السلام وقومه وفي الكلام حذف أي فنجا موسى عليه السلام وقومه وغرق فرعون وجنوده انتهى وليس بشئ كما لا يخفى وقرأت فرقة منهم الأعمش فغشاهم من اليم ما غشاهم أي غطاهم ما غطاهم فالفاعل ما أيضا وترك المفعول زيادة في الأبهام وقيل : المفعول من اليم أي بعض اليم ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى شأنه وما مفعول قيل : هو ضمير فرعون والأسناد مجازي لأنه الذي ورطهم للهلكة ويبعده الأظهار في قوله تعالى واضل فرعون قومه أي سلك بهم مسلكا اداهم إلى الخسران في الدين والدنيا معا حيث اغرقوا فادخلوا نارا وما هدى
79
- أي وما ارشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية والمراد بذلك التهكم به كما ذكر غير واحد واعترض بأن التهكم أن يؤتى بما قصد به ضده استعارة ونحوها نحو إنك لأنت الحليم الرشيد إذا كان الغرض الوصف بضد هذين الوصفين وكونه لم يهد اخبار عما هو كذلك في الواقع
وأجيب بأن الأمر كذلك ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمرا ثبوت كون زيد عالما بطريق الهداية مهتديا في نفسه ولكنه لم يهد عمرا وفرعون اضل الضالين في نفسه فكيف يتوهم أنه يهدي غيره ويحقق ذلك أن الجملة الأولى كافية في الأخبار عن عدم هدايته إياهم بل مع زيادة اضلاله إياهم فان من لا يهدى قد لا يضل وإذا تحقق اغناؤها في الأخبار على اتم وجه تعين كون الثانية بمعنى سواه وهو التهكم وقال العلامة الطيبي : توضيح معنى التهكم أن قوله تعالى وما هدى من باب التلميح وهو اشارة إلى ادعاء اللعين ارشاد القوم في قوله وما اهديكم إلا سبيل الرشاد فهو كمن ادعى دعوى وبالغ فيها فاذا حان وقتها ولم يات بها قيل له لم تات بما ادعيت تهكما واستهزاء انتهى ويعلم مما ذكر المغايرة بين الجملتين وانه لا تكرير وقيل : المراد وما هداهم في وقت ما ويحصل بذلك المغايرة لأنه لا دلالة في الجملة الأولى على هذا العموم والأول أولى وقيل : هدى بمعنى اهتدى أي اضلهم وما اهتدى في نفسه وفيه بعد وحمل بعضهم الاضلال والهداية على ما يختص بالديني منهما ويأباه مقام بيان سوقه بجنوده إلى مساق الهلاك الدنيوي وجعلهما عبارة عن الاضلال في البحر والانجاء منه مما لا يقبله الطبع المستقيم
واحتج القاضي بالآية على أنه تعالى ليس خالقا للكفر لأنه تعالى شأنه قد ذم فيها فرعون باضلاله ومن ذم أحد بشئ يذم إذا فعله وأجيب بمنع اطراد ذلك يا بني اسرائيل حكاية لما خاطبهم تعالى به بعد اغراق عدوهم وانجائهم منه لكن لا عقيب ذلك بل بعد ما افاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية ما افاض
وقيل : انشاء خطاب للذين كانوا منهم في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على معنى أنه تعالى قد من عليهم بما فعل بابائهم اصالة وبهم تبعا وتعقب بأنه يرده قوله تعالى وما اعجلك الخ ضرورة استحالة حمله على الأنشاء وكذا السباق فالوجه هو الحكاية بتقدير قلنا عطفا على اوحينا أي وقلنا يا بني اسرائيل قد انجيناكم من عدوكم فرعون وقومه حيث كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون ابناءكم ويستحيون نساءكم
(16/238)

وقرأ حميد نجيناكم بتشديد الجيم من غير همزة قبلها وبنون العظمة وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وطلحة انجيتكم بتاء الضمير وواعدنا كم جانب الطور الايمن بالنصب على أنه صفة المضاف وقرئ بالجر وخرجه الزمخشري على الجوار نحو هذا جحر ضب خرب وتعقبه أبو حيان بأن الجر المذكور من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرج القراءة عليه وقال : الصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن وأما لكونه عن يمين من يستقبل الجبل اه
والحق أن القلة لم تصل إلى حد منع تخريج القراءة لا سيما إذا كانت شاذة على ذلك وتوافق القراءتين يقتضيه وقوله : وإما لكونه الخ غير صحيح على تقدير أن يكون الطور هو الجبل ولو قال : وإما لكونه عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام لكان صحيحا ونصب جانب على الظرفية ومنع بعضهم ذلك لأنه محدود وجعله منصوبا على أنه مفعول واعدنا على الأتساع أو بتقدير مضاف أي اتيان جانب الخ والى هذا ذهب أبو البقاء وإذا كان ظرفا فالمفعول مقدرا أي وواعدنا كم بواسطة نبيكم في ذلك الجانب اتيان موسى عليه السلام للمناجاة وانزال التوراة عليه ونسبة المواعدة اليهم مع كونها لموسى عليه السلام نظرا إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها اليهم فكانهم كلهم مواعدون فالمجاز في النسبة وفي ذلك من إيفاء مقام الامتنان حقه ما فيه
وقرأ حمزة والمذكورون معه آنفا وواعدتكم بتاء الضمير أيضا وقرئ ووعدناكم من الوعد
ونزلنا عليكم المن والسلوى
80
- الترنجبين والسماني حيث كان ينزل عليهم المن وعم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل انسان صاع ويبعث الجنوب عليهم السماني فياخذ الواحد منهم ما يكفيه
كلوا من طيبات ما رزقناكم أي من لذائذه أو حلالاته على أن المراد بالطيب ما يستطيبه الطبع أو الشرع
وجوز أن يراد بالطيبات ما جمعت وصفى اللذة والحل والجملة مستانفة مسوقة لبيان اباحة ما ذكر لهم وإتماما للنعمة عليهم وقرأ من ذكر آنفا رزقتكم وقدم سبحانه نعمة الانجاء من العدو لانها من باب درء المضار وهو أهم من جلب المنافع ومن ذاق مرارة كيد الاعداء خذلهم الله تعالى ثم انجاه الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم علم قدر هذه النعمة نسأل الله تعالى أن يتم نعمه علينا وان لا يجعل لعدو سبيلا الينا وثنى جلا وعلا بالنعمة الدينية لأنها الأنف في وحه المنافع وأخر عز و جل النعمة الدنيوية لكونها دون ذلك فتبا لمن يبيع الدين بالدنيا ولا تطغوا فيه أي فيما رزقناكم بالاخلال بشكره وتعدى حدود الله تعالى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على معاصي الله تعالى ومنع الحقوق الواجبة فيه وقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : أي لا يظلم بعضكم بعضا فياخذه من صاحبه بغير حق وقيل : أي لا تدخروا
وقرأ زيد بن علي رضى الله تعالى عنهما ولا تطغوا بضم الغين فيحل عليكم غضبي جواب للنهى أي فيلزمكم غضبي ويجب لكم من حل الدين يحل بكسر الحاء إذا وجب اداؤه وأصله من الحلول وهو في الأجسام ثم استعير لغيرها وشاع حتى صارت حقيقة فيه ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى
81
- أي هلك
(16/239)

واصله الوقوع من علو كالجبل ثم استعمل في الهلاك للزومه له وقيل : أي وقع في الهاوية واليه ذهب الزجاج
وفي بعض الآثار أن في جهنم قصرا يرمى الكافر من اعلاه فيهوى في جهنم اربعين خريفا قبل أن يبلغ الصلصال فذلك قوله تعالى فقد هوى فيكون بمعناه الأصلي إذا أريد به فرد مخصوص منه لا بخصوصه
وقرأ الكسائي فيحل بضم الحاء ومن يحلل بضم اللام الأولى وهي قرأءة قتادة وابى حيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عتبة في يحلل فضم وفي الأقناع لابي علي الأهوازي قرأ ابن غزوان عن طلحة لا يحلن عليكم بنون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء وهو من باب لا ارينك هنا وفي كتاب اللوامح قرأ قتادة وعبد الله بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش فيحل بضم الياء وكسر الحاء من الاحلال ففاعله ضمير الطغيان و غضبي مفعوله وجوز أن يكون هو الفاعل والمفعول محذوف أي العذاب أو نحوه ومعنى يحل مضموم الحاء ينزل من حل بالبلد إذا نزل كما في الكشاف
وفي المصباح حل العذاب يحل ويحل هذه وحدها بالكسر والضم والباقي بالكسر فقط والغضب في البشر ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام وفي الحديث اتقوا الغضب فانه جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ اوداجه وحمرة عينيه وإذا وصف الله تعالى به لم يرد هذا المعنى قطعا واريد معنى لاثق بشأنه عز شأنه وقد يراد به الانتقام والعقوبة أو إرادتهما نعوذ بالله تعالى من ذلك ووصف ذلك بالحلول حقيقة على بعض الاحتمالات زمجاز على بعض آخر وفي الانتصاف أن وصفه بالحلول لا يتأتى على تقدير أن يراد به إرادة العقوبة ويكون ذلك بمنزلة قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا على التأويل المعروف أو عبر عن حلول اثر الأرادة بحلولها تعبيرا عن الأثر بالمؤثر كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى : انظر إلى قدرة الله تعالى يعنى اثر القدرة لا نفسها وانى لغفار كثير المغفرة لمن تاب من الشرك على ما روى عن ابن عباس وقيل : منه ومن المعاصي التي من جملتها الطغيان فيما رزق وآمن بما يجب الأيمان به واقتصر ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فيما يروى عنه على ذكر الأيمان بالله تعالى ولعله من باب الاقتصار على الأشرف وإلا فالأفيد إرادة العموم مع ذكر التوبة من الشرك وعمل صالحا أي عملا مستقيما عند الشرع وهو بحسب الظاهر شامل للفرض والسنة وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما تفسير ذلك باداء الفرائض ثم اهتدى أي لزم الهدى واستقام عليه إلى الموافاة وهو مروى عن الحبر
والهدى يحتمل أن يراد به الأيمان وقد صرح سبحانه بمدح المستقيمين على ذلك في قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا
وقال الزمخشري : الأهتداء هو الأستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والأيمان والعمل الصالح واياما كان فكلمة ثم إما للتراخي باعتبار الأنتهاء لبعده عن أول الأنتهاء أو للدلالة على بعد ما بين المرتبتين فان المداومة اعلى واعظم من الشروع كما قيل : لكل إلى شاو العلى وثبات ولكن قليل في الرجال ثبات
(16/240)

وقيل : المراد ثم عمل بالسنة وأخرج سعيد بن منصور عن الحبر أن المراد من اهتدى علم أن لعمله ثوابا يجزى عليه وروى عنه غير ذلك وقيل : المراد طهر قلبه من الاخلاق الذميمة كالعجب والحسد والكبر وغيرها وقال ابن عطية : الذي يقوي في معنى ثم اهتدى أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شئ من الأشياء فان الأهتداء على هذا الوجه غير الأيمان وغير العمل انتهى ولا يخفى عليك أن هذا يرجع إلى قولنا ثم استقام على الأيمان بما يجب الأيمان به على الوجه الصحيح وروى الامامية من عدة طرق عن أبى جعفر الباقر رضى الله تعالى عنه أنه قال : ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت فو الله لو أن رجلا عبد الله تعالى عمره بين الركن والمقام ثم مات ولم يجئ بولايتنا لاكبه الله تعالى في النار على وجهه
وانت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضى الله تعالى عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الأهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به اسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما يستدعى القول بأنه عز و جل أعلم بني اسرائيل بأهل البيت واوجب عليهم ولايتهم إذ ذاك ولم يثبت ذلك في صحيح الأخبار
نعم روى الامامية من خبر جارود بن المنذر العبدي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له يا جارود ليلة أسرى بى إلى السماء اوحى الله عز و جل إلى أن سل من ارسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا قلت : علام بعثوا قال : على نبوتك وولاية علي بن ابي طالب والائمة منكما ثم عرفني الله تعالى بهم باسمائهم ثم ذكر صلى الله عليه و سلم اسماءهم واحدا بعد واحد إلى المهدى وهو خبر طويل يتفجر الكذب منه ولهم اخبار في هذا المطلب كلها من هذا القبيل فلا فائدة في ذكرها إلا التطويل والآية تدل على تحقق المغفرة لمن اتصف بمجموع الصفات المذكورة وقصارى ما يفهم منها عند القائلين بالمفهوم عدم تحققها لمن لم يتصف بالمجموع وعدم التحقق أعم من تحقق العدم فالآية بمعزل عن أن تكون دليلا للمعتزلى على تحقق عدم المغفرة لمرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فافهم واحتج بها من قال تجب التوبة على الكفر اولا ثم الاتيان بالأيمان ثانيا لأنه قدم فيها التوبة على الأيمان واحتج بها أيضا من قال بعدم دخول العمل الصالح في الأيمان للعطف المقتضى للمغايرة وما اعجلك عن قومك يا موسى
83
- حكاية لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه السلام من الكلام عند ابتداء موافاته الميقات بموجب المواعدة المذكورة سابقا أي وقلنا له أي شئ عجل بك عن قومك فتقدمت عليهم والمراد بها هنا عند كثير ومنهم الزمخشري النقباء السبعون والمراد بالتعجيل تقدمه عليهم لا الاتيان قبل تمام الميعاد المضروب خلافا لبعضهم والاستفهام للانكار ويتضمن كما في الكشف انكار السبب الحامل لوجود مانع في البين وهو ايهام اغفال القوم وعدم الأعتداء بهم مع كونه عليه السلام مامورا باستصحابهم واحضارهم معه وانكار اصل الفعل لأن العجلة نقيصة في نفسعا فكيف من أولى العزم اللائق بهم مزيد الحزم وقوله تعالى : قال هم اولاء على اثرى وعجلت إليك رب لترضى
84
- متضمن لبيان اعتذاره عليه السلام وحاصله عرض الخطأ في الأجتهاد كأنه عليه السلام قال : أنهم لم يبعدوا عني وان تقدمي عليهم بخطأ يسيرة وظني أن مثل ذلك لا ينكر وقد حملني عليه استدامة رضاك أو حصول زيادته وظني أن مثل هذا الحامل يصلح للحمل على مثل ما يذكر ولم يخطر لي أن هناك مانعا لينكر على ونحو هذا الأسراع المزيل للخشوع إلى ادراك الأمام في الركوع
(16/241)

طلبا لأن يكون هذا اداء هذا الركن مع الجماعة التي فيها رضا الرب تعالى فانهم قالوا : إن ذلك غير مشروع وقدم عليه السلام الأعتذار عن إنكار أصل الفعل لأنه أهم وقال بعضهم : إن الأستفهام سؤال عن سبب العجلة يتضمن انكارها لانها في نفسها نقيصة انضم اليه الأغفال وايهام التعظيم فاجاب عليه السلام عن السبب بأنه استدامة الرضا أو حصول زيادته وعن الأنكار بما محصله أنهم لم يبعدوا عني وظننت أن التقدم اليسير لكونه معتادا بين الناس لا ينكر ولا يعد نقيصة وعلل تقديم هذا الجواب بما مر واعترض بأن مساق كلامه بظاهره يدل على أن السؤال عن السبب على حقيقته وانت خبير بأن حقيقة الأستفهام محال على الله تعالى فلا وجه لبناء الكلام عليه وأجيب بأن السؤال من علام الغيوب محال إن كان لاستدعاء المعرفة أما إذا كان لتعريف غيره أو لتبكيته أو تنبيهه فليس محالا وتعقب بأنه لا يحسن هنا أن يكون السؤال لاحد المذكورات والمتبادر أن يكون للانكار وفي الأنتصاف أن المراد من سؤال موسى عليه السلام عن سبب العجلة وهو سبحانه اعلم أن يعلمه ادب السفر وهو أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم ليكون بصره بهم ومهيمنا عليهم وهذا المعنى لا يحصل مع التقدم إلا ترى كيف علم الله تعالى هذا الأدب لوطا فقال سبحانه واتبع ادبارهم فأمره عز و جل أن يكون آخرهم وموسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله تعالى ومسارعة إلى الميعاد وذلك شأن الموعود بما يسره يود لو ركب اجنحة الطير ولا اسر من مواعدة الله تعالى له عليه الصلاة و السلام انتهى
وأنت تعلم أن السؤال عن السبب مالم يكن المراد منه انكار المسبب لا يتسنى هذا التعليم وقال بعضهم : الذي يلوح بالبال أن يكون المعنى أي شئ أعجلك منفردا عن قومك والأنكار بالذات للانفراد عنهم فهو منصب على القيد كما عرف في أمثاله وإنكار العجلة ليس إلا لكونها وسيلة له فاعتذر موسى عليه السلام عنه باني اخطات في الأجتهاد وحسبت أن القدر اليسير من التقدم لا يخل بالمعية ولا يعد انفرادا ولا يقدح بالاستصحاب والحامل عليه طلب استدامة مرضاتك بالمبادرة إلى امتثال أمرك فالجواب هو قوله هم اولاء على اثرى وقوله وعجلت إليك رب لترضى كالتتميم له اه وهو عندي لا يخلو عن حسن
وقيل : إن السؤال عن السبب والجواب إنما هو قوله وعجلت الخ وما قبله تمهيد له وفيه نظر وعلى هذا وما قبله لم يكن جواب موسى عليه السلام عن امرين ليجئ سؤال الترتيب فيجاب بما مر أو بما ذكره الزمخشري من أنه عليه السلام حا لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله عز و جل فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام لكن قال في البحر : إن في هذا الجواب اساءة الأدب مع الأنبياء عليهم السلام وذلك شأن الزمخشري معهم صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد من اليك إلى مكان وعدك فلا يصلح دليلا للمجسمة على اثبات مكان له عز و جل ونداؤه تعالى بعنوان الربوبية لمزيد الضراعة والأبتهال رغبة في قبول العذر و اولاء اسم اشارة كما هو المشهور مرفوع المحل على الخبرية لهم و على اثرى خبر بعد خبر أو حال كما قال أبو حيان وجوز الطبرسي كون اولاء بدل من هم و على اثرى هو الخبر وقال أبو البقاء : اولاء اسم موصول و على اثرى صلته وهو مذهب كوفي
وقرأ الحسن وابن معاذ عن ابيه اولاى بياء مكسورة وابن وثاب وعيسى في رواية أولى بالقصر وقرأت فرقة اولاى بياء مفتوحة وقرأ عيسى ويعقوب وعبد الوارث عن ابي عمرو وزيد بن علي
(16/242)

رضى الله تعالى عنهما على إثرى بكسر الهمزة وسكون الثاء وحكى الكسائي اترى بضم الهمزة وسكون الثاء وتروى عن عيسى وفي الكشاف إن الاثر بفتحتين افصح من الاثر بكسر فسكون وأما الاثر فمسموع في فرند السيف مدون في الأصول يقال : اثر السيف واثره وهو بمعنى الاثر غريب قال استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية اعتذاره عليه السلام وهو السر في وروده على صيغة الغائب لا أنه التفات من المتكلم إلى الغيبة لما أن المقدر فيما سبق على صيغة التكلم كأنه قيل من جهة السامعين : فماذا قال ربه تعالى حينئذ فقيل : قال سبحانه فانا قد فتنا قومك أي اختبرناهم بما فعل السامرى أو اوقعناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف من بعدك من بعد فراقك لهم وذهابك من بينهم واضلهم السامرى
85
- حيث أخرج لهم عجلا جسدا له خوار ودعاهم إلى عبادته وقيل : قال لهم بعد أن غاب موسى عليه السلام عنهم عشؤين ليلة : إنه قد كملت الأربعون فجعل العشرين مع أيامها أربعين ليلة وليس من موسى عين ولا اثر وليس اخلافه ميعادكم إلا لما معكم من حلى القوم وهو حرام عليكم فجمعوه وكان من أمر العجل ما كان والمراد بقومك هنا الذين خلفهم مع هرون عليه السلام وكانوا على ما قيل ستمائة ألف ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فالمراد بهم غير المراد بقومك فيما تقدم ولذا لم يؤت بضميرهم وقيل : المراد بالقوم في الموضعين المختلفين لتعين ارادتهم هنا والمعرفة المعادة عين الأولى ومعنى هم اولاء على اثرى هم بالقرب مني ينتظرونني
وتعقبه في الكشف بأنه غير ملائم للفظ الاثر ولا هو مطابق لتمهيد عذر العجلة ومن أين لصاحب هذا التأويل النقل بانهم كانوا على القرب من الطور وحديث المعرفة المعادة إنما هو إذا لم يقم دليل التغاير وقد قام على أن لنا أن تقول : هي عين الأولى لأن المراد بالقوم الجنس في الموضعين لكن المقصود منه اولا النقباء وثانيا المتخلفون ومثله كثير في القرآن انتهى وما ذكره من نفي النقل الدال على القرب فيه مقال وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا من الأخبار ما يدل بظاهره على الأقرب إلا أنا لم نقف على تصحيحه أو تضعيفه
وما ذكر في تفسير هم اولاء على اثرى على إرادة المتخلفين في الأول أيضا نقله الطبرسي عن الحسن ونقل عنه أيضا تفسيره بانهم على ديني منهاجي والأمر عليه اهون والفاء لتعليل ما يفهمه الكلام السابق كأنه قيل : لا ينبغي عجلتك عن قومك وتقدمك عليهم وإهمال أمرهم لوجه من الوجوه فانهم لحداثة عهدهم باتباعك ومزيد بلاهتهم وحماقتهم بمكان يحيق فيه مكر الشيطان ويتمكن من إضلالهم فان القوم الذين خلفتهم مع اخيك قد فتنوا واضلهم السامرى بخروجك من بينهم فكيف تامن على هؤلاء الذين أغفلتهم وأهملت أمرهم
وفي إرشاد العقل السليم إنها لترتيب الأخبار بما ذكر من الأبتلاء على اخبار موسى عليه السلام بعجلته لكن لا لأن الاخبار بها سبب موجب للاخبار به بل لما بينهما من المناسبة المصححة للانتقال من أحدهما إلى الآخر من حيث أن مدار الأبتلاء المذكور عجلة القوم وليس بذاك وأما قول الخفاجي : إنها للتعقيب من غير تعليل أي اقول لك عقب ما ذكر إنا قد فتنا إلى آخره ففيه سهو ظاهر لأن هذا المعنى إنما يتسنى لو كانت الفاء داخلة على القول لكنها داخلة على ما بعده وظاهر الآية يدل على أن الفتن وإضلال السامرى إياهم قد تحققا ووقعا قبل الأخبار بهما إذ صيغة الماضي ظاهرة في ذلك والظاهر أيضا على ما قررنا أن الأخبار كان عند مجيئه عليه
(16/243)

السلام للطور لم يتقدمه إلا العتاب والأعتذار وفي الآثار ما يدل على أن وقوع ما ذكر كان بعد عشرين ليلة من ذهابه عليه السلام لجانب الطور وقيل : بعد ست وثلاثين يوما وحينئذ يكون التعبير عن ذلك بصيغة الماضي لاعتبار تحققه في علم الله تعالى ومشيئته أو لأنه قريب الوقوع مترقبه أو لأن السامرى كان قد عزم على ايقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام وتصدى لترتيب مباديها وتمهيد مبانيها فنزل مباشرة الأسباب منزلة الوقوع والسامرى عند الأكثر كما قال الزجاج : كان عظيما من عظماء بني اسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين وقيل : هو ابن خالة موسى عليه السلام وقيل : ابن عمه وقيل : كان علجا من كرمان وقيل : كان من أهل باجرما قرية قريبق من مصر أو قريبة من قرى موصل وقيل : كان من القبط وخرج مع موسى عليه السلام مظهرا الأيمان وكان جاره
وقيل : كان من عباد البقر وقع في مصر فدخل في بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر واسمه قيل موسى بن ظفر وقيل : منجا والأول اشهر وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن امه حين خافت أن يذبح خلفته في غار واطبقت عليه فكان جبريل عليه السلام يأتيه فيغذوه باصابعه في واحدة لبنا وفي الاخرى عسلا وفي الاخرى سمنا ولم يزل يغذوه حتى نشأ وعلى ذلك قول من قال : إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت عقول مربيه وخاب المؤمل فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل وبالجملة كان عند الجمهور منافقا يظهر الأيمان ويبطن الكفر وقرأ معاذ اضلهم على أنه افعل تفضيل أي اشدهم ضلالا لأنه ضال ومضل فرجع موسى إلى قومه عند رجوعه المعهود أي بعد ما استوفى الاربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة واخذ التوراة لا عقيب الأخبار المذكور فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوع المستفاد من قوله تعالى : غضبان اسفا لا باعتبار نفسه وان كانت داخلة عليه حقيقة فان كون الرجوع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهور لا يذهب الوهم إلى كونه عند الأخبار المذكور كما إذا قلت : شايعت الحجاج ودعوت لهم بالسلامة فرجعوا سالمين فاناحد لا يرتاب في أن المراد رجوعهم المعتاد لا رجوعهم اثر الدعاء وان سببية الدعاء باعتبار وصف السلامة لا باعتبار نفس الرجوع كذا في ارشاد العقل السليم وهو مما لا ينتطح فيه كبشان والاسف الحزين كما روى عن ابن عباس وكان حزنه عليه السلام من حيث أن ما وقع فيه قومه مما يترتب عليه العقوبة ولا يدله بدفعها
وقال غير واحد : هو شديد الغضب وقال الجبائي متلهفا على ما فاته متحيرا في أمر قومه يخشى أن لا يمكنه تداركه وهذا معنى للاسف غير مشهور قال استئناف بياني كأنه قيل : فماذا فعل بهم لما رجع اليهم فقيل قال : يا قوم الم يعدكم ربكم الهمزة لانكار عدم الوعد ونفيه وتقرير وجوده على ابلغ وجه واكده أي وعدكم وعدا حسنا لا سبيل لكم إلى انكاره والمراد بذلك اعطاء التوراة التي فيها هدى ونور وقيل : هو ما وعدهم سبحانه من الوصول إلى جانب الطور الايمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله تعالى أهل طاعته
(16/244)

وعن الحسن أن الوعد الحسن الجنة التي وعدها من تمسك بدينه وقيل : هو أن يسمعهم جل وعلا كلامه عز وشأنه ولعل الأول أولى ونصب وعدا يحتمل على أن يكون على أنه مفعول ثان وهو بمعنى الموعود ويحتمل أن يكون على المصدرية والمفعول الثاني محذوف والفاء في قوله تعالى : افطال عليكم العهد للعطف على مقدر والهمزة لانكار المعطوف ونفيه فقط وجوز أن تكون الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والعطف على لم يعدكم لأنه بمعنى قد وعدكم واختار جمع الأول وال في العهد له والمراد زمان الأنجاز وقيل : زمان المفارقة أي اوعدكم سبحانه ذلك فطال زمان الأنجاز أو زمان المفارقة للاتيان به ام اردتم أن يحل أي يجب عليكم غضب شديد لا يقادر قدره كائن من ربكم أي من مالك أمركم على الأطلاق والمراد من ارادة ذلك فعل ما يكون مقتضيا له
والفاء في قوله تعالى فاخلفتم موعدى
86
- لترتيب ما بعدها على كل من الشقين والموعد مصدر مضاف إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيح حالهم فان اخلافهم للوعد الجاري فيما بينهم وبينه عليه السلام من حيث اضافته اليه عليه السلام اشنع منه من حيث اضافته اليهم والمعنى افطال عليكم الزمان فنسيتم بسبب ذلك فاخلفتم وعدكم إياي بالثبات على ديني إلى أن ارجع من الميقات نسيانا أو تعمدتم فعل ما يكون سببا لحلول غضب ربكم عليكم فاخلفتم وعدكم إياي بذلك عمدا وحاصله انسيتم فاخلفتم أو تعمدتم فاخلفتم ومنه يعلم التقابل بين الشقين
وجوز المفضل أن يكون الموعد مصدرا مضافا إلى الفاعل واخلافه بمعنى وجد أن الخلف فيه يقال : اخلف وعد زيد بمعنى وجد الخلف فيه ونظيره احمدت زيدا أي فوجدتم الخلف في موعدي اياكم بعد الأربعين وفيه أنه لا يساعده السياق ولا السباق اصلا وقيل : المصدر مضاف إلى المفعول إلا أن المراد منه وعدهم إياه عليه السلام باللحاق به والمجئ للطور على اثره وفيه ما فيه واستدلت المعتزلة بالآية على أن الله عز و جل ليس خالقا للكفر وإلا لما قال سبحانه واضلهم السامرى ولما كان لغضب موسى عليه السلام واسفه وجه ولا يخفى ما فيه قالوا ما اخلفنا موعدك أي وعدنا اياك الثبات على دينك وايثاره على أن يقال موعدنا على اضافة المصدر إلى فاعله لما مر آنفا
بملكنا بأن ملكنا امرنا يعنون انا ولو خلينا وانفسنا ولم يسول لنا السامرى ما سوله مع مساعدة بعض الأحوال لما اخلفناه وقرأ بعض السبعة بملكنا بكسر الميم وقرأ الأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن ابي ليلى وقعنب بضمها وقرأ عمر رضى الله تعالى عنه بملكنا بفتح الميم واللام قال في البحر : أي بسلطاننا واستظهر أن الملك بالضم والفتح والكسر بمعنى وفرق أبو علي فقال : معنى المضموم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما اخلفناه بنظر ادى اليه ما فعل السامرى والكلام على حد قوله تعالى لا يسالون الناس الحافا وقول ذي الرمة : لا نشتكى سقطة منها وقد رقصت بها المفارز حتى ظهرها حدب ومفتوح الميم مصدر ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأن ملكنا الصواب ووفقنا له بل غلبتنا انفسنا ومكسور
(16/245)

الميم كثير استعماله تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الانسان والمعنى عليه كالمعنى على المفتوح الميموالمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي يملكنا الصواب ولكنا حملنا اوزارا من زينة القوم استدراك عما سبق واعتئار عما فعلوا ببيان منشأ الخطأ والمراد بالقوم القبط والاوزار الاحمال وتسمى بها الآثام وعنوا بذلك مااستعاروه من القبط من الحلي برسم التزيين في عيد لهم قبيل الخروج من مصر كما اسلفنا وقيل : استعاروه باسم العرس وقيل : هو ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا ولعلهم اطلقوا على ذلك الاوزار مرادا بها الاثام من حيث أن الحلي سبب لها غالبالما أنه يلبس في الاكثر للفخر والخيلاء والترفع على الفقراء وقيل : من حيث أنهم اثموا بسببه وعبدوا العجل المصوغ منه وقيل من حيث أن ذلك الحلي صار بعد هلاك اصحابه في حكم الغنيمة ولم يكن مثل هذه الغنيمة حلالا لهم بل ظاهر الأحاديث الصحيحة أن الغنائم سواء كانت من المنقولات ام لا لم تحل لأحد قبل نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والرواية السابقة في كيفية الاضلال توافق هذا التوجيه إلا أنه يشكل على ذلك ما روى من أن موسى عليه السلام هو الذي أمرهم بالاستعارة حتى قيل : إن فاعل التحميل في قولهم حملنا هو موسى عليه السلام حيث الزمهم ذلك بأمرهم بالاستعارة وقد ابقاه في ايديهم بعد هلاك اصحابه واقرهم على استعماله فاذا لم يكن حلالا فكيف يقرهم وكذا يقال على القول بأن المراد به ماالقاه البحر على الساحل واحتمال أن موسى عليه السلام نهى عن ذلك وظن الأمتثال ولم يطلع على عدمه لاخفاء الحال عنه عليه السلام مما لايكاد يلتفت إلى مثله اصلا لاسيما على رواية أنهم أمروا باستعارة دواب من القوم أيضا فاستعاروها وخرجوا بها
وقد يقال : أن أموال القبط مطلقا بعد هلاكهم كانت حلالا عليهم كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كم تركوا من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني اسرائيل وقد أضافه سبحانه الحلي اليهم في قوله تعالى واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا وذلك يقتضي بظاهره أن الحلي ملك لهم ويدعى اختصاص الحل فيما كان الرد فيه متعذرا لهلاك صاحبه ومن يقوم مقامه ولاينافي ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : احلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي لجواز أن يكون المراد به احلت لي الغنائم على أي وجه كانت ولم تحل كذلك لأحد قبلي وتكون تسميتهم ذلك اوزارا إما لما تقدم من الوجه الأول والثاني وإما لظنهم الحرمة لجهلهم في انفسهم أو لالقاء السامري الشبهة عليهم وقيل : إن موسى عليه السلام امره الله تعالى أن يأمرهم بالاستعارة فأمرهم وأبقى مااستعاروه بأيديهم بعد هلاك اصحابه بحكم ذلك الأمر منتظرا ما يامر الله تعالى به بعد وقد جاء في بعض الأخبار مايدل على أن الله سبحانه بين حكمه على لسان هرون عليه السلام بعد ذهاب موسى عليه السلام للميقات كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلق بحملنا وان يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لااوزارا ولايتعين ذلك بناء على قولهم : إن الجمل والظروف بعد النكرات والصفات وبعد المعارف احوال لأن ذلك ليس على اطلاقه
وقرأ الأخوان وابو عمرو وابن محيصن حملنا بفتح الحاء والميم وابو رجاء حملنا بضم الحاء وكسر الميم من غير تشديد فقذفناها أي طرحناها في النار كما تدل عليه الأخبار وقيل : أي ألقيناها
(16/246)

على انفسنا وأولادنا وليس بشئ اصلا فكذلك أي فمثل ذلك القى السامرى
87 - أي ماكان معه منها قيل كأنه اراهم أنه أيضا يلقي ماكان معه من الحلي فقالوا ما قالوا على زعمهم وإنما كان الذي ألقاه التربة التي أخذها من أثر الرسول كما سيأتى أن شاء الله تعالى وقيل : إنه ألقى مامعه من الحلي والقى مع ذلك ما أخذه من أثر الرسول كأنهم لم يريدوا إلا أنه القى ما معه من الحلي وقيل : ارادوا القى التربة وايده بعضهم بتغيير الأسلوب إذ لم يعبر بالقذف المتبادر منه أن مارماه جرم مجتمع وفيه نظر وقد يقال : المعنى فمثل ذلك الذي ذكرناه لك القى السامري الينا وقرره علينا وفيه بعد وإن ذكر أنه قال لهم : إنما تأخر موسى عليه السلام عنكم لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم فالرأى أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف فيها ما معنا منه ففعلوا وكان صنع في الحفيرة قالب عجل وقد أخرج ابن اسحق وابن جرير وابن ابي حاتم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه لما فصل موسى عليه السلام إلى ربه سبحانه قال لهم هرون عليه السلام : إنكم قد حملتم اوزارا من زينة القوم إلى فرعون وامتعة وحليا فتطهروا منها انها رجس واوقد لهم نارا فقال لهم : اقذفوا ما معكم من ذلك فيها فجعلوا ياتون بما معهم فيقذفونه فيها فجاء السامري ومعه تراب من اثر حافر فرس جبريل عليه السلام واقبل إلى النار فقال لهرون عليه السلام : يا نبي الله االقي ما في يدي فقال : نعم ولايظن هرون عليه السلام إلا أنه كبعض ماجاء به غيره من ذلك الحلي والأمتعة فقذفه فيها فقال : كن عجلا جسدا له خوار فكان للبلاء والفتنة
وأخرج عبد بن حميد وابن ابي حاتم عنه أيضا أن بني اسرائيل استعاروا حليا من القبط فخرجوا به معهم فقال لهم هرون بعد أن ذهب موسى عليهما السلام : اجمعوا هذا الحلي حتى يجئ موسى فيقضي فيه ما يقضي فجمع ثم أذيب فألقى عليه السامري القبضة فأخرج أي السامري لهم للقائلين المذكورين عجلا من تلك الاوزار التي قذفوها وتاخيره مع كونه مفعولا صريحا عن الجار والمجرور لما مر غير مرة من الأعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم فان قوله جسدا أي جثة ذا لحم ودم أو جسد من ذهب لاروح فيه بدل منه وقيل : هو نعت له على أن معناه احمر كالمجسد وكذا قوله تعالى له خوار نعت له والخوار صوت العجل وهذا الصوت إما لأنه نفخ فيه الروح بناء على ما أخرجه ابن مردويه عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن الله تعالى لما وعد موسى عليه السلام أن يكلمه خرج للوقت الذي وعده فبينما هو يناجي ربه إذ سمع خلفه صوتا فقال : إلهي إني اسمع خلفي صوتا قال : لعل قومك ضلوا قال : إلهي من اضلهم قال : السامري قال : فيم اضلهم قال : صاغ لهم عجلا جسدا له خوار قال : إلهي هذا السامري صاغ لهم العجل فمن نفخ فيه الروح حتى صار له خوار قال : انا يا موسى قال : فوعزتك ما اضل قومي أحد غيرك قال : صدقت يا حكيم الحكماء لاينبغي لحكيم أن يكون احكم منك
وجاء في رواية اخرى عن راشد بن سعد أنه سبحانه قال له : يا موسى إن قومك قد افتتنوا من بعدك قال : يا رب كيف يفتتنون وقد نجيتهم من فرعون ونجيتهم من البحر وانعمت عليهم وفعلت بهم قال : يا موسى إنهم اتخذوا من بعدك عجلا له خوار قال : يا رب فمن جعل فيه الروح قال : أنا قال : فأنت يا رب أضللتهم قال :
(16/247)

يا موسى يا رأس النبيين ويا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم وإما لأنه تدخل فيه اليح فيصوت بناء على ماأخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : كان بني إسرائيل تأثموا من حلي آل فرعون الذي معهم فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه القى السامري القبضة وقال : كن عجلا جسدا له خوار فصار كذلك وكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه فيسمع له صوت فقالوا أي السامري ومن افتتن به أول ما رآه وقيل : الضمير للسامري وجئ به ضمير جمع تعظيما لجرمه وفيه بعد
هذا إلهكم وإله موسى فنسى أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه في الطور فضمير نسى لموسى عليه السلام كما روى عن ابن عباس وقتادة والفاء فصيحة أي فاعبدوه والزموا عبادته فقد نسى موسى عليه السلام وعن ابن عباس أيضا ومكحول أن الضمير للسامرى والنسيان مجاز عن الترك والفاء فصيحة أيضا أي فاظهر السامرى النفاق فترك ماكان فيه من اسرار الكفر والأخبار بذلك على هذا منه تعالى وليس داخلا في حيز القول بخلافه على الوجه الأول وصنيع بعض المحققين يشعر باختيار الأول ولا يخفى ما في الاتيان باسم الأشارة والمشار اليه بمرأى منهم وتكريرا له وتخصيص موسى عليه السلام بالذكر وإتيان الفاء من المبالغة في الضلال والأخبار بالأخراج وما بعده حكاية نتيجة فتنة السامرى فعلا وقولا من جهته سبحانه قصدا إلى زيادة تقريرها ثم الأنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل فأخرج لنا والحمل على أن عدولهم إلى ضمير الغيبة لبيان أن الأخراج والقول المذكورين للكل لا للعبدة فقط خلاف الظاهر مع أنه مخل باعتذارهم فان مخالفة بعضهم للسامرى وعدم افتتانهم بتسويله مع كون الأخراج والخطاب لهم مما يهون مخالفته للمعتذرين فافتتانهم بعد اعظم جناية واكثر شناعة وأما ما قيل أن المعتذرين هم الذين لم يعبدوا العجل وان نسبة الأخلاف إلى انفسهم وهم برآء منه من قيل قولهم بنو فلان قتلوا فلانا مع أن القاتل واحد منهم كانوا قالوا : ما وجدنا الأخلاف فيما بيننا بامر كنا نملكه بل تمكنت الشبهة في قلوب العبدة حيث فعل بهم السامرى ما فعل فأخرج لهم ما أخرج وقال ما قال فلم نقدر على صرفهم عن ذلك ولم نفارقهم مخافة ازدياد الفتنة فقد قال شيخ الاسلام : إن سياق النظم الكريم وسباقه يقضيان بفساده وذهب أبو مسلم إلى أن كلام المعتذرين ثم عند قولهم فقذفناها وما بعده من قوله تعالى : فذلك القى السامرى إلى اخره اخبار من جهته سبحانه أن السامرى فعل كما فعلوا فأخرج لهم الخ وهو خلاف الظاهر
هذا وقرأ الأعمش فنسى بسكون الياء وقوله تعالى افلا يرون إلى آخره إنكار وتقبيح من جهته تعالى الضالين والمضلين جميعا وتسفيه لهم فيما اقدموا عليه من المنكر الذي لا يشتبه بطلانه واستحالته على أحد وهو اتخاذ ذلك العجل الها ولعمري ولو لم يكونوا في البلادة كالبقر لما عبدوه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي إلا يتفكرون فلا يعملون الا يرجع إلهم قولا أي أنه لا يرجع اليهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا بل يخور كسائر العجاجيل فمن هذا شأنه كيف يتوهم أنه اله
وقرأ الأمام الشافعي وابو حيوة وابان وابن صبيح والزعفراني يرجع بالنصب على أن ات هي
(16/248)

الناصبة لا المخففة من الثقيلة والرؤية حينئذ بمعنى الأبصار لا العلم بناء على ما ذكره الرضى وجماعة من أن الناصبة لا تقع بعد افعال القلوب مما يدل على يقين أو ظن غالب لا نها لكونها للاستقبال تدخل على ما ليس بثابت مستقر فلا يناسب وقوعها بعد ما يدل على يقين ونحوه والعطف أيضا كما سبق أي إلا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه اليهم قولا من الأقوال وتعليق الابصار بما ذكر مع كونه امرا عدميا للتنبيه على كمال ظهوره المستدعى لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم وقيل : إن الناصبة لا تقع بعد رأى البصرية أيضا لانها تفيد العلم بواسطة احساس البصر كما في ايضاح المفصل واحاز الفراء وابن الأنباري وقوعها بعد افعال العلم فضلا عن افعال البصر وقوله تعالى ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا
89
- عطف على لا يرجع داخل معه في حيز الرؤية أي فلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرا ويجلب لهم نفعا أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه أو ينفعهم إن عبدوه
وقوله تعالى ولقد قال لهم هرون من قبل مع ما بعد جملة قسمية مؤكدة لما سبق من الأنكار والتشنيع ببيان عتوهم واستعصائهم على الرسول اثر بيان مكابرتهم لقضية العقول أي وبالله لقد نصح لهم هرون ونبههم على كنه الأمر من قبل رجوع موسى عليه السلام اليهم وخطابه إياهم بما ذكر من المقالات والى اعتبار المضاف اليه قبل ما ذكر ذهب الواحدى وقيل : من قبل قول السامرى هذا الهكم واله موسى كأنه عليه السلام أول ما ابصره حين طلع من الحفيرة تفرس فيهم الافتتان فسارع إلى تحذيرهم واختاره صاحب الكشف تبعا لشيخه وقال : هو ابلغ وادل على توبيخهم بالاعراض عن دليل العقل والسمع في افلا يرون ولقد ال واختار بعضهم الأول وادعى أن الجواب يؤيده وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك
وجوز العلامة الطيبي في هذه الجملة وجهين كونها معطوفة على قوله تعالى افلا يرون وقال : إن في إيثار المضارع فيه دلالة على استحضار تلك الحالة الفظيعة في ذهن السامع واستدعاء الأنكار عليهم وكونها في موضع الحال من فاعل يرون مقررة لجهة الانكار أي افلا يرون والحال أن هرون نبههم قبل ذلك على كنه الأمر وقال لهم : يا قوم إنما فتنتم به أي اوقعتم في الفتنة بالعجل أو اضللتم على توجيه القصر المستفاد من كلمة انما في اغلب استعمالاتها إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدعيه القوم لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخر على معنى إنما فعل بكم الفتنة لا الارشاد إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره وقوله تعالى وإن ربكم الرحمن بكسر همزة إن عطفا على إنما الخ ارشاد لهم إلى الحق اثر زجرهم عن الباطل والنعرض لعنوان الربوبية والرحمة للاعتناء باستمالتهم إلى الحق وفي ذلك تذكير لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل وكذا على ما قيل تنبيه على أنهم متى تابوا اقبلهم وتعريف الطرفين لافادة الحصر اى وإن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن لا غير
وقرأ الحسن وعيسى وابو عمر وفي رواية وان ربكم بفتح الهمزة وخرج على أن المصدر المنسبك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن ربكم الرحمن والجملة معطوفة على ما مر وقال أبو حاتم : التقدير ولان ربكم الخ وجعل الجار والمجرور متعلقا باتبعونى وقرأت فرقة انما وان ربكم بفتح الهمزتين وخرج على لغة سليم
(16/249)

حيث يفتحون همزة إن بعد القول مطلقا والفاء في قوله تعالى : فاتبعونى واطيعوا امرى
90
- لترتيب ما بعدها على ما قبلها من مضمون الجملتين أي إذا كان الأمر كذلك فاتبعوني واطيعوا امرى في الثبات على الدين
وقال ابن عطية : أي فاتبعوني إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى اليه وفيه أنه عليه السلام لم يكن بصدد الذهاب إلى الطور ولم يكن مامورا به وما واعد الله سبحانه أولئك المفتونين بذهابهم انفسهم اليه وقيل : ولا يخلو عن حسن أي فاتبعوني في الثبات على الحق واطيعوا امرى هذا واعرضوا عن التعرض لعبادة ما عرفتم امره أو كفوا انفسكم عن اعتقاد الوهيته وعبادته قالوا في جواب هرون عليه السلام لن نبرح عليه أي لا نزال على عبادة العجل عاكفين مقيمين حتى يرجع الينا موسى
91
- الظاهر من حالهم أنهم لم يجعلوا رجوعه عليه السلام غاية للعكوف على عبادة العجل على طريق الوعد بتركها لا محالة عند رجوعه بل ليروا ماذا يكون منه عليه السلام وماذا يقول فيه وقيل : إنهم علق في انهانهم قول السامرى : هذا إلهكم وإله موسى فنسى
88
- فغيوا برجوعه بطريق التعلل والتسويف واضمروا أنه إذا رجع عليه السلام يوافقهم على عبادته وحاشاه وهذا مبني على أن المحاورة بينهم وبين هرون عليه السلام وقعت بعد قول السامرى المذكور فيكون من قبل على معنى من قبل رجوع موسى وذكر أن هذا الجواب يؤيده هذا المعنى لأن قولهم : لن نبرح الخ يدل على عكوفهم حال قوله عليه السلام وهم لم يعكفوا على عبادته قبل قول السامرى وإنما عكفوا بعده
وقال الطيبي : إن جوابهم هذا من باب الاسلوب الاحمق نقيض الاسلوب الحكيم لانهم قالوه عن قلة مبالاة بالادلة الظاهرة كما قال نمروذ في جواب الخليل عليه السلام أنا أحي وأميت فتأمل واستدل أبو حيان بهذا التغيى على أن لن لا تفيد التأييد لأن التغيى لا يكون الا حيث يكون الشئ محتملا فيزال الاحتمال به
وأنت تعلم أن القائل بافادتها ذلك لا يدعى انها تفيده في كل الموارد وهو ظاهر وفي بعض الأخبار أنهم لما قالوا ذلك اعتزلهم هرون عليه السلام في اثنا عشر ألفا وهم الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى عليه السلام وسمع الصياح وكانوا يسجدون إذا خار العجل فلا يرفعون حتى يخور ثانية وفي رواية كانوا يرقصون عند خواره قال للسبعين الذين كانوا معه : هذا صوت الفتنة حتى إذا وصل قال لقومه ما قال وسمع منهم ما قالوا
وقوله تعالى : قال استئناف نشا من حكاية جوابهم السابق اعنى قوله تعالى ما اخلفنا موعدك الخ كأنه قيل : فماذا قال موسى لهرون عليهما السلام حين سمع جوابهم وهل رضى بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد فقيل : قال له وهو مغتاظ قد اخذ بلحيته وراسه يا هرون ما منعك إذ رايتهم ضلوا
92
- بعبادة العجل ولم يلتفتوا إلى دليل بطلانها الا تتبعن أي تتبعنى على أن لا سيف خطيب كما في قوله تعالى ما منعك أن لا تسجد وهو مفعول ثان لمنع وإذ متعلق بمنع وقيل : بتتبعنى ورد بأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وأجيب بأن الظرف يتوسع فيه ما لم يتوسع في غيره وبان الفعل السابق لما طلبه على أنه مفعول ثان له كان مقدما حكما وهو كما ترى أي اي شئ منعك حين رؤيتك لضلالهم من أن تتبعني وتسير بسيري في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به وروى ذلك عن مقاتل وقيل : في الأصلاح والتسديد ولا يساعده ظاهر الاعتذار واستظهر أبو حيان أن يكون المعنى ما منعك من أن تلحقني إلى جبل الطور بمن آمن من بني اسرائيل وروى ذلك عن ابن عباس
(16/250)

رضى الله تعالى عنهما وكان موسى عليه السلام رأى أن مفارقة هرون لهم وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية ازجر لهم من الاقتصار على النصائح لما أن ذلك أدل على الغضب وأشد في الأنكار لا سيما وقد كان عليه السلام رئيسا عليهم محبوبا لديهم وموسى يعلم ذلك ومفارقة الرئيس المحبوب كراهة لأمر تشق جدا على النفوس وتستدعى ترك ذلك الأمر المكروه له الذي يوجب مفارقته وهذا ظاهر لا غبار عليه عند من انصف
فالقول بأن نصائح هرون عليه السلام حيث لم تزجرهم عما كانوا عليه فلأن لا تزجرهم مفارقته إياهم عنه أولى على ما فيه لا يرد على ما ذكرنا ولا حاجة إلى الاعتذار بانهم إذا عملوا أنه يلحقه ويخبره عليهما السلام بالقصة يخافون رجوع موسى عليه السلام فينزجرون عن ذلك ليقال : إنه بمعزل عن القبول كيف لا وهم قد صرحوا بانهم عاكفون عليه إلى حين رجوعه عليه السلام وقال علي بن عيسى : إن لا ليست مزيدة والمعنى ما حملك على عدم الأتباع فان المنع عن الشئ مستلزم للحمل على مقابله افعصيت امرى
93
- بسياستهم حسب ما ينبغي فان قوله عليه السلام اخلفنى في قومى بدون ضم قوله واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين متضمن للأمر بذلك حتما فان الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرا وموسى عليه السلام لو كان حاضرا لساسهم على ابلغ وجه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي الم تتبعني أو اخالفتني فعصيت امرى قال يا بنؤم خص الأم بالأضافة استعطافا وترقيقا لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه فان الجهور على أنهما كانا شقيقين
وقرأ حمزة والكسائي يا بن أم بكسر الميم لا تاخذ بلحيتى ولا راسى أي بشعر رأسى فان الأخذ أنسب به وزعم بعضهم أن قوله بلحيتي على معنى بشعر لحيتي أيضا لأن أصل وضع اللحية للعضو النابت عليه الشعر ولا يناسبه الأخذ كثير مناسبة وأنت تعلم أن المشهور استعمال اللحية في الشعر النابت على العضو المخصوص وظاهر الآيات والأخبار أنه عليه السلام اخذ بذلك روى أنه اخذ شعر رأسه بيمينه وليحيته بشماله وكان عليه السلام حديدا متصلبا غضوبا لله تعالى وقد شاهد ما شاهد وغلب على ظنه تقصير في هرون عليه السلام يستحق به وإن لم يخرجه عن دائرة العصمه الثابته للانبياء عليهم السلام التاديب ففعل به ما فعل وباشر ذلك بنفسه ولا محذور فيه اصلا ولا مخالفه للشرع فلا يرد ما توهمه الأمام فقال : لا يخلو الغضب من أن يزيل عقله اولا والأول لا يعتقده مسلم والثاني لا يزيل السؤال بلزوم عدم العصمه واجاب بما لا طائل تحته
وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بلحيتي بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز إنى غشيت الخ استئناف لتعليل موجب النهى بتحقيق أنه غير عاص امره ولا مقصر في المصلحة أي خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض وتفانوا وتفرقوا أو خشيت لو لحقتك بمن آمن ان تقول فرقت بين بنى اسرائيل برايك مع كونه ابناء واحد كما ينبئ عن ذلك ذكرهم بهذا العنوان دون القوم ونحوه واستلزام المقاتلة التفريق ظاهر وكذا اللحوق بموسى عليه السلام مع من آمن وربما يجر ذلك إلى المقاتلة وقيل : أراد عليه السلام بالتفريق على التفسير الأول مع يستتبعه القتال من التفريق الذي لا يرجى بعده الأجتماع
ولم ترقب أي ولم تراع قولى
94
- والجملة عطف على فرقت أي خشيت أن تقول مجموع جملتين
(16/251)

وتنسب إلى تفريق بني إسرائيل وعدم مراعاة قولك لي ووصيتك إياي وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من ضمير فرقت أي خشيت أن تقول فرقت بينهم غير مراع قولى أي خشيت أن تقول مجموع هذا الكلام واراد بقول موسى المضاف إلى الياء قوله عليه السلام : اخلفني في قومي واصلح الخ وحاصل اعتذاره عليه السلام إني رأيت الأصلاح في حفظ الدهماء والمداراة معهم وزجرهم على وجه لا يختل به أمر انتظامهم واجتماعهم ولا يكون سببا للومك إياي إلى أن ترجع اليهم فتكون أنت المتدارك للأمر حسبما تراه لا سيما والقوم قد استظعفوني وقربوا من أن يقتلوني كما افصح عليه السلام في آية اخرى
وأخرج ابن المنذر عب ابن جريج ما يدل أن المراد من القول المضاف قول هرون عليه السلام وجملة لم ترقب في موضع الحال من ضمير تقول أي خشيت أن تقةل ذلك غير منتظر قولي وبيان حقيقة الحال فتأمل
وقرأ أبو جعفر ولم ترقب بضم التاء وكسر القاف مضارع ارقب قال استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم باسناد الفساد إلى السامرى واعتذار هرون عليه السلام كأنه قيل : لماذا صتع موسى عليه السلام بعد سماع ما حكى من الاعتذارين واستقرار اصل الفتنة السامري فقيل قال موبخا له إذا كان الأمر هذا فما خطبك يا سامرى
95
- أي ما شأنك والأمر العظيم الصادر عنك وما سؤال عن السبب الباعث لذلك وتفيسر الخطب بذلك هو المشهور وفي الصحاح الخطب سبب الأمر
وقال بعض الثقات : هو في الأصل مصدر خطب الأمر إذا طلبه فاذا قيل لمن يفعل شيئا : ما خطبك فمعناه ما طلبك له وشاع في الشأن والأمر العظيم لأنه يطلب ويرغب فيه واختير في الآية تفسيره بالأصل ليكون الكلام عليه ابلغ حيث لم يسأله عليه السلام عما صدر منه ولا عن سببه بل عن سبب طلبه وجعل الراغب الأصل لهذا الشاعر الخطب بمعنى التخاطب أي المراجعه في الكلام واطلق عليه لأن الأمر العظيم يكثر فيه التخاطب وجعل في الأساس الخطب بمعنى الطلب مجازا فقال : ومن المجاز فلان يخطب عمل كذا يطلبه وما خطبك ما شأنك الذي تخطبه وفرق ابن عطيه بين الخطب والشأن بأن الخطب يقتضي انتهار ويستعمل في المكارح دون الشأن ثم قال فكانه قيل ما نحسك وما شؤمك وما هذا الخطب الذي جاء منك انتهى
وليس ذلك بمطرد فقد قال ابراهيم عليه السلام للملائكة عليهم السلام : فما خطبكم ايها المرسلون ولا يتإتى فيه ما ذكر
وزعم بعض من جعل اشتقاقه من الخطب أن المعنى ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت
وفعلت معهم ما فعلت وليس بشئ وخطابه عليه السلام إياه بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالا للمفتونين ولمن خلفهم من الأمم
قال أي السامري مجيبا له عليه السلام بصرت بما لم يبصروا به بضم الصاد فيهما أي علمت ما لم يعلمه القوم وفطنت لما لم يفطنوا له قال الزجاج يقال : بصر بالشئ إذا علمه وابصر إذا نظر وقيل : بصره وابصره بمعنى واحد وقال الراغب : البصر يقال : للجارحة الناظرة وللقوة التي فيها ويقال : لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر ويقال من الأول ابصرت ومن الثاني ابصرته وبصرت به وقلما يقال : بصرت في الحاسة إذا لم يضامه رؤية القلب اه
(16/252)

وقرأ الأعمش وابو السمال بصرت بكسر الصاد بما لم يبصروا بفتح الصاد وقرأ عمرو بن عبيد بصرت بضم الباء وكسر الصاد بما لم تبصروا بضم التاء المثناة من فوق وفتح الصاد على البناء للمفعول
وقرأ الكسائي وحمزة وابو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبى ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنب بما لم تبصروا بالتاء الفوقانية المفتوحة وبضم الصاد والخطاب لموسى عليه السلام وقومه وقيل : له عليه السلام وحده وضمير الجمع للتعظيم كما قيل في قوله تعالى رب ارجعون وهذا منقول عن قدماء النحاة وقد صرح به الثعالبي في سر العربية فما ذكره الرضى من أن التعظيم إنما يكون في ضمير المتكلم مع الغير كفعلنا غير مرتضى وان تبعه كثير وادعى بعضهم أن الأنسب بما سياتي أن شاء الله تعالى من قوله : وكذلك سولت لي نفسي تفسير بصر برأى لا سيما على القراءة بالخطاب فان ادعاء علم ما لم يعلمه موسى عليه السلام جراءة عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاء رؤية ما لم يره عليه السلام فانه مما يقع بحسب ما يتفق وقد كان فيما أخرج لبن جرير عن ابن عباس رأى جبريل عليه السلام يوم فلق البحر على فرس فعرفه لما أنه كان يغذوه صغيرا حين خافت عليه امه فالقته في غار فاخذ قبضة من تحت حافر الفرس والقى في روعه أنه لا يليقها على شئ فيقول : كن كذا إلا كان
وعن علي كرم الله وجهه أنه رآه عليه السلام راكبا على فرس حين جاء ليذهب بموسى عليهما السلام إلى الميقات ولم يره أحد غيره من قوم موسى عليه السلام فأخذ من موط فرسه قبضة من التراب وفي بعض الآثار أنه رآه كلما رفع يديه أو رجليه على التراب اليبس يخرج النبات فعرف أن له شأنا فاخذ من موطئه حفنة وذلك قوله تعالى فقبضت قبضة من اثر الرسول أي من اثر فرس الرسول وكذا قرأ عبد الله فالكلام على حذف مضاف كما عليه اكثر المفسرين واثر الفرس التراب الذي تحت حافره وقيل : لا حاجة إلى تقدير مضاف لأن اثر فرسه اثره عليه الاسلام
ولعل ذلك جبريل عليه السلام بعنوان الرسالة لأنه لم يعرفه إلا بهذا العنوان أو للاشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم من الأسرار الالهية تأكيدا لما صدر به مقالته والتنبيه كما قيل على وقت اخذ ما اخذه
والقبضة المرة من القبض اطلقت على المقبوض مرة وبذلك يرد على القائلين بأن المصدر الواقع كذلك لا يؤنث بالتاء فيقولون : هذه حلة نسيج اليمن ولا يقولون : نسجة اليمن والجواب بأن الممنوع إنما هو التاء الدالة على التحديد لا على مجرد التأنيث كما هنا والمناسب على هذا أن لا تعتبره المرة كما لا يخفى
وقرأ عبد الله وابى وابن الزبير والحسن وحميد قبصت قبصة بالصاد فيهما وفرقوا بين القبض بالضاد المعجمة والقبص بالصاد بأن الأول الأخذ بجميع الكف والثاني الأخذ باطراف الأصابع ونحوهما الخضم بالخاء للاكل بجميع الفم والقضم بالقاف للاكل باطراف الاسنان وذكر أن ذلك مما غير لفظه لمناسبة معناه فان الضاد المعجمة للثقل واستطالة مخرجها جعلت فيما يدل على الأكثر والصاد لضيق محلها وخفائه جعلت فيما يدل على القليل
وقرأ الحسن بخلاف عنه وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة وهو اسم للمقبوض كالمضغة اسم للممضوغ فنبذتها أي القيتها في الحلى المذهب وقيل : في جوف العجل فكان ما كان
(16/253)

وكذلك سولت لى نفسى
96
- أي زينته وحسنته إلى الأشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد وذلك على حد قوله تعالى وكذلك جعلناكم امة وسطا وحاصل جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء لا لشئ أخر من البرهان العقلي أو النقلي أو من الالهام الالهى هذا ثم ما ذكر من تفسير الآية هو المأثور عن الصحابة والتابعين رضى الله تعالى عنهم وتبعهم جل اجلة المفسرين وقال أبو مسلم الأصبهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام واثره سنته ورسمه الذي أمر به ودرج عليه فقد يقول الرجل : فلان يقفو اثر فلان ويقتص اثره إذا كان يمتثل رسمه وتقرير الآية على ذلك أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامرى باللوم والمسئلة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من اثرك أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها ولم اتمسك بها وتعبيره عن موسى عليه السلام بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الامير ما قول الامير في كذا ويكون اطلاق الرسول منه عليه عليه السلام نوعا من التهكم حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون انتهى وانتصر له بعضهم بأنه اقرب إلى التحقيق ويبعد قول المفسرين أن جبريل عليه السلام ليس معهودا باسم الرسول ولم ير له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر وان ما قولوه لا بد له من تقدير المضاف والتقدير خلاف الأصل وان احتصاص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين سائر الناس بعيد جدا وايضا كيف عرف أن اثر حافر فرسه يؤثر هذا الأمر الغريب العجيب من حياة الجماد وصيرورته لحما ودما على أنه لو كان كذلك لكان الاثر نفسه أولى بالحياة وايضا متى اطلع كافر على تراب هذا شأنه فلقلئل أن يقول لعل موسى عليه السلام اطلع شئ آخر يشبه هذا فلاجله اتى بالمعجزات فيكون ذلك فيما أتى به المرسلون عليهم السلام من الخوارق وابضا يبعد الكفر والاقدام على الاضلال بعد أن عرف نبوة موسى عليه السلام بمجئ هذا الرسول الكريم اليه انتهى
وأجيب بأنه قد عهد في القرآن الكريم اطلاق الرسول على جبريل عليه السلام فقد قال سبحانه إنه لقول رسول كريم وعدم جريان ذكر له فيما تقدم لا يمنع من أن يكون معهودا ويجوز أن يكون اطلاق الرسول عليه عليه السلام شائعا في بني اسرائيل لا سيما إن قلنا بصحة ما روى أنه عليه السلام كان يغذي من يلقى من اطفالهم في الغار في زمان قتل فرعون لهم وبان تقدير المضاف في الكلام اكثر من أن يحصى وقد عهد ذلك في كتاب الله تعالى غير مرة وبان رؤيته جبريل عليه السلام دون الناس كان ابتلاء منه تعالى ليقضى الله تعالى امرا كان مفعولا وبان معرفته تأثير ذلك الاثر ما ذكر كانت لما القى في روعه أنه لا يلقيه على كل شئ فيقول كن كذا إلا كان كما في خبر ابن عباس أو كانت لما شاهد من خروج النبات بالوطء كما في بعض الآثار ويحتمل أن يكون سمع ذلك من موسى عليه السلام وبان ما ذكر في أولوية الاثر نفسه بالحياة غير مسلم إلا ترى أن الاكسير يجعل ما يلقى هو عليه ذهبا ولا يكون هو بنفسه ذهبا وبان المعجزة مقرونة بدعوى الرسالة من الله تعالى والتحدي وقد قالوا : متى ادعى أحد الرسالة واظهر الخارق وكان لسبب خفي يجهله المرسل اليهم قيض الله تعالى ولا بد من يبين حقيقة
(16/254)

ذلك باظهار مثله غير مقرون بالدعوى أو نحو ذلك أو جعل المدعى بحيث لا يقدم على فعل ذلك الخارق بذلك السبب بأن يسلب قوة التاثير أو نحو ذلك لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون له عز و جل الحجة البالغة وجوزوا ظهور الخارق لا عن سبب خفى على يد مدعى الالوهية لأن كذبه ظاهر عقلا ونقلا ولا تتوقف اقامة الحجة على تكذيبه بنحو ما تقدم وبان ما ذكر من بعد الكفر والاضلال من السامري بعد أن عرف نبوة موسى عليه السلام في غاية السقوط فقد قال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم وليس كفر السامري بابعد من كفر فرعون وقد رأى ما رأى ويرد على ما ذكره أبو مسلم مع مخالفته للماثور عن خير القرون مما لا يقال مثله من قبل الرأى فله حكم المرفوع أن التعبير عن موسى عليه السلام بلفظ الغائب بعيد وارادة وقد كنت قبضت قبضة الخ من النظم الكريم ابعد وان نبذ ما عرف أنه ليس بحق لايعد من تسويل النفس في شئ فلا يناسب ختم جوابه بذلك فزعم أن ما ذكره اقرب إلى التحقيق باطل عند ارباب التدقيق
وزعمت اليهود أن ما القاه السامري كان قطعه من الحلي منقوشا عليها بعض الطلسمات وكان يعقوب عليه السلام قد علقها في عنق يوسف عليه السلام إذ كان صغيرا كما يعلق الناس اليوم في اعناق اطفالهم التمائم وربما تكون من الفضة منقوشا عليها شئ من الآيات أو الأسماء أو الطلسمات وقد ظفر بها من حيث ظفر فنبذها مع حلي بني اسرائيل فكان ما كان لخاصية ما نقش عليها فيكون على هذا قد اراد بالرسول رسول بني اسرائيل في مصر من قبل وهو يوسف عليه السلام ولم يجئ عندنا خبر صحيح ولاضعيف بل ولا موضوع فيما زعموا نعم جاء عندنا أن يعقوب كان قد جعل القميص المتوارث في تعويذ وعلقه في عنق يوسف عليه السلام
وفسر بعضهم بذلك قوله تعالى اذهبوا بقميصى هذا الخ وما اغفل أولئك البهت عن زعم أن الاثر هو ذلك القميص فانه قد عهد منه ماتقدم في احسن القصص في قوله تعالى اذهبوا بقميصى هذا فالقوه على وجه أبى يات بصيرا فبين معافاة المبتلي وحياة الجماد مناسبة كلية فهذا الكذب لو ارتكبوه لربما كان اروج قبولا عند امثال الأصبهاني الذين ينبذون ما روى عن الصحابة مما لا يقال مثله بالرأى وراء ظهورهم نعوذ بالله تعالى من الضلال
قال استئناف كما مر غير مرة أي قال موسى عليه السلام إذا كان الأمر كما ذكرت فاذهب أي من بين الناس وقوله تعالى فأن لك في الحيوة إلى اخرة تعليل بمووجب الأمر و في متعلق باستقرار العامل في لك أي ثابت لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالا من الكاف والعامل معنى الأستقرار والمذكور أيضا لاعتماده على ما هو مبتدأ معنى اعني قوله تعالى ان تقول لا مساس ولم يجوز تعلقه بتقول لمكان انا وقد تقدم آنفا عذر من يعلق الظرف المتقدم بما بعدها ولا يظهر ما يشفى الخاطر في وجه تعليق العلامة ابي السعود إذ في قوله تعالى ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني فيما بعد أن وعد تجويز تعليق في الحياة فيما بعدها أي إن لك مدة حياتك أن تفارق الناس مفارقة كلية لكن لا بحسب الأختيار بموجب التكليف بل بحسب الاضطرار الملجئ اليها وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام لا يكاد يمس أحد أو يمسه أحد كائنا من كان الاحم من ساعته حمى شديدة فتحامى الناس وتحاموه وكان يصيح باقصى صوته لا مساس وحرم عليه ملاقاته ومكالمته ومؤاكلته ومبايعته وغير ذلك مما يعتاد جريانه فيما بين الناس من المعاملات
(16/255)

وصار بين الناس اوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم ومن الوحشي النافر في البيداء وذكر أنه لزم البرية وهجر البرية وذكر الطبرسي عن ابن عباس أن المراد أن لك ولولدك أن تقول الخ وخص عرو الحمى بما إذا كان الماس اجنبيا وذكر أن بقايا ولده باق فيهم تلك الحال إلى اليوم وقيل : ابتلى بالوسواس حين قال له موسى عليه السلام ذلك وعليه حمل قول الشاعر : فاصبح ذلك كالسامري إذ قال موسى له لا مساسا وأنكر الجبائي ما تقدم من حديث عروالحمى عند المس وقال : إنه خاف وهرب وجعل يهيم في البرية لا يجد احدا من الناس يمسه حتى صار لبعده عن الناس كالقائل لا مساس وصحح الأول والمساس مصدر ماس كقتال مصدر قاتل وهو منفي بلا التي لنفي الجنس واريد بالنفي النهي أي لا تمسني ولا امسك وقرأ الحسن وابو حيوة وابن ابي عبلة وقعنب لا مساس بفتح الميم وكسر السين آخره وهو بوزن فجار ونحوه قولهم في الضباء أن وردة الماء فلا عباب وان فقدته فلا اباب وهي كما قال الزمخشري وابن عطية اعلام للمسة والعبة والابة وهي المرة من الأب أي الطلبى ومن هذا قول الشاعر : تميم كرهط السامري وقوله إلا لا يريد السامري مساس ولا على هذا ليست النافية للجنس لأنها مختصة بالنكرات وهذا معرفة من أعلام الأجناس ولا داخل معنى عليه فان المعنى لا يكون اولا يكن منك مسلما وهذا أولى من أن يكون المعنى لا اقول مساس
وظاهر كلام ابن جني أنه اسم فعل كنزال والمراد نفي الفعل أي لا امسك والسر في عقوبته على جنايته بما ذكر على ما قيل : إنه ضد ما قصده من اظهار ذلك ليجتمع عليه الناس ويعززوه فكان سببا لبعدهم عنه وتحقيره وصار لديهم أبغض من الطلياء وأهون من معبأة
وقيل : لعل السر في ذلك ما بينهما من مناسبة التضاد فانه لما أنشأ الفتنه بما كانت ملابسته سببا لحياة الموات عوقب بما يضاده حيث جعلت ملابسته سببا للحمى التي هي من اسباب موت الأحياء وقيل : عوقب بذلك ليكون الجزاء من جنس العمل حيث نبذ فنبذ فان ذلك التحامى اشبه شيئا بالنبذ وكانت هذه العقوبة على ما في البحر باجتهاد من موسى عليه السلام وحكى فيه القول بأنه اراد قتله فمنعه الله تعالى عن ذلك لأنه كان سخيا وروى ذلك عن الصادق رضى الله تعالى عنه وعن بعض الشيوخ أنه قد وقع ما يقرب من ذلك في شرعنا في قضية الثلاثة الذين خلفوا فقد أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا يكلموا ولا يخالطوا وان يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله تعالى عليهم ومذهب الأمام ابي حنيفة رضى الله تعالى عنه في القاتل اللاجئ إلى الحرم نحو ذلك ليضطر إلى الخروج فيقتل في الحل وإن لك موعدا أي في الآخرة لن تخلفه أي لن يخلفك الله تعالى ذلك الوعد بل ينجزه لك البتة بعد ما عاقبك في الدنيا
وقرأ ابن كثير وابو عمرو والأعمش بضم التاء وكسر اللام على البناء للفاعل على أنه من اخلفت الموعد إذا وجدته خلفا كاجبنته إذا وجدته جبانا وعلى ذلك قول الأعشى : اثوى وقصر ليله ليزودا فمضى واخلف من قتيلة موعدا وجوز أن يكون التقدير لن تخلف الواعد إياه فحذف المفعول الأول وذكر الثاني لأنه المقصود والمعنى
(16/256)

لن تقدر أن تجعل الواعد مخلفا لوعده بل سيفعله ونقل ابن خالويه عن ابن نهيك أنه قرأ لن تخلفه بفتح التاء المثناة من فوق وضم اللام وفي اللوامح أنه قرئ لن يخلفه بفتح الياء المثناة من تحت وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده قيل : المعنى على الرواية الأولى وان لك موعدا لا بد أن تصادفه وعلى الرواية الثانية وان لك موعدا لا يدفع قول لا مساس فافهم
وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه لن نخلفه بالنون المفتوحة وكسر اللام على أن ذلك حكاية قول الله عز و جل وقال ابن جني : أي لن نصادفه خلفا فيكون من كلام موسى عليه السلام لا على سبيل الحكاية وهو ظاهر لو كانت النون مضمومة وانظر إلى إلهكك أي معبودك الذى ظلت أي ظللة كما قرأ بذلك ابي والأعمش فحذفت اللام الأولى تخفيفا ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذا الحذف من شذوذ القياس ولا يكون ذلك إلا إذا سكن آخر الفعل وعن بعض معاصريه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث سكن آخر الفعل وقال بعضهم : إنه مقيس في المضاعف إذا كانت عينه مكسورة أو مضمومة
وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وابو حيوة وابن ابي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه أيضا ظلت بكسر الظاء على أنه نقل حركة اللام اليها بعد حذف حركتها وعن ابن يعمر أنه ضم الظاء وكانه مبني على مجئ الفعل في بعض الكلمات على فعل بضم العين وحينئذ يقال بالنقل كما في الكسر عليه أي على عبادته عاكفا أي مقيما وخاطبه عليه السلام دون سائر العاكفين على عبادته القائلين : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى لأنه رأس الضلال ورئيس أولئك الجهال لنحرقنه جواب قسم محذوف أي بالله تعالى لنحرقنه بالنار كما أخرج ذلك ابن المنذر وابن ابي حاتم عن ابن عباس ويؤيده قراءة الحسن وقتادة وابي جعفر في رواية وابي رجاء والكلبي لنحرقنه مخففا من احرق رباعيا فان الاحراق شائع فيما يكون وهذا ظاهر في أنه صار ذا لحم ودم وكذا ما في مصحف ابي وعبد الله لنذبحنه ثم لنحرقنه
وجوز أبو علي أن يكون نحرق مبالغة في حرق الحديد حرقا بفتح الراء إذا برده بالمبرد ويؤيده قراءة علي كرم الله تعالى وجهه وحميد وعمرو بن فايد وابي جعفر في رواية وكذا ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لنحرقنه بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء فان حرق يحرق بالضم مختص بهذا المعنى كما قيل وهذا ظاهر في أنه لم يصر ذا لحم ودم بل كان باقيا على الجمادية
وزعم بعضهم أنه لا بعد على تقدير كونه حيا في تحريقه بالمبرد إذ يجوز خلق الحياة في الذهب مع بقائه على الذهبية عند أهل الحق وقال بعض القائلين بأنه صار حيوانا ذا لحم ودم : أن التحريق بالمبرد كان للعظام وهو كما ترى وقال النسفي تفريقه بالمبرد طريق تحريقه بالنار فانه لا يفرق الذهب إلا بهذا الطريق وجوز على هذا أن يقال : أن موسى عليه السلام حرقه بالمبرد ثم احرقه بالنار وتعقب بأن النار تذبيه وتجمعه ولا تحرقه وتجعله رمادا فلعل ذلك كان بالحيل إلا كسيرية أو نحو ذلك ثم لننسفنه أي
(16/257)

لنذرينه وقرأت فرقة منهم عيسى بضم السين وقرأ ابن مقسم لننسفنه بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين غي اليم أي في البحر كما أخرج ذلك ابن ابي حاتم عن ابن عباس
وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسره بالنهر وقوله تعالى نسفا
97
- مصدر مؤكد أي لنفعلن به ذلك بحيث لا يبقى منه عين ولا اثر ولا يصادف منه شئ فيؤخذ ولقد فعل عليه السلام ما اقسم عليه كله كما يشهد به الأمر بالنظر زانما لم صرح به تنبيها على كمال ظهوره واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين وفي ذلك زيادة عقوبة للساري واظهار لغباوة المفتتنين وقال في البحر بيانا لسر هذا الفعل : يظهر أنه لما كان قد اخذ السامري القبضة من اثر فرس جبريل عليه السلام وهو داخل البحر ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه من الحلي الذي كان اصله للقبط والقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيها على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم والقى في محل ما قامت به الحياة وان اموال القبط قذفها الله تعالى في البحر لا ينتفع بها كما قذف سبحانه اشخاص مالكيها وغرقهم فيه ولا يخفى ما فيه
إنما إلهكم الله استئناف مسوق لتحقيق الحق اثر ابطال الباطل بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل أي إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله عز و جل الذي لا إله إلا هو وحده من غير أن يشاركه شئ من الأشياء بوجه من الوجوه التي من جملتها احكام الالوهية وقرأ طلحة الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم رب العرش وسع كل شئ علما
98
- أي وسع علمه كل ما كن شأنه أن يعلم فالشئ هنا شامل للموجود والمعدوم وانتصب علما على التمييز المحول عن الفاعل والجملة بدل من الصلة كأنه قيل : إنما الهكم الذي وسع كل شئ علما لا غيره كائنا ما كان فيدخل فيه العجل الذي هو مثل في الغباوة دخولا أوليا
وقرأ مجاهد وقتادة وسع بفتح السين مشددة فيكون انتصاب علما على أنه مفعول ثان ولما كان في القراءة الأولى فاعلا معنى صح نقله بالتعدية إلى المفعولية كما تقول في خاف زيد عمرا : خوفت زيدا عمرا أي جعلت زيدا يخاف عمرا فيكون المعنى هنا على هذا جعل علمه يسع كل شئ لكن انت تعلم أن الكلام ليس على ظاهره لأن علمه سبحانه غير مجعول ولا ينبغي أن يتوهم أن اقتضاء الذات له على تقدير الزيادة جعلا وبهذا تم حديث موسى عليه السلام وقوله تعالى كذلك نقص عليك كلام مستانف خوطب به النبي صلى الله عليه و سلم بطريق الوعد الجميل بتنزيل أمثال ما مر من أنباء الأمم السالفة والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أو الكاف في محل نصب صفة لذلك المصدر أي نقص عليك من انباء ما قد سبق من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية قصا كائنا كذلك القص المار أو قصا مثل ذلك والتقديم للقصر المفيد لزيادة التعيين أي كذلك لا ناقصا عنه و من في من انباء أما متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول أي نقص عليك نبأ أو بعضا كائنا من انباء
وجوز أن يكون في حيز النصب على أنه مفعول نقص باعتبار مضمونه أي نقص بعض أنباء وتأخيره عن عليك لما مر غير مرة من الأعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ويجوز أن يكون كذلك نقص مثل قوله تعالى كذلك جعلناكم امة وسطا على أن الأشارة إلى مصدر الثاني المذكور بعد وقد مر تحقيق ذلك
(16/258)

وفائدة هذا القص توفير علمه عليه الصلاة و السلام وتكثير معجزاته وتسليته وتذكرة المستبصرين من امته صلى الله عليه و سلم وقد إتيناك من لدنا ذكرا
99
- كتابا منطويا على هذه الاقاصيص والأخبار حقيقا بالتذكر والتفكر فيه والأعتبار و من متعلق بآتيناك وتنكير ذكرا للتفخيم وتاخيره عن الجار والمجرور لما أن مرجع الافادة في الجملة كون المؤتى من لدنه تعالى ذكرا عظيما وقرآنا كريما جامعا لكل كمال لا كون ذلك الذكر مؤتى من لدنه عز و جل مع ما فيه من نوع طول بما بعده من الصفة
وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من ذكرا وليس بذاك وتفسير الذكر بالقران هو الذي ذهب اليه الجمهور وروى عن ابن زيد وقال مقاتل : أي بيانا ومآله ما ذكر وقال أبو سهل : أي شرفا وذكرا في الناس ولا يلائمه قوله تعالى من اعرض عنه إذ الظاهر أن ضمير عنه للذكر والجملة في موضع الصفة له ولا يحسن وصف الشرف أو الذكر في الناس بذلك وقيل : الضمير لله تعالى على سبيل الالتفات وهو خلاف الظاهر جدا و من إما شرطية أو موصوله أي من اعرض عن الذكر العظيم الشأن المستتبع لسعادة الدارين ولم يؤمن به فانه أي المعرض عنه يحمل يوم القيمة وزرا
100
- أي عقوبة ثقيلة على إعراضه وسائر ذنوبه
والوزر في الأصل يطلق على معنيين الحمل الثقيل والأثم وإطلاقه على العقوبه نظرا إلى المعنى الأول على سبيل الاستعارة المصرحة حيث شبهت العقوبة بالحمل الثقيل ثم استعير لها بقرينه ذكر يوم القيامة ونظرا إلى المعنى الثاني على سبيل المجاز المرسل من حيث أن العقوبة جزاء الاثم فهي لازمة له أو مسببة والأول هو الأنسب بقوله تعالى فيما بعد وساء الخ لأنه ترشيح له ويؤيده قوله تعالى في آية اخرى وليحملن اثقالهم وتفسير الوزر بالاثم وحمل الكلام على حذف المضاف أي عقوبة أو جزاء إثم ليس بذاك وقرأت فرقة منهم داود ابن رفيع يحمل مشدد الميم مبنيا للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعا ويكون وزرا على هذا مفعول ثانيا خالدين فيه أي في الوزر المراد منه العقوبة
وجوز أن يكون الضمير لمصدر يحمل ونصب خالدين على الحال من المستكن في يحمل والجمع بالنظرالى معنى من لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها كما أن الأفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثة بالنظر إلى لفظها وساءلهم يوم القيمة حملا
101
- أن شأن للذم على أن ساء فعل ذم بمعنى بئس وهو أحد معنييه المشهورين وفاعله على هذا هنا مستتر يعود على حملا الواقع تمييز إلا على وزرا لأن فاعل بئس لا يكون إلا ضميرا مبهما يفسره التمييز العائد هو اليه وإن تأخر لأنه من خصائص هذا الباب والمخصوص بالذم محذوف والتقدير ساء حملهم حملا وزرهم ولام لهم للبيان كما في سقياله وهيت لك وهي متعلقة بمحذوف كأنه قيل : لمن يقال هذا فقيل : هو يقال لهم وفي شأنهم وإعادة يوم القيامة لزيادة التقرير وتهويل الأمر وجوز أن يكون ساء بمعنى احزن وهو المعنى الآخر من المعنيين والتقدير على ما قيل واحزنهم الوزر حال كونه حملا لهم
وتعقبه في الكشف بأنه أي فائدة فيه والوزر ادل على الثقل من قيده ثم التقييد بلهم مع الاستغناء عنه وتقديمه الذي لا يطابق المقام وحذف المفعول وبعد هذا كله لا يلائم ما سبق له الكلام ولا مبالغة في الوعيد
(16/259)

بذلك بعد ما تقدم ثم قال : وكذلك ما قاله العلامه الطيبي من أن المعنى واحزنهم حمل الوزر على أن حملا تمييز واللام في لهم للبيان لما ذكر من فوات فخامة المعنى وان البيان أن كان لاختصاص الحمل بهم ففيه غنية وإن كان لمحل الاحزان فلا كذلك طريق بيانه وإن كان على أن هذا الوعيد لهم فليس موقعه قبل يوم القيامة وان المناسب حينئذ وزرا ساء لهم حملا على الوصف لا هكذا معترضا مؤكدا انتهى ولا مجال لتوجيه الاتيان باللام إلى اعتبار التضمين لعدم تحقق فعل مما يلائم الفعل المذكور مناسبا لها لانها ظاهرة في الأختصاص النافع والفعل في الحدث ضار والقول بازديادها كما في ردف لكم أو الحمل على التهكم تمحل لتصحيح اللفظ من غير داع اليه ويبقى معه أمر فخامة المعنى والحاصل أن ما ذكر لا يساعده اللفظ ولا المعنى وجوز أن يكون ساء بمعنى قبح فقد ذكر استعماله بهذا المعنى وان كان في كونه معنى حقيقيا نظر و حملا تمييزا و لهم حالا و يوم القيامة متعلقا بالظرف أي قبح ذلك الوزر من جهة كونه حملا لهم في القيامة وفيه ما فيه
يوم ينفخ في الصور منصوب باضمار اذكر وجوز أن يكون ظرف المضمر حذف للايذان بضيق العبارة عن حصره وبيانه أو بدلا من يوم القيامة أو بيانا له أو ظرفا ليتخافتون وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد ننفخ بنون العظمة على اسناد الفعل إلى الأمر به وهو الله سبحانه تعظيما للنفخ لأن ما يصدر من العظيم عظيم أو للنافخ بجعل فعله بمنزلة فعله تعالى وهو إنما يقال لمن له مزيد اختصاص وقرب مرتبة وقيل : إنه يجوز أن يكون لليوم الواقع هو فيه وقرئ ينفخ بالياء المفتوحة على أن ضميره لله عزوجل أو لاسرافيل عليه السلام وإن لم يجر ذكره لشهرته وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة في الصور بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة كغرفة وغرف والمراد به الجسم المصور واورد أن النفخ يتكرر لقوله تعالى ثم نفخ فيه اخرى والنفخ في الصورة احياء والأحياء غير متكرر بعد الموت وما في القبر ليس بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق
وأجيب بأنه لانسلم أن كل نفخ احياء وبعضهم فسر الصور على القراءة المشهورة بذلك ايضا والحق تفسيره بالقرن الذي ينفخ فيه ونحشر المجرمين يومئذ أي يوم إذ ينفخ في الصور وذكر ذلك صريحا مع تعين أن الحشر لايكون إلا يوئذ للتهويل وقرأ الحسن يحشر بالياء والبناء للمفعول و المجرمون بالرفع على النيابةعن الفاعل وقرئ ايضا يحشر بالياء والبناء للفاعل وهو ضميره عز و جل أي ويحشر الله تعالى المجرمين زرقا
102
- حال كونهم زرق الابدان وذلك غاية في التشويه ولاتزرق الابدان إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما زرق العيون فهو وصف للشئ بصفة جزئه كما يقال غلام اكحل واحول والكحل والحول من صفات العين ولعله مجاز مشهور وجوز أن يكون حقيقة كرجل اعمى وإنما جعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وابغضها إلى العرب فان الروم الذين كانوا اشد اعدائهم عداوة زرق ولذلك قالوا في وصف العدو أسود الكبد اصهب السبال أزرق العين وقال الشاعر : وما كنت اخشى أن تكون وفاته بكفى سبنتى أزرق العين مطرق وكانوا يهجون بالزرقة كما في قوله : لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر الاكل ضبى من اللؤم أزرق وسئل ابن عباس عن الجمع بين زرقا على ما روى عنه وعميا في آية أخرى فقال : ليوم القيامة حالات
(16/260)

فحالة يكونون فيها عميا وحاله يكونون فيها زرقا وعن الفراء المراد من زرقا عميا لأن العين إذا ذهب نورها ازرق ناظرها ووجه الجمع عليه ظاهر وعن الأزهري المراد عطاشا لأن العطش الشديد يغير سواد العين فيجعله كالأزرق وقيل : يجعله أبيض وجاء الأزرق بمعنى الأبيض ومنه سنان ازرق وقوله :
فلما وردنا الماء زرقا جمامه
ويلائم تفسيره بعطاشا قوله تعالى على ما سمعت ونحشر المجرمين إلى جهنم وردا
يتخافتون بينهم أي يخضون أصواتهم ويخفونها لشدة هول المطلع والجملة استئناف لبيان ما يأتون وما يذرون حينئذ أو حال اخرى من المجرمين وقوله تعالى : إن لبثتم بتقدير قول وقع حالا من ضمير يتخافتون أي قائلين ما لبثتم في القبور إلا عشرا
103
- أي عشر ليال أو عشرة ايام ولعله أوفق بقول الأمثل
والمذكر إذا حذف وأبقى عدده قد لايؤتى بالتاء حكى الكسائي صمنا من الشهر خمسا ومنه ماجاء في الحديث ثم أتبعه بست من شوال فان المراد ستة أيام وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة ومرادهم من هذا القول استقصار المدة وسرعة انقضائها والتنديم على ما كانوا يزعمون حيث تبين الأمر على خلاف ماكانوا عليه من إنكار البعث وعده من قبيل المحالات كأنهم قالوا : قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة وقد كنتم تزعمون انكم لن تقوموا منه ابدا وعن قتادة انهم عنوا لبثهم في الدنيا وقالوا ذلك استقصارا لمدة لبثهم فيها لزوالها ولاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وأيقنوا أنهم استحقوها على إضاعة الايام في قضاء الاوطار واتباع الشهوات وتعقب بانهم في شغل شاغل عن تذكر ذلك فالأوفق بحالهم ما تقدم وبان قوله تعالى : لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث صريح في أنه اللبث في القبور وفيه بحث
وفي مجمع البيان عن ابن عباس وقتادة انهم عنوا لبثهم بين النفختين يلبثون اربعين سنة مرفوعا عنهم العذاب نحن أعلم بما يقولون أي بالذي يقولونه وهو مدة لبثهم إذ يقول امثلهم طريقة أي اعدلهم رأيا وأرجحهم عقلا و إذ ظرف يقولون إن لبثتم إلا يوما
104
- واحدا واليه ينتهى العدد في القلة
وقيل : المراد باليوم مطلق الوقت وتنكيره للتقليل والتحقير فالمراد إلا زمنا قليلا وظاهر المقابلة بالعشر يبعده ونسبة هذا القول إلى امثلهم استرجاح منه تعالى له لكن لا لكونه اقرب إلى الصدق بل لكونه اعظم في التنديم أو لكونه ادل على شدة الهول وهذا يدل على كون قائله أعلم بفظاعة الأمر وشدة العذاب
ويسألونك عن الجبال السائلون منكرو البعث من قريش على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قالوا على سبيل الاستهزاء كيف يفعل ربك بالجبال يوم القيامة وقيل : جماعة من ثقيف وقيل : أناس من المؤمنين فقل ينسفها ربى نسفا
105
- يجعلها سبحانه كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها والفاء للمسارعة إلى إزالة ما في ذهن السائل من بقاء الجبال بناء على ظن أن ذلك من توابع عدم الحشر إلا ترى أن منكرى الحشر يقولون بعدم تبدل هذا النظام المشاهد في الأرض والسموات أو للمسارعة إلى تحقيق الحق حفظا من أن يتوهم ما يقضى بفساد الأعتقاد
وهذا مبني على أن السائل من المؤمنين والأول على أنه من منكرى البعث ومن هنا قال الأمام : إن مقصود السائلين الطعن في الحشر والنشر فلا جرم أمر صلى الله عليه و سلم بالجواب مقرونا بحرف التعقيب لأن تأخير البيان في
(16/261)

هذه المسئلة الأصولية غير جائز وأما تاخيره في المسائل الفروعية فجائز ولذا لم يؤت بالفاء في الأمر بالجواب في قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير الآية وقوله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وقوله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول وقوله سبحانه يسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير إلى غير ذلك وقال في موضع آخر : إن السؤال المذكور أما عن قدم الجبال أو عن وجوب بقائها وهذه المسئلة من أمهات مسائل اصول الدين فلا جرم أمر صلى الله عليه و سلم أن يجيبه بالفاء المفيدة للتعقيب كأنه سبحانه قال : يا محمد اجب عن هذا السؤال في الحال من غير تاخير لأن القول بقدمها أو وجوب بقائها كفر ودلالة الجواب على نفي ذلك من جهة أن النسف ممكن لأنه ممكن في كل جزء من اجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكنا في حق كل الجبل فليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف انتهى
واعترض بأن عدم جواز التغير والنسف إنما يسلم في حق القديم بالذات ولم يذهب أحد من السائلين إلى كون الجبال قديمة كذلك وأما القديم بالزمان فلا يمتنع عليه لذاته ذلك بل إذا امتنع فانما يمتنع لأمر آخر على أن في ظون الجبال قديمة بالزمان عند السائلين وكذا غيرهم من الفلاسفة نظرا بل الظاهر أن الفلاسفة قائلون بحدوثها الزماني وإن لم يعلموا مبدأ معينا لحدوثها فتامل ثم أنه ذكر رحمة الله تعالى أن السؤال والجواب قد ذكرا في عدة مواضع من كتاب الله تعالى منها فروعية ومنها اصولية والأصولية في اربعة مواضع في هذه الآية وقوله تعالى : يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس وقوله سبحانه : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وقوله عز و جل يسألونك عن الساعة أيان مرساها ولايخفى أن عد جميع ماذكر من الأصولية غير ظاهر وعلى تقدير ظهور ذلك في الجميع يرد السؤال عن سر اقتران الأمر بالجواب بالفاء في بعضها دون بعض
وكون مااقترن بالفاء هو الأهم في حيز المنع فان الأمر بالجواب عن السؤال عن الروح إن كان عن القدم ونحوه فمهم كالأمر بالجواب فيما نحن فيه بل لعله اهم منه لتحقق القائل بالقدم الزماني للروح بناء على انها النفس الناطقة كافلاطون واتباعه وقد يقال : لما كان الجواب هنا لدفع السؤال عن الكلام السابق اعني قوله تعالى : يتخافتون بينهم كأنه قيل كيف يصح تخافت المجرمين المقتضي لاجتماعهم والجبال في البين مانعة عن ذلك فمتى قلتم بصحته فبينوا كيف يفعل الله تعالى بها فأجيب بأن الجبال تنسف في ذلك الوقت فلا يبقى مانع عن الأجتماع والتخافت وقرن الأمر بالفاء للمسارعة إلى الذب عن الدعوة السابقة والآيات التى لم يقرن الأمر فيها بالفاء لم تسق هذا المساق كما لايخفى على ارباب الاذواق وقال النسفي وغيره الفاء في جواب شرط مقدر أي إذا سألوك عن الجبال فقل وهو مبني على أنه لم يقع السؤال عن ذلك كما وقع في قصة الروح وغيرها فلذا لم يؤت بالفاء ثمة وأتى به هنا فيسألونك متمحض للاستقبال واستبعد ذلك أبو حيان وما أخرجه ابن منذر عن ابن جريج من أن قريشا قالوا : يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت ويسألونك عن الجبال الآية يدل على خلافه وقال الخفاجي : الظاهر أنه لما قرن بها هنا ولم يقرن بها ثمة للاشارة إلى أن الجواب معلم له صلى الله عليه و سلم قبل ذلك فأمر عليه الصلاة و السلام بالمبادرة اليه بخلاف ذلك انتهى
وانت تعلم أن القول بأن الجواب عن سؤال الروح وعن سؤال المحيض ونحو ذلك لم يكن معلوما له صلى الله عليه و سلم قبل لم يتجاسر عليه أحد من عوام الناس فضلا عن خواصهم فما ذكره مما لاينبغي أن يلتفت اليه
(16/262)

ومما يضحك الثكلى أن بعض المعاصرين سمع السؤال عن سر اقتران الأمر هنا بالفاء وعدم اقترانه بها في الآيات الأخر فقال : ما اجهل هذا السائل بما يجوز وما لايجوز من المسائل أما سمع قوله تعالى لايسئل عما يفعل أما درى أن معناه نهى من يريد السؤال عن أن يسأل وادل من هذا على جهل الرجل أنه دون ما قال ولم يبال بما قيل ويقال ونقلى لذلك من باب التمحيض وتذكيرمن سلم من مثل هذا الداء بما من الله تعالى عليه من الفضل الطويل العريض وأمر الفاء في قوله تعالى فيذرها ظاهر جدا والضمير إما للجبال باعتبار اجزائها السافلة الباقية بعد النسف وهي مقارها ومراكزها أي فنذر ما انبسط منها وساوى سطحه سطوح سائر اجزاء الأرض بعد نسف مانتأ منها ونشز وأما للارض المدلول عليها بقرينة الحال لانها باقية بعد نسف الجبال وعلى التقديرين يذر سبحانه الكل قاعا صفصفا
106
- لأن الجبال إذا سويت وجعل سطحها مساويا لسطوح اجزاء الأرض فقد جعل الكل سطحا واحدا والقاع قيل : السهل وقال الجوهري : المستوى من الأرض ومنه قول ضرار بن الخطاب : لنكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في اكف الاماء وقال ابن الأعرابي : الأرض الملساء لانبات فيها ولابناء وحكى مكى أنه المكان المنكشف وقيل : المستوى الصلب من الأرض وقيل مستنقع الماء وليس بمراد وجمعه أقوع وأقواع وقيعان والصفصف الأرض المستوية الملساء كان أجزاءه صف واحد من كل جهة وقيل : الأرض التي لانبات فيها وعن ابن عباس ومجاهد جعل القاع والصفصف بمعنى واحد وهو المستوى الذي لانبات فيه وانتصابقاعا على الحالية من الضمير المنصوب وهو مفعول ثان ليذر على تضمين معنى التصيير وصفصفا إما حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني وقوله تعالى لاترى فيها أي مقار الجبال أو في الأرض على ما فصل عوجا ولا امتا
107
- استئناف مبين كيفية ما سبق من القاع الصفصف أو حال اخرى أو صفة لقاع والرؤية بصرية والخطاب لكل من يتأتى منه وعلقت بالعوج وهو كسر العين ما لايدرك بفتحها بل بالبصيرةلان المراد به ماخفى من الأعوجاج حتى احتاج إلى إثباته إلى المساحة الهندسية المدركة بالعقل فألحق بما هو عقلى صرف فاطلق عليه ذلك لذلك وهذا بخلاف العوج بفتح العين فانه مايدرك بفتحها كعوج الحائط والعود وبهذا فرق بينهما في الجمهرة وغيرها
واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لافرق بينهما وقال أبو عمرو : يقال لعدم الأستقامة المعنوية والحسية عوج بالكسر وأما العوج بالفتح فمصدر وصح الواو فيه لأنه منقوص من اعوج ولما صح في العقل صح في المصدر أيضا والأمت التنو والتنكير فيهما للتقليل وعن ابن عباس عوجا ميلا ولا أمتا أثر مثل الشراك وفي رواية اخرى عنه عوجا واديا ولاامتا رابية وعن قتادة عوجا صدعا ولاأمتا أكمة وقيل : الأمت الشقوق في الأرض وقال الزجاج : هو أن يغلظ مكان ويدق مكان وقيل : الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الريح والعوج في الأرض ختص بالعرض وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة
(16/263)

وقوله تعالى يومئذ أي يوم اذ تنسف الجبال على إضافة يوم إلى وقت النسف من اضافة العام إلى الخاص فلا يلزم أن يكون للزمان ظرف وان كان لامانع عنه عند من عرفه بمتجدد يقدر به متجدد آخر وقيل : هو من اضافة المسمى إلى الاسم كما قيل في شهر رمضان وهو ظرف لقوله تعالى يتبعون الداعى وقيل : بدل من يوم القيامة فالعامل فيه هو العامل فيه وفيه الفصل الكثير وفوات ارتباط يتبعون بما قبله وعليه فقوله تعالى : ويسألونك الخ استطراد معترض وما بعده استئناف وضمير يتبعون للناس والمراد بالداعى داعى الله عز و جل إلى المحشر وهو اسرافيل عليه السلام يضع الصور في فيه ويدعو الناس عند النفخة الثانية قائما على صخرة بيت المقدس ويقول : ايتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى العرض إلى الرحمن فيقبلون من كل صوب إلى صوته
وأخرج ابن ابي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : يحشر الله تعالى الناس يوم القيامة في ظلمة تطوى السماء وتتناثر النجوم ويذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه فذلك قوله تعالى : يومئذ يتبعون الداعى الخ وقال علي ابن عيسى : الداعى هنا الرسول الذي كان يدعوهم إلى الله عز و جل والأول اصح
لا عوج له أي للداعي على معنى لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه وهذا كما يقال : لا عصيان له أي لا يعصى ولا ظلم له أي لا يظلم واصله أن اختصاص الفعل بمتعلقه ثابت كما هو بالفاعل وقيل : أي لا عوج لدعاءه فلا يميل إلى ناس دون اناس بل يسمع جميعهم وحكى ذلك عن ابي مسلم
وقيل : هو على القلب أي لا عوج لهم عنه بل يأتون مقبلين اليه متبعين لصوته من غير انحراف وحكى ذلك عن الجبائي وليس بشئ والجملة في موضع الحال من الداعي أو مستانفة كما قال أبو البقاء وقيل : ضمير له للمصدر والجملة في موضع الصفة له أي اتباعا لا عوج له أي مستقيما وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون المعنى لا شك فيه ولا يخالف وجوده خبره وخشعت الاصوات للرحمن أي خفيت لمهابته تعالى وشدة هول المطلع وقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : سكنت والخشوع مجاز في ذلك وقيل : لا مجاز والكلام على حذف مضاف أي اصحاب الاصوات وليس بذلك فلا تسمع خطاب لكل من يصح منه السمع إلا همسا
108
- أي صوتا خفيا خافتا كما قال أبو عبيدة وعن مجاهد هو الكلام الخفي ويؤيده قراءة ابي فلا ينطقون إلا همسا وعن ابن عباس هو تحريك الشفاه بغير نطق واستبعد بأن ذلك مما يرى لا مما يسمع وفي رواية اخرى عنه أنه خفق الأقدام وروى ذلك عن عكرمة وابن جبير والحسن واختاره الفراء والزجاج ومنه قول الشاعر :
وهن يمشين بنا هميسا
وذكر أنه يقال للاسد الهموس لخفاء وطئه فالمعنى سكنت اصواتهم وانقطعت كلماتهم فلم يسمع منهم إلا خفق اقدامهم ونقلها إلى المحشر يومئذ أي يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة وهو ظرف لقوله تعالى : لا تنفع الشفاعة وجوز أن يكون بدلا من يوم القيامة أو من يومئذ يتبعمن والمراد لا تنفع الشفاعة من الشفعاء احدا إلا من اذن في الشفاعة
له الرحمن فالأستثناء من أعم المفاعيل و من مفعول تنفع وهي عبارة عن المشفوع له و له متعلق
(16/264)

بمقدر متعلق باذن وفي البحر أن اللام للتعليل وكذا في قوله تعالى ورضى له قولا
109
- أي ورضى لأجله قول الشافع وفي شأنه أو رضى قول الشافع لأجله وقي شأنه فالمراد بالقول على التقديرين قول الشافع وجوز فيه أيضا أن لا يكون للتعليل والمعنى رضى قولا كائنا له فالمراد بالقول قول المشفوع وهو على ما روى عن ابن عباس لا إله إلا الله وحاصل المعنى عليه لا تنفع الشفاعة احدا إلا من أذن الرحمن في أن يشفع له وكان مؤمنا والمراد على كل تقدير أنه لا تنفع الشفاعة احدا إلا من ذكر وأما من عداه فلا تكاد تنفعه وان فرض صدورها عن الشفعاء المتصدين للشفاعة للشفاعة للناس كقوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين
وجوز في البحر والدر المصون أن لا يقدر مفعول لتنفع تنزيلا له منزلة اللازم والاستثناء من شفاعة ومن في محل رفع على البدلية منها بتقدير مضاف أو في محل نصب على الأستئناء بتقديره أيضا أي إلاشفاعة من أذن الخ ومن عبارة عن الشافع والاستثناء متصل ويجوز أن يكون منقطعا إذا لم يقدر شئ ومحل من حينئذ نصب على لغة الحجاز ورفع على لغة تميم واعتراض كون الأستثناء من الشفاعة على تقدير المضاف بأن حكم الشفاعة ممن لم يؤذن له أن يملكها ولا تصدر عنه اصلا ومعنى لا يقبل منها شفاعةلا يؤذن لها فيها لا انها لا تقبل بعد وقوعها فالأخبار عنها بمجرد عدم نفعها للمشفوع له ربما يوهم إمكان صدورها حين لم ياذن له مع اخلاله بمقتضى مقام تهويل اليوم
يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم الظاهر أن ضمير الجمع عائد على الخلق المحشورين وهم متبعو الداعي وقيل : على الناس لا بقيد الحشر والأتباع وقيل : على الملائكة عليهم السلام وهو خلاف الظاهر جدا والمراد من الموصولين على ما قيل ما تقدمهم من الأحوال وما بعدهم مما يستقبلونه أو بالعكس أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو بالعكس أو ما يدركونه وما لا يدركونه وقد مر الكلام في ذلك
ولا يحيطون به علما
110
- أي لا يحيط علمهم بمعلوماته تعالى فعلما تمييز محول عن الفاعل وضمير به لله تعالى والكلام على تقدير مضاف وقيل : المراد لا يحيط علمهم بذاته سبحانه أي من حيث اتصافه بصفات الكمال التي من جملتها العلم الشامل ويقتضي صحة أن يقال : علمت الله تعالى إذ المنفي العلم على طريق الاحاطة
وقال الجبائي : الضمير لمجموع الموصولين فانهم لا يعلمون جميع ما ذكر ولا تفصيل ما علموا منه وجوز أن يكون لاحد الموصولين لا على التعيين
وعنت الوجوه للحى القيوم أي ذلت وخضعت خضوع العناة أي الاساري والمراد بالوجوه إما الذوات وإما الأعضاء المعلومة وتخصيصها بالذكر لأنها اشرف الأعضاء الظاهرة واثار الذل أول ما تظهر فيها وأل فيها للعهد أو عوض عن المضاف اليه أي وجوه المجرمين فتكون الآية نظير قوله تعالى سيئت وجوه الذين كفروا واختار ذلك الزمخشري وجعل قوله تعالى : وقد خاب من حمل ظلما
111
- اعتراضا ووضع الموصول موضع ضميرهم ليكون ابلغ وقيل : الوجوه الأشراف أي عظماء الكفرة لأن المقام مقام الهيبة ولصوق الذلة بهم أولى والظلم الشرك وجملة وقد خاب الخ حال والرابط الواو لا معترضة لانها
(16/265)

في مقابلة وهو مؤمن فيما بعد انتهى قال صاحب الكشف : الظاهر مع الزمخشري والتقابل المعنوي كاف فان الاعتراض لا يتقاعد عن الحال انتهى
وأنت تعلم أن تفسير الظلم بالشرك مما لا يختص بتفسير الوجوه بالاشراف وجعل الجملة حالا بل يكون على الوجه الأول أيضا بناء على أن المراد بالمجرمين الكفار وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى : وقد خاب الخ خسر من أشرك بالله تعالى ولم يتب وقال غير واحد : الظاهر أن أل للاستغراق أي خضعت واستسلمت جميع الوجوه وقوله تعالى وقد خاب الخ يحتمل الاستئناف والحالية والمراد بالموصول إما المشركون وإما ما يعمهم وغيرهم من العصاة وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم فخيبة المشرك دائمة وخيبة المؤمن العاصي مقيدة بوقت العقوبة إن عوقب وقد تقدم لك المعنى الحي القيوم في آية الكرسي والظاهر أن قوله تعالى ومن يعمل من الصالحات قسيم لقوله سبحانه وعنت الوجوه إلى آخر ما تقدم ولقوله عز و جل وقد خاب من حمل ظلما على هذا كما صرح به ابن عطية وغيره أي ومن يعمل من بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات وهو مؤمن أي بما يجب الأيمان به والجملة في موضع الحال والتقييد ذلك لأن الأيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات فلا يخاف ظلما أي منع ثوب مستحق بموجب الوعد ولا هضما
112
- ولا منع بعض منه تقول العرب هضمت حقي أي نقصت منه ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وهضم الطعام تلاشى في المعدة روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المعنى فلا يخاف أن يظلم فيزداد في سيآته ولا أن يهضم فينقص من حسناته والأول مروى عن زيد وقيل الكلام على حذف مضاف أي فلا يخاف جزاء ظلم وهضم إذ لم يصدر عنه ظلم ولا هضم حق أحد حتى يخاف ذلك أو أنه اريد من الظلم والهضم جزاؤهما مجازا ولعل المراد على ما قيل نفي الخوف عنه من ذلك من حيث إيمانه وعمله بعض الصالحات ويتضمن ذلك نفي أن يكون العمل الصالح مع الأيمان ظلما أو هضما
وقيل : المراد أن من يعمل ذلك وهو مؤمن هذا شأنه لصون الله تعالى إياه عن الظلم أو الهضم ولانه لا يعتد بالعمل الصالح معه فلا يرد ما قيل أنه لايلزم من الأيمان وبعض العمل أن لا يظلم غيره ويهضم حقه ولا يخفى عليك أن القول بحذف المضاف والتجوز في هذه الآية في غاية البعد وما قيل من الاعتراض قوى وما أجيب به كما ترى ثم أن ظاهر كلام الجوهري أنه لا فرق بين الظلم والهضم وظاهرة الآية قاض بالفرق وكذا قول المتوكل الليثي : أن الاذلة واللئام لمعشر مولاهم المتهضم المظلوم وممن صرح به الماوردي حيث قال الفرق بينهما أن الظلم منع الحق كله والهضم منع بعضه وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد فلا يخف على النهي قال الطيبي قراءة الجمهور توافق قوله تعالى : وقد خاب الخ من حيث الأخبار وابلغ من القراءة الاخرى من حيث الأستمرار والاخرى ابلغ من حيث انها لا تقبل التردد في الأخبار
وكذلك عطف على كذلك نقص والأشارة إلى انزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبئة عما سيقع من احوال القيامة واهوالها أي مثل ذلك الأنزال انزلناه أي القرآن كله وهو تشبيه
(16/266)

لانزال الكل بانزال الجزء والمراد أنه على نمط واحد واضماره من غير سبق ذكره للايذان بنباهة شأنه وكونه مركوزا في العقل حاضرا في الاذهان قرإنا عربيا ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق الادميين نازلا من رب العالمين وصرفنا فيه من الوعيد أي كررنا فيه بعض الوعيد أو بعضا من الوعيد والجملة عطف على جملة انزلناه وجعلها حالا قيدا للانزال خلاف الظاهر جدا
لعلهم يتقون المفعول محذوف وتقدم الكلام في لعل والمراد لعلهم يتقون الكفر والمعاصي بالفعل او يحدث لهم ذكرا
113
- أي عظة واعتبار مؤديا في الآخرة إلى الأتقاء وكانه لما كانت التقوى هي المطلوبة بالذات منهم أسند فعلها اليهم ولما لم يكن الذكر كذلك غير الاسلوب إلى ما سمعت كذا قيل وقيل : المراد بالتقوى ملكتها وأسندت اليهم لانها ملكة نفسانية تناسب الأسناد لمن قامت به وبالذكر العظة الحاصلة من استماع القرآن المثبطة عن المعاصي ولما كانت امرا يتجدد بسبب استماعه ناسب الأسناد اليه ووصفه بالحدوث المناسب لتجدد الالفاظ المسموعة ولا يخفى بعد تفسير التقوى بملكتها على أن في القلب من التعليل شيئا
وفي البحر اسند ترجي التقوى اليهم لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي واسند ترجي احداث الذكر للقرآن لأن ذلك أمر حدث بعد أن لم يكن انتهى وهو ماخوذ من كلام الأمام وفي قوله : لأن التقوى إلى آخره على اطلاقه منع ظاهر وفسر بعضهم التقوى بترك المعاصي والذكر بفعل الطاعات فانه يطلق عليه مجاز لما بينهما من السببية والمسببية فكلمة أو على ما قيل للتنويع وفي الكلام اشارة إلى أن مدار الأمر التخلية والتحلية والأمام ذكر في الآية وجهين الأول أن المعنى إنما أنزلنا القرآن ليصيروا محترزين عن فعل ما لا ينبغي أو يحدث لهم ذكرا يدعوهم إلى فعل ما ينبغي فالكلام مثير أيضا إلى التخلية والتحلية إلا أنه ليس فيه ارتكاب المجاز والثاني أن المعنى انزلنا القرأن ليتقوا فان لم يحصل ذلك فلا اقل من أن يحدث لهم ذكرا وشرفا وصيتا حسنا ولا يخفى أن هذا ليس بشئ وقال الطيبي : إن المعنى وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا أي فصيحا ناطقا بالحق ساطعا بيناته لعلهم يحدث لهم التأمل والتفكير في آياته وبيناته الوافية الشافية فيذعنون ويطيعون وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون العذاب ففي الآية لف من غير ترتيب وهي على وزن قوله تعالى لعله يتذكر أو يخشى وعندي كون الآية متضمنة للتخلية والتحلية لا يخلو عن حسن فتأمل
وقرأ الحسن او يحدث بسكون الثاء وقرأ عبد الله ومجاهد وابو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام او نحدث بالنون وسكون الثاء وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الأعراب استثقالا لحركته كما قال ابن جنى نحو قول امرئ القيس : اليوم اشرب غير مستحقب اثما من الله ولا واغلى وقول جرير : سيروا بنى العم فالأهوار منر لكم ونهر تيرى ولا يعرفكم العرب فتعالى الله استعظام له تعالى ولما صرف في القرآن من الوعد والوعيد والأوامر والنواهي وغير ذلك وتنزيه لذاته المتعالية أن لا يكون انزال قرآنه الكريم منتهيا إلى غاية الكمالية من تسببه لترك من انزل عليهم المعاصي ولفعلهم الطاعات وفيه تعجيب واستدعاء للاقبال عليه وعلى تعظيمه وفي وصفه تعالى بقوله
(16/267)

سبحانه الملك أي المتصرف بالأمر والنهي الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده ما يدل على أن قوارع القرآن سياسات الهية يتضمن صلاح الدارين لا يحيد عنها إلا مخذول هالك وقوله تعالى الحق صفة بعد صفة لله تعالى أي الثابت في ذاته وصفاته عز و جل وفسره الراغب بموجدالشئ على ما تقتضيه الحكمة
وجوز غير واحد كونه صفة للملك ومعناه خلاف الباطل أي الحق في ملكيته يستحقها سبحانه لذاته وفيه ايماء إلى أن القرآن وما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله لا يحرم حول حماه الباطل بوجه وان المحق من اقبل عليه بشرا شره وان المبطل من اعرض عن تدبر زواجره وفيه تمهيد لوصل النهي عن العجلة به في قوله سبحانه ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك أي يتم وحيه أي تبليغ جبريل عليه السلام إياه فان من حق الاقبال ذلك وكذلك من حق تعظيمه
وذكر الطيبي أن هذة الجملة عطف على قوله تعالى فتعالى الله الملك الحق لما فيه من انشاء التعجب فكأنه قيل حيث نبهت على عظمة جلالة المنزل وأرشدت إلى فخامة المنزل فعظم جنابه الملك الحق المتصرف في الملك والملكوت واقبل بكلك على تحفظ كتابه وتحقق مبانيه ولا تعجل به وكان صلى الله عليه و سلم إذا القى عليه جبريل عليه السلام القرإن يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة خوفا أن يصعد عليه السلام ولم يحفظه صلى الله عليه و سلم فنهى عليه الصلاة و السلام عن ذلك إذ ربما يشغل التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها ونزل عليه أيضا لا تحرك به لسانك لتعجل به الآية وأمر صلى الله تعالى عليه وسلم باستفاضة العلم واستزادته منه سبحانه فقيل : وقل أي في نفسك رب زدنى علما
114
- أي سل الله عز و جل بدل الأستعجال زيادة العلم مطلقا أو في القرإن فان تحت كل كلمة بل كل حرف منه اسرار أو رموز أو علوما جمة وذلك هو الانفع لك وقيل : وجملة ولا نعجل مستانفة ذكرت بعد الأنزال على سبيل الاستطراد وقيل : إن ذلك نهى عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه وليس بذاك فان تبليغ المجمل وتلاوته قبل البيان مما لا ريب في صحته ومشروعيته
ومثله ما قيل : إنه نهى عن الأمر بكتابته قبل أن تفسر له المعاني وتتقرر عنده عليه الصلاة و السلام بل هو دونه بكثير وقيل : إنه نهى عن الحكم بما من شأنه أن ينزل فيه قرإن بناء على ما أخرج جماعة عن الحسن أن امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليه و سلم أن زوجها لطمها فقال لها : بينكما القصاص فنزلت هذه الآية فوقف صلى الله عليه و سلم حتى نزل الرجال قوامون على النساء وقال الماوردي : إنه نهى عن العجلة بطلب نزوله وذلك أن أهل مكة واسقف نجران قالوا : يا محمد اخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة ايام فأبظأ الوحى عليه وفشت المقالة بين اليهود وزعموا أنه عليه الصلاة و السلام قد غلب فشق ذلك عليه صلى الله عليه و سلم واستعجل الوحى فنزلت ولا تعجل الخ وفي كلا القولين ما لا يخفى
وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وابو حيوة وسلام ويعقوب والزعفراني وابن مقسم نقضى بنون العظمة مفتوح الياء وحيه بالنصب وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من نقضى قال صاحب اللوامح : وذلك عن لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفا واستدل بالآية على فضل العلم حيث أمر صلى الله عليه و سلم بطلب زيادته وذكر بعضهم أنه ما أمر عليه الصلاة و السلام بطلب الزيادة
(16/268)

في شئ إلا العلم وأخرج الترمذي : وابن ماجه عن ابي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : اللهم انفعنى بما علمتنى وعلمنى ما ينفعنى وزدنى علما والحمد لله على كل حال
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يدعو اللهم زدنى إيمانا وفقها ويقينا وعلما وما هذا إلا لزيادة فضل العلم وفضله اظهر من أن يذكر نسأل الله تعالى أن يرزقنا الزيادة فيه ويوفقنا للعمل بما يقتضيه ولقد عهدنا إلى إدم كأنه لما مدح سبحانه القرإن وحرض على استعمال التؤدة والرفق في اخذه وعهد على العزيمة بامره وترك النسيان فيه ضرب حديث إدم مثلا للنسيان وترك العزيمة
وذكر ابن عطية أن في ذلك مزيد تحذير للنبي صلى الله عليه و سلم عن العجلة وعدم التؤدة لئلا يقع فيما لا ينبغي كما وقع إدم عليه السلام فالكلام متعلق بقوله تعالى ولا تعجل بالقرإن الخ وقال الزمخشري : هو عطف على صرفنا عطف القصة على القصة والتخالف فيه انشاء وخبرية لا يضر مع أن المقصود بالعطف جواب القسم وحاصل المعنى عليه صرفنا الوعيد وكررناه لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا لكنهم لم يلتفتوا لذلك ونسوه كما لم يلتفت أبوهم إلى الوعيد ونسى العهد اليه والفائدة في ذلك الأشارة إلى أن مخالفتهم شنشنة اخزمية وأن أساس أمرهم ذلك وعرقهم راسخ فيه وحكى نحو هذا عن الطبري
وتعقبه ابن عطية بأنه ضعيف لما فيه من الغضاضة من مقام آدم عليه السلام حيث جعلت قصته مثلا للجاحدين لآيات الله تعالى وهو عليه السلام إنما وقع منه ما وقع بتأويل انتهى والأنصاف يقضي بحسنه فلا تلتفت إلى ما قيل : إن فيه نظرا وقال أبو مسلم : أنه عطف على قوله تعالى كذلك نقص عليك من انباء ما قد سبق وليس بذاك نعم فيه مع ما تقدم انجاز الموعود في تلك الآية واستظهر ابن عطية فيه أحد امرين التعلق بلا تعجل وكونه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله وهذا الأخير وإن قدمه في كلامه ناشئ من ضيق العطن كما لا يخفى والعهد الوصية يقال عهد اليه الملك ووغر اليه وعزم عليه وتقدم اليه إذا أمره ووصاه والمعهود محذوف يدل عليه ما بعده واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي واقسم بالله لقد أمرناه ووصيناه من قبل أي من قبل هذا الزمان وقيل : أي من قبل وجود هؤلاء المخالفين
وعن الحسن أي من قبل إنزال القرآن وقيل : أي من قبل أن يأكل من الشجرة فنسى العهد ولم يهتم به ولم يشتغل بحفظه حتى غفل عنه والعتاب جاء من ترك الأهتمام ومثله عليه السلام يعاقب على مثل ذلك وعن ابن عباس والحسن أن المراد فترك ما وصى به من الأحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها فالنسيان مجاز عن ترك والفاء للتعقيب وهو عرفي وقيل : فصيحة أي لم يهتم به فنسى والمفعول محذوف وهو ما أشرنا اليه وقيل : المنسى الوعيد بخروج الجنة إن أكل وقيل قوله تعالى : إن هذا عدو لك ولزوجك وقيل : الأستدلال على أن النهى عن الجنس دون الشخص والظاهر ما اشرنا اليه
وقرأ اليماني والأعمش فنسى بضم النون متشديد السين أي نساه الشيطان ولم نجد له عزما
115
- تصميم رأى وثبات قدم في الأمور وهذا جار على القولين في النسيان نعم قيل : أنه انسب بالثاني واوفق بسياق الآية على ما ذكرنا اولا وروى جماعة عن ابن عباس وقتادة أن المعنى لم تجد له صبرا عن أكل الشجرة وعن
(16/269)

ابن زيد وجماعة أن المعنى لم نجد له عزما على الذنب فانه عليه السلام اخطأ ولم يتعمد وهو قول من قال : أن النسيان على حقيقتهوجاء عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عنه قال قال لى عمر رضى الله تعالى عنه إن صاحبكم هذا يعني علي ابن ابي طالب كرم الله تعالى وجهه أن ولى زهد ولكني اخشى عجب نفسه أن يذهب به قلت : يا أمير المؤمنين أن صاحبنا من قد علمت والله مانقول : أنه غير ولابدل ولااسخط رسول الله صلى الله عليه و سلم ايام صحبته فقال ولا في بنت ابي جهل وهو يريد أن يخطبها على فاطمة قلت قال الله تعالى في معصية مادم عليه السلام ولم نجد له عزما فصاحبنا لم يعزم على اسخاط رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن الخواطر التي لايقدر أحد دفعها عن نفسه وربما كانت من الفقيه في دين الله تعالى العالم بامر الله سبحانه فاذا نبه عليها رجع وأناب فقال : يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحور كم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا لكن لايخفى عليك أن هذا التفسير غير متبادر ولاكثير المناسبة للمقام وحاصل لم نجد الخ عليه أنه نسى فيتكرر مع ماقبله
ثم أن لم نجد أن كان من الوجود العلمى فله عز ما مفعولا مقدم الثاني على الأول لكونه ظرفا وإن كان من الوجود المقابل للعدم كما اختاره بعضهم فله متعلق به قدم على مفعوله لما مر غير مرة أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر والمعنى على هذا ولم نصادف له عزما وإذ قلنا للملئكة اسخدوا لآدم شروع في بيان المعهود وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه و سلم أي واذكر وقت قولنا للملائكة الخ قيل : وهو معطوف على مقدر أي اذكر هذا واذكر إذ قلنا أو من عطف القصة على القصة وأيا ما كان فالمراد اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه حتى يتبن لك نسيانه وفقدان عزمه فسجدوا إلا ابليس قد مر الكلام فيه مرارا أبى
116
- جملة مستانفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ عن الأخبار بعدم سجوده كأنه قيل : فما باله لم يسجد فقل : أبى والاباء الامتناع أو شدته ومفعوله إما محذوف أي أبى السجود كما في قوله تعالى أبى أن يكون مع الساجدين أو غير منوى رأسا بتنزيله منزلة اللازم أي فعل الاباء واظهره فقلنا عقيب ذلك اعتناء بنصح إدم عليه السلام يا إدم إن هذا الذي رأيت منه ما رأيت عدو لك ولزوجك أعيد اللام لأنه لايعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار عند الجمهور وقيل : أعيد للدلالة على أن عداوة اللعين للزوجة اصالة لاتبعا وهو على القول بعدم لزوم اعادة الجار في مثله كما ذهب اليه ابن مالك ظاهر وأما على القول باللزوم فقد قيل في توجيهه إن كون الشئ لازما بحسب القاعدة النحوية لاينافى قصد افادة ما يقتضيه المقام
وقد صرح السيد السند في شرح المفتاح في توجيه جعل صاحب المفتاح تنكير التمييز في قوله تعالى : واشتعل الرأس شيبا لافادة المبالغة بما يرشد إلى ذلك ولايخفى ما في التعبير بزوجك دون حواء من مزيد التنفير والتحذير منه واختلف في سبب العداوة فقيل مجرد الحسد وهو لعنه الله تعالى ولعن اتباعه أول من حسد وقيل : كونه شيخا جاهلا وكون آدم عليه السلام شابا عالما والشيخ الجاهل يكون ابدا عدوا للشاب العالم بل الجاهل مطلقا عدو للعالم كذلك كما قيل
والجاهلون لأهل العلم اعداء
وقيل : تنافى الأصلين فان
(16/270)

اللعين خلق من نار وإدم عليه السلام خلق من طين وحواء خلقت منه وقد ذكر جميع ذلك الأمام الرازي
فلا يخرجنكما أي فلا يكونن سببا لأخراجكما من الجنة وهذا كناية عن نهيهما عن أن يكونا بحيث يتسبب الشيطان في اخراجهما منها نحو قوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج والفاء لترتيب موجب النهى على عداوته لهما أو على الأخبار بها فتشقى
117
- أي فتتعب بمتاعب الدنيا وهي لاتكاد تحصى ولايسلم منها أحد وإسناد ذلك اليه عليه السلام خاصة بعد تعليق الأخراج الموجب له بهما معا لاصالته في الأمور واستلزم تعبه لتبعها مع ما في ذلك من مراعاة الفواصل على اتم وجه وقيل : المراد بالشقاء التعب في تحصيل مبادى المعاش وهو من وظائف الرجال وأيد هذا بما أخرجه عبد بن حميد وابن عساكر وجماعة عن سعيد ابن جبير قال : إن آدم عليه السلام لما اهبط من الجنة استقبله ثور ابلق فقيل له : اعمل عليه فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول : هذا ما وعدني ربي فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ثم نادى حواء حواء انت عملت بي هذا فليس من ولد آدم أحد يعمل على ثور إلا قال : حو دخلت عليهم من قبل آدم عليه السلام وكذا أيد بالآية بعد وفيه تأمل ولعل القول بالعموم أولى و تشقى يحتمل أن يكون منصوبا باضمار أن في جواب النهي ويحتمل أن يكون مرفوعا على الاستئناف بتقدير فانت تشقى واستبعد هذا لأنه ليس المراد الأخبار عبه بالشقاء بل المراد أن وقع الأخراج حصل ذلك
إن لك إلا تجوع فيها ولاتعرى
118
- وانك لاتظمؤا فيها ولا تضحى
119
- أي ولاتصيبك الشمس يقال : ضحا كسى وضحى كرضى ضحوا أو ضحيا إذا أصابته الشمس ويقال ضحا ضحوا وضحوا وضحيا إذا برز لها وانشدو قول عمرو ابن ابي ربيعة : رأت رجلا ايما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشى فيخصر وفسر بعضهم ما في الآية بذلك والتفسير الأول مروى عن عكرمة وأياما كان فالمراد نفي أن يكون بلا كن والجملة تعليل لما يوجبه النهى فان اجتماع اسباب الراحة فيها مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادى البقاء فيها والجد في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعما بفنون النعم من المآكل والمشارب وتمتعا باصناف الملابس البهية والمساكن المرضية مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى إلى ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعرى والضحو لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من انواع الشقوة التي حذره سبحانه عنها ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي اليها ومعنى ان لا تجوع الخ أن لا يصيبه شئ من الأمور الأربعة اصلا فان الشبع والري والكسوة والكن قد تحصل بعد عروض اضددها وليس الأمر فيها كذلك بل كلما وقع فيها شهوة وميل إلى شئ من الأمور المذكورة تمتع به من غير أن يصل إلى حد الضرورة على أن التغريب قد حصل بما سوغ له من التمتع بجميع ما فيها سوى الشجرة حسبما ينطق به قوله تعالى : ويا آدم اسكن انت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما وقد طوى ذكره ههنا اكتفاء بذلك واقتصر على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب وقال بعضهم : أن الاقتصار على ما ذكر لما وقع في سؤال آدم عليه السلام فانه روى أنه لما امره سبحانه بسكنى الجنة قال الهي ألى فيها ما آكل ألى فيها ما البس ألى فيها ما اشرب ألى فيها ما استظل به فأجيب بما ذكر وفي القلب من صحة الرواية شئ
(16/271)

ووجه افراده عليه السلام بما ذكر ما مر آنفا وقيل : كونه السائل وكان الظاهر عدم الفصل بين الجوع والظمأ والعرى والضحو للتجانس والتقارب إلا أنه عدل عن المناسبة المكشوفة إلى مناسبة اتم منها وهي أن الجوع خلو الباطن والعرى خلو الظاهر فكانه قيل لا يخلو باطنك وظاهرك عما يهمهما وجمع بين الظمأ المورث حرارة الباطن والبروز للشمس وهو الضحو المورث حرارة الظاهر فكانه قيل : لا يؤلمك حرارة الباطن والظاهر وذلك الوصل الخفي وهو سر بديع من اسرار البلاغة وفي الكشف إنما عدل إلى المنزل تنبيها على أن الشبع والكسوة اصلان وان الاخرين متممان على الترتيب فالامتنان على هذا الوجه اظهر ولهذا فرق بين القرينتين فقيل أولا إن لك وثانيا إنك وقد ذكر هذا العلامة الطيبي أيضا ثم قال : وفي تنسيق المذكورات الأربعة مرتبة هكذا مقدما ما هو الأهم فالاهم ثم في جعلها تفصيلا لمضمون قوله تعالى فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى وتكرير لفظة فيها واخراجها في صيغة النفي مكررة الأداء الايماء إلى التعريض باحوال الدنيا وان لا بد من مقاساتها فيها لانها خلقت لذلك وان الجنة ما خلقت إلا للتنعم ولا يتصور فيها غيره
وفي الانتصاف أن في الآية سرا بديعا من البلاغة يسمى قطع النظير عن النظير والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم ولو قرن كل بشكله لتوهم المقرونان نعمة واحده وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال الكندي الأول : كأني لم اركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ولم أسبأ الزق الروى ولم اقل لخيلى كرى كرة بعد إجفال فقطع ركوب الجواد عن قوله لخيله : كرى كرة وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس مع التناسب وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها وتبعه الكندي الآخر فقال : وقفت وما في الموت شك لو اقف كانك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الابطال كلمى هزيمة ووجهك ضحاك وثغرك باسم وقد اعترض عليه سيف الدولة إذ قطع الشئ عن نظيره فقال له : إن كنت اخطأت بذلك فقد أخطأ امرؤ القيس بقوله وانشد البيتين السابقين وفي الآية سر لذلك أيضا زائد على ما ذكر وهو قصد تناسب الفواصل اه
وقد يقال في بيتي الأول : إنه جمع بين ركوب الخيل للذة والنزهة وتبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما وجمع بين سبء الزق وقوله لخيله : كرى لما فيهما من الشجاعة ثم ما ذكر من قصد تناسب الفواصل في الآية ظاهر في أنه لو عدل عن هذا الترتيب لم يحصل ذلك وهو غير مسلم
وقرأ شيبه ونافع وحفص وابن سعدان انك بكسر الهمزة وقرأ الجمهور بفتحها على أن العطف على أن لا تجوع وهو في تأويل مصدر اسم لأن وصحة وقوع ما صدر بأن المفتوحة اسما بأن المكسورة المشاركة لها في إفادة التحقيق مع امتناع وقوعها خبرا لها لما أن المحذور وهو اجتماع حرفي التحقيق في مادة واحدة غير موجود فيما نحن فيه لاختلاف مناطق تحقيق فيما حيزها بخلاف ما لو وقعت خبرا فان اتحاد المناط حينئذ مما لا ريب فيه وبينه على ما في إرشاد العقل السليم أن كل واحدة من الاداتين موضوعة لتحقيق
(16/272)

مضمون الجملة الخبرية المنعقدة من اسمها وخبرها ولا يخفى أن مرجع خبريتها ما فيها من الحكم وإن مناطه الخبر لا الأسم فمدلول كل منهما تحقيق ثبوت خبرها لاسمها لا ثبوت اسمها في نفسه فاللازم من وقوع الجملة المصدرة بالمفتوحة اسما للمكسورة تحقيق ثبوت خبرها لتلك الجملة المؤوله للمصدر وأما تحقيق ثبوتها في نفسها فهو مدلول المفتوحة فلا يلزم اجتماع حر في التحقيق في مادة واحدة قطعا وإنما لم يجز أن يقال : ان أن زيدا قائم حق مع اختلاف المناط بل شرطوا الفصل بالخبر كقولنا : إن عندي أن زيدا قائم حق للتجافي عن صورة الأجتماع والواو العاطفة وان كانت نائبة عن المكسورة التي يمتنع دخولها عن المفتوحة بلا فصل وقائمة مقام في إفضاء معناها وإجراء أحكامها على مدخولها لكنها حيث لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق لم يلزم من دخولها اجتماع حر في التحقيق اصلا فالمعنى إن لك عدم الجوع وعدم العرى وعدم الظمأ خلا أنه لم يقتصر على بيان أن الثابت له عدم الظمأ والضحو مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه بل قصد بيان أن الثابت له تحقيق عدمهما فوضع موضع الحرف المصدري المحض أن المفيد له كأنه قيل : إن لك فيها عدم ظمئك على التحقيق انتهى
ويحتاج عليه إلى بيان النكته في عدم الاقتصار على بيان أن الثابت له عدم الظمأ مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه فتأمل ولا تغفل
وقيل إن الواو وإن كانت نائبة عن أن هنا إلا أنه يلاحظ بعدها لك الموجود بعد أن التي نابت عنها فيكون هناك فاصل ولا يمتنع الدخول معه وهو كما ترى ولا يخفى عليك أن العطف على قراءة الكسر على أن الأولى مع معموليها لا على اسمها ولا كلام في ذلك فوسوس اليه الشيطان انها الوسوسة اليه وهي كما قال الراغب : الخطرة الرديئة واصلاها من الوسواس وهو صوت الحلى والهمس الخفي وقال الليث : الوسوسة حديث النفس والفعل وسوس بالبناء للفاعل ويقال : رجل موسوس بالكسر والفتح لحن
وذكر غير واحد أن وسوس فعل لازم ماخوذ من الوسوسة وهي حكاية صوت كولولة الثكلى ووعوعة الذئب ووقوقة الدجاجة وإذا عدى بالي ضمن معنى الانهاء وإذا جئ باللام بعده نحو وسوس له فهى للبيان كما في هيت لك وقال الزمخشري : للاجل أي وسوس لاجله وكذا إذا كانت بعد نظائر هذا الفعل نحو قوله : اجرس لها يا ابن ابي كباش فما لها الليلة من انفاش وذكر في الأساس وسوس اليه في قسم الحقيقة وظاهره عدم اعتبار التضمين والكثير على اعتباره
قال إما بدل من وسوس أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل : فما قال له في وسوسته : فقيل : قال يا إدم هل ادلك على شجرة الخلد ناداه باسمه ليكون اقبل عليه وامكن للاستماع ثم عرض عليه ما عرض على سبيل الأستفهام الذي يشعر بالنصح ومعنى شجرة الخلد شجرة من اكل منها خلد ولم يمت اصلا سواء كان على حاله أو بأن يكون ملكا لقوله تعالى : الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
وفي البحر أن ما حكى هنا مقدم على ما حكى في الأعراف من قوله تعالى : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الخ كان اللعين لما رأى منه عليه السلام نوع إصغاء إلى ما عرض عليه انتقل إلى الأخبار والحصر انتهى والحق
(16/273)

أنه لا جزم بما ذكر وملك لا يبلى
120
- أي لا ينفني أو لا يصير باليا خلقا قيل : إن هذا من لوازم الخلود فذكره للتأكيد وزيادة الترغيب فاكلا أي هو وزوجته منها أي من الشجرة التي سماها اللعين شجرة الخلد فبدت لهما سوإتهما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : عريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما حتى بدت فروجهما وفي رواية اخرى عنه أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في اطراف الأصابع والله تعالى أعلم بصحة ذلك ثم أن ما ذكر يحتمل أن يكون عقوبة للأكل ويحتمل أن يكون مرتبا عليه لمصلحة اخرى وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة قد مر تفسيره
وعصى إدم ربه بما ذكر من اكل الشجرة فغوى
121
- ضل عن مطلوبه الذي هو الخلود أو عن المطلوب منه وهو ترك الأكل من الشجرة أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو وقيل : غوى أي فسد عليه عيشه ومنه يقال : الغواء لسوء الرضاع وقرئ فغوى بفتح الغين وكسر الواو وفتح الياء أي فبشم من كثرة الأكل من غوى الفصيل إذا اتخم من اللبن وبه فسرت القراءة الاخرى وتعقب ذلك الزمخشري : فقال وهذا وان صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها الفا فيقول في فنى وبقى فنا وبقابا لألف وهم بنو طيئ تفسير خبيث وظاهر الآية يدل على أن ما وقع من الكبائر وهو المفهوم من كلام الأمام فان كان صدوره بعد البعثة تعمدا من غير نسيان ولا تأويل اشكل على ما اتفق عليه المحققون والائمة المتقنون من وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام بعد البعثة عن صدور مثل ذلك منهم على ذلك الوجه ولا يكاد يقول بذلك إلا الازارقة من الخوارج فانهم عليهم ما يستحقون جوزوا الكفر عليهم وحاشاهم فما دونه أولى بالتجويز وإن كان صدوره قبل البعثة كما قال به جمع وقال الأمام : أنه مذهبنا فان كان تعمدا اشكل على قول اكثر المعتزلة والشيعة بعصمتهم عليهم السلام عن صدور مثل ذلك تعمدا قبل البعثة ايضا
نعم لا اشكال فيه على ما قاله القاضي أبو بكر من أنه لا يمتنع عقلا ولا سمعا أن يصدر من النبي عليه السلام قبل نبوته معصية مطلقا بل لا يمتنع عقلا ارسال من اسلم بعد كفره ووافقه على ذلك كما قال الامدى في ابكار الأفكار اكثر الأصحاب وكثير من المعتزلة وان كان سهوا كما يدل عليه قوله تعالى : فنسى ولم نجد له عزما بناء على أحد القولين فيه اشكل على ما نقل عن الشيعة من منع صدور الكبيرة سهوا قبل البعثة ايضا ولا إشكال فيه على ما سمعت عن القاضي ابي بكر وان كان بعد البعثة سهوا اشكل أيضا عند بعض دون بعض فقد قال عضد الملة في المواقف أن الأكثرين جوزوا صدور الكبيرة يعني ما عدا الكفر والكذب فيما دلت المعجزة على صدقهم عليهم السلام فيه سهوا وعلى سبيل الخطأ منهم وقال العلامة الشريف المختار : خلافه وذهب كثير إلى أن ما وقع صغيرة والأمر عليه هين فان الصغائر الغير المشعرة بالخسة يجوز على ما ذكره العلامة الثاني في شرح العقائد صدورها منهم عليهم السلام عمدا بعد البعثة عند الجمهور خلافا للجبائي واتباعه ويجوز صدورها سهوا بالأتفاق لكن المحققون اشترطوا أن ينبهوا على ذلك فينتهوا عنه
نعم ذكر في شرح المقاصد عصمتهم عن صدور ذلك عمدا والاحوط نظرا إلى مقام آدم عليهم السلام أن يقال : أن صدور ما ذكر منه كان قبل النبوة وكان سهوا أو عن تأويل إلا أنه عظم الأمر عليه وعظم لديه
(16/274)

نظرا إلى علو شأنه ومزيد فضل الله تعالى عليه وإحسانه وقد شاع حسنات الأبرار سيآت المقربين ومما يدل على استعظام ذلك منه لعلو شأنه عليه السلام ما أخرجه البيهقي في شعب الأيمان عن ابي عبد الله المغربي قال : تفكر إبراهيم في شأن آدم عليهما السلام فقال : يا رب خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك واسجدت له ملائكتك ثم بذنب واحد ملأت افواه الناس من ذكر معصيته فأوحى الله تعالى اليه يا إبراهيم أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة
وذكر بعضهم أن في استعظام ذلك منه عليه الملام زجرا بليغا لاولاده عن امثاله وعلى العلات لا ينبغي لأحد أن ينسب اليه العصيان اليوم وان يخبر بذلك إلا أن يكون تاليا لما تضمن ذلك أو راويا له عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما أن يكون مبتدئا من قبل نفسه فلاوقد صرح القاضي أبو بكر بن العربي بعدم جواز نسبة العصيان للآباء الادنين الينا المماثلين لنا فكيف يجوز نسبته للانبياء الأقدام والنبي المقدم الاكرموارتضى ذلك القرطبي وادعى أن ابتداء الأخبار بشئ من صفات الله تعالى المتشابهة كاليد والأصبع والنزول أولى بالمنع وعدم الجواز ثم أن ما وقع كان في الحقيقة بمحض قضاء الله تعالى وقدره وإلا فقد روى عن ابي امامة الباهلي والحسن أن عقله عليه السلام مثل عقل جميع ولده وعداوة ابليس عليه اللعنة له عليه السلام في غاية الظهور وفي ذلك دليل على أنه لا ينفع عقل ولا يغنى شئ في جنب تقدير الله تعالى وقضائه ثم اجتبه ربه أي اصطفاه سبحانه وقربه اليه بالحمل على التوبة والتوفيق لها من اجتبى الشئ جباه لنفسه أي جمعه كقولك : اجتمعته أو من جبى إلى كذا فاجتبيته على العروس فاجتليتها واصل معنى الكلمة الجمع فالمجتبى كأنه في الأصل من جمعت فيه المحاسن حتى اختاره غيره وقربه وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الأضافة إلى ضميره عليه السلام مزيد تشريف له عليه السلام فتاب عليه أي رجع عليه بالرحمة وقبل توبته حين تاب وذلك حين قال هو وزوجته : ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وهدى
122
- أي إلى الثبات على التوبة والتمسك بما يرضى المولى سبحانه وتعالى وقيل إلى كيفية التوبة بتعليم الكلمات والواو لمطلق الجمع فلا يضر كون ذلك قبل التوبة عليه وقيل : إلى النبوة والقيام بما تقتضيه وقدم أبو حيان هذا على سائر الاحتمالات التي ذكرها والنيسابوري فسر الاجتباء بالاختيار للرسالة وجعل الآية دليلا على أن ما جرى كان قبل البعثة ولم يصرح سبحانه بنسبة العصيان والغواية إلى حواء بأن يسندهما إلى ضمير التثنية الذي هو عبارة عنها وعن آدم عليه السلام كما اسند الأكل وما بعده إلى ذلك إعراضا عن مزيد النعى على الحرم وان الاهم نظرا إلى مساق القصة التصريح بما أسند إلى آدم عليه السلام ويتضمن ذلك رعاية الفواصل وحيث لم يصرح جل وعلا بعصيانها لم يتعرض لتوفيقها للتوبة وقبولها منها وقال بعضهم : إنه تعالى اكتفى بذكر شأن آدم عليه السلام لما أن حواء تبع له في الحكم ولذا طوى ذكر النساء في اكثر مواقع الكتاب والسنة
قال استئناف مبني على سؤال نشأ من الأخبار بأنه تعالى عامله كأنه قيل : فماذا امره بعد ذلك فقيل : قال له ولزوجته اهبطا منها جميعا أي انزلا من الجنة إلى الأرض مجتمعين وقيل : الخطاب له عليه السلام ولابليس عليه اللعنة فانه دخل الجنة بعد ما قيل له أخرج منها فانك رجيم للوسوسة وخطابهما
(16/275)

على الأول بقوله تعالى بعضكم لبعض عدو لما أنهما أصل الذرية ومنشأ الاولاد فالتعادي في الحقيقة بين اولادهما وهذا على عكس مخاطبة اليهود ونسبة ما فعل إباؤهم اليهموالجملة في موضع الحال أي متعادين في أمر المعاش وشهوات الأنفس وعلى الثاني ظاهر لظهور العداوة بين آدم عليه السلام وابليس عليه اللعنة وكذا بين ذرية آدم عليه السلام وذرية اللعين ومن هنا قيل : الضمير لآدم وذريته وإبليس وذريته
وزعم بعضهم أن لآدم وابليس والحية والمعول عليه الأول ويؤيده ذلك قوله تعالى فاما ياتينكم منى هدى الخ أي نبي ارسله اليكم وكتاب انزله عليكم فمن اتبع هذاى وضع الظاهر موضع المضمر مع الأضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه
وأخرج الطبراني وغيره عن ابي الطفيل أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ فمن اتبع هدى فلا يضل في الدنيا ولا يشقى
123
- في الآخرة وفسر بعضهم الهدى بالقرإن لما أخرج ابن ابي شيبة وعبد بن حميد وابن ابي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الأيمان من طرق عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : أجار الله تعالى تابع القرإن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة ثم قرأ الآية وأخرج جماعة عنه مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بلفظ من اتبع كتاب الله هداه الله تعالى من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة ورجح على العموم بقيام القرينة عليه وهو قوله تعالى ومن اعرض عن ذكرى بناء على تفسير الذكر بالقرإن وكذا قوله تعالى بعد وكذلك اتتك إياتنا فنسيتها والمختار العموم أن يقول : الذكر يقع على القرإن وعلى سائر الكتب الالهية وكذا الآيات تكون بمعنى الادلة مطلقا وقد فسر الذكر أيضا هنا بالهدى لأنه سبب ذكره تعالى وعبادته سبحانه فاطلق المسبب واريد سببه لوقوعه في المقابلة وما في الخبر من باب التنصيص على حكم اشرف الأفراد المدلول عليه بالعموم اعتناء بشأنه ثم إن تقييد لا يضل بقولنا في الدنيا ولا يشقى بقولنا في الآخرة هو الذي يقتضيه الخبر
وجوز بعضهم العكس أي فلا يضل طريق الجنة في الآخرة ولا يتعب في أمر المعيشة في الدنيا وجعل الأول في مقابلة ونحشره يوم القيامة اعمى والثاني في مقابلة فان له معيشة ضنكا ثم قال : وتقديم حال الآخرة على حال الدنيا في المهتدين لأن مطمح نظرهم أمر إخرتهم بخلاف خلافهم فان نظرهم مقصور على دنياهم ولا يخفى أن الذي نطقت به الآثار هو الأول وذكر بعضهم أنه المتبادر نعم ما ذكر لا يخلو عن حسن وإن قيل : فيه تكلف وجوز الأمام كون الأمرين في الآخرة وكونهما في الدنيا وذكر أن المراد على الاخير لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين لا مطلقا فان لحق المنعم بالهدى شقاء في الدنيا فبسبب إخر وذلك لا يضر اه والمعول عليه ما سمعت والمراد من الاعراض عن الذكر عدم الاتباع فكانه قيل : ومن لم يتبع فان له معيشة ضنكا أي ضيقة شديدة وهو مصدر ضنك وكذا ضناكة ولذا يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع وقد وصف به هنا المؤنث باعتبار الأصل وقرأ الحسن ضنكى بالف التانيث ككرى وبالامالة وهذا التأنيث باعتبار تأويله بالوصف وعن ابن عباس تفسيره بالشديد من كل وجه وأنشد قول الشاعر :
(16/276)

والخيل قد لحقت بنا في مأزق ضنك نواحيه شديد المقدم والمتبادر أن تلك المعيشة له في الدنيا وروى ذلك عن عطاء وابن جبير ووجه ضيق معيشة الكافر المعرض في الدنيا أنه شديد الحرص على الدنيا متهالك على ازديادها خائف من انتقاصها غالب عليه الشح بها حيث لاغراض له سواها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة وقيل : الضنك حجاز عما لا خير فيه ووصف معيشة الكافر بذلك لانها وبال عليه وزيادة في عذابه يوم القيامة كما دلت عليه الآيات وهو ماخوذ مما أخرجه ابن ابي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : يقول كل مال اعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة وقيل : المراد من كونها ضنكا إنها سبب للضنك يوم القيامة فيكون وصفها بالضنك للمبالغة كانها نفس الضنك كما يقال في السلطان : الموت بين شفتيه يريدون بالموت ما يكون سببا للموت كالأمر بالقتل ونحوه وعن عكرمة ومالك بن دينار ما يشعر بذلك وقال بعضهم : إن تلك المعيشة له في القبر بأن يعذب فيه وقد روى ذلك جماعة عن ابن مسعود وابي سعيد الخدري وابي صالح والربيع والسدى ومجاهد وفي البحر عن ابن عباس أن الآية نزلت في الاسود بن عبد الاسد المخزومي والمراد ضغطة القبر حتى تختلف فيه اضلاعه وروى ذلك مرفوعا ايضا
فقد أخرج ابن ابي الدنيا في ذكر الموت والحكيم الترمذي وابو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وابن حيان وابن مردوية عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم المؤمن في قبره روضة خضراء ويرحب له قبره سبعين ذراعا ويضئ حتى يكون كالقمر ليلة البدر هل تدرون فيم انزلت فان له معيشة ضنكا قالوا : الله ورسوله أعلم قال : عذاب الكافر في قبره يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا هل تدرون ما التنين تسعة وتسعون حية لكل حية سبعة رؤس يخدشونه ويلسعونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد في مسنده وعبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في كتاب عذاب القبر وجماعة عن ابي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى معيشة ضنكا عذاب القبرولفظ عبد الرزاق يضيق عليه قبره حتى تختلف اضلاعه ولفظ ابن ابي حاتم ضمة القبر إلى غير ذلك ومن قال : الدنيا ماقبل القيامة الكبرى قال : مايكون بعد الموت واقع في الدنيا كالذي يكون قبل الموت
وقال بعضهم : إنها تكون يوم القيامة في جهنم وأخرج ذلك ابن ابي شيبة وابن المنذر عن الحسن وأخرج ابن ابي حاتم عن ابن زيد قال : المعيشة الضنك في النار شوك وزقوم وغسلين وضريع وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة وما المعيشة والحياة إلا في الآخرة ولعل الأخبار السابقة لم تبلغ هذا القائل أو لم تصح عنده وانت تعلم انها إذا صحت فلا مساغ للعدول عما دلت عليه وإن لم تصح كان الأولى القول بانها في الدنيا لا في الآخرة لظاهر ذكر قوله تعالى ونحشره الخ بعد الأخبار بأن له معيشة ضنكا وقرأت فرقة منهم أبان بن تغلب ونحشره باسكان الراء وخرج على أنه تخفيف أو جزم بالعطف على محل فان له الخ لأنه جواب الشرط كأنه قيل ومن اعرض عن ذكري تكن له معيشة ضنك ونحشره الخ ونقل ابن خالوية عن أبان أنه قرأ ونحشره بسكون الهاء على إجراء الوصل مجرى الوقف وفي البحر الأحسن تخريج ذلك على لغة بني كلاب وعقيل فانهم يسكنون مثل هذه الهاء وقد قرئ لربه لكنود باسكان الهاء وقرأت
(16/277)

فرقة ويحشره بالباء يوم القيامة اعمى
124
- الظاهر أن المراد فاقد البصر كما في قوله تعالى ونحشره يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما قال استئناف كما مر رب لم حشرتنى اعمى وقد كنت بصيرا
125
- أي في الدنيا كما هو ظاهر ولعل هذا باعتبار اكثر افراد من اعرض لأن من افراده من كان اكمة في الدنيا والظاهر أن هذا السؤال عن السبب الذي استحق به الحشر لاعمى لأنه جهل أو ظن أن لاذنب له يستحق به ذلك
قال الله تعالى في جوابه كذلك اتتك إياتنا الكاف مقحمة كما في مثلك لا يبخل وذلك إشارة إلى مصدر أتتك أي مثل ذلك الاتيان البديع أتتك الآيات الواضحة النيرة وعند الزمخشري لا إقحام وذلك إشارة إلى حشرة أعمى أي مثل ذلك الفعل فعلت أنت وقوله تعالى أتتك الخ جواب سؤال مقدر كأنه قيل : يا رب ما فعلت أنا فقيل : أتتك آياتنا فنسيتها أي تركتها ترك المنسي الذي لايذكر اصلا والمراد فعميت عنها إلا أنه وضع المسبب موضع السبب لأن من عمي عن شئ نسيه وتركه والأشارة في قوله تعالى وكذلك إلى النسيان المفهوم من نسيتها والكاف على ظاهرها أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا اليوم تنسى
126
- أي تترك في العمى جزاء وفاقا وقيل : الكاف بمعنىاللام إلا جلية كما قيل في قوله تعالى واذكروه كما هداكم أي ولاجل ذلك النسيان الصادر منك تنسى وهذا الترك إلى ما شاء الله تعالى ثم يزال العمى عنه فيرى أهوال القيامة ويشاهد النار كما قال سبحانه ورأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها الآية ويكون ذلك له عذابا فوق العذاب وكذا اليكم والصمم يزيلهما الله تعالى عنهم كما يدل عليه قوله تعالى أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا
وفي رواية عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه أن الكافر يحشر اولا بصيرا ثم يعمى فيكون الأخبار بأنه قد كان بصيرا إخبار عما كان عليه أول حشره والظاهر أن ذلك العمى يزول ايضا وعن عكرمة أنه لايى شئ إلا النار ولعل ذلك أيضا في بعض اجزاء ذلك اليوم وإلا فكيف يقرأ كتابه وروى عن مجاهد ومقاتل والضحاك وابي صالح هي رواية عن ابن عباس أيضا أن المعنى نحشره يوم القيامة اعمى عن الحجة أي لاحجة له يهتدي بها وهو مراد من قال : اعمى القلب والبصيرة واختار ذلك ابراهيم ابن عرفه وقال كلما ذكر الله سبحانه في كتابه العمى فذمه فانما يراد به عمى القلب قال سبحانه وتعالى : فانها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وعلى هذا فالمراد بقوله وقد كنت بصيرا وقد كنت عالما بحجتي بصيرا بها احاج عن نفسي في الدنيا ومنه يعلم اندفاع ما قاله ابن عطية في رد من حمل العمى على عمى البصيرة من أنه لو كان كذلك لم يحس الكافر به لأنه كان في الدنيا اعمى البصيرة ومات وهو كذلك
وحاصل الجواب علية إني حشرتك اعمى القلب لاتهتدي إلى ما يناجيك من الحجة لأنك تركت في الدنيا آياتي وحججي وكما تركت ذلك تترك على هذا العمى ابدا وقيل : المراد باعمى متحيرا لايدري مايصنع من الحيل في دفع العذاب كالاعمى الذي يتحير في دفع ما لايراه وليس في الآية دليل كما يتوهم على عد نسيان القرآن أو آية منه كبيرة كما ذهب اليه الأمام الرافعي ويشعر كلام الأمام النوري في الروضة باختياره لآن المراد بنسيان الآيات بعد القول بشمولها آيات القرآن تركها وعدم الأيمان بها ومن عد نسيان شئ من القرآن كبيرة اراد
(16/278)

بالنسيان معناه الحقيقي نعم تجوز أبو شامة شيخ النووي فحمل النسيان في الاحاديث الواردة في ذم نسيان شئ من القرآن على ترك العمل به وتحقيق هذه المسئلة وان كون النسيان بالمعنى الأول كبيرة عند من قال به مشروط كما قال الجلال البلقيني والزركشي وغيرهما بما اذا كان عن تكاسل وتهاون يطلب من محله وكذا تحقيق حال الاحاديث الواردة في ذلك
وقرأ حمزة والكسائي وخلف اعمى بالامالة في الموضعين لأنه من ذوات الياء وامال أبو عمرو في الأول فقط لكونه جديرا بالتغيير لكونه رأس الآية ومحل الوقف وكذلك أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للجناية نجزى من اسرف بالانهماك في الشهوات ولم يؤمن بايات ربه بل كذبها واعرض عنها والمراد تشبية الجزاء العام بالجزاء الخاص ولعذاب الاخرة على الاطلاق أو عذاب النار اشد من عذاب الأولى وابقى
127
- أي اكثر بقاء منه أو أشد وابقى من ذلك ومن عذاب القبر أو منهما ومن الحشر على العمى
افلم يهد لهم كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من قوله تعالى وكذلك نجزى الآية والهمزة للانكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضية المقام واستعمال الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللازم فلا حاجة إلى المفعول أو لانها بمعنى التبيين والمفعول الثاني محذوف وأياما كان فالفاعل ضميره تعالى وضمير لهم للمشركين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه و سلم والمعنى اغفلوا فلم يفعل الله تعالى لهم الهداية أو فلم يبين عز و جل لهم العبر
وقوله تعالى : كم اهلكنا قبلهم من القرون أما بيان بطريق الالتفات لتلك الهداية أو كالتفسير للمفعول المحذوف وقيل : فاعل يهد ضميره صلى الله عليه و سلم وقيل : ضمير الأهلاك المفهوم من قوله تعالى : كم اهلكنا والجملة مفسره له وقيل : الفاعل محذوف أي النظر والأعتبار ونسب ذلك إلى المبرد وفيه حذف الفاعل وهو لايجوز عند البصريين وقال الزمخشري : الفاعل جملة كم اهلكنا الخ ووقوع الجملة فاعلا مذهب كوفي والجمهور على خلافه لكن رجح ذلك هنا بأن التعليل فيما بعد يقتضيه ورجح كون الفاعل ضميره تعالى شأنه لأنه قد قرأ فرقة منهم ابن عباس والسلمي افلم نهد بالنون واختار بعضهم عليه كون الفعل منزلا منزلة اللازم وجملة كم أهلكنا بيانا لتلك الهداية وبعض آخر كونه متعديا والمفعول مضمون الجملة أي أفلم يبين الله تعالى لهم مضمون هذا الكلام وقيل : الجملة سادة مسد المفعول والفعل معلق عنها وتعقب بأن كم هنا خبرية وهي لا تعلق عن العمل وإنما التي تعلق عنه كم الأستفهامية على ما نص عليه أبو حيان في البحر لكن انت تعلم أنه إذا كان مدار التعليق الصدارة كما هو الظاهر فقد صرح ابن هشام بأن لكل من كم الأستفهامية وكم الخبرية ما ذكر ورد في المغنى قول ابن عصفور : ان كم في الآية فاعل يهد بأن لها الصدر ثم قال : وقوله إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول ملكت كم عبيد فيخرجها عن الصدرية خطأ عظيم إذ خرج كلام الله تعالى شأنه على هذه اللغة انتهى وهو ظاهر في أنه قائل بأن كم هنا خبرية ولها الصدر نعم نقل الحوفي عن بعضهم أنه رد القائل بالفاعلية بانها استفهامية لا يعمل ما قبلها فيها والظاهر خبريتها وهي مفعول مقدم لأهلكنا و من القرون متعلق بمحذوف وقع صفة لمميزها أي كم قرن كائن من القرون يمشون في مساكنهم حال
(16/279)

من القرون أو من مفعول أهلكنا أي أهلكناهم وهم في حال امن وتقلب في ديارهم واختار في البحر كونه حالا من الضمير في لهم مؤكدا للانكار والعامل فيه يهد أي أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين في مساكن من اهلكنا من القرون السلفة من اصحاب الحجر وثمود وقوم لوط مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى الشام وغيره وتوهم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة للقرون وليس كذلك وقرأ ابن السميقع يمشون بالتشديد والبناء للمفعول أي يمكنون في المشي ان في ذلك تعليل للانكار وتقرير للهداية مع عدم اهتدائهم وذلك اشارة إلى مضمون قوله تعالى كم اهلكنا الخ وما فيه من معنى البعد للاشعار ببعد منزلته وعلو شأنه في بابه
لايات كثيرة عظيمة ظاهرات الدلالة على الحق وجوز أن تكون كلمة في تجريدية كما قيل في قوله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لاولى النهى
128
- أي لذوي العقول الناهية عن القبائح التي من اقبحها ما يتعاطاه هؤلاء المنكر بآيات الله تعالى والتعامي عنها وغير ذلك من فنون المعاصي
ولو لا كلمة سبقت من ربك كلام مستأنف سيق لبيان حكمة عدم وقوع ما يشعر به قوله تعالى أفلم يهد لهم الآية من أن يصيبهم مثل ما اصاب القرون المهلكة والكلمة السابقة هي العدة بتأخير عذاب الاستئصال عن هذه الامة إما اكراما للنبي صلى الله عليه و سلم كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية مع الأضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليهالسلام قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم أو لأن من نسلهم من يؤمن أو لحكمة اخرى الله تعالى أعلم بها أي لو لا الكلمة السابقة والعدة بتأخير العذاب لكان أي عقاب جناياتهم لزاما أي لازما لهؤلاء الكفرة بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة لزوم ما نزل باضرابهم من القرون السالفة واللزام إما مصدر لازم كالخصام وصف به للمبالغة أو اسم آلة كحزام وركاب والوصف به للمبالغة أيضا كلزاز خصم بمعنى ملح على خصمه
وجوز أبو البقاء كونه جمع لازم كقيام جمع قائم وهو خلاف الظاهر واجل مسمى
129
- عطف على كلمة كما أخرج ابن ابي حاتم عن قتادة والسدى أي لو لا العدة بتأخير عذابهم والأجل المسمى لاعمارهم لما تأخر عذابهم اصلا وفصله عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جواب لو لا والأشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآى الكريمة وقيل : أي ولو لا اجل مسمى لعذابهم وهو يوم القيامة
وتعقب بأنه يتحد حينئذ بالكلمة السابقة فلا يصح ادراج استقلال كل منهما بالنفي في عداد نكت الفصل وأجيب بأنه لا يلزم من تأخير العذاب عن الدنيا أن يكون له وقت لا يتأخر عنه ولا يتخلف فلا مانع من الأستقلال وأخراج ابن منذر عن مجاهد أن الأجل المسمى هي كلمة التي سبقت وقيل : الأجل المسمى للعذاب هو يوم بدر وتعقب بأنه ينافي كون الكلمة هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة وأجيب بأن المراد من ذلك العذاب هو عذاب الاستئصال ولم يقع يوم بدر وجوز الزمخشري كون العطف على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التاكيد أي لكان الاخذ العاجل والأجل المسمى لا زمين لهم كدأب عاد وثمود واضرابهم ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل وانت تعلم أن هذا لا يتسنى إذا كان لزاما اسم إلة للزوم التثنية حينئذ فاصبر على ما يقولون أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن
(16/280)

تاخير عذابهم ليس باهمال بل امهال وانه لازم لهم البتة فاصبر على مايقولون من كلمات الكفر فان علمه صلى الله عليه و سلم بانهم معذبون لامحالة مما يسليه ويحمله على الصبر والمراد به عدم الأضطراب لاترك القتال حتى تكون الآية منسوخة وسبح ملتبسا بحمد ربك أي صل وانت حامد لربك عز و جل الذي يبلغك إلى كمالك على هدايته وتوقيفه سبحانه قبل طلوع الشمس أي صلاة الفجر وقبل غروبها أي صلاة المغرب والظاهر أن الظرف متعلق بسبح
وقد أخرج تفسير التسبيح في هذين الوقتين بما ذكر الطبراني وابن عساكر وابن مردويه عن جرير مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج الحاكم عن فضالة بن وهب الليثي أن النبي عليه الصلاة و السلام قال له : حافظ على العصرين قلت : وما العصران قال : صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقيل : المراد بالتسبيح قبل غروبها صلاتا الظهر والعصر لأن وقت كل منهما قبل غروبها وبعد زوالها وجمعها لمناسبة قوله تعالى قبل طلوع الشمس وانت تعلم أن قبل الغروب وإن كان باعتبار معناه اللغوي صادقا على وقت الظهر ووقت العصر إلا أن الاستعمال شائع فيه وقت العصر وقوله تعالى ومن إناء الليل أي من ساعاته جمع إنى وانو بالياء والواو وكسر الهمزة وانا بالكسر والقصر و إناء بالفتح والمد ولم يشتهر اشتهار الثلاثة الأول وذكره من يوثق به من المفسرين وقال الراغب في مفرداته : قال الله تعالى غير ناظرين اناه أي وقته والاناه إذا كسر أوله قصر وإذا فتح مد نحو قول الحطيئة : وآنيت العشاء إلى سهيل أو الشعرى فطال بي الاناء ثم قال : ويقال مانيت الشئ ايناء أي أخرته عن اوانه ويانيت تأخرت اه وفي المصباح آنيته بالفتح والمد أخرته والأسم اناء بوزن سلام قيل منصوب على الظرفية بمضمر وقوله سبحانه فسبح عطف عليه أي قم بعض آناء الليل فسبح وهو كما ترى وقيل : منصوب بسبح على نسق وإياى فارهبون والفاء على الأول عاطفة وعلى الثاني مفسرة وقيل : إنه معمول فسبح والفاء زائدة فائدتها الدلالة على لزوم ما بعدها لما قبلها
وذكر الخفاجي أنه معمول لما ذكر من غير حاجة لدعوى زيادة الفاء لانها لاتمنع عمل مابعدها فيما قبلها كما صرح به النحاة والمراد من التسبيح في بعض آناء الليل صلاة المغرب وصلاة العشاء وللاعتناء بشأنهما لم يكتف في الأمر بفعلهما بالفعل السابق بأن يعطف من إناء الليل على أحد الظرفين السابقين من غير ذكر فسبح وللاهتمام بشأن إناء الليل وامتيازها على سائر الأوقات بامور خاصية وعامية قدم ذكرها على الأمر ولم يسلك بها مسلك ما تقدم
وقوله تعالى وطراف النهار عطف على محل قوله سبحانه من إناء الليل وقيل : على قوله عز و جل قبل طلوع والمراد من التسبيح اطراف النهار على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن قتادة صلاة الظهر واختاره الجبائي ووجه إطلاق الطرف على وقتها بأنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير منه وجمعه باعتبار النصفين أو لأن تعريف النهار للجنس الشامل لكل نهار فيكون الجمع باعتبار تعدد النهار وان لكل طرفا كذا قيل واورد على ذلك أن البداية والنهاية فيه ليست على وتيرة واحدة
(16/281)

لأن كون ذلك نهاية باعتبار أن النصف الأول انتهى عنده وهو خارج عنه وبداية باعتبار أن النصف الثاني ابتدأ منه وهو داخل فيه ولاشك في بعد كون الجمع بمثل هذا الأعتبار على أنه لابد مع ذلك من القول بأن اقل الجمع اثنان وأيضا أن اطلاق الطرف على طرف أحد نصفيه تكلف فانه ليس طرف له بل لنصفه
وقيل : هذا تكرير لصلاتي الصبح والمغرب ايذانا باختصاصهما بمزيد مزية والمراد بالنهار مابين طلوع الشمس وغروبها وبالطرف ما يلاصق أول الشئ وإخره والايتان بلفظ الجمع مع أن المراد اثنان لامن اللبس إذ النهار ليس له إلا طرفان ونظيره قول العجاج : ومهمهين فدفدين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين والمرجح المشاكلة لآناء الليل واختار هذا من ادخل الظهر فيما قبل الغروب وفيه أن الطرف حقيقة فيما ينتهى به الشئ وهو منه ويطلق على أوله وآخره وإطلاقه على الملاصق المذكور ليس بحقيقة وأجيب بأنه سائغ شائع وإن لم يكن حقيقة وجوز أن يكون تكريرا لصلاتي الصبح والعصر ويراد بالنهار ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وبالطرف الأول والآخر بحسب العرف وإذا اريد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها يبعد هذا التجويز إذ لا يكون الطرفان حينئذ على وتيرة واحدة وقيل : هو أمر بالتطوع في الساعات الأخيرة للنهار وفيه صرف الأمر عن ظاهره مع أن في كون الساعات الأخيرة للنهار زمن تطوع بالصلاة كلاما لا يخفى على الفقيه
وقال أبو حيان : الظاهر أن قوله تعالى : وسبح بحمد ربك أمر بالتسبيح مقرونا بالحمد وحينئذ إما أن يراد اللفظ أي قل سبحان الله والحمد لله أو يراد المعنى أي نزهه سبحانه عن السوء واثن عليه بالجميل
وفي خبر ذكره ابن عطية من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه وقال أبو مسلم : لا يبعد حمل ذلك على التنزيه والاجلال والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات وعلى ذلك حمله أيضا العز بن عبد السلام وجعل الباء في قوله سبحانه : بحمد ربك للآلة وقال : أن ذلك لتعيين سلب صفات النقص لأن من سلب شيئا فقد اثبت ضده واضداد صفات النقص صفات الكمال فمن نزهه سبحانه فقد اثبت صفات الكمال وجوز في اضافة الحمد إلى الرب أن تكون من اضافة المصدر إلى الفاعل أو من اضافة المصدر إلى المفعول أو من اضافة الأختصاص بأن يكون الحمد بمعنى المحامد ثم استحسن الأول لأن الحمد الحق الكامل حمد الله تعالى نفسه والمتبادر جعل الباء للملابسة والأضافة من اضافة المصدر إلى المفعول
واختار الأمام حمل التسبيح على التنزيه من الشرك وقال : أنه اقرب إلى الظاهر والى ما تقدم ذكره لأنه سبحانه صبره اولا على ما يقولون من التكذيب واظهار الكفر والشرك والذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه قوله تعالى عن قولهم : حتى يكون مظهرا لذلك وداعيا اليه واعترض بأنه لا وجه حينئذ لتخصيص هذه الأوقات بالذكر وايجيب بأن المراد بذكرها الدلالة على الدوام كما في قوله تعالى : بالغداة والعشى مع أن لبعض الأوقات مزية لأمر لا يعلمه إلا الله تعالى ورد بأنه يأباه من التبعيضية في قوله سبحانه من إناء الليل على أن هذه الدلالة يكفيها أن يقال قبل طلوع الشمس وبعده لتناوله الليل والنهار فالزيادة تدل على أن المراد خصوصية الوقت ولا يخفى أنه قوله سبحانه من إناء الليل متعلق بسبح الثاني فليكن الأول للتعميم والثاني لتخصيص البعض اعتناء به نعم يرد أن التنزية عن الشرك لا معنى لتخصيصه إلا إذا اريد به قول : سبحانه الله مرادا
(16/282)

به التنزية عن الشرك وقيل : يجوز أن يكون المراد بالتسبيح ما هو الظاهر منه ويكون المراد من الحمد الصلاة والظرف متعلق به فتكون حكمه التخصيص ظاهرة كذا في الحواشي الشهابية وقد عورض ما قاله الأمام بأن الأنسب بالأمر بالصبر الأمر بالصلاة ليكون ذلك ارشادا لما تضمنه قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وأيضا الأمر الآتى اوفق بحمل الأمر بالتسبيح على الأمر بالصلاة وقد علمت أن الآثار تقتضى ذلك ثم أنه يجوز أن يراد بالطرف طائفة من الشئ فانه أحد معانيه كما في الصحاح والقاموس وإذا كان تعريف النهار للجنس على هذا لم يبق الكلام فيما روى عن قتادة كما كان فتدبر
لعلك ترضى
130
- قيل : هو متعلق بسبح أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عنده تعالى ماترضى به نفسك من الثواب واستدل به على عدم الوجوب على الله تعالى وجوز أن يكون متعلقا بالأمر بالصبر والأمر بالصلاة والمراد لعلك ترضى في الدنيا بحصول الظفر وانتشار أمر الدعوة ونحو ذلك وقرا أبو حيوة وطلحة والكسائي وابو بكر وابان وعصمة وابو عمارة عن حفص وابو زيد عن المفضل وابو عبيد ومحمد بن عيسى الأصفهاني ترضى على صيغة البناء للمفعول من ارضى أي يرضيك ربك
ولاتمدن عينيك أي لاتطل نظرهما بطريق الرغبة والميل إلى ما متعنا به من زخارف الدنيا كالبنين والأموال والمنازل والملابس والمطاعم ازواجا منهم أي اصنافا من الكفرة وهو مفعول متعنا قدم عليه الجار والمجرور للاعتناء به ومن بيانيه وجوز أن يكون حالا من ضمير به ومن تبعيضية مفعول متعنا أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لمفعوله المحذوف أي لا تمدن عينيك إلى الذي متعنا به وهو اصناف وانواع بعضهم أو بعضا كائنا منهم والمراد على ما قيل استمر على ترك ذلك وقيل : الخطاب له عليه الصلاة و السلام والمراد أمته لأنه صلى الله عليه و سلم كان ابعد شئ عن اطالة النظر إلى زينة الدنيا وزخارفها وأعلق بما عند الله عز و جل من كل أحد وهو عليه الصلاة و السلام القائل الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما اريد به وجه الله تعالى وكان صلى الله عليه و سلم شديد النهي عن الأغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها والكلام على حذف مضاف أو فيه تجوز في النسبة وفي العدول عن لا تنظر إلى ما متعنا به الخ إلى ما في النظم الكريم اشارة إلى أن النظر الغير الممدود معفو وكان المنهي عنه في الحقيقة هو الأعجاب بذلك والرغبة فيه والميل اليه لكن بعض المتقين بالغوا في غض البصر عن ذلك حتى أنهم لم ينظروا إلى أبنية الظلمة وعدد المسقة في اللباس والمركوب وغيرهما وذلك لمغزى بعيد وهو أنهم اتخذوها لعيون النظارة والفخر بها فيكون النظر اليها محصلا لغرضهم وكالمغرى لهم على اتخاذها
زهرة الحياة الدنيا أي زينتها وبهجتها وهو منصوب بمحذوف يدل عليه متعنا أي جعلنا لهم زهرة أو بمتعنا على أنه مفعول ثان له لتضمينه معنى اعطينا أو على أنه بدل من محل به وضعفه ابن الحاجب في اماليه لأن إبدال منصوب من محل جار ومجرور ضعيف كمررت بزيد اخاك ولان الأبدال من العائد مختلف فيه ومثل ذلك ما قيل أنه بدل من ما الموصولة لما فيه من الفصل بالبدل بين الصلة ومعمولها أو على أنه بدل من ازواجا بتقدير مضاف أي ذوي أو أهل زهرة وقيل : بدون تقدير على كون ازواجا حالا بمعنى اصناف التمتعات أو على جعلهم نفس الزهرة مبالغة وضعف هذا بأن مثله يجري في النعت لا في البدل لمشابهته لبدل الغلط حينئذ أو على
(16/283)

أنه تمييز لما أو لضمير به وحكى عن الفراء اوصفه ازواجا ورد ذلك لتعريف التمييز وتعريف وصف النكرة وقيل : على أنه حال من ضمير به أو من ما وحذف التنوين لالتقاء الساكنين وجر الحياة على البدل من ما واختاره مكي ولا يخفى ما فيه وقيل : نصب على الذم أي اذم زهرة الخ واعترض بأن المقام يأباه لأن المراد أن النفوس مجبولة على النظر اليها والرغبة فيها ولا يلائمة تحقيرها ورد بأن في اضافة الزهرة في الحياة الدنيا كل ذم وما ذكر من الرعبة من شهوة النفوس الغبية التي حرمت نور التوفيق
وقرأ الحسن وابو حيوة وطلحة وحميد وسلام ويعقوب وسهل وعيسى والزهري زهرة بفتح الهاء وهي لغة كالجهرة في الجهرة وفي المحتسب لابن جنى مذهب اصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتحة أنه لا يحرك إلا على أنه لغة كنهر ونهر وشعر وشعر ومذهب الكوفيين أنه يطرد تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا وان لم يسمع ما لم يمنع منه مانع كما في لفظ نحو لأنه لو حرك قلب الواو ألفا وجوز الزمخشري كون زهرة بالتحريك جمع زاهر ككافر وكفرة وهو وصف لأزواجا أي أزواجا من الكفرة زاهرين بالحياة الدنيا لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب وجوز على هذا كونه حالا لأن اضافته لفظية
وأنت تعلم أن المتبادر من هذه الصفة قصد الثبوت لا الحدوث فلا تكون إضافتها لفظية على أن المعنى على تقدير الحالية ليس بذاك لنفتنهم فيه متعلق بمتعنا أي لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه وفيه تنفير عن ذلك ببيان سوء عاقبته مآلا اثر بهجته حالا وقرأ الاصمعي عن عاصم لنفتنهم بضم النون من افتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه على ما قال أبو حيان ورزق ربك أي ما ادخر لك في الآخرة أو رزقك في الدنيا من النبوة والهدى وادعى صاحب الكشف أنه انسب بهذا المقام أو ما ادخر لك فيها من فتح البلاد والغنائم وقيل : القناعة خير مما متع به هؤلاء لأنه مع كونه في نفسه من اجل ما يتنافس فيه المتنافسون مامون الغائلة بخلاف ما متعوا به وابقى
131
- فانه نفسه أو اثره لا يكاد ينقطع كالذي متعوا به
وامر اهلك بالصلاة أمر صلى الله عليه و سلم أن يأمر أهله بالصلاة بعدما أمر هو عليه الصلاة و السلام بها ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت ذوي الثروة والمراد باهله صلى الله عليه و سلم قيل ازواجه وبناته وصهره على رضى الله تعالى عنهم وقيل : ما يشملهم وسائر مؤمني بني هاشم والمطلب وقيل : حميع المتبعين له عليه الصلاة و السلام من أمته واستظهر أن المراد أهل بيته صلى الله تعالى عليه وسلم وايد بما أخرجه ابن مردودية وابن عساكر وابن النجار عن ابي سعيد الخدري قال : لما نزلت وأمر أهلك الخ كان عليه الصلاة و السلام يجئ إلى باب علي كرم الله تعالى وجهه صلاة الغداة ثمانية اشهر يقول : الصلاة رحمكم الله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا وروى نحو ذلك الامامية بطرق كثيرة
والظاهر أن المراد بالصلاة الصلوات المفروضة ويؤمر بادائها الصبي وإن لم تجب عليه ليعتاد ذلك فقد روى أبو داود باسناد حسن مرفوع مروا اولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع واصطبرعليها أي وداوم عليها فالصبر مجاز مرسل عن المداومة
(16/284)

لانها لازم معناهوفيه اشارة إلى أن العبادة في رعايتها حق الرعاية مشقة على النفس والخطاب عام شامل للأهل وإن كان في صورة الخاص وكذا فيما بعد ولا يخفى ما في التعبير بالتسبيح اولا والصلاة ثانيا مع توجيه الخطاب بالمداومة اليه عليه الصلاة و السلام من الأشارة إلى مزيد رفعة شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله تعالى : لا نسئلك رزقا نحن نرزقك دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش فكأنه قيل داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها إذ لا نكلفكم رزق انفسكم إذ نحن نرزقكم وتقديم المسند اليه للاختصاص أو لافادة التقوى وزعم بعضهم أن الخطاب خاص وكذا الحكم إذ لو كان عاما لرخص لكل مسلم المداومة على الصلاة وترك الأكتساب وليس كذلك وفيه أن قصارى ما يلزم العموم سواء كان الأهل خاصا أو عاما لسائر المؤمنين أن يرخص للمصلى ترك الاكتساب المانع من الصلاة واي مانع عن ذلك بل ترك الأكتساب لاداء الصلاة المفروضة فرض وليس المراد بالمداومة عليها الا أداؤها دائما في أوقاتها المعينة لها لا استغراق الليل والنهار بها وكان الزاعم ظن أن المراد بالصلاة ما يشمل المفروضة وغيرها وبالمداومة عليها فعلها دائما على وجه يمنع من الاكتساب وليس كذلك ومما ذكرنا يعلم أنه لا حاجة في رد ما ذكره الزاعم إلى حمل العموم على شمول خطاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأهله فقط دون جميع الناس كما لا يخفىنعم قد يستشعر من الآية أن الصلاة مطلقا تكون سببا لادرار الرزق وكشف الهم وعلى ذلك يحمل ما جاء في الأخبار أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الاوسط وابو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الأيمان بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزلت باهله شدة أو ضيق امرهم بالصلاة وتلا وأمر أهلك بالصلاة وأخرج احمد في الزهد وغيره عن ثابت قال كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا اصابت أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة صلوا صلوا قال ثابت : وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة وأخرج مالك والبيهقي عن اسلم قال كان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ماشاء الله تعالى أن يصلي حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم : الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية وامر اهلك الخ وجوز لظاهر الأخبار أن يراد بالصلاة مطلقها فتأمل وقرا ابن وثاب وجماعة نرزقك بادغلم القاف في الكاف وجاء ذلك عن يعقوب والعاقبة الحميدةاعم من الجنة وغيرها وعن السدى تفسيرها بالجنة للتقوى
132
- أي لاهلها كما في قوله تعالى والعاقبة للمتقين ولو لم يقدر المضاف صح وفيما ذكر تنبية على أن ملاك الأمر التقوى وقالوا لولا ياتينا باية من ربه حكاية لبعض اقاويلهم الباطلة التي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالصبر عليها أي هلا يأتينا بآية تدل على صدقة في دعوى النبوة أو بآية من الآيات التي اقترحوها لا على التعيين بلغوا من المكابرة والعناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات حتى اجترؤا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء
وقوله تعالى اولم تأتهم بينة ما فى الصحف الاولى
133
- رد من جهته تعالى لمقالتهم القبيحة وتكذيب لهم فما دسوا تحتها من انكار اتيان الآية باتيان القرآن الكريم الذي هو أم الآيات وأس المعجزات وأرفعها وأنفعها لأن حقيقة المعجزة الأمر الخارق للعادة يظهر على يد مدعي النبوة عند التحدي أي أمر كان ولا ريب
(16/285)

في أن العلم أجل الأمور وأعلاها إذ هو أصل الأعمال ومبدأ الأفعال وبه تنال المراتب العلية والسعادة الأبدية ولقد ظهر مع حيازته لجميع علوم الأولين والآخرين على يد من لم يمارس شيئا من العلوم ولم يدارس أحد من أهلها اصلا فاي معجزة تراد بعد ورودة وأية آية تطلب بعد وفوده فالمراد بالبينه القرآن الكريم والمراد بالصحف الأولى التوراة والانجيل وسائر الكتب السماوية وبما فيها العقائد الحقة واصول الاحكام التي اجتمعت عليه كافة الرسل عليهم السلام ومعنى كونه بينه لذلك كونه شاهدا بحقيته وفي إيراده بهذا العنوان ما لا يخفى من التنويه بشأنه والانارة لبرهانه حيث أشار إلى امتيازه وغناه عما يشهد بحقيت ما فيه لاعجاره وإسناد الاتيان اليه مع جعلهم إياه مأتيا به للتنبيه على اصالته فيه مع ما فيه من المناسبة للبينه والهمزة لانكار الوقوع والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل : ألم ياتهم سائر الآيات ولم ياتهم خاصة بينة ما في الصحف الأولى تقريرا لاتيانه وإيذانا بأنه من الوضوح بحيث لا يتاتى منهم إنكارا أصلا : وإن اجترؤا على انكار سائر الآيات مكابرة وعنادا وتفسير الآية بما ذكر هو الذي تقتضيه جزالة التنزيل
وزعم الأمام والطبرسي أن المعنى اولم ياتهم في القرإن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي اهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية بقولهم لولا ياتينا بآية كحال أولئك الهالكين اه وهو بمعزل عن القبول كما لا يخفى على ذوي العقول وقرأ اكثر السبعة وابو بحرية وابن محيصن وطلحة وابن ابي ليلى وابن منذر وخلف وابو عبيد وابن سعدان وابن عيسى وابن جبير الأنطاكي ياتهم بالياء التحتانية لمجاز تانيث الآية والفصل
وقرأت فرقة منهم أبو زيد عن ابي عمرو بينة بالتنوين على أن ما بدل وقال صاحب اللوامح : يجوز أن تكون ما على هذه القراءة نافية على أن يراد بالآتي ما في القرإن من الناسخ والفضل مما لم يكن في غيره من الكتب وهو كما ترى وقرأت فرقة بنصب بينة والتنوين على أنه حال وما فاعل وقرأت فرقة منهم ابن عباس الصحف باسكان الحاء للتخفيف وقوله تعالى ولو انا اهلكناهم بعذاب إلى إخر الآية جملة مستانفة لتقرير ما قبلها من كون القرآن إية بينة لا يمكن إنكارها ببيان أنهم يعترفون بها يوم القيامة والمعنى ولو انا اهلكناهم في الدنيا بعذاب مستاصل من قبله متعلق باهلكنا أو بمحذوف هو صفة لعذاب أي بعذاب كائن من قبله والضمير للبينة والتذكير باعتبار انها برهان ودليل أو للايتان المفهوم من الفعل أي من قبل اتيان البينة وقال أبو حيان : إنه للرسول بقرينة ما بعد من ذكر الرسول وهو مراد من قال : أي من قبل إرسال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لقالوا أي يوم القيامة ربنا لولا ارسلت في الدنيا الينا رسولا مع إيات فنتبع ماياتك التي جاءنا بها من قبل أن نذل بالعذاب في الدنيا ونخزى
134
- بدخول النار اليوم وقال أبو حيان : الذل والخزى كلاهما بعذاب الآخرة ونقل تفسير الذل بالهوان والخزى بالافتضاح والمراد انا لو اهلكناهم قبل ذلك لقالوا ولكنا لم نهلكهم قبله فانقطعت معذرتهم فعند ذلك قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ
وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن علي والحسن في رواية عباد والعمرى وداود
(16/286)

والفزارى وابو حاتم ويعقوب نذل ونخزى بالبناء للمفعول واستدل الأشاعرة بالآية على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع والجبائي على وجوب اللطف عليه عز و جل وفيه نظر قل لأولئك الكفرة المتمردين كل أي كل واحد منا ومنكم متربص أي منتظر لما يؤل اليه أمرنا وأمركم وهو خبر كل وإفراده حملا له على لفظه فتربصوا وقرئ فتمتعوا فستعلمون عن قريب من اصحاب الصراط السوى أي المستقيم وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير السواء أي الوسط والمراد به الجيد
وقرأ الجحدري وابن يعمر السوأى بالضم والقصر على وزن فعلى وهو تأنيث الاسوا وأنث لتأنيث الصراط وهو مما يذكر ويؤنث وقرأ ابن عباس رضى الله تعالى عنهما السوء بفتح وسكون وهمزة آخره بمعنى الشر وقرئ السوى بضم السين وفتح الواو وتشديد الياء وهو تصغير سوء بالفتح وقيل : تصغير سوء بالضم وقال أبو حيان : الاجود أن يكون تصغير سواء كما قالوا في عطا عطى لأنه لو كان تصغير دلك لثبتت همزته وقيل : سوئى وتعقب بأن إبدال مثل هذه الهمزة ياء جائز وعن الجحدري وابن يعمر انهما قرآ السوى بالضم والقصر وتشديد الواو واختير في تخريجه أن يكون اصله السوآى كما في الرواية الأولى فخففت الهمزة بابدالها واوا وادغمت الواو في الواو وقد روعيت المقابلة على اكثر هذه القراءات بين ما تقدم وقوله تعالى ومن اهتدى
135
- أي من الضلالة ولم تراع على قراءة الجمهور والأولى من الشواذ
ومن في الموضعين استفهامية في محل رفع على الأبتداء والخبر ما بعد والعطف من عطف الجمل ومجموع الجملتين المتعاطفتين ساد مسد مفعولي العلم أو مفعوله أن كان بمعنى المعرفة وجوز كون من الثانية موصولة فتكون معطوفة على محل الجملة الأولى الأستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد إذ لولاه لكان الموصول بواسطة العطف أحد المفعولين وكان المفعول الآخر محذوفا اقتصار أو هو غير جائز
وجوز أن تكون معطوفة على اصحاب فتكون في حيز من الأستفهامية أي ومن الذي اهتدى أو على الصراط فتكون في حيز اصحاب أي ومن اصحاب الذي اهتدى يعنى النبي صلى الله عليه و سلم وإذاعى بالصراط السوى النبي عليه الصلاة و السلام أيضا كان العطف من باب عطف الصفات على الصفات مع اتحاد الذات
وأجاز الفراء أن تكون من الأولى موصولة أيضا بمعنى الذين وهي في محل النصب على انها مفعول للعلم بمعنى المعرفة واصحاب خبر مبتدأ محذوف وهو العائد أي الذين هم اصحاب الصراط وهذا جائز على مذهب الكوفيين فانهم يجوزون حذف مثل هذا العائد سواء كان في الصلة طول أو لم يكن وسواء كان الموصول أيا أو غيره بخلاف البصريين وما أشد مناسبة هذه الخاتمة للفاتحة وقد ذكر الطيبي انها خاتمة شريفة ناظرة إلى الفاتحة وانه إذا لاح أن القرآن انزل لتحمل تعب الأبلاغ ولا تنهك نفسك فحيث بلغت وبلغت جهدك فلا عليك وعليك بالاقبال على طاعتك قدر طاقتك وأمر اهلك وهم امتك المتبعون بذلك ودع الذين لا ينجح فيهم الانذار فانه تذكرة لمن يخشى وسيندم المخالف حين لا ينفعه الندم انتهى
ومن باب الأشارة في الآيات فأوجس في نفسه خيفة موسى قيل : إنه عليه السلام رأى أن الله تعالى البس سحر السحرة لباس القهر فخاف من القهر لأنه لا يا من مكر الله إلا القوم الخاسرون
(16/287)

وسئل ابن عطاء عن ذلك فقال : ما خاف عليه السلام على نفسه وإنما خاف على قومه أن يفوتهم حظهم من الله تعالى قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى أي إنك المحفوظ بعيون الرعاية وحرس اللطف أو انت الرفيع القدر الغالب عليهم غلبة تامة بحيث يكونون بسببها من اتباعك فلا يفوتهم حظهم من الله تعالى قألقى السحرة سجدا إلى آخر ما كان منهم فيه إشارة إلى أن الله تعالى يمن على من يشاء بالتوفيق والوصول اليه سبحانه في اقصر وقت فلا يستبعد حصول الكمال لمن تاب وسلك على يد كامل مكمل في مدة يسيرة وكثير من الجهلة ينكرون على السالكين التائبين إذا كانوا قريبي العهد بمقارفة الذنوب ومفارقة العيوب حصول الكمال لهم وفيضان الخير عليهم ويقولون كيف يحصل لهم ذلك وقد كانوا بالامس كيت وكيت وقولهم : ان نؤثرك الخ كلام صادر من عظم الهمة الحاصل للنفس بقوة اليقين فانه متى حصل ذلك للنفس لم تبال بالسعادة الدنيوية والشقاوة البدنية واللذات العاجلة الفانية والآلام الحسية في جنب السعادة الاخروية واللذة الباقية الروحانية ولقد اوحينا إلى موسى أن اسر بعبادي الخ فيه اشارة إلى استحباب مفارقة الأغيار وترك صحبة الاشرار ولا تطغوا فيه عد من الطغيان فيه استعماله مع الغفلة عن الله تعالى وعدم نية التقوى به على تقواه عز و جل وما اعجلك عن قومك يا موسى الأشارة فيه أنه ينبغي للرئيس رعاية الأصلح في حق المرؤس وللشخ عدم فعل ما يخشى منه سوء ظن المريد لا سيما إذا لم يكن له رسوخ اصلا قال فانا قد فتنا قومك من بعدك
قال ابن عطاء : إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام بعد أن اخبره بذلك : أتدري من أين أتيت قال : لا يا رب قال سبحانه : من قولك لهرون : اخلفني في قومي وعدم تفويض الأمر الي والأعتماد في الخلافة علي
وذكر بعضهم أن سر اخبار الله تعالى إياه بما ذكر مباسطته عليه السلام وشغله بصحبته عن صحبة الاضداد وهو كما ترى واضلهم السامري صار سبب ضلالهم بما صنع قال بعض أهل التاويل : إنما ابتلاهم الله تعالى بما ابتلاهم ليتميز منهم المستعد القابل للكمال بالتجريد من القاصر الأستعداد المنغمس في المواد الذي لا يدرك إلا المحسوس ولا يتنبه للمجرد المعقول ولهذا قالوا : ما اخلفنا موعدك بملكنا أي برأينا فانهم عبيد بالطبع لا رأى لهم ولا ملكة وليسوا مختارين لا طريق لهم إلا التقليد والعمل لا التحقيق والعلم وإنما استعبدهم السامري بالطلسم المفرغ من الحلي لرسوخ محبةالذهب في نفوسهم لانها سفلية منجذبة إلى الطبيعة الجسمانية وتزين الطبيعة الذهبية وتحلى تلك الصورة النوعية فيها للتناسب الطبيعي وكان ذلك من باب مزج القوى السماوية التي هي اثر النفس الحيوانية الكلية السماوية المشار اليها بحيزوم وفرس الحياة وهي مركب جبريل عليه السلام المشار به إلى العقل الفعال بالقوى الارضية ولذلك قال : بصرت بما لم يبصروا به أي من العلم الطبيعي والرياضي اللذين يبنى عليهما علم الطلسمات والسيمياء قال فاذهب فان لك في الحياة أن تقول لامساس قال ذلك عليه السلام غضبا على السامري وطردا له وكل من غضب عليه الأنبياء وكذا الأولياء لكونهم مظاهر صفات الحق تعالى وقع في قهره عز و جل وشقى في الدنيا والآخرة وكانت صورة عذاب هذا الطريد في التحرز عن المماسة نتيجة بعده عن الحق في الدعوة إلى الباطل واثر لعن موسى عليه السلام إياه عند إبطال كيده وإزالة مكره ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا قال أهل الوحدة : أي يسألونك عن موجودات الأشياء فقل ينسفها ربي برياح النفحات الالهية الناشئة من معدن الاحدية فيذرها في القيامة الكبرى قاعا صفصفا وجودا احديا لا ترى فيها عوجا ولا امتا اثنينية ولا غيريه يومئذ يتبعون الداعي
(16/288)

الذي هو الحق سبحانه لا عوج له إذ هو تعالى آخذ بنواصيهم وهو على صراط مستقيم وخشعت الاصوات للرحمن إذ لا فعل لغيره عز و جل فلا تسمع إلا همسا امرا خفيا باعتبار الأضافة إلى المظاهر انتهى
ولكم لهم مثل هذه التاويلات والله تعالى العاصم يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من اذن له الرحمن ورضى له قولا قيل : هو من صحح فعله وعقده ولم ينسب لنفسه شيئا ولا رأى لها عملا ولا يحيطون به علما لكمال تقدسه وتنزهه وجلاله سبحانه عز و جل فهيهات أن تحلق بعوضة الفكر في جو سماء الجبروت ومن اين لنحلة النفس الناطقة أن ترعى ازهار رياض بيداء اللاهوت نعم يتفاوت الخلق في العلم بصفاته عز و جل على قدر تفاوت استعداداتهم وهو العلم المشار اليه بقوله تعالى : وقل رب زدني علما وقيل : هذا إشارة إلى العلم اللدني والأشارة في قصة آدم عليه السلام إلى أنه ينبغي للانسان مزيد التحفظ من الوقوع في العصيان ولله تعالى در من قال : يا ناظرا يرنو بعيني راقد ومشاهدا للأمر غير مشاهد منيت نفسك ضلة وابحتها طرق الرجاء وهن غير قواصد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدما منها إلى الدنيا بذنب واحد وروى الضحاك عن ابن عباس قال : بينا إدم عليه السلام يبكي جاءه جبريل عليه السلام فبكى إدم وبكى جبريل لبكائه عليهما السلام وقال : يا إدم ما هذا البكاء قال : يا جبريل وكيف لا أبكي وقد حولني ربي من السماء إلى الأرض ومن دار النعمة إلى دار البؤس فانطلق جبريل عليه السلام بمقالة آدم فقال الله تعالى : يا جبريل انطلق اليه فقل له : يا آدم يقول لك ربك ألم أخلقك بيدي ألم أنفخ فيك من روحي ألم أسجد لك ملائكتي ألم أسكنك جنتي ألم آمرك فعصيتني فوعزتي وجلالي لو أن ملء الأرض رجالا مثلك ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين غير أنه يا آدم قد سبقت رحمتي غضبي وقد سمعت تضرعك ورحمت بكاءك واقلت عثرتك ومن اعرض عن ذكرى أي بالتوجه إلى العالم السفلى فان له معيشة ضنكا لغلبة شحه وشدة بخله فان المعرض عن جناب الحق سبحانه انجذبت نفسه إلى الزخارف الدنيوية والمقتنيات المادية لمناسبتها إياه واشتد حرصه وكلبه عليها وشغفه بها للجنسية والأشتراك في الظلمة والميل إلى الجهه السفلية فيشح بها عن نفسه وغيره وكلما استكثر منها ازداد حرصه عليها وشحه بها وتلك المعيشة الضنك
ولهذا قال بعضهم : لا يعرض أحد عن ذكر ربه سبحانه إلا اظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه بخلاف الذاكر المتوجه اليه تعالى فانه ذو يقين منه عز و جل وتوكل عليه تعالى في سعة من عيشه ورغد ينفق ما يجد ويستغني لربه سبحانه عما يفقد والعاقبة للتقوى أي العاقبة التي تعتبر وتستاهل أن تسمى عاقبة لأهل القوى المتخلين عن الرذائل النفسانية المتحلين بالفضائل الروحانية نسأل الله تعالى أن يمن علينا بحسن العاقبة وصفاء العمر عن المشاغبة ونحمده سبحانه على إلائه ونصلى ونسلم على خير انبيائه وعلى إله خير إل ما طلع نجم ولمع إل
تم الجزء السادس عشر ويليه أن شاء الله تعالى الجزء السابع عشر وأوله سورة 17
(16/289)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء
نزلت بمكة كما أخرج ابن مردوية عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وفي البحر أنها مكية بلا خلاف وأطلق ذلك فيها واستثني منها في الإتفاق قوله تعالى أفلا ترون أنا نأتي الأرض الآية وهي مائة واثنتا عشرة آية في عد الكوفي وإحدى عشرة في عد الباقين كما قاله الطبرسي والداني ووجه اتصالهما بما قبلهما غني عن البيان وهي سورة عظيمة فيها موعظة فخيمة فقد أخرج ابن مردوية وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن عامر ابن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه و سلم واديا ما في العرب واد أفضل منه وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر : لا حاجة لي في قطيعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا اقترب للناس إلى آخره
بسم الله الرحمن الرحيم اقترب للناس حسابهم روي عن ابن عباس كما قال الإمام والقرطبي والزمخشري أن المراد بالناس المشركون ويدل عليه ما ستسمعه بعد إن شاء الله تعالى من الآيات فإنها ظاهرة في وصف المشركين وقال بعض الأجلة إن ما فيها من قبيل نسبة ما للبعض إلى الكل فلا ينافي كون تعريفه للجنس ووجه حسنه ههنا كون أولئك البعض هم الأكثرون وللأكثر حكم الكل شرعا وعرفا ومن الناس من جوز إرادة الجنس والضمائر فيها بعد لمشركي أهل مكة وإن لم يتقدم ذكرهم في هذه السورة وليس بأبعد مما سبق وقال بعضهم : إن دلالة ما ذكر على التخصيص ليست إلا على تقدير تفسير الأوصاف بما فسروها به ويمكن أن يجعل كل منها على معنى يشترك فيه عصاة الموحدين ولا يخفى أن في ذلك ارتكاب خلاف الظاهر جدا واللام صلة لاقترب كما هو الظاهر وهو بمعنى إلى أو بمعنى من فإن اقترب افتعل من القرب ضد البعد وهو يتعدى بالي وبمن واقتصر بعضهم على القول بأنها بمعنى إلى فقيل فيه تحكم لحديث تعدي القرب بهما وأجيب بأنه يمكن أن يكون ذلك لأن كلا من من وإلى اللتين هما صلتا القرب بمعنى انتهاء الغاية إلا أن إلى عريقة في هذا المعنى ومن عريقة في ابتداء الغاية فلذا أوثر التعبير عن كون اللام المذكورة بمعنى انتهاء الغاية كالتي في قوله تعالى بأن ربك أوحى لها القول بأنها بمعنى إلى واقتصر عليه وفي الكشف المعنى على تقدير كونه صلة لاقترب من الناس لأن معنى الإختصاص وابتداء الغاية كلاهما مستقيم يحصل به الغرض انتهى وفيه بحث فإن المفهوم منه أن يكون كلمة من التي يتعدى بها فعل الإقتراب بمعنى ابتداء الغاية وليس كذلك لعدم ملائمة ذلك المعنى مواقع استعمال تلك الكلمة فالحق أنها بمعنى انتهاء الغاية فإنهم ذكروا أن من مجيء لذلك قال الشمني : وفي الجني الداني مثل ابن مالك لانتهاء الغاية بقولهم تقتربت منه فأنه مساو ولتقربت إليه ومما يشهد لذلك أن فعل الإقتراب كما يستعمل بمن يستعمل بإلى وقد ذكر في معاني من انتهاء الغاية كما سمعت ولم يذكر أحد في معاني إلى ابتداء الغاية والأصل أن تكون
(17/2)

الصلتان بمعنى فتحمل على إلى في كون المراد بها الإنتهاء وغاية ما يقال في توجيه ذلك أن صاحب الكشف حملها على ابتداء الغاية لأنه أشهر معانيها حتى ذهب بعض النحاة إلى إرجاع سائرها إليه وجعل تعديته بها حملا على ضده المتعدي بها وهو فعل البعد كما أن فعل البيع يعدى بمن حملا له على فعل الشراء المتعدي بها على ما ذكره نجم الأئمة الرضي في بحث الحروف الجارة والمشهور أن اقترب بمعنى قرب كاقترب بمعنى رقب وحكى في البحر أنه أبلغ منه لزيادة مبناه والمراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه وهو الساعة ووجه إيثار بيان اقترابه مع أن الكلام مع المشركين المنكرين لأصل بعث الأموات ونفس إحياء العظام الرفات فكان ظاهر ما يقتضيه المقام أن يؤتى بما يفيد أصل الوقوع بدل الإقتراب وأن يسند ذلك إلى نفس الساعة لا إلى الحساب للإشارة إلى وقوع القيام وحصول بعث الأجساد والأجسام أمر ظاهر بلا تمويه وشيء واضح لا ريب فيه وأنه وصل في الظهور والجلال إلى حيث لا يكاد يخفى على العقلاء وأن الذي يرخي في بيانه أعنة المقال بعض ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للإضطراب بل نفس وقوع الحساب أيضا غني عن البيان لا ينبغي أن ترتاب فيه العقول والأذهان وأن الذي قصد بيانه ههنا أنه دنا أوانه واقترب زمانه فيكون الكلام مفصحا عن تحقق القيام الذي هو مقتضى المقام على وجه وجيه أكيد ونهج بديع سديد لا يخفى لطفه على من ألقى السمع وهو شهيد
وجوز أن يكون الكلام مع المشركين السائلين عن زمان الساعة المستعجلين لها استهزاء كما في قوله تعالى فسينغضون إليك رؤسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا فحينئذ يكون الإخبار عن الإقتراب على مقتضى الظاهر وإيثار بيان اقتراب الحساب على بيان اقتراب سائر وقوع مستتبعات البعث كفنون العذاب وشجون العقاب للإشعار بأن مجرد اقتراب الحساب الذي هو من مبادي العذاب ومقدماته كاف في التحذير عما هم عليه من الإنكار وواف بالردع عما هم عليه من العلو والإستكبار فكيف الحال في نفس العذاب والنكال
وذكر شيخ الإسلام مولانا أبو السعود عليه الرحمة إن إسناد ذلك إلى الحساب لا إلى الساعة لانسياق الكلام إلى بيان غفلتهم عنه وإعراضهم عما يذكرهم إياه وفيه ما فيه ثم الوجه اللائح في النظر الجليل لإسناد الإقتراب إلى الحساب دون الناس مع جواز العكس هو أن الإقتراب إذا حصل بين شيئين يسند إلى ما هو مقبل على الآخر متحرك ومتوجه إلى جهته حقيقة أو حكما حتى أنه لو كان كل منهما متوجها إلى الآخر يصح إلى كل منهما وقد سمعت أن المراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه وقد صرح به أجلة المفسرين وأنت خبير بأن الشائع المستفيض اعتبار التوجه والإتيان من الزمان إلى ذي الزمان لا بالعكس فلذلك يوصف الزمان بالمضي والإستقبال فكان الجدير أن يسند الإقتراب إلى زمان الحساب ويجعل الناس مدنوا إليهم
وذكر شيخ الإسلام أن في هذا الإسناد من تفخيم شأن المسند إليه وتهويل أمره ما لا يخفى لما فيه من تصوير ذلك بصورة شيء مقبل عليهم لا يزال يطلبهم فيصيبهم لا محالة انتهى وهو معنى زائد على ما ذكرنا لا يخفى لطفه على الناقد البصير واليلمعي الخبير والمراد من اقتراب ذلك من الناس على ما اختاره الشيخ قدس سره دنوه منهم بعد بعده عنهم فإنه في كل ساعة يكون أقرب إليهم منه في الساعة السابقة واعترض قول الزمخشري المراد من ذلك كون الباقي من مدة الدنيا أقل وأقصر مما مضى منها فإنه كصبابة الإناء ودردي الوعاء بأنه لا تعلق له بما نحن فيه من الإقتراب المستفاد من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق أصل معناه نعم قد يفهم منه
(17/3)

عرفا كونه قريبا في نفعه أيضا فيصار حينئذ إلى هذا التوجيه وتعقبه بعض الأفاضل بأن القول بعدم التعلق بالإقتراب المستفاد من صيغة الماضي خارج عن دائرة الإنصاف فإنه إن أراد أنه لا تعلق له بالحدوث المستفاد منها فلا وجه له إذ الإقتراب بالمعنى المذكور أمر حدث بمضي الأكثر من مدة الدنيا وإن أراد أنه لا تعلق له بالمضي المستفاد منها فلا وجه له أيضا إذ الدلائل دلت على حصول هذا الإقتراب حين مبعث النبي صلى الله عليه و سلم الموعود في آخر الزمان المتقدم على نزول الآية
ثم قال : فليت شعري ما معنى عدم تعلقه ما نحن فيه بل ربما يمكن أن يدعي عدم المناسبة في المعنى الذي اختاره نفسه فإن الإقتراب بذلك المعنى مستمر من أول بدء الدنيا إلى يوم نزول الآية بل إلى ما بعد فالذي يناسبه هو الصيغة المنبئة عن الإستمرار والدوام ثم لا يخفى عن أصحاب الأفهام أن هذا المعنى الذي اعترضه أنسب بما هو مقتضى المقام من إخافة الكفرة اللئام المرتابين في أمر القيام لما فيه من بيان قربه الواقع في نفس الأمر أه فتدبر وقيل المراد إقتراب ذلك عند الله تعالى وتعقب بأنه لا عند لله عز و جل إذ لا نسبة للكائنات إليه عز و جل بالقرب والبعد
ورد بأنه غفلة أو تغافل عن المراد فإن المراد من عند الله في علمه الأزلي أو في حكمه وتقديره لا الدنو والإقتراب المعروف وعلى هذا يكون المراد من القرب تحققه في علمه تعالى أو تقديره
وقال بعض الأفاضل : ليس المراد من كون القرب عند الله تعالى نسبته إليه سبحانه بأن يجعل هو عز و جل مدنوا منه ومقربا إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا بل المراد قرب الحساب للناس عند الله تعالى وحاصله أنه تعالى شأنه لبلوغ تأنيه إلى حد الكمال يستقصر المدد الطوال فيكون الحساب قريبا من الناس عند جنابه المتعال وإن كان بينه وبينهم أعوام وأحوال وعلى هذا يحمل قوله تعالى يرونه بعيدا ونراه قريبا وهذا المعنى يفيد وراء إفادته تحقيق الثبوت لا محالة أن المدة الباقية بينهم وبين الحساب شيء قليل في الحقيقة وما عليه الناس من استطالته واستكثاره فمن التسويلات الشيطانية وأن اللائق بأصحاب البصيرة أن يعدوا تلك المدة قصيرة فيشمروا الذيل ليوم يكشف فيه عن ساق ويكون إلى الله تعالى شأنه المساق وقول شيخ الإسلام في الإعتراض على ما قيل أنه لا سبيل إلى اعتباره ههنا لأن قربه بالنسبة إليه تعالى مما لا يتصور فيه التجدد والتفاوت حتما وإنما اعتباره في قوله تعالى لعل الساعة قريب ونظائره مما لا دلالة فيه على الحدوث مبني على حمل القرب عنده تعالى على القرب إليه تعالى بمعنى حضور ذلك في علمه الأزلي فإنه الذي لا يجري فيه التفاوت حتما وأما قرب الأشياء بعضها إلى بعض زمانا أو مكانا فلا ريب أنه يتجدد تعلقات علمه سبحانه بذلك فيعلمه على ما هو عليه مع كون صفة العلم نفسها قديمة على ما تقرر في موضعه أه واختار بعضهم أن المراد بالعندية ما سمعته أولا وهو معنى شائع في الإستعمال وجعل التجدد باعتبار التعلق كما قيل بذلك في قوله تعالى وكذلك بعثناهم لنعلم الآية وقيل المراد من اقترابه تحقق وقوعه لا محالة فإن كل آت قريب والبعيد ما وقع ومضى ولذا قيل : فلا زال ما تهواه أقرب من غد ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس ولا بد أن يراد من تحقق وقوعه تحققه في نفسه لا تحققه في العلم الأزلي ليغاير القول السابق وبعض الأفاضل قال : إنه على هذا الوجه عدم تعلقه بالإقتراب المستفاد من صيغة الماضي إلا أن يصار إلى القول بتجرد الصيغة عن الدلالة على الحدوث كما في قولهم : سبحان من تقدس عن الأنداد وتنزه عن الأضداد فتأمل ولا تغفل
وتقديم الجار والمجرور على الفاعل كما صرح به شيخ الإسلام للمسارعة إلى إدخال الروعة فإن نسبة الإقتراب
(17/4)

إلى المشركين من أول الأمر يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجا من المقترب واعترض بأن هؤلاء المشركين لا يحصل لهم الترويع والإنزعاج لما ستسمع من غفلتهم وإعراضهم وعدم اعتدادهم بالآيات النازلة عليهم فكيف يتأتى تعجيل المساءة وأجيب بأن ذلك لا يقتضي أن لا يزعجهم الإنذار والتذكير ولا يروعهم التخويف والتحذير لجواز أن يختلج في ذهنهم احتمال الصدق ولو مرجوحا فيحصل لهم الخوف والإشقاق
وأيده بما ذكره بعض المفسرين من أنه لما نزلت اقتربت الساعة قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فامسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئا فنزلت اقترب للناس حسابهم فأشفقوا فانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به انتهى
وقال بعضهم في بيان ذلك : إن الإقتراب منبيء عن التوجه والإقبال نحو شيء فإذا قيل اقترب أشعر أن هناك أمرا مقبلا على شيء طالبا له من غير دلالة على خصوصية المقترب منه فإذا قيل بعد ذلك للناس دل على أن ذلم الأمر طالب لهم مقبل عليهم وهم هاربون منه فأفاد أن المقترب مما يسوؤهم فيحصل لهم الخوف والإضطراب قيل ذكر الحساب بخلاف ما إذا قيل اقترب الحساب للناس فإن كون إقبال الحساب نحوهم لا يفهم على ذلك التقدير إلا بعد ذكر للناس فتحقق فائدة التعجيل في التقديم مما لا شبهة فيه بل فائدة زائدة وهي ذهاب الوهم في تعيين ذلك الأمر الهائل إلى كل مذهب إلى أن يذكر الفاعل ويمكن أيضا أن يقال في وجه تعجيل التهويل : إن جريان عادته الكريمة صلى الله عليه و سلم على إنذار المشركين وتحذيرهم وبيان ما يزعجهم يدل على أن ما بين اقترابه منهم شيء سيء هائر فإذا قدم الجار يحصل التخويف حيث يعلم من أول الأمر أن الكلام في حق المشركين الجاري عادته الكريمة عليه الصلاة و السلام على تحذيرهم بخلاف ما إذا قدم الفاعل حيث لا يعلم المقترب منه إلى أن يذكر الجار والمجرور والقرينة المذكورة لا تدل على تعيين المقترب كما تدل على تعيين المقترب إذ من المعلوم من عادته الكريمة صلى الله عليه و سلم أنه إذا تكلم في شأنهم يتكلم غالبا بما يسوؤهم لا أنه عليه الصلاة و السلام يتكلم في غالب أحواله بما يسوؤهم وفرق بين العادتين ولا يقدح في تمامية المرام توقف تحقق نكتة التقديم على ضم ضميمة العادة إذ يتم المراد بأن يكون للتقديم مدخل في حصول تلك النكتة بحيث لو فات التقديم لفاتت النكتة وعرفت أن الأمر كذلك وليس في كلام الشيخ قدس سره ما يدل على أن المسارعة المذكورة حاصلة من التقديم وحده كذا قيل ولك أن تقول : التقديم لتعجيل التخويف ولا ينافي ذلك عدم حصوله كما لا ينافي عدم حصول التخويف كون إنزال الآيات للتخويف فافهم وجوز الزمخشري كون اللام تأكيدا لإضافة الحساب إليهم قال في الكهف : فالأصل اقترب حساب الناس لأن المقترب منه معلوم ثم اقترب للناس الحساب على أنه ظرف مستقر مقدم لا أنه يحتاج إلى مضاف مقدر حذف لأن المتأخر مفسر أي اقترب الحساب للناس الحساب كما زعم الطيبي وفي التقديم والتصريح باللام وتعريف الحساب مبالغات ليست في الأصل ثم اقترب للناس حسابهم فصارت اللام مؤكدة لمعنى الإختصاص الإضافي لا لمجرد التأكيد كما في لا أبا له وما ثني فيه الظرف من نحو فيك زيد راغب فيك انتهى
وادعى الزمخشري أن هذا الوجه أغرب بناء على أن ما فيه مبالغات ونكتا ليست في الوجه الأول وادعى شيخ الإسلام أنه مع كونه تعسفا تاما بمعزل عما يقتضيه المقام وبحث فيه أيضا أبو حيان وغيره ومن الناس من انتصر له وذب عنه وبالجملة للعلماء في ذلك مناظرة عظمى ومعركة كبرى والأولى بعد كل حساب جعل
(17/5)

اللام صلة الإقتراب هذا واستدل بالآية على ثبوت الحساب وذكر البيضاوي في تفسير قوله تعالى إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله أن المعتزلة والخوارج ينكرونه ويعضده ما ذكره الإمام النسفي في بعض مؤلفاته حيث قال : قالت المعتزلة لا ميزان ولا حساب ولا صراط ولا حوض ولا شفاعة وكل موضع ذكر الله تعالى فيه الميزان أو الحساب أراد سبحانه به العدل انتهى لكن المذكور في عامة المعتبرات الكلامية أن أكثرهم بنفي الصراط وجميعهم ينفي الميزان ولم يتعرض فيها لنفيهم الحساب والحق أن الحساب بمعنى المجازاة مما لا ينكره إلا المشر كون وهم في غفلة أي في غفلة عظيمة وجهالة فخيمة عنه وقيل الأولى التعميم أي في غفلة تامة وجهالة عامة من توحيده تعالى والإيمان بكتبه ورسله عليهم السلام ووقوع الحساب ووجود الثواب والعقاب وسائر ما جاء به النبي عليه الصلاة والتسليم وذكر غفلتهم عن ذلك عقيب بيان اقتراب الحساب لا يقتضي قصر الغفلة عليه فإن وقوع تأسفهم وندامتهم وظهور أثر جهلهم وحماقتهم لما كان مما يقع في يوم الحساب كان سببا للتعقيب المذكور انتهى وقد يقال : إن ظاهر التعقيب يقتضي ذلك ومن غفل عن مجازاة الله تعالى له المراد من الحساب صدر منه كل ضلالة وركب متن كل جهالة والجار والمجرور متعلق بمحذوف واقع خبرا لهم وقوله سبحانه : معرضون
1
- أي عن الآيات والنذر الناطقة بذلك الداعية إلى الإيمان به المنجي من المهالك خبر بعد خبر واجتماع الغفلة والإعراض على ما أشرنا إليه مما لا غبار عليه والإشارة إلى تمكنهم في الغفلة التي هي منشأ الإعراض المستمر جيء بالكلام على ما سمعت والجملة في موضع الحال من الناس وقال الزمخشري : وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم لا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسيء ولذا إذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا إلى آخر ما قال
وحاصله يتضمن دفع التنافي بين الغفلة التي هي عدم التنبه والإعراض الذي يكون من المتنبه بأن الغفلة عن الحساب في أول أمرهم والإعراض بعد قرع عصا الإنذار أو بأن الغفلة عن الحساب والإعراض عن التفكر في عاقبتهم وأمر خاتمتهم وفي الكشف أراد أن حالهم المستمرة الغفلة عن مقتضى الأدلة العقلية ثم إذا عاضدتها الأدلة السمعية وأرشدوا لطريق النظر أعرضوا وفيه بيان فائدة إيراد الأول جملة ظرفية لما في حرف الظرف من الدلالة على التمكن وإيراد الثاني وصفا منتقلا دالا على نوع تجدد ومنه يظهر ضعف الحمل على الظرفية حال من الضمير المستكن في معرضون قدمت عليه انتهى
ولا يخفى أن القول باقتضاء العقول أنه لا بد من الجزاء لا يتسنى إلا على القبول بالحسن والقبح العقليين والأشاعرة ينكرون ذلك أشد الإنكار وقال بعض الأفاضل : يمكن أن يحمل الإعراض على الإتساع كما في قوله : عطاء فتى تمكن في المعالي وأعرض في المعالي واستطالا وذكر بعض المفسرين في قوله تعالى فلما نجاكم إلى البر أعرضتم فيكون المعنى وهم متسعون في الغفلة مفرطون فيها
ويمكن أيضا أن يراد بالغفلة معنى الإهمال كما في قوله تعالى وما كنا عن الخلق غافلين فلا تنافي بين الوصفين
(17/6)

ما يأتيهم من ذكر من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم أكمل تذكير وتبين لهم الأمر أتم تبيين كأنها نفس الذكر و من سيف خطيب وما بعدها مرفوع المحل على الفاعلية والقول بأنها تبعيضية بعيد و من في قوله تعالى من ربهم لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر وأياما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وكمال شناعة ما فعلوا به والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد الشنيع محدث بالجر صفة لذكر
وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه صفة له أيضا على المحل وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالنصب على أنه حال منه بناء على وصفه بقوله تعالى من ربهم وقوله سبحانه إلا استمعوه استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور على ما قيل وقال نجم الأئمة الرضي : إذا كان الماضي بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو وقد أكثر نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن دخول إلا في الأغلب على الأسماء فهو بتأويل إلا مكرما فصار كالمضارع المثبت
وجوز أن يكون حالا من المفعول لأنه حال لضميره أيضا والمعنى لا يأباه وهو خلاف الظاهر وأبعد من ذلك ما قيل إنه يحتمل أن يكون صفة لذكر وكلمة إلا وإلا كانت مانعة عند الجمهور إذ التفريغ في الصفات غير جائز عندهم إلا أنه يجوز أن يقدر ذكر آخر بعد إلا فتجعل هذه الجملة صفة له ويكون ذلك بمنزلة وصف المذكور أي ما يأتيهم من ذكر إلا ذكر استمعوه وقوله تعالى وهم يلعبون
2
- حال من فاعل استمعوه وقوله سبحانه لاهية قلوبهم إما حال أخرى منه فتكون مترادفة أو حال من واو يلعبون فتكون متداخلة والمعنى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه أو لاعبين به حال كون قلوبهم لاهية عنه
وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى لاهية بالرفع على أنه خبر بعد خبر لهم والسر في اختلاف الخبرين لا يخفى و لاهية من لهى عن الشيء بالكسر لهيا ولهيانا إذا سلا عنه وترك ذكره وأضرب عنه كما في الصحاح وفي الكشاف هي من لهي عنه إذا ذهل وغفل وحيث اعتبر في الغفلة فيما مر أن لا يكون للغافل شعور بالمغفول عنه أصلا بأن لا يخطر بباله ولا يقرع سمعه أشكل وصف قلوبهم بالغفة بعد سماع الآيات إذ قد زالت عنهم بذلك وحصل لهم الشعور وإن لم يوقفوا للإيمان وبقوا في غيابة الخزي والخذلان
وأجيب بأن الوصف بذلك على تنزيل شعورهم لعدم انتفاعهم به منزلة العدم نظير ما قيل في قوله تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون وأنت تعلم أنه لا بأس أن يراد من الغفلة المذكورة في تفسير لهي الترك والإعراض على ما تفصح عنه عبارة الصحاح وإنما لم يجعل ذلك من اللهو بمعنى اللعب على ما هو المشهور لأن تعقيب يلعبون بذلك حينئذ مما لا يناسب جزالة التنزيل ولا يوافق جلالة نظمه الجزيل وإن أمكن تصحيح معناه بنوع من التأويل والمراد بالحدوث الذي يستدعيه محدث التجدد وهو يقتضي المسبوقية بالعدم ووصف الذكر بذلك باعتبار تنزيله لا باعتبار نفسه وإن صح ذلك بناء على حمل الذكر على الكلام اللفظي والقول بما شاع عن الأشاعر من حدوثه ضرورة أنه مؤلف من الحروف والأصوات لأن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الإنتظام بيان أنه كلما تجدد لهم التنبيه والتذكير وتكرر على أسماعهم
(17/7)

كلمات التخويف والتحذير ونزلت عليهم الآيات وقرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة والجهالة عدد الحصا وأرشدوا إلى طريق الحق مرارا لا يزيدهم ذلك إلا فرارا وأما إن ذلك المنزل حادث أو قديم فمما لا تعلق له بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام وجوز أن يكون المراد بالذكر الكلام النفسي وإسناد الإتيان إليه مجاز بل إسناده إلى الكلام مطلقا كذلك والمراد من الحدوث التجدد ويقال : إن وصفه بذلك باعتبار التنزيل فلا ينافي القول بقدم الكلام النفسي الذي ذهب إليه مثبتوه من أهل السنة والجماعة والحنابلة القائلون بقدم اللفظي كالنفسي يتعين عندهم كون الوصف باعتبار ذلك لئلا تقوم الآية حجة عليهم وقال الحسن بن الفضل المراد بالذكر النبي صلى الله عليه و سلم وقد سمى ذكرا في قوله تعالى : قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا ويدل عليه هنا هل هذا الخ الآتي قريبا إن شاء الله تعالى وفيه نظر وبالجملة ليست الآية مما تقام حجة على رد أهل السنة ولو الحنابلة كما لا يخفى وأسروا النجوى كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى من جناياتهم و النجوى اسم من التناجي ولا تكون إلا سرا فمعنى إسرارها المبالغة في إخفائها ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى التناجي فالمعنى أخفوا تناجيهم بأن لم يتناجوا بمرأى من غيرهم وهذا على ما في الكشف أظهر وأحسن موقعا وقال أبو عبيدة : الإسرار من الإضداد ويحتمل أن يكون هنا بمعنى الإظهار ومنه قول الفرزدق : فلما رأى الحجاج جرد سيفه أسر الحروري الذي كان أضمرا وأنت تعلم أن الشائع في الإستعمال معنى الإخفاء وإن قلنا إنه من الأضداد كما نص عليه التبريزي ولا موجب للعدول عن ذلك وقوله تعالى الذين ظلموا بدل من ضمير أسروا كما قال المبرد وعزاء ابن عطية إلى سيبويه وفيه إشعار بكونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به وقال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما : هو فاعل أسروا والواو حرف دال على الجمعية كواو قائمون وتاء قامت وهذا على لغة أكلوني البراغيث وهي لغة لأزد شنوءة قال شاعرهم : يلومونني في اشتراء النخيل أهل وكلهم ألوم وهي لغة حسنة على ما نص أبو حيان وليست شاذة كما زعمه بعضهم وقال الكسائي : هو مبتدأ والجملة قبله خبره وقدم اهتماما به والمعنى هم أسروا النجوى فوضع الموصول موضع الضمير تسجيلا على فعلهم بكونه ظلما وقيل هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وقيل هو فاعل لفعل محذوف أي يقول الذين والقول كثيرا ما يضمر واختاره النحاس وهو على هذه الأقوال في محل الرفع
وجوز أن يكون في محل النصب على الذم كما ذهب إليه الزجاج أو على إضمار أعني كما ذهب إليه بعضهم وأن يكون في محل الجر على أن يكون نعتا للناس كما قال أبو البقاء أو بدلا منه كما قال الفراء وكلاهما كما ترى وقوله تعالى هل هذا إلا بشر مثلكم الخ في حيز النصب على أنه مفعول لقول مضمر بعد الموصول وصلته هو جواب عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل ماذا قالوا في نجواهم فقيل قالوا هل هذا الخ أو بدل من أسروا أو معطوف عليه وقيل حال أي قائلين هل هذا الخ وهو مفعول لقول مضمر قبل الموصول على ما اختاره النحاس وقيل مفعول للنحوي نفسها لأنها في معنى القول والمصدر المعرف يجوز إعماله الخليل وسيبويه وقيل بدل منها أي أسروا هذا الحديث و هل بمعنى النفي وليست للإستفهام التعجبي كما زعم أبو حيان والهمزة في قوله تعالى أفتأتون السحر للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقوله سبحانه وأنتم تبصرون
3
(17/7)

حال من فاعل تأتون مقررة للإنكار مؤكدة للإستبعاد وأورادوا كما قيل ما هذا إلا بشر مثلكم أي من جنسكم وما أتي به سحر تعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكا وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر وعنوا بالسحر ههنا القرآن ففي ذلك إنكار لحقيقته على أبلغ وجه قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون وإنما أسروا ذلك لأنه كان على طريق توثيق العهد وترتيب مبادي الشر والفساد وتمهيد مقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة وإطفاء نور الدين والله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون وقيل أسروه ليقولوا للرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررناه ورده في الكشف بأنه لا يساعده النظم ولا يناسب المبالغة في قوله تعالى وأسروا النجوى الذين ظلموا ولا في قوله سبحانه أفتأتون السحر قال ربي يعلم القول في السماء والأرض حكاية من جهته تعالى لما قال عليه الصلاة و السلام بعدما أوحي إليه أحوالهم وأقوالهم بيانا لظهور أمرهم ونكشاف سرهم ففاعل قال ضميره صلى الله عليه و سلم والجملة بعده مفعوله وهذه القراءة قراءة حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وأيوب وخلف وابن سعدان وابن جبير الأنطاكي وابن جرير وقرأ باقي السبعة قل على الأمر لنبيه صلى الله عليه و سلم و القول عام يشمل السر والجهر فإيثاره على السر لإثبات علمه سبحانه به على النهج البرهاني مع ما فيه من الإيذان بأن علمه تعالى بالأمرين على وتيرة واحدة لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء قطعا كما في علوم الخلق
وفي الكشف أن بين السر والقول عموما وخصوصا من وجه والمناسب في هذا المقام تعميم القول ليشمل جهره وسره والأخفلا فيكون كأنه قيل يعلم هذا الضرب وما هو أعلى من ذلك وأدنى منه وفي ذلك من المبالغة في إحاطة علمه تعالى المناسبة لما حكى عنهم من المبالغة في الإخفاء ما فيه وإيثار السر على القول في بعض الآيات لنكتة تقتضيه هناك ولكل مقام مقال والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من القول أي كائنا في السماء والأرض وقوله سبحانه وهو السميع أي بجميع المسموعات العليم
4
- أي بجميع المعلومات وقيل أي المبالغ في العلم بالمسموعات والمعلومات ويدخل في ذلك أقوالهم وأفعالهم دخولا أوليا اعتراض تذييلي مقدر لمضمون ما قبله متضمن للوعيد بمجازاتهم على ما صدر منهم ويفهم من كلام البحر أن ما قبل متضمن ذلك أيضا بل قالوا أضغاث أحلام إضراب من جهته تعالى وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب باطل أي لم يقتصروا على القول في حقه صلى الله عليه و سلم هل هذا إلا بشر مثلكم وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحر بل قالوا هو أي القرآن تخاليط الأحلام ثم اضطربوا عنه فقالوا : بل افتريه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل ثم أضربوا فقالوا بل هو شاعر وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها وهذا الإضطراب شأن المبطل المجوج فإنه لا يزال يتردد بين باطل وأبطل وبتذبذب بين فاسد وأفسد قبل الأولى كما نرى من كلامه عز و جل وهي انتقالية والمنتقل منه ما تقدم باعتبار خصوصه والأخيرتان من كلامهم المحكي وهما أبطاليتان لترددهم وتحيرهم في تزويرهم وجملة المقول داخلة في النجوى
(17/9)

ويجوز أن تكون الأولى انتقالية والمنتقل منه ما تقدم بقطع النظر على خصوصه والجملة غير داخلة في النجوى وكلا الوجهين وجيه وليس فيهما إلا اختلاف معنى بل وكون الأولى من الحكاية والأخيرتين من المحكي ولا مانع منه
وجوز أن تكون الأولى في كلامهم وهي إبطالية أيضا متعلقة بقولهم هو سحر المدلول عليه بأفتأتون السحر
ورد بأنه إنما يصح لو كان النظم الكريم قالوا بل الخ ليفيد حكاية إضرابهم وكونه من القلب وأصله قالوا بل لا يخفى ما فيه وقد أجيب أيضا بأنه إضراب في قولهم المحكى بالقول المقدر قبل قوله تعالى هل هذا الخ أو الذي تضمنه النجوى وأعيد القول للفاصل أو لكونه غير مصرح به ولا يخفى ما فيه أيضا وجوز أن تكون الثلاثة من كلامه عز و جل على أن ذلك تنزيل لأقوالهم في درج الفساد وأن قولهم الثاني أفسد من الأول والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع أفسد من الثالث ويطلق على نحو هذا الإضراب الترقي لكن لم يقل هنا ترقيا إشارة إلى الترقي في القبح تنزيل في الحقيقة ووجه ذلك كما قال في الكشف أن قولهم إنه سحر أقرب من الثاني فقد يقال : إن من البيان لسحر لأن تخاليط الكلام التي لا تنضبط لا شبه لها بوجه النظم الأنيق الذي أبكم كل منطيق ثم ادعاه أنها مع كونها تخاليط مفتريات أبعد وأبعد لأن النظم بمادته وصورته من أتم القواطع دلالة على الصدق كيف وقد انضم إليه أن القائل عليه الصلاة و السلام علم عندهم في الأمانة والصدق والأخير هذيان المبرسمين لأنهم أعرف الناس بالتمييز بين المنظوم والمنثور طبعا وبين ما يساق له الشعر وما سيق له هذا الكلام الذي لا يشبه بليغات خطبهم فضلا عن ذلك وبين محسنات الشعر ومحسنات هذا النثر هذا فيما يرجع إلى الصورة وحدها ثم إذا جئت إلى المادة وتركب الشعر من المخيلات والمعاني النازلة التي يهتدي إليها الأجلاف وهذا من اليقينيات العقدية والدينيات العملية التي عليها مدار المعاد والمعاش وبها تتفاضل الأشراف فأظهر وأظهر هذا والقائل عليه الصلاة والتسليم ممن لا يتسهل له الشعر وإن أراده خالطوه وذاقوه أربعين سنة أه
وكون تركب الشعر من المخيلات باعتبار الغالب فلا ينافيه قوله صلى الله عليه و سلم إن من الشعر لحكمة لأن باعتبار الندوة ويؤيده التأكيد بأن الدالة على التردد فيه وقد جاء الشاعر بمعنى الكاذب بل قال الراغب : إن الشاعر في القرآن بمعنى الكاذب بالطبع وعليه يكون قد أرادوا قاتلهم الله تعالى بل هو وحاشاه ذو افتراءات كثيرة وليس في بل هنا على هذا الوجه إبطال بل إثبات للحكم الأول وزيادة عليه كما صرح بذلك الراغب وفي وقوعها للإبطال في كلام الله تعالى خلاف فأثبته ابن هشام ومثل له بقوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ووهم ابن مالك في شرح الكافية فنفاه والحق أن الإبطال إن كان لما صدر عن الغير فهو واقع في القرآن وإن كان لما صدر عنه تعالى فغير واقع بل هو محال لأنه بداء وربما يقال : مراد ابن مال بالمنفي الضرب الثاني ثم إن هذا الوجه وإن كان فيه بعد لا يخلو عن حسن كما قيل فتدبر
فليأتنا بآية جواب شرط محذوف يفصح عنه السياق كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولا من الله عز و جل كما يقول فليأتنا بآية كما أرسل الأولون
5
- وقدر النيسابوري غير هذا الشرط فقال أخذا من كلام الإمام في بيان حاصل معنى الآية : إنهم أنكروا أولا كون الرسول من جنس البشر ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا ذلك ولكن الذي أدعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارض للعادة وما كل خارق لها
(17/10)

معجز فقد يكون سحرا هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندعى أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضعاث أحلام سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده سلمنا أنه كلام فصيح لكنه لا يتجاوز فصاحة الشعر وإذا كان حال هذا المعجز هكذا فليأتنا بآية لا يتطرق إليها شيء من هذه الإحتمالات كما أرسل الأولون انتهى وهو كما ترى
وما موصولة في محل الجر بالكاف والجملة بعدها صلة والعائد محذوف والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع صفة لآية أي فليأتنا بآية مثل الآية التي أرسل بها الأولون ولا يضر فقد بعض شروط جواز حذف العائد المجرور بالحرف إذ لا اتفاق على اشتراط ذلك ومن اشترط اعتبر العائد المحذوف هنا منصوبا من باب الحذف والإيصال وهو مهيع واسع وأرادوا بالآية المشبه بها كما روي عن ابن عباس رض الله تعالى عنهما الناقة والعصا ونحوهما وكان الظاهر أن يقال فليأتنا بما أتي به الأولون أو بمثل ما أتي به الأولون إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لدلالته على ما دل عليه مع زيادة كونه مرسلا به من الله عز و جل وفي التعبير في حقه صلى الله عليه و سلم بالإتيان والعدول عن الظاهر فيما بعده إيماء إلى أن ما أتي به صلى الله عليه و سلم من عنده وما أتي به الأولون من الله تبارك وتعالى ففيه تعريض مناسب لما قبله من الإفتراء قاله الخفاجي وذكر أن ما قيل أن العدول عن كما أتي به الأولون لأن مرادهم قتراح آية مثل آية موسى وآية عيسى عليهما السلام لا غيرهما مما أتي به سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن العلامة البيضاوي أشار إلى ذلك مما لا وجه له وجوز أن تكون ما مصدرية والكاف منصوبة على أنها مصدر تشبيهي أي نعت لمصدر محذوف أي فليأتنا بآية إتيانا كائنا مثل إرسال الأولين بها وصحة التشبيه من حيث أن المراد مثل إتيان الأولين بها لأن إرسال الرسل عليهم السلام متضمن الإتيان المذكور كما في الكشاف وفي الكشف أنه يدل على أن قوله تعالى كما أرسل الأولون كناية في هذا المقام وفائدة العدول بعد حسن الكناية تحقيق كونها آية مسلمة بمثلها تثبت الرسالة لا تنازع فيها ويترتب المقصود عليها والقول بأن الإرسال المشبه به مصدر المجهول ومعناه كونه مرسلا من الله تعالى بالآيات لا يسمن ولا يغني في توجيه التشبيه لأن ذلك مغاير للإتيان أيضا وإن لم ينفك عنه وقيل يجوز أن يحمل النظم الكريم على أنه أريد كل واحد من الإتيان والإرسال في كل واحد من طرفي التشبيه لكنه ترك في جانب المشبه ذكر الإرسال وفي جانب المشبه به ذكر الإتيان اكتفاء بما ذكر في كل موطن عما ترك في الموطن الآخر ولا يخفى بعده ثم أن الظاهر أن إقرارهم بإرسال الأولين ليس عن صميم الفؤاد بل هو أمر اقتضاه اضطرابهم وتحيرهم وذكر بعض الأجلة أن مما يرجح الحمل على أن ما تقدم حكاية أقوالهم المضطربة هذه الحكاية لأنهم منعوا أولا أن يكون الرسول بشرا وبنوا القول به وبنوا ما بنوا ثم سلموا أن الأولين كانوا ذوي آيات وطالبوه عليه الصلاة و السلام بالإتيان بنحو ما أتوا به منها وعلى وجه التنزيل لأقوالهم على درج الفساد يحمل هذا على أنه تنزل منهم والعدول إلى الكناية لتحقيق تنزله عن شأوهم انتهى فتأمل ولا تغفل
ما آمنت قبلهم من قرية كلام مستأنف مسوق لتكذيبهم فيما ينبيء عنه خاتمة مقالهم من الوعد الضمني بالإيمان عند إتيان الآية المقترحة وبيان أنهم في اقتراح ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه
(17/11)

وإن في ترك الإجابة إليه إبقاء عليهم كيف لا ولو أعطوا ما اقترحوه مع عدم إيمانهم قطعا لاستئصلوا لجريان سنة الله تعالى شأنه في الأمم السالفة على استئصال المقترحين منهم إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا وقد سبقت كلمته سبحانه أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الإستئصال وهذا أولى مما قيل أنهم لما طعنوا في القرآن وأنه معجزة وبالغوا في ذلك حتى أخذوا من قوله تعالى أفتأتون السحر إلى أن انتهوا إلى قوله سبحانه فليأتنا الخ جيء بقوله عز و جل ما آمنت الخ تسلية له صلى الله عليه و سلم في أن الإنذار لا يجدي فيهم
وأياما كان فقوله سبحانه من قرية على حذف المضاف أي من أهل قرية ومن مزيدة لتأكيد العموم وما بعدها في محل الرفع على الفاعلية وقوله سبحانه أهلكناها في محل جر أو رفع صفة قرية والمراد أهلكناها بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات وقيل القرية مجاز عن أهلها فلا حاجة إلى تقدير المضاف
واعترض بأن أهلكناها يأباه والإستخدام وإن كثر في الكلام خلاف الظاهر وقال بعضهم : لك أن تقول إن إهلاكها كناية عن إهلاك أهلها وما ذكر أولا أولى والهمزة في قوله سبحانه أفهم يؤمنون
6
- لإنكار الوقوع والفاء للعطف إما على مقدر دخلته الهمزة فأفادت إنكار وقوع إيمانهم ونفيه عقيب عدم إيمان الأولين فالمعنى أنه لم يؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات أهم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أعطوا ما اقترحوه أي مع أنهم أعتى وأطغى كما يفهم بممعونة السياق والعدول عن فهم لا يؤمنون أيضا وأما على ما آمنت على أن الفاء متقدمة على الهمزة في الإعتبار مفيدة لترتيب إنكار وقوع إيمانهم على عدم إيمان الأولين وإنما قدمت عليها الهمزة لاقتضائها الصدارة وقوله عز و جل وما أرسلنا قبلك إلا رجالا جواب لما زعموه من أن الرسول لا يكون إلا ملكا المشار إليه بقولهم هذا إلا بشر مثلكم الذي بنوا عليه ما بنوا متعلق بذلك وقدم عليه جواب قولهم فليأتنا لأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيز فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطاله ولأن في هذا الجواب نوع بسط يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم وقوله تعالى : نوحي إليهم استئناف مبين لكيفية الإرسال وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية المستمرة وحذف المفعول لعدم القصد إلى خصوصه والمعنى ما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك إلا رجالا لا ملائكة نوحي إليهم بواسطة الملك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار كما نوحي إليك من غير فرق بينهما في حقيقة الوحي وحقية مدلوله كما لا فرق بينك وبينهم في البشرية فما لهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل وإن ما أوحي إليك ليس مخالفا لما أوحي إليهم فيقولون ما يقولون وقال بعض الأفاضل : إن الجملة في محل النصب صفة مادحة لرجالا وهو الذي يقتضيه النظم الجليل وقرأ الجمهور يوحي إليهم بالياء على صيغة المبني للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بتعين الفاعل وقوله تعالى : فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
7
- تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالهم عن رتبة الإستعباد والنكير أثر تحقيق الحق على طريقة الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك الحقائق الأنيقة وأما الوقوف عليها بالسؤال من الغير فهو من وظائف العوام وأمره صلى الله عليه و سلم بالسؤال في بعض
(17/12)

الآيات ليس للوقوف وتحصيل العلم بالمسئول عنه لأمر آخر والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وأصل الذكر أهل الكتاب كما روي عن الحسن وقتادة وغيرهما وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أي إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الجهلة أهل الكتاب الواقفين على أحوال الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام لتزول شبهتكم أمروا بذلك لأن أخبار الجم الغفير يفيد العلم في مثل ذلك لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته صلى الله عليه و سلم ويشاورونهم في أمره عليه الصلاة و السلام ففيه من الدلالة على كمال وضوح الأمر وقوة شأن النبي صلى الله عليه و سلم ما لا يخفى وعن ابن زيد أن أهل الذكر هم أهل القرآن ورده ابن عطية بأنهم كانوا خصومهم فكيف يؤمرون بسؤالهم ويرد ذلك على ما زعمته الإمامية من أنهم آله صلى الله عليه و سلم وقد تقدم الكلام في ذلك
وما جعلناهم جسدا بيان لكون الرسل عليهم السلام أسوة لسائر أفراد الجنس في أحكام الطبيعة البشرية والجسد على ما في القاموس جسم الإنس والجن والملك وقال الراغب : هو كالجسم إلا أنه أخص منه قال الخليل : لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه وأيضا فإن الجسد يقال لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء والماء وقوله تعالى وما جعلناهم جسدا الخ يشهد لما قاله الخليل انتهى وقيل : هو جسم ذو تركيب وظاهره أنه أعم من الحيوان ومنهم خصه به وقال بعضهم : هو في الأصل مصدر جسد الدم يجسد أي التصق وأطلق على الجسم المركب لأنه ذو أجزاء ملتصق بعضها ببعض ثم الظاهر أن الذي يقول بتخصيصه بحيث لا يشمل غير العاقل من الحيوان مثلا غاية ما يدعى أن ذلك بحسب أصل وضعه ولا يقول بعدم جواز تعميمه بعد ذلك فلا تغفل ونصبه إما على أنه مفعول ثان للجعل والمراد تصييره كذلك ابتداء على طريقة قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل وأما حال من الضمير والجعل إبداعي وأفراده لا عادة الجنس الشامل للكثير أو لأنه في الأصل على ما سمعت مصدر وهو يطلق على الواحد المذكر وغيره وقيل : لإرادة الإستغراق الإفرادي في الضمير أي جعلنا كل واحد منهم وقيل : هو بتقدير مضاف أي ذوي جسد وفي التسهيل أنه يستغنى بتثنية المضاف وجمعه عن تثنية المضاف إليه وجمعه في الأعلام وكذا ما ليس فيه لبس من أسماء الأجناس
وقوله تعالى لا يأكلون الطعام صفة جسدا أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الغذاء بل محتاجا إليه وما كانوا خالدين
8
- أي باقين أبدا وجوز أن يكون الخلود بمعنى المكث المديد واختير الأول لأن الجملة مقررة لما قبلها من كون الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام بشرا لا ملائكة كما يقتضيه اعتقاد المشركين الفاسد وزعمهم الكاسد والظاهر هم يعتقدون أيضا في الملائكة عليهم السلام الأبدية كاعتقاد الفلاسفة فيهم ذلك إلا أنهم يسمونهم عقولا مجردة وحاصل المعنى جعلناهم أجسادا متغذية صائرة إلى الموت بالآخرة حسب آجالهم ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون ولا يموتون حسبما تزعمون وقيل : الجملة رد على قولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام الخ والأول أولى نعم هي مع كونها مقررة لما قبلها فيها رد على ذلك وفي إيثار وما كانوا على وما جعلناهم تنبيه على أن عدم الخلود والبقاء من توابع جبلتهم في هذه النشأة التي أشير إليها بقوله تعالى وما جعلناهم جسدا الخ لا بالجعل المستأنف بل إذا نظرت إلى سائر المركبات من العناصر المتضادة رأيت بقاءها سويعة أمرا غريبا وانتهضت إلى طلب العلة لذلك ومن هنا قيل :
(17/13)

ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى وعرج على الباقي وسائله لم بقى بل لا يبعد أن تكون الممكنات مطلقا كذلك فقد قالوا : إن الممكن إذا خلى وذاته يكون معدوما إذ العدم لا يحتاج إلى علة وتأثير بخلاف الوجود ولا يلزم على هذا أن يكون العدم مقتضى الذات حتى يصير ممتنعا إذ مرجع ذلك إلى أولوية العدم وأليقيته بالنسبة إلى الذات ويشير إلى ذلك على ما قيل قول أبي على في الهيئات الشفاء للمعلوم في نفسه أن يكون ليس وله عن علته أن يكون آيسا وقولهم باستواء طرفي الممكن بالنظر إلى ذاته معناه استواؤه في عدم وجوب واحد منهما بالنظر إلى ذاته وقولهم علة العدم عدم علة الوجود بمعنى أن العدم لا يحتاج إلى تأثير وجعل بل يكفيه انعدام العلة لا أن عدم العلة مؤثرة في عدم المعلول ولعل في قوله صلى الله عليه و سلم ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن إشارة إلى هذا فتدبر وقوله تعالى : ثم صدقناهم الوعد قيل : عطف على ما يفهم من حكاية وحيه تعالى إلى المرسلين على الإستمرار التجددي كأنه قيل : أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائهم وقيل : عطف على نوحي السابق بمعنى أوحينا وتوسيط الأمر بالسؤال وما معه اهتماما بإلزامهم والرد عليهم وقال الخفاجي : هو عطف على قوله تعالى : أرسلنا وثم للتراخي الذكرى أي أرسلنا رسلا من البشر وصدقناهم ما وعدناهم فكذا محمد صلى الله عليه و سلم فاحذروا تكذيبه ومخالفته فالآيات كما تضمنت الجواب تضمنت التهديد انتهى وفيه تأمل ونصب الوعد على نزع الخافض والأصل صدقناهم في الوعد ومنه صدقوهم القتال وصدفني سن بكره وقيل : على أنه مفعول ثان وصدق قد تتعدى للمفعولين من غير توسيط حرف الجر أصلا
فأنجيناهم ومن نشاء أي من المؤمنين بهم كما عليه جماعة من المفسرين وقيل منهم ومن غيرهم ممن تستدعي الحكمة إبقائه كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه بالآخرة وهو السر في حماية الذين كذبوه وآذوه صلى الله عليه و سلم من عذاب الإستئصال ورجح ما عليه الجماعة بالمقابلة بقوله وأهلكنا المسرفين
9
- وذلك لحمل التعريف على الإستغراق والمسرفين على الكفار مطلقا لقوله تعالى وأن المسرفين هم أصحاب النار بناء على أن المراد بأصحاب النار ملازموها والمخلدون فيها ولا يخلد فيها عندنا إلا الكفار ومن عمم أولا قال : المراد بالمسرفين من عدا أولئك المنجين والتعبير بمن نشاء دون من آمن أو من معهم مثلا ظاهر في أن المراد بذلك المؤمنون وآخرون معهم ولا يظهر على التخصيص وجه العدول هما ذكر إلى ما في النظم الكريم والتعبير بنشاء مع أن الظاهر شئنا لحكاية الحالية الماضية وقوله سبحانه لقد أنزلنا إليكم كتابا كلام مستأنف مسوق لتحقيق حقية القرآن العظيم الذي ذكر صدر السورة الكريمة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤهم واضطرابهم في أمره وبيان علو مرتبته إثر تحقيق رسالته صلى الله عليه و سلم ببيان أنه كسائر الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام قد صدر بالتوكيد القسمي إظهارا لمزيد الإعتناء بمضمونه وإيذانا بكون المخاطبين في أقصى مراتب النكير والخطاب لقريش وجوز أن يكون لجميع العرب وتنوين كتابا للتعظيم والتفخيم أي كتابا عظيم الشأن نير البرهان وقوله عز و جل فيه ذكركم صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير التفخيمي من كونه جليل القدر بأنه جميل الآثار مستجلب لهم منافع جليلة والمراد بالذكر كما أخرج البيهقي في شعب الإيمان وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس الصبت والشرف مجازا أي فيه ما يوجب الشرف لكم لأنه بلسانكم ومنزل على نبي منكم تتشرفون بشرفه
(17/14)

وتشتهرون بشهرته لأنكم حملته والمرجع في حل معاقده وجعل ذلك فيه مبالغة في سببيته له وعن سفيان أنه مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال أي فيه ما يحصل به الذكر أي الثناء الحسن وحسن الأحدوثة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال إطلاقا لاسم المسبب على السبب فهو مجاز عن ذلك أيضا
وأخرج غير واحد عن الحسن أن المراد فيه ما تحتاجون إليه من أمور دينكم وزاد بعض ودنياكم وقيل الذكر بمعنى التذكير مضافا للمفعول والمعنى فيه موعظتكم ورجح ذلك بأنه الأنسب بسياق النظم الكريم وسياقه فإن قوله تعالى أفلا تعقلون
10
- إنكار توبيخي فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب والتدبر فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة
وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآيات أن المعنى فيه ذكر قبائحكم ومثالبكم وما عاملتم به أنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام في التكذيب والعناد وقوله تعالى أفلا تعقلون إنكار عليهم في عدم تفكرهم مؤد إلى التنبه عن سنة الغفلة انتهى وفيه بعد والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي إلا تتفكرون فلا تعقلون أن الأمر كذلك أولا تعقلون شيئا من الأشياء التي من جملتها ما ذكر وقوله عز و جل وكم قصمنا من قرية نوع تفصيل لإجمال قوله تعالى وأهلكنا المسرفين وبيان لكيفية إهلاكهم وتنبيه على كثرتهم فكم خبرية مفيدة للتكثير محلها النصب على أنها مفعول لقصمنا و من قرية تمييز وفي لفظ القصم الذي هو عبارة عن الكسر بتفريق الأجزاء وإذهاب التئامها بالكلية كما يشعر به الإتيان بالقاف الشديدة من الدلالة على قوة الغضب وشدة السخط ما لا يخفى وقوله تعالى كانت ظالمة صفة قرية وكان الأصل على ما قيل أهل قرية كما ينبيء عنه الضمير الآتي إن شاء الله تعالى فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فوصف بما هو من صفات المضاف أعني الظلم فكأنه قيل وكثيرا قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين بآيات الله تعالى كافرين بها مثلكم
وفي الكشاف المراد بالقرية أهلها ولذلك وصفت بالظلم فيكون التجور في الطرف وقال بعضهم : لك أن تقول وصفها بذلك على الإسناد المجازي وقوله قصمنا من قرية كناية على قصم أهلها للزوم أهلاكها أهلاكهم فلا مجاز ولا حذف وأيا ما كان فليس المراد قرية معينة وأخرج ابن المنذر وغيره عن الكلبي أنها حضور قرية باليمن وأخرج ابن مردوية من طريق عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال بعث الله تعالى نبيا من حمير يقال له شعيب فوثب إليه عبد فضربه بعصا فسار إليهم بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبقى منهم شيء وفيهم أنزل الله تعالى وكم قصمنا الخ وفي البحر أن هؤلاء كانوا بحضور وأن الله تعالى بعث إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشا فهزموه ثم بعث إليهم آخر فهزموه فخرج إليهم بنفسه فهزمهم وقتلهم وعن بعضهم أنه كان اسم هذا النبي موسى بن ميشا وعن ابن وهب أن الآية في قريتين باليمن إحداهما حضور والأخرى قلابة بطر أهلهما فأهلكهم الله تعالى على يد بختنصر ولا يخفى أنه مما يأباه ظاهر الآية والقول بأنها من قبيل قولك كم أخذت من دراهم زيد على أن الجار متعلق بأخذت والتمييز محذوف أي كم درهم أخذت من دراهم زيد ويقال هنا إنها بتقديركم ساكن قصمنا من ساكني قرية أو نحو ذلك مما لا ينبغي أن يلتفت إليه إلا بالرد عليه فلعل ما في الروايات محمول
(17/15)

على سبيل التمثيل ومثل ذلك غير قليل وفي قوله سبحانه وأنشأنا بعدها أي بعد إهلاك أهلها لا بعد تلك الفعلة كما توهم قوما آخرين
11
- أي ليسوا منهم في شيء تنبيه على استئصال الأولين وقطع دابرهم بالكلية وهو السر في تقديم حكاية إنشاء هؤلاء على حكاية مبادي إهلاك أولئك بقوله سبحانه : فلما أحسوا بأسنا فضمير الجمع للأهل لا لقوم آخرين إذ لا ذنب لهم يقتضي ما تضمنه هذا الكلام والإحساس الإدراك بالحاسة أي فلما أدركوا بحاستهم عذابنا الشديد ولعل ذلك العذاب كان مما يدرك بإحدى الحواس الظاهرة وجوز أن يكون في البأس استعارة مكنية ويكون الإحساس تخييلا وأن يكون الإحساس مجازا عن مطلق الإدراك أي فلما أدركوا ذلك إذا هم منها أي من القرية فمن ابتدائية أو من البأس والتأنيث لأنه في معنى النقمة والبأساء فمن تعليلية وهي على الإحتمالين متعلقة بقوله تعالى يركضون
12
- وإذا فجائية والجملة جواب لما وركض من باب قتل بمعنى ضرب الدابة برجله وهو متعد وقد يرد لازما كركض الفرس بمعنى جرى كما قاله أبو زيد ولا عبرة بمن أنكره والركض هنا كناية عن الهرب أي فإذا هم يهربون مسرعين راكضين دوابهم
وجوز أن يكون المعنى مشبهين بمن يركض الدواب على أن هناك استعارة تبعية ولا مانع من حمل الكلام على حقيقته على ما قيل لا تركضوا أي قيل لهم ذلك والقائل يحتمل أن يكون ملائكة العذاب أو من كان ثمة من المؤمنين قالوا ذلك على سبيل الهزء بهم وقال ابن عطية : يحتمل على الرواية السابقة أن يكون القائل من جيش بختنصر وأراد بذلك خدعهم والإستهزاء بهم وقيل يحتمل أن يكون المراد يجعلون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل على معنى أنهم بلغوا في الركض والفرار من العذاب بعد الإتراف والتنعم بحيث من رآهم قال لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه من النعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة وفي ظرفية وجوز كونها سببية ومساكنكم التي كنتم تفتخرون بها لعلكم تسئلون
13
- تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل أو تسئلون عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومنازلكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة أو يسألكم حشمكم وعبيدكم فيقولوا لكم بم تأمرون وماذا ترسمون وكيف نأتي ونذر كما كنتم من قبل أو يسألكم الوافدون نوالكم أما لأنهم كانوا استخياء ينفقون أموالكم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم وقيل على الرواية المتقدمة المعنى لعلكم تسئلون صلحا أو جزية أو أمرا تتفقون مع الملك عليه وقيل المراد بمساكنهم النار فيكون المراد بارجعوا إلى مساكنكم ادخلوا النار تهكما والمراد بالسؤال السؤال عن الأعمال أو المراد به العذاب على سبيل المجاز المرسل يذكر السبب وإرادة المسبب أي ادخلوا النار كي تسئلوا أو تعذبوا على ظلمكم وتكذيبكم بآيات الله تعالى وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى
قالوا لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا استيلاء العذاب يا ويلتنا يا هلاكنا إنا كنا ظالمين
14
- بآيات الله تعالى مستوجبين للعذاب وهذا اعتراف منهم بالظلم واستتباعه للعذاب وندم عليه حين لا ينفعهم ذلك وقيل على الروية السالفة إن هذا الندم والإعتراف كان منهم حين أخذتهم السيوف ونادى مناد
(17/16)

من السماء يالثارات الأنبياء فما زالت تلك دعواهم أي فما زالوا يرددون تلك الكلمة وتسميتها دعوى بمعنى الدعوة فإنه يقال دعا دعوى ودعوة لأن المولول كأنه يدعو الويل قائلا ياويل تعال فهذا أوانك
وجوز الحرفي والزمخشري وأبو البقاء كون تلك اسم زال و دعواهم خبرها والعكس قال أبو حيان : وقد قال ذلك قبلهم الزجاج وأما أصحابنا المتأخرون فعلى أن اسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول فبكما لا يجوز في الفاعل والمفعول التقدم والتأخر إذا وقع ذلك في اللبس لعدم ظهور الإعراب لا يجوز في باب كان ولم ينازع فيه أحد إلا أبو العباس أحمد بن الحاج من نبهاء تلاميذ الشلوبين أه
وقال الفاضل الخفاجي : إن ما ذكره ابن الحاج في كتاب المدخل أنه ليس فيه التباس وأنه من عدم الفرق بين الإلتباس وهو أن يفهم منه خلاف المراد والإجمال وهو أن لا يتعين فيه أحد الجانبين ولأجل هذا جوزه وما ذكره محل كلام وتدبر
وفي حواشي الفاضل البهلواني على تفسير البيضاوي إن هذا في الفاعل والمفعول وفي المبتدأ والخبر إذا انتفى الإعراب والقرينة مسلم مصرح به وأما في باب كان وأخواتها فغير مسلم أه
والظاهر أنه لا فرق بين باب كان وغيرها مما ذكر وإن سلم عدم التصريح لاشتراك ما ذكروه علة للمنع ثم إن ذلك إلى الإلتباس أقرب منه إلى الإجمال لا سيما في الآية في رأي فافهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين
15
- أي إلى أن جعلناهم بمنزلة النبات المحصود والنار الخامدة في الهلاك قاله العلامة الثاني في شرح المفتاح ثم قال في ذلك استعارتان بالكناية بلفظ واحد وهو ضمير جعلناهم حيث شبه بالنبات وبالنار وأفرد بالذكر وأريد به المشبه بهما أعني النبات والنار ادعاء بقرينة أنه نسب إليه الحصاد الذي هو من خواص النبات والخمود الذي هو من خواص النار ولا يجعل من باب التشبيه مثل هم صم بكم عمي لأن جمع خامدين جمع العقلاء ينافي التشبيه إذ ليس لنا قوم خامدون يعتبر تشبيه أهل القرية بهم إذ الخمود من خواص النار بخلاف الصمم مثلا فإنه يجعل بمنزلة هم كقولهم صم وكذا يعتبر حصيدا بمعنى محصودين على استواء الجمع والواحد في فعيل بمعنى مفعول ليلا ثم خامدين نعم يجوز تشبيه هلاك القوم بقطع النبات وخمود النار فيكون استعارة تصريحية تبعية في الوصفين انتهى وكذا في شرح المفتاح للسيد السند بيد أنه جوز أن يجعل حصيدا فقط من باب التشبيه بناء على ما في الكشاف أي جعلناهم مثل الحصيد كما تقول جعلناهم رمادا أي مثل الرماد وجعل غير واحد أفراد الحصيد لهذا التأويل فإن مثلا لكونه مصدرا في الأصل يطلق على الواحد وغيره وهو الخبر حقيقة في التشبيه البليغ ويلزم على ذلك صحة الرجال أسد وهو كما ترى واعترض على قول الشارحين : إذ ليس لنا الخ بأن فيه بحثا مع أن مدار ما ذكراه من كون خامدين لا يحتمل التشبيه جمعه جمع العقلاء المانع من أن يكون صفة للنار حتى لو قيل خامدة كان تشبيها وقد صرح به الشريف في حواشيه لكنه محل تردد لأنه لما صح الحمل التشبيه ادعاء فلم لا يصح جمعه لذلك ولو لاه لما صحت الإستعارة أيضا وذهب العلامة الطيبي والفاضل اليمني إلى التشبيه في الموضعين ففي الآية أربعة احتمالات فتدبر جميع ذلك و خامدين مع حصيدا في حيز المفعول الثاني للجعل كجعلته حلوا حامضا والمعنى جعلناهم جامعين للحصاد والخمود أو لمماثلة الحصيد الخامد أو لمماثلة الحصيد والخمود أو جعلناهم هالكين على أتم وجه فلا يرد أن الجعل نصب ثلاثة مفاعيل
(17/17)

هنا وهو مما ينصب مفعولين أو هو حال من الضمير المنصوب في جعلناهم أو من المستكن في حصيدا أو هو صفة لحصيدا وهو متعدد معنى واعترض بعضهم بأن كونه صفة له مع كونه تشبيها أريد به ما لا يعقل يأباه كونه للعقلاء
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين
16
- أي ما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب كما تسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم للهو واللعب وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية كأن تكون سببا للإعتبار ودليلا للمعرفة مع منافع لا تحصى وحكم لا تستقصى وحاصله ما خلقنا ذلك خاليا عن الحكم والمصالح إلا أنه عبر عن ذلك باللعب وهو كما قال الراغب الفعل الذي لا يقصد به مقصد صحيح لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه سبحانه وهذا الكلام على ما قيل إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم مؤسس على قواعد الحكمة البالغة المستتبعة للغايات الجليلة وتنبيه على أن ما حكى من العذاب النازل بأهل القرى من مقتضيات تلك الحكم ومتفرعاتها حسب اقتضاء أعمالهم إياه مع التخلص إلى وعيد المخاطبين وفي الكشف أن الآيات لإثبات أمر النبوة ونفي تلك المطاعن السابقة على ما ذكره الإمام وهو الحق لأنه قد تكرر في الكتاب العزيز أن الحكمة في خلق السماء والأرض وما بينهما العبادة والمعرفة وجزاء من قام بهما ومن ومن لم يقم ولن يتم ذلك إلا بإنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم السلام فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لعبا تعالى خالقهما وخالق كل شيء عنه وعن كل نقص علوا كبيرا ومنكر نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جعل إظهار المعجزة على يديه من باب العبث واللعب ففيه إثبات نبوته عليه الصلاة و السلام وفساد تلك المطاعن كلها
وقوله سبحانه : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب في خلق السماء والأرض وما بينهما ومعنى الآية على ما استظهره صاحب الكشف لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع
وقوله تعالى : إن كنا فاعلين
17
- كالتكرير لذلك المعنى مبالغة في الإمتناع على أن إن شرطية وجوابها محذوف أي إن كنا فاعلين ما يوصف بفعله باللهو فهكذا يكون فعلنا ولو حمل على النفي ليكون تصريحا بنتيجة السابق كما عليه جمهور المفسرين لكان حسنا بالغا انتهى وقال الزمخشري : من لدنا أي من جهة قدرتنا وجعل حاصل المعنى أنا لو أردنا ذلك لاتخذنا فإنا قادرون على كل شيء إلا أنا لم نرده لأن الحكمة صارفة عنه وذكر صاحب الكشف أن تفسيره ذلك بالقدرة غير بين وقد فسره به أيضا البيضاوي وغيره وظاهره أن اتخاذ اللهو داخل تحت القدرة وقد قيل إنه ممتنع عليه تعالى امتناعا ذاتيا والممتنع لا يصلح متعلقا للقدرة وأجيب بأن صدق الشرطية لا يقتضي صدق الطرفين فهو تعليق على امتناع الإرادة أو يقال الحكمة غير منافية لاتخاذ ما من شأنه أن يتلهى به وإنما تنافي أن يفعل فعلا يكون هو سبحانه بنفسه لاهيا به فلا امتناع في الإتخاذ بل في وصفه انتهى
والحق عندي أن العبث لكونه نقصا مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه وتعالى ونحن وإن لم نقل بالوجوب عليه تعالى لكنا قائلون بالوجوب عنه عز و جل قال أفضل المتأخرين الكلنبوي : إن
(17/18)

مذهب الماتريدية المثبتين للأفعال جهة محسنة أو مقبحة قبل ورود الشرع أنه إن كان في الفعل جهة تقتضي القبح فذلك الفعل محال في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه لا واجب عليه عز و جل وذلك كالتكليف بما لا يطاق عندهم وكالكذب عند محققي الأشاعرة والماتريدية وإن لم يكن فيه تلك الجهة فذلك الفعل ممكن له تعالى وليس بواجب عليه سبحانه فهم يوافقون الأشاعرة في أنه تعالى لا يجب عليه شيء انتهى
ومن أنكر أن كون البعث نقصا كالكذب فقد كابر عقله وأبلغ من هذا أنه يفهم من كلام بعض المحققين القول بوجوب رعاية مطلق الحكمة عليع سبحانه لئلا يلزم أحد المحالات المشهورة وأن المراد من نفي الأصحاب الوجود عليه تعالى نفي الوجوب في الخصوصيات على ما يقوله المعتزلة ولعله حينئذ يراد بالوجوب لزوم صدور الفعل عنه تعالى بحيث لا يتمكن من تركه بناء على استلزامه محالا بعد صدور موجبه اختيارا لا مطلقا ولا بشرط تمام الإستعداد لئلا يلزم رفض قاعدة الإختيار كما لا يلزم رفضها في اختيار الإمام الرازي ما اختاره كثير من الأشاعرة من لزوم العلم للنظر عقلا ومع هذا ينبغي التحاشي عن إطلاق الوجوب عليه تعالى فتدبره فإنه مهم
وقيل معنى من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات أي لاتخذناه من ذلك لا من الأجرام المرفوعة والأجسام الموضوعة كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها وتسوية الفروش وتزيينها انتهى
ولا يخفى أن أكثر أهل السنة على إنكار المجردات ثم على تقدير تفسير الآية بما ذكر المراد الرد على من يزعم اتخاذ اللهو في هذا العالم لا أنه يجوز اتخاذه في المجردات بل هو فيها أظهر في الإستحالة وعن الجبائي أن المعنى لو أردنا اتخاذ اللهو لاتخذناه من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى أو هو أسرع تيادرا مما في الكشف وذلك أبعد مغزى وقال الإمام الواحدي : اللهو طلب الترويح عن النفس ثم المرأة تسمى لهوا وكذا الولد لأنه يستروح منهما ولهذا يقال لامرأة الرجل وولده ريحانتاه والمعنى لو أردنا أن تنخذ امرأة ذات لهو أو ولدا ذا لهو لاتخذناه من لدنا أي مما نصطفيه ونختاره مما نشاء كقوله تعالى لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء وقال المفسرون : أي من الحور العين وهذا رد لقول اليهود في عزير وقول النصارى في المسيح وأمه من كونه عليه السلام ولدا وكونها صاحبة ومعنى من لدنا من عندنا لا يجري لأحد فيه تصرف لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره انتهى
وتفسير اللهو بالولد مروي عن ابن عباس والسدي وعن الزجاج أنه الولد بلغة حضرموت وكونه بمعنى المرأة حكاه قتادة عن أهل اليمن ولم ينسبه لأهل بلدة منه وزعم الطبرسي أن أصله الجماع ويكنى به عن المرأة لأنها تجامع وأنشد قول امريء القيس : إلا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي والظاهر حمل اللهو على نا سمعت أولا لقوله تعالى وما بينهما لاعبين ولأن نفي الولد سيجيء مصرحا إن شاء الله تعالى ويعلم من ذلك أن كون المراد الرد على النصارى وأضرابهم غير مناسب هنا ثم إن الظاهر من السياق أن إن شرطية والجواب محذوف ثقة بدلالة ما قبل عليه أي إن كنا فاعلين لاتخذناه من لدنا وكونها نافية وإن كان حسنا معنى وقد قاله جماعة منهم مجاهد والحسن وقتادة وابن جريج استدرك عليهم بعضهم بأن أكثر مجيء إن النافية مع اللام الفارقة لكن الأمر في ذلك سهل وقوله تعالى بل نقذف بالحق على الباطل
(17/19)

إضراب على اتخاذ اللهو واللعب بل عن إرادة الإتخاذ كأنه قيل لكنا لا نريده بل شاننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو وتخصيص هذا الشأن من بين سائر شئونه تعالى بالذكر للتخلص لما سيأتي إن شاء الله تعالى من الوعيد عن مجاهد أن الحق القرآن والباطل الشيطان وقيل الحق الحجة والباطل شبههم ووصفهم الله تعالى بغير صفاته من الولد وغيره والعموم هو الأولى وأصل القذف الرمي البعيد كما قال الراغب وهو مستلزم لصلابة الرمي وقد استعير للإيراد أي نورد الحق على الباطل
فيدمغه أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكمة وأصل الدمغ كسر الشيء الرخو الأجوف وقد استعير للمحق
وجوز أن يكون هناك تمثيل لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه برمي جرم صلب على رأس دماغه رخو ليشقه وفيه إيماء إلى علو الحق وتسفل الباطل وأن جانب الأول باق والثاني فإن وجوز أيضا أن يكون استعارة مكنية بتشبيه الحق بشيء صلب يجيء من مكان عال والباطل بجرم رخو أجوف سافل ولعل القول بالتمثيل أمثل وقرأ عيسى ابن عمر فيدمغه بالنصب وضعف بأن ما بعد الفاء إنما بإضمار أن لا بالفاء خلافا للكوفيين في جواب الأشياء الستة وما هنا ليس منها ولم يرد مثله إلا في الشعر كقوله : سأترك منزلي لبني تميم وألحق بالحجاز فأستريحا على أنه قد قيل في هذا إن استريحا ليس منصوبا بل مرفوع مؤكد بالنون الخفيفة موقوف عليه بالألف ووجه بأن النصب في جواب المضارع المستقبل وهو يشبه التمني في الترقب ولا يخفى أن المعنى في الآية ليس على خصوص المستقبل وقد قالوا إن هذا التوجيه في البيت ضعيف فيكون ما في الآية أضعف منه مأخذا والعطف على هذه القراءة على الحق عند أبي البقاء والمعنى بل نقذف بالحق فندمغه على الباطل أي نرمي بالحق فإبطاله به
وذكر بعض الأفاضل أنه لو جعل من قبيل علفتها تبنا وماء بارد أصح واستظهر أن العطف على المعنى أي نفعل القذف فالدمغ وقريء فيدمغه بضم الميم والغين فإذا هو زاهق أي ذاهب بالكلية وفي إذا الفجائية والجملة الإسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى فكأنه زاهق من الأصل
ولكم الويل مما تصفون
18
- وعيد لقريش أو لجميع الكفار من العرب بأن لهم أيضا مثل مالأولئك من العذاب والعقاب وما تعليلية متعلقة بالإستقرار الذي تعلق به الخبر أو بمحذوف هو حال من الويل على مذهب بعضهم أو من ضميره المستتر في الخبر وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة أي ومستقر لكم الويل والهلاك من أجل وصفكم له تعالى بما لا يليق بشأنه الجليل تعالى شأنه أو بالذي تصفونه أو بشيء تصفونه به من الولد ونحوه أو كائنا مما تصفونه عز و جل به وكون الخطاب لمن سمعت مما لا خفاء فيه ولا بعد وأبعد كل البعد من قال : إنه خطاب لأهل القرى على طريق الإلتفات من الغيبة في قوله تعالى فما زالت تلك دعواهم إليه
وله من في السماوات والأرض استئناف مقرر لما قبله من خلقه تعالى لجميع مخلوقاته على حكمة بالغة ونظام كامل وأنه سبحانه يحق الحق ويزهق الباطل وقيل هو عديل لقوله تعالى ولكم الويل وهو كما ترى أي وله تعالى خاصة جميع المخلوقات خلقا وملكا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وتعذيبا وإثابة من غير أن
(17/20)

يكون لأحد في ذلك دخل ما استقلالا واستتباعا وكأنه أريد هنا إظهار مزيد العظمة فجيء بالسماوات جمعا على معنى له كل من هو في واحدة واحدة من السماوات ولم يرد فيما مر سوى بيان اشتمال هذا السقف المشاهد والفراش الممهد وما استقر بينهما على الحكم التي لا تحصى فلذا جيء بالسماء بصيغة الإفراد دون الجمع
وفي الإتقان حيث يراد العدد يؤتى بالسماء مجموعة وحيث يراد الجهة يؤتى بها مفردة ومن عنده وهم الملائكة مطلقا عليهم السلام على ما روي عن قتادة وغيره والمراد بالعندية عندية الشرف لا عندية المكان وقد شبه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة فعبر عن المشبه بلفظ دال على المشبه به فهناك استعارة مصرحة
وقيل عبر عنهم بذلك تنزيلا لهم لكرامتهم عليهم عز و جل منزلة المقربين عند الملوك بطريق التمثيل والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى لا يستكبرون عن عبادته أي لا يتعظمون عنها و يعدون أنفسهم كبراء ولا يستحسرون
19
- أي لا يكلون ولا يتعبون يقال حسر البعير واستحسر كل وتعب وحسرته أنا فهو متعد لازم يقال أيضا أحسرته بالهمز
والظاهر أن الإستحسار حيث لا طلب كما هنا أبلغ من الحسور فإن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى والمراد من الإتحاد بينهما الدال عليه كلامهم الإتحاد في أصل المعنى والتعبير به للتنبيه على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ومع ذلك لا يستحسرون وليس لنفي االمبالغة في الحسور مع ثبوت أصله في الجملة ونظير ذلك قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد على أحد الأوجه المشهورة فيه
وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون ذلك معطوفا على من الأولى وأمر تفسيره بالملائكة عليهم السلام على حاله وذكر أن هذا العطف لكون المعطوف أخص من المعطوف عليه في نفس الأمر كالعطف في قوله تعالى تنزل الملائكة والروح في الدلالة على رفعة شأن المعطوف وتعظيمه حيث أفرد بالذكر مع اندراجه في عموم ما قبله وقيل إنما أفرد لأنه أعم من وجه فإن من في الأرض يشمل البشر ونحوهم وهو يشمل الحافين بالعرش دونه وجوز أن يراد بمن عنده نوع من الملائكة عليهم السلام متعال عن التنبوء والإستقرار في السماء والأرض وكأن هذا ميل إلى القول بتجرد نوع من الملائكة عليهم السلام وأنت تعلم أن جمهور أهل الإسلام لا يقولون بتجرد شيء من الممكنات والمشهور عن القائلين به القول بتجرد الملائكة مطلقا إلا بتجرد بعض دون بعض
ثم إن أبا البقاء جوز في قوله تعالى لا يستكبرون على هذا الوجه أن يكون حالا من الأولى والثانية على قول من رفع بالظرف أو من الضمير في الظرف الذي هو الخبر أو من الضمير في عنده ويتعين أحد الأخيرين عند من يعرب من مبتدأ ولا يجوز مجيء الحال من المبتدأ ولا يخفى
وجوز بعض الأفاضل أن تكون الجملة مستأنفة والأظهر جعلها خبرا لمن عنده وفي بعض أوجه الحالية ما لا يخفى وقوله تعالى يسبحون الليل والنهار استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله كأنه قيل ماذا يصنعون في عبادتهم أو كيف يعبدون فقيل يسبحون الخ
وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير لا يستحسرون وقوله سبحانه لا يفترون
20
- في موضع الحال من ضمير يسبحون على تقديري الإستئناف والحالية وجوز على تقدير الحالية أن يكون هذا حالا من
(17/21)

ضمير لا يستحسرون أيضا ولا يجوز على تقدير الإستئناف كونه حالا منه للفصل وجوز أن يكون استئنافا والمعنى ينزهون الله تعالى ويعظمونه ويمجدونه في كل الأوقات لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلا بفراغ أو شغل آخر واستشكل كون الملائكة مطلقا كذلك مع أن منهم رسلا يبلغون الرسالة ولا يتأتى التسبيح حال التبليغ ومنهم من يلعن الكفرة كما ورد في آية أخرى وقد سأل عبد الله بن الحرث بن نوفل كعبا عن ذلك كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الشعب فأجاب بأنه جعل لهم التسبيح كالتنفس فلا يمنع عن التكلم بشيء آخر وتعقب بأن فيه بعدا وقيل إن الله تعالى خلق لهم ألسنة فيسبحون ببعض ويبلغون مثلا ببعض آخر وقيل تبليغهم ولعنهم الكفرة تسبيح معنى
وقال الخفاجي : الظاهر أنه إن لم يحصل على بعضهم فالمراد به المبالغة كما يقال فلان لا يفترعن ثنائك وشكر آلائك انتهى ولا يخفى حسنه ويجوز أن يقال : إن هذا التسبيح كالحضور والذكر القلبي الذي يحصل لكثير من السالكين وذلك مما يجتمع مع التبليغ وغيره من الأعمال الظاهرة ثم إن كون الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يستلزم أن يكون عندهم في السماء ليل ونهار لأن المراد إفادة دوامهم على التسبيح على الوجه المتعارف وقوله تعالى : أم اتخذوا آلهة حكاية لجناية أخرى من جنايات أولئك الكفرة هي أعظم من جناية طعنهم في النبوة وأم هي المنقطعة تقدر ببل الإضرابية والهمزة الإنكارية وهي لإنكار الوقوع لا إنكار الواقع وقوله تعالى : من الأرض متعلق باتخذوا ومن ابتدائية على معنى أن اتخاذهم إياها مبتدأ من أجزاء الأرض كالحجارة وأنواع المعادن ويجوز كونها تبعيضية
وقال أبو البقاء وغيره : يجوز أن تكون متعلقة بمحذوف وقع صفة لآلهة أي آلهة كائنة من جنس الأرض وأياما كان فالمراد التحقير لا التخصيص ومن جوزه التزم تخصيص الإنكار بالشديد وهو غيرسديد وقوله تعالى هم ينشرون
21
- أي يبعثون الموتى صفة لآلهة وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع لا نفس الإتخاذ فإنه واقع لا محالة أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى كلا فإن ما اتخذوه آلهة بمعزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحا لكنهم حيث ادعوا لها الآلهية فكلهم ادعوا لها الإنشار ضرورة أنه من الخصائص الآلهية حتما ومعنى التخصيص في تقديم الضمير ما أشير إليه من التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار الموجبة لمزيد الإنكار كما أن تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى أفي الله شك للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويجوز أن يجعل ذلك من مستتبعات ادعائهم الباطل فإن الألوهية مقتضية للإستقلال بالإبداء والإعادة فحيث ادعوا للأصنام الإلهية فكأنهم ادعوا لهم الإستقلال بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدعين لأصل الإنشار قاله المولى أبو السعود وقال بعضهم : تقديم الضمير للتقوى وما ذهب إليه من إفادته معنى التخصيص تبع فيه الزمخشري وفي الكشف الداعي إلى ترجيحه على التقوى أنه ترشيح لما أبداه أولا من أن الآلهية لا تصح دون القدرة على الإنشار ولا وجه لتجوير كونه فصلا انتهى وجوز أن تكون جملة هم ينشرون مستأنفة مقدرا معها استفهام إنكاري لبيان علة إنكار الإتخاذ ولعل مجوز ذلك لا يسلم لزوم كون معنى الهمزة في أم المنقطعة إنكار الوقوع ويجوز كونه إنكار الواقع وتفسير ينشرون يبعثون هو المشهود عليه الجمهور وقال قطرب : هو بمعنى يخلقون
(17/22)

وقرأ الحسن ومجاهد ينشرون بفتح الياء على أنه من نشر وهو وأنشر بمعنى وقد يجيء نشر لازما يقال أنشر الله تعالى الموتى فنشروا وقوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا إبطال لتعدد الآله وضمير فيهما للسماء والأرض والمراد بهما العالم كله علويه وسفليه والمراد بالكون فيهما التمكن للبالغ من التصرف والتدبير لا التمكن والإستقرار فيهما كما توهمه الفاضل الكلنبوي والظرف على هذا متعلق بكان وقال الطيبي : إنه ظرف لآلهة على حد قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وقوله سبحانه : وهو الله في السماوات وفي الأرض وجعل تعلق الظرف بما ذكر ههنا باعتبار تضمنه معنى الخالقية والمؤثرية
وأنت تعلم أن الظاهر ما ذكر أولا و إلا لمغايرة ما بعدها لما قبلها فهي بمنزلة غير وفي المغنى أنها تكون صفة بمنزلة غير فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه ومثل للأول بهذه الآية وقد صرح غير واحد من المفسرين أن المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله وجعل ذلك الخفاجي إشارة إلى أن إلا هنا اسم بمعنى غير صفة لما قبلها وظهر إعرابها فيما بعدها لكونها على صورة الحرف كما في أل الموصولة في اسم الفاعل مثلا
وأنكر الفاضل الشمني كونها بمنزلة غير في الإسمية لما في حواشي العلامة الثاني عند قوله تعالى : لا فارض من أنه لا قائل بإسمية إلا التي بمنزلة غير ثم ذكر أن المراد بكونها بمنزلة غير أنها بمنزلتها في مغايرة ما بعدها لما قبلها ذاتا أو صفة ففي شرح الكافية للرض أصل غير أن تكون صفة مفيدة لمغايرة مجرورها لموصوفها إما بالذات نحو مررت برجل عير زيد وإما بالصفة نحو دخلت بوجه غير الذي خرجت به وأصل إلا التي هي أم أدوات الإستثناء مغايرة ما بعدها لما قبلها نفيا أو إثباتا فلما اجتمع ما بعد إلا وما بعد فير في معنى المغايرة حملت إلا على غير في الصفة فصار ما بعد إلا مغايرا لما قبلها ذاتا أو صفة من غير اعتبار مغايرته له نفيا أو إثباتا وحملت غير على إلا في الإستثناء فصار ما بعدها مغايرا لما قبلها مفيا أو إثباتا من غير مغايرته له ذاتا أو صفة إلا أن حمل غير على إلا أكثر من حمل إلا على غير لأن غير اسم والتصرف في الأسماء أكثر منه في الحروف فلذلك تقع غير في جميع مواقع إلا انتهى
وأنت تعلم أن المتبادر كون إلا حين أفادتها معنى غير اسما وفي بقائها على الحرفية مع كونها وحدها أو مع ما بعدها بجعلهما كالشيء الواحد صفة لما قبلها نظر ظاهر وهو في كونها وحدها كذلك أظهر ولعل الخفاجي لم يقل ما قال إلا وهو مطلع على قائل بإسميتها ويحتمل أنه اضطره إلى القول بذلك ما يرد على القول ببقائها على الحرفية ولعمري أنه أصاب المحزوان قال العلامة ما قال وكلام الرضي ليس نصا في أحد الأمرين كما لا يخفى على المنصف ولا يصح أن تكون للإستثناء من جهة العربية عند الجمهور لأن آلهة جمع منكر في الإثبات ومذهب الأكثرين كما صرح به في التلويح أنه لا استغراق له فلا يدخل فيه ما بعدها حتى يحتاج لإخراجه بها وهم يوجبون دخول المستثنى في المستثنى منه في الإستثناء المتصل ولا يكتفون بجواز الدخول كما ذهب إليه المبرد وبعض الأصوليين فلا يجوز عندهم قام رجال إلا زيدا على كون الإستثناء متصلا وكذا على كونه منفطعا بناء على أنه لابد فيه من الجزم بعد الدخول وهو مفقود جزما ومن أجاز الإستثناء في مثل هذا التركيب كالمبرد جعل الرفع في الاسم الجليل على البدلية واعترض بعدم تقدم النفي وأجيب بأن لو للشرط وهو كالنفي وعنه أنه أجاب بأنها تدل على الإمتناع وامتناع الشيء انتفاؤه وزعم أن التفريغ بعدها جائز وأن نحو لو كان
(17/23)

معنا إلا زيد لهكنا أجود كلام وخالف في ذلك سيبويه فإنه قال لو قلت لو كان معنا المثال لكنت قد أحلت
ورد بأنهم لا يقولون لو جاءني ديار أكرمته ولا لو جاءني من أحد أكرمته ولو كانت بمنزلة النافي لجاز ذلك كما يجوز ما فيها ديار وما جاءني من أحد وتعقبه الدماميني بأن للمبرد أن يقول : قد أجمعنا على إجراء أبي مجرى النفي الصريح وأجزنا التفريغ فيه قال الله تعالى فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقال سبحانه : ويأبى الله إلا أن يتم نوره مع أنه لا يجوز أبي ديار المجيء وأبي من أحد الذهاب فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا
وقال الرضي : أجاز المبرد الرفع في الآية على البدل لأن في لو معنى النفي وهذا كما أجاز الزجاج البدل في قوم يونس في قوله تعالى : فلو كانت قرية آمنت الآية إجراء للتحضيض مجرى النفي والأولى عدم إجراء ذينك في جواز الإبدال والتفريغ معهما مجراه إذ لم يثبت انتهى
وذكر المالكي في شرح التسهيل أن كلام المبرد في المقتضب مثل كلام سيبويه وأن التفريغ والبدل بعد لو غير جائز وكذا لا يصح الإستثناء من جهة المعنى ففي الكشف أن البدل والإستثناء في الآية ممتنعان معنى لأنه إذ ذاك لا يفيد ما سيق له الكلام من انتفاء التعدد ويؤدي إلى كون الآلهة بحيث لا يدخل في عدادهم الإله الحق مفض إلى الفساد فنفي الفساد يدل على دخوله فيهم وهو من الفساد بمكان ثم أن الصفة على ما ذهب إليه ابن هشام مؤكدة صالحة للإسقاط مثلها في قوله تعالى نفخة واحدة فلو قيل لو كان فيهما آلهة لفسدتا لصح وتأتي المراد وقال الشلوبين وابن الصائغ : لا يصح المعنى حتى تكون إلا بمعنى غير التي يراد بها البدل والعوض ورد بأنه يصير المعنى حينئذ لو كان فيهما عدد من الآلهة بدل وعوض منه تعالى شأنه لفسدتا وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما اثنان هو عز و جل أحدهما لم تفسدا وذلك باطل
وأجيب بأن معنى الآية حينئذ لا يقتضي هذا المفهوم لأن معناها لو كان فيهما عدد من الآلهة دونه أو به سبحانه بدلا منه وحده عز و جل لفسدتا وذلك مما لا غبار عليه فاعرف والذي عليه الجمهور إرادة المغايرة والمراد بالفساد البطلان والإضمحلال أو عدم التكون والآية كما قال غير واحد مشيرة إلى دليل عقلي على نفي تعدد الآلهة وهو قياس استثنائي استثني فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم فكأنه قيل لو تعدد الإله في العالم لفسد لكنه لم يفسد ينتج أنه لم يتعدد الإله وفي هذا استعمال للو غير الإستعمال المشهور
قال السيد السند : أن لو قد تستعمل في مقام الإستدلال فيفهم منها ارتباط وجود التالي بوجود المقدم مع انتفاء التالي فيعلم منه انتفاء المقدم وهو على قلته موجود في اللغة يقال : لو كان زيد في البلد لجاءنا ليعلم منه أنه ليس فيه ومنه قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا : وقال العلامة الثاني : إن أرباب المعقول قد جعلوا لو أداة للتلازم دالة على لزوم الجزاء للشرط من غير قصد إلى القطع بانتفائهما ولهذا صح عندهم استثناء عين المقدم فهم يستعملونها للدلالة على أن العلم بالنتفاء الثاني علة للعلم بالنتفاء الأول ضرورة انتفاء الملزوم بالنتفاء اللازم من غير التفات إلى علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي لأنهم يستعملونها في القياسات لاكتساب العلوم والتصديقات ولا شك أن العلم بالنتفاء الملزوم لا يوجب العلم بانتفاء اللازم بل الأمر بالعكس وغذا تصفحنا وجدنا استعمالها على قاعدة اللغة أكثر لكن قد تستعمل على قاعدتهم كما في قوله تعالى لو كان فيهما الخ لظهر أن الغرض منه التصديق بانتفاء تعدد الآلهة لا بيان سبب انتفاء الفساد أه وفيه بحث يدفع بالعناية ولا يخفى عليك أن لبعض النحويين نحو هذا القول فقد قال الشلوبين وابن عصفور : إن لو
(17/24)

لمجرد التعليق بين الحصولين في الماضي من غير دلالة على امتناع الأول والثاني كما أن إن لمجرد التعليق في الإستقبال والظاهر أن خصوصية المضي ههنا غير معتبرة
وزعم بعضهم : أن لو هنا لانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما هو المشهور فيها ويتم الإستدلال ولا يخفى ما فيه على من دقق النظر ثم إن العلامة قال في شرح العقائد : إن الحجة إقناعية والملازمة عادية على ما هو اللائق بالخطابيات فإن العادة جارية بوقوع المانع والتغالب عن تعدد الحاكم وإلا فإن أريد الفساد بالفعل أي خروجهما عن هذا النظام المشاهد فمجرد التعدد لا يستلزمه لجواز الإتفاق على هذا النظام وإن أريد إمكان الفساد فلا دليل على انتفائه بل النصوص شاهدة بطي السماوات ورفع هذا النظام فيكون ممكنا لا محالة
وكذا لو أريد بفسادهما عدم تكونهما بمعنى أنه لو فرض صانعان لأمكن بينهما تمانع في الأفعال فلم يكن أحدهما صانعا فلم يوجد مصنوع لا تكون الملازمة قطعية لأن إمكان التمانع لا يستلزم إلا عدم تعدد الصانع وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع على أنه يرد منع الملازمة إن أريد عدم التكون بالفعل ومنع انتفاء اللازم إن أريد بالإمكان انتهى فنفي أن تكون الآية برهانا سواء حمل الفساد على الخروج عن النظام أو على عدم التكون وفيه قدح لما أشار إليه في شرح المقاصد من كون كونها برهانا على الثاني فإنه بعد ما قرر برهان التمانع قال : وهذا البرهان يسمى برهان التمانع وإليه الإشارة بقوله تعالى لو كان فيهما آلهة الآية فإن أريد عدم التكون فتريره أن يقال : لو تعدد الآلهة لم تتكون السماء والأرض لأن تكونها إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما والكل باطل أما الأول فلأن من شاء الإله كمال القدرة وأما الأخيران فلما مر من التوارد والرجحان من غير مرجح وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام فتقريره أن يقال : إنه لو تعددت الآله لكان بينهما التنازع والتغالب وتمييز صنيع كل منهما عن الآخر بحكم اللزوم العادي فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الإلتئام الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد ويختل أمر النظام الذي فيه بقاء الأنواع وترتب الآثار انتهى وذلك القدح بأن يقال : تعدد الآله لا يستلزم التمانع بالفعل بطريق إرادة كل منهما وجود العالم بالإستقلال من غير مدخلية قدرة الآخر بل إمكان ذلك التمانع والإمكان لا يستلزم الوقوع فيجوز أن لا يقع بل يتفقان على الإيجاد بالإشتراك أو يفوض أحدهما إلى الآخر وبحث فيه المولى الخيالي بغير ذلك أيضا ثم قال : التحقيق في هذا المقام أنه إن حملت الآية الكريمة على نفي تعدد الصانع مطلقا فهي حجة إقناعية لكن الظاهر من الآية نفي تعدد الصانع المؤثر في السماء والأرض إذ ليس المراد من الكون فيهما التمكن فيهما بل التصرف والتأثير فالحق أن الملازمة قطعية إذ التوارد باطل فتأثيرهما إما على سبيل الإجتماع أو التوزيع فيلزم انعدام الكل أو البعض عند عدم كون أحدهما صانعا لأنه جزء علة أو علة تامة فيفسد العالم أي لا يوجد هذا المحسوس كلا أو بعضا ويمكن أن توجه الملازمة بحيث تكون قطعية على الإطلاق وهو أن يقال : لو تعدد الإله لم يكن العالم ممكنا فضلا عن الوجود وإلا لأمكن التمانع بينهما المستلزم للمحال لأن إمكان التمانع لازم لمجموع الأمرين من التعدد وإمكان شيء من الأشياء فإذا فرض التعدد يلزم إن لا يمكن شيء من الأشياء حتى لا يمكن التمانع المستلزم للمحال انتهى وأراد الفاضل الكلنبوي على الأول خمسة أبحاث فيها الغث والسمين ثم قال : فالحق أن توجيه الثاني لقطعية الملازمة صحيح دون الأول وللعلامة الدواني كلام في هذا المقام قد ذكر الفاضل المذكور ماله وما عليه من
(17/25)

النقض والإبرام ثم ذكر أن للتمانع عندهم معنيين أحدهما إرادة أحد القادرين وجود المقدور والآخر عدمه وهو المراد بالتمانع في البرهان المشهور ببرهان التمانع وثانيهما إرادة كل منهما إيجاده بالإستقلال من غير مدخلية قدرة الآخر فيه وهو التمانع الذي اعتبروه في امتناع مقدور بين قادرين وقولهم : لو تعدد الإله لم يوجد شيء من الممكنات لاستلزامه أحد المحالين إما وقوع مقدور بين قادرين وإما الترجيح بلا مرجح مبني على هذا وحاصل البرهان عليه أنه لو وجد إلهان قادران على الكمال لأمكن بينهما تمانع واللازم باطل إذ لو تمانعا وأرادا كل منهما الإيجاد بالإستقلال يلزم إما أن لا يقع مصنوع أصلا أو يقع بقدرة كل منهما أو بأحدهما والكل باطل ووقوعه بمجموع القدرتين مع هذه الإرادة يوجب عجزهما لتخلف مراد كل منهما عن إرادته فلا يكونان إلهين قادرين على الكمال وقد فرضا كذلك ومن هنا ظهر أنه على تقدير التعدد لو وجد مصنوع لزم إمكان أحد المحالين إما إمكان التوادر وإما إمكان الرجحان من غير مرجح والكل محال وبهذا الإعتبار مع حمل الفساد على عدم الكون قيل بقطيعة الملازمة في الآية فهي دليل إقناعي من وجه ودليل قطعي من وجه آخر والأول بالنسبة إلى العوام والثاني بالنسبة إلى الخواص وقال مصلح الدين اللاري بعد كلام طويل وقال وقيل أقول أقرر الحجة المستفادة من الآية الكريمة على وجه أوجه مما عداه وهو أن الإله المستحق للعبادة لا بد أن يكون واجب الوجود وواجب الوجود وجوده عين ذاته عند أرباب التحقيق إذ لو غايره لكان ممكنا لاحتياجه في موجوديته إلى غيره الذي هو الوجود فلو تعدد لزم أن لا يكون وجودا فلا تكون الأشياء موجودة لأن موجودية الأشياء بارتباطها بالوجود فظهر فساد السماء والأرض بالمعنى الظاهر لا بمعنى عدم التكون لأنه تكلف ظاهر انتهى
وأنت تعلم أن إرادة عدم التكون أظهر على هذا الإستدلال ثم إن هذا النحو من الإستدلال مما ذهب إليه الحكماء بل أكثر براهينهم الدالة على التوحيد الذي هو أجل المطالب الآلهية بل جميعها يتوقف على أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود البحت القائم بذاته المعبر عنه بالوجوب الذاتي والوجود المتأكد وإن ما يعرضه الوجوب أو الوجود فهو في حد نفسه ممكن ووجوده كوجوبه يستفاد من الغير فلا يكون واجبا ومن أشهرها أنه لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لكانا مشتركين في وجوب الوجود ومتغايرين بأمر من الأمور وإلا لم يكونا اثنين وما به الإمتياز إما أن يكون تمام الحقيقة أو جزءها لا سبيل إلى الأول لأن الإمتياز لو كان بتمام الحقيقة لكان وجوب الوجود المشترك بينهما خارجا عن حقيقه كل منهما أو عن حقيقة أحدهما وهو محال لما تقرر من أن وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود لذاته ولا سبيل إلى الثاني لأن كل واحد منهما يكون مركبا مما به الإشتراك وما به الإمتياز وكل مركب محتاج فلا يكون واجبا لا مكانه فيكون كل من الواجبين أو أحدهما ممكنا لذاته هذا خلف واعترض بأن معنى قولهم وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود أنه يظهر من نفس تلك الحقيقة أثر صفة وجوب الوجود لا أن تلك الحقيقة عين هذه الصفة فلا يكون اشتراك موجودين واجبي الوجود في وجوب الوجود إلا أن يظهر من نفس كل منهما أثر صفة الوجوب فلا منافاة بين اشتراكهما في وجوب الوجود وتمايزهما بتمام الحقيقة وأجيب بأن المراد العينية ومعنى قولهم أن وجوب الوجود عين حقيقة الواجب هو أن ذاته بنفس ذاته مصداق هذا الحكم ومنشأ انتزاعه من دون انضمام أمر آخر ومن غير ملاحظة حيثية أخرى غير ذاته تعالى أية حيثية كانت حقيقية أو إضافية أو سلبية وكذلك قياس سائر صفاته
(17/26)

سبحانه عند القائلين بعينيتها من أهل التحقيق وتوضيح ذلك على مشربهم أنك كما قد تعقل المتصل مثلا نفس المتصل كالجزء الصوري للجسم من حيث هو جسم وقد تعقل شيئا : ذلك الشيء هو المتصل كالمادة فكذلك قد تعقل واجب الوجود بما هو واجب الوجود وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو واجب الوجود ومصداق الحكم به ومطابقه في الأول حقيقة الموضوع وذاته فقط وفي الثاني هي مع حيثية أخرى هي صفة قائمة بالموضوع حقيقية أو انتزاعية وكل واجب الوجود لم يكن نفس واجب الوجود بل يكون له حقيقة تلك الحقيقة متصفة بكونها واجبة الوجود ففي اتصافها تحتاج إلى عروض هذا الأمر وإلى جاعل يجعلها بحيث ينتزع منها هذا الأمر فهي في حد ذاتها ممكنة الوجود وبه صارت واجبة الوجود فلا تكون واجبة الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته وليقس على سائر صفاته تعالى الحقيقية الكمالية كالعلم والقدرة وغيرهما واعترض أيضا بأنه لم لا يجوز أن يكون ما به الإمتياز أمرا عارضا لا مقوما حتى يلزم التركيب وأجيب بأن ذلك يوجب أن يكون التعين عارضا وهو خلاف ما ثبت بالبرهان ولابن كمونة في هذا المقام شبهة شاع أنها عويصة الدفع عسيرة الحل حتى أن بعضهم سماه لابدائها بافتخار الشياطين وهي أنه لم لا يجوز أن يكون هناك هويتان بسيطتان مجهولتان الكنه مختلفتان بتمام الماهية يكون كل منهما واجبا بذاته ويكون مفهوم واجب الوجود منتزعا منهما مقولا عليها قولا عرضيا وقد رأيت في ملخص الإمام عليه الرحمة نحوها ولعلك إذا أحطت خبرا بحقيقة ما ذكرنا يسهل عليك حلها وإن أردت التوضيح فاستمع لما قيل في ذلك إن مفهوم واجب الوجود لا يخلو إما أن يكون انتزاعه عن نفس ذات كل منهما من دون اعتبار حيثية خارجة أية حيثية كانت أو مع اعتبار تلك الحيثية وكلا الشقين محال أما الثاني فلما تقرر أن كل ما لم يكن ذاته مجرد حيثية انتزاع الوجوب فهو ممكن في ذاته وأما الأول فلا مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق بالذات مع قطع النظر عن أية حيثية كانت لا يمكن أن يكون حقائق متخالفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتي أصلا ولعل كل سليم الفطرة يحكم بأن الأمور المتخالفة من حيث كونها متخالفة بلا حيثية جامعة لا تكون مصداقا لحكم واحد ومحكيا عنها به نعم يجوز ذلك إذا كانت تلك الأمور متماثلة من جهة كونها متماثلة ولو في أمر سلبي بل نقول لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجود المصدري المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أدانا النظر والبحث إلى أن حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحق الوجود المطلق الذي لا يشوبه عموم ولا خصوص ولا تعدد إذ كل ما وجوده هذا الوجود لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود فرضا مباينة أصلا ولا تغاير فلا يكون اثنان بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد كما لوح إليه صاحب التلويحات بقوله : صرف الوجود الذي لا أتم منه كلما فرضته ثانيا فإذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء فوجوب وجوده تعالى الذي هو ذاته سبحانه تدل على وحدته جل وعلا فتأمل
ولا يخفى عليك أن أكثر البراهين على هذا المطلب الجليل الشأن يمكن تخريج الآية الكريمة عليه ويحمل حينئذ الفساد على عدم التكون فعليك بالتخريج وإن أحوجك إلى بعض تكلف وإياك أن تقنع بجعلها حجة إقناعية كما ذهب إليه كثير فإن هذا المطلب الجليل أجل من أن يكتفي فيه بالإقناعات المبينة على الشهرة والعادة ولصاحب الكشف طاب ثراه كلام يلوح عليه مخايل التحقيق في هذا المقام سنذكره إن شاء الله تعالى كما اختاره في تفسير قوله تعالى إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ثم لا تتوهمن أنه لا يلزم من الآية نفي في الإثنين والواحد لأن نفي آلهة تغاير الواحد المعين شخصا يستلزم بالضرورة أن كل واحد واحد
(17/27)

منهم يغايره شخصا وهو أبلغ من نفي واحد يغاير المعين في الشخص على أنه طريق به قوله تعالى أم اتخذوا آلهة من الأرض وقيام الملازمة كاف في نفي الواحد والإثنين أيضا واستشكل سياق الآية الكريمة بأن الظاهر أنها إنما سيقت لإبطال عبادة الأصنام المشار إليه بقوله تعالى أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لذكرها بعده وهي لا تبطل إلا تعدد الإله الخالق القادر المدبر التام الألوهية وهو غير متعدد عند المشركين ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله وهم يقولون في آلهتهم إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى فما قالوا به لا تبطله الآية وما تبطله الآية يقولوا به ومن هنا قيل معنى الآية لو كانت في السماء والأرض آلهة كما يقول عبدة الأوثان : لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم وأجيب بأن قوله تعالى أم اتخذوا الخ مسوق للزجر عن عبادة الأصنام وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك وبعد الزجر عن ذلك أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا واحدا على أن شرح اسم الإله هو الواجب الوجود لذاته الحي العالم المريد القادر الخالق المدبر فمتى أطلقوه على شيء لزمهم وصفه بذلك شاؤا أو أبو فالآية لإبطال ما يلزم قولهم على أتم وجه فسبحانه الله رب العرش عما يصفون
22
- أي نزهوه أكمل تنزيه عن أن يكون من دونه تعالى آلهة كما يزعمون فالفاء لترتيب ما بعده على ما قبلها من ثبوت الوحدانية وإبراز الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية مناط لجميع صفات الكمال التي من جملتها تنزهه تعالى عن الشركة ولتربية المهابة وإدخال الروعة والوصف برب العرش لتأكيد التنزه مع ما في ذلك من تربية المهابة والظاهر أن المراد حقيقة الأمر بالتنزيه وقيل : المراد بالتعجيب ممن عبد تلك المعبودات الخسيسة وعدها شريكا مع وجود المعبود العظيم الخالق لأعظم الأشياء والكلام عليه أيضا كالنتيجة لما قبله من الدليل وقوله تعالى لا يسئل عما يفعل يمكن أن يكون جواب سؤال مقدر ناشيء من إثبات توحده سبحانه في الألوهية المتضمن توحده تعالى في الخلق والتصرف ووصف الكفرة إياه سبحانه بما لا يليق كأنه قيل إذا كان الله تعالى هو الإله الخالق المتصرف فلم خلق أولئك الكفرة ولم يصرفهم عما يقولون فأجيب بقوله سبحانه لا يسئل الخ وحاصله أنه تعالى لا ينبغي لأحد أن يتعرض عليه في شيء من أفعاله إذ هو حكيم مطلق لا يفعل ما يرد عليه الإعتراض وهم يسئلون
23
- عما يفعلون ويعترض عليهم وهذا الحكم في حقه تعالى عام لجميع أفعاله سبحانه ويندرج فيه خلق الكفرة وإيجادهم على ما هم عليه ووجه حل السؤال الناشيء مما تقدم بناء على ما يشير إليه هذا الجواب الإجمالي أنه تعالى خلق الكفرة بل جميع المكلفين على حسب ما علمهم مما هم عليه في أنفسهم لأن الخلق مسبوق بالإرادة والإرادة مسبوقة بالعلم والعلم تابع للمعلوم فيتعلق به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي وقد يشير إلى بعض ذلك قول الشافعي عليه الرحمة من أبيات : خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسن ثم بعد أن خلقهم هلى حسب ذلك كلفهم لاستخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء اللذين في استعدادهم الأزلي وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولا يكون للناس على الله تعالى حجة فلا يتوجه على الله تعالى اعتراض بخلق الكافر وإنما
(17/28)

يتوجه الإعتراض على الكافر بكفره حيث أنه من توابع استعداده في ثبوته الغير المعجول وقد يشير إلى ذلك قوله سبحانه وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وقوله عليه الصلاة و السلام فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وهذا وإن كان مما فيه قيل وقال ونزاع وجدال إلا أنه مما ارتضاه كثير من المحققين والأجلة العارفين وقال البعض : إن ذلك استئناف ببيان أنه تعالى لقوة عظمته الباهرة وعزة سلطته القاهرة بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسأله عما يفعل من أفعاله أثر بيان أن ليس له شريك في الألوهية وضمير هم للعباد أي والعباد يسئلون عما يفعلون نقيرا وقمطيرا لأنهم مملوكون له تعالى مستعبدون وفي هذا وعيد للكفرة والظاهر أن المراد عموم النفي جميع الأزمان أي لا يسئل سبحانه في وقت من الأوقات عما يفعل وخص ذلك الزجاج بيوم القيامة والأول أولى وإن كان أمر الوعيد على هذا أظهر واستدل بالآية على أن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض والغايات فلا يقال فعل كذا لكذا إذ لو كانت معللة لكان للعبد أن يسأل فيقول لم فعل وإلى ذلك ذهب الأشاعرة ولهم عليه أدلة عقلية أيضا وأولوا ما ظاهرة التعليل بالحمل على المجاز أو جعل الأداة فيه للعافية ومذهب الماتريدية كما في شرح المقاصد والمعتزلة أنها تعلل بذلك وإليه ذهب الحنابلة كما قال الطوفي وغيره
وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي المعروف بابن القيم في كتاب شفاء العليل : إن الله سبحانه وتعالى حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل وقد دل كلامه تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم على هذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها وساق اثنين وعشرين نوعا في بضعة عشرة ورقة ثم قال : لو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله تعالى في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع ثم قال : وهل إبطال الحكم والمناسبات والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال الشرع جمله وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد ثم قال : والحق الذي لا يجوز غيره هو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته ويفعل بأسباب وحكم وغايات محمودة وقد أودع العالم من القوى والغرائز ما به قام الخلق والأمر وهذا قول جمهور أهل الإسلام وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة أه
والظاهر أن ابن القيم وأضرابه من أهل السنة القائلين بتعليل أفعاله تعالى لا يجعلون كالأشاعرة المخصص لأحد الضدين بالوقوع محض تعلق الإرادة بالمعنى المشهور ومحققو المعتزلة كأبي الحسن والنظام والجاحظ والعلاف وأبي القاسم البلخي وغيرهم يقولون : إن العلم بترتب النفع على إيجاد النافع هو المخصص للنافع بالوقوع ويسمون ذلك العلم بالداعي وهو الإرادة عندهم وأورد عليهم أن الواجب تعالى موجب في تعلق علمه سبحانه بجميع المعلومات فلو كان المخصص الموجب للوقوع هو العلم بالنفع كان ذلك المخصص لازما لذاته تعالى فيكون فعله سبحانه واجبا لأمر خارج ضروري للفاعل وهو ينافي الإختيار بالمعنى الأخص قطعا فلا يكون الواجب مختارا بهذا المعنى بل يؤل إلى ما ذهب إليه الفلاسفة من الإختيار المجامع للإيجاب ولا يرد ذلك على القائلين بأن المخصص هو تعلق الإرادة الأزلية لأن ذلك التعلق غير لازم لذات الواجب تعالى وإن كان أزليا دائما لا مكان تعلقها بالضد الآخر بدل الضد الواقع نعم يرد عليهم ما يصعب التفصي عنه مما
(17/29)

هو مذكور في الكتب الكلامية وأورد نظير ما ذكر على الحنفية فإنهم ذهبوا إلى التعليل وجعلوا العلم بترتب المصالح علة لتعلق العلم بالوقوع فلا يتسنى لهم القول بكون الواجب تعالى مختارا بالمعنى الأخص لأن الذات يوجب العلم والعلم يوجب تعلق الإرادة وتعلق الإرادة يوجب الفعل ولا مخلص إلا بأن يقال : إن إيجاب العلم بالنفع والمصلحة لتعلق الإرادة ممنوع عندهم بل هو مرجح ترجيحا غير بالغ إلى حد الوجوب وما قيل إذا لم يبلغ الترجيح إلى حد الوجوب جاز وقوع الراجح في وقت وعدم وقوعه في وقت آخر مع ذلك المرجح فإن كان اختصاص أحد الوقتين بالوقوع بانضمام شيء آخر إلى ذلك المرجح لم يكن المرجح مرجحا وإلا يلزم الترجيح من غير مرجح بل يلزم ترجيح المرجوح عدمه في الوقت الآخر لأن الوقوع كان راجحا بذلك المرجح فمدفوع بوجهين إلا أنه إنما يجري في العلة التامة بالنسبة إلى معلولها لا في الفاعل المختار بالنسبة إلى فعله فإنه إن أريد لزوم الرجحان من غير مرجح كما هو اللازم في العلة التامة فعدم اللزوم ظاهر وإن أريد الترجيح من غير مرجح فبطلان اللازم في الفاعل المختار ممنوع وإلا فما الفرق بين الفاعل الموجب والمختار الثاني أن المرجح بالنسبة إلى وقت ربما لا يكون مرجحا بالنسبة إلى وقت آخر بل منافيا للمصلحة فلا يلزم ترجيح أحد المتساويين أو المرجوح في وقت آخر بل يلزم ترجيح الراجح في كل وقت وهو تعالى عالم بجميع المصالح اللائقة بالأوقات فتتعلق إرادته سبحانه بوقوع كل ممكن في وقت لترتب المصالح اللائقة بذلك الوقت على عدمه فلا إشكال وهذا هو المعول عليه إذ لقائل أن يقول على الأول أن ترجيح المرجوح مستحيل في حق الواجب الحكيم وإن جاز في حق غيره من أفراد الفاعل بالإختيار
هذا ووقع في كلام الفلاسفة أن أفعال الله تعالى غير معللة بالأغراض والغايات ومرادهم على ما قاله بعضهم نفي التعليل عن فعله سبحانه بما هو غير ذاته لأنه جل شأنه تام الفاعلية لا يتوقف فيها على غيره ولا يلزم من ذلك نفي الغاية والغرض عن فعله تعالى مطلقا ولذا صح أن يقولوا علمه تعالى بنظام الخير الذي هو عين ذاته تعالى علة غائية وغرض في الإيجاد ومرادهم بالإقتضاء في قولهم في تعريف العلة الغائية ما يقتضي فاعلية الفاعل مطلق عدم الإنفكاك لكنهم تسامحوا في ذلك اعتمادا على فهم المتدرب في العلوم وصرحوا بأنه تعالى ليس له غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها لأن كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته فهو فقير إلى ذلك الغرض مستكمل به والمكمل يجب أن يكون أشرف فغرض الفاعل يجب أن يكون ما هو فوقه وإن كان بحسب الظن وليس له غرض فيما دونه وحصول وجود الممكنات منه تعالى على غاية من الإتقان ونهاية من الإحكام ليس إلا لأن ذاته تعالى ذات لا تحصل منه الأشياء إلا على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يمكن من المصالح فالواجب سبحانه عندهم يلزم من تعلقه لذاته الذي هو مبدأ كل خير وكمال حصول الممكنات على الوجه الأتم والنظام الأقوم واللوازم غايات عريضة إن أريد بالغاية ما يقتضي فاعلية الفاعل وذاتية إن أريد بها ما يترتب على الفعل ترتبا ذاتيا لا عرضيا كوجود مباديء الشر وغيرها في الطبائع الهيولانية ثم كما أنه تعالى غاية بالمعنى الذي أشير إليه فهو غاية بمعنى أن جميع الأشياء طالبة له متشوقة إليه طبعا وإرادة لأنه الخير المحض والمعشوق الحقيقي جل جلاله وعم نواله
والحكماء المتألهون قد حكموا بسريان نور العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها ولو لا ذلك ما دار الفلك ولا استنار الحلك فسبحان من إله قاهر وهو الأول والآخر وتمام الكلام في هذا المقام على
(17/30)

مشرب المتكلمين والفلاسفة يطلب من محله وقرأ الحسن لا يسل ويسلون بنقل فتحة الهمزة إلى السين وحذفها وقوله تعالى أم اتخذوا من دونه آلهة إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة حقيقية بإظهار خلوها عن خصائص الإلهية التي من جملتها الإنشار وإقامة البرهان القطعي على استحالة تعدد الآلهة مطلقا وتفرد سبحانه بالألوهية إلى بطلان اتخاذهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاء لله تعالى شأنه وتبكيتهم بإلجائهم إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقيقة التوحيد وبطلان الإشراك وجوز أن يكون هذا انتقالا لإظهار بطلان الآلهة مطلقا بعد إظهار بطلان الآلهة الأرضية والهمزة لإنكار الإتخاذ المذكور واستقباحه واستعظامه ومن متعلقة باتخذوا والمعنى بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شئونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهة مع ظهور أنها عارية عن خواص الألوهية بالكلية
قل لهم بطريق التبكيت والقام الحجر هاتوا برهانكم على ما تدعونه من جهة العقل الصريح أو النقل الصحيح فإنه لا يصح القول بمثل ذلك من غير دليل عليه وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانا ضرب من التهكم بهم وقوله تعالى : هذا ذكر من معي وذكر من قبلي إنارة لبرهانه وإشارة إلى أنه مما نطقت به الكتب الإلهية قاطبة وزيادة تهييد لهم على إقامة البرهان لإظهار كمل عجزهم أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وعظتهم وذكر الأمم السالفة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضا برهانكم وأعيد لفظ ذكر ولم يكتف بعطف الموصول على الموصول المستدعى للإنسحاب لأن كون المشخص ذكر من معه ظاهر وكونه ذكر من قبله باعتبار اتحاده بالحقيقة مع الوحي المتضمن ذلك
وقيل : المراد بالذكر الكتاب أي هذا كتاب أنزل على أمتي وهذا كتاب أنزل على أمم الأنبياء عليهم السلام من الكتب الثلاثة والصحف فراجعوها وانظروا هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ففيه تبكيت لهم متضمن لنقيض مدعاهم وقريء بتنوين ذكر الأول والثاني وجعل ما بعده منصوب المحل على المفعولية له لأنه مصدر وأعماله هو الأصل نحو أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما
وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بالتنوين وكسر ميم من فهي على هذا حرف جر ومع مجرورة بها وهي اسم يدل على الصحبة والإجتماع جعلت هنا ظرفا كقبل وبعد فجاز إدخال من عليها كما جاز إدخالها عليهما لكن دخولها عليها نادر ونص أبو حيان أنها حينئذ بمعنى عند وقيل : من داخلة على موصوفها أي عظمة من كتاب معي وعظة من كتاب من قبلي وأبو حاتم ضعف هذه القراءة لما فيها من دخول من على مع ولم ير له وجها وعن طلحة أنه قرأ هذا ذكر معي وذكر قبلي بتنوين ذكر وإسقاط من وقرأت فرقة هذا ذكر من بالإضافة وذكر من قبلي بالتنوين وكسر الميم وقوله تعالى : بل أكثرهم لا يعلمون الحق إضراب من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن وانتقال من الأمر بتبكيتهم بمطالعة البرهان إلى بيان أن الإحتجاج عليهم لا ينفع لفقدهم التمييز بين الحق والباطل فهم لأجل ذلك معرضون
24
- مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول لا يرعوون عما هم عليه من الغي والضلال وإن كررت عليهم البينات والحجج أو فهم معرضون
(17/31)

عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية
وقرأ الحسن وحميد وابن محيصن الحق بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق والجملة معترضة بين السبب والمسبب تأكيدا للربط بينهما وجوز الزمخشري أن يكون المنصوب أيضا على معنى التأكيد كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل والظاهر أنه منصوب على أنه مفعول به ليعلمون والعلم بمعنى المعرفة
وقوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
25
- استئناف مقرر لما سبق من آي التوحيد وقد يقال إن فيه تعميما بعد تخصيص إذا أريد من ذكر من قبلي الكتب الثلاثة ولما كان من رسول عاما معنى فكان هناك لفظ ومعنى أفرد على اللفظ في نوحي إليه ثم جمع على المعنى في فاعبدون ولم يأت التركيب فاعبدوني وهذا بناء على أن فاعبدون داخل في الموحى وجوز عدم الدخول على الأمر له صلى الله تعالى عليه وسلم ولأمته وقرأ أكثر السبعة يوحي على صيغة الغائب مبنيا للمفعول وأيا ما كان فصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورة الوحي وقالوا اتخذ الرحمن ولدا حكاية لجناية فريق من المشركين لإظهار بطلانها وبيان تنزهه سبحانه عن ذلك أثر بيان تنزهه جل وعلا عن الشركاء على الإطلاق وهم حي من خزاعة قالوا الملائكة بنات الله سبحانه ونقل الواحدي أن قريشا وبعض العرب جهينة وبني سلامة وخزاعة وبني مليح قالوا ذلك
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال قالت اليهود إن الله عز و جل صاهر الجن فكانت بينهم الملائكة فنزلت والمشهور الأول والآية مشنعة على كل من نسب إليه سبحانه ذلك كالنصارى القائلين عيسى ابن الله واليهود القائلين عزير ابن الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن جميع ما سواه تعالى مربوبا له تعالى لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة سبحانه أي تنزهه بالذات تنزهه اللائق به على أن السبحان مصدر سبح أي بعد أن أسبحه تسبيحة على أنه علم للتسبيح وهو مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحه وقوله تعالى بل عباد إضراب وإبطال لما قالوا كأنه قيل : ليست الملائكة كما قالوا بل هم عباد من حيث أنهم مخلوقون له تعالى فهم ملكه سبحانه والولد لا يصح تملكه وفي قوله تعالى مكرمون
26
- أي مقربون عنده تعالى تنبيه على منشأ غلطهم وقرأ عكرمة مكرمون بالتشديد لا يسبقونه بالقول أي لا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به كما هو ديدن العبيد المؤدبين ففيه تنبيه على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره عز و جل وتأدبهم معه تعالى والأصل لا يسبق قولهم قوله تعالى فأسند السبق إليهم منسوبا إليه تعالى تنزيلا لسبق قولهم قوله سبحانه منزلة سبقهم إياه عز و جل لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبق المعرض به للذين يقولون مالم يقله تعالى وجعل القول محل السبق وآلته التي تسبق بها وأنيبت اللام عن الإضافة إلى الضمير على ما ذهب إليه الكوفيون للإختصاص والتجافي عن التكرار وقؤيء لا يسبقونه بضم الباء الموحدة على أنه من باب المغالبة يقال سابقني فسبقته وأسبقته ويلزم فيه ضم عين المضارع مالم تكن عينه أو لامه ياء وفيه مزيد استهجان للسبق وإشعار بأن من سبق قوله تعالى فقد تصدى لمغالبته تعالى في السبق وزيادة تنزيه عما نفي عنهم ببيان أن ذلك عندهم بمنزلة الغلبة بعد المغالبة فإنى يتوهم صدوره عنهم وهم بأمره يعملون
27
(17/32)

بيان لتبعيتهم له تعالى في الأعمال أثر بيان تبعيتهم له سبحانه في الأقوال كأنه قيل هم بأمره يقولون وبأمره يعملون لا بغير أمره تعالى أصلا بأن يعملوا من تلقاء أنفسهم فالحصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور بالنسبة إلى غير أمره تعالى لا إلى أمر غيره سبحانه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم استئناف وقع تعليلا لما قبله وتمهيدا لما بعده كأنه قيل إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه سبحانه لا يخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث أنهم يعلمون ذلك ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الله تعالى أن يشفع له
وهو كما أخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث وابن أبي حاتم عن ابن عباس من قال لا إله إلا الله وشفاعتهم الإستغفار وهي كما في الصحيح تكون في الدنيا والآخرة ولا متمسك للمعتزلة في الآية على أن الشفاعة لا تكون لأصحاب الكبائر فإنها لا تدل على أكثر من أن لا يشفعوا لمن لا ترتضي الشفاعة اه مع أن عدم شفاعة الملائكة لا تدل على عدم شفاعة غيرهم وهم مع ذلك من خشيته أي بسبب خوف عذابه عز و جل مشفقون
28
- متوقعون من إمارة ضعيفة كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله تعالى فمن تعليلية والكلام على حذف مضاف وقد يراد من خشيته تعالى ذلك فلا حاجة إليه
وقيل : يحتمل أن يكون المعنى أنهم يخشون الله تعالى ومع ذلك يحذرون من وقوع تقصير في خشيتهم وعلى هذا تكون من صلة لمشفقون وفرق بين الخشية والإشفاق بأن الأول خوف مشوب بتعظيم ومهابة ولذلك خص به العلماء في قوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء والثاني خوف مع اعتناء ويعدى بمن كما يعدى الخوف وقد يعدى بعلى بملاحظة الحنو والعطف وزعم بعضهم أن الخشية ههنا مجاز عن سببها وأن المراد من الإشفاق شدة الخوف أي وهم من مهابته تعالى شديد الخوف والحق أنه لا ضرورة لارتكاب المجاز وجوز أن يكون المعنى وهم خائفون من خوف عذابه تعالى على أن من صلة لما بعدها وإضافة خشية إلى المضاف المحذوف من إضافة الصفة إلى الموصوف أي خائفون من العذاب المخوف ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغنى عنه ثم إن هذا الإشفاق صفة لهم دنيا وأخرى كما يشعر به الجملة الأسمية وقد كثرت الأخبار الدالة على شدة خوفهم ومن ذلك ما أخرج ابن أبلي حاتم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري بي مررت بجبريل عليه السلام وهو بالملأ الأعلى ملقى كالحلس البالي من خشية الله تعالى ومن يقل منهم أي من الملائكة عليهم السلام وقيل من الخلائق والأول هو الذي يقتضيه السياق إذ الكلام في الملائكة عليهم السلام وفي كونهم بمعزل عما قالوه في حقهم والمراد ومن يقل منهم على سبيل الفرض إني إله من دونه أي متجاوزا إياه تعالى فذلك أي الذي فرض قوله ما ذكر فرض محال نجزيه جهنم كسائر المجرمين ولا يغني عنه ما سبق من الصفات السنية والأفعال المرضية وعن الضحاك وقتادة عدم اعتبار الفرض وقالا : إن الآية خاصة بإبليس عليه اللعنة فإنه دعا إلى عبادة نفسه وشرع الكفر والمعول عليه ما ذكرنا وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى وعزة جبروته واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما يتوهم أولئك الكفرة ما لا يخفى
وقرأ أبو عبد الرحمن المقريء نجزيه بضم النون أراد نجزئه بالهمز من أجزأني كذا كفاني ثم خفف
(17/33)

الهمزة فانقلبت ياء كذلك نجزي الظالمين
29
- مصدر تشبيهي مؤكد لمضمون ما قبله أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الذي يضعون الأشياء في غير مواضعها ويتعدون أطوارهم والقصر المستفاد من التقديم يعتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة أي لا جزاء أنقص منه أو لم ير الذين كفروا تجهيل لهم بتقصيرهم عن التدبر في الآيات التكوينية الدالة على عظيم قدرته وتصرفه وكون جميع ما سواه مقهورا تحت ملكوته على وجه ينتفعون به ويعلمون أن من كان كذلك لا ينبغي أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه مما لا يضر ولا ينفع والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر وقرأ ابن كثير وحميد وابن محيصن بغير واو والرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن السماوات والأرض كانتا الضمير للسماوات والأرض والمراد من السماوات طائفتها ولذا ثني الضمير ولم يجمع ومثل ذلك قوله تعالى إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا وكذا قول الأسود بن يعفر : إن المنية والحتوف كلاهما دون المحارم يرقبان سوادي وأفرد الخبر أعني قوله تعالى رتقا ولم يثن لأنه مصدر والحمل إما بتأويله بمشتق أو لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أي ذاتي رتق وهو في الأصل الضم والإلتحام خلقة كان أم صنعة ومنه الرتقاء الملتحمة محل الجماع وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى رتقا بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالنقض والنقض فكان قياسه أن يثنى هنا ليطابق الإسم فقال الزمخشري : هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئا رتقا وشيء اسم جنس للقليل والكثير فيصح الإخبار به عن المثنى كالجمع ويحسنه أنه في حالة الرتقية لا تعدد فيه
وقال أبو الفضل الرازي : الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسما بمعنى المفعول والساكن مصدرا وقد يكونان مصدرين والأولى هنا كونهما كذلك وحينئذ لا حاجة إلى ما قاله الزمخشري في توجيه الإخبار وقد أريد بالرتق على ما نقل عن أبي مسلم الأصفهاني حالة العدم إذ ليس فيه ذوات مميزة فكان السماوات والأرض أمر واحد متصل متشابه وأريد بالفتق وأصله الفصل في قوله تعالى ففتقناهما الإيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض به فيكون كقوله تعالى فاطر السماوات والأرض بناء على أن الفطر الشق وظاهره نفي تمايز المعدومات والذي حققه مولانا الكوراني في جلاء الفهوم وذب عنه حسب جهده أن المعدوم الممكن متميز في نفس الأمر لأنه متصور ولا يمكن تصور الشيء إلا بتميزه عن غيره وإلا لم يكن بكونه متصورا أولى من غيره ولأن بعض المعدومات قد يكون مرادا دون بعض ولو لا التميز بينها لما عقل ذلك إذ القصد إلى إيجاد غير المتعين ممتنع لأن ما ليس بمتعين في نفسه لم يتميز القصد إليه عن القصد إلى غيره وقد يقال على هذا : يكفي في تلك الإرادة عدم تمايز السماوات والأرض في حالة العدم نظرا إلى الخارج المشاهد وأياما كان فمعنى الآية ألم يعلموا أن السماوات والأرض كانتا معدومتين فأوجدناهما ومعنى علمهم بذلك تمكنهم من العلم به بأدنى نظر لأنهما ممكنان والممكن باعتبار ذاته وحدها يكون معدوما واتصافه بالوجود لا يكون إلا من واجب الوجود
قال ابن سينا في المقالة الثامنة من إلهيات الشفاء : سائر الأشياء غير واجب الوجود لا تستحق الوجود بل
(17/34)

هي في أنفسها ومع قطع إضافتها إلى الواجب تستحق العدم ولا يعقل أن يكون وجود السماوات والأرض مع أمكانهما الضروري عن غير علة وأما ما ذهب إليه ذيمقرطيس من أن وجود العالم إنما كان بالإتفاق وذلك لأن مباديه أجرام صغار لا تتجزأ لصلابتها وهي مبثوثة في خلاء غير متناه وهي متشاكلة الطباع مختلفة الأشكال دائمة الحركة فاتفق أن تضامت جملة منها واجتمعت على هيئة مخصوصة فتكون منها هذا العالم فضرب من الهذيان ووافقه عليه على ما قيل أبناذقلس لكن الأول زعم أن تكون الحيوان والنبات ليس بالإتفاق وهذا زعم أن تكون الأجرام الأسطقسية بالإتفاق أيضا إلا أن ما اتفق إن كان ذا هيئة اجتماعية على وجه يصلح للبقاء والنسل بقي وما اتفق إن لم يكون كذلك لم يبق وهذا الهذيان بعيد من هذا الرجل فإنهم ذكروا أنه من رؤساء يونان كان في زمن داود عليه السلام وتلقى العلم منه واختلف إلى لقمان الحكيم واقتبس منه الحكمة ثم إن وجودهما عن العلمة حادث بل العالم المحسوس منه وغيره حادث حدوثا زمانيا بإجماع المسلمين وما يتوهم من بعض عبارات بعض الصوفية من أنه حادث بالذات قديم بالزمان مصروف عن ظاهره إذ هم أجل من أن يقولوا به لما أنه كفر والفلاسفة في هذه المسألة على ثلاثة آراء فجماعة من الأوائل الذين هم أساطين من الملطية وساميا صاروا إلى القول بحدوث موجودات العالم مباديها وبسائطها ومركباتها وطائفة من الأتينينية وأصحاب الرواق صاروا إلى قدم مباديها من العقل والنفس والمفارقات والبسائط دون المتوسطات والمركبات فإن المبادي عندهم فوق الدهر والزمان فلا يتحقق فيها حدوث زماني بخلاف المركبات التي هي تحت الدهر والزمان ومنعوا كون الحركات سرمدية ومذهب أرسطو ومن تابعه من تلامذته أن العالم قديم وأن الحركات الدورية سرمدية وهذا بناء على المشهور عنه وإلا فقد ذكر في الأسفار أن أساطين الحكمة المعتبرين عند الطائفة ثمانية ثلاثة من الملطيين ثالس وانكسيمائس واغاثاذيمون وخمسة من اليونانيين أبناذقلس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وكلهم قائلون بما قال به الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من حدوث العالم بجميع جواهره وأعراضه وأفلاكه وأملاكه وبسائطه ومركباته ونقل عن كل كلمات تؤيد ذلك وكذا نقل عن غير أولئك من الفلاسفة وأطال الكلام في هذا المقام ولو لا مخافة السآمة لنقلت ذلك ولعلى أنقل شيئا منه في محله الأليق به إن شاء الله تعالى وجاء عن ابن عباس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وابن جبير أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وقال كعب : خلق الله السماوات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحا فتوسطهما ففتقهما وعن الحسن خلق الله تعالى الأرض في موضع بين المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتصق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانتا رتقا ففتقناهما فجعل سبع سماوات وكذلك الأرض كانت رتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين والمراد من العلم على هذه الأقوال التمكن منه أيضا إلا أن ذلك ليس بطريق النظر بل بالإستفسار من علماء أهل الكتاب الذين كانوا يخالطونهم ويقبلون أقوالهم وقيل بذلك أو بمطالعة الكتب السماوية ويدخل فيها القرآن وإن لم يقبلوه لكونه معجزة في نفسه وفي ذلك دغدغة لا تخفى
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمران رجلا أتاه فسأله عن الآية فقال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعالى فأخبرني وكان ابن عباس فذهب إليه فسأله
(17/35)

فقال : نعم كانت السماوات رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت فلما خلق الله تعالى للأرض أهلا فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال ابن عمر : الآن علمت أن ابن عباس قد أوتى في القرآن علما صدق ابن عباس هكذا كانت وروي عنه ما هو بمعنى ذلك جماعة منهم الحاكم وصححه وإليه ذهب أكثر المفسرين
وقال ابن عطية : وهو قول حسن يجمع العبرة والحجة وتعديد النعمة ويناسب ما يذكر بعد والرتق والفتق مجازيان عليه كما هما كذلك على الوجه الأول والمراد بالسماوات جهة العلو أو سماء الدنيا والجميع باعتبار الآفاق أو من باب ثوب أخلاق وقيل هو على ظاهره ولكن من السماوات مدخل في المطر والمراد بالرؤية العلم أيضا وعلم الكفرة بذلك ظاهر
وجوز أن تكون الرؤية بصرية وجعلها علمية أولى ومن البعيد ما نقل عن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة والفتق افتراقهما المقتضي لامكان العمارة وتميز الفصول بل لا يكاد يصح على الأصول الإسلامية التي أصلها السلف الصالح كما لا يخفى
وقوله تعالى وجعلنا من الماء كل شيء حي عطف على أن السماوات الخ ولا حاجة إلى تكلف عطفه على فتقنا والجعل بمعنى الخلق المتعدي لمفعول واحد ومن ابتدائية والماء هو المعروف أي خلقنا من الماء كل حيوان أي متصف بالحياة الحقيقية ونقل ذلك عن الكلبي وجماعة ويؤيده قوله تعالى والله خلق كل دابة من ماء ووجه كون الماء مبدأ ومادة للحيوان وتخصيصه بذلك أنه أعظم مواده وفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ولا بد من تخصيص العام لأن الملائكة عليهم السلام وكذا الجن أحياء وليسوا مخلوقين من الماء ولا محتاجين إليه على الصحيح
وقال قتادة : المعنى خلقنا كل نام من الماء فيدخل النبات ويراد بالحياة النمو أو نحوه ولعل من زعم أن النبات حسا وشعورا أبقى الحياة على ظاهرها وقال قطرب وجماعة : المراد بالماء النطفة ولا بد من التخصيص بما سوى الملائكة عليهم السلام والجن أيضا بل بما سوى ذلك والحيوانات المخلوقة من غير نطفة كأكثر الحشرات الأرضية ويجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير المتعدي لمفعولين وهما هنا كل ومن الماء وتقديم المفعول الثاني للإهتمام به ومن اتصالية كما قيل في قوله صلى الله عليه و سلم ما أنا دد ولا الدد مني والمعنى صيرنا كل شيء حي متصلا بالماء أي مخالطا له غير منفك عنه والمراد أنه لا يحيا دونه وجوز أبو البقاء على الوجه الأول أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من كل وجعل الطيبي من هذا بيانية تجريدية فيكون قد جرد من الماء الحي مبالغة كأنه هو وقرأ حميد حيا بالنصب على أنه صفة كل أو مفعول ثان لجعل والظرف متعلق بما عنده لا بحيا والشيء مخصوص بالحيوان لأنه الموصوف بالحياة وجوز تعميمه للنبات
وأنت تعلم أن من الناس من يقول : إن كل شيء من العلويات والسفليات حي حياة لائقة به وهم الذين ذهبوا إلى أن تسبيح الأشياء المفاد بقوله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده قال لا حالي وإذا قيل بذلك فلا بد من تخصيص الشيء أيضا إذ لم يجعل من الماء كل شيء حيا ولم أقف على مخالف في ذلك منا نعم نقل عن ثالس الملطي وهو أول من تفلسف بملطية أن أصل الموجودات الماء حيث قال : الماء قابل كل صورة ومنه أبدعت الجواهر كلها من السماء والأرض انتهى
(17/36)

ويمكن تخريجه على مشرب صوفي بأن يقال إنه أراد بالماء الوجود الإنبساطي المعبر عنه في اصطلاح الصوفية بالنفس الرحماني وحينئذ لو جعلت الإشارة في الآية إلى ذلك عندهم لم يبعد أفلا يؤمنون
30
- إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الإنكار أي أيعلمون ذلك فلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أي جبالا ثوابت جمع راسية من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مما لا ريب في صحته أن تميد بهم أي كراهة أن تتحرك وتضطرب بهم أو لئلا تميد بهم فحذف اللام لعدم الإلباس وهذا مذهب الكوفيين والأولى أولى وفي الإنتصاف أولى من هذين الوجهين أن يكون مثل قولك أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط على ما قال سيبويه من أن معناه أعددتها أن أدعم الحائط بها إذا مال وقدم ذكر الميد عناية بأمره ولأنه السبب في الإدعام والإدعام سبب إعداد الخشبة فعومل سبب السبب معاملة السبب فكذا فيما نحن فيه يكون الأصل وجعلنا في الأرض رواسي أن نثبتها إذا مادت بهم فجعل الميد هو السبب كما جعل الميل في المثال سببا وصار الكلام وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم فنثبتها ثم حذف فنثبتها لأمن الإلباس إيجازا وهذا أقرب إلى الواقع مما ذكر أولا فإن مقتضاه أن لا تميد الأرض بأهلها لأن الله تعالى كره ذلك ومحال أن يقع ما يكرهه سبحانه والمشاهدة بخلافه فكم من زلزلة أمادت الأرض حتى كادت تنقلب وعلى ما ذكرنا يكون المراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت وهذا لا يأبى وقوع الميد لكنه ميد يستعقبه التثبيت وكذلك الواقع من الزلزال إنما هو كاللمحة ثم يثبتها الله تعالى انتهى
وفي الكشف أن قولهم كراهة أن تميد بيان للمعنى لا أن هناك إضمار البتة ولهذا كان مذهب الكوفيين خليقا بالرد وما في الإنتصاف من أن الأولى أن يكون من باب أعددت الخشبة أن يميل الحائط على ما قرن راجع إلى ما ذكرناه ولا مخالف له أما ما ذكره من الرد بمخالفة الواقع المشاهد فليس بالوجه لأن ميدودة الأرض غير كائنة البتة وليست هذه الزلازل منها في شيء انتهى وهو كلام رصين كما لا يخفى وقد طعن بعض الكفرة المعاصرين فيما دلت عليه الآية الكريمة بأن الأرض لطلبها المركز طبعا ساكنة لا يتصور فيما الميد ولو لم يكن فيها الجبال وأجيب أولا بعد الإغماض عما في دعوى طلبها المركز طبعا وسكونها عنده من القيل والقال يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق الأرض يوم خلقها عرية عن الجبال مختلفة الأجزاء ثقلا وخفة اختلافا تاما أو عرض لها الإختلاف المذكور ومع هذا لم يجعل سبحانه لمجموعها من الثقل ما لا يظهر بالنسبة إليه ثقل ما علم جل وعلا أنه يتحرك عليها من الأجسام الثقيلة فيكون لها مركزان متغايران مركز حجم ومركز ثقل وهي إنما تطلب بطبعها عندهم أن ينطبق مركز ثقلها على مركز العالم وذلك وإن اقتضى سكونها إلا أنه يلزم أن تتحرك بتحرك هاتيك الأجسام فخلق جل جلاله الجبال فيها ليحصل لها من الثقل ما لا يظهر معه ثقل المتحرك فلا تتحرك أصلا وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إلى قطرها كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع إنما ينفع في أمر الكرية الحسية وأما أنه يلزم منه أن لا يكون لمجموع الجبال ثقل متعد به بالنسبة إلى ثقل الأرض فلا
ثم ليس خلق الجبال لهذه الحكمة فقط بل لحكم لا تحصى ومنافع لا تستقصى فلا يقال أنه يغنى عن الجبال
(17/37)

خلقها بحيث لا يظهر للأجسام الثقيلة المتحركة عليها أثر بالنسبة إلى ثقلها وثانيا أنها بحسب طبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء بحيث تكون الخطوط الخارجة من مركزها المنطبق على مركز العالم إلى محدب الماء متساوية من جميع الجوانب فبروز هذا المقدار المعمور منها قسري ويجوز أن يكون للجبال مدخل في القسر باحتباس الأبخرة فيها وصيرورة الأرض بسبب ذلك كزق في الماء نفخ نفخا ظهر به شيء منه على وجه الماء ولولا ذلك لم يكن الفسر قويا بحيث لا يعارضه ما يكون فوق الأرض من الحيوانات وغيرها وذلك يوجب الميد الذي يفضي بها إلى الإنغمار فتأمل وقد مر لك ما يتعلق بهذا المطلب فنذكر وجعلنا فيها أي في الأرض وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين مع ما فيه من الإشارة إلى كمال الإمتنان أو في الرواسي على ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ويؤيده أنها المحتاجة لأن يجعل سبحانه فيها فجاجا جمع فج قال الراغب : هو شقة يكتنفها جبلان وقال الزجاج : كل مخترق بين جبلين فهو فج وقال بعضهم : هو مطلق الواسع سواء كان طريقا بين جبلين أم لا ولذا يقال جرح فج والظاهر أن فجاجا نصب على المفعولية لجعل وقوله سبحانه سبلا بدل منه فيدل ضمنا على أنه تعالى خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد لأن البدل كالتكرار وعلى نية تكرار العامل والمبدل منه ليس في حكم السقوط مطلقا وقال في الكشاف : هو حال من سبلا ولو تأخر لكان صفة كما في قوله تعالى في سورة نوح لتسلكوا منها سبلا فجاجا وإنما لم يؤت به كذلك بل قدم فصار حالا ليدل على أنه في حال جعلها سبلا كانت واسعة ولو أتى به صفة لم يدل على ذلك وأوجب بعضهم كونه مفعولا وكون سبلا بدلا منه وكذا أوجب في قوله تعالى لتسلكوا الخ كون سبلا مفعولا وكون فجاجا بدلا قائلا أن الفج اسم لا صفة لدلالته على ذات معينة وهو الطريق الواسع والاسم يوصف ولا يوصف به ولذا وقع موصوفا في قوله تعالى من كل فج عميق والحمل على تجريده عن دلالته على ذات معينة لا قرينة عليه
وتعقب بأنا لا نسلم أن معناه ذلك بل معناه مطلق الواسع وتخصيصه بالطريق عارض وهو لا يمنع الوصفية ولو سلم فمراد من قال أنه وصف أنه في معنى الوصف بالنسبة إلى السبيل لأن السبيل الطريق وهو الطريق الواسع فإذا قدم عليه يكون ذكره بعد لغوا لو لم يكن حالا وظاهر كلام الفاضل اليمنى في المطلق أن سبلا عطف بيان وهو سائغ في النكرات حيث قال : هو تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة فقد يكون الفج غير نافذ وقدم هنا وأخر في آية سورة نوح لأن تلك الآية وإرادة الإمتنان على سبيل الإجمال وهذه للإعتبار والحث على إمعان النظر وذلك يقنضي التفضيل ومن ثم ذكرت عقب قوله تعالى كانتا رتقا الخ انتهى وأنت تعلم أن الأظهر نصب فجاجا هنا على المفعولية لجعل ووجه التغاير بين الآيتين لا يخفى فتأمل لعلهم يهتدون
31
- إلى الإستدلال على التوحيد وكمال القدرة والحكمة وقيل : إلى مصالحهم ومهماتهم ورد ما تقدم بأنه يغني عن ذلك قوله تعالى فيما بعد وهم عن آياتها معرضون وبأن خلق السبل لا تظهر دلالته على ما ذكر انتهى وفيه ما فيه وجوز أن يكون المراد ما هو أعم من الإهتداء إلى الإستدلال والإهتداء إلى المصالح : وجعلنا السماء سقفا محفوظا من البلى والتغير على طول الدهر كما روي عن قتادة والمراد أنها جعلت محفوظة عن ذلك الدهر الطويل ولا ينافيه أنها تطوى يوم القيامة طي السجل للكتب وإلى تغيرها ودثورها ذهب جميع
(17/38)

المسلمين ومعظم أجلة الفلاسفة كما برهن عليه صدر الدين الشيرازي في أسفاره وسنذكره إن شاء الله تعالى في محله
وقيل : من الوقوع وقال الفراء : من استراق السمع بالرجوم وقيل عليه : أنه يكون ذكر السقف لغوا لا يناسب البلاغة فضلا عن الإعجاز وذكر في وجهه أن المراد أن حفظها ليس كحفظ دور الأرض فإن السراق ربما تسلقت من سقوفها بخلاف هذه وقيل : إنه للدلالة على حفظها عمن تحتها ويدل على حفظها عنهم على أتم وجه وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نظر إلى السماء فقال إن السماء سقف مرفوع وموج مكفوف تجري كما يجري السهم محفوظة من الشياطين وهو إذا صح لا يكون نصا في معنى الآية كما زعم أبو حيان وقيل : من الشرك والمعاصي ويرد عليه ما أورد على سابقه كما لا يخفى
وهم عن آياتها الدالة على وحدانيتنا وعلمنا وحكمنا وقدرتنا وإرادتنا التي بعضها ظاهر كالشمس وبعضها معلوم بالبحث عنه معرضون
32
- ذاهلون عنها لا يجيلون قداح الكفر فيها وقرأ مجاهد وحميد عن آيتها بالإفراد ووجه بأنه لما كان كل واحد مما فيها كافيا في الدلالة على وجود الصانع وصفات كماله وحدت الآية لذلك وجعل الإعراض على هذه القراءة بمعنى إنكار كونها آية بينة دالة على الخالق كما يشير إليه قوله في الكشاف أي هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع وهم عن كونها آية بينة على الخالق معرضون وليس بلازم
وقوله تعالى : وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر اللذين هما آيتاهما ولذا لم يعد الفعل بيانا لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون بطريق الإلتفات الموجب لتأكيد الإعتناء بفحوى الكلام ولما كان إيجاد الليل والنهار ليس على نمط إيجاد الحيوانات وإيجاد الرواسي لم يتحد اللفظ الدال على ذلك بل جيء بالجعل هناك وبالخلق هنا كذا قيل وهو كما ترى وقوله تعالى : كل مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه واعتبره صاحب الكشاف مفردا نكرة أي كل واحد من الشمس والقمر واعترض بأنه قد صرح ابن هشام في المغنى بأن المقدر إذا كان مفردا نكرة يجب الإفراد في الضمير العائد على كل كما لو صرح به وهنا قد جمع فيجب على هذا اعتباره جمعا معرفا أي كلهم ومتى اعتبر كذلك وجب عند ابن هشام جمع العائد وإن كان لو ذكر لم يجب ووجوب الإفراد في المسألة الأولى والجمع في الثانية للتنبيه على حال المحذوف
وأبو حيان يجوز الإفراد والجمع مطلقا فيجوز هنا اعتبار المضاف إليه مفردا نكرة مع جمع الضمير بعد كما فعل الزمخشري وهو من تعلم علو شأنه في العربية وقوله شبحانه : في فلك خبره ووجه إفراده ظاهر لأن النكرة المقدرة للعموم البدلي لا الشمولي ومن قدر جمعا معرفا قال : المراد به الجنس الكلي المؤل بالجمع نحو كساهم حلة بناءا على أن المجموع ليس في فلك واحد وقوله عز و جل : يسبحون
33
- حال ويجوز أن يكون الخبر و في فلك حالا أو متعلقا به وجملة كل الخ حال من الشمس والقمر والرابط الضمير دون واو بناء على جواز ذلك من غير قبح ومن استقبحه جعلها مستأنفة وكان ضميرهما جمعا اعتبارا للتكثير بتكاثر المطالع فيكون لهما نظرا إلى مفهومهما الوضعي أفراد خاجية بهذا الإعتبار لا حقيقة ولهذا السبب يقال شموس وأقمار وإن لم يكن في الخارج الأشمس واحد وقمرا واحد والذي حسن ذلك هنا توافق الفواصل وزعم بعضهم أنه غلب القمران لشرفهما على سائر الكواكب فجمع الضمير لذلك وقيل : الضمير للنجوم وإن لم تذكر لدلالة ما ذكر عليها
(17/39)

وقيل الضمير للشمس والقمر والليل والنهار وفيه أن الليل والنهار لا يحسن وصفهما بالسباحة وإن كانت مجازا عن السير واختيار ضمير العقلاء إما لأنهما عقلاء حقيقية كما ذهب إليه بعض المسلمين كالفلاسفة وإما لأنهما عقلاء ادعاء وتنزيلا حيث نسب إليهما السباحة وهي من صنائع العقلاء والفلك في الأصل كل شيء دائر ومنه فلكه المغزل والمراد به هنا على ما روي عن ابن عباس والسدي رضي الله تعالى عنهم السماء
وقال أكثر المفسرين : هو موج مكفوف تحت السماء يجري فيه الشمس والقمر وقال الضحاك : هو ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم والمشهور ما روي عن ابن عباس والسدي وفيه القول باستدارة السماء وفي كل في ملك رمز خفي إليه فإنه لا يستحيل بالإنقلاب وعليه أدلة جمة وكونها سقفا لا يأبى ذلك وقد وقع في كلام الفلاسفة إطلاق الفلك على السماء ووصوفه بأنه حي عالم متحرك بالإرادة حركة مستديرة لا غير ولا يقبل الكون والفساد والنمو والذبول والخرق والإلتئام ونوعه منحصر في شخصه وأنه لا حار ولا بارد ولا رطب ولا يابس ولا خفيف ولا ثقيل وأكثر هذه الأوصاف متفرع على أنه ليس في طباعه ميل مستقيل وقد رد ذلك في الكتب الكلامية وبنوا على امتناع الخرق والإلتئام أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة الفلك ولما رأوا حركات مختلفة قالوا بتعدد الأفلاك والمشهور أن الأفلاك الكلية تسعة سبعة للسبع السيارة وواحد للثوابت وآخر لتحريك الجميع الحركة اليومية والحق أنه لا قاطع على نفي ما عدا ذلك ألا ترى أن الشيخ الرئيس لم يظهر له أن الثوابت في كرة واحدة أو في كرات منطو بعضها على بعض وقولهم إن حركات الثوابت متشابهة ومتى كانت كذلك كانت مركوزة في فلك واحد غير يقيني أما صغراه فلأن حركاتها وإن كانت في الحس متشابهة لكن لعلها لا تكون في الحقيقة كذلك لأنا لو قدرنا أن الواحدة منها تتم الدورة في ست وقلاثين ألف سنة والأخرى تتممها في هذا الزمان لكن بنقصان عاشرة أو أقل فالذي يخص الدرجة الواحدة من هذا القدر من التفاوت يقل جدا بحيث لا تفي أعمارنا بضبطه وإذا احتمل ذلك سقط القطع بالتشابه ومما يزيد ذلك سقوطا والإحتمال قوة وجدان المتأخرين من أهل الأرصاد كوكبا أسرع حركة من الثوابت وأبطأ من السيارة سموه بهرشل ولم يظفر به أحد من المتقدمين في الدهور الماضية وأما كبراه فلا احتمال اشتراك الأشياء المختلفة في كثير من اللوازم فيجوز أن لكل فلكا على حدة وتكون تلك الأفلاك متوافقة في حركاتها جهة وقطبا ومنطقة وبطنا ثم إن الإحتمال غير مختص بفلك الثوابت بل حاصل في كل الأفلاك فيجوز أن يكون بين أفلاك السيارة أفلاك أخر وما يقال في إبطاله من أقرب قرب كل كوكب يساوي أبعد بعد كل الكواكب التي فرضت تحته ليس بشيء لأن بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب عطارد ثخن فلك جوزهر القمر وقد ذكر المحققون من أصحاب الهيئة أن لفلك التدوير لكل من العلوية ثلاث أكر محيط بعضها ببعض وجرم الكوكب مركوز في الكرة الداخلة فيكون مقدار ثخن أربع كرات من تلك التداوير من كل واحد من السافل والعالي ثخن كرتين حائلا بين أقرب قرب العالي وأبعد بعد السافل وأثبتوا للسفلية خمسة تداوير فيكون بين أقرب قرب الزهرة وأبعد بعد عطارد ثخن ثمان كرات على أنهم إنما اعتقدوا أن أقرب قرب العالي مساو لأبعد بعد السافل لاعتقادهم أولا أنه ليس بين هذه الأفلاك ما يتخللها فليس يمكنهم بناء ذلك عليه وإلا لزم الدور بل لا بد فيه من دليل آخر وقولهم لا فضل في الفلكيات مع أنه كما ترى يبطله ما قالوا في عظم ثخن المحدد ويجوز أيضا أن يكون فوق التاسع من الأفلاك ما لا يعلمه إلا الله تعالى بل يحتمل إن يكون
(17/40)

هذا الفلك التاسع بما فيه من الكرات مركوزا في ثخن كرة أخرى عظيمة ويكون في ثخن تلك الكرة ألف ألف كرة مثل هذه الكرات وليس ذلك مستبعدا فإن تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس فإذا عقل ذلك فأي بأس بأن يفرض مثله مما هو أعظم منه ويجوز أيضا كما قيل أن تكون الأفلاك الكلية ثمانية لا مكان كون جميع الثوابت مركوزة في محدب ممثل زحل أي في متممه الحاوي على أن يتحرك بالحركة البطيئة والفلك الثامن يتحرك بالحركة السريعة بل قيل من الجائز أن تكون سبعة بأن تفرض الثوابت ودوائر البروج على محدب ممثل زحل ونفسان تتصل إحداهما بمجموع السبعة وتحركها إحدى الحركتين السريعة والبطيئة والأخرى بالفلك السابع وتحركه الأخرى فلا قاطع أيضا على نفي أن تكون الأفلاك أقل من تسعة
ثم الظاهر من الآية أن كلا من الشمس والقمر يجري في ثخن فلكه ولا مانع منه عقلا ودليل امتناع الخرق والإلتئام وهو أنه لو كان الفلك قابلا لذلك لكان قابلا للحركة المستقيمة وهي محال عليه غير تام وعلى فرض تمامه إنما يتم في المحدد على أنه يجوز أن يحصل الخرق في الفلك من جهة بعض أجزائه على الإستدارة فلا مانع من أن يقال : الكواكب مطلقا متحركة في أفلاكها حركة الحيتان في الماء ولا يبطل به علم الهيئة لأن حركاتها يلزم أن تكون متشابهة حول مراكز أفلاكها أي لا تسرع ولا تبطيء ولا تقف ولا ترجع ولا تنعطف وقول السهروردي في المطارحات : لو كانت الأفلاك قابلة للخرق وقد برهن على كونها ذات حياة فعند حصول الخرق فيها وتبدد الأجزاء فإن لم تحس فليس جزؤها المنخرق له نسبة إلى الآخر بجامع إدراكي ولا خبر لها عن أجزائها وما سرى لنفسها قوة في بدنها جامعة لتلك الأجزاء فلا علاقة لنفسها مع بدنها وقد قيل أنها ذات حياة وإن كانت تحس فلا بد من التألم بتبديد الأجزاء فإنه شعور بالمنافي وكل شعور بالمنافي أما ألم أو موجب لا لم وإذا كان كذا وكانت الكواكب تخرقها بجريها كانت في عذاب دائم وسنبرهن على أن الأمور الدائمة غير الممكن الإشراف لا يتصور عليها لا يخفى أنه من الخطابيات بل مما هو أدون منها
وزعم بعضهم أنه من البراهين القوية مما لا برهان عليه من البراهين الضعيفة وادعى الإمام أنها كما تدل على جري الكوكب تدل على سكون الفلك والحق أنها مجملة بالنسبة إلى السكون غير ظاهرة فيه وإلى حركته وسكون الفلك بأسره ذهب بعض المسلمين ويحكى عن الشيخ الأكبر قدس سره ويجوز أن يكون الفلك متحركا والكوكب يتحرك فيه إما مخالفا لجهة حركته أو موافقا لها إما بحركة مساوية في السرعة والبطء لحركة الفلك أو مخالفة ويجوز أيضا أن يكون الكوكب مغروزا في الفلك ساكنا فيه كما هو عند أكثر الفلاسفة أو متحركا على نفسه كما هو عند محققيهم والفلك بأسره متحركا وهو الذي أوجبه الفلاسفة لما لا يسلم لهم ولا يتم عليه برهان منهم
ويجوز أيضا أن يكون الكوكب في جسم منفصل عن ثخن الفلك شبيه بحلقة قطره مساو لقطر الكوكب وهو الذي يتحرك به ويكون الفلك ساكنا ويجوز أيضا أن يكون في ثخن الفلك خلاء يدور الكوكب فيه مع سكون الفلك أو حركته وليس في هذا قول بالخرق والإلتئام بل فيه القول بالخلاء وهو عندنا وعند أكثر الفلاسفة جائز خلافا لا رسطاطا ليس وأتباعه ودليل الجواز أقوى من صخرة لمساء والقول بأن الفلك بسيط فبساطته مانعة من أن يكون في ثخنه ذلك ليس بشيء فما ذكروه من الدليل على البساطة على ضعفه لا يتأتى إلا في المحدد دون سائر الأفلاك وأيضا متى جاز أن يكون الفلك مجوفا مع بساطته فليجز ما ذكر معها ولا يكاد يتم لهم
(17/41)

التقصي عن ذلك وجاء في بعض الآثار أن الكواكب جميعها معلقة بسلاسل من نور تحت سماء الدنيا بأيدي ملائكة يجرونها حيث شاء الله تعالى ولا يكاد يصح وإن كان الله عز و جل على كل شيء قديرا والذي عليه معظم الفلاسفة والهيئيين أن الحركة الخاصة بالكوكب الثابتة لفلكه أولا وبالذات آخذة من المغرب إلى المشرق وهي الحركة على توالي البروج وتسمى الحركة الثانية والحركة البطيئة وهي ظاهرة في السيارات وفي القمر منها في غاية الظهور وفي الثوابت خفية ولهذا لم يثبتها المتقدمون منهم وغير الخاصة به الثابتة لفلكه ثانيا وبالعرض آخذة من المشرق إلى المغرب وتسمى الحركة الأولى والحركة السريعة وهي بواسطة حركة المحدد وبها يكون الليل والنهار في سائر المعمورة وأما في عرض تسعين ونحوه ففي الحركة الثانية فعندهم للكوكب حركتان مختلفتان جهة وبطأ ومثلوهما بحركة رحى إلى جهة سريعا وحركة نملة عليها إلى خلاف تلك الجهة بطيئا
وذهب بعض الأوائل إلى أنه لا حركة في الأجرام العلوية من المغرب إلى المشرق بل حركاتها كلها من المشرق إلى المغرب لأنها أولى بهذه الأجرام لكونها أقل مخالفة ولأن غاية الحركة للجرم الأقصى وغاية السكون للأرض فيجب أن يكون ما هو أقرب إلى الأقصى أسرع مما هو أبعد ولأنه كان بعضها من المشرق وبعضها من المغرب يلزم أن يتحرك الكوكب بحركتين مختلفتين جهة وذلك محال لأن الحركة إلى جهة تقتضي حصول المتحرك وفي الجهة المنتقل إليها فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين وهو محال ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحركتان طبيعيتين أو قسريتين أو إحداهما طبيعية والأخرى قسرية
ولا يدفع هذا بما شاهد من حركة النملة على الرحى إلى جهة حال حركة الرحى إلى خلافها لأنه مثال والمثال لا يقدح في البرهان ولأن القطع على هذه الحركات جائز إما على الحركات الفلكية فمحال وما استدل به على أن غير الحركة السريعة من المغرب إلى المشرق لا يدل عليه لجواز أن تكون من المشرق ويظن أنها من المغرب وبيانه أن المتحركين إلى جهة واحدة حركة دورية متى كان أحدهما أسرع من حركة الآخر فإنهما إذا تحركا إلى تلك الجهة رؤي الأبطأ منهما متخلفا فيظن أنه متحرك إلى خلاف تلك الجهة لأنهما إذا اقترنا ثم تحركا في الجهة بما لهما من الحركة فسار السريع دورة تامة وسار البطيء دورة إلا قوسا يرى البطيء متخلفا عن السريع في الجهة المخالفة لجهة حركتهما بتلك القوس وقالوا : يجب المصير إلى ذلك لما أن البرهان يقتضيه ولا يبطله شيء من الأعمال النجومية
وقد أورد الإمام في الملخص ما ذكر في الإستدلال على محالية الحركتين المختلفتي الجهة للجسم الواحد إشكالا على القائلين بهما ثم قال : ولقوة هذا الكلام أثبت بعضهم الحركة اليومية لكرة الأرض لا لكرة السماء وإن كان ذلك باطلا وأورده في التفسير وسماه برهانا قاطعا وذهب فيه إلى ما ذهب إليه هذا البعض من أن الحركات كلها من المشرق إلى المغرب لكنها مختلفة سرعة وبطأ وفيما ذكروه نظر لأن الشبهتين الأوليين إقناعيتان والثالثة وإن كانت برهانية لكن فسادها أظهر من أن يخفى وأما أن شيئا من الأعمال النجومية لا يبطله فباطل لأن هذه الحركة الخاصة للكوكب أعني حركة القمر من المشرق ألى المغرب مثلا دورة إلا قوسا لا يجوز أن تكون على قطبي البروج لأنها توجد موازية لمعدل النهار ولا على قطبي المعدل وإلا لما زالت على موازاته ولما انتظمت من القسي التي تتأخر فيها كل يوم دائرة عظيمة مقاطعة للمعدل كدائرة البروج من القسي التي تأخرت الشمس فيها بل انتظمت صغيرة موازية له اللهم إلا إذا كان الكوكب على المعدل مقدار ما يتمم بحركته دورة فإن المنتظمة حينئذ تكون نفس المعدل لكن هذا غير موجود في
(17/42)

الكواكب التي نعرفها ولا على قطبين غير قطبيهما وإلا لكان يرى مسيرة فوق الأرض على دائرة مقاطعة للدوائر المتوازية ولم تكن دائرة نصف النهار تفصل الزمان الذي من حين يطلع إلى حين يغرب بنصفين لأن قطبي فلكه المائل لا يكون دائما على دائرة نصف النهار فلا تنفصل قسى مداراته الظاهرة بنصفين ولأنه لو كان الأمر كما توهموا لكانت الشمس تصل إلى أوجها وحضيضها وبعديها الأوسطين بل إلى الشمال والجنوب فيجب أن تحصل جميع الأظلال اللائقة بكون الشمس في هذه المواضع في اليوم الواحد والوجود بخلافه
وقول من قال يجوز أن يكون حركة الشمس في دائرة البروج إلى المغرب ظاهر الفساد لأنه لو كان كذلك لكان اليوم الواحد بليلته ينقص عن دور معدل النهار بقدر القوس التي قطعتها الشمس بالتقريب بخلاف ما هو الواقع لأنه يزيد على دور المعدل بذلك القدر ولكان يرى قطعها البروج على خلاف التوالي وليس كذلك لتأخرها عن الجزء الذي يتوسط معها من المعدل في كل يوم نحو المشرق فإذا حركات الأفلاك الشاملة للأرض ثنتان حركة إلى التوالي وأخرى إلى خلافه وأما حركات التداوير فخارجة عن القسمين لأن حركات أعاليها مخالفة لحركات أسافلها لا محالة لكونها غير شاملة للأرض فإن كانت حركة الأعلى من المغرب إلى المشرق فحركة الأسفل بالعكس كما في المتحيرة وإن كانت حركة الأعلى من المشرق إلى المغرب كانت حركة الأسفل بالعكس كما في القمر هذا وقصارى ما نقول في هذا المقام : إن ما ذكره الفلاسفة في أمر الأفلاك الكلية والجزئية وكيفية حركتها وأوضاعها أمر ممكن في نفسه ولا دليل على أنه هو الواقع لا غير وقد ذهب إلى خلافه أهل لندن وغيرهم من أصحاب الأرصاد اليوم وكذا أصحاب الأرصاد القلبية والمعارج المعنوية كالشيخ الأكبر قدس سره وقد أطال الكلام في ذلك في الفتوحات المكية وأما السلف الصالح فلم يصح عنهم تفصيل الكلام في ذلك لما أنه قليل الجدوى ووقفوا حيث صح الخبر وقالوا : إن اختلاف الحركات ونحوه بتقدير العزيز العليم وتشبثوا فيما صح وخفي سببه فأذيال التسليم والذي أميل إليه أن السماوات على طبق ما صحت به الأخبار النبوية في أمر الثخن وما بين كل سماء وسماء ولا أخرج عن دائرة هذا الميل وأقول يجوز أن يكون ثخن كل سماء فلك لكل واحدة من السيارات على نحو الفلك الذي أثبته الفلاسفة لها وحركته الذاتية على نحو حركته عندهم وحركته العرضية بواسطة حركة سمائه إلى المغرب الحركة اليومية فتكون حركة السماوات متساوية وأن أبيت تخرك السماء بجميع ما فيها لإباء بعض الأخبار عنه مع عدم دليل قطعي يوجبه قلت : يجوز أن يكون هناك محرك في ثخن السماء أيضا ويبقى ما يبقى منها ساكنا بقدرة الله تعالى على سطحه الأعلى ملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون وللفلاسفة في تحقيق أن المحيط كيف يحرج المحاط به كلام تعقبه الإمام ثم قال : الصحيح أن المحرك للكل هو الله تعالى باختياره وإن ثبت على قانون قولهم كون الحاوي محركا للمحوي فإنه يكون محركا بقوة نفسه لا بالمماسة وأما الثوابت فيحتمل أن تكون في فلم فوق السماوات السبع ويحتمل أن يكون في ثخن السماء السابعة فوق فلم زحل بل إذا قيل بأن جميع الكواكب الثوابت والسيارات في ثخن السماء الدنيا تتحرك على أفلاك مماثلة للأفلاك التي أثبتها لها الفلاسفة ويكون لها حركتان على نحو ما يقولون لم يبعد وفيه حفظ لظاهر قوله تعالى ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وما ذكروه في علم الأجرام والأبعاد على اضطرابه لا يلزمنا تسليمه فلا يرد أنهم قالوا بعد
(17/43)

الثوابت عن مركز الأرض خمسة وعشرون ألف ألف وأربعمائة واثنا عشر ألفا وثمانمائة وتسع وتسعون فرسخا وما ورد في الخبر من أن بين السماء والأرض خمسمائة عام وسمك السماء كذلك يقتضي أن يكون بين وجه الأرض والثوابت على هذا التقدير ألف عام وفراسخ مسيرة ذلك مع فراسخ نصف قطر الأرض وهي ألف ومائتان وثلاثة وسبعون تقريبا على ما قيل دون ما ذكر بكثير
ولا حاجة إلى أن يقال : العدد لا مفهوم له واختيار خمسمائة لما أن الخمسة عدد دائر فيكون في ذلك رمز خفي إلى الإستدارة كما قيل في كل فلك ويشير إلى صحة احتمال أن يكون الفلك في ثخن السماء ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الشمس بمنزلة الساقية تجري في السماء في فلكها فإذا غربت جرت الليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر والأخبار المرفوعة والموقوفة في أمر الكواكب والسماوات والأرض كثيرة
وقد ذكر الجلال السيوطي منها ما ذكر في رسالة ألفها في بيان الهيئة السنية وإذا رصدتها رأيت أكثرها مائلا عن دائرة بروج القبول وفيها ما يشعر بأن للكواكب حركة قسرية نحو ما أخرجه ابن المنذر عن عكرمة ما طلعت الشمس حتى يؤمر لها كما توتر القوس ثم الظاهر أن يراد بالسباحة الحركة الذاتية ويجوز أن يراد بها الحركة العرضية بل قيل هذا أولى لأن تلك غير مشاهدة مشاهدة هذه بل عوام الناس لا يعرفونها وقيل يجوز أن يراد بها ما يعم الحركتين واستنبط بعضهم من نسبة السباحة إلى الكوكب أن ليس هناك حامل له يتحرك بحركته مطلقا بل هو متحرك بنفسه في الفلك تحرك السمكة في الماء إذ لا يقال للجالس في صندوق أو على جذع يجري في الماء إنه يسبح واختار أنه يجري في مجرى قابل للخرق والإلتئام كالماء ودون إثبات استحالة ذلك العروج إلى السماء السابعة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وهو سبحانه ولي التوفيق وعلى محور هدايته تدور كرة التحقيق وهذه نبذة مما رأينا إيراده مناسبا لهذا المقام وسيأتي إن شاء الله تعالى نبذة أخرى مما يتعلق بذلك من الكلام وما جعلنا لبشر كائنا من كان من قبلك الخلد أي الخلود والبقاء في الدنيا لكونه مخالفا للحكمة التكوينية والتشريعية وقيل الخلد المكث الطويل ومنه قولهم للأثافي : خوالد واستدل بذلك على عدم حياة الخضر عليه السلام وفيه نظر أفائن مت بمقتضى حكمتنا فهم الخالدون
34
- نزلت حين قالوا فتربص به ريب المنون والفاء الأولى لتعليق الجملة الشرطية بما قبلها والهمزة لإنكار مضمونها وهي في الحقيقة لإنكار جزائها أعني ما بعد الفاء الثانية وزعم يونس أن تلك الجملة مصب الإنكار والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف تدل عليه تلك الجملة وليس بذاته ويتضمن إنكار ما ذكر إنكار ما هو مدار له وجودا وعدما من شماتتهم بموته صلى الله عليه و سلم كأنه قيل أفإن مت فهم الخالدون حتى يشتموا بموتك وفي معنى ذلك قول الإمام الشافعي عليه الرحمة : تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تزود لأخرى مثلها فكأن قد وقول ذي الأصبع العدواني : إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا
(17/44)

فقل للشاميتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا وذكر العلامة الطيبي ونقله صاحب الكشف بأدنى زيادة أن هذا رجوع إلى ما سيق له السورة الكريمة من حيث النبوة ليتخلص منه إلى تقرير مشرع آخر وذلك لأنه تعالى أفحم القائلين باتخاذ الولد والمتخذين له سبحانه شركاء وبكتهم ذكر ما يدل على إفحامهم وهو قوله تعالى : أفإن الخ لأن الخصم إذا لم يبق له متشبث تمنى هلاك خصمه
وقوله تعالى كل نفس ذائقة الموت برهان على ما أنكر من خلودهم وفيه تأكيد لقوله سبحانه : وما جعلنا الخ والموت عند الشيخ الأشعري كيفية وجودية تضاد الحياة وعند الأسفرايني وعزي للأكثرين أنه عدم الحياة عما من شأنه الحياة بالفعل فيكون عدم تلك الحياة كما في العمى الطاريء على البصر لا مطلق العمى فلا يلزم كون عدم الحياة عن الجنين عند استعداده للحياة موتا وقيل عدم الحياة عما من شأنه الحياة مطلقا فيلزم ذلك ولا ضير لقوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم واستدل الأشعري على كونه وجوديا بقوله تعالى الذي خلق الموت والحياة فإن الخلق هو الإيجاد والإخراج من العدم وبأنه جائز والجائز لا بدل له من فاعل والعدم لا يفعل وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون بمعنى التقدير وهو أعم من الإيجاد ولو سلم كونه بمعنى الإيجاد فيجوز أن يراد بخلق الموت إيجاد أسبابه أو يقدر المضاف وهو غير عزيز في الكلام وعن الأستاذ أن المراد بالموت الآخرة والحياة الدنيا لما روي عن ابن عباس تفسيرهما بذلك وعن الثاني بأن الفاعل قد يريد العدم كما يريد الحياة فالفاعل يعدم الحياة كما يعدم البصر مثلا
وقال اللقاني : الظاهر قاض بما عليه الأشعري والعدول عن الظاهر من غير داع غير مرضي العدول وكلامه صريح في أنه عرض وتوقف بعض العلماء القائلين بأنه وجودي في أنه جوهرا أو عرض لما أن في بعض الأحاديث أنه معنى خلقه الله تعالى في كف ملك الموت وفي بعضها أن الله تعالى خلقه على صورة كبش لا يمر بشيء يجد ريحه إلا مات وجل عبارات أنه عرض يعقب الحياة أو فساد بنية الحيوان والأول غير مانع والثاني رسم بالثمرة وقريب منه ما قاله بعض الأفاضل : إنه تعطل القوي لإنطفاء الحرارة الغريزية التي هي آلتها فإن كان ذلك لانطفاء الرطوبة الغريزية فهو الموت الطبيعي وإلا فهو الغير الطبيعي والناس لا يعرفون من الموت إلا انقطاع تعلق الروح بالبدن التعلق المخصوص ومفارقتها إياه والمراد بالنفس الحيوانية وهي مطلقا أعم من النفس الإنسانية كما أن الحيوان مطلقا أعم من الإنسان
والنفوس عند الفلاسفة ومن حذا حذوهم ثلاثة النباتية والحيوانية والفلكية والنفس مقولة على الثلاثة بالإشتراك اللفظي على ما حكاه الإمام في الملخص عن المحققين وبالإشتراك المعنوي على ما يقتضيه كلام الشيخ في الشفاء وتحقيق ذلك في محله وإرادة ما يشمل الجميع هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وقال بعضهم : المراد بها النفس الإنسانية لأن الكلام مسوق لنفي خلود البشر واختير عمومها لتشمل نفوس البشر والجن وسائر أنواع الحيوان ولا يضر ذلك بالسوق بل هو أنفع فيه ولا شك في موت كل من أفراد تلك الأنواع نعم اختلف في أنه هل يصح إرادة عمومها بحيث تشمل نفس كل حي كالملك وغيره أم لا بناء على الإختلاف في موت
(17/45)

الملائكة عليهم السلام والحور العين فقال بعضهم : إن الكل يموتون ولو لحظة لقول تعالى كل شيء هالك إلا وجهه وقال بعضهم : إنهم لا يموتون لدلالة بعض الأخبار على ذلك والمراد في كل نفس النفوس الأرضية والآية التي استدل بها مؤولة بما ستعمله إن شاء الله تعالى وهم داخلون في المستثنى في قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله أو لا يسلم كل صعق موت وقال بعضهم : إن الملائكة يموتون والحور العين لا تموت وقال آخرون : إن بعض الملائكة عليهم السلام يموتون وبعضهم لا يموت كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل عليهم السلام ورجح قول البعض ولا يرد أن الموت يقتضي مفارقة الروح البدن والملائكة عليهم السلام لا أبدان لهم لأن القائل بموتهم يقول بأن لهم أبدانا لكنها لطيفة كما هو الحق الذي دلت عليه النصوص وربما يمنع اقتضاء الموت البدن
وبالغ بعضهم فادعى أن النفوس أنفسها تموت بعد مفارقتها للبدن وإن لم تكن بعد المفارقة ذات بدن و : انه يلتزم تفسير الموت بالعدم والإضمحلال والحق أنها لا تموت سواء فسر بما ذكر أم لا وقد أشار أحمد بن الحسين الكندي إلى هذا الإختلاف بقوله : تنازع الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب والخلف في شجب فقيل تخلص نفس المرء سالمة وقيل تشرك جسم المرء في العطب وذهب الإمام إلى العموم في الآية إلا أنه قال : هو مخصوص فإن له تعالى نفسا كما قال سبحانه حكاية عن عيسى عليه السلام تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت ثم قال : والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه وذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية أنها لا تموت أه وفيه أنه إن أراد بالنفس الجوهر المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصريف كما قاله الفلاسفة ومن وافقهم أو الجسم النوراني الخفيف الحي المتحرك النافذ في الأعضاء الساري فيها سريان ماء الورد في الورد كما عليه جمهور المحدثين وذكر له ابن القيم مائة دليل فالله تعالى منزه عن ذلك أصلا
وكذا الجمادات لا تتصف بها على الشائع وأيضا ليس للأرواح البشرية والعقول المفارقة عند الفلاسفة نفسا بأحد ذينك المعنيين فكيف يبطل بالآية الكريمة قولهم وإن أراد بها الذات كما هو أحد معانيها جاز أن تثبت لله تعالى وقد قيل به في الآية التي ذكرها وكذا هي ثابتة للجمادات لكن يرد عليه أنه إن أراد بالموت مفارقة الروح للبدن أو نحو ذلك يبطل قوله وذلك يبطل الخ لأن الأرواح والعقول المذكورة لا أبدان لها عند الفلاسفة فلا يتصور فيها الموت بذلك المعنى وإن أراد به العدم والإضمحلال يرد عليه أن الجمادات تتصف به فلا يصح قوله وهي لا تموت وبالجملة لا يخفى على المتذكر أن الإمام سها في هذا المقام ثم إن معنى كون النفس ذائقة الموت أنها تلابسه على وجه تتألم به أو تلتذ من حيث أنها تخلص به من ضيق الدنيا الدنيئة إلى عالم الملكوت وحظائر القدس كذا قيل
والظاهر أن كل نفس تتألم بالموت لكن ذلك مختلف شدة وضعفا وفي الحديث إن للموت سكرات ولا يلزم من التخلص المذكور لبعض الناس عدم التألم ولعل في اختيار الذوق إيماء إلى ذلك لمن له ذوق
(17/46)

فإن أكثر ما جاء في العذاب وقال الإمام : إن الذوق إدراك خاص وهو ههنا مجاز عن أصل الإدراك ولا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن الموت ليس من جنس الطعام حتى يذاق وذكر أن المراد من الموت مقدمات من الآلام العظيمة لأن قبل دخوله في الوجود ممتنع الإدراك وحال وجوده يصير الشخص ميتا والميت لا يدرك وتعقب بأن المدرك النفس المفارقة وتدرك ألم مفارقتها البدن ونبلوكم الخطاب إما للناس كافة بطريق التلوين أو للكفرة بطريق الإلتفات أي نعاملكم معاملة من يختبركم بالشر والخير بالمكروه والمحبوب هل تصبرون وتشكرون أولا
وتفسير الشر والخير بما ذكر مروي عن ابن زيد وروي عن ابن عباس أنهما الشدة والرخاء وقال الضحاك : الفقر والمرض والغني والصحة والتعميم أولى وقدم الشر لأنه اللائق بالمنكر عليهم أو لأنه ألصق بالموت المذكور قبله وذكر الراغب أن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا فالمحنة والمحنة جميعا بلاء فالمحنة مقتضية للصبر والمحنة مقتضية للشكر والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر فالمحنة أعظم البلاءين وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه : بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر ولهذا قال علي كرم الله تعالى وجهه : من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله أه ولعله يعلم منه وجه لتقديم الشر فتنه أي ابتلاء فهو مصدر مؤكد لنبلوكم على غير لفظه
وجوز أن يكون مفعولا له أو حالا على معنى نبلوكم بالشر والخير لأجل إظهار جودتكم ورداءتكم أو مظهرين ذلك فتأمل ولا تغفل وإلينا ترجعون
35
- لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا فنجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال فهو على الأول من وجهي الخطاب وعد ووعيد وعلى الثاني منهما وعيد محض وفي الآية إيماء إلى ان المراد من هذه الحياة الدنيا الإبتلاء والتعريض للثواب والعقاب وقريء يرجعون بياء الغيبة على الإلتفات وإذا رءاك الذين كفروا أي المشركون إن يتخذونك إلا هزوا أي ما يتخذونك إلا مهزوا به على معنى قصر معاملتهم معه صلى الله عليه و سلم على اتخاذهم إياه عاملهم الله تعالى بعدله هزوا لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هزوا كما هو المتبادر كأنه قيل ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوا
والظاهر أن جملة إن يتخذونك الخ جواب إذا ولم يحتج إلى الفاء كما لم يحتج جوابها المقترن بما إليها في قوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم وهذا بخلاف جواب غير إذا من أدوات الشرط المقترن بما فإنه يلزم فيه الإقتران بالفاء نحو إن تزرنا فما نسيء إليك وقيل الجواب محذوف وهو يقولون المحكى به قوله تعالى أهذا الذي يذكر آلهتكم وقوله سبحانه إن يتخذونك الخ اعتراض وليس بذاك نعم لا بد من تقدير القول فيما ذكر وهو إما معطوف على جملة إن يتخذونك أو حال أي ويقولون أو قائلين والإستفهام للإنكار والتعجب ويفيدان أن المراد يذكر آلهتكم بسوء وقد يكتفي بدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى سمعنا فتى يذكرهم فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء وقد تحاشوا عن التصريح أدبا مع آلهتهم وفي مجمع البيان تقول العرب ذكرت فلانا أي عبته وعليه قول عنترة : لا تذكري مهري وما أطمعته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
(17/47)

انتهى والإشارة مثلها في قوله : هذا أبو الصقر فردا في محاسنه من نسل شيبان بين الضال والسلم فيكون في ذلك نوع بيان للإتخاذ مزوا وقوله تعالى وهم بذكر الرحمن هم كافرون
36
- في حين النصب على الحالية من ضمير القول المقدر والمعنى أنهم يعيبون عليه عليه الصلاة و السلام أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء والحان أنهم بالقرآن الذي أنزل رحمة كافرون فهم أحقاء بالعيب والإنكار فالضمير الأول مبتدأ خبره كافرون وبه يتعلق بذكر وقدم رعاية للفاصلة وإضافته لامية والضمير الثاني تأكيد لفظي للأول والفصل بين العامل والمعمول بالمؤكد وبين المؤكد والمؤكد بالمعمول جائز ويجوز أن يراد بذكر الرحمن توحيده على أن ذكر مصدر مضاف إلى المفعول أي وهم كافرون بتوحيد الرحمن المنعم عليهم بما يستدعي توحيده والإيمان به سبحانه وأن يراد به عظته تعالى وإرشاده الخلق بإرسال وإنزال الكتب على أنه مصدر مضاف إلى الفاعل وقيل المراد بذكر الرحمن ذكره صلى الله عليه و سلم هذا اللفظ وإطلاقه عليه تعالى والمراد بكفرهم به قولهم ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فهو مصدر مضاف إلى المفعول لا غير وليس بشيء كما لا يخفلا
وجعل الزمخشري الجملة حالا من ضمير يتخذونك أي يتخذونك هزوا وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بذكر الرحمن وسبب نزول الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه صلى الله عليه و سلم مر على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال : ما تنكر أن يكون لبني عبد مناف نبي فسمعها النبي صلى الله عليه و سلم فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوفه وقال : ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصابك عمك الوليد بن المغيرة وقال لأبي سفيان : أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية وأنا أرى أن القلب لا يتلج لكون هذا سببا للنزول والله تعالى أعلم
خلق الإنسان من عجل هو طلب الشيء وتحريه قبل أوانه والمراد بالإنسان جنسه جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق من نفس العجل تنزيلا لما طبع عليه الأخلاق منزلة ما طبع منه من الأركان إيذانا بغاية لزومه له وعدم انفكاكه عنه وقال أبو عمرو وأبو عبيدة وقطرب : في ذلك قلب والتقدير خلق العجل من الإنسان على معنى أنه جعل من طبائعه وأخلاقه للزومه له وبذلك قرأ عبد الله وهو قلب غير مقبول وقد شاع في كلامهم مثل ذلك عند إرادة المبالغة فيقولون لمن لازم اللعب أنت من لعب ومنه قوله : وأنا لمما يضرب الكبش ضربة على رأسه يلقى اللسان من الفم وقيل المراد بالإنسان النضر بن الحرث لأن الآية نزلت فيه حين استعجل العذاب بقوله اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر الخ وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والضحاك ومقاتل والكلبي : المراد به آدم عليه السلام أراد أن يقوم قبل أن يتم نفخ الروح فيه وتصل إلى رجليه وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة فلما أجرى الروح في عينيه ولسانه ولم يبلغ أسفله قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وروي ذلك عن مجاهد وقيل المراد أنه خلق بسرعة على غير ترتيب خلق بنيه
(17/48)

حيث تدرج في خلقهم وذكر ذلك لبيان أن خلقه كذلك من دواعي عجلته في الأمور والأظهر إرادة الجنس وإن كان خلقه عليه السلام وما يقتضيه ساريا إلى أولاده وما تقدم في سبب النزول لا يأباه كما لا يخفى وقيل العجل الطين بلغة حمير وأنشد أبو عبيدة لبعضهم : النبع في الصخرة الصماء منبته والنخل منبته في الماء والعجل واعترض بأنه لا تقريب لهذا المعنى ههنا وقال الطيبي : يكون القصد عليه تحقير شأن جنس الإنسان تتميما لمعنى التهديد في قوله تعالى سأريكم آياتي فلا تستعجلون
37
- والمعول عليه المعنى الأول والخطاب للكفرة المستعجلين والمراد بآياته تعالى نقماته عز و جل والمراد بإراءتهم إياها إصابته تعالى إياهم بها وتلك الإراءة في الآخرة على ما يشير إليه ما بعد وقيل فيها وفي الدنيا والنهي عن استعجالهم إياه تعالى بالإتيان بها مع أن نفوسهم جلبت على العجلة ليمنعوها عما تريده وليس هذا من التكليف بما لا يطاق لأن الله تعالى أعطاهم من الأسباب ما يستطيعون به كف النفس عن مقتضاها ويرجع هذا النهي إلى الأمر بالصبر وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم خلق الإنسان ببناء خلق للفاعل ونصب الإنسان
ويقولون متى هذا الوعد أي وقت وقوع الساعة الموعود بها وكانوا يقولون ذلك استعجالا لجيئه بطريق الإستهزاء والإنكار كما يرشد إليه الجواب لا طلبا لتعيين وقته بطريق الإلزام كما في سورة الملك و متى في موضع رفع على أنه خبر لهذا
ونقل عن بعض الكوفيين أنه في موضع نصب على الظرفية والعامل فيه فعل مقدر أي متى يأتي هذا الوعد إن كنتم صادقين
38
- بأنه يأتي والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن إتيان الساعة وجاب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه في قولهم متى هذا الوعد حيث كان استبطاء منهم للموعود وطلبا لإتيانه بطريق العجلة في قوة طلب إتيانه بالعجلة فكأنه قيل إن كنتم صادقين فليأتنا بسرعة وقوله تعالى لو يعلم الذين كفروا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه من العذاب وأنهم إنما يستعجلونه لجهلهم بشأنه وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم العلم بحسب المقام وإلا فكثيرا ما يفيد المضارع المنفي انتفاء الإستمرار ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على علة استعجالهم
وقوله تعالى حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم مفعول يعلم على ما اختاره الزمخشري وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه وإضافته إلى الجملة الجارية مجرى الصفة التي حقها أن تكون معلومة الإنتساب إلى الموصوف عند المخاطب أيضا مع إنكار الكفرة ذلك للإيذان بأنه من الظهور بحيث لا حاجة إلى الإخبار به وإنما حقه الإنتظام في سلك المسلمات المفروغ عنها وجواب لو محذوف أي لو لم يستمر عدم علمهم بالوقت الذي يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد وهو الوقت الذي تحيط بهم النار فيه من كل جانب وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب
(17/49)

واستلزام الإحاطة بهما للإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على رفعها بأنفسهم من جانب من جوانبهم ولا هم ينصرون
39
- من جهة الغير في دفعها الخ لما فعلوا ما فعلوا من الإستعجال وقدر الحوفي لسارعوا إلى الإيمان وبعضهم لعلموا صحة البعث وكلاهما ليس بشيء وقيل أن لو للتمني لا جواب لها وهو كما ترى وجواب أن يكون يعلم متروك المفعول منزلا منزلة اللازم أي لو كان لهم علم لما فعلوا ذلك وقوله تعالى : حين الخ استئناف مقرر لجهلهم ومبين لاستمراره إلى ذلك الوقت كأنه قيل : حين يرون ما يرون يعلمون حقيقة الحال وفي الكشف كأنه استئناف بياني وذلك أنه لما نفي العلم كان مظنة أن يسأل فأي وقت يعلمون فأجيب حين لا ينفعهم والظاهر كون حين الخ مفعولا به ليعلم
وقال أبو حيان : الذي يظهر أن مفعوله محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لو يعلم الذي كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستبطؤوه و حين منصوب بذلك المفعول وليس عندي بظاهر بل تأتيهم بغتة عطف على لا يكفرون وزعم ابن عطية أنه استدرك مقدر قبله نفي والتقدير إن الآيات لا تأتي بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة وقيل : إنه استدراك عن قوله تعالى : لو يعلم الخ وهو منفي معنى كأنه قيل : لا يعلمون ذلك بل تأتيهم الخ وبينه وبين ما زعمه ابن عطية كما بين السماء والأرض والمضمر في تأتيهم عائد على الوعد لتأويله بالعدة أو الموعدة أو الحين لتأويله بالساعة أو على النار واستظهره في البحر و بغتة أي فجأة مصدر في موضع الحال أو مفعول مطلق لتأتيهم وهو مصدر من غير لفظه فتبهتهم تدهشهم وتحيرهم أو تغلبهم على أنه معنى كنائي
وقرأ الأعمش بل يأتيهم بياء الغيبة بغتة بقتح الغين وهو لغة فيها وقيل : إنه يجوز في كل ما عينه حرفا حلق فيبهتهم بياء الغيبة أيضا فالضمير المستتر في كل من الفعلين للوعد أو للحين على ما قال الزمخشري
وقال أبو الفضل الرازي : يحتمل أن يكون للنار بجعلها بمعنى العذاب فلا يستطيعون ردها الضمير المجرور عائد على ما عاد عليه ضمير المؤنث فيما قبله وقيل : على البغتة أي لا يستطيعون ردها عنهم بالكلية ولا هم ينظرون
40
- أي يمهلون لستريحوا طرفة عين وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا
ولقد استهزيء برسل من قبلك الخ تسلية لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم عن استهزائهم بعد أن قضى الوطر من ذكر الأجوبة الحكية عن مطاعنهم في النبوة وما أدمج فيها من المعاني التي هي لباب المقاصد وفيه أنه عليه الصلاة و السلام قضى ما عليه من عهدة الإبلاغ وأنه المنصور في العاقبة ولهذا بديءبذكر أجلة الأنبياء عليهم السلام للتأسي وختم بقوله تعالى : ولقد كتبنا في الزبور الخ وتصدير ذلك بالقسم لزيادة تحقيق مضمونه وتنوين الرسل للتفخيم والتكثير ومن متعلقة بمحذوف هو صفة له أي وبالله لقد استهزيء برسل أولي شأن خطير وذوي عدد كثير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فحاق أي أحاط عقيب ذلك أو نزل أو حل أو نحو ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل إلا في الشر والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله وقيل : أصل حاق حق كزال
(17/50)

وزل وذام وذم وقوله تعالى : بالذين سخروا منهم أي من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى ما كانوا به يستهزؤن
41
- للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم و ما إما موصولة مفيدة للتهويل والضمير المجرور عائد عليها والجار متعلق بالفعل بعده وتقديمه لرعاية الفواصل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله وإما مصدرية فالضمير راجع إلى جنس الرسول المدلول عليه بالجمع كما قالوا ولعل إيثار الإفراد على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاء استهزائهم بكل واحد منهم عليهم السلام لأجزاء استهزائهم بكلهم من حيث هو فقط أي فنزل بهم جزاء استهزائهم على وضع السبب في موضع المسبب إيذانا بكمال الملابسة بينهما أو عين استهزائهم أن أريد بذلك العذاب الأخروي بناء على ظهور الأعمال في النشأة الأخروية بصور مناسبة لها في الحسن والقبح قل أمر له صلى الله عليه و سلم أن يسأل أولئك المستهزئين سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغتروا بما غشيهم من نعم الله تعالى ويقول من يكلؤكم أي يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن أي من بأسه بقرينة الحفظ وتقديم الليل لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعا وأشد وقعا وفي التعرض لعنوان الرحمانية تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته تعالى وتلقين للجواب كما قيل في قوله تعالى ما غرك بربك الكريم وقيل إن ذلك إيماء إلى أن بأسه تعالى إذا أراد شديد أليم ولذا يقال نعوذ بالله عز و جل من غضب الحليم وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته ودلالة على شدة خبثهم
وقرأ أبو جعفر والزهري وشيبة يكلوكم بضمة خفيفة من غير همز وحكى الكسائي والفراء يكلوكم بفتح اللام وإسكان الواو وقوله تعالى بل هم عن ذكر ربهم معرضون
42
- إضراب عن ذلك تسجيلا عليهم بأنهم ليسوا من أهل السماع وأنهم قوم ألهتهم النعم عن المنعم فلا يذكرونه عز و جل حتى يخافوا بأسه أو يعدوا ما كانوا فيه من الأمن والدعة حفظا وكلاءة ليسألوا عن الكاليء على طريقة قوله : عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار ماذا تحيون من نوء وأحجار وفيه أنهم مستمرون على الإعراض ذكروا ونبهوا أولا وفي تعليق الإعراض بذكره تعالى وإيراد اسم الرب المضاف إلى ضميرهم المنبيء عن كونهم تحت ملكوته وتدبيره وتربيته تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاضية من الضلالة والغي ما لا يخفى وقيل أنه إضراب عن مقدر أي أنهم غير غافلين عن الله تعالى حتى لا يجدى السؤال عنه سبحانه كيف وهم إنما اتخذوا الآلهة وعبدوها لتشفع لهم عنده تعالى وتقربهم إليه زلفى بل هم معرضون عن ذكره عز و جل فالتذكير يناسبهم وهذا مع ظهوره مساق الكلام ووضوح انطباقه على مقتضى المقام قد خفى عن الناظرين وغفلوا عنه أجمعين أه
وتعقب بأن السياق لتجهيلهم والتسجيل عليهم بأنهم إذا ذكروا لا يذكرون ألا يرى قوله تعالى ولا يسمع الصم الدعاء بأن السياق لتجهيلهم والتسجيل بأنهم ذكروا ولا يذكرون ألا يرى قوله تعالى ولا يسمع الصم الدعاء وما ذكر يقتضي العكس لتضمنه وصفهم بأجداء الإنذار والدعاء مع أن قوله غير غافلين مناف لما يدل عليه النظم الكريم فالحق ما تقدم وقوله تعالى أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا إعراض عن وصفهم بالإعراض إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم وإسنادهم الحفظ إليها فام منقطعة ببل والهمزة و لهم خير مقدم و آلهة مبتدأ وجملة تمنعهم صفته و من دوننا قيل صفة بعد صفة أي بل ألهم آلهة مانعة لهم
(17/51)

متجاوزة منعنا أو حفظنا فهم معولون عليها واثقون بحفظها وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن في الكلام تقديما وتأخيرا والأصل أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم وعليه يكون من دوننا صفة أيضا وقال الحوفي : أنه متعلق يتمنعهم أي بل ألهم آلهة تمنعهم من عذاب من عندنا والإستفهام لإنكار أن يكون لهم آلهة كذلك وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة الموصوفة بما ذكر لا إلى نفس الصفة بأن يقال أم تمنعهم آلهتهم الخ من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلا عن رتبة المنع ما لا يخفى
وقال بعض الأجلة : إن الإضراب الذي تضمنه أم عائد على الأمر بالسؤال كالإضراب السابق لكنه أبلغ منه من حيث أن سؤال الغافل عن الشيء بعبد وسؤال المعتقد لنقيضه أبعد وفهم منه بعضهم أن الهمزة عليه للتقرير بما في زعم الكفرة تهكما
وتعقب أنه ليس بمتعين فيجوز أن يكون للإنكار لا بمعنى أنه لم يكن منهم زعم ذلك بل بمعنى أنه لم كان مثله مما لا حقيقة له والأظهر عندي جعله عائدا على الوصف بالإعراض كما سمعت أولا وفي الكشق ضمن الإعراض عن وصفهم بالإعراض إنكاره أبلغ الإنكار بأنهم في إعراضهم عن ذكره تعالى كمن له كاليء يمنعه عن بأسنا معرضا فيه بجانب آلهتهم وأنهم أعرضوا عنه تعالى واشتغلوا بهم ولهذا رشح بما بعد كأنه قيل دع حديث الإعراض وانظر إلى من أعرضوا عن ربهم سبحانه إليه فإن هذا أطم وأطم فتأمله فإنه دقيق
وقوله تعالى لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون
43
- استئناف مقرر لما قبله من الإنكار أي لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ويدفعوا عنها ما ينزل بها ولا هم منا يصحبون بنصر أو بمن يدفع عنهم ذلك من جهتنا فهم في غاية العجز وغير معتنى بهم فكيف يتوهم فيهم ما يتوهم فالضمائر للآلهة بتنزيلهم منزلة العقلاء وروي عن قتادة وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها للكفرة على معنى لا يستطيع الكفار نصر أنفسهم بآلهتهم ولا يصحبهم نصر من جهتنا والأول أولى بالمقام وإن كان هذا أبعد عن التفكيك و منا على القولين يحتمل أن يتعلق بالفعل بعده وأن يتعلق بمقدر وقع صفة لمحذوف
وقوله تعالى بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر الخ إضراب على ما في الكشف عن الضرب السابق من الكلام إلى وعيدهم وأنهم من أهل الإستدراج وأخرجهم عن الخطاب عدم مبالاة بهم وفي العدول إلى الإشارة عن الضمير إشارة إلى تحقيرهم وفي غير كتاب أنه إضراب عما توهموه من أن ما هم فيه من الكلاءة من جهة أن لهم آلهة تمنعهم من تطرق البأس إليهم كأنه قيل دع ما زعموا من كونهم محفوظين بكلاءة آلهتهم بل ما هم فيه من الحفظ منا لا غير حفظناهم من البأساء ومتعناهم بأنواع السراء لكونهم من أهل الإستدراج والإنهماك فيما يؤديهم إلى العذاب الأليم
ويحتمل أن يكون إضرابا عما يدل عليه الإستئناف السابق من بطلان توهمهم كأنه قيل دع ما يبين بطلان توهمهم من أن يكون لهم آلهة تمنعهم واعلم أنهم إنما وقعوا في ورطة ذلك التوهم الباطل بسبب أنا متعناهم بما يشتهون حتى طالت مدة عمارة أبدانهم بالحياة فحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا واعترضوا عن الحق واتبعوا ما سولت لهم أنفسهم وذلك طمع فارغ وأمل كاذب أفلا يرون أي ألا ينظرون فلا يرون
(17/52)

أنا نأتي الأرض أي أرض الكفرة أو أرضهم ننقصها من أطرافها بتسليط المسلمين عليها وحوز ما يحوزونه منها ونظمه في سلك ملكهم والعدول عن أنا ننقص الأرض من أطرافها إلى ما في النظم الجليل لتصوير كيفية نقصها وانتزاعها من أيديهم فإنه بإتيان جيوش المسلمين واستيلائهم وكان الأصل يأتي جيوش المسلمين لكنه أسند الإتيان إليه عز و جل تعظيما لهم وإشارة إلى أنه بقدرته تعالى ورضاه وفيه تعظيم للجهاد والمجاهدين
والآية كما قدمنا أول السورة مدنية وهي نازلة بعد فرض الجهاد فلا يرد أن السورة مكية والجهاد فرض بعدها حتى يقال : إن ذلك إخبار عن المستقبل أو يقال : إن المراد ننقصها بإذهاب بركتها كما جاء في رواية عن ابن عباس أو بتخريب قراها وموت أهلها كما روي عن عكرمة وقيل ننقصها بموت العلماء وهذا إن صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا معدل عنه وإلا فالأظهر نظرا إلى المقام ما تقدم ويؤيده قوله تعالى أفهم الغالبون
44
- على رسول الله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها كأنه قيل أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم وفي التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها قل إنما أنذركم بعد ما بين من جهته تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ونهاية سوء حالهم عند إتيانه ونعي عليهم جهلهم بذلك وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار وغير ذلك من مساويهم أمر عليه الصلاة و السلام بأن يقول لهم : إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة بالوحي الصادق الناطق بإثباتها وفظاعة ما فيها من الأهوال أي إنما شأني أن أنذركم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية فإنه الإيمان برهاني لا عياني
وقوله تعالى ولا يسمع الصم الدعاء إما من تتمة الكلام الملقن تذييل له بطريق الإعتراض قد أمر صلى الله عليه و سلم بأن يقوله لهم توبيخا وتقريعا وتسجيلا عليهم بكمال الجهل والعناد وإما من جهته تعالى على طريقة قوله سبحانه بل هم عن ذكر ربهم معرضون كأنه قيل قل لهم ذلك وهم بمعزل عن السماع واللام في الصم إما للجنس المنتظم لهؤلاء انتظاما أوليا وإما للعهد فوضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالتصامم وتقييد نفي السماء بقوله تعالى إذا ما ينذرون
45
- مع أن الصم لا يسمعون مطلقا لبيان كمال شدة الصمم كا أن إيثار الدعاء الذي هو عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك فإن الإنذار عادة يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئات دالة عليه فإن لم يسمعوها يكن صممهم في غاية لم يسمع بمثلها وقيل لأن الكلام في الإنذار ألا ترى قوله تعالى قل إنما أنذركم بالوحي وفيه دغدغة لا تخفى
وقرأ ابن عامر وابن جبير عن ابن عمرو وابن الصلت عن حفص تسمع بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم من الإسماع الصم الدعاء بنصبهما على المفعولية وهذه القراءة تؤيد احتمال كون الجملة من جهته تعالى وقريء يسمع بالياء على الغيبة وإسناد الفعل إلى ضميره صلى الله عليه و سلم الصم الدعاء بنصبهما على ما مر وذكر ابن خالويه أنه قريء يسمع مبنيا للمفعول الصم بالرفع على النيابة عن الفاعل الدعاء بالنصب على المفعولية وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو يسمع بضم ياء الغيبة وكسر الميم الصم
(17/53)

بالنصب على المفعولية الدعاء بالرفع على الفاعلية بيسمع وإسناد الإسماع إليه من باب الإتساع والمفعول الثاني محذوف كأنه قيل ولا يسمع الصم الدعاء شيئا وقوله تعالى ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك بيان لسرعة تأثرهم من مجيء نفس العذاب إثر بيان عدم تأثرهم من مجيء خبره على نهج التوكيد القسمي أي وبالله لئن مسهم أدنى شيء من عذابه تعالى ليقولن يا ويلتنا إنا كنا ظالمين
46
- أي ليدعن على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفن عليها بالظلم السابق وفي مستهم نفحة ثلاث مبالغات كما قال الزمخشري وهي كما في الكشف ذكر المس وهو دون النفوذ ويكفي في تحققه إيصال ما وما في النفح من معنى النزارة فإن أصله هبوب رائحة الشيء ويقال نفحته الدابة ضربته بحد حافرها ونفحه بعطية رضخه وأعطاه يسيرا وبناء المرة وهي لأقل ما ينطلق عليه الاسم وجعل السكاكي التنكير رابعتها لما يفيده من التحقير واستفادة ذلك إن سلمت من بناء المرة ونفس الكلمة لا يعكر عليه كما زعم صاحب الإيضاح
واعترض بعضهم المبالغة في المس بأنه أقوى من الإصابة لما فيه من الدلالة على تأثر حاسة الممسوس ومما ذكر في الكشف يعلم اندفاعه لمن مسته نفحة عناية ولعل في الآية مبالغة خامسة تظهر بالتأمل ثم الظاهر أن هذا المس يوم القيامة كما رمزنا إليه وقيل في الدنيا بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من تفسير النفحة بالجوع الذي نزل بمكة وقوله تعالى ونضع الموازين القسط بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه
وجعل الطيبي الجملة حالا من الضمير في ليقولن بتقدير ونحن نضع وهي في الخلو عن العائد نحو جئتك والشمس طالعة ويجوز أن يقال : أقيم العموم في نفس الآتي بعد مقام العائد وهو كما ترى أي ونحضر الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال كما يقضي بذلك حديث السجلات والبطاقة التي ذكره مسلم وغيره أو نفس الأعمال كما قيل وتظهر بصور جوهرية مشرقة إن كانت حسنات ومظلمة إن كانت سيئات وجمع الموازين ظاهر في تعدد الميزان حقيقة وقد قيل به فقيل لكل أمة ميزان وقيل لكل مكلف ميزان وقيل للمؤمن موازين بعدد خيراته وأنواع حسناته والأصح الأشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال كفتاه كأطباق السماوات والأرض لصحة الأخبار بذلك والتعدد اعتباري وقد يعبر عن الواحد بما يدل على الجميع للتعظيم كقوله تعالى رب أجعون لعلي أعمل صالحا وقوله
فارحموني يا إله محمد
وإحضار ذلك تجاه العرش بين الجنة والنار ويأخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظرا إلى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه كما في نوادر الأصول وهل هو مخلوق اليوم أو سيخلق غدا
قال اللقاني : لم أقف على نص في ذلك كما لم أقف على نص في أنه من أي الجواهر هو أه وما روي من أن داود عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات فقال تعالى : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة نص في أنه مخلوق اليوم لكن لا أدري حال الحديث فلينقر
وأنكر المعتزلة الميزان بالمعنى الحقيقي وقالوا : يجب أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك على رعاية العدل والإنصاف ووضع الموازين عندهم تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال وروي هذا عن الضحاك وقتادة ومجاهد والأعمش ولا داعي إلى العدول عن الظاهر وإفراد القسط مع كونه
(17/54)

صفة الجمع لأنه مصدر ووصف به مبالغة ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي ذوات القسط وجوز أبو حيان أن يكون مفعولا لأجله نحو قوله :
لا أقعد الجبن
وحينئذ يستغنى عن توجيه أفراده وقريء القصط بالصاد واللام في قوله تعالى ليوم القيامة بمعنى في كما نص عليه ابن مالك وأنشد لمجيئها كذلك قول مسكين الدارمي : أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما قد مضى من قبل عاد وتبع وهو مذهب الكوفيين ووافقهم ابن قتيبة أي نضع الموازين في يوم القيامة التي كانوا يستعجلونها وقال غير واحد : هي للتعليل أي لأجل حساب يوم القيامة أو لأجل أهله وجعلها بعضهم للإختصاص كما هو أحد احتمالين في قولك جئت لخمس ليال خلون من الشهر والمشهور فيه وهو الإحتمال الثاني أن اللام بمعنى في
فلا تظلم نفس من النفوس شيئا من الظلم فلا ينقص ثوابها الموعود ولا يزاد عذابها المعهود فالشيء منصوب على المصدرية والظلم هو بمعناه المشهور
وجوز أن يكون شيئا مفعولا به على الحذف والإيصال والظلم بحاله أي فلا تظلم في شيء بأن تمنع ثوابا أو تزاد عذابا وبعضهم فسر الظلم بالنقص وجوز في شيئا المصدرية والمفعولية من غير اعتبار الحذف والإيصال أي فلا تنقص شيئا من النقص أو شيئا من الثواب ويفهم عدم الزيادة في العقاب من إشارة النص واللزوم المتعارف واختير ما لا يحتاج فيه إلى الإشارة واللزوم والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين
وربما يفهم من ذلك أن كل أحد توزن أعماله وقال القرطبي : الميزان حق ولا يكون في حق أحد بدليل الحديث الصحيح فيقال : يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن الحديث وأحرى الأنبياء عليهم السلام وقوله تعالى يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام وقوله تعالى فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا وقوله سبحانه وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله سبحانه الفريقين
وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صبا وظواهر أكثر الآيات والأحاديث تقتضي وزن أعمال الكفار وأول لها ما اقتضى ظاهره خلاف ذلك وهو قليل بالنسبة إليها وعندي لا قاطع في عموم الوزن وأميل إلى عدم العموم ثم أنه كما اختلف في عمومه بالنسبة إلى أفراد الإنس اختلف في عمومه بالنسبة إلى نوعي الإنس والجن والحق أن مؤمني الجن كمؤمني الإنس وكافرهم ككافرهم كما بحثه القرطبي واستنبطه من عدة آيات وبسط اللقاني القول في ذلك في شرحه الكبير للجوهرة وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الخلاف في كيفية الوزن وإن كان أي العمل المدلول عليه بوضع الموازين وقيل الضمير راجع لشيئا بناء على أن المعنى فلا تظلم جزاء عمل من الأعمال مثقال حبة من خردل أي مقدار حبة كائنة من خردل فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة وجوز أن يكون صفة لمثقال والأول أقرب والمراد وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأبو جعفر وشيبة ونافع مثقال بالرفع على أن كان
(17/55)

تامة أتأتينا بها أي جئتنا بها وبه قرأ أبي والمراد أحضرناها فالباء للتعدية والضمير للمثقال وأنث لاكتساب التأنيث من المضاف إليه والجملة جواب إن الشرطية وجوز أن تكون إن وصلية والجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني آتينا بمدة على أنه مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه تعالى بالأعمال وأتاهم بالجزاء وقيل هو من الإتيان وأصله أأتينا فأبدلت الهمزة الثابتة ألفا والمراد جازينا أيضا مجازا ولذاعدي بالباء ولو كان المراد أعطينا كما قال بعضهم لتعدي بنفسه كما قال ابن جني وغيره وقرأ حميد أثبنا من الثوابت وكفى بنا حاسبين
47
- قيل أي عادين ومحصين أعمالهم على أنه الحساب مرادا به معناه اللغوي وهو العد وروي ذلك عن السدي وجوز أن يكون كناية عن المجازاة وذكر اللقاني أن لحساب في عرف الشرع توقيف الله تعالى عباده إلا من استثنى منهم قبل الإنصراف من المحشر على أعمالهم خيرا كانت أو شرا تفصيلا لا بالوزن وأنه كما ذكر الواحدي وغيره وجزم به صاحب كنز الأسرار قبل الوزن ولا يخفى أن في الآية إشارة ما إلى أن الحساب المذكور فيها بعد وضع الموازين فتأمل ونصب الوصف إما على أنه تمييز أو على أنه حال واستظهر الأول في البحر
هذا ومن باب الإشارة في الآيات اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون الخ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين بحب الدنيا عن الإستعداد للأخرى فغفلوا عن إصلاح أمرهم وأعرضوا عن طاعة ربهم وغدت قلوبهم عن الذكر لاهية وعن التفكر في جلاله وجماله سبحانه ساهية وفي قوله تعالى وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم إشارة إلى سوء حال بعض المنكرين على أولياء الله تعالى فإن نفوسهم الخبيثة الشيطانية تأبى اتباعهم لما يرون من المشاركة في العوارض البشرية وكم قصمنا قبلهم من قرية كانت ظالمة فيه إشارة إلى أن الظلم خراب العمران فمتى ظلم الإنسان خرب قلبه وجر ذلك إلى خرائب بدنه وهلامه بالعذاب وقوله تعالى بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق إشارة إلى أن مداومة الذكر سبب لانجلاء الظلمة عن القلب وتطهره من دنس الأغيار بحيث لا يبقى فيه سواه سبحانه ديار ومن عنده قيل هم الكاملون الذين في الحضرة فإنهم لا يتحركون ولا يسكنون إلا مع الحضور ولا تشق عليهم عبادة ولا تلهيهم عنه تعالى تجارة بواطنهم مع الحق وظواهرهم مع الخلق أنفاسهم تسبيح وتقديس وهو سبحانه لهم خير أنيس وفي قوله تعالى بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون إشارة إلى أن الكامل لا يختار شيئا بل شأنه التفويض والجريان تحت مجاري الأقدام مع طيب النفس ومن هنا قيل إن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وغمرنا بره لم يتوف حتى ترقى عن مقام الأدلال إلى التفويض المحض وقد نص على ذلك الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه الجواهر واليواقيت وجعلنا من الماء كل شيء حي قد تقدم ما فيه من الإشارة كل نفس ذائقة الموت قال الجنيد قدس سره : من كانت حياته بروحه يكون مماته بذهابها ومن كانت حياته بربه تعالى فأنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة على الحقيقة ونبلوكم بالشر والخير فتنة قيل أي بالقهر واللطف والفراق والوصال والإدبار والإقبال والجهل والعلم إلى غير ذلك ولا يخفى أنه كثيرا ما يمتحن السالك بالقبض والبسط فينبغي له التثبيت
(17/56)

في كل عما يحطه عن درجته ولعل فتنة البسط أشد من فتنة القبض فليتحفظ هناك أشد تحفظ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة قال بعض الصوفية : الموازين متعددة فللعاشقين ميزان وللوالهين ميزان وللعاملين ميزان وهكذا ومن ذلك ميزان للعارفين توزن به أنفاسهم ولا يزن نفسا منها السماوات والأرض
وذكروا أن في الدنيا موازين أيضا وأعظم موازينها الشريعة وكفتاه الكتاب والسنة ولعمري لقد عطل هذا الميزان متصوفة هذا الزمان أعاذنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلال أنه عز و جل المتفضل بأنواع الأفضال
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين
48
- نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم إلى قوله سبحانه وأهلكنا المسرفين وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم وتصديره بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الإعتناء بمضمونه والمراد بالفرقان التوراة وكذا بالضياء والذكر والعطف كما في قوله : إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم ونقل الطيبي أنه أدخل الواو على ضياء وإن كان صفة في المعنى دون اللفظ كما يدخل على الصفة التي هي صفة لفظا كقوله تعالى إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض وقال سيبويه : إذا قلت مررت بزيد وصاحبك جاز وإذا قلت ومررت بزيد فصاحبك بالفاء لم يجز بالواو لأن الفاء تقتضي التعقب وتأخير الاسم عن المعطوف عليه بخلاف الواو وأما قول القائل : يا لهف زيادبة للحارث الصابح فالغانم فالآيب فأنما ذكر بالفاء وجاد لأنه ليس بصفة على ذلك الحد لأن أل بمعنى الذي أي فالذي صبح فالذي غنم فالذي آب وأبو الحسن يجيز المسئلة بالفاء كما يجيزها بالواو انتهى والمعنى وبالله لقد آتيناهما كتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية وذكرا يتعظ به الناس ويتذكرون وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم النتفعون به أو ذكر ما يحتاجون به من الشرائع والأحكام أو شرف لهم
وقيل : الفرقان النصر كما في قوله تعالى : يوم الفرقان وأطلق عليه لفرقه بين الولي والعدو وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس والضياء حينئذ إما التوراة أو الشريعة أو اليد البيضاء والذكر بأحد المعاني المذكورة
وعن الضحاك أن الفرقان فلق البحر والفرق والفلق أخوان وإلى الأول ذهب مجاهد وقتادة وهو اللائق بمساق النظم الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتب الإلهية لا سيما التوراة فيما ذكر من الصفات ولأن فلق البحر هو الذي اقترحه الكفرة مثله بقولهم : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون
وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك ضياء بغير واو على أنه حال من الفرقان وهذه القراءة تؤيد أيضا التفسير الأول وقوله تعالى : الذين يخشون ربهم مجرور المحل على أنه صفة مادحة للمتقين أو بدل أو بيان أو منصوب أو مرفوع على المدح والمراد على تقدير يخشون عذاب ربهم وقوله سبحانه بالغيب حال من المفعول أي يخشون ذلك وهو غائب عنهم غير مرئي لهم ففيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار مالم يشاهدوا ما أنذروه
(17/57)

وقال الزجاج : حال من الفاعل أي يخشونه غائبين عن أعين الناس ورجحه ابن عطية وقيل : يخشونه بقلوبهم وهم من الساعة مشفقون
49
- أي خائفون بطريق الإعتناء والجملة تحتمل العطف على الصلة وتحتمل الإستئناف وتقديم الجار لرعاية الفواصل وتخصيص إشفاقهم من الساعة بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها معظم المخلوقات وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون وإيثار الجملة الإسمية للدلالة على أن حالتهم فيما يتعلق بالآخرة الإشفاق الدائم وهذا أي القرآن الكريم أشير إليه بهذا للإيذان بسهولة تناوله ووضوح أمره وقيل : لقرب زمانه ذكر يتذكر به من تذكر وصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقته لما مر في صدر السورة الكريمة مع انطواء جميع ما تقدم في وصفه بقوله سبحانه : مبارك أي كثير الخير غزير النفع ولقد عاد علينا ولله تعالى الحمد من بركته ما عاد
وقوله تعالى : أنزلناه إما صفة ثانية لذكر أو خبر آخر لهذا وفيه على التقديرين من تعظيم أمر القرآن الكريم ما فيه أفأنتم له منكرون
50
- إنكار لإنكارهم بعد ظهور كونه كالتوراة كأنه قيل أبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة أنتم منكرون لكونه منزلا من عندنا فإن ذلك بعد ملاحظة حال التوراة مما لا مساغ له أصلا وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل أو للحصر لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب
ولقد آتينا إبراهيم رشده أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الإهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلهية وقيل الصحف وقيل : الحكمة : التوفق للخير صغيرا واختار بعضهم التعميم
وقرأ عيسى الثقفي رشده بفتح الراء والشين وهما لغة كالحزن والحزن من قبل أي من قبل موسى وهارون وقيل من قبل البلوغ حين خرج من السرب وقيل من قبل أن يولد حين كان في صلب آدم عليه السلام وقيل من قبل محمد صلى الله عليه و سلم والأول مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال في الكشف : وهو الوجه الأوفق لفظا ومعنى أما الأول فللقرب وأما الثاني فلأن ذكر الأنبياء عليهم السلام للتأسي وكان القياس أن يذكر نوح ثم إبراهيم ثم موسى عليهم السلام لكن روعي في ذلك ترشيح التسلي والتأسي فقد ذكر موسى عليه السلام لأن حاله وما قاساه من قومه وكثرة آياته وتكلف أمته أشبه بحال نبينا عليه الصلاة و السلام ثم ثني بذكر إبراهيم عليه السلام وقيل من قبل لهذا ألا ترى إلى قوله تعالى ونوحا إذ نادى من قبل أي من قبل هؤلاء المذكورين وقيل من قبل إبراهيم ولوط أه وكتابه عالمين
51
- أي بأحواله وما فيه من الكمالات وهذا كقولك في خير الناس : أنا عالم بفلان فإنه من الإحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل
وجوز أن يكون هذا كناية عن حفظه تعالى إياه وعدم إضاعته وقد قال عليه السلام يوم إلقائه في النار وقول جبريل عليه السلام له سل ربك : علمه بحالي بغني عن سؤالي وهو خلاف الظاهر إذ قال لأبيه وقومه ظرف لآتينا على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما يترتب عليه من أقواله وأفعاله وجوز أن يكون ظرفا لرشد
(17/58)

أو لعالمين وأن يكون بدلا من موضع من قبل وأن ينتصب بإضمار أعني أ أذكر وبدأ بذكر الأب لأنه كان الأهم عنده عليه السلام في النصيحة والإنقاذ من الضلال
والظاهر أنه عليه السلام قال له ولقومه مجتمعين : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون
52
- أراد عليه السلام ما هذه الأصنام إلا أنه عبر عنها بالتماثيل تحقيرا لشأنها فإن التمثال الصورة المصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به وكانت على ما قيل صور الرجال يعتقدون فيهم وقد انقرضوا وقيل كانت صور الكواكب صنعوها حسبما تخيلوا وفي الإشارة إليها بما يشار به للقريب إشارة إلى التحقير أيضا والسؤال عنها بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم من باب تجاهل العارف كأنه لا يعرف أنها ماذا وإلا فهو عليه السلام محيط بأن حقيقتها حجر أو نحوه والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له وقيل اللزوم والإستمرار على الشيء لغرض من الأغراض وهو على التفسيرين دون العبادة ففي اختياره عليها إيماء إلى تفظيع شأن العبادة غاية التفظيع واللام في لها للبيان فهي متعلقة بمحذوف كما في قوله تعالى للرؤيا تعبرون أو للتعليل فهي متعلقة بعاكفون وليست للتعدية لأن عكف إنما يتعدى بعلى كما في قوله تعالى يعكفون على أصنام لهم وقد نزل الوصف هنا منزلة اللازم أي التي أنتم لها فاعلون العكوف
واستظهر أبو حيان كونها للتعليل وصلة عاكفون محذوفة أي عاكفون على عبادتها ويجوز أن تكون اللام بمعنى على كما قيل ذلك في قوله تعالى وإن أسأتم فلها وتتعلق حينئذ بعاكفون على أنها للتعدية
وجوز أن يؤول العكوف بالعبادة فاللام حينئذ كما قيل دعامة لا معدية لتعديه بنفسه ورجح هذا الوجه بما بعد وقيل لا يبعد أن تكون اللام للإختصاص والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا و عاكفون خبر بعد خبر وأنت تعلم أن نفي بعده مكابرة ومن الناس من لم يرتض تأويل العكوف بالعبادة لما أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفي خير له من أن يمسها وفيه نظر لا يخفى نعم لا يبعد أن يكون الأولى إبقاء العكوف على ظاهره ومع ذلك المقصود بالذات الإستفسار عن سبب العبادة والتوبيخ عليها بألطف أسلوب ولما لم يجدوا ما يعول عليه في أمرها التجؤا إلى التشبث بحشيش التقليد المحض حيث قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين
53
- وأبطل عليه السلام ذلك على طريقة التوكيد القسمي حيث قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم الذين وجدتموهم كذلك في ضلال عجيب لا يقادر قدره مبين
54
- ظاهر بين بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونه ضلالا لاستنادكم وأياهم إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع و أنتم تأكيد للضمير المتصل في كنتم ولا بد منه عند البصريين لجواز العطف على مثل هذا الضمير ومعنى كنتم في ضلال مطلق استقرارهم وتمكنهم فيه لا استقرارهم الماضي الحاصل قبل زمان الخطاب المتناول لهم ولآبائهم وفي أختيار في ضلال على ضالين ما لا يخفى من المبالغة في ضلالهم وفي الآية دليل على أن الباطل لا يصير حقا بكثرة المتمسكين به قالوا لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعادا
(17/59)

لكون ما هم عليه ضلالا وتعجبا من تضليله عليه السلام إياهم على أتم وجه أجئتنا بالحق أي بالجد أم أنت من اللاعبين
55
- أي الهازلين فالإستفهام ليس على ظاهره بل هو استفهام مستبعد متعجب وقولهم أم أنت الخ عديله كلام منصف موميء فيه بألطف وجه أن الثابت هو القسم الثاني لما فيه من أنواع المبالغة وأشار في الكشاف كما في الكشف إلى أن الأصل هذا الذي جئتنا به أهو جد وحق أم لعب وهزل إلا أنه عدل عنه إلى ما عليه النظم الكريم لما أشير إليه
وقال صاحب المفتاح : أي أجددت وأحدثت عندنا تعاطي الحق أم أحوال الصبا بعد على الإستمرار وهو أقرب إلى الظاهر وفيه الإشارة إلى فائدة العدول عن المعادل ظاهرا وبيان بالمجيء وظاهر كلام الشيخين أن أم متصلة واختار العلامة الطيبي أنها منقطعة فقال : إنهم لما سمعوا منه عليه السلام ما يدل على تحقير آلهتهم وتضليلهم وآبائهم على أبلغ وجه وشاهدوا منه الغلظة والجد طلبوا منه عليه السلام البرهان فكأنهم قالوا هب أنا قد قلدنا آباءنا فيما نحن فيه فهل معك دليل على ما ادعيت أجئتنا بالحق ثم أضربوا عن ذلك وداؤا بام المتضمنة لمعنى بل الإضرابية والهمزة التقديرية فأضربوا ببل عما أثبتوا وقرروا بالهمزة خلافه على سبيل التوكيد والبت وذلك أنهم قطعوا أنه لاعب وليس بمحق البتة لأن إدخالهم إياه في زمرة اللاعبين أي أنت غرق في اللعب داخل في زمرة الذين قصارى أمرهم في إثبات الدعاوي اللعب واللهو على سبيل الكناية الإيمائية دل على إثبات ذلك بالدليل والبرهان وهذه الكناية توقفك على أن أم لا يجوز أن تكون متصلة قطعا وكذا بل فيما بعد انتهى والحق أن جواز الإنقطاع مما لا ريب فيه وأما وجوبه ففيه ما فيه
قال ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه وهذا انتقال عن تضليلهم في عبادة الأصنام ونفى عدم استحقاقها لذلك إلى بيان الحق وتعيين المستحق للعبادة وضمير فطرهن أما للسماوات والأرض واستظهره أبو حيان ووصفه تعالى بإيجادهن أثر وصفه سبحانه بربوبيته لهن تحقيقا للحق وتنبيها على أن ما لا يكون كذلك بمعزل عن الربوبية التي هي منشأ استحقاق العبادة وإما للتماثيل ورجح بأنه أدخل في تحقيق الحق وإرشاد المخاطبين إليه وليس هذا الضمير من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات كما ظنه ابن عطية فتكلف لتوجيه عوده لما لا يعقل وقوله تعالى وأنا على ذلكم من الشاهدين
56
- تذييل متضمن أرد نسبتهم إياه عليه السلام إلى اللعب والهزل والإشارة إلى المذكور والجار الأول متعلق بمحذوف أي وأنا شاهد على ذلكم من الشاهدين أو على جهة البيان أي أعني على ذلكم أو متعلق بالوصف بعده وإن كان في صلة أل لاتساعهم في المظروف أقوال مشهورة والمعنى وأنا على ذلكم الذي ذكرته من العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنة عليه ولست من اللاعبين فإن الشاهد على الشيء من تحققه وحققه وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليها وإثباته بها
وقال شيخ الإسلام : إن قوله بل ربكم الخ إضراب عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كون تلك التماثيل أربابا لهم كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل ربكم الخ وقال القاضي : هو إضراب عن كونه عليه السلام لاعبا
(17/60)

بإقامة البرهان على ما ادعاه وجعله الطيبي إضرابا عن ذلك أيضا قال : وهذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم وكان من الظاهر أن يجيبهم عليه السلام بقوله بل أنا من المحقين ولست من اللاعبين فجاء بقوله بل ربكم الآية لينبه به على أن أبطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لا حاجة فيه لوضوحه إلى الدليل ولكن انظروا إلى هذه العظيمة وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم ورازقكم ومالك العالمين والذي فطر ما أنتم لها عاكفون وتشتغلون بعبادتها دونه فأي باطل أظهر من ذلك وأي ضلال أبين منه
وقوله وأنا على ذلكم من الشاهدين تذييل للجواب بما هو مقابل أم أنت من اللاعبين من حيث الأسلوب وهو الكناية ومن حيث التركيب وهو بناء الخبر على الضمير كأنه قال : لست من اللاعبين في الدعاوي بل من العالمين فيها بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي نقطع به الدعاوي أه ولا يخفى أنه يمكن إجراء هذا على احتمال كون أم متصلة فافهم وتأمل ليظهر لك أي التوجيهات لهذا الإضراب أولى وتالله لأكيدن أصنامكم أي لأجتهدن في كسرها وأصل الكيد الإحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهر خلافه وهو يستلزم الإجتهاد فتجوز عنه وفيه إيذان بصعوبة الإنتهاز وتوقفه على استعمال الجيل ليحتاطوا في الحفظ فيكون الظفر بالمطلوب أتم في التبكيت وكان هذا منه عليه السلام عزما على الإرشاد إلى ضلالهم بنوع آخر ولا يأباه ما روي عن قتادة أنه قال : نرى أنه عليه السلام قال ذلك من حيث لا يسمعون وقيل سمعه رجل واحد منهم وقيل قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين : وقيل اثنين وسبعين
وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالله بالباء ثانية الحروف وهي أصل حروف القسم إذ تدخل على الظاهر والمضمر ويصرح بفعل القسم معها ويحذف والتاء بدل من الواو كما في تجاه والواو قائمة مقام الباء للمناسبة بينهما من حيث كونهما شفويتين ومن حيث أن الواو تفيد معنى قريبا من معنى الإلصاق على ما ذكره كثير من النحاة
وتعقبه في البحر بأنه لا يقدم على ذلك دليل وقد رده السهيلي والذي يقتضيه النظر إنه ليس شيء من هذه الأحرف أصلا لآخر وفرق بعضهم بين الباء والتاء بأن في التاء المثناة زيادة معنى وهو التعجب وكان التعجب هنا من إقدامه عليه السلام على أمر فيه مخاطرة ونصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم وفرق آخرون بينهما استعمالا بأن التاء لا تستعمل إلا مع اسم الله الجليل أو مع رب مضافا إلى الكعبة على قلة بعد أن تولوا مدبرين
57
- من عبادتها إلى عيدكم وقرأ عيسى بن عمر تولوا من التولي بحذف إحدى التاءين وهي الثانية عند البصريين والأولى عند هشام ويعضد هذه القراءة قوله تعالى فتولوا عنه مدبرين والفاء في قوله تعالى فجعلهم فصيحة أي فولوا فأتي إبراهيم عليه السلام الأصنام فجعلهم جذاذا أي قطعا بمعنى مفعول من الجذ الذي هو القطع قال الشاعر : بنو المهلب جذ الله دابرهم أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف فهو كالحطام من الحطم الذي هو الكسر وقرأ الكسائي وابن محيصن وابن مقسم وأبو حيوة وحميد
(17/61)

والأعمش في رواية جذاذا بكسر الجيم وابن عباس وابن نهيك وأبو السمال جذاذا بالفتح والضم قراءة الجمهور وهي كما روى ابن جني عن أبي حاتم لغات أجودها الضم ونص قطرب أنه في لغاته الثلاث مصدر لا يثنى ولا يجمع وقال الزبيدي : جذاذا بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة وقيل : بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام وقيل : بالفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود
وقرأ يحيى بن وثاب جذاذا بضمتين جمع جذيذ كسرير وسرر وقريء جذاذا بضم ففتح جمع جذة كقبة وقبب أو مخفف فعل بضمتين روي أن آزر خرج في عيد لهم فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا فذهبوا فلما كان إبراهيم عليه السلام في الطريق ثني عزمه عن المسير معهم فقعد وقال إني سقيم فدخل على الأصنام وهي مصطفة وثم صم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئتان بالليل فكسر الكل بفأس كان في يده ولم يبق إلا الكبير وعلق الفأس في عنقه وقيل : في يده وذلك قوله تعالى : إلا كبيرا لهم أي الأصنام كما هو الظاهر مما سيأتي إن شاء الله تعالى وضمير العقلاء هنا وفيما مر على زعم الكفرة والكبر إما في المنزلة على زعمهم أيضا أو في الجثة وقال أبو حيان : يحتمل أن يكون الضمير للعبدة قيل : ويؤيده أنه لو كان للأصنام لقيل إلا كبيرهم لعلهم إليه يرجعون
58
- استئناف لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير وضمير إليه عند الجمهور عائد على إبراهيم عليه السلام أي لعلهم يرجعون إلى إبراهيم عليه السلام لا إلى غيره فيحاجهم ويبكتهم بما سيأتي من الجواب إن شاء الله تعالى وقيل : الضمير لله تعالى أي لعلهم يرجعون إلى الله تعالى وتوحيده حين يسألونه عليه السلام فيجيبهم ويظهر عجز آلهتهم ويعلم من هذا أن قوله سبحانه : إلا كبيرا لهم ليس أجنبيا في البين على هذا القول كما توهم نعم لا يخفى بعده
وعن الكلبي أن الضمير للكبير أي لعلهم يرجعون إلى الكبير كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون له ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس في عنقك أو في يدك وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم وكأن هذا بناء على ظنه عليه السلام بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها ويحتمل أنه عليه السلام يعلم أنهم لا يرجعون إليه لكن ذلك من باب الإستهزاء والإستجهال واعتبار حال الكبير عندهم فإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل وعلى الإحتمالين لا إشكال في دخول لعل في الكلام ولعل هذا الوجه أسرع الأوجه تبادرا لكن جمهور المفسرين على الأول والجار والمجرور متعلق بيرجعون والتقديم للحصر على الأوجه الثلاثة على ما قيل وقيل : هو متعين لذلك في الوجه الأول وغير متعين له في الأخيرين بل يجوز أن يكون لأداء حق الفاصلة فتأمل
وقد يستأنس بفعل إبراهيم عليه السلام من كسر الأصنام لمن قال من أصحابنا إنه لا ضمان على من كسر ما يعمل من الفخار مثلا من الصور ليلعب به الصبيان ونحوهم وهو القول المشهور عند الجمهور
قالوا أي حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا من فعل هذا الأمر العظيم بآلهتنا قالوه على طريقة الإنكار والتوبيخ والتشنيع والتعبير عنها بالآلهة دون الأصنام أو هؤلاء للمبالغة في التشنيع
(17/62)

وقوله تعالى إنه لمن الظالمين
59
- استئناف مقرر لما قبله وجوز أبو البقاء أن تكون من موصولة مبتدأ وهذه الجملة في محل الرفع خبره أي الذي فعل هذا الكسر والحطم بآلهتنا إنه معدود من جملة الظلمة إما لجرأته على إهانتها وهي الحفية بالإعظام أو لتعريض نفسه للهلكة أو لإفراطه في الكسر والحطم والظلم على الأوجه الثلاثة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه قالوا أي بعض منهم وهم الذين سمعوا قوله عليه السلام وتا الله لأكيدن أصنامكم عند بعض سمعنا فتى يذكرهم يعيبهم فلعله الذي فعل ذلك بهم وسمع كما قال بعض الأجلة حقه أن يتعدى إلى واحد كسائر أفعال الحواس كما قرره السهيلي ويتعدى إليه بنفسه كثيرا وقد يتعدى إليه بإلى أو اللام أو الباء وتعديه إلى مفعولين مما اختلف فيه فذهب الأخفش والفارسي في الإيضاح وابن مالك وغيرهم إلى أنه إن وليه ما يسمع تعدى إلى واحد كسمعت الحديث وهذا متفق عليه وإن وليه ما لا يسمع تعدى إلى اثنين ثانيهما مما يدل على صوت
واشترط بعضهم كونه جملة كسمعت زيدا يقول كذا دون كذا لأنه دال على ذات لا تسمع وأما قوله تعالى هل يسمعونكم إذ تدعون فعلى تقدير مضاف أي هل يسمعون دعاءكم وقيل ما أضيف إليه الظرف مغن عنه وفيه نظر وقال بعضهم : إنه ناصب لواحد بتقدير مضاف مسموع قبل اسم الذات والجملة أن كانت حال بعد المعرفة صفة بعد النكرة ولا تكون مفعولا ثانيا لأنها لا تكون كذلك إلا في الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وليس هذا منها
وتعقب بأنه من الملحقات برأي العلمية لأن السمع طريق العلم كما في التسهيل وشروحه فجوز هنا كون فتى مفعولا أولا وجملة يذكرهم مفعولا ثانيا وكونه مفعولا والجملة صفة له لأنه نكرة وقيل إنها بدا منه ورجحه بعضهم باستغنائه على التجوز والإضمار إذ هي مسموعة والبدل هو المقصود بالنسبة وإبدال الجملة من المفرد جائز وفي الهمع أن بدل الجملة من المفرد بدل اشتمال وفي التصريح قد تبدل الجملة من المفرد بدل كل من كل فلا تغفل وقال بعضهم إن كون الجملة صفة أبلغ في نسبة الذكر إليه عليه السلام لما في ذلك من إيقاع الفعل على المسموع منه وجعله بمنزلة المسموع مبالغة في عدم الوساطة فيفيد أنهم سمعوه بدون واسطة
ووجه بعضهم الأبلغية بغير ما ذكر مما بحث فيه ولعل الوجه المذكور مما يتأتى على احتمال البدلية فلا تموت المبالغة عليه وقد يقال : إن هذا التركيب كيفما أعرب أبلغ من قولك سمعنا ذكر فتى ونحوه مما لا يحتاج فيه إلى مفعولين اتفاقا لما أن سمعنا لما تعلق بفتى أفاد إجمالا أن المسموع نحو ذكره إذ لا معنى لأن يكون نفس الذات مسموعا ثم إذا ذكر يذكرهم علم ذلك مرة أخرى ولما فيه من تقوى الحكم بتكرر الإسناد على ما بين في علم المعاني ولهذا أرجح أسلوب الآية على غيره فتدبر
وقوله تعالى يقال له إبراهيم
60
- صفة لفتى وجوز أن يكون استئنافا بيانيا والأول أظهر ورفع إبراهيم على أنه نائب الفاعل ليقال على اختيار الزمخشري وابن عطية والمراد لفظه أي يطلق عليه هذا اللفظ وقد اختلف في جواز كون مفعول القول مفردا لا يؤتى معناه جملة كقلت قصيدة وخطبة ولا هو مصدرا لقول أو صفته كقلت قولا أو حقا فذهب الزجاج والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى
(17/63)

الجواز إذا أريد بالمفرد لفظه بل ذكر الدنوشري أنه إذا كان المراد بالمفرد الواقع بعد القول نفس لفظه تجب حكايته ورعاية إعرابه وآخرون إلى المنع قال أبو حيان : وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال فلان زيد ولا قال ضرب وإنما وقع القول في كلامهم لحكاية الجمل وما في معناها وجعل المانعون إبراهيم مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذا إبراهيم والجملة محكية بالقول كما في قوله
إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة
وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي إبراهيم فاعله وأن يكون منادى حذف منه حرف النداء أي يقال له حين يدعى يا إبراهيم وعندي أن الآية ظاهرة فيما اختاره الزمخشري وابن عطية ويكفي الظهور مرجحا في أمثال هذه المطالب وذهب الأعلم إلى أن إبراهيم ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه إذ القول لا يؤثر إلا في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملا والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم واحد واثنان وإذا عدوا ولم يدخلوا عاملا لا في اللفظ ولا في التقدير وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض ولا يخفى أن كلام هذا الأعلم لا يقوله إلا الأجهل ولأن يكون الرجل أفلح أعلم خير له من أن ينطق بمثله ويتكلم
قالوا أولئك القائلون من فعل الخ إذا كان الأمر كذا فأتوا به أي أحضروه على أعين الناس مشاهدا معاينا لهم على أتم وجه كما تفيده على المستعارة لنمكن الرؤية لعلهم يشهدون
61
- أي يحضرون عقوبتنا له وقيل يشهدون بفعله أو بقوله ذلك فالضمير حينئذ ليس للناس بل لبعض منهم مبهم أو معهود والأول مروي عن ابن عباس والضحاك والثاني عن الحسن وقتادة والترجي أوفق به قالوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم كأنه قيل فماذا فعلوا به بعد ذلك هل أتوا به أولا فقيل قالوا : أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم
62
- اقتصارا على حكاية مخاطبتهم إياه عليه السلام للتنبيه على أن إتيانهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمر محقق غني عن البيان والهمزة كما قال العلامة التفتازاني للتقرير بالفاعل إذ ليس مراد الكفرة حمله عليه السلام على الإفراد بأن كسر الأصنام قد كان بل على الإقرار بأنه منه كيف وقد أشاروا إلى الفعل في قولهم : أأنت فعلت هذا وأيضا قال بل فعله كبيرهم هذا ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أو لم أفعل واعترض ذلك الخطيب بأنه يجوز أن يكون الإستفهام على أصله إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام حتى يمتنع حمله على حقيقة الإستفهام وأجيب عليه بأنه يدل عليه ما قبل الآية وهو أنه عليه السلام قد حلف بقوله تالله لأكيدن أصنامكم الخ ثم لما رأوا كسر الأصنام قالوا من فعل هذا الخ فالظاهر أنهم قد علموا ذلك من حلفه وذمه الأصنام ولقائل أن يقول : إن الحلف كما قاله كثير كان سرا أو سمعه رجل واحد وقوله سبحانه قالوا سمعنا الخ مع قوله تعالى : قالوا من فعل هذا الخ يدل على أن منهم من لا يعلم كونه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام فلا يبعد أن يكون أأنت فعلت كلام ذلك البعض وقد يقال : إنهم بعد المفاوضة في أمر الأصنام وإخبار البعض البعض بما يقنعه بأنه عليه السلام هو الذي كسرها تيقنوا كلهم أنه الكاسر
(17/64)

فاأنت فعلت ممن صدر للتقرير بالفاعل وقد سلك عليه السلام في الجواب مسلكا تعريضيا يؤدي به إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوقي من الكذب فقد أبز الكبير قولا في معرض المباشر للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرض فعلا بجعل الفاس في عنقه أو في يده وقد قصد إسناده إليه بطريق التسبب حيث رأى تعظيمهم إياه أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام المصطفة المرتبة للعبادة من دون الله تعالى فغضب لذلك زيادة الغضب فأسند الفعل إليه إسنادا مجازيا عقليا باعتبار أنه الحامل عليه والأصل فعلته لزيادة غضبي من زيادة تعظيم هذا وإنما لم يكسره وإن كان مقتضى غضبه ذلك لتظهر الحجة وتسمية ذلك كذبا كما ورد في الحديث الصحيح من باب المجاز لما أن المماريض تشبه صورتها صورته فبطل الإحتجاج بما ذكر على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام وقيل في توجيه ذلك أيضا : إنه حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه يعني أنهم لما ذهبوا إلى أنه أعظم الآلهة فعظم ألوهيته ويقتضي أن لا يعبد غيره معه ويقتضي إفناء من شاركه في ذلك فكأنه قيل فعله هذا الكبير على مقتضى مذهبكم والقضية ممكنة
ويحكى أنه عليه السلام قال : فعله كبيرهم هذا غضب أن يعبد معه هذه وهو أكبر منها قيل : فيكون حينئذ تمثيلا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنام وقيل إنه عليه السلام لم يقصد بذلك إلا إثبات الفعل لنفسه على الوجه الأبلغ مضمنا فيه الإستهزاء والتضليل كما إذا قال لك أمي فيما كتبته بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط : أأنت كتبت هذا فقلت له : بل كتبته أنت فإنك لم تقصد نفيه عن نفسك وإثباته للأمي وإنما قصدت إثباته وتقريره لنفسك مع الإستهزاء بمخاطبتك
وتعقبه صاحب الفرائد بأنه إنما يصح إذا كان الفعل دائرا بينه عليه السلام وبين كبيرهم ولا يحتمل ثالثا
ورد بأنه ليس بشيء لأن السؤال في أأنت فعلت تقرير لا استفهام كما سمعت عن العلامة وصرح به الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي فاحتمال الثالث مندفع ولو سلم أن الإستفهام على ظاهره فقرينة الإسناد في الجواب إلى ما لا يصلح له بكلمة الإضراب كافية لأن معناه أن السؤال لا وجه له وأنه لا يصلح لهذا الفعل غيري نعم يرد أن توجيههم بذلك نحو التأمل في حال آلهتهم وإلزامهم الحجة كما ينبيء عنه قوله تعالى : فسئلوهم إن كانوا ينطقون
63
- أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا غير ظاهر على هذا وقيل إن فعله كبيرهم جواب قوله إن كانوا ينطقون معنى وقوله فاسألوا جملة معترضة مقترنة بالفاء كما في قوله :
فلعلم فعلم المرء ينفعه
فيكون كون الكبير فاعلا مشروطا بكونهم ناطقين ومعلقا به وهو محال فالمعلق به كذلك وإلى نحو ذلك أشار ابن قتيبة وهو خلاف الظاهر وقيل : إن الكلام ثم عند قوله فعله والضمير المستتر يعود على فتى أو إلى إبراهيم ولا يخفى أن كلا من فتى وإبراهيم مذكور في كلام لم يصدر بمحضر من إبراهيم عليه السلام حتى يعود عليه الضمير وأن الإضراب ليس في محله حينئذ والمناسب في الجواب نعم ولا مقتضى للعدول عن الظاهر هنا كما قيل وعزي إلى الكسائي أنه جعل الوقف على فعله أيضا إلا أنه قال : الفاعل محذوف أي فعله من فعله
(17/65)

وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن حذف الفاعل لا يسوغ أي عند الجمهور وإلا فالكسائي يقول بجواز حذفه
وقيل يجوز أن يقال : إنه أراد بالحذف الإضمار وأكثر القرار اليوم على الوقف على ذلك وليس بشيء وقيل الوقف على كبيرهم وأراد به عليه السلام نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم وهذا التوجيه عندي ضرب من الهذيان ومثله أن يراد به الله عز و جل فإنه سبحانه كبير الآلهة ولا يلاحظ ما أرادوه بها ويعزى للفراء أن الفاء في فعله عاطفة وعله بمعنى لعله فخفف
واستدل عليه بقراءة ابن السمقيع فعله مشدد اللام ولا يخفى أن يجل كلام الله تعالى العزيز عن مثل هذا التخريج والآية عليه في غاية الغموض وما ذكر في معناها بعيد بمراحل عن لفظها وزعم بعضهم أن الآية على ظاهرها وادعى أن صدور الكذب من الأنبياء عليهم السلام لمصلحة جائز وفيه أن ذلك يوجب رفع الوثوق بالشرائع لاحتمال الكذب فيها لمصلحة فالحق أن لا كذب أصلا وأن في المعاريض لمندوحكة عن الكذب وإنما قال عليه السلام إن كانوا ينطقون دون إن كانوا يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا لما أن نتيجة السؤال هو الجواب وإن عدم نطقهم أظهر وتبكيتهم بذلك أدخل وقد حصل ذلك حسبما نطق به قوله تعالى فرجعوا إلى أنفسهم فتفكروا وتدبروا وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبودا
فقالوا أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم إنكم أنتم الظالمون
64
- أي بعبادة ما لا ينطق قاله ابن عباس أو بسؤالكم إبراهيم عليه السلام وعدولكم عن سؤالها وهي آلهتكم ذكره ابن جرير أو بنفس سؤالكم إبراهيم عليه السلام حيث كان متضمنا التوبيخ المستتبع للمؤاخذة كما قيل أو بغفلتكم عن آلهتكم وعدم حفظكم إياها أو بعبادة الأصاغر مع هذا الكبير قالهما وهب أو بأن اتهمتم إبراهيم عليه السلام والبأس في عنق الكبير قاله مقاتل وابن إسحاق والحصر إضافي بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام ثم نكسوا على رؤسهم أصل النكس فلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفله ولا يلغو ذكر الرأس بل يكون من التأكيد أو يعتبر التجريد وقد يستعمل النكس لغة في مطلق قلب الشيء من حال إلى حال أخرى ويذكر الرأس للتصوير والتقبيح
وذكر الزمخشري على ما في الكشف في المراد به هنا ثلاثة أوجه الأول أنه الرجوع عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليم أنفسهم إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها مع الإعتراف بتقاصر حالها عن الحيوان فضلا أن تكون في معرض الآلهية فمعنى لقد علمت ما هؤلاء ينطقون
65
- لا يخفى علينا وعليك أيها المبكت بأنها لا تنطق أنها كذلك وإنا إنما أفذناها آلهة مع العلم بالوصف والدليل عليه جواب إبراهيم عليه السلام الآتي والثاني أنه الرجوع عن الجدال معه عليه السلام بالباطل في قولهم من فعل هذا بآلهتنا وقولهم أأنت فعلت إلى الجدال عنه بالحق في قولهم لقد علمت لأنه نفي للقدرة عنها واعتراف بعجزها وأنها لا تصلح للآلهية وسمي نكسا وإن كان حقا لأنه ما أفادهم عقدا فهو نكس بالنسبة إلى كا كانوا عليه من الباطل حيث اعترفوا بعجزها وأصروا وفي التفسير ما يقرب منه مأخذا لكنه قدر الرجوع عن الجدال عنه في قولهم إنكم أنتم
(17/66)

الظالمون إلى الجدال معه عليه السلام بالباطل في قولهم لقد علمت والثالث أن النكس مبالغة في إطراقهم رؤسهم خجلا وقولهم لقد علمت الخ رمي عن حيرة ولهذا أتوا بما هو حجة عليهم وجاز أن يجعل كناية عن مبالغة الحيرة وانخذال الحجة فإنها لا تنافي الحقيقة قال في الكشف وهذا وجه حسن وكذلك الأول وكون المراد النكس في الرأي رواه أبو حانم عن ابن زيد وهو للوجهين الأولين وقال مجاهد : معنى نكسوا على رءوسهم ردت السلفة على الرؤساء فالمراد بالرؤس الرؤساء والأظهر عندي الوجه الثالث وأيا ما كان فالجار متعلق بنكسوا
وجوز أن يكون بمحذوف وقع حالا والجملة القسمية مقولة لقول مقدر أي قائلين لقد الخ والخطاب في علمت إبراهيم عليه السلام لا لكل من يصلح للخطاب والجملة المنفية في موضع مفعولي علم إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد والمراد استمرار النفي لا نفي الإستمرار كما يوهمه صيغة المضارع وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن الجارود والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف نكسوا وقرأ رضوان بن عبد المعبود نكسوا بتخفيف الكاف مبنيا للفاعل أي نكسوا أنفسهم وقيل : رجعوا على رؤسائهم بناء على ما يقتضيه تفسير مجاهد
قال عليه السلام مبكتا لهم أفتعبدون أي تعلمون ذلك فتعبدون من دون الله أي مجاوزين عبادته تعالى ما لا ينفعكم شيئا من النفع وقيل : بشيء ولا يضركم
66
- فإن العلم بحاله المنافية للألوهية مما يوجب الإجتناب عن عبادته قطعا أف لكم ولما تعبدون من دون الله تضجر منه عليه السلام من إصرارهم على الباطل بعد انقطاع العذر ووضوح الحق وأصل أف صوت المتضجر من استقذار شيء على ما قال الراغب ثم صار اسم فعل بمعنى أتضجر وفيه لغات كثيرة واللام لبيان المتأفف له وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لمزيد استقباح ما فعلوا أفلا تعقلون
67
- أي ألا تتفكرون فلا تعقلون قبح صنيعكم قالوا أي قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المحاجة وضاقت بهم الحيل وهذا ديدن المبطل المحجوج إذا بهت بالحجة وكانت له قدرة بفزع إلى المناصبة حرفوه فإن النار أشد العقوبات ولذا جاء لا يعذب بالنار إلا خالقها وانصروا آلهتكم بالإنتقام لها إن كنتم فاعلين
68
- أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا فاختاروا له ذلك وإلا فرطتم في نصرتها وكأنكم لم تفعلوا شيئا ما فيها ويشعر بذلك العدول عن إن تنصروا آلهتكم فحرقوه إلى ما في النظم الكريم وأشار بذلك على المشهور ورضي به الجميع نمروذ بن كنعان ابن سنحاريب بن نمروذ بن كوس بن حام بن نوح عليه السلام
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر فقال : أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار قلت : لا قال : رجل من أعراب فارس يعني الأكراد ونص على أنه من الأكراد ابن عطية وذكر أن الله تعالى خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة واسمه على ما أخرج
(17/67)

ابن جرير وابن أبي حاتم عن شعيب الجباري هيون وقيل : هدير وفي البحر أنهم ذكروا له اسما مختلفا فيه لا يوقف منه على حقيقة وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثي قرية من قرى الأنباط في حدود بابل من العراق وذلك قوله تعالى قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوما فأوقدوا نارا عظيمة لا يكاد يمر عليها طائر في أقصى الجو لشدة وهجها فلم يعلموا كيف يلقونه عليه السلام فيها فأتي إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه وقيل : صنعه الكردي الذي أشار بالتحريق ثم خسف به ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فصاحت ملائكة السماء والأرض إلهتا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم عليه السلام وأنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته فقال جل وعلا : إن استغاث بأحد منكم فلينصره وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فإنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فأتاه خازن الرياح وخازن المياه يستأذنانه في إعدام النار فقال عليه السلام لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل وروي عن أبي بن كعب قال : حين أوثقوه ليلقوه في النار قال عليه السلام : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ثم رموا به فأتاه جبريل عليه السلام فقال : يا إبراهيم ألك حاجة قال : أما إليك فلا قال : جبريل عليه السلام فاسأل ربك فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ويروى أن الوزغ كان ينفخ في النار وقد جاء ذلك في رواية البخاري
وفي البحر ذكر المفسرون أشياء صدرت عن الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط والله تعالى أعلم بذلك فلما وصل عليه السلام الحظيرة جعلها الله تعالى ببركة قوله عليه السلام روضة وذلك قوله سبحانه وتعالى قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم
69
- أي كوني ذات برد وسلام أي ابردي بردا غير ضار ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عند أحمد وغيره : لو لم يقل سبحانه وسلاما لقتله بردها وفيه مبالغات جعل النار المسخرة قدرته تعالى مأسورة مطاوعة وإقامة كوني ذات برد مقام ابردي ثم حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وقيل : نصب سلاما بفعله أي وسلمنا سلاما عليه والجملة عطف على قلنا وهو خلاف الظاهر الذي أيدته الآثار روي أن الملائكة عليهم السلام أخذوا بضبعي إبراهيم عليه السلام فأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار إلا أوثاقه كما روي عن كعب وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوما أو خمسين يوما وقال عليه السلام : ما كنت أطيب عيشا مني إذ كنت فيها قال ابن إسحاق : وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم عليهم السلام يؤنسه قالوا : وبعث الله عز و جل جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال جبريل عليه السلام : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي ثم أشرف نمروذ ونظر من صرح له فرآه جالسا في روضة والملك قاعد إلى جنبه والنار محيكة به فنادى يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها قال إبراهيم عليه السلام : نعم قال : هل تخشى إن نمت فيها أن تضرك قال : لا قال : فقم فاخرج منها فقام عليه السلام يمشي فيها حتى خرج منها فاستقبله نمروذ وعظمه وقال له : يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعدا إلى جنبك قال : ذلك ملك الظل أرسله إلي ربي ليؤنسني فيها فقال : يا إبراهيم إني مقرب
(17/68)

إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال له إبراهيم عليه السلام : إنه لا يقبل الله تعالى منك ما كنت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال : لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ستة عشرة سنة وفي بعض الآثار أنهم لما رأوه عليه السلام لم يحترق قال : إنه سحر النار فرموا فيها شيخا منهم فاحترق وفي بعضها أنهم لما رأوه عليه السلام سالما لم يحترق من غير وثاقه قال هاران أبو لوط عليه السلام : إن النار لا تحرقه لأنه سحرها لكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق تبن وأوقدوا تحته فطارة شرارة إلى لحية هاران فأحرقته وأخرج عبد بن حميد عن سليمان ابن صرد وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه و سلم أن أبا لوط قال وكان عمه : إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني فأرسل الله تعالى عنقا من النار فأحرقه والأخبار في هذه القصة كثيرة لكن قال في البحر : قد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم عليه السلام والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه عليه السلام ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه عليه السلام بردا وسلاما
ثم إن الظاهر أن الله تعالى هو القائل لها كوني بردا الخ وأن هناك قولا لا حقيقة وقيل القائل جبرائيل عليه السلام بأمره سبحانه وقيل قول ذلك مجاز عن جعلها بإردة والظاهر أيضا أن الله عز و جل سلبها خاصتها من الحرارة والإحراق وأبقى فيها الإضاءة والإشراق وقيل إنها انقلبت هواء طيبا وهو على هذه الهيئة من أعظم الخوارق وقيل كانت على حالها لكنه سبحانه جلت قدرته دفع أذاها كما ترى في السمندر كما يشعر به قوله تعالى على إبراهيم وذلك لأن ما ذكر خلاف المعتاد فيختص بمن خص به ويبقى بالنسبة إلى غيره على الأصل لا نظرا إلى مفهوم اللقب إذ الأكثرون على عدم اعتباره وفي بعض الآثار السابقة ما يؤيده وأياما كان فهو آية عظيمة وقد يقع نظيرها لبعض صلحاء الأمة المحمدية كرامة لهم لمتابعتهم النبي الحبيب صلى الله عليه و سلم وما يشاهد من وقوعه لبعض المنتسبين إلى حضرة الولي الكامل الشيخ أحد الرفاعي قدس سره من الفسقة الذين الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفار فقيل إنه باب من السحر المختلف في كفر فاعله وقتله فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح ولا يبعد أن تكون كفرا وإن كان معها ما لا كفر فيه وقد ذكر بعضهم أنهم يقولون عند ذلك تلسف هيف هيف أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من شر ما خلق أقسمت عليك يا أيتها النار أو أيها السلاح بحق حي حلي ونور سبحي ومحمد صلى الله عليه و سلم أن لا تضري أو لا تضر غلام الطريقة ولم يكن ذلك في زمان الشيخ الرفاعي قدس سره العزيز فقد كان أكثر الناس اتباعا للسنة وأشدهم تجنبا عن مظان البدعة وكان أصحابه سالكين مسلكه متشبثين بذيل اتباعه قدس سره ثم طرأ على بعض المنتسبين إليه ما طرأ قال في العبر : قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ قدس سره وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التاتار العراق من دخول النيران وركوب السبع واللعب بالحيات وهذا لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه فنعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم انتهى
والحق أن قراءة شيء ما عندهم ليست شرطا لعدم التأثر بالدخول في النار ونحوه فكثير منهم من ينادي إذا أوقدت له النار وضربت الدفوف يا شيخ أحمد يا رفاعي أو يا شيخ فلان لشيخ أخذ منه الطريق ويدخل النار ولا يتأثر من دون تلاوة شيء أصلا والأكثر إذا قرأ الأسماء على النار ولم تضرب له الدفوف ولم يحصل
(17/69)

له تغير حال لم يقدر على مس جمرة وقد يتفق أن يقرأ أحدهم الأسماء وتضرب له الدفوف وينادي من ينادي من المشايخ فيدخل ويتأثر والحاصل أنا لم نر لهم قاعدة مضبوطة بيد أن الأغلب أنهم إذا ضربت لهم الدفوف واستغاثوا بمشايخهم وعربدوا يفعلون ما يفعلون ولا يتأثرون وقد رأيت منهم من يأخذ زق الخمر ويستغيث بمن يستغيث ويدخل تنورا كبيرا تضطرم فيه النار فيقعد في النار فيشرب الخمر ويبقى حتى تخمد النار فيخرج ولم يحترق من ثيابه أو جسده شيء وأقرب ما يقال في مثل ذلك : إنه استدراج وابتلاء وأما أن يقال : إن الله عز و جل أكرم حضرة الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره بعدم تأثر المنتسبين إليه كيفما كانوا بالنار ونحوها من السلاح وغيره إذا هتفوا باسمه أو اسم منتسب إليه في بعض الأحوال فبعيد بل كاني بك تقول بعدم جوازه وقد يتفق ذلك لبعض المؤمنين في بعض الأحوال إعانة له وقد يأخذ بعض الناس النار بيده ولا يتأثر لأجزاء يطلى بها يده من خاصيتها عدم إضرار النار للجسد إذا طلي بها فيوهم فاعل ذلك أنه كرامة
هذا واستدل بالآية من قال : إن الله تعالى أودع في كل شيء خاصة حسبما اقتضته حكمته سبحانه فليس الفرق بين الماء والنار مثلا بمجرد أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق ونحوه عند النار والري ونحوه عند الماء بل أودع في هذا خاصة الري مثلا وفي تلك خاصة الإحراق مثلا لكن لا تحرق هذه ولا يروى ذاك إلا بإذنه عز و جل فإنه لو لم يكن أودع في النار الحرارة والإحراق ما قال لها ما قال ولا قائل بالفرق فتأمل
وأرادوا به كيدا مكرا عظيما في الإضرار به ومغلويته فجعلناهم الأخسرين
70
- أي أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفاء نور الحق قولا وفعلا برهانا قاطعا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل وموجبا لارتفاع درجته عليه السلام واستحقاقهم لأشد العذاب وقيل : جعلهم الأخسرين من حيث أنه سبحانه سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم وسلط على نمروذ بعوضة أيضا فبقيت تؤذيه إلى أن مات لعنه الله تعالى والمعول عليه التفسير الأول ونجيناه ولوطا وهو على ما تقدم ابن عمه وقيل : هو ابن أخيه وروي ذلك في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد ضمن نجيناه معنى أخرجناه فلذا عدي بإلى في قوله سبحانه : إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين
71
- وقيل : هي متعلقة بمحذوف وقع حالا أي منتهيا إلى الأرض فلا تضمين والمراد بهذه الأرض أرض الشام وقيل : أرض مكة وقيل : مصر والصحيح الأول وصفها بعموم البركة لأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيها وانتشرت في العالم شرائعهم التي هي مبادي الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية ولم يقل التي باركناها للمبالغة بجعلها بالبركة وقيل : المراد بالبركات النعم الدنيوية من الخصب وغيره والأول أظهر وأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام روي أنه عليه السلام خرج من العراق ومعه لوط وسارة بنت عمه هاران الأكبر وقد كانا مؤمنين به عليه السلام يلتمس الفرار بدينه فنزل حران فمكث بها ما شاء الله تعالى وزعم بعضهم أن سارة بنت ملك حران تزوجها عليه السلام هناك وشرط أبوها أن لا يغيرها عن دينها والصحيح الأول ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب وفي الآية من مدح الشام ما فيها وفي الحديث ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الرض ألزمهم مهاجر إبراهيم أخرجه أبو داود
(17/70)

وعن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم طوبى لأهل الشام فقلت : وما ذاك يا رسول الله قال : لأن الملائكة عليهم السلام باسطة أجنحتها عليها أخرجه الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وأما العراق فقد ذكر الغزالي عليه الرحمة في باب المحنة من الأحياء اتفاق جماعة من العلماء على ذمه وكراهة سكناه واستحباب الفرار منه ولعل وجه ذلك غني عن البيان فلا ننقب فيه البنان
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة أي عطية كما روي عن مجاهد وعطاء من نفله بمعنى أعطاه وهو على ما اختاره أبو حيان كالعاقبة والعافية منصوبا بوهبنا على حد قعدت جلوسا واختار جمع كونه حالا من إسحاق ويعقوب أو ولد ولد أو زيادة على ما سأل عليه السلام وهو إسحاق فيكون حالا من يعقوب ولا لبس فيه للقرينة الظاهرة وكلا من المذكورين وهم إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب عليهم السلام لا بعضهم دون بعض جعلنا صالحين
72
- بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين وجعلناهم أئمة يقتدى بهم في أمور الدين يهدون أي الأمة إلى الحق بأمرنا لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين وأوحينا إليهم فعل الخيرات ليتم الكمال بانضمام العمل إلى العلم وأصله على ما ذهب إليه الزمخشري ومن تابعه أن يفعل الخيرات ببناء الفعل لما لم يسم فاعله ورفع الخيرات على النيابة عن الفاعل ثم فعلا الخيرات بتنوين المصدر ورفع الخيرات أيضا على أنه نائب الفاعل لمصدر المجهول ثم فعل الخيرات بحذف التنوين وإضافة المصدر لمعموله القائم مقام فاعله والداعي لذلك كما قيل أن فعل الخيرات بالمعنى المصدري ليس موحي إنما الموحي أن يفعل ومصدر المبني للمفعول والحاصل بالمصدر كالمترادفين وأيضا الوحي عام للأنبياء المذكورين عليهم السلام وأممهم فلذا بني للمجهول
وتعقب ذلك أبو حيان بأن المصدر لما لم يسم فاعله مختلف فيه فأجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه وما ذكر من عموم الوحي لا يوجب ذلك هنا إذ يجوز أن يكون المصدر مبنيا للفاعل ومضافا من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم أي فعل المكلفين الخيرات ويجوز أن يكون مضافا إلى الموحي إليهم إلى أن يفعلوا الخيرات وإذا كانوا قد أوحي إليهم ذلك فاتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به انتهى وانتصر للزمخشري بأن ما ذكره بيان لأمر مقرر في النحو والداعي إليه أمران ثانيهما ما ذكر من عموم الموحي الذي اعترض عليه والأول سالم عن الإعتراض ذكر أكثر ذلك الخفاجي ثم قال : الظاهر أن المصدر هنا للأمر كضرب الرقاب وحينئذ فالظاهر أن الخطاب للأنبياء عليهم السلام فيكون الموحي قول الله تعالى افعلوا الخيرات وكان ذلك لأن الوحي مما فيه معنى القول كما قالوا فيتعلق به لا بالفعل إلا أنه قيل يرد عليه ما أشير أولا إليه من أن ما ذكر ليس من الأحكام المختصة بالأنبياء عليهم السلام ولا يخفى أن الأمر فيه سهل وجوز أن يكون المراد شرعنا لهم فعل ذلك بالإيحاء إليهم فتأمل والكلام في قوله تعالى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة على هذا الطرز وهو كما قال غير واحد من عطف الخاص على العام دلالة على فضله وإنافته وأصل إقام أقوام فقلبت واوه ألفا بعد نقل حركتها لما قبلها وحذف إحدى ألفيه لالتقاء الساكنين والأكثر تعويض التاء إليه سيبويه والسماع ويشهد له وإما بشرط الإضافة ليكون المضاف سادا مسدها كما ذهب إليه الفراء وهو كما قال أبو حيان مذهب مرجوح والذي حسن الحذف هنا المشاكلة والآية ظاهرة في أنه كان في الأمم السالفة صلاة وزكاة وهو مما تضافرت عليه النصوص إلا أنهما ليسا كالصلاة والزكاة المفروضتين على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وكانوا لنا خاصة دون غيرنا عابدين
73
- لا يخطر ببالهم غير عبادتنا كأنه تعالى أشار بذلك إلى أنهم وفوا بعهد العبودية بعد أن أشار إلى أنه سبحانه وفى لهم بعهد الربوبية ولوطا قيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى آتيناه أي وآتينا لوطا آتيناه والجملة عطف على وهبنا له جمع سبحانه إبراهيم ولوطا في قوله تعالى ونجيناه ولوطا ثم بين ما أنعم به على كل منهما بالخصوص وما وقع في البين بيان على وجه العموم والطبرسي جعل المراد من قوله تعالى : وكلا الخ أي كلا من إبراهيم وولديه إسحاق ويعقوب جعلنا الخ فلا اندراج للوط عليه السلام هناك وله وجه وأما كون المراد وكلا من إسحاق ويعقوب فلا وجه له ويحتاج إلى تكليف توجيه الجمع فيما بعده وقيل باذكر مقدارا وجملة آتيناه مستأنفة حكما أي حكمة والمراد بها ما يجب فعله أو نبوة فإن النبي حاكم على أمته أو الفصل بين الخصوم في القضاء وقيل حفظ صحف إبراهيم عليه السلام وفيه بعد وعلما بما ينبغي علمه للأنبياء عليهم السلام ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث قيل أي اللواطة والجمع باعتبار تعدد المواد وقيل المراد الأعمال الخبيثة مطلقا إلا أن أشنعها اللواطة فقد أخرج إسحاق بن بشير والخطيب وابن عساكر عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عشر خصال عملتها قوم لوط بها أهلكوا إتيان الرجال بعضهم بعضها ورميهم بالجلاهق والجدف ولعبهم بالحمام وضرب الدفوف وشرب الخمور وقص اللحية وطول الشارب والصفر والتصفيق ولباس الحرير وتزيدها أمتي بخلة إتيان النساء بعضهن بعضا
وأسند ذلك إلى القرية على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فالنعت سببي نحو جاءني رجل زنى غلامه ولو جعل الإسناد مجازيا بدون تقدير أو القرية مجازا عن أهلها جاز واسم القرية سدوم وقيل كانت قراهم سبعا فعبر عنها ببعضها لأنها أشهرها وفي البحر أنه عبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة ويروى أنها كانت قلبت الأزغر لأنها كانت محل من آمن بلوط عليه السلام والمشهور قلب الجميع
إنهم كانوا قوم سوء فاسقين
74
- أي خارجين عن الطاعة غير منقادين للوط عليه السلام والجملة تعليل لتعمل الخبائب وقيل : لنجيناه وهو كما ترى وأدخلناه في رحمتنا أي في أهل رحمتنا أي جعلناه في جملتهم وعدادهم فالظرفية مجازية أو في جنتنا فالظرفية حقيقية والرحمة مجاز كما في حديث الصحيحين قال الله عز و جل للجنة : أنت رحمتي أرحم أرحم بك من أشاء من عبادي ويجوز أن تكون الرحمة مجازا عن النبوة تكون الظرفية مجازية أيضا فتأمل إنه من الصالحين
75
- الذين سبقت لهم منا الحسنى والجملة تعليل لما قبلها
ونوحا أي واذكر نوحا أي نبأه عليه السلام وزعم ابن عطية أن نوحا عطف على لوطا المفعول لآتينا على معنى وآتينا نوحا ولم يستبعد ذلك أبو حيان وليس بشيء قيل ولما ذكر سبحانه قصة إبراهيم عليه السلام وهو أبو العرب أردفها جل شأنه بقصة أبي البشر وهو الأب الثاني كما أن آدم عليه السلام الأب الأول بناء على المشهور من
(17/71)

أن جميع الناس الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام وهو ابن لمك ابن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس فيما يقال وهو أطول الأنبياء عليهم السلام على ما في التهذيب عمرا وذكر الحاكم في المستدرك أن اسمه عبد الغفار وأنه قيل له نوح لكثرة بكائه على نفسه وقال الجواليقي : إن لفظ نوح أعجمي معرب زاد الكرماني ومعناه بالسريانية الساكن إذ نادى أي دعا الله تعالى بقوله إني مغلوب فانتصر وقوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وإذا ظرف للمضاف تامقدر كما أشرنا إليه ومن لم يقدر يجعله بدل اشتمال من نوح
من قبل أي من قبل هؤلاء المذكورين وذكرنا قبل قولا آخر فاستجبنا له دعاءه فنجيناه وأهله من الكرب العظيم
76
- وهو الطوفان أو أذية قومه وأصل الكرب الغم الشديد وكأنه على ما قيل من كرب الأرض وهو قبلها بالحفر إذ الغم يثير النفس إثارة ذلك أو من كربت الشمس إذا دنت للمغيب فإن الغم الشديد تكاد شمس الروح تغرب منه أو من الكرب وهو عقد غليظ في رشاء الدلو فإن الغم كعقدة على القلب وفي وصفه بالعظيم تأكيد لما يدل هو عليه ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا أي منعناه وحميناه منهم بإهلاكهم وتخليصه وقيل : أي نصرناه عليهم فمن بمعنى على وقال بعضهم : إن النصر يتعدى بعلى ومن ففي الأساس نصره الله تعالى على عدوه ونصره من عدوه وفرق بينهما بأن المتعدي بعلى يدل على مجرد الإعانة والمتعدي بمن يدل على استتباع ذلك للإنتقام من العدو والإنتصار أنهم كانوا قوم سوء منهمكين في الشر والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعد من قوله تعالى فأغرقناهم أجمعين
77
- فإن تكذيب الحق والإنهماك في الشر مما يترتب عليه الإهلاك قطعا في الأمم السابقة ونصب أجمعين قيل على الحالية من الضمير المنصوب وهو كما ترى وقال أبو حيان : على أنه تأكيد له وقد كثر التأكيد بأجمعين غير تابع لكل في القرآن فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد به كذلك قليل والكثير استعماله تابعا لكل انتهى
وداود وسليمان إما عطف على نوحا معمول لعامله أعني أذكر عليه على ما زعم ابن عطية وإما مفعول لمضمر معطوف على ذلك العامل بتقدير المضاف أي نبأ داود وسليمان وداود بن إيشا بن عوبر بن باعر بن سلمون ابن يخشون بن عمي بن يارب بن حضرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام كان كما روي عن كعب أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت وجمع له بين النبوة والملك ونقل النووي عن أهل التاريخ أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون وكان له اثنا عشر ابنا وسليمان عليه السلام أحد أبنائه وكان عليه السلام يشاور في كثير من أموره مع صغر سنه لوفور عقله وعلمه
وذكر كعب أنه كان أبيض جسيما وسيما وضيئا خاشعا متواضعا وملك كما قال المؤرخون وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وله ثلاث وخمسون سنة وقوله تعالى : إذ يحكمان ظرف لذلك المقدر وجوزت البدلية على طرز ما مر والمراد إذ حكما في الحرث إلا أنه جيء بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها والمراد بالحرث هنا الزرع
(17/73)

وأخرج جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه الكرم وقيل : إنه يقال فيهما إلا أنه في الزرع أكثر وقال الخفاجي : لعله بمعنى الكرم مجاز على التشبيه بالزرع والمعنى إذ يحكمان في حق الحرث إذ نفشت ظرف للحكم والنفش رعي الماشية في الليل بغير راع كما أن الهمل رعيها في النهار كذلك وكان أصله الإنتشار والتفرق أي إذ تفرقت وانتشرت فيه غنم القوم ليلا بلا راع فرعته وأفسدته وكنا لحكمهم شاهدين
78
- أي حاضرين علما وضمير الجمع قيل : لدواود وسليمان ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لحكمهما بضمير التثنية واستدل بذلك من قال : إن أقل الجمع اثنان وجوز أن يكون الجمع للتعظيم كما في رب ارجعون
وقيل : هو للحاكمين والمتحاكمين واعترض بأن إضافة حكم إلى الفاعل على سبيل القيام وإلى المفعول على سبيل الوقوع وهما في المعنى معمولان له فكيف يصح سلكهما في قرن وأجيب بأن الحكم في معنى القضية لا نظر ههنا إلى علمه وإنما ينظر إليه إذا كان مصدرا صرفا وأظهر منه كما في الكشف أن الإختصاص يجمع القيام والوقوع وهو معنى الإضافة ولم يبق النظر إلى العمل بعدها لا لفظا ولا معنى وكنا للحكم الواقع بينهم شاهدين والجملة اعتراض مقرر للحكم وقد يقال : إنه مادح له كأنه قيل : وكنا مراقبين لحكمهم لا نقرهم على خلل فيه وهذا على طريقة قوله تعالى : فإنك بأعيننا في إفادة العناية والحفظ وقوله تعالى : ففهمناها سليمان عطف على يحكمان فإنه في حكم الماضي كما مضى
وقرأ عكرمة فافهمناها بهمزة التعدية والضمير للحكومة أو الفتيا المفهومة من السياق روي أنه كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل وكانت قد تبتلت وكان لها جاريتان جميلتان فقالت أحدهما للأخرى : قد طال علينا البلاء أما هذه فلا تريد الرجال ولا نزال بشر ما كنا لها فلو أنا فضحناها فرجمت فصرنا إلى الرجال فأخذا ماء البيض فأتياها وهي ساجدة فكشفتا عنها ثوبها ونضحتاه في دبرها وصرختا أنها قد بغت وكان من زنى فيهم حده الرجم فرفعت إلى داود وماء البيض في ثيابيها فأراد رجمها فقال سليمان : ائتوا بنار فإنه إن كان ماء الرجل تفرق وإن كان ماء البيض اجتمع فأتي بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الرجم فعطف عليه داود عليه السلام فأحبه جدا فاتفق أن دخل على داود عليه السلام رجلان فقال أحدهما : إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلا فأفسدته فقضى له بالغنم فخرجا فمرا على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم فقال : كيف قضى بينكما أبي فأخبراه فقال : غير هذا أرفق بالجانبين فسمعه داود عليه السلام فدعاه فقال له : بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان ثم يترادا فقال : القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة ومال كثير إلى أن حكمهما عليهما السلام كان بالإجتهاد وهو جائز على الأنبياء عليهم السلام كما صرح في الأصل وبذلك أقول فإن قول سليمان عليه السلام غير هذا أرفق ثم قوله : أرى أن تدفع الخ صريح في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهره بداء وحرم عليه كتمه مع أن الظاهر أنه عليه السلام لم يكن نبيا في ذلك السن ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضا كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالإجتهاد وفي الكشف أن القول بأن كلام الحكمين عن إجتهاد باطل لأن حكم سلميان نقض حكم داود عليهم السلام والإجتهاد
(17/74)

لا ينقض بالإجتهاد البتة فدل على أنهما جميعا حكما بالوحي ويكون ما أوحي به لسليمان عليه السلام ناسخا لحكم داود عليه السلام أو كان حكم سليمان وحده بالوحي وقوله تعالى ففهمناها لا يدل على أن ذلك اجتهاد
وتعقب بأنه إن أراد نقض الإجتهاد بالإجتهاد عدم نقضه باجتهاد غيره حتى يلزم تقليده به فليس ما نحن فيه وإن أراد عدم نقضه باجتهاد نفسه ثانيا وهو عبارة عن تغير اجتهاده لظهور دليل آخر فهو غير باطل بدليل أن المجتهد قد ينقل عنه مسئلة قولان كمذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه القديم والجديد ورجوع كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى آراء بعضهم وهم مجتهدون وقيل : يجوز أن يكون أوحى إلى داود عليه السلام أن يرجع عن اجتهاده ويقضي بما قضى به سليمان عليه السلام عن اجتهاد وقيل : إن عدم نقض الإجتهاد بالإجتهاد من خصائص شريعتنا على أنه ورد في بعض الأخبار أن داود عليه السلام لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان عليه السلام ما سمع وممن اختار كون كلا الحكمين عن اجتهاد شيخ الإسلام مولانا أبو السعود قدس سره ثم قال : بل أقول والله تعالى أعلم : إن رأى سليمان عليه السلام استحسان كما ينبيء عنه قوله : أرفق بالجانبين ورأى داود عليه السلام قياس كما أن العبد إذا جني على النفس يدفعه المولى عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى المجني عليه أو يفيده ويبيعه في ذلك أو يفديه عند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه
وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت وأما سليمان عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الإنتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الإنتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك من الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزول الضرر الذي آتاه من قبله كما قال بعض أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا فأبق منه إنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من المنافع فإذا ظهر الآبق ترادا انتهى
وأما حكم المسئلة في شريعتنا فعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لا ضمان إذا لم يكن معها سائق أو قائد لما روى الشيخان من قوله صلى الله عليه و سلم جرح العجماء جبار ولا تقييد فيه بليل أو نهار وعند الشافعي يجب الضمان ليلا لا نهارا لما في السنن من أن ناقة البراء دخلت حائط رجل فأفسدته فقضي رسول الله صلى الله عليه و سلم على أهل الأموال بحفظها بالنهار وعلى أهل المواشي بحفظها بالليل
وأجيب بأن في الحديث اضطرابا وفي رجال سنده كلاما مع أنه يجوز أن يكون البراء أرسلها كما يجوز في هذه القصة أن يكون كذلك فلا دليل فيه وكلا من داود وسليمان آتينا ه حكما وعلما كثيرا ومنه العلم بطريق الإجتهاد لا سليمان عليه السلام وحده فالجملة لدفع هذا التوهم وفيها دلالة على أن خطأ المجتهد لا يقدح في كونه مجتهدا وقيل : إن الآية دليل على أن كل مجتهد في مسئلة لا قاطع فيها مصيب فحكم الله تعالى في حقه وحق مقلده ما أدى إليه اجتهاده فيها ولا حكم له سبحانه قبل الإجتهاد وهو قول جمهور المتكلمين منا كالأشعري والقاضي ومن المعتزلة كأبي الهذيل والجبائي وأتباعهم ونقل عن الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم القول بتصويب كل مجتهد والقول بوحده الحق وتخطئة البعض وعد في الأحكام الأشعري ممن يقول كذلك ورد بأن الله تعالى خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة بقوله سبحانه ففهمناها سليمان
(17/75)

وذلك يدل على عدم فهم داود عليه السلام ذلك فيها وإلا لما كان التخصيص مفيدا وتعقبه الآمدي بقوله : ولقائل أن يقول : إن غاية ما في قوله تعالى ففهمناها سليمان تخصيصه عليه السلام بالتفهيم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود عليه السلام إلا بطريق المفهوم وليس بحجة وإن سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكما بالنص حكما واحدا ثم نسخ الله تعالى الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود عليهم السلام فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه والذي يدل على هذا قوله تعالى وكلا آتينا حكما وعلما ولو كان أحدهما مخطئا لما كان قد أوتي في تلك الواقعة حكما وعلما وأن سلمنا أن حكمهما كان مختلفا لكن يحتمل أنهما حكما بالإجتهاد مع الأذن فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان عليه السلام فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان عليه السلام بسبب ذلك وإن سلمنا أن داود عليه السلام كان مخطئا في تلك الواقعة غير أنه كان فيها نص أطلع عليه سليمان دون داود ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالإجتهاد وليس في الواقعة نص انتهى
وأكثر الأخبار تساعد أن الذي ظفر بحكم الله تعالى في هذه الواقعة هو سليمان عليه السلام وما ذكر لا يخلو مما فيه نظر فانظر وتأمل وسخرنا مع داود الجبال شروع في بيان ما يختص بكل منهما عليهما السلام من كراماته تعالى أثر ذكر الكرامة العامة لهما عليهما السلام يسبحن يقدسن الله تعالى بلسان القال كما سبح الحصا في كف رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمعه الناس وكان عند الأكثرين يقول : سبحان الله تعالى وكان داود عليه السلام وحده يسمعه على ما قاله يحيى بن سلام وقيل : يسمعه كل أحد وقيل : بصوت يظهر له من جانبها وليس منها وهو خلاف الظاهر وليس فيه من إظهار الكرامة ما في الأول بل إذا كان هذا هو الصدأ فليس بشيء أصلا ودونه ما قيل إن ذلك بلسان الحال وقيل : يسبحن بمعنى يسرن من السباحة وتعقب بمخالفته للظاهر مع أن هذا المعنى لم يذكره أهل اللغة ولا جاء في آية أخرى أو خبر سير الجبال معه عليه السلام
وقيل : إسناد التسبيح إليهن مجاز لأنها كانت تسير معه فتحمل من رآها على التسبيح فأسند إليها وهو كما ترى
وتأول الجبائي وعلي بن عيسى جعل التسبيح بمعنى السير بأنه مجاز لأن السير سبب له فلا حاجة إلى القول بأنه من السباحة ومع هذا لا يخفى ما فيه والجملة في موضع الحال من الجبال أو استئناف مبين لكيفية التسخير و مع متعلقة بالتسخير وقال أبو البقاء : يسبحن وهو نظير قوله تعالى يا جبال أوبي معه والتقديم للتخصيص ويعلم منه ما في حمل التسبيح على التسبيح بلسان الحال وعلى ما يكون بالصدا والطير عطف على الجبال أو مفعول معه وفي الآثار تصريح بأنها كانت تسبح معه عليه السلام كالجبال وقريء والطير بالرفع على الإبتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات وقيل : على العطف على الضمير في يسبحن ومثله جائز عند الكوفيين وقوله تعالى وكنا فاعلين
79
- تذييل لما قبله أي من شأننا أن نفعل أمثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعا عندكم وعلمناه صنعة لبوس أي عمل الدرع وأصله كل ما يلبس وأنشد ابن السكيت : ألبس الكل حالة لبوسها أما نعيمها وأما بوسها وقيل : هو اسم للسلاح كله درعا كان أو غيره واختاره الطبرسي وأنشد للهذلي يصف رمحا :
(17/76)

ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة ذي نعاج محمل قال قتادة كانت الدروع قبل ذلك صفائح فأول من سردها وحلقها داود عليه السلام فجمعت الخفة والتحصين ويروى أنه نزل ملكان من السماء فمرا به عليه السلام فقال أحدهما للآخر : نعم الرجل داود إلا أنه يأكل من بيت المال فسأل الله تعالى أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدرع وقريء لبوس بضم اللام لكم متعلق بمحذوف وقع صفة للبوس وجوز أبو البقاء تعلقه بعلمنا أو بصنعة
وقوله تعالى لتحصنكم متعلق بعلمنا أو بدل اشتمال من لكم بإعادة الجار مبين لكيفية الإختصاص والمنفعة المستفادة من لام لكم والضمير المستتر للبوس والتأنيث بتأويل الدرع وهي مؤنث سماعي أو للصنعة
وقرأ جماعة ليحصنكم بالياء التحتية على أن الضمير للبوس أو لداود عليه السلام قيل أو التعليم وجوز أن يكون لله تعالى على سبيل الإلتفات وأيد بقراءة أبي بكر عن عاصم لنحصنكم بالنون وكل هذه القراءات بإسكان الحاء والتخفيف وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء التحتية وفتح الحاء وتشديد الصاد وابن وثاب والأعمش بالتاء الفوقية والتشديد من بأسكم قيل أي من حرب عدوكم والمراد مما يقع فيها وقيل الكلام على تقدير مضاف أي من آلة بأسكم كالسيف فهل أنتم شاكرون
80
- أمر وارد صورة الإستفهام لما فيه من التقريع بالإيماء إلى التقصير في الشكر والمبالغة بدلالته على أن الشكر مستحق الوقوع بدون أمر فسأل عنه هل وقع ذلك الأمر اللازم الوقوع أم لا ولسليمان الريح أي وسخرنا له الريح وجيء باللام هنا دون الأول للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت فإن تسخير ما سخر له عليه السلام كان بطريق الإنقياد الكلي له والإمتثال بأمره ونهيه بخلاف تسخير الجبال والطير لدواود عليه السلام فإنه كان بطريق التبعية والإقتداء به عليه السلام في عبادة الله عز و جل عاصفة حال من الريح والعامل فيها الفعل المقدر أي وسخرنا له الريح حال كونها شديدة الهبوب ولا ينافي وصفها بذلك هنا وصفها في موضع آخر بإنها رخاء بمعنى طيبة لينة لأن الرخاء وصف لها باعتبار نفسها والعصف وصف لها باعتبار قطعها المسافة البعيدة في زمان يسير كالعاصفة في نفسها فهي مع كونها لينة تفعل فعل العاصفة
ويجوز أن يكون وصفها بكل من الوصفين بالنسبة إلى الوقت الذي يريده سليمان عليه السلام فيه وقيل وصفها بالرخاء في الذهاب ووصفها بالعصف بالإياب على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن فهي عاصفة في وقت رخاء فيء أخر وقرأ ابن هرمز وأبو بكر في رواية الريح بالرفع مع الإفراد
وقرأ الحسن وأبو رجاء الرياح بالنصب والجمع وأبو حيوة بالرفع والجمع ووجه النصب ظاهر وأما الرفع فعلى أن المرفوع مبتدأ والخبر هو الظرف المقدم و عاصفة حال من ضمير المبتدأ في الخبر والعامل ما فيه من معنى الإستقرار تجري بأمره أي بمشيئته وعلى وفق إرادته وهو استعمال شائع ويجوز أن يأمرها حقيقة ويخلق الله تعالى لها فهما لأمره كما قيل في مجيء الشجر للنبي صلى الله عليه و سلم حين دعاها والجملة إما حال ثانية أو بدل من الأولى على ما قيل وقد مر لك غير بعيد الكلام في إبدال الجملة من المفرد فتذكر أو حال من ضمير الأولى إلى الأرض التي باركنا فيها وهي
(17/77)

الشام كما أخرج ابن عساكر عن السدي وكان عليه السلام مسكنه فيها فالمراد أنها تجري بأمره إلى الشام رواحا بعد ما سارت به منها بكرة ولشيوع كونه عليه السلام ساكنا في تلم الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها واقتصر على ذكر جريانها إليها وهو أظهر في الإمتنان وقيل كان مسكنه اصطخر وكان عليه السلام يركب الريح منها فتجري بأمره إلى الشام
وقيل : يحتمل أن تكون الأرض أعم من الشام ووصفها بالبركة لأنه عليه السلام إذا حل أرضا أمر بقتل كفارها وإثبات الإيمان فيها وبث العدل ولا بركة أعظم من ذلك ويبعد أن المتبادر كون تلك الأرض مباركا فيها قبل الوصول إليها وما ذكر يقتضي أن تكون مباركا فيها من بعد وأبعد جدا منذر بن سعيد بقوله إن الكلام قد تم عند قوله تعالى : إلى الأرض والتي باركنا فيها صفة للريح وفي الآية تقديم وتأخير والأصل ولسليمان الريح التي باركنا فيها عاصفة تجري بأمره بل لا يخفى أنه لا ينبغي أن يحمل كلام الله تعالى العزيز على مثل ذلك وكلام أدنى البلغاء يجل عنه ثم الظاهر أن المراد بالريح هذا العنصر المعروف العام لجميع أصنافه المشهورة وقيل : المراد بها الصبا
وفي بعض الأخبار ما ظاهره ذلك فعن مقاتل أنه قال نسجت لسليمان عليه السلام الشياطين بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ووضعت له منبرا من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء عليهم السلام وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء وحولهم سائر الناس وحول الناس الجن والشياطين والطير تظله من الشمس وترتع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح
وما ذكر من أنه يحمل على البساط هو المشهور ولعل ذلك في بعض الأوقات وإلا فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال كان لسليمان عليه السلام مركب من خشب وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به فساروا معه فلا يدري القوم إلا وقد أظلهم منه الجيوش والجنود وقيل في وجه الجمع : إن البساط في المركب المذكور وليس بذاك
وذكر عن الحسن أن إكران الله تعالى لسليمان عليه السلام بتسخير الريح لما فعل بالخيل حين فاتته بسببها صلاة العصر وذلك أنه تركها لله تعالى فعوضه الله سبحانه خيرا منها من حيث السرعة مع الراحة ومن العجب أن أهل لندن قد اتبعوا أنفسهم منذ زمان يعمل سفينة تجري مرتفعة في الهواء إلى حيث شاؤا بواسطة أبخرة يحبسونها فيها اغترارا بما ظهر منذ سنوات من عمل سفينة تجري في الماء بواسطة آلات تحركها ابخرة فيها فلم يتم لهم ذلك ولا أظنه يتم حسب إرادتهم على الوجه الأكمل وأخبرني بعض المطلعين أنهم صنعوا سفينة تجري في الهواء لكن لا إلى حيث شاؤا بل إلى حيث ألقت رحلها وكنا بكل شيء عالمين
81
- فما أعطيناه ما أعطينا إلا لما نعلمه من الحكمة ومن الشياطين أي وسخرنا له من الشياطين من يغوصون له فمن هذا موضع نصب لسخرنا وجوز أن تكون في موضع رفع على الإبتداء وخبره ما قبله وهي على الوجهين على ما استظهره أبو حيان موصوله وعلى ما اختاره جمع نكرة موصوفة ووجه اختيار ذلك على الموصولية أنه لا عهد هنا وكون الموصول قد يكون للعهد الذهني خلاف الظاهر وجيء بضمير الجمع نظرا للمعنى وحسنه تقدم جمع
(17/78)

قبله والغوص والدخول تحت الماء وإخراج شيء منه ولما كان الغائص يغوص لنفسه ولغيره قيل له للإيذان بأن الغوص ليس لأنفسهم بل لأجله عليه السلام وقد كان عليه السلام يأمرهم فيغوصون في البحار ويستخرجون له من نفائسه وبعملون له عملا كثيرا دون ذلك أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة لقوله تعالى يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل الآية قيل : إن الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من أعمالهم وذكر ذلك الإمام الرازي في التفسير لكن في كون الصابون من أعمالهم خلافا ففي التذكرة الصابون من الصناعة القديمة قيل وجد في كتب هرمس وأندوخيا وهو الأظهر وقيل : من صناعة بقراط وجالينوس انتهى وقيل هو من صناعة الفارابي وأول ما صنعه في دمشق الشام ولا يصح ذلك وما اشتهر أن أول من صنعه البوني فمن كذب العوام وخرافاتهم ثم هؤلاء إما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة من كأنه قيل : ومن يعملون والشياطين أجسام نارية عاقلة وحصول القدرة على الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف غير مستبعد فإن ذلك نظير قلع الهواء الأجسام الثقيلة إنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان عليه السلام فلما توفى ردهم إلى خلقتهم الأولى لئلا يفضي إبقاؤهم إلى تلبيس المتنبي وهو كلام ساقط على درجة القبول كما لا يخفى
والظاهر أن المسخرين كانوا كفارا لأن لفظ الشياطين أمثر إطلاقا عليهم وجاء التنصيص عليه في بعض الروايات ويؤيده قوله تعالى وكنا لهم حافظين
82
- أي من أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا وقال الزجاج : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوه بالنهار وقيل حافظين لهم من أن يهيجوا أحدا والأنسب بالتذييل ما تقدم وذكر في حفظهم أنه وكل بهم جمعا من الملائكة عليهم السلام وجمعا من مؤمني الجن هذا وفي قصتي داود وسليمان عليهما السلام ما يدل على عظم قدرة الله تعالى
قال الإمام : وتسخير أكثف الأجسام لداود عليه السلام وهو الحجر إذ أنطقه الله تعالى بالتسبيح والحديد إذ لانه سبحانه له وتسخير ألطف الأجسام لسليمان عليه السلام وهو الريح والشياطين وهم من نار وكانوا يغوصون في الماء فلا يضرهم دليل واضح على باهر قدرته سبحانه وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم وجعل التراب اليابس حيوانا فإذا أخبر الصادق بوقوعه وجب قبوله واعتقاده وأيوب الكلام فيه كما مر في قوله تعالى وداود وسليمان إذ نادى ربه أني أي بأني مسني الضر وقرأ عيسى بن عمر بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين أي قائلا إني ومذهب الكوفيين إجراء نادى مجرى قال والضر بالفتح شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما وأنت أرحم الراحمين
83
- أي وأنت أعظم رحمة من كل من يتصف بالرحمة في الجملة وإلا فلا راحم في الحقيقة سواه جل شأنه وعلاه ولا يخفى ما في وصفه تعالى بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها مكتفيا بذلك عن عرض الطلب من استمطار سحائب الرحمة على ألف وجه
ويحكى في التلطف في الطلب أن امرأة شكت إلى بعض ولد سعد بن عبادة قلة الفار في بيتها فقال : املؤا بيتها خبزا وسمنا ولحما وهو عليه السلام على ما قال ابن جرير : ابن أموص بن رزاح بن عيص بن إسحاق وحكى ابن عساكر
(17/79)

أن أمه بنت لوط عليه السلام وأن أباه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام فعلى هذا كان قبل موسى عليه السلام وقال ابن جرير : كان بعد شعيب عليه السلام وقال ابن أبي خبثمة كان بعد سليمان عليه السلام
وأخرج ابن سعد عن الكلبي قال أول نبي بعث أدريس ثم إبراهيم ثم إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ثم موسى وهارون ثم إلياس ثم اليسع ثم يونس ثم أيوب عليهم السلام وقال ابن إسحاق : الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء إلا أن اسم أبيه أموص
وكان عليه السلام على ما أخرج الحاكم من طريق سمرة عن كعب طويلا جعد الشعر واسع العينين حسن الخلق قصر العنق عريض الصدر غليظ الساقين والساعدين وكان قد اصطفاه الله تعالى وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله فكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده بهدم بيت عليهم وبذهاب أمواله وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعا وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات أو ثلاث سنين وعمره إذ ذاك سبعون سنة وقيل ثمانون سنة وقيل أكثر ومدة عمره على ما روى الطبراني ثلاث وتسعون سنة وقيل أكثر روى أن امرأته وكونها ماضر بنت ميشا بن يوسف عليه السلام أو رحمة بنت إفراثيم بن يوسف إنما يتسنى على بعض الروايات السابقة في زمانه عليه السلام قالت له يوما : لو دعوت الله تعالى فقال : كم كانت مدة الرخاء فذكرت مدة كثيرة وفي بعض الروايات ثمانين سنة فقال عليه السلام : أستحي من الله تعالى أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي وروي أن إبليس عليه اللعنة أتاها على هيئة عظيمة فقال لها : أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبد إله السماء فلو سجد لي سجدة رددت عليه وعليك جميع ما أخذت منكما
وفي رواية لو سجدت لي سجدة لرددت المال والولد وعافيت زوجك فرجعت ألى أيوب عليه السلام وكان ملقى في الكناسة ببيت المقدس لا يقرب منه أحد فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام : لعلك افتتنت بقول اللعين لئن عافاني الله عز و جل لأضربنك مائة سوط وحرام علي أن أذوق بعد هذا من طعامك وشرابك شيئا فطردها فبقي طريحا في الكناسة لا يحوم حوله أحد من الناس فعند ذلك خر ساجدا فقال رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه عليه السلام قال ذلك حين مر به رجلان فقال أحدهما لصاحبه : لو كان لله تعالى في هذا حاجة ما بلغ به هذا كله فسمع عليه السلام فشق عليه فقال رب الخ وروي أنس مرفوعا أنه عليه السلام نهض مرة ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال رب الخ وقيل غير ذلك ولعل هذا الأخير أمثل الأقوال وكان عليه السلام برؤه في بدنه في غاية الشدة فقد أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه قال كان يخرج في بدنه مثل ثدي النساء ثم يتفقأ وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال : ما كان بقي من أيوب عليه السلام إلا عيناه وقلبه ولسانه فكانت الدواب تختلف في جسده وأخرج أبو نعيم وابن عساكر عنه أن الدودة لتقع من جسد أيوب عليه السلام فيعيدها إلى مكانها ويقول : كلي من رزق الله تعالى وما أصاب منه إبليس في مرضه كما أخرج البيهقي في الشعب إلا الأنين وسبب ابتلائه على ما أخرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه استعان به مسكين على درء ظلم عنه فلم يعنه
(17/80)

وأخرج ابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني في ذلك أن الشام أجدب فكتب فرعون إليه عليه السلام أن هلم إلينا فإن لك عندنا سعة فأقبل فأطعمه أرضا فاتفق أن دخل شعيب على فرعون وأيوب عليه السلام عنده فقال : أما تخاف أن يغضب الله تعالى غضبة فيغضب لغضبه أهل السماوات والأرض والجبال والبحار فسكت أيوب فلما خرجا من عنده أوحى الله تعالى إلى أيوب أوسكت عن فرعون لذهابك إلى أرضه استعد للبلاء قال : فديني قال سبحانه : أسلمه لك قال : لا أبالي والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار ثم أنه عليه السلام لما سجد فقال ذلك قيل له : ارفع رأسك فقد استجيب لك اركض برجلك فركض فنبعت من تحته عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت ولا جراحة إلا برئت ثم ركض امرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وعاد صحيحا ورجع إليه شبابه وجماله وذلك قوله تعالى : فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر ثم كسى حلة وجلس على مكان مشرف ولم تعلم امرأته بذلك فأدركتها الرقة عليه فقالت في نفسها : هب إنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا وتأكله السباع لأرجعن فلما رجعت ما رأت تلك الكنسة ولا تلك الحال فجعلت تطوف حيث الكناسة وتبكي وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأله فدعاها أيوب عليه السلام فقال : ما تريدين يا أمة الله فبكت وقالت : أريد ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة قال لها : ما كان منك فبكت وقالت : بعلي قال : أتعرفينه إذا رأيته قالت : وهل يخفى علي فتبسم فقال : أنا ذلك فعرفته بضحكه فاعتنقته وآتيناه أهله ومثلهم معهم الظاهر أنه عطف على كشفنا فيلزم أن يكون داخلا معه في حيز تفصيل استجابة الدعاء وفيه خفاء لعدم ظهور كون الإتيان المذكور مدعوا به وإذا عطف على استجبنا لا يلزم ذلك وقد سئل عليه الصلاة و السلام عن هذه الآية أخرج ابن مردوية وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى وآتيناه الخ قال : رد الله تعالى امرأته إليه وزاد في شبابها حتى ولدت له ستا وعشرين ذكرا فالمعنى على هذا آتيناه في الدنيا مثل أهله مع زيادة مثل آخر وقال ابن مسعود والحسن وقتادة في الآية : إن الله تعالى أحي له أولاده الذين هلكوا في بلائه وأوتي مثلهم في الدنيا والظاهر أن المثل من صلبه عليه السلام أيضا وقيل : كانوا نوافل وجاء في خبر أنه عليه السلام كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فأفرغت إحداهما في أندر القمح الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : بينما أيوب عليه السلام يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه السلام يحثي في ثوبه فناداه ربه سبحانه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال : بلى وعزتك لكن لا غنى بي عن بركتك وعاش عليه السلام بعد الخلاص من البلاء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سبعين سنة ويظهر من هذا مع القول بأن عمره حين أصابه البلاء سبعون أن مدة عمره فوق ثلاث وتسعين بكثير ولما مات عليه السلام أوصى إلى ابنه حرمل كما روي عن وهب والآية ظاهرة في أن الأهل ليس المرأة رحمة من عندنا وذكرى للعابدين
84
- أي وآتيناه ما ذكر لرحمتنا أيوب عليه السلام وتذكيره لغيره من العابدين ليصبروا فيثابوا كما أثيب فرحمة نصب على أنه مفعول له و للعابدين متعلق بذكرى وجوز أن يكون رحمة وذكرى تنازعا فيه على معنى
(17/81)

وآتيناه العابدين الذين من جملتهم أيوب عليه السلام وذكرنا إياهم بالإحسان وعدم نسياننا لهم
وجوز أبو البقاء نصب رحمة على المصدر وهو كما ترى وإسماعيل وإدريس وذا الكفل أي واذكرهم وظاهر نظم ذي الكفل في سلك الأنبياء عليهم السلام أنه منهم وهو الذي ذهب إليه الأكثر واختلف في اسمه فقيل بشر وهو ابن أيوب عليه السلام بعثه الله تعالى نبيا بعد أبيه وسماه ذا الكفل وأمره سبحانه بالدعاء إلى توحيده وكان مقيما بالشام عمره ومات وهو ابن خمس وسبعين سنة وأوصى إلى ابنه عبدان وأخرج ذلك الحاكم عن وهب وقيل هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى بن عمران عليهم السلام وصنيع بعضهم يشعر باختياره وقيل يوشع بن نون وقيل اسمه ذو الكفل وقيل هو زكريا حكى ذلك الكرماني في العجائب وقيل هو اليسع بن أخطوب بن العجوز وزعمت اليهود أنه حزقيال وجاءته النبوة وهو في وسط سبي بختنصر على نهر خوبار
وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد : لم يكن نبيا وكان عبدا صالحا استخلفه على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد اليسع عليه السلام بشرط أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ففعل ولم يذكر مجاهد ما اسمه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : كان قاضيا في بني إسرائيل فحضره الموت فقال : من يقوم مقامي على أن لا يغضب فقال رجل : أنا يسمى ذا الكفل الخبر وأخرج عن ابن حجيرة الأكبر كان ملك من ملوك بني إسرائيل فحضرته الوفاة فأتاه رؤس بني إسرائيل فقالوا : استخلف علينا ملكا نفزع إليه فقال : من تكفل لي بثلاث فأوليه ملكي فلم يتكلم إلا فتى من القوم قال : أنا فقال : اجلس ثم قالها ثانية فلم يتكلم أحد إلا فتى فقال : تكفل لي بثلاث وأوليك ملكي تقوم الليل فلا ترقد وتصوم فلا تفطر وتحكم فلا تغضب قال : نعم قال : قد وليتك ملكي الخبر وفيه زكذا في الخبر السابق قصة إرادة إبليس عليه اللعنة إغضابه وحفظ الله تعالى إياه منه والكفل الكفالة والحظ والضعف وإطلاق ذلك عليه إن لم يكن اسمه إما لأنه تكفل بأمر فوفي به وإما لأنه كان له ذا حظمن الله تعالى وقيل لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم السلام في زمانه وضعف ثوابهم
ومن قال إنه زكريا عليه السلام قال : إن إطلاق ذلك عليه لكفالته مريم وهو داخل في الوجه الأول وفي البحر وقيل : في تسميته ذا الكفل أقوال مضطربة لا تصح والله تعالى أعلم
كل أي كل واحد من هؤلاء من الصابرين
85
- أي على مشاق التكاليف وشدائد النوب ويعلم هذا من ذكر هؤلاء بعد أيوب عليهم السلام والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأمر بذكرهم وأدخلناهم في رحمتنا الكلام فيه على طرز ما سبق من نظيره آنفا
أنهم من الصالحين
86
- أي الكاملين في الصلاح لعصمتهم من الذنوب والجملة في موضع التعليل وليس فيه تعليل الشيء بنفسه من غير حاجة إلى جعل من ابتدائية كما يظهر بأدنى نظر وذا النون أي واذكر صاحب الحوت يونس عليه السلام ابن متي وهو اسم أبيه على ما في صحيح البخاري وغيره وصححه ابن حجر
(17/82)

قال : ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه وقد قيل إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وقال ابن الأثير كغيره إنه اسم أمه ولم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه غيره وغير عيسى عليهما السلام واليهود قالوا بما تقدم إلا أنهم سموه يونه بن اميتاي وبعضهم يقول يونان بن أماثي والنون الحوت كما أشرنا إليه ويجمع على نينان كما في البحر وأنوان أيضا كما في القاموس
إذ ذهب مغاضبا أي غضبان على قومه لشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم مع طول دعوته إياهم وكان ذهابه هذا هجرة عنهم لكنه لم يؤمر به وقيل : عضبان على الملك حزقيل فقد روي عن ابن عباس أنه قال : كان يونس وقومه يسكون فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا فأوحى الله تعالى إلى شعياء النبي أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له يوجه خمسة من الأنبياء لقتال هذا الملك فقال : أوجه يونس ابن متي فإنه قوي أمين فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال يونس : هل أمرك الله تعالى بإخراجي قال : لا قال : هل سمائي لك قال : لا فقال يونس : فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضبا فأتى بحر الروم فوجد قوما هيئوا سفينة فركب معهم فلما وصلوا اللجة تكفأت بهم السفينة وأشرفت على الغرق فقال الملاحون : معنا رجل عاص أو عبد آبق ومن رسمنا إذا ابتلينا بذلك أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر ولأن يغرق أحدنا خير من أن تغرق السفينة فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فيها كلها على يونس عليه السلام فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق فألقى نفسه في البحر فجاءت حوت فابتلعته فأوحى الله تعالى إليها أن لا تؤذيه بشعرة فأني جعلت بطنك سجنا له ولم أجعله طعاما ثم نجاه الله تعالى من بطنها ونبذه بالعراء وقد رق جلده فأنبت عليه شعرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس عليه السلام فقيل له : أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب راحتهم فأوحى الله تعالى إليه وأمره أن يذهب إليهم فتوجه نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فأتاهم وقال لملكهم : إن الله تعالى أرسلني إليك فأرسل معي بني إسرائيل قالوا : ما نعرف ما تقول ولو علمنا علمنا أنك صادق لفعلنا وقد آتيناكم في دياركم وبيناكم فلو كان الأمر كما تقول لمعنا الله تعالى عنكم فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله تعالى إليه قل لهم إن لم يؤمنوا جاءهم العذاب فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه ثم ذكروا أمرهم وأمر يونس عليه السلام للعلماء الذين عندهم فقالوا : انظروا واطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس كما ذكر من نزول العذاب وإن كان قد خرج فهو كما قال فطلبوه فقيل لهم : إنه خرج العشية فلما أيسوا غلقوا باب مدينتهم ولم يدخلوا فيها دوابهم ولا غيرها وعزلوا كل واحدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ثم قاموا ينتظرون الصبح فلما انشق الصبح نزل العذاب من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطنها وصاحت الصبيان والدواب فرفع الله تعالى العذاب عنهم فبعثوا إلى يونس حتى لقوه فآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل وقيل مغاضبا لربه عز و جل وحكى في هذه المغاضبة كيفيات وتعقب ذلك بأنه يجب إطراح هذا القول إذ لا يناسب ذلك منصب النبوة وينبغي أن يتأول لمن قال ذلك من العلماء كالحسن والشعبي وابن جبير وغيرهم من التابعين وابن مسعود من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأن يكون معنى قولهم لربه لأجل ربه تعالى وحمية لدينه فاللام لام العلة
(17/83)

لا اللام الموصولة للمفعول به النتهى
وكون المراد مغاضبا لربه عز و جل مقتضى زعم اليهود فإنهم زعموا أن الله تعالى أمره أن يذهب إلى نينوى وينذر أهلها فهرب إلى ترسيس من ذلك وانحدر إلى يافا ونزل في السفينة فعظمت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق فاقترع أهلها فوقعت القرعة عليه فرمى بنفسه إلى البحر فالتقمه الحوت ثم ألقاه وذهب إلى نينوى فكان ما كان ولا يخفى أن مثل هذا الهرب مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام واليهود قوم بهت
ونصب مغاضبا على الحال وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكا نحو عاقبت اللص وسافرت وكأنه استعمل ذلك هنا للمبالغة وقيل المفاعلة على ظاهرها فإنه عليه السلام غضب على قومه لكفرهم وهم غضبوا عليه بالذهاب لخوفهم لحوق العذاب وقرأ أبو سرف مغضبا اسم مفعول فظن أن لن نقدر عليه أي أنه أي الشأن لن نقدر ونقضي عليه بعقوبة ونحوها أو لن نضيق عليه في أمره بحبس ونحوه ويؤيد الأول قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري نقدر بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة وقراءة علي كرم الله تعالى وجهه واليماني يقدر بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة فإن الفعل فيهما من التقدير بمعنى القضاء والحكم كما هو المشهور ويجوز أن يكون بمعنى التضيق فإنه ورد بهذا المعنى أيضا كما ذكره الراغب وظن معاوية رضي الله تعالى عنه أنه من القدرة فاستشكل ذلك إذ لا يظن أحد فضلا عن النبي عليه السلام عدم قدرة الله تعالى عليه وفزع إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأجابه بما ذكرناه أولا وجوز أن يكون من القدرة وتكون مجازا عن أعمالها أي فظن أن لن نعمل قدرتنا فيه أو يكون الكلام من باب التمثيل أي فعل فعل من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا وقيل : يجوز أن يسبق ذلك وهمه عليه السلام بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويرد بالبرهان كما يفعل المؤمن المحقق بنزغات الشيطان وما يوسوس في كل وقت ومنه وتظنون بالله الظنونا والخطاب للمؤمنين وتعقبه صاحب الفرائد بأن مثله عن المؤمن بعيد فضلا عن النبي المعصوم لأنه كفر وقوله تعالى تظنون الخ ليس من هذا القبيل على أنه شامل للخلص وغيرهم وبأن ما هجس ولم يستقر لا يسمى ظنا وبأن الخواطر لا عتب عليها وبأنه لو كان حامله على الخروج لم يكن من قبيل الوسوسة وأجيب بأن الظن بمعنى الهجس في الخاطر من غير ترجيح مجاز مستعمل والعتب على ذهابه مغاضبا ولا وجه لجعله حاملا على الخروج ومع هذا هو وجه لا وجاهة له وقرأ ابن أبي ليلى وأبو سرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب يقدر بضم الياء وفتح الدال مخففا وعيسى والحسن بالياء مفتوحة وكسر الدال
فنادى الفاء فصيحة أي فكان ما كان من المساهمة والتقام الحوت فنادى في الظلمات أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت جعلت الظلمة لشدتها كأنها ظلمات وأنشد السيرافي : وليل تقول الناس في ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها أو الجمع على ظاهره والمراد ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمتي البحر والليل أن لا إله إلا أنت أي بأنه لا إله إلا أنت على أن أن مخففة من الثقيلة والجار مقدر وضمير الشأن محذوف أو أي لا إله إلا أنت على أنها مفسرة سبحانك
(17/84)

أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شيء أو أن يكون ابتلائي بهذا من غير سبب من جهتي إني كنت من الظالمين
87
- لأنفسهم بتعريضهم للهلكة حيث بادرت إلى المهاجرة من غير أمر على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام وهذا اعتراف منه عليه السلام بذنبه وإظهار لتوبته ليفرج كربته فاستجبنا له أي دعاءه الذي دعاه في ضمن الإعتراف وإظهار التوبة على العطف وجه وأحسنه أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحكيم في نوادر الأصول والحاكم وصححه وابن جرير والبيهقي في الشعب وجماعة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أن ذلك اسم الله تعالى الأعظم وأخرج ذلك الحاكم عن سعد مرفوعا وقد شاهدت أثر الدعاء به ولله تعالى الحمد حين أمرني بذلك من أظن ولايته من الغرباء المجاورين في حضرة الباز الأشهب وكان قد أصابني من البلاء ما الله تعالى أعلم به وفي شرحه طول وأنت ملول
وجاء عن أنس مرفوعا أنه عليه السلام حين دعا بذلك أقبلت دعوته تحف بالعرش فقالت الملائكة عليهم السلام : هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال الله تعالى : أما تعرفون ذلك قالوا : يا رب ومن هو قال : ذاك عبدي يونس قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء قال : بلى فأمر الحوت فطرحه وذلك قوله تعالى ونجيناه من الغم أي الذي ناله حين التقمه الحوت بأن قذفه إلى الساحل بعد ساعات قال الشعبي : التقمه ضحى ولفظه عشية وعن قتادة أنه بقي في بطنه ثلاثة أيام وهو الذي زعمته اليهود وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه بقي سبعة أيام
وروي ابن أبي حاتم عن أبي مالك أنه بقي أربعين يوما وقيل المراد بالغم غم الخطيئة وما تقدم أظهر ولم يقل جل شأنه فنجيناه كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام فكشفنا قال بعض الأجلة لأنه دعا بالخلاص من الضر فالكشف المذكور يترتب على استجابته ويونس عليه السلام لم يدع فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته ورد بأن الفاء في قصة أيوب عليه السلام تفسيرية والعطف هنا أيضا تفسيري والتفنن طريقة مسلوكة في البلاغة ثم لا نسلم أن يونس عليه السلام لم يدع ولو لم يكن منه دعاء لم تتحق الإستحابة أه
وتعقبه الخفاجي بأنه لا محصل له وكونه تفسيرا لا يدفع السؤال لأن حاصله لم أتي بالفاء ثمت ولم يؤت بها هنا فالظاهر أن يقال : إن الأول دعاء بكشف الضر على وجه التلطف فلما أجمل في الإستجابة وكان السؤال بطريق الإيماء ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية وأما هنا فلما هاجر عليه السلام من غير أمر كان ذلك ذنبا بالنسبة إليه عليه السلام كما أشار إليه بقوله إني كنت من الظالمين فما أوحي إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه فالإستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته وليس ما بعده تفسيرا له بل زيادة إحسان على مطلوبه ولذا عطف بالواو أه
ولا يخفى أن ما ذكره لا يتسنى في قوله تعالى ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم وقوله سبحانه وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى إذ لم يكن سؤال نوح عليه السلام بطريق الإيماء مع أنه قال تعالى في قصته
(17/85)

فنجينا بالفاء وزكريا عليه السلام يصدر منه ما يعد ذنبا بالنسبة إليه ليتلطف في سؤال عدم المؤاخذة مع أنه قال سبحانه في قصته ووهبنا بالواو فلا بد حينئذ من بيان نكتة غير ما ذكر للتعبير في كل موضع من هذين الموضعين بما عبر وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره الشهاب في الآية الأخيرة وربما يقال : إنه جيء بالفاء التفصيلية في قصة نوح وأيوب عليهما السلام اعتناء بشأن الإستجابة لمكان الإجمال والتفصيل لعظم ما كانا فيه وتفاقمه جدا ألا ترى كيف يضرب المثل ببلاء أيوب عليه السلام حيث كان في النفس والأهل والمال واستمر إلى ما شاء الله تعالى وكيف وصف الله تعالى ما نجى الله سبحانه منه نوحا عليه السلام حيث قال عز و جل فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ولا كذلك ما كان فيه ذو النون وزكريا عليهما السلام بالنسبة إلى ذلك فلذا جيء في آيتيهما بالواو وهي وإن جاءت للتفسير لكن مجيء الفاء لذلك أكثر ولا يبعد عندي ما ذكره الخفاجي في هذه الآية من كون الإستجابة عبارة عن قبول توبته والتنجية زيادة إحسان على مطلوبه ويقال فيما سيأتي ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وكذلك أي مثل ذلك الإنجاء الكامل ننجي المؤمنين
88
- من غموم دعوا الله تعالى فيها بالإخلاص لا إنجاء أدنى منه
وقرأ الجحدري ننجي مشددا مضارع نجي وقرأ ابن عامر وأبو بكر نجي بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم وإسكان الياء واختار أبو عبيدة هذه القراءة على القراءة بنونين لكونها أوفق بالرسم العثماني لما أنه بنون واحدة وقال أبو علي في الحجة : روي عن أبي عمرو نجي بالإدغام والنون لا تدغم في الجيم وإنما أخفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت من الكتاب وهي في اللفظ ومن قال : تدغم فقد غلط لأن هذه النون تخفي مع حروف الفم وتسمى الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين والضاد وتبيينها لحن فلما أخفى ظن السامع أنه مدغم انتهى
وقال أبو الفتح ابن جني : أصله ننجي كما في قراءة الجحدري فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين والأخرى جيء بها لمعنى والثقل إنما حصل بالثانية وذلك كما حذفت التاء الثانية في تظاهرون ولا يضر كونها أصلية وكذا لا يضر عدم اتحاد حركتها مع حركة النون الأولى فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام فقول أبي البقاء : إن هذا التوجيه ضعيف لوجهين أحدهما أن النون الثانية أصل وهي فاء الكلمة فحذفها يبعد جدا والثاني أن حركتها غير حركة النون الأولى فلا يستثقل الجمع بينهما بخلاف تظاهرون ليس في حيز القبول وإنما امتنع الحذف في تتجافى لخوف اللبس بالماضي بخلاف ما نحن فيه لأنه لو كان ما ضيا لم يسكن آخره وكونه سكن تخفيفا خلاف الظاهر وقيل هو فعل ماض مبني لمالم يسم فاعله وسكنت الياء للتخفيف كما في قراءة من قرأ وذروا ما بقي من الربا وقوله : هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف ونائب الفاعل ضمير المصدر و المؤمنين مفعول به وقد أجاز قيام المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول به الأخفش والكوفيون وأبو عبيد وخرجوا على ذلك قراءة أبي جعفر ليجزي قوما وقوله : ولو ولدت فقيرة جرو كلب لسب بذلك الكلب الكلابا
(17/86)

والمشهور عن اليصريين أنه متى وجد المفعول به لم يقم غيره مقام الفاعل وقيل إن المؤمنين منصوب بإضمار فعل أي وكذلك نجى هو من الإنجاء ننجي المؤمنين وقيل هو منصوب بضمير المصدر والكل كما ترى وزكريا أي واذكر خبره عليه السلام إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا أي وحيدا بلا ولد يرثني كما يشعر به التذييل بقوله تعالى وأنت خير الوارثين
89
- ولو كان المراد بلا ولد يصاحبني ويعاونني لقيل وأنت خير المعينين والمراد بقوله وأنت خير الوارثين وأنت خير حي يبقى بعد ميت وفيه مدح له تعالى بالبقاء وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء وفي ذلك استمطار لسحائب لفظه عز و جل وقيل أراد بذلك رد الأمر إليه سبحانه كأنه قال : إن لم ترزقني ولدا يرثني فأنت خير وارث فحسبي أنت
واعترض بأنه لا يناسب مقام الدعاء إذ من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دعا أحدكم فلا يقل : اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإن الله تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له وفي رواية في صحيح مسلم ولكن ليعزم المسألة وليعزم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه ويمكن أن يقال : ليس هذا من قبيل ارزقني إن شئت إذ ليس المقصود منه إلا إظهار الرضا والإعتماد على الله عز و جل لو لم يجب دعاءه وليس المقصود من ارزقني إن شئت ذلك فتأمل
فاستجبنا له دعاءه ووهبنا له يحيى وقد مر بيان كيفية ذلك وأصلحنا له زوجه أي أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقها وكانت سيئة الخلق طويلة اللسان كما روي عن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومحمد ابن كعب القرظي وعون بن عبد الله أو أصلحناها له عليه السلام برد شبابها إليها وجعلها ولودا وكانت لا تلد كما روي عن ابن جبير وقتادة وعلى الأول تكون هذه الجملة عطفا على جملة استجبنا لأنه عليه السلام لم يدع بتحسين خلق زوجه
قال الخفاجي : ويجوز عطفها على وهبنا وحينئذ يظهر عطفه بالواو لأنه لما فيه من الزيادة على المطلوب لا يعطف بالفاء التفصيلية وعلى الثاني العطف على وهبنا وقدم هبة يحيى مع توقفها على إصلاح الزوج للولادة لأنها المطلوب الأعظم والواو لا تقتضي ترتيبا فلا حاجة لما قيل : المراد بالهبة إرادتها قال الخفاجي : ولم يقل سبحانه : فوهبنا لأن المراد الإمتنان لا التفسير لعدم الإحتياج إليه مع أنه لا يلزم التفسير بالفاء بل قد يكون العطف التفسيري بالواو انتهى ولا يخفى ما فيه فتدبر وقوله تعالى : إنهم كانوا يسارعون في الخيرات تعليل لما فصل من فنون إحسانه المتعلقة بالأنبياء المذكورين سابقا عليهم السلام فضمائر الجمع للأنبياء المتقدمين وقيل : لزكريا وزوجه ويحيى والجملة تعليل لما يفهم من الكلام من حصول القربى والزلفى والمراتب العالية لهم أو استئناف وقع جوابا عن سؤال تقديره ما حالهم والمعول عليه ما تقدم والمعنى إنهم كانوا يجحدون ويرغبون في أنواع الأعمال الحسنة وكثيرا ما يتعدى أسرع بفي لما فيه من معنى الجد والرغبة فليست في بمعنى إلى أو للتعليل ولا الكلام من قبيل
يجرح في عراقيبها نصلي
ويدعوننا رغبا ورهبا أي راغبين في نعمتنا وراهبين من نقمتنا أو راغبين في قبول أعمالهم وراهبين من ردها فرغبا ورهبا مصدران في موضع
(17/87)

الحال بتأويلهما باسم الفاعل ويجوز أن يكون ذلك بتقدير مضاف أي ذوي رغب ويجوز إبقاؤهما على الظاهر مبالغة وجوز أن يكون جمعين كخدم جمع خادم لكن قالوا إن هذا الجمع مسموع في ألفاظ نادرة وجوز أن يكون نصبا على التعليل أي لأجل الرغبة والرهبة وجوز أبو البقاء نصبهما على المصدر نحو قعدت جلوسا وهو كما ترى
وحكى في مجموع البيان أن الدعاء رغبة ببطون الأكف ورهبة بظهورها وقد قال بعض علمائنا والظاهر أن الجملة معطوفة على جملة يسارعون فهي داخلة معها في حيز كانوا وفي عدم إعادتها رمز إلى أن الدعاء المذكور من توابع تلك المسارعة وقرأت فرقة يدعونا بحذف نون الرفع وقرأ طلحة يدعونا بنون مشددة أدغم نون الرفع في نون ضمير النصب وقرأ رغبا ورهبا بفتح الراء وإسكان ما بعدها و رغبا ورهبا بالضم والإسكان وكانوا لنا خاشعين
90
- أي مخبتين متضرعين أو دائمي الوجل وحاصل التعليل أنهم نالوا من الله تعالى ما نالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة
وقوله تعالى والتي أحصنت فرجها نصب نصب نظائره السابقة وقيل رفع على الإبتداء والخبر محذوف أي مما يتلى عليكم أو هو قوله تعالى فنفخنا فيها من روحنا والفاء زائدة عند من يجيزه والمراد بالموصول مريم عليها السلام والإحصان بمعناه اللغوي وهو المنع مطلقا والفرج في الأصل الشق بين الشيئين كالفرجة وما بيم الرجلين ويكنى به عن السوأة وكثر حتى صار كالصريح في ذلك وهو المراد هنا عند جماعة أي منعت فرجها من النكاح بقسميه كما قالت ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا وكان التبتل غذ ذاك مشروعا للنساء والرجال وقيل الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل عليه السلام لما قرب منها لينفخ حيث لم تعرفه
وعبر عنها بما ذكر لتفخيم شأنها وتنزيهها عما زعموه في حقها والمراد من الروح معناه المعروف والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف ونفخ الروح عبارة عن الإحياء وليس هناك نفخ حقيقة ثم هذا الإحياء لعيسى عليه السلام وهو لكونه في بطنها صح أن يقال : نفخنا فيها فإن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها وليس بمراد وهذا كما يقول الزمار نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته وقال أبو حيان : الكلام على تقدير مضاف أي فنفخنا في ابنها
ويجوز أن يكون المراد من الروح جبريل عليه السلام كما قيل في قوله تعالى فأرسلنا إليها روحنا ومن ابتدائية وهناك نفخ حقيقة وإسناده إليه تعالى مجاز أي فنفخنا فيها من جهة روحنا وكان جبريل عليه السلام قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها فصح أن النفخ فيها من غير غبار يحتاج إلى النفخ ثم النفخ لازم وقد يتعدى فيقال نفخنا الروح
وجاء ذلك في بعض الشواذ ونص عليه بعض الأجلة فإنكاره من عدم الإطلاع وجعلناها وابنها أي جعلنا قصتهما أو حالهما آية للعالمين
91
- فإن من تأمل حالتهما تحقق كمال قدرته عز و جل فالمراد بالآية ما حصل بهما من الآية التامة مع تكاثر كل واحد منهما وقيل أريد بالآية الجنس الشامل ما لكل واحد منهما من الآيات المستقلة وقيل : المعنى وجعلناها آية وابنها آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها
(17/88)

واستدل بذكر مريم عليها السلام مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر
وفيه أنه لا يلزم من ذكرها معهم كونها منهم ولعلها إنما ذكرت لأجل عيسى عليه السلام وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه وابنهما يحيى للقرابة التي بينهم عليهم السلام إن هذه أمتكم خطاب للناس قاطبة والإشارة إلى ملة التوحيد والإسلام وذلك من باب هذا فراق بيني وبينك وهذا أخوك تصور المشار إليه في الذهن وأشير إليه وفيه أنه متميز أكمل التمييز ولهذا لم يبين بالوصف والأمة على ما قاله صاحب المطلع أصلها القوم يجتمعون على دين واحد ثم اتسع فيها حتى أطلقت على نفس الدين والأشهر أنها الناس المجتمعون على أمر أو في زمان وإطلاقها على نفس الدين مجاز وظاهر كلام الراغب أنه حقيقة أيضا وهو المراد هنا وأريد بالجملة الخبرية الأمر بالمحافظة على تلك الملة ومراعاة حقوقها والمعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها فافعلوا ذلك وقوله تعالى أمة واحدة نصب على الحال من أمة والعامل فيها اسم الإشارة ويجوز أن يكون العامل في الحال غير العامل في صاحبها وإن كان الأكثر الإتحاد كما في شرح التسهيل لأبي حيان وقيل بدل من هذه ومعنى وحدتها اتفاق الأنبياء عليهم السلام عليها أي إن هذه أمتكم أمة غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام بل أجمعوا كلهم عليها فلم تتبدل في عصر من الأعصار كما تبدلت الفروع وقيل : معنى وحدتها عدم مشاركة غيرها وهو الشرك لها في القبول وصحة الإتباع
وجوز أن تكون الإشارة إلى طريقة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والمراد بها التوحيد أيضا وقيل : هي إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه السلام والكلام متصل بقصته وهو بعيد جدا وأبعد منه بمراحل ما قيل إنها إشارة إلى ملة عيسى عليه السلام والكلام متصل بما عنده كأنه قيل وجعلناها وابنها آية العالمين قائلين لهم إن هذه أي الملة التي بعث بها عيسى أمتكم الخ بل لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا وقيل : إن هذه إشارة إلى جماعة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والأمة بمعنى الجماعة أي إن هؤلاء جماعتكم التي يلزمكم الإقتداء بهم مجتمعين على الحق غير مختلفين وفيه جهة حسن كما لا يخفى والأول أحسن وعليه جمهور المفسرين وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وجوز بعضهم كون الخطاب للمؤمنين كافة وجعله الطيبي للمعاندين خاصة حيث قال في وجه ترتيب النظم الكريم : إن هذه السورة نازلة في بيان النبوة وما يتعلق بها والمخاطبون المعاندون من أمة محمد صلى الله عليه و سلم فلما فرغ من بيان النبوة وتكريره تقريرا ومن ذكر الأنبياء عليهم السلام مسليا عاد إلى خطابهم بقوله تعالى شأنه إن هذه أمتكم الخ أي هذه الملة التي كررتها عليكم ملة واحدة اختارها لكم لتتمسكوا بها وبعبادة الله تعالى والقول بالتوحيد وهي التي أدعوكم إليها لتعضوا عليها بالنواجذ لأن سائر الكتب نازلة في شأنها والأنبياء كلهم مبعثون للدعوة إليها وتفقون عليها ثم لما علم إصرارهم قيل وتقطعوا الخ وحاصل المعنى الملة واحدة والرب واحد والأنبياء عليهم السلام متفقون عليها وهؤلاء البعداء جعلوا أمر الدين الواحد فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء الواحد انتهى والأظهر العموم وأمر النظم عليه يؤخذ من كلام الطيبي بأدنى التفات وقرأ الحسن أمتكم بالنصب على أنه بدل من هذه أو عطف بيان
(17/89)

عليه و أمة واحدة بالرفع على أنه خبر إن وقرأ هو أيضا وابن إسحق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجعفي وهارون عن ابن عمرو والزعفراني برفعهما على أنهما خبر إن وقيل : الأول خبر والثاني بدل منه نكرة من معرفة أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هي أمة واحدة وأنا ربكم أي أنا إلهكم إله واحد فاعبدون
92
- خاصة وتفسير الرب بالإله لأنه رتب عليه الأمر بالعبادة والدلالة على الوحدة من حدة الملة وفي لفظ الرب إشعار بذلك من حيث أن الرب وإن توهم جواز تعدده في نفسه لا يمكن أن يكون لكل مربوب إلا رب واحد لأنه مفيض الوجود وكمالاته معا وفي العدول إلى لفظ الرب ترجيح جانب الرحمة وأنه تعالى يدعوهم إلى عبادته بلسان الترغيب والبسط قاله في الكشف
وتقطعوا أمرهم بينهم أي جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا على أن تقطع مضمن معنى الجعل فلذا تعدى إلى أمرهم بنفسه وقال أبو البقاء : تقطعوا أمرهم أي في أمرهم أي تفرقوا وقيل : عدي بنفسه لأنه بمعنى قطعوا أي فرقوا وقيل أمرهم تمييز محول عن الفاعل أي تقطع أمرهم انتهى وما ذكر أولا أظهر وأمر التمييز لا يخفى على ذي تمييز ثم أصل الكلام وتقطعتم أمركم بينهم على الخطاب فالتفت إلى الغيبة ليعني عليهم ما فعلوا من التفرق في الدين وجعله قطعا موزعة وينهى ذلك إلى الآخرين كأنه قيل ألا ترون إلى عظم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى الذي اجتمعت عليه كافة الأنبياء عليهم السلام وفي ذلك ذم للإختلاف في الأصول
كل أي كل واحدة من الفرق المتقطعة أو كل واحد من آحاد كل واحدة من تلك الفرق إلينا راجعون
93
- بالبعث لا إلى غيرنا فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم ولا يخفى ما في الجملة من الدلالة على الثبوت والتحقق
وقوله تعالى فمن يعمل من الصالحات تفصيل للجزاء أي فمن يعمل الصالحات أو بعضا من الصالحات وهو مؤمن بما يجب الإيمان به فلا كفران لسعيه أي لا حرمان لثواب عمله ذلك عبر عنه بالكفران الذي هو ستر النعمة وجحودها لبيان كمال نزاهته تعالى عنه بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى ونفي نفي الجنس المفيد للعموم للمبالغة في التنزيه والظاهر أن التركيب على طرز لا مانع لما أعطيت والكلام فيه مشهور بين علما العربية وعبر عن العمل بالسعي إظهار الإعتداد به وفي حرف عبد الله فلا كفر والمعنى واحد وإنا له أي لسعيه وقيل : الضمير لمن وليس بشيء كاتبون
94
- أي مثبتون في صحيفة عمله لا يضيع بوجه ما واستدل بالآية على أن قبول العمل الصالح مطلقا مشروط بالإيمان وهو قول لبعضهم وقال آخرون : الإيمان شرط لقبول ما يحتاج إلى النية من الأعمال وتحقيقه في موضعه
وحرام على قرية أي على أهل قرية فالكلام على تقدير مضاف أو القرية مجاز على أهلها والحرام مستعار للممتنع وجوده بجامع أن كل واحد منهما غير مرجو الحصول وقال الراغب : الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهي وإما بمنع قهري وإما بمنع من جهة العقل أو من جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره وذكر أنه قد حمل هذه الآية على التحريم بالتسخير كما في قوله تعالى : وحرمنا على المراضع وقرأ أبو حنيفة وحمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة والأعمش وأبو عمرو في رواية وحرم بكسر الحاء وسكون الراء
(17/90)

وقرأ قتادة ومطر الوراق ومحبوب بن أبي عمرو بفتح الحاء وسكون الراء وقرأ عكرمة وحرم الحاء وكسر الراء والتنوين وقرأ ابن عباس وعكرمة أيضا وابن المسيب وقتادة أيضا بكسر الراء وفتح الحاء والميم على المضي وقرأ ابن عباس وعكرمة بخلاف عنهما وأبو العالية وزيد بن علي بضم الراء وفتح الحاء والميم على المضي أيضا وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قرأ بفتح الحاء والراء والميم على المضي أيضا
وقرأ اليماني وحرم بضم الحاء وكسر الراء مشددة وفتح الميم على أنه فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله
أهلكناها أي قدرنا هلاكها أو حكمنا به في الأزل لغاية طغيانهم وعتوهم فيما لا يزال
وقرأ السلمي وقتادة أهلكتها بتاء المتكلم وقوله تعالى : أنهم لا يرجعون
95
- في تأويل اسم مرفوع على الإبتداء خبره حرام قال ابن الحاجب في أماليه : ويجب حينئذ تقديمه لما تقرر في النحو من أن الخبر عن أن يجب تقديمه وجوز أن يكون حرام مبتدأ و أنهم فاعل له سد مسد خبره وإن لم يعتقد على نفي أو استفهام بناء على ما ذهب الأخفش فإنه لا يشترط في ذلك الإعتماد خلافا للجمهور كما هو المشهور
وذهب ابن مالك أن رفع الوصف الواقع مبتدأ لكتفى به عن الخبر من غير اعتماد جائز بلا خلاف وإنما الخلاف في الإستحسان وعدمه فسيبويه يقول : هو ليس بحسن والأخفش يقول : هو حسن وكذا الكوفيون كما في شرح التسهيل والجملة لتقرير ما قبلها من قوله تعالى كل إلينا راجعون وما في من معنى التحقيق معتبر في النفي المستفاد في حرام لا في المنفي أي ممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء لا أن عدم رجوعهم المحقق ممتنع وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الإمتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله تعالى كل إلينا راجعون لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم وهذا المعنى محكي عن أبي مسلم بن بحر ونقله أبو حيان عنه لكنه قال : إن الغرض من الجملة على ذلك إبطال قول من ينكر البعث وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد وأنه يجزي على ذلك يوم القيامة ولا يخفى ما فيه
وقال أبو عتبة : المعنى وممتنع على قرية قدرنا هلاكها أو حكمنا به رجوعهم إلينا أي توبتهم على أن لا سيف خطيب مثلها في قوله تعالى ما منعك أن لا تسجد في قول وقيل حرام بمعنى واجب كما في قول الخنساء : وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوة إلا بكيت على صخر ومن ذلك قوله تعالى قل تعالى أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا الخ فإن ترك الشرك واجب وعلى هذا قال كجاهد والحسن لا يرجعون لا يتوبون عن الشرك
وقال قتادة ومقاتل : لا يرجعون إلى الدنيا والظاهر على هذا أن المراد بأهلكناها أوجدنا إهلاكها بالفعل والمراد بالهلاك الهلاك الحسي ويجوز على القول بأن المراد بعدم الرجوع عدم التوبة أن يراد به الهلاك المعنوي بالكفر والمعاصي وقريء إنهم بكسر الهمزة على أن الجملة استئناف تعليلي لما قبلها فحرام خبر مبتدأ محذوف أي حرام عليها وذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوع بالإيمان والسعي المشكون ثم علل بقوله تعالى إنهم لا يرجعون عما هم عليه من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك ويجوز حمل الكلام على قراءة الجمهور بالفتح على هذا المعنى بحذف حرف التعليل أي لأنهم لا يرجعون والزجاج قدر المبتدأ في ذلك أن يتقبل عملهم فقال : المعنى وحرام على قرية حكمنا بهلاكها أن يتقبل عملهم لأنهم لا يتوبون
(17/91)

ودل على ذلك قوله تعالى قبل : فلا كفران لسعيه حيث أن المراد منه يتقبل عمله و حتى في قوله تعالى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ابتدائية والكلام بعدها غاية لما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل : يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون يا ويلنا الخ أو غاية للحرمة أي يستمر امتناع رجوعهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها وذلك حين لا ينفعهم الرجوع أو غاية لعدم الرجوع عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه وهو حين لا ينفعهم ذلك وهذا بحسب تعدد الأقوال في معنى الآية المتقدمة والتوزيع غير خفي وقال ابن عطية حتى متعلقة بقوله تعالى : تقطعوا الخ قال أبو حيان : وفيه بعد من كثرة الفصل لكنه من جهة المعنى جيد وحاصله أنهم لايزالون مختلفين غير مجتمعين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك الإختلاف وعلم الجميع أن مولاهم الحق وأن الدين المنجي كان دين التوحيد ونسبة الفتح إلى يأجوج ومأجوج مجاز وهي حقيقة إلى السد أو الكلام على حذف المضاف وهو السد وإقامة المضاف إليه مقامه وقرأت فرقة فتحت بالتشديد وتقدم الكلام في يأجوج ومأجوج وهم أي يأجوج ومأجوج وقيل الناس وروي عن مجاهد من كل حدب أي مرتفع من الأرض كجبل وأكمة وقرأ ابن عباس جدث بالجيم والثاء المثلثة وهو القبر وهذه القراءة تؤيد رجوع الضمير إلى الناس وقريء بالجيم والفاء وهي بدل الثاء عند تميم ولا يختص إبدالها عندهم في آخر الكلمة فإنهم يقولون مغثور مكان مغفور ينسلون
96
- أي يسرعون وأصل النسلان بفتحتين مقاربة الخطو مع الإسراع وقيل ويختص وضعا بالذنب وعليه يكون مجازا هنا وقرأ ابن إسحاق وأبو السمال بضم السين واقترب أي قرب وقيل هو أبلغ في القرب من قرب الوعد الحق وهو ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب والجزاء لا النفخة الأولى والجملة عطف على فتحت يأجوج ثم إن هذا الفتح في زمن نزول عيسى عليه السلام من السماء وبعد قتله الدجال عند باب لد الشرقي فقد أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث طويل إن الله تعالى يوحي إلى عيسى عليه السلام بعد أن يقتل الدجال أني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم فحرز عبادي إلى طور فيبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج وهم كما قال الله تعالى من كل حدب ينسلون فيرغب عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله عز و جل فيرسل عليهم نغفا في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة فيهبط عيسى عليه السلام وأصحابه فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى ويرسل الله عز و جل مطرا لا يكن منه نبت مدر ولا وبر أربعين يوما فيغسل الأرض حتى يتركها زلفة ويقال للأرض انبتي ثمرتك فيؤخذ يأكل النفر من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي الفخذ والشاة من الغنم تكفي البيت فبينما هم على ذلك إذ بعث الله تعالى ريحا طيبة تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة وجاء من حديث رواه أحمد وجماعة أن الساعة بعد أن يهلك يأجوج ومأجوج كالحامل المتم لا يدري أهلها حتى تفجأهم بولادتها ليلا أو نهارا وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : ذكر لنا أن
(17/92)

النبي صلى الله عليه و سلم قال لو نجت فرس عند خروجهم ما ركب فلوها حتى تقوم الساعة وهذا مبالغة في القرب كالخبر الذي قبله
فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا جواب الشرط وإذا للمفاجأة وهي تسد مسد الفاء الجزائية في الربط وليست عوضا عنها فمتى كانت الجملة الإسمية الواقعة جزاء مقترنة بها لم تحتج إلى فاء نحو إذا هم يقنطون وإذا جيء بهما معا كما هنا يتقوى الربط والضمير للقصة والشأن وهو مبتدأ و شاخصة خبر مقدم و أبصار مبتدأ مؤخر والجملة خبر الضمير ولا يجوز أن يكون شاخصة الخبر و أبصار مرفوعا به لأن خبر الضمير الشأن لا يكون إلا جملة مصرحا بجزءيها وأجاز بعض الكوفيين كونه مفردا فيجوز ما ذكر عنده
وعن الفراء أن هي ضمير الأبصار فهو ضمير مبهم يفسره ما في حيز خبره وعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في مثل ذلك جائز عند ابن مالك وغيره كما في ضمير الشأن ومن ذلك قوله :
هو الجد حتى تفضل العين أختها
بل نقل عن الفراء أنه متى دل الكلام على المرجح وذكره بعده ما يفسره وإن لم يكن في حيز خبره لا يضر تقدمه وأنشد قوله : فلا وأبيها لا تقول خليلتي ألا فر عني مالك بن أبي كعب ونقل عنه أيضا أن هي ضمير فصل وعماد يصلح موضعه وأنشد قوله : بثوب ودينار وشاة ودرهم فهل هو مرفوع بما ههنا رأس وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي من إجازته تقديم الفصل مع الخبر على المبتدأ وقول من أجاز كونه قبل خبره نكرة وذكر الثعلبي أر الكلام قد تم عند قوله تعالى : فإذا هي أي فإذا هي أي الساعة حاصلة أو بارزة أو واقعة ثم ابتديء فقيل شاخصة أبصار الذين كفروا وهو وجه متكلف متنافر التركيب وقيل : جواب الشرط اقترب والواو سيف خطيب ونقل ذلك في مجمع البيان عن الفراء
ونقل عن الزجاج أن البصريين لا يجوزون زيادة الواو وأن الجواب عندهم قوله تعالى : يا ويللنا أي القول المقدر قبله فإنه بتقدير قالوا يا ويلنا ومن جعل الجواب ما تقدم قدر القول ههنا أيضا وجعله حالا من الموصول يقولون أو قائلين يا ويلنا وجوز كون يقولون يا ويلنا استثنافا وشخوص الأبصار رفع أجفانها إلى قوق من دون أن تطرف للكفرة يوم القيامة من شدة الهول وأرادوا من نداء الويل التحسر وكأنهم قالوا : يا ويلنا تعال فهذا أوان حضورك قد كنا في الدنيا في غفلة تامة من هذا الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه عز و جل للجزاء وقيل : من هذا اليوم ولم نعلم أنه حق بل كنا ظالمين
97
- إضراب عن وصف أنفسهم بالغفلة أي لم نكن في غفلة منه حيث نبهنا عليه بلآيات والنذر بل كنا ظالمين بترك الآيات والنذر مكذبين بها أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب
وقوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم خطاب لكفار مكة وتصريح بمآل أمرهم مع كونه معلوما مما سبق على وجه الإجمال مبالغة في الإنذار وإزاحة الإعذار فما عبارة عن أصنامهم والتعبير عنها بما على بابه لأنها على المشهور لما لا يعقل فلا يرد أن عيسى وعزيرا والملائكة عليهم الصلاة والسلام
(17/93)

عبدوا من دون الله تعالى مع أن الحكم لا يشملهم وشاع أن عبد الله بن الزبعري القرشي اعترض بذلك قبل إسلامه على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له عليه الصلاة و السلام : يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأبي قلت وما تعبدون وما لما لم يعقل ولم أقل ومن تعبدون وتعقبه ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأنه أشهر على ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم وهو لا أصل له ولم يوجد في شيء من كتب الحديث مسندا ولا غير مسند والوضع عليه ظاهر والعجب ممن نقله من المحدثين انتهى ويشكل على ما قلنا ما أخرجه أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابم مردوية والطبراني عن ابن عباس قال : لما نزل إنكم وما تعبدون الخ شق ذلك على أهل مكة وقالوا : أتشتم آلهتنا فقال ابن الزبغري : أنا أخصم لكم محمدا أدعوه لي فدعي عليه الصلاة و السلام فقال : يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله تعالى قال : بل لكل من عبد من دون الله تعالى فقال ابن الزبعري : خصمت ورب هذه البنية يعني الكعبة ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد صالح وأن عزيرا عبد صالح وأن الملائكة صالحون قال : بلى قال : فهذه النصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا وهذه بنو مليح تعبد الملائكة فضج أهل مكة وفرحوا فنزلت إن الذين سبقت لهم منا الحسنة الخ ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون الخ وجاء في روايات أخر ما يعضده فإن ظاهر ذلك أن ما هنا شامل للعقلاء وغيرهم وأجيب بأن الشمول للعقلاء الذي ادعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم كان بطريق دلالة النص بجامع الشركة في المعبودية من دون الله تعالى فلما أشار صلى الله عليه و سلم إلى عموم الآية بطريق الدلالة اعترض ابن الزبعري بما اعترض وتوهم أنه قد بلغ الغرض فتولى الله تعالى الجواب بنفسه بقوله عز و جل إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية وحاصله تخصيص العموم المفهوم من دلالة النص بما سوى الصلحاء الذين سبقت لهم الحسنى فيبقى الشياطين الذين عبدوا من دون الله سبحانه داخلين في الحكم بحكم دلالة النص فيفيد النص بعد هذا التخصيص عبارة ودلالة حكم الأصنام والشياطين ويندفع الإعتراض وقال بعضهم : إن ما تعم العقلاء وغيرهم وهو مذهب جمهور أئمة اللغة كما قال العلامة الثاني في التلويح ودليل ذلك النص والإطلاق والمعنى أما النص فقوله تعالى وما خلق الذكر والأنثى وقوله سبحانه والسماء وما بناها وقوله سبحانه ولا أنتم عابدون ما أعبد وأما الإطلاق فمن وجهين الأول أن ما قد تطلق بمعنى الذي باتفاق أهل اللغة والذي يصح إطلاقه على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيد فما كذلك الثاني أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار وأما المعنى فمن وجهين أيضا الأول أن مشركي قريش كما جاء من عدة طريق عن ابن عباس لما سمعوا هذه الآية اعترضوا بعيسى وعزير والملائكة عليهم السلام وهم من فصحاء العرب فلو لم يفهموا العموم لما اعترضوا الثاني أن ما مختصة بغير العالم لما احتيج إلة قوله تعالى من دون الله وحيث كانت بعمومها متنازلة له عز و جل احتيج إلى التقييد بقوله سبحانه من دون الله وحينئذ تكون الآية شاملة عبادة لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام ويكون الجواب الذي تولاه الله تعالى بنفسه جوابا بالتخصيص وفي ذلك حجة للشافعي في قوله بجواز تخصيص العام بكلام مستقل متراخ خلافا للحنفية وأجيب بأن ما ذكر من النصوص والإطلاقات فغايته جواز إطلاق ما على من يعلم ولا يلزم من ذلك
(17/94)

أن تكون ظاهرة فيه أو فيما يعمه بل هي ظاهرة في غير العالم لا سيما هنا لأن الخطاب مع عبدة الأصنام وإذا كانت ظاهرة فيما لا يعقل وجب تنزيلها عليه وما ذكر من الوجه الأول في المعنى فليس بنص في أن المعترضين إنما اعترضوا لفهمهم العموم من ما وضعا لجواز أن يكون ذلك لفهمهم إياه من دلالة النص كما مر وما ذكر من الوجه الثاني من عدم الإحتياج إلى قوله تعالى من دون الله فإنما يصح أن لو لم تكن فيه فائدة وفائدته مع التأكيد تقبيح ما كانوا عليه وإن سلمنا أن ما حقيقة فيمن يعقل فلا نسلم أن بيان التخصيص لم يكن مقارنا للآية فإن دليل العقل صالح للتخصيص خلافا لطائفة شاذة من المتكلمين والعقل قد دل على امتناع تعذيب أحد بجرم صادر من غيره اللهم إلا أن يكون راضيا بجرم ذلك الغير وأحد من العقلاء لم يخطر بباله رضا المسيح وعزير والملائكة عليهم السلام بعبادة من عبدهم وما مثل هذا الدليل العقلي فلا نسلم عدم مقارنته للآية وأما قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية فإنما ورد تأكيد بضم الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي مع الإستغناء عن أصله أما أن يكون هو المستقل بالبيان فلا وعدم تعرضه صلى الله عليه و سلم للدليل العقلي لم يكن لأنه لم يكن بل لأنه عليه الصلاة و السلام لما رآهم لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه فاعترضوا بما اعترضوا مع ظهوره انتظر ما يقويه من الدليل السمعي أو لأن الوحي سبقه عليه الصلاة و السلام فنزلت الآية قبل أن ينبههم على ذلك وقيل : إنهم تعنتوا بنوع من المجاز فنزل ما يدفعه وقيل : إن هذا خبر لا تكليف فيه والإختلاف في جواز تأخير البيان مخصوص بما فيه تكليف وفيه نظر وقال العلامة ابن الكمال : لا خلاف بيننا وبين الشافعي في قصر العام على بعض ما يتناوله بكلام مستقل متراخ إنما الخلاف في أنه تخصيص حتى يصير العام به ظنيا في الباقي أو نسخ حتى يبقى على ما كان فلا وجه للإحتجاج بقوله تعالى وما تعبدون من دون الله لأن الثابت به على تقدير التمام قصر العام بالمتراخي والخلاف فيما وراءه والدليل قاصر على بيانه ولا للجواب بأن ما تعبدون لا يتناول عيسى وعزيزا والملائكة عليهم السلام لا لأن ما لغير العقلاء لما أنه على خلاف ما عليه الجمهور بل لأنهم ما عبدوا حقيقة على ما أفصح عنه صلى الله عليه و سلم حين قال ابن الزبعري : أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنوا مليح عبدوا الملائكة بقوله صلى الله عليه و سلم : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فقوله تعالى إن الذين الآية لدفع ذهاب الوهم إلى التناول ولهم نظرا إلى الظاهر
وجوابه صلى الله عليه و سلم بذلك مما رواه ابن مردوية والواحدي عن ابن عياس رضي الله تعالى عنهما وفيه فأنزل الله تعالى إن الذين سبقت الآية وعلى وفق هذا ورد جواب الملائكة عليهم السلام في قوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن والجمع بين هذه الرواية والرواية السابقة أنه صلى الله عليه و سلم بعد أن ذكر لابن الزبعري أن الآية عامة لكل من عبد من دون الله تعالى بطريق دلالة النص وقال ابن الزبعري : أليس اليهود الخ ذكر عدم تناولها المذكورين عليهم السلام من حيث أنهم لم يشاركوا الأصنام في النعبودية من دون الله تعالى لعدم أمرهم ولارضاهم بما كان الكفرة يفعلون ولعل فيه رمزا خفيا إلى الدليل العقلي على عدم مؤاخذتهم ثم نزلت الآية تأكيدا لعدم التناول لكن لا يخفى أن هذه الرواية إن صحت تقتضي أن لا تكون الأصنام معبودة أيضا لأنها لم تأمرهم بالعبادة فلا تكون ما مطلقة عليها بل على الشياطين بناء على أنها هي الآمرة الراضية بذلك فهي معبوداتهم ولذا قال إبراهيم عليه السلام يا أبت لا تعبد الشيطان مع أنه كان يعبد الأصنام ظاهرا
(17/95)

ووجه إطلاقها عليها بناء على أنها ليست لذوي العقول أنها أجريت مجرى الجمادات لكفرها وفي قوله صلى الله عليه و سلم التي أمرتهم دون الذين أمروهم إشارة إلى ذلك ثم في عدم تناول الآية الإصنام هنا من البعد ما فيه فلعل هذه الرواية لم تثبت ولمولانا أبي السعود كلام مبناه خبر أنه صلى الله عليه و سلم رد على ابن الزبعري بقوله ما أجهلك بلغة قومك الخ وقد علمت ما قاله الحافظ ابن حجر فيه وهو أمثاله المعول عليهم في أمثال فلا ينبغي الإغترار بذكره في أحكام الآمدي وشرح المواقف وفصول البدائع للفناوي وغير ذلك مما لا يحصى كثرة فماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وأورد على القول بأن العموم بدلالة النص والتخصيص بما نزل بعد حديث الخلاف في التخصيص بالمستقبل المتراخي ويعلم الجواب عنه مما تقدم وقيل هنا زيادة على ذلك إن ذلك ليس من تخصيص العام المختلف فيه لأن العام هناك هو اللفظ الواحد الدال على مسميين فصاعدا مطلقا معا وهو ظاهر فيما فيه الدلالة عبارة والعموم هنا إنما فهم من دلالة النص ولا يخفى أن الأمر المانع من التأخير ظاهر في عدم الفرق فتدبر فالمقام حري به والحصب ما يرى به وتهيج به النار من حصبه إذا رماه بالحصباء وهي صغار الحجارة فهو وضعا عام استعمالا وعن ابن عباس أنه الحطب بالزنجية وقرأ علي وأبي وعائشة وابن الزبير وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم حطب بالطذاء وقرأ ابن أبي السمقيع وابن أبي عبلى ومحبوب وأبو حاتم عن ابن بشير حصب بإسكان الصاد ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مصدر وصف به للمبالغة وفي رواية أخرى عنه قرأ حضب بالضاد المعجمة المفتوحة وجاء عنه أيضا إسكانها وبه قرأ كثير عزة ومعنى الكل واحد وهو معنى الحصب بالصاد أنتم لها واردون
98
- استئناف نحوي مؤكد لما قبله أو بدل مر حصب جهنم وتبدل الجملة من المفرد ولا يضر كونه في حكم النتيجة وجوز أبو البقاء كون الجملة حالا من جهنم وهو كما ترى واللام معوضة من على للدلالة على الإختصاص وأن ورودهم لأجلها وهذا مبني على أن الأصل تعدي الورود إلى ذلك بعلى كما أشار إليه في القاموس بتفسيره بالإشراف على الماء وهو في الإستعمال كثير وإلا فقد قيل إنه متعد بنفسه كما في قوله تعالى ورودها فاللام للتقوية لكون المعمول مقدما والعامل فرعي وقيل إن اللام بمعنى إلى كما في قوله تعالى بأن ربك أوحى لها وليس بذلك
والظاهر أن الورود هنا ورود دخول والخطاب للكفرة وما يعبدون تغليبا لو كان هؤلاء آلهة كما تزعمون أيها العابدون إياها ما وردوها وحيث تبين ورودهم إياها على أتم وجه حيث أنهم حصب جهنم امتنع كونهم آلهة بالضرورة وهذا ظاهر في أن المراد مما يعبدون الأصنام لا الشياطين لأن المراد به إثبات نقيض ما يدعونه وهم يدعون إلهية الأصنام لا إلهيتها حتى يحتج بورودها النار على عدمها نعم الشياطين التي تعبد داخلة في حكم النص بطريق الدلالة فلا تغفل
وكل من العبدة والمعبودين فيها خالدون
99
- باقون إلى الأبد لهم فيها زفير هو صوت نفس المغموم يخرج من أقصى الجوف وأصل الزفر كما قال الراغب : ترديد النفس حتى تنتفخ منه الضلوع والظاهر أن ضمير لهم للكل أعني العبدة والمعبودين وفيه تغليب العقلاء على غيرهم من الأصنام حيث
(17/96)

جيء بضمير العقلاء راجعا إلى الكل وجيء ذلك في خالدون أيضا وكذا غلب من يتأتى منه الزفير ممن فيه حياه على غيره من الأصنام أيضا حيث نسب الزفير للجميع وجوز أن يجعل الله تعالى للأصنام التي عبدت حياة فيكون حالها حال من معها ولها مالهم فلا تغليب وقيل : الضمير للمخاطبين في إنكم خاصة على سبيل الإلتفات فلا حاجة إلى القول بالتغليب أصلا ورد بأنه يوجب تنافر النظم الكريم ألا ترى قوله تعالى : أنتم لها واردون كيف جمع بينهم تغليبا للمخاطبين فلو خص لهم فيها زفير لزم التفكيك وكذا الكلام في قوله تعالى : وهم فيها لا يسمعون
100
- أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وفظاعة العذاب على ما قيل وقيل : لا يسمعون لو نودي عليهم لشدة زفيرهم وقيل : لا يسمعون ما يسرهم كم الكلام إذ لا يكلمون إلا بما يكرهون وقيل : إنهم يبتلون بالصمم حقيقة لظاهر قوله تعالى : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وهو كما ترى وذكر في حكمة إدخال المشركين النار مع معبوداتهم أنها زيادة غمهم برؤيتهم إياها معذبة مثلهم وقد كانوا يرجون شفاعتها وقيل : زيادة غمهم برؤيتها معهم وهي السبب في عذابهم فقد قيل : واحتمال الأذى ورؤية جانيه غذاء تضيء به الأجساد وظاهر بعض الأخبار أن نهاية المخلدين أن لا يرى بعضهم بعضا فقد روى ابن جرير وجماعة عن ابن مسعود أنه قال : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت من حديد ثم قذفوا في أسفل الجحيم فما يرى أحدهم أنه يعذب في النار غيره ثم قرأ الآية لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ومنه يعلم قول آخر في لا يسمعون والله تعالى أعلم
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أي الخصلة المفضلة في الحسن وهي السعادة وقيل : التوفيق للطاعة والمراد من سبق تقديره في الأزل وقيل : الحسنى الكلمة الحسنى وهي المتضمنة للبشارة بثوابهم وشكر أعمالهم والمراد من سبق ذلك تقدمه في قوله تعالى : فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون وهو خلاف الظاهر والظاهر أن المراد من الموصول كل من اتصف بعنوان الصلة وخصوص السبب لا يخصص وما ذكر في بعض الآثار تفسيره بعيسى وعزير والملائكة عليهم السلام فهو من الإقتصار على بعض أفراد العام حيث أنه السبب في النزول وينبغي أن يجعل من باب الإقتصار ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عن محمد بن حاطب عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسر الموصول بعثمان وأصحابه رضي الله تعالى عنهم
وروي ابن أبي حاتم وجماعة عن النعمان بن بشير أن عليا كرم الله تعالى وجهه قرأ الآية فقال أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وسعد بن عبد الرحمن منهم كذا رأيته في الدر المنثور ورأيت في غيره عد العشرة المبشرة رضي الله تعالى عنهم والجاران متعلقان بسيقت
وجوز أبو البقاء في الثاني كونه متعلقا بمحذوف وقع حالا من الحسنى وقوله تعالى أولئك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الشرف
(17/97)

والفضل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من نعت الجميل عنها أي عن جهنم مبعدون
101
- لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار لا يسمعون حسيسها أي صوتها الذي يحس من حركتها والجملة بدل من مبعدون وجوز أن تكون حالا من ضميره وأن تكون خبرا بعد خبر واستظهر كونها مؤكدة لما أفادته الجملة الأولى من بعدهم عنها وقيل إن الإبعاد يكون بعد القرب فيفهم منه أنهم وردوها أولا ولما كان مظنة التأذي بها دفع بقوله سبحانه لا يسمعون فهي مستأنفة لدفع ذلك فعلى هذا يكون عدم سماع الحسيس قبل الدخول إلى الجنة ومن قال به قال : إن ذلك حين المرور على الصراط وذلك لأنهم على ما ورد في بعض الآثار يمرون عليها وهي خامدة لا حركة لها حتى أنهم يظنون وهم في الجنة أنهم لم يمروا عليها وقيل لا يسمعون ذلك لسرعة مرورهم وهو ظاهر ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : أولئك أولياء الله تعالى يمرون على الصراط مرا هو أسرع من البرق فلا تصيبهم ولا يسمعون حسيسها ويبقى الكفار جثيا لكن جاء في خبر آخر رواه عنه ابن أبي حاتم أيضا وابن جرير أنه قال في لا يسمعون الخ لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منازلهم في الجنة وقيل إن الإبعاد عنها قبل الخول إلى الجنة أيضا والمراد بذلك حفظ الله تعالى إياهم عن الوقوع فيها كما يقال أبعد الله تعالى فلانا عن فعل الشر والأظهر أن كلا الأمرين بعد دخول الجنة وذلك بيان لخلاصهم عن المهالك والمعاطب
وقوله تعالى وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون
102
- بيان بفوزهم بالمطالب بعد ذلك الخلاص والمراد أنهم دائمون في غاية التنعم وتقديم الظرف للقصر والإهتمام ورعاية الفواصل
وقوله تعالى لا يحزنهم الفزع الأكبر بيان لنجاتهم من الإفزاع بالكلية بعد نجاتهم من النار لأنهم إذا لم يحزنهم أكبر الإفزاع لم يحزنهم ما عداه بالضرورة كذا قيل وليلاحظ ذلك مع ما جاء في الأخبار أن النار تزفر في الموقف زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا جثا على ركبتيه فإن قلنا : إن ذلك لا ينافي عدم الحزن فلا إشكال وإذا قلنا : إنه ينافي فهو مشكل إلا أن يقال : إن ذلك لقلة زمانه وسرعة الأمن مما يترتب عليه نزل منزلة العدم فتأمل والفزع كما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الجزع ويطلق على الذهاب بشرعة لما يهول واختلف في وقت هذا الفزع فعن الحسن وابن جبير وابن جريج أنه حين انصراف أهل النار إلى النار
ونقل عن الحسن أنه فسر الفزع الأكبر بنفس هذا الإنصراف فيكون الفزع بمعنى الذهاب المتقدم وعن الضحاك أنه حين وقوع طبق جهنم عليها وغلقها على من فيها وجاء ذلك في رواية ابن أبي الدنيا عن ابن عباس وقيل حين ينادى أهل النار اخسئوا فيها ولا تكلمون وقيل حين يذبح الموت بين الجنة والنار وقيل يوم تطوى السماء وقيل حين النفخة الأخيرة وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والظاهر أن المراد بها النفخة للقيام من القبور لرب العالمين وقال في قوله تعالى : وتتلقاهم الملائكة أي تستقبلهم بالحرمة عند قيامهم من قبورهم وقيل بالسلام عليهم حينئذ قائلين هذا يومكم الذي كنتم توعدون
103
- في الدنيا مجيئه وتبشرون بما فيه لكم من المثوبات على الإيمان
(17/98)

والطاعة وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية : تتلقاهم الملائكة الذين كانوا قرناءهم في الدنيا يوم القيامة فيقولون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة وقيل تتلقاهم عند باب الجنة بالهدايا أو بالسلام والأظهر أن ذلك عند القيام من القبور وهو كالقرينة على أن عدم الحزن حين النفخة الأخيرة وظاهر أكثر الجمل يقتضي عدم دخول الملائكة في الموصول السابق بل قوله تعالى وتتلقاهم الخ نص في ذلك فلعل الإسناد في ذلك عند من أدرج الملائكة عليهم السلام في عموم الموصول لسبب النزول على سبيل التغليب أو يقال : إن استثناءهم من العموم السابق لهذه الآية بطريق دلالة النص كما أن دخولهم فيما قبل كان كذلك وقرأ أبو جعفر لا يحزنهم مضارع أحزن وهي لغة تميم وحزن لغة قريش
يوم نطوي السماء منصوب باذكر وقيل ظرف للايحزنهم وقيل للفزع والمصدر المعرف وإن كان ضعيفا في العمل لا سيما وقد فصل بينه وبين بأجنبي إلا أن الظرف محل التوسع قاله في الكشف
وقال الخفاجي : إن المصدر الموصوف لا يعمل على الصحيح وإن كان الظرف قد يتوسع فيه وقيل ظرف لتتلقاهم وقيل هو بدل من العائد المحذوف من توعدون بدل كل من كل وتوهم أنه بدل اشتمال وقيل حال مقدرة من ذلك العائد لأن يوم الطي بعد الوعد
وقرأ شيبة بن نصاح وجماعة يطوى بالياء والبناء للفاعل وهو الله عز و جل وقرأ ابو جعفر وأخرى بالتاء الفوقية والبناء للمفعول ورفع السماء على النيابة والطي ضد النشر وقيل الإفتاء والإزالة من قولك : اطو عني هذا الحديث وأنكر ابن القيم إفناء السماء وإعدامها إعداما صرفا وادعى أن النصوص إنما تدل على تبديلها وتغييرها من حال إلى حال ويبعد القول بالإفناء ظاهر التشبيه في قوله تعالى كطي السجل وهو الصحيفة على ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد ونسبه في مجمع البيان إلى ابن عباس وقتادة والكلبي أيضا وخصه بعضهم بصحيفة العهد وقيل : هو في الأصل حجر يكتب فيه ثم سمي به كل ما يكتب فيه من قرطاس وغيره والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أي طيا كطي الصحيفة وقرأ أبو هريرة وصاحبه أبو زرعة بن عمرو بن جرير السجل بضمتين وشد اللام والأعمش وطلحة وأبو السمال السجل بفتح السين والحسن وعيسى بكسرها والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة وقال أبو عمرو : قرأ أهل مكة كالحسن واللام في قوله تعالى للكتب متعلق بمحذوف هو حال من السجل أو صفة له على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي كطي السجل كائنا للكتب أو الكائن للكتب فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتعلق الطي حقيقة وقرأ الأعمش للكتب بإسكان التاء وقرأ الأكثر للكتاب بالإفراد وهو إما مصدر واللام للتعليل أي كما يطوى الطومار للكتابة أي ليكتب فيه وذلك كناية عن اتخاذه لها ووضعه مسوي مطويا إذا احتيج إلى الكتابة لم يحتج إلى تسويته فلا يرد أن المعهود نشر الطومار للكتابة لا طيه لها وإما اسم كالإمام فاللام كما ذكر أولا
وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أن السجل اسم ملك وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وابن عساكر عن الباقر رضي الله تعالى عنه وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي نحوه إلا أنه قال : إنه موكل
(17/99)

بالصحف فإذا مات الإنسان وقع كتابه إليه فطواه ورفعه إلى يوم القيامة واللام على هذا قيل متعلقة بطي وقيل سيف خطيب وكونها بمعنى على كما ترى واعترض هذا القول بأنه لا يحسن التشبيه عليه إذ ليس المشبه به أقوى ولا أشهر وأجيب بأنه أقوى نظرا لما في أذهان العامة من قوة الطاوي وضعف المطوي وصغر حجمه بالنسبة للسماء أي نظرا لما في أذهانهم من مجموع الأمرين فتأمل وأخرج أبو داود والنسائي وجماعة منهم البيهقي في سننه وصححه عن ابن عباس أن السجل كاتب للنبي صلى الله عليه و سلم وأخرج جماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما نحوه وضعف ذلك بل قيل إنه قول واه جدا لأنه لم يعرف أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم اسمه السجل ولا حسن للتشبيه عليها أيضا وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الرجل زاد ابن مردوية بلغة الحبشة ونقل ذلك عن الزجاج وقال بعضهم : يمكن حمل الرواية السابقة عن ابن عباس على هذا والأكثر على ما قيل على تفسير السجل بالصحيفة واختلف في أنه عربي أو معرب فذهب البصريون إلى أنه عربي وقال أبو الفضل الرازي : الأصح أنه فارسي معرب هذا ثم أن الآية نص في دثور السماء وهو خلاف ما شاع عن الفلاسفة نعم ذكر صدر الدين الشيرازي في كتابه الأسفار أن مذهب أساطبن الفلاسفة المتقدمين القول بالدثور والقول بخلاف ذلك إنما هو لمتأخريهم لقصور أنظارهم وعدم صفاء ضمائرهم فمن الأساطين انكسيمائس الملطي قال : إنما ثبات هذا العالم بقدر ما فيه من قليل نور ذلك العالم وأراد به عالم المجردات المحضة وإلا لما ثبت طرفة عين ويبقى ثباته إلى أن يصفي جزؤه الممتزج جزأها المختلط فإذا صفى الجزآن عند ذلك دثرت أجزاء هذا العالم وفسدت وبقيت مظلمة وبقيت الأنفس الدنسة في هذه الظلمة لا نور لها ولا سرور ولا راحة ولا سكون ولا سلوة
ومنهم فيثاغورس نقل عنه أنه قيل له : لم قلت بإبطال العالم فقال : لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان فإذا بلغها سكنت حركته ومنهم أفلاطون حكى الشيخ أبو الحسن العامري أنه ذكر في كتابه المعروف بطيماوس أن العالم مكون وأن الباري تعالى قد صرفه من لا نظام إلى نظام وأن جواهره كلها مركبة من المادة والصورة وأن كل مركب معرض للإنحلال نعم إنه قال في أسولوطيقوس أي تدبير البدن إن العالم أبدي غير مكون دائم البقاء وتعلق بهذا ابرقلس فبين كلاميه تناف وقد وفق بينهما تلميذه أرسطاطاليس بما فيه نظر ولعل الأوفق أن يقال على مشربهم : أراد بالعالم الأبدي عالم المفارقات المحضة ومنهم أرسطاطاليس قال في كتاب أثولوجيا إن الأشياء العقلية تلزم الأشياء الحسية والباري سبحانه لا يلزم الأشياء الحسية والعقلية بل هو سبحانه ممسك لجميع الأشياء غير أن الأشياء العقلية هي آنيات حقية لأنها مبتدعة من العلة الأولى بغير وسط وأما الأشياء الحسية فهي آنيات دائرة لأنها رسول الآنيات الحقية ومثالها وإنما قوامها ودوامها بالكون والتناسل كي تدوم وتبقى تشبيها بالأشياء العقلية الثابتة الدائمة وقال في كتاب الربوبية : ابدع العقل صورة النفس من غير أن يتحرك تشبيها بالواحد الحق وذلك أن العقل أبدعه الواحد الحق وهو ساكن فكك النفس أبدعها العقل وهو ساكن أيضا غير أن الواحد الحق أبدع هوية العقل وأبدع العقل صورة النفس ولما كانت معلولة من معلول لم تقو أن تفعل فعلها بغير حركة بل فعلته بحركة وأبدعت صنما وإنما سمي صنما لأنه فعل دائر غير ثابت ولا باق
(17/100)

لأنه كان بحركة والحركة لا تأتي بالشيء الثابت الباقي بل إنما تأتي بالشيء لدائر وإلا لكان فعلها أكرم منها وهو تقبيح جدا وسأله بعض الدهرية إذا كان المبدع لم يزل ولا شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه فقال : لم غير جائزة عليه لأن لم تقتضي عليه والعلة محمولة فيما هي علة عليه من معل فوقه وليس بمركب يتحمل ذاته العلل فلم عنه منفية فإنما فعل ما فعل لأنه جواد فقيل يجب أن يكون فاعلا لم يزل لأنه جواد لم يزل فقال : معنى لم يزل لا أول له وفعل فاعل يقتضي أولا واجتماع أن يكون ما لا أول له وذا أول في القول والذات محض متناقض فقيل : فهل يبطل هذا العالم قال : نعم فقيل : فإذا أبطله بطل الجود فقال : يبطل ليصوغه الصيفة التي لا تحتمل الفساد لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد ومنهم فرفوريوس واضع ايساغوجي قال المكونات كلها إنما تتكون بنكون الصورة على سبيل التغير وتفسد بخلو الصورة إلى غير ذلك من الفلاسفة وأقوالهم
وذكر جميع ذلك مما يفضي إلى الملل ومن أراده فليرجع إلى الأسفل وغيره من كتب الصدر والحق أنه قد وقع في كلام متقدمي الفلاسفة كثيرا مما هو ظاهر في مخالفة مدلول الآية الكريمة ولا يكاد يحتمل التأويل وهو مقتضي أصولهم وما يتراءى منه الموافقة فإنما يتراءى منه الموافقة في الجملة والتزام التوفيق بين ما يقوله المسلمون في أمر العالم بأسره وما يقوله الفلاسفة في ذلك كالتزام التوفيق بين الضب والنون بل كالتزام الجمع بين الحركة والسكون
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا ما استقل يماني فعليك بما نطق به الكتاب المبين أو صح عن الصادق الأمين صلى الله عليه و سلم وما عليك إذا خالفت الفلاسفة فاغلب ما جاؤا به جهل وسفه ولعمري لقد ضل بكلامهم كثير من الناس وباض وفرخ في صدورهم الوسواس الخناس وهو جعجعة بلا طحن وقعقعة كقعقعة شن ولو لا الضرورة التي لا أبديها والعلة التي عن مداويها لما أضعت في درسه وتدريسه شرخ شبابي ولما ذكرت شيئا منه خلال سطور كتابي هذا وأنا أسأل الله تعالى التوفيق للتمسك بحبل الحق الوثيق ثم إن الظاهر من الأخبار الصحيحة أن العرش لا يطوى كما تطوى السماء فإن كان هو المحدد كما يزعمه الفلاسفة ومن تبع آثارهم فعدم دثوره بخصوصه مما صرح به من الفلاسفة الأسكندر الأفروديسي من كبار أصحاب ارسطاطاليس وإن خالفه في بعض المسائل ومن حمل كلامه على خلاف ذلك فقد تعسف وأتى بما لا يسلم له وظاهر الآية الكريمة أيضا مشعر بعدم طيه للإقتصار فيها على طي السماء والشائع عدم إطلاقها على العرش ثم أن الطي لا يختص بسماء دون سماء بل تطوى جميعها لقوله تعالى والسماوات مطويات بيمينه
كما بدأنا أول خلق نعيده الظاهر أن الكاف جارة وما مصدرية والمصدر مجرور بها والجار والمجرور صفة مصدر مقدر و أول مفعول بدأنا أي نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا إياه أي في السهولة وعدم التعذر وقيل أي في كونها إيجادا بعد العدم أو جمعا من الأجزاء المتفرقة ولا يخفى أن في كون الإعادة إيجادا بعد العدم مطلقا بحثا نعم قال اللقاني : مذهب الأكثرين أن الله يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وهو قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء على الأجسام بل وقوعه
وقال البدر الزركني والآمدي : إنه الصحيح والقول بأن الإعادة على تفريق محص قول الأقل وحكاه
(17/101)

جمع بصيغة التمريض لكن في المواقف وشرحه هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التآليف والحق أنه لم يثبت في ذلك شيء فلا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من الطرفين
وفي الإقتصاد لحجة الإسلام الغزالي فإن قيل هل تعدم الجواهر والأعراض ثم تعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر وتعاد الأعراض قلنا : كل ذلك ممكن والحق أنه ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات
وقال بعضهم : الحق وقوع الأمرين جميعا إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بإعراضه وأنت تعلم أن الأخبار صحت ببقاء عجب الذنب من الإنسان فإعادة الإنسان ليست كبدئه وكذا روي أن الله تعالى عز و جل حرم على الأرض أجساد الأنبياء وهو حديث حسن عند ابن العربي وقال غيره : صحيح وجاء نحو ذلك في المؤذنين احتسابا وحديثهم في الطبراني وفي حملة القرآن وحديثهم عند ابن منده وفيمن لم يعمل خطيئة قط وحديثهم عن المروزي فلا تفعل وكذا في كور البدء جمعا من الأجزاء المتفرقة إن صح في المركب من العناصر كالإنسان لا يصح في نفس العناصر مثلا لأنها لم تخلق أولا من أجزاء متفرقة بإجماع المسلمين فلعل ما ذكرناه في وجه الشبه أبعد عن القال والقيل
واعترض جعل أول مفعول بدأنا بأن تعلق البداءة بأول الشيء المشروع فيه ركيك لا يقال بدأت أول كذا وإنما يقال بدأت كذا وذلك لأن بداية الشيء هي المشروع فيه والمشروع يلاقي الأول لا محالة فيكون ذكره تكرارا ونظر فيه بأن المراد بدأنا ما كان أولا سابقا في الوجود وليس المراد بالأول أول الأجزاء حتى يتوهم ما ذكر وقيل أول خلق مفعول نعيد الذي يفسره نعيده والكاف مكفوفة بما أي نعيد أول خلق نعيده وقد تم الكلام بذلك ويكون كما بدأنا جملة منقطعة عن ذلك على معنى تحقق ذلك مثل تحققه وليس المعنى إعادة مثل البدء ومحل الكاف في مثله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف جيء به تأكيدا والمقام يقتضيه كما يشعر به التذنيب فلا يقال : إنه لا داعي إلى راتكاب خلاف الظاهر وتنكير خلق لإرادة التفصيل وهو قائم مقام الجمع في إفادة تناول الجمع فكأنه قيل نعيد المخلوقين الأولين
وجوز أن تنصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده وما موصولة و أول ظرف لبدأنا لأن الموصول يستدعي عائدا فإذا قدر هنا يكون مفعولا ولأول قابلية النصب على الظرفية فينصب عليها ويجوز أن يكون في موضع الحال من ذلك العائد وحاصل المعنى نعيد مثل الذي بدأناه في أول خلق أو كائنا أول خلق والخلق على الأول مصدر وعلى الثاني بمعنى المخلوق وجوز كون ما موصولة وباقي الكلام بحاله
وتعقب أبو حيان نصب الكاف بأنه قول بأسميتها وليس مذهب الجمهور وإنما ذهب إليه الأخفش ومذهب البصريين سواه أن كونها اسما مخصوص بالشعر وأورد نحوه على القول بأن محلها الرفع في الوجه السابق وغذا قيل بأن للمكفوفة متعلقا كما اختاره بعضهم للرضي ومن معه فليكن متعلقها خبر مبتدأ محذوف هناك ورجح كون المراد نعيد مثل الذي بدأناه في أول خلق بما أخرجه ابن جرير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وعندي عجوز من بني عامر فقال : من هذه العجوز يا عائشة فقلت : إحدى خالاتي فقالت : ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال عليه الصلاة و السلام : إن الجنة لا يدخلها
(17/102)

العجز فأخذ العجوز ما أخذها فقال صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى ينشئهن خلقا غير خلقهن ثم قال : تحشرون حفاة عراة غلفا فقالت : حاش لله تعالى من ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بلى إن الله تعالى قال كما بدأنا أول خلق نعيده ومثل هذا المعنى حاصل على ما جوزه ابن الحاجب من كون كما بدأنا في موضع الحال من ضمير نعيده أي نعيد أول خلق مماثلا للذي بدأناه ولا نغفل عما يقتضيه التشبيه من مغايرة الطرفين وأياما كان فالمراد الإخبار بالبعث وليست ما في شيء من الأوجه خاصة بالسماء إذ ليس المعنى عليه ولا اللفظ يساعده
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية نهلك كل شيء كما كان أول مرة ويحتاج ذلك إلى تدبر
وعدا مصدر منصوب بفعله المحذوف تأكيدا له والجملة مؤكدة لما قبلها أو منصوب بنعيد لأنه عدة بالإعادة وإلى هذا ذهب الزجاج واستجود الأول الطبلاسي بأن القراء يقفون على نعيده علينا في موضع الصفة لوعدا أي وعدا لازما علينا والمراد لزم إنجازه من غير حاجة إلى تكلف الإستخدام إنا كنا فاعلين
104
- ذلك بالفعل لا محالة والأفعال المستقبلة التي علم الله تعالى وقوعها كالماضية في التحقق ولذا عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز أو قادرين على أن نفعل ذلك واختاره الزمخشري وقيل عليه : إنه خلاف الظاهر ولقد كتبنا في الزبور الظاهر أنه زبور داود عليه السلام وروي ذلك عن الشعبي
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه الكتب والذكر في قوله تعالى من بعد الذكر التوراة وروي تفسيره بذلك عن الضحاك أيضا وقال في الزبور : الكتب من بعد التوراة وأخرج عن ابن جبير أن الذكر التوراة والزبور القرآن وأخرج عن ابن زيد أن الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء عليهم السلام والذمر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك وهو اللوح المحفوظ كما في بعض الآثار واختار تفسيره بذلك الزجاج وإطلاق الذكر عليه مجاز وقد وقع في حديث البخاري عنه صلى الله عليه و سلم كان الله تعالى ولم يكن قبله شيء وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء وقيل الذكر العلم وهو المراد بأم الكتاب وأصل الزبور كل كتاب غليظ الكتابة من زبرت الكتاب أزبر بفتح الموحدة وضمها كما في المحكم إذا كتبته كتابة غليظة وخص في المشهور بالكتاب المنزل على داود عليه السلام وقال بعضهم : هو اسم للكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأحكام الشرعية ولهذا يقال للمنزل على داود عليه السلام إذ لا يتضمن شيئا من الأحكام الشرعية
والظاهر أنه اسم عربي بمعنى الزبور ولذا جوز تعلق من بعده به كما جوز تعلقه بكتبنا وقال حمزة : هو اسم سرياني وأياما كان فإذا أريد منه الكتب كان اللام فيه للجنس أي كتبنا في جنس الزبور
أن الأرض يرثها عبادي الصالحون
105
- أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن ابن عباس أن المراد بالأرض أرض الجنة قال الإمام : ويؤيده قوله تعالى : وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وإنها الأرض التي يخاص بها الصالحون لأنها لهم خلقت وغيرهم إذا حصلوا فيها فعلى وجه التبع وأن
(17/103)

الآية ذكرت عقيب ذكر الإعادة وليس بعد الإعادة أرض يستقر بها الصالحون ويمتن بها عليهم سوى أرض الجنة وروي هذا القول عن مجاهد وابن جبير وعكرمة والسدي وأبي العالية وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بها أرض الدنيا يرثها المؤمنون ويستولون عليها وهو قول الكلبي وأيد بقوله تعالى : ليستخلفنهم في الأرض
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وهذا وعد منه تعالى بإظهار الدين وإعزاز أهله واستيلائهم على أكثر المعمورة التي يكثر تردد المسافرين إليها وإلا فمن الأرض مالم يطأها المؤمنون كالأرض الشهيرة بالدنيا الجديدة وبالهند الغربي وإن قلنا بأن جميع ذلك يكون في حوزة المؤمنين أيام المهدي رضي الله تعالى عنه ونزول عيسى عليه السلام فلا حاجة إلى ما ذكر وقيل : المراد بها الأرض المقدسة وقيل : الشأم ولعل بقاء الكفار وحدهم في الأرض جميعها في آخر الزمان كما صحت به الأخبار لا يضر في هذه الوراثة لما أن بين استقلالهم في الأرض حينئذ وقيام الساعة زمنا يسيرا لا يعتد به وقد عد ذلك من المباديء القريبة ليوم القيامة والأولى أن تفسر الأرض بأرض الجنة كما ذهب إليه الأكثرون وهو أوفق بالمقام
ومن الغرائب قصة تفاؤل السلطان سليم بهذه الآية حين أضمر محاربته للغورى وبشارة ابن كمال له أخذا مما رمزت إليه الآية بملكه مصر في سنة كذا ووقوع الأمر كما بشر وهي قصة شهيرة وذلك من الأمور الإتفاقية ومثله لا يعول عليه إن في هذا أي فيما ذكر في هذه السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة والوعد والوعيد والراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة وقيل : الإشارة إلى القرار كله لبلاغا أ كفاية أو سبب بلوغ البغية أو نفس البلوغ إليها على سبيل المبالغة لقوم عابدين
106
- أي لقوم هممهم العبادة دون العادة وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنهم الذين يصلون الصلوات الخمس بالجماعة
وأخرج ابن مردوية عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ فقال : هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة وضمير هي للعبادة المفهومة من عابدين وقال أبو هريرة ومحمد بن كعب ومجاهد : هي الصلوات الخمس ولم يقيدوا بشيء وعن كعب الأحبار تفسيرها بصيام شهر رمضان وصلاة الخمس والظاهر العموم وأن ما ذكر من باب الإقتصار على بعض الأفراد لنكتة وما أرسلناك بما ذكر وبأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك مما هو مناط لسعادة الدارين إلا رحمة للعالمين
107
- استثناء من أعم العلل أي وما أرسلناك بما ذكر لعلة من العلل إلا لترحم العالمين بإرسالك أو من أعم الأحوال أي وما أرسلناك في حال من الأحوال إلا كونك رحمة أو ذا رحمة أو راحما ببيان ما أرسلت به والظاهر أن المراد بالعالمين ما يشمل الكفار ووجه ذلك عليه أنه عليه الصلاة و السلام أرسل بما هو سبب لسعادة الدارين ومصلحة النشأتين إلا أن الكافر فوت على نفسه الإنتفاع بذلك وأعرض لفساد استعداده عما هنالك فلا يضر ذلك في كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل رحمة بالنسبة إليه أيضا كما لا يضر في كون العير العذبة مثلا نافعة عدم انتفاع الكسلان بها لكسله وهذا ظاهر خلافا لمن ناقش فيه وهل يراد بالعالمين ما يشمل الملائكة عليهم السلام أيضا فيه خلاف مبني
(17/104)

على الخلاف في عموم بعثته صلى الله عليه و سلم لهم فإذا قلنا بالعموم كما رجحه من الشافعية البارزي وتقي الدين السبكي والجلال المحل في خصائصه ومن الحنابلة ابن تيمية وابن حامد وابن مفلح في كتاب الفروع ومن المالكية عبد الحق قلنا بشمول العلمين لهم هنا وكونه صلى الله عليه و سلم أرسل رحمة بالنسبة إليهم لأنه جاء عليه الصلاة و السلام أيضا بما فيه تكليفهم من الأوامر والنواهي وإن لم نعلم ما هنا ولا شك أن في امتثال المكلف ما كلف به نفعا له وسعادة وإن قلنا بعدم العموم كما جزم به الحليمي والبيهقي والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع وزين الدين العراقي في نكته على ابن الصلاح من الشافعية ومحمود بن حمزة في كتابه العجائب والغرائب من الحنفية بل نقل البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الإجماع عليه وإن لم يسلم قلنا بعدم شموله لهم هنا وإرادة من عداهم منه وقيل : هم داخلون هنا في العموم وإن لم نقل ببعثته صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم لأنهم وقفوا بواسطة إرسال عليه الصلاة و السلام على جمة أسرار عظيمة مما أودع في كتابه الذي فيه بناء ما كان وما يكون عبارة وإشارة وأي سعادة أعظم من التحلي بزينة العلم وكونهم عليهم السلام لا يجهلون شيئا مما لم يذهب إليه أحد من المسلمين وقيل : لأنهم أظهر من فضلهم على لسانه الشريف ما أظهر
وقال بعضهم : إن الرحمة في حق الكفار أمنهم ببعثته صلى الله عليه و سلم من الخسف والمسخ والقذف والإستئصال وأخرج ذلك الطبراني والبيهقي وجماعة عن ابن عباس وذكر أنها في حق الملائكة عليهم السلام الأمن من نحو ما ابتلي به هاروت وماروت وأريد بما ذكره صاحب الشفاء أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لجبريل عليه السلام : هل أصابك من هذه الرحمة شيء قال : نعم كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى علي في القرآن بقوله سبحانه ذي قوة عند ذي العرش مكين وإذا صح هذا الحديث لزم القول بشمول العالمين للملائكة عليهم السلام إلا أن الجلال السيوطي ذكر في تزيين الأرائك أنه لم يوقف له على إسناد وقيل المراد بالعالمين جميع الخلق فإن العالم ما سوى الله تعالى وصفاته جل شأنه وجمع جمع العقلاء تغليبا للإشراف على غيره
وكونه صلى الله عليه و سلم رحمة للجميع باعتبار أنه عليه الصلاة و السلام واسطة الفيض الإلهي على الممكنات على حسب القوابل ولذا كان نوره صلى الله عليه و سلم أول المخلوقات ففي الخبر أول ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر وجاء الله تعالى المعطي وأنا القاسم وللصوفية قدست أسرارهم في هذا الفصل كلام فوق ذلك وفي مفتاح السعادة لابن القيم أنه لو لا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معيضة ولا قوام لمملكة ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض وكل خير في العالم فمن آثار النبوة وكل شر وقع في العالم أو سيقع فبسبب خفاء آثار النبوة ودروسها فالعالم جسد روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه ولهذا إذا انكسفت شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من آثارها البتة انشقت سماؤه وانتشرت كواكبه وكورت شمسه وخسف قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة أه وإذا سلم هذا علم منه بواسطة كونه صلى الله عليه و سلم أكمل النبيين وما جاء به أجل مما جاؤا به عليهم السلام وإن لم يكون في الأصول اختلاف وجه كونه عليه الصلاة و السلام أرسل رحمة للعالمين أيضا لكن لا يخلو ذلك عن بحث
وزعم بعضهم أن العالمين هنا خاص بالمؤمنين وليس بشيء ولواحد من الفضلاء كلام طويل في هذه الآية الكريمة نقض فيه وأبرم ومنع وسلم ولا أرى له منشأ سوى قلة الإطلاع على الحق الحقيق بالإتباع
(17/105)

وأنت متى أخذت العناية بيدك بعد الإطلاع عليه سهل عليك رده ولم يهولك هزله وجده والذي اختاره أنه صلى الله عليه و سلم إنما بعث رحمة لكل فرد فرد من العالمين ملائكتهم وأنسهم وجنهم ولا فرق بين المؤمن والكافر من الإنس والجن في ذلك والرحمة متفاوتة ولبعض من العالمين المعلى والرقيب منها وما يرى أنه ليس من الرحمة فهو إما منها في النظر الدقيق أو ليس مقصودا بالقصد الأولى كسائر الشرور الواقعة في العالم بناء على ما حقق في محله أن الشر ليس داخلا في قضاء الله تعالى بالذات ومما هو ظاهر في عموم العالمين الكفار ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال : إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة ولعله يؤيد نصب رحمة في الآية على الحال كقوله صلى الله عليه و سلم الذي أخرجه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة إنما أنا رحمة مهداة ولا يشين احتمال التعليل ما ذهب إليه الأشاعرة من عدم تعليل أفعاله عز و جل فإن الماتريدية وكذا الحنابلة ذهبوا إلى خلافه وردوه بما لا مزيد عليه على أنه لا مانع من أن يقال فيه كما قيل في سائر ما ظاهره التعليل ووجود المانع هنا توهم محض فتدبر ثم لا يخفى أن تعلق للعالمين برحمة هو الظاهر
وقال ابن عطية : يحتمل أن يتعلق بأرسلناك وفي البحر لا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد إلا بالفعل قبلها إلا إن كان العامل مفرغا له نحو ما مررت إلا بزيد
قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ذهب جماعة إلى أن الآية حصرين بناء على أن أنما المفتوحة تفيد ذلك كالمكسورة والأول لقصر الصفة على الموصوف والثاني لقصر الموصوف على الصفة فالثاني قصر فيه الله تعالى على الوحدانية والأول قصر فيه الوحي على الوحدانية والمعنى ما يوحى إلي إلا اختصاص الله تعالى بالوحدانية
واعترف بأنه كبف يقصر الوحي على الوحدانية وقد أوحي إليه صلى الله عليه و سلم أمور كثيرة غير ذلك كالتكليف والقصص وأجيب بوجهين الأول أن معنى قصره عليه أنه الأصل الأصيل وما عداه راجع إليه أو غير منظور إليه في جنبه فهو قصر ادعائي والثاني أنه قصر قلب بالنسبة إلى الشرك الصادر من الكفار وكذا الكلام في القصر الثاني وأنكر أبو حيان إفادة إنما المفتوحة الحصر لأنها مؤولة بمصدر واسم مفرد وليست كالمكسورة المؤولة بما وإلا وقال : لا نعلم خلافا في عدم إفادتها ذلك والخلاف إنما هو في إفادة إنما المكسورة إياه
وأنت تعلم أن الزمخشري وأكثر المفسرين ذهبوا إلى إفادتها ذلك والحق مع الجماعة ويؤيده هنا أنها بمعنى المكسورة لوقوعها بعد الوحي الذي هو في معنى القول ولأنها مقولة قل في الحقيقة ولا شك في إفادتها التأكيد فإذا اقتضى المقام القصر كما فيما نحن فيه انضم إلى التأكيد لكنه ليس بالوضع كما في المكسور فقد جاء ما لا يحتمل كقوله تعالى : وظن داود أنما فتناه ولذا فسره الزمخشري بقوله ابتليناه لا محالة مع تصريحه بالحصر هنا نعم في توجيه القصر هنا بما سمعت من كونه قصر الله تعالى على الوحدانية ما سمعته في آخر سورة الكهف فتذكر
وجوز في ما في إنما يوحى أن تكون موصولة وهو خلاف الظاهر وتجويزه فيما بعد بعيد جدا موجب لتكلف لا يخفى فهل أنتم مسلمون
108
- أي منقادون لما يوحى إلي من التوحيد وهو استفهام يتضمن الأمر بالإنقياد وبعضهم فسر الإسلام بلازمه وهو إخلاص العبادة له تعالى وما أشرنا إليه أولى
(17/106)

والفاء للدلالة على أن ما قبلها موجب لما بعدها قالوا : فيه دلالة على أن صفة الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع بجلاف إثبات الواجب فإن طريقه العقل لئلا يلزم الدور
قال في شرح المقاصد : إن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصدقهم لا يتوقف على الوحدانية فيجوز التمسك بالأدلة السمعية كإجماع الأنبياء عليهم السلام على الدعوة إلى التوحيد ونفي الشريك وكالنصوص القطعية من كتاب الله تعالى على ذلك وما قيل إن التعدد يستلزم الإمكان لما عرفت من أدلة التوحيد وما لم تعرف أن الله تعالى واجب الوجود خارج عن جميع الممكنات لم يتأت إثبات البعثة والرسالة ليس بشيء لأن غاية استلزام الوجوب الوحدة لا استلزام معرفته معرفتها فضلا عن التوقف وسبب الغلط عدم التفرقة بين ثبوت الشيء والعلم بثبوته انتهى
وتفريع الإستفهام هنا صريح في ثبوت الوحدانية بما ذكر وقول صاحب الكشف : إن الآية لا تصلح دليلا لذلك لأنه إنما يوحى إليه صلى الله عليه و سلم ذلك مبرهنا لا على قانون الخطابة فلعل نزولها كان مصحوبا بالبرهان العقلي ليس بشيء لظهور أن التفريع على نفس هذا الموحي وكون نزوله مصحوبا بالبرهان العقلي والتفريع باعتباره غير ظاهر فإن تولوا عن الإسلام ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه فقل لهم آذنتكم أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربي لكم والإيذان إفعال من الإذن وأصله العلم بالإجازة في شيء وترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم وصيغ منه الأفعال وكثيرا ما يتضمن معنى التحذير والإنذار وهو يتعدى لمفعولين الثاني منهما مقدر كما أشير إليه وقوله تعالى على سواء في موضع الحال من المفعول الأول أي كائنين على سواء في الإعلام بذلك لم أخص أحدا منكم دون أحد وجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل والمفعول معا أي مستويا أنا وأنتم في المعاداة أو في العلم بما أعلمتكم به من وحدانية الله تعالى لقيام الأدلة عليه وقيل ما أعلمهم صلى الله عليه و سلم به يجوز أن يكون ذلك وأن يكون وقوع الحرب في البين واستوائهم في العلم بذلك جاء من إعلامهم به وهم يعلمون أنه عليه الصلاة و السلام الصادق الأمين وإن كانوا يجحدون بعض ما يخبره عنادا فتدبر
وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدم أي إيذانا على سواء وأن يكون في موضع الخبر لأن مقدرة أي أعلمتكم أني على سواء أي عدل واستقامة رأي بالبرهان النير وهذا خلاف المتبادر جدا
وفي الكشاف أن قوله تعالى آذنتكم الخ استعارة تمثيلية شبه بمن بينه وبين أعدائه هدنة فأحسن بغدرهم فنبذ إليهم العهد وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك وهو من الحسن بمكان وإن أدري أي ما أردي أقريب أم بعيد ما توعدون
109
- من غلبة المسلمين عليكم وظهور الدين أو الحشسر مع كونه آتيا لا محالة والجملة في موضع نصب بأدري ولم يجيء التركيب أقريب ما توعدون أم بعيد لرعاية الفواصل
إنه يعلم الجهر من القول أي ما تجهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات التي من جملتها ما نطق بمجيء الموعود ويعلم ما تكتمون
110
- من الأحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه نقيرا وقمطيرا وإن أدري لعله فتنة لكم أي ما أدري لعل تأخير جزائكم استدراج لكم وزيادة في
(17/107)

افتتانكم أو امتحان لكم لينظر كيف تعملون وجملة لعله الخ في موضع المفعول على قياس ما تقدم
والكوفيون يجرون لعل مجرى هل في كونها معلقة قال أبو حيان : ولا أعلم أحدا ذهب إلى أن لعل من أدوات التعليق وإن كان ذلك ظاهرا فيها وعن ابن عباس في رواية أنه قرأ أردي بفتح الياء في الموضعين تشبيها لها بياء الإضافة لفظا وإن كانت لام الفعل لا تفتح إلا بعامل وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء
ومتاع إلى حين
111
- أي وتمتيع لكم وتأخير إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة ليكون ذلك حجة عليكم وقيل المراد بالحين يوم بدر وقيل يوم القيامة قال رب احكم بالحق حكاية لدعائه صلى الله عليه و سلم وقرأ الأكثر قل على صيغة الأمر والحكم القضاء والحق العدل أي رب اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضي لتعجيل العذاب والتشديد عليهم فهو دعاء بالتعجيل والتشديد وإلا فكل قضائه تعالى عدل وحق وقد استعجب ذلك حيث عذبوا ببدر أي تعذيب
وقرأ أبو جعفر رب بالضم على أنه منادى مفرد كما قال صاحب اللوامح وتعقبه بأن حذف حرف النداء من اسم الجنس شاذ بابه الشعر وقال أبو حيان : إنه ليس بمنادى مفرد بل هو منادى مضاف إلى الياء حذف المضاف إليه وبني على الضم كقبل وبعد وذلك لغة حكاها سيبويه في المضاف إلى ياء المتكلم حال ندائه ولا شذوذ فيه وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن ربي بياء ساكنة أحكم على صيغة التفضيل أي انفذ أو اعدل حكما أو أعظم حكمة فربي احكم مبتدأ وخبر
وقرأت فرقة احكم فعلا ماضيا ورنا الرحمن مبتدأ وخبر أي كثير الرحمة على عباده وقوله سبحانه المستعان أي المطلوب منه العون خبر آخر للمبتدأ وجوز كونه صفة للرحمن بناء على إجرائه مجرى العلم وإضافة الرب فيما سبق إلى ضميره صلى الله عليه و سلم خاصة لما أن الدعاء من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة و السلام كما أن إضافته ههنا إلى ضمير الجمع المنتظم للمؤمنين أيضا لما أن الإستعانة من الوظائف العامة لهم
على ما تصفون
112
- من الحال فإنهم كانوا يقولون : إن الشركة تكون لهم وإن راية الإسلام تخفق ثم تسكن وإن المتوعد به لو كان حقا لنزل بهم إلى غير ذلك مما لا خير فيه فاستجاب الله عز و جل دعوة رسوله صلى الله عليه و سلم فخيب آمالهم وغير أحوالهم ونصر أولياءه عليهم فأصابهم يوم بدر ما أصابهم والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ماقبله وروي أن النبي عليه الصلاة و السلام قرأ على أبي رضي الله تعالى عنه يصفون بياء الغيبة ورويت عن ابن عامر وعاصم هذا وفي جعل خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما يتعلق به خاتمة لسورة الأنبياء طيب كما قال الطيبي يتضوع منه مسك الختام
ومن باب الإشارة في الآيات ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل قيل ذلك الرشد إيثار الحق جل شأنه على ما سواه سبحانه وسئل الجنيد متى آتاه ذلك فقال : حين لا متى قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم فيه إشارة إلى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله
وقال حمدون القصار : استعانة الخلق بالخلق كاستعانة المسجون بالمسجون قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم قال ابن عطاء : كان ذلك لسلامة قلب إبراهيم عليه السلام وخلوه من الإلتفات إلى الأسباب وصحة
(17/108)

توكله على الله تعالى ولذا قال عليه السلام حين قال له جبريل عليه السلام : ألك حاجة أما إليك فلا ففهمناها سليمان فيه إشارة إلى أن الفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء ولا تعلق له بالصغر والكبر فكم من صغير أفضل من كبير بكثير وكلا آتينا حكما قبل معرفة بأحكام الربوبية وعلما معرفة بأحكام العبودية وسخرنا مع داود الجبال يسبحن قيل كان عليه السلام يخلو في الكهوف لذكره تعالى وتسبيحه فيشاركه في ذلك الجبال ويسبحن معه وذكر بعضهم أن الجبال لكونها خالية عن صنع الخلق حالية بأنوار قدرة الحق يحب العاشقون الحلو فيها ولذا تحنث صلى الله عليه و سلم في غار حراء
واختار كثير من الصالحين الإنقطاع للعبادة فيها وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ذكر أنه عليه السلام قال ذلك حين قصدت دودة قلبه ودودة لسانه فخاف أن يشغل موضع فكره وموضع ذكره وقال جعفر : كان ذلك منه عليه السلام استدعاء للجواب من الحق سبحانه ليسكن إليه ولم يكن شكوى وكيف يشكو المحب حبيبه وكل ما فعل المحبوب وقد حفظ عليه السلام آداب الخطاب وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه قيل إن ذلك رشحة من دن خمر الدلال وذكروا أن مقام الدل دون مقام العبودية المحضة لعدم فناء الإرادة فيه ولذا نادى عليه السلام لا إليه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أي حيث اختلج في سري أن أريد غيره ما أردت وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين قيل إنه عليه السلام أراد ولدا يصلح لأن يكون محلا لإفشاء الأسرار الإلهية إليه فإن العارف متى كان فردا غير واحد من يفشي إليه السر ضاق ذرعه ويدعوننا رغبا ورهبا قيل أي رغبة فينا ورهبة عما سوانا أو رغبة في لقائنا ورهبة من الإحتجاب عنا وكانوا خاشعين
قال أبو زيد : الخشوع خمود القلب عن الدعاوي وقيل الفناء تحت أذيال العظمة ورداء الكبرياء وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أكثر الصوفية قدست أسرارهم على أن المراد من العالمين جميع الخلق وهو صلى الله عليه و سلم رحمة لكل منهم إلا أن الحظوظ متفاوتة ويشترك الجميع في أنه عليه الصلاة و السلام سبب لوجودهم بل قالوا : إن العالم كله مخلوق من نوره صلى الله عليه و سلم وقد صرح بذلك الشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره في قوله تعالى وقد تقدم غير مرة : طه النبي تكونت من نوره كل الخليقة ثم لو ترك القطا وأشار بقوله لو ترك القطا إلى أن الجميع من نوره عليه الصلاة و السلام وجه الإنقسام إلى المؤمن والكافر بعد تكونه فتأمل هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل حظنا من رحمته الحظ الوافر وأن ييسر لنا أمور الدنيا والآخرة بلفظه المتواتر
سورة الحج
أخرج ابن مردوية عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بالمدينة وهو قول الضحاك وقيل كلها مكية وأخرج أبو جعفر النحاس عن مجاهد عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات هذان خصمان إلى تمام الآيات الثلاث فإنها نزلت بالمدينة وفي رواية عن ابن عباس إلا أربع آيات هذان خصمان إلى قوله تعالى : عذاب الحريق
(17/109)

وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنها مدنية غير أربغ آيات وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى عذاب يوم عقيم فإنها مكيات والأصح القول بأنها مختلطة فيها مدني ومكي وإن اختلف في التعيين وهو قول الجمهور وعدة آياتها ثمان وتسعون في الكوفي وسبع وتسعون في المكي وخمس وتسعون في البصري وأربع وتسعون في الشامي ووجه مناسبتها للسورة التي قبلها ظاهر وجاء في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي زابن مردوية والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال : قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين قال : نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما والروايات في أن فيها سجدتين متعددة مذكورة في الدر المنثور نعم أخرج ابن أبي شيبة من طريق العريان المجاشعي عن ابن عباس قال : في الحج سجدة واحدة وهي الأولى كما جاء في رواية
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الناس اتقوا ربكم خطاب يعم حكمه المكلفين عند النزول ومن سينتظم في سلكهم بعد من الموجودين القاصرين عن رتبة التكليف والحادثين بهد ذلك إلى يوم القيامة لكن لا بطريق الحقيقة عندنا بل بطريق التغليب أو تعميم الحكم بدليل خارجي فإن خطاب المشافهة لا يتناول من لم يكلف بعد وهو خاص بالمكلفين الموجودين عند النزول خلافا للحنابلة وطائفة من السلفيين والفقهاء حيث ذهبوا إلى تناوله الجميع حقيقة ولا خلاف في دخول الإناث كما قال الآدمي في نحو الناس مما يدل على الجمع ولم يظهر فيه علامة على تذكير ولا تأنيث وإنما الخلاف في دخولهن في نحو ضمير اتقوا والمسلمين فذهبت الشافعية والأشاعرة والجمع الكثير من الحنفية والمعتزلة إلى نفيه وذهبت الحنابلة وابن داود وشذوذ من الناس إلى إثباته والدخول هنا عندنا بطريق التغليب
وزعم بعضهم أن الخطاب خاص بأهل مكة وليس بذاك والمأمول به مطلق التقوى الذي هو التجنب عن كل مايؤثم من فعل وترك ويندرج فيه الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر حسبما ورد به الشرع اندراجا أوليا لكن على وجه يعم الإيجاد والدوام والمناسب لتخصيص الخطاب بأهل مكة أن يراد بالتقوى المرتبة الأولى منها وهو التوقي عن الشرك والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الإمتثال به ترهيبا وترغيبا أي احذروا عقوبة مالك أمركم ومريبكم وقوله تعالى : إن زلزلة الساعة شيء عظيم
1
- تعليل لموجب الأمر بذكر أمر هائل فإن ملاحظة عظم ذلك وهوله وفظاعة ما هو من مباديه ومقدماته من الأحوال والأهوال التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى مما يوجب مزيد الإعتنار بملابسته وملازمته لا محالة والزلزلة التحريك الشديد والإزعاج العنيف بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارها ويخرجها عن مراكزها وإضافتها إلى الشاعة إما من إضافة المصدر إلى فاعله لكن على سبيل المجاز في النسبة كما قيل في قوله تعالى : بل مكر الليل والنهار لأن المحرك حقيقة هو الله تعالى والمفعول الأرض أو الناس أو من إضافته إلى المفعول لكن على أجرائه مجرى المفعول به اتساعا كما في قوله تعالى :
يا سارق الليلة أهل الدار
وجوز أن تكون الإضافة على معنى في وقد أثبتها بعضهم وقال بها في الآية السابقة وهي عند بعض المذكورين في قوله تعالى : إذا زلزلت الأرض زلزالها وتكون على ما قيل عند النفخة الثانية وقيام الساعة بل روي عن ابن عباس أن زلزلة الساعة قيامها
وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن عمران
(17/110)

ابن حصين قال : لما نزلت يا أيها الناس إلى ولكن عذاب الله شديد كان صلى الله تعالى عليه وسلم في سفر فقال : أتدري أي يوم ذلك قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال : ذلك يوم يقوم الله تعالى لآدم عليه السلام ابعث بعث النار قال : يا رب وما بعث النار قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة فانشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : قاربوا وسددوا وأبشروا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم في الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا قال : ولا أدري قال الثلثين أم لا وحديث البعث مذكور في الصحيحين وغيرهما لكن بلفظ آخر وفيه كالمذكور ما يؤيد كون هذه الزلزلة في يوم القيامة وهو المروي عن الحسن
وأخرج ابن المنذر وغيره عن علقمة والشعبي وعبيد بن عمير أنها تكون قبل طلوع الشمس من مغربها وإضافتها إلى الساعة على هذا لكونها من إمارتها وقد وردت آثار كثيرة في حدوث زلزلة عظيمة قبل قيام الساعة هي من أشراطها إلا أن في كون تلك الزلزلة هي المراد هنا إذ لا يناسب ذلك كون الجملة تعليلا لموجب أمر جميع الناس بالتقوى ثم أنها على هذا القول على معناها الحقيقي وهو حركة الأرض العنيفة وتحدث هذه الحركة بتحريك ملك بناء ما روي أن في الأرض عروقا تنتهي إلى جبل قاف وهي بيد ملك هناك فإذا أراد الله عز و جل أمرا أمره أن يحرك عرقا فإذا حركه زلزلت الأرض
وعند الفرسفة أن البحار إذا احتبس في الأرض وغلظ بحيث لا ينفذ في مجاريها لشدة استحصافها وتكاثفها اجتمع طالبا للخروج ولم يمكنه فزلزلت الأرض وربما اشتدت الزلزلة فخسفت الأرض فيخرج نار لشدة الحركة الموجبة لاشتعال البخار والدخان لا سيما إذا امتزجا امتزاجا مقربا إلى الدهنية وربما قويت المادة على شق الأرض فتحدث أصوات هائلة وربما حدثت الزلزلة من تساقط عوالي وهدأت في باطن الأرض فيتموج بها الهواء المحتقن فتتزلزل به الأرض وقليلا ما تتزلزل بسقوط قلل الجبال لبعض الأسباب
ومما يستأنس به للقول بأن سببها احتباس البخار الغليظ وطلبه للخروج وعدم تيسره كثرة الزلازل في الأرض الصلبة وشدتها بالنسبة إلى الأرض الرخوة ولا يخفى أنه إذا صح حديث في بيان سبب الزلزلة لا ينبغي العدول عنه وإلا فلا بأس بالقول برأي الفراسفة في ذلك وهو لا ينافي القول بالفاعل المختار كما ظن بعضهم وهي على القول بأنها يوم القيامة قال بعضهم : على حقيقتها أيضا وقال آخرون : هي مجاز عن الأهوال والشدائد التي تكون في ذلك اليوم وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها والعبارة ضيقة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام وفي البحر أن إطلاق الشيء عليها مع أنه لم توجد بعد يدل على أنه يطلق على المعدوم ومن منع ذلك قال : إن إطلاقه عليها ليتقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود لا محالة
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت الظاهر أن الظمير المنصور في ترونها للزلزلة لأنها المحدث عنها وقيل هو للساعة وهو كما ترى و يوم منتصب بتذهل قدم عليه للإهتمام وقيل بعظيم وقيل
(17/111)

بإضمار اذكر وقيل هو البدل من الساعة وفتح لبنائه كما قيل في قوله تعالى هذا يوم ينفع على قراءة يوم بالفتح وقيل بدل من زلزلة أو منصوب به إن اغتفر الفصل بين المصدر ومعموله الظرفي بالخبر وجملة تذهل على هذه الأوجه في موضع الحال من ضمير المفعول والعائد محذوف أي تذهل فيها والذهول شغل يورث حزنا ونسيانا والمرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها وهي بخلاف المرضع بلا هاء فإنها التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به وخص به نحاة الكوفة أم الصبي بمرضعة بالهاء والمستأجرة بمرضع ويرده قول الشاعر : كمرضعة أولاد أخرى وضيعت بني بطنها هذا الضلال عن القصد والتعبير به هنا ليدل على شدة الأمر وتفاقم الهول والظاهر أن ما موصولة والعائد محذوف أي عن الذي أرضعته والتعبير بما لتأكيد الذهول وكون الطفل الرضيع بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا لأنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه وقيل مصدرية أي تذهل عن إرضاعها والأول دل على شدة الهول وكمال الإنزعاج والكلام على طريق التمثيل وأنه لو كان هناك مرضعة ورضيع لذهلت المرضعة عن رضيعها في حال إرضاعها إياه لشدة الهول وكذا ما بعد وهذا ظاهر إذا كانت الزلزلة عند النفخة الثانية أو في يوم القيامة حين أمر آدم عليه السلام ببعث بعث النار وبعث الجنة أن لم نقل بأن كل أحد يحشر على حاله التي فارق فيها الدنيا فتحشر المرضعة مرضعة والحامل حاملة كما ورد في بعض الآثار وأما إذا قلنا بذلك أو بكون الزلزلة في الدنيا فيجوز أن يكون الكلام على حقيقته ولا يضر في كونه تمثيلا أن الأمر إذ ذاك أشد وأعظم وأهول مما وصف وأطم لشيوع ما ذكر في التهويل كما لا يخفى على المنصف النبيل
وقريء تذهل من الإذهال مبنيا للمفعول وقرأ ابن أبي عبلة واليماني تذهل منه مبنيا للفاعل و كل بالنصب أي يوم تذهل الزلزلة وقيل : الساعة كل مرضعة وتضع كل ذات حمل حملها أي تلقي ذات جنينها لغير تمام وإنما لم يقل وتضع كل حاملة ما حملت على وزان ما تقدم لما أن ذلك ليس نصا في المراد وهو وضع الجنين بخلاف ما في النظم الجليل فإنه نص فيه لأن الحمل بالفتح ما يحمل في البطن من الولد وإطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحمل المرأة وللتنصيص على ذلك من أول الأمر لم يقل وتضع كل حاملة حملها كذا قيل وتعقب بأن في دعوى تخصيص الحمل بما يحمل في البطن من الولد وإن إطلاقه على نحو التمرة في الشجرة للتشبيه بحثا ففي البحر الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة
وفي القاموس الحمل ما يحمل في البطن من الولد جمعه حمال وأحمال وحملت المرأة تحمل علقت ولا يقال حملت به أو قليل وهي حامل وحاملة والحمل ثمر الشجر ويكسر أو الفتح لما بطن من ثمره والكسر لما ظهر أو الفتح لما كان في بطن أو على رأس شجرة والكسر لما على ظهر أو رأس أو ثمر الشجر بالكسر مالم يكبر فإذا كبر فبالفتح جمعه إحمال وحمول وحمال أه وقيل : المتبادر وضع الجنين بأي عبارة كان التعبير إلا أن ذات حمل أبلغ في التهويل من حامل أو حاملة لإشعاره بالصحبة المشعرة بالملازمة فيشعلا الكلام بأنه الحامل تضع إذ ذاك الجنين المستقر في بطنها المتمكن فيه هذا مع ما في الجمع بين ما يشعر بالمصاحبة وما يشعر بالنفارقة وهو الوضع من اللطف فتأمل فلمسلك الذهن اتساع
وترى الناس بفتح التاء والراء على خطاب كل واحد من المخاطبين برؤية الزلزلة والإختلاف بالجمعية
(17/112)

والإفراد لما أن المرئي في الأول هي الزلزلة التي يشاهدها الجميع وفي الثاني حال من عدا المخاطب منهم فلا بد من إفراد المخاطب على وجه يعم كل واحد منهم لكن من غير اعتبار اتصافه بتلك الحالة فإن المراد بيان تأثير الزلزلة في المرئي لا في الرائي باختلاف مشاعره لأن مداره حيثية رؤيته للزلزلة لا لغيرها كأنه قيل وتصير الناس سكارى الخ وإنما أوثر عليه ما في التزيل للإيذان بكمال ظهور تلك الحال فيهم وبلوغها من الجلاء إلى حد لا يكاد يخفى على أحد قاله غير واحد
وجوز بعضهم كون الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والأول أبلغ في التهويل والرؤية بصرية و الناس مفعولها وقوله تعالى سكارى حال منه أي يراهم كل واحد متشابهين للسكارى وقوله تعالى وما هم بسكارى أي حقيقة حال أيضا لكنها مؤكدة والحال المؤكد تقترن بالواو لا سيما إذا كانت جملة اسمية فلا يقال : إنه إذا كان معنى قوله تعالى ترى الناس سكارى على التشبيه يكون وما هم بسكارى بالمعنى المذكور مستغنى عنه ولا وجه لجعله حالا مؤكدة لمكان الواو وجوز أن يكون ترى بمعنى تظم فسكارى مفعول ثان وحينئذ يجوز أن يكون الكلام على التشبيه والجملة الإسمية في موضع الحال المؤكدة ويجوز أن يكون على الحقيقة تأكيدها فلا تأكيد هنا وأمر إفراد الخطاب وما فيه من المبالغة بحاله وأياما كان فالمراد في قوله تعالى وما هم بسكارى استمرار النفي وأكيد بزيادة الباء للتنبيه على أن ما هم فيه من المعهود في شيء وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله وأشير إلى سببه بقوله تعالى ولكن عذا الله شديد
2
- أي إن شدة عذابه تعالى تجعلهم كما ترى وهو استدراك على ما في الإنتصاف راجع إلى قوله تعالى وما هم بسكارى وزعم أبو حيان أنه استدراك عن مقدر كأنه قيل هذه أي الذهول والوضع ورؤية الناس سكارى أحوال هينة ولكن عذاب الله شديد وليس بهين وهو خلاف الظاهر جدا
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ترى بضم التاء وكسر الراء أي ترى الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى وقرأ الزعفراني ترى بضم التاء وفتح الراء الناس بالرفع على إسناد الفعل المجهول إليه والتأنيث على تأويل الجماعة وقا أبو هريرة وأبو رزعة وابن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا الناس وترى على هذا متعد إلى ثلاثة مفاعيل كما في البحر الأول الضمير المستتر وهو نائب الفاعل والثاني الناس والثالث سكارى وقرأ أبو هريرة وابن نهيك سكارى بفتح السين في الموضعين وهو جمع تكسير واحده سكران وقال أبو حاتم : هي لعة تميم وأخرج الطبراني وغيره عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ سكرى كعطشى في الموضعين وكذلك روى أبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة وبها قرأ الإخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح وتجمع الصفة على فعلى إذا كانت من الآفات والأمرات كقتلى وموتى وحمقى ولكون السكر جار مجرى ذلك لما فيه من تعطيل القوى والمشاعر جمع هذا الجمع فهو جمع سكران وقال أبو علي الفارسي : يصح أن يكون جمع سكر كزمني وزمن وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش سكرى بضم السين فيهما قال الزمخشري : وهو غريب وقال أبو الفتح : هو اسم مفرد كالبشرى
(17/113)

وبهذا أقتاني أبو علي وقد سألته عنه انتهى
وإلى كونه اسما مفردا ذهب أبو الفضل الرازي فقال : فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة والواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمزلة المؤنث الموحد وعن أبي زرعة سكرى بفتح السين بسكرى بضمها وعن ابن جبير سكرى بفتح السين من غير ألف بسكارى بالضم والألف كما في قراءة الجمهور والخلاف في فعالى أهو جمع أو اسم جمع مشهور
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم نزلت كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك رضي الله تعالى عنه في النضر بن الحرث وكان جدلا يقول الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه والقرآن أساطير الأولين ولا يقدر الله تعالى شأنه على إحياء من بلى وصار ترابا وقيل في أبي جهل وقيل في أبي بن خلف وهي عامة في كل من تعاطى الجدل فيما يجوز وما لا يجوز على الله سبحانه من الصفات والأفعال ولا يرجع إلى علم ولا برهان ولا نصفة وخصوص السبب لا يخرجها عن العموم وكان ذكرها أثر بيان عظم شأن الساعة المنبئة عن البعث لبيان حال بعض المنكرين لها ومحل الجار الرفع على الإبتداء إما بحمله على المعنى أو بتقدير ما يتعلق به و بغير علم في موضع الحال من ضمير يجادل لإيضاح ما تشعر به المجادلة من الجهل أي وبعض الناس أو بعض كائن من الناس من ينازع في شأن الله عز و جل ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل ملابسا الجهل ويتبع فيما يتعاطاه من المجادلة أو في كل ما يأتي وما يذر من الأمور الباطلة التي من جملتها ذلك كل شيطان مريد
3
- متجرد للفساد معري من الخير من قولهم : شجرة مرداء لا ورق لها ومنه قيل : رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر وقال الزجاج : أصل المريد والمارد المرتفع الأملس وفيه معنى التجرد والتعري والمراد به إما إبليس وجنوده وإما رؤساء الكفرة الذين يدعون من دونهم إلى الكفر وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ويتبع خفيفا
كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير
4
- ضمير عليه للشيطان وكذا الضمير المنصوب في تولاه والضمير في فإنه والضميران المستتران في يضله ويهديه وضمير إنه للشأن وباقي الضمائر لمن واختلف في إعراب الآية فقيل إن إنه من تولاه الخ نائب فاعل كتب والجملة في موضع الصفة الثانية لشيطان و من جزائية وجزاؤها محذوف و فإنه يضله الخ عطف على أنه مع ما في حيزها وما يتصل بها أي كتب على الشيطان أن الشأن من تولاه أي اتخذه وليا وتبعه يهلكه فإنه يضله عن طريق الجنة وثوابها ويهديه إلى طريق السعير وعذابها والفاء لتفصيل الإهلاك كما في قوله تعالى فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف وهو وجه حسن إلا أن في كونه مراد الزمخشري خفاء وقيل من موصوله مبتدأ وجملة تولاه صلته والضمير المستتر عائده و أنه يضله في تأويل مصدر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة خبر الموصول ودخول الفاء في خبره على التشبيه بالشرط أي كتب عليه أن الشأن من تولاه فشأنه أو فحق أنه يضله الخ ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابية وما بعدها مع المقدر جواب الشرط وقيل ضمير إنه للشيطان
(17/114)

وهو اسم إن و من موصولة أو موصوفة والأول أظهر خبرها والضمير المستتر في تولاه لبعض الناس والضمير البارز لمن والجملة صلة أو صفة وقوله تعالى فإنه يضله عطف على أنه من تولاه والمعنى ويتبع كل شيطان كتب عليه أنه هو الذي اتخذه بعد الناس وليا وأنه يضل من اتخذه وليا فالأول كأنه نوطئه للثاني أي يتبع شيطانا مختصا به مكتوبا عليه أنه وليه وأنه مضله فهو لا يألو جهدا في إضلاله وهذا المعنى أبلغ من المعنى السابق على احتمال كون من جزائية لدلالته على أن لكل واحد من المجادلين واحدا من مردة الشياطين وارتضى هذا الكشف وحمل عليه مراد صاحب الكشاف
وعن بعض الفضلاء أن الضمير في أنه للمجاد أي كتب على الشيطان أن المجادل من تولاه وقوله تعالى فإنه الخ عطف على أنه من تولاه واعترض بأن اتصاف الشيطان بتولي المجادل إياه مقتضى المقام لا العكس وأنه لو جعلت من في من تولاه موصولة كما هو الظاهر لزم أن لا يتولاه غير المجادل وهذا الحصر يفوت المبالغة
وفي البحر الظاهر أن الضمير في عليه عائد على من لأنه المحدث عنه وفي أنه وتولاه وفي فإنه عائد عليه أيضا والفاعل بتولي ضمير من وكذا الهاء في يضله ويجوز أن يكون الهاء في أنه على هذا الوجه ضمير الشأن والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماما في الضلال لمن يتولاه فشأنه أن يضل من يتولاه انتهى وعليه تكون جملة كتب الخ مستأنفة لاصفة لشيطان والأظهر جعل ضمير عليه عائدا على الشيطان وهو المروي عن قتادة وأياما كان فكتب بمعنى مضى وقدر ويجوز أن يكون على ظاهره وفي الكشاف أن الكتبة عليه مثل أي كأنما كتب عليه ذلك لظهوره في حاله ولا يخفى ما في يهديه من الإستعارة التمثيلية التهكمية
وقريء كتب مبنيا للفاعل أي كتب الله وقريء فإنه بكسر الهمزة فالجملة خبر من أو جواب لها وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو إنه فإنه بكسر الهمزة فيهما ووجه الكسر في الثانية ظاهر وأما وجهه في الأولى فهو كما استظهر أبو حيان إسناد كتب إلى الجملة إسنادا لفظيا أي كتب عليه هذا الكلام كما تقول كتبت إن الله تعالى يأمر بالعدل والإحسان أو تقدير قول وجعل الجملة معمولة له أو تضمين الفعل معنى ذلك أي كتب عليه مقولا في شسأنه أنه من تولاه يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث الخ إقامة للحجة التي تلقم المجادلين في البعث حجرا أثر الإشارة إلى ما يؤل إليه أمرهم واستظهر أن المراد بالناس هنا الكفرة المجادلون المنكرون للبعث والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب أي الشك مع أنهم جازمون بعدم إمكانه إما للإيذان بأن أقصى يا يمكن صدوره عنهم وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد هو الإرتياب في شأنه وأما الجزم بعدم الإمكان فخارج من دائرة الإحتمال كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكون الوقوع وإما للتنبيه على أن جرمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإمكان ونهاية قوتها وإنما لم يقل وإن ارتبتم في البعث للمبالغة في تنزيه أمره عن شائبة وقوع الريب والإشعار بأن ذلك إن وقع فمن جهتهم لا من جهته واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة للريب واستظهر أن المراد في ريب من إمكان البعث لأنه الذي يقتضيه ما بعد وجوز أن يكون المراد في وقوع البعث واعترض بأن الدليل المشار إليه فيما بعد إنما يدل على الإمكان مع ما يلزم من التكرار مع قوله تعالى الآتي أن الله يبعث من في القبور وفيه
(17/115)

تأمل فتأمل وقرأ الحسن من البعث بفتح العين وهي لغة فيه كالجلب والطرد في الجلب والطرد عند البصريين وعند الكوفيين إسكان العين تخفيف وهو قياسي في كل ما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر
وقوله تعالى فأنا خلقناكم من تراب دليل جواب الشرط أو الجواب بتأويل أي وإن كنتم في ريب من البعث فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم فإنا خلقناكم الخ وقيل : التقدير فأخبركم وأعلمكم أنا خلقناكم الخ وليس بذاك وخلقهم من تراب في ضمن خلق آدم عليه السلام منه أو بخلق الأغذية التي يتكون منها المني منه وهي وإن تكونت من سائر العناصر معه إلا أنه أعظم الأجزاء على ما قيل فلذلك خصه بالذكر من بينها واختير الأول وجعل المعنى خلقناكم خلقا إجماليا من تراب ثم خلقناكم خلقا تفصيليا من نطفة أي مني من النطف بمعنى التقاطر وقال الراغب : النطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل قيل والتخصيص على هذا مع أن الخلق من ماءين لأن معظم أجزاء الإنسان مخلوق من ماء الرجل والحق أن النطفة كما يعبر بها عن مني الرجل يعبر بها عن المني مطلقا وكلام الراغب ليس نصا في نفي ذلك والظاهر أن المراد النطفة التي يخلق منها كل واحد بلا واسطة وقيل : المراد نطفة آدم عليه السلام وحكى ذلك عن النقاش وهو من البعد في غايته
ثم من علقة أي قطعة من الدم جامدة متكونة من المني ثم من مضغة أي قطعة من اللحم متكونة من العلقة وأصلها قطعة لحم بقدر ما يمضغ مخلقة بالجر صفة مضغة وكذا قزله تعالى وغير مخلقة
وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما على الحال من النكرة المتقدمة وهو قليل وقاسه سيبويه والمشهور المتبادر أن المخلقة المستبينة الخلق أي مضغة مستبينة الخلق مصورة ومضغة لم يستبن خلقها وصورتها بعد والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا وكان مقتضى الترتيب المبني على التدرج من المبادي البعيدة إلى القريبة أن يقدم غير المخلقة وإنما أخرت لكونها عدم ملكة وصيغة التفعيل لكثرة الأعضاء المختص كل منها بخلق وصورة وقيل : المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود سواه وملسه وصخرة خلقاء أي ملساء وجعل أخلق أي أملس فالمعنى من نطفة مسواة لا نقص فيها ولا عيب في ابتداء خلقها ونطفة غير مسواة فيها عيب فالنطف التي يخلق منها الإنسان متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتماتمهم ونقصانهم وعن مجاهد وقتادة والشعبي وأبي العالية وعكرمة أن المخلقة التي تم لها مدة الحمل وتوارد عليها خلق بعد خلق وغير المخلقة التي لم يتم لها ذلك وسقطت واستدل له بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن مسعود قال : النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك الأرحام بكفه فقال : يا رب مخلقة أم غير مخلقة فإن قيل : غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفها الرحم دما وإن قيل : مخلقة قال : يا رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل وما الأثر وما الرزق وبأي أرض تموت الخبر وهو في حكم المرفوع والمراد أنهم خلقوا من جنس هذه النطفة الموصوفة بالتامة والساقطة لا أنهم خلقوا من نطفة تامة ومن نطفة ساقطة إذ لا يتصور الخلق من النطفة الساقطة وهو ظاهر وكان التعرض على هذا لوصفها بما ذكر لتعظيم شأن القدرة وفي جعل كل واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها
(17/116)

من المراتب كما في قوله تعالى ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الآية مزيد دلالة على عظم قدرته تعالى لنبين لكم متعلق بخلقنا وترك المفعول لتفخيمه كما وكيفما أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم ما لا يحصره العبارة من الحقائق والدقائق التي من جملتها أمر البعث فإن من تأمل فيما ذكر من الخلق التدريجي جزم بأن من قدر على خلق البشر أولا من تراب لم يذق ماء الحياة قط وأنشأئه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أخرى بتصريفه في أطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال مع ما بين تلك الأطوال والأحوال من المخالفة والتباين فهو قادر على إعادته بل هي أهون في القياس وقدر بعضهم المفعول خاصا أي لنبين لكم أمر البعث وليس بذاك
وأبعد جدا من زعم أن المعنى لنبين لكم أن التخليق اختيار من الفاعل ولو لا ذلك ما صار بعض أفراد المضغة غير مخلق وقرأ ابن أبي عبلة ليبين بالياء على طريق الإلتفات وكذا قرأ قوله تعالى : ونقر في الأرحام ما نشاء وقرأ الجمهور بالنون والجملة استئناف مسوق لبيان حالهم بعد تمام خلقهم وتوادر الأطوار عليهم أي ونقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها إلى أجل مسمى هو وقت الوضع وأدناه ستة أشهر وأقصاه عندنا سنتان وعند الشافعي عليه الرحمة أربع سنين وعن يعقوب أنه قرأ ونقر بفتح النون وضم القاف من قررت الماء إذا صببته وقرأ يحيى بن وثاب ما نشاء بكسر النون
ثم نخرجكم أي من الأرحام بعد إقراركم فيها عند تمام الأجل المسمى طفلا حال من ضمير المخاطبين والأفراد إما باعتبار كل واحد منهم أو بإرادة الجنس الصادق على الكثير أو لأنه مصدر فيستوي فيه الواحد وغيره كما قال المبرد أو لأن المراد طفلا طفلا فاختصر كما نقله الجلال السيوطي في الأشباه النحوية
وقرأ عمر بن شبة يخرجكم بالياء ثم لتبلغوا أشدكم أي كمالكم في القوة والعقل والتمييز وفي القاموس حتى يبلغ أشده ويضم أوله أي قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين واحد جاء على بناء الجمع كآنك ولا نظير لهما أو جمع لا واحد له من لفظه أو واحده شدة بالكسر مع أن فعلة لا تجمع على أفعل أي قياسا فلا يرد نعمة وأنعم أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب وما هما بمسموعين بل قياس و لتبلغوا قال العلامة : أبو السعود : علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة لها كأنه قيل ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا الخ وقيل علة لمحذوف والتقدير ثم نمهلكم لتبلغوا الخ
وجوز العلامة الطيبي أن يكون التقدير ثم لتبلغوا أشدكم كان ذلك الإقرار والإخراج وقيل إنه عطف على نبين وتعقبه العلامة بأنه مخل بجزالة النظم الكريم وجعله كغيره عطفا عليه على قراءة نقر ونخرج بالنصب وهي قراءة المفضل وأبي حاتم إلا أن الأول قرأ بالنون والثاني قرأ بالياء وكذا جعل الفعلين عطفا عليه وقال : المعنى خلقناكم على التدريج المذكور لأمرين أحدهما أن نبين شؤننا والثاني أن نقركم في الأرحام ثم نخرجكم صغارا ثم لتبلغوا أشدكم وتقديم التبيين على ما بعده مع أن حصوله بالفعل بعد الكل للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات وإعادة اللام في لتبلغوا مع تجريد نقر ونخرج عنها للإشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإقرار والإخرج إذ عليه يدور التكليف المؤدي إلى السعادة والشقاوة وإيثار البلوغ مسندا إلى المخاطبين على التبليغ مسندا إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنه المناسب لبيان حال اتصافهم بالكمال واستقلالهم
(17/117)

بمبدئية الآثار والأفعال أه
وما ذكره من عطف نقر ونخرج بالنصب على نبين لم يرتضه الشيخ ابن الحاجب قال في شرح المفصل : إنه مما يتعذر فيه النصب أذ لو نصب عطفا على نبين ضعف المعنى إذ اللام في لنبين للتعليل لما تقدم والمقدم سبب للتبيين فلو عطف ونقر عليه لكان داخلا في مسببية أنا خلقناكم الخ وخلقهم من تراب ثم ما تلاه لا يصح سببا للإقرار في الأرحام وقال الزجاج : لا يجوز في ونقر إلا الرفع ويجوز أن يكون معناه فعلنا ذلك لنقر في الأرحام لأن الله تعالى لم يخلق الأنام ليقرهم في الأرحام وإنما خلقهم ليدلهم على رشدهم وصلاحهم وهو قول بعدم جواز عطفه على نبين
وأجيب بأن الغرض في الحقيقة هو بلوغ الصلوح للتكليف لكن لما كان الإقرار وما تلاه من مقدماته صح إدخاله في التعليل وما ذكره من أن العطف على نبين على قراءة الرفع مخل بجزالة النظم الكريم فالظاهر أنه تعريض بالزمخشري حيث جعل العطف على ذلك وقال فإن قلت : كيف يصح عطف لتبلغوا أشدكم على لنبين ولا طباق قلت الطباق حاصل لأن قوله تعالى ونقر قرين للتعليل ومقارنته له والتباسه به ينزلانه منزلة نفسه فهو راجح من هذه الجهة إلى متانة القراءة بالنصب أه وفيه ما يومي إلى أن قراءة النصب أوضح كما أنها أمتن ولم يرتض ذلك المحققون ففي الكشف أن القراءة بالرفع هي المشهورة الثابتة في السبع وهي الأولى وقد أصيب بتركيبها هكذا شاكلة الرمي حتى لم يجعل الإقرار في الأرحام علة بل جعل الغرض منه بلوغ الأشد وهو حال الإستكمال علما وعملا وحيث لم يعطف على لنبين إلا بعد أن قدم عليه ونقر ثم نخرج مجعولا نقر عطفا على أنا خلقناكم والعدول إلى المضارع لتصوير الحال والدلالة على زيادة الإختصاص فالطباق حاصل لفظا ومعنى مع أن في الفصل بين العلتين من النكتة ما لا يخفى على ذي لب حسن موقعها بعد التأمل وكذلك في الإتيان بثم في قوله سبحانه ثم لتبلغوا دلالة على أنه الغرض الأصيل الذي خلق اإنسان له وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولما كانت الأوائل في الدلالة على البعث أظهر قدم قوله تعالى لنبين على الإقرار والإخراج أه
ويعلم منه ما في قول العلامة : إن عطف لتبلغوا الخ على لنبين مخل بجزالة النظم الكريم وأنه لا يتعين الإستئناف في ونقر وفيه أيضا أن قوله تعالى ومنكم من يتوفى الخ استئناف لبيان أقسام الإخراج من الرحم كما استوفى أقسام الأول وفيه تبيين تفضيل حال بلوغ الأشد وأنها الحقيق بأن تكون مقصودة من الإنشاء لكن منهم من لا يصل إليها فيتحضر ومنهم من يجاوزها فيحتقر أي منكم من يموت قبل بلوغ الأشد ومنكم من يرد إلى أرذل العمر أي أرداه وأدناه والمراد يرد إلى مثل زمن الطفولية لكيلا يعلم من بعد علم أي علم كثير شيئا أي شيئا من الأشياء أو شيئا من العلم واللام متعلقة بيرد وهي لام العاقبة والمراد المبالغة في النتقاص عمله وانتكاس حاله وليس لزمان ذلك الرد حد محدود بل هو مختلف باختلاف الأمزجة على ما في البحر وإيراد الرد والتوفي على صيغة المبني للمفعول للجري على سنن الكبرياء لتعين الفاعل كما في إرشاد العقل السليم وفي شرح الكشاف للطيبي بعد تجوز أن يكون ثم لتبلغوا بتقدير ثم لتبلغوا كان ذلك الإقرار والإخراج أن فائدة ذلك الإيذان بأن بلوغ الأشد أفضل الأحوال والإخراج أبدعها والرد إلى أرذل العمر
(17/118)

أسوؤها وتغيير العبارة لذلك ومن ثم نسب الإخراج إلى ذاته تعالى المقدسة وحذف المعلل في الثاني ولم ينسب الثالث إلى فاعله وسلب فيه ما أثبت للإنسان في تلك الحالة من اتصافه بالعلم والقدرة الموميء إليه بالأشد كأنه قيل ثم يخرجكم من تلك الأطوار الخسيسة طفلا أنشأ غريبا كما قال سبحانه فتبارك الله أحسن الخالقين ثم لتبلغوا أشدكم دبر ذلك التدبير العجيب لأنه أوان رسوخ العلم والمعرفة والتمكن من العمل المقصودين من الإنشاء ثم يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل أه
ويفهم منه جواز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى بعد بلوغ الأشد ومن الناس من جوز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى عند البلوغ وقيل : إن ذلك يجعل الجملة حالية ومن صيغة المضارع وهو كما ترى وقريء يتوفى على سيغة المعلوم وفاعله ضمير الله تعالى أي من يتوفاه الله تعالى وجوز أن يكون ضمير من أي من يستوفي مدة عمره وروي عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم العمر هذا ثم لا يخفى ما في اختلاف أحوال الإنسان بعد الإخراج من الرحم من التنبيه على صحة البعث كما في اختلافهما قبل فتأمل جميع ما ذكر ولله تعالى در التنزيل ما أكثر احتمالاته وترى الأرض هامدة حجة أخرى على صحة البعث معطوفة على إنا خلقناكم وهي حجة آفاقية وما تقدم حجة أنفسية والخطاب لكل أحد من تتأتى منه الرؤية وقيل : للمجادل وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والإستمرار وهي بصرية لا عملية كما قيل و هامدة حال من الأرض أي ميتة يابسة يقال همدت الأرض إذا يبست ودرست وهمد الثوب إذا بلى وقال الأعشى : قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا وأصله من همدت النار إذا صارت رمادا فإذا أنزلنا عليها الماء أي ماء المطر وقيل : ما يعممه وماء العيون والأنهار وظاهر الإنزال يقتضي الأول اهتزت تحرك نباتها فالإسناد مجازي أو تخلخلت وانفصل بعض أجزائها عن بعض لأجل خروج النبات وحمل الإهتزاز على الحركة في الكيف بعيد وربت ازدادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات
وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن الياس وأبو عمرو في رواية وربأت بالهمز أي ارتفعت يقال فلأن يربأ بنفسه عن كذا أي يرتفع بها عنه وقال ابن عطية : هو من ربأت القوم إذا علوت شرفا من الأرض طليعة عليهم فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو وأنبتت من كل زوج أي صنف بهيج
5
- حسن سار للناظر ذلك بأن الله هو الحق كلام مستأنف جيء به أثر تحقيق حقية البعث وإقامة البرهان عليه على أتم وجه لبيان أن ما ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة وتصريفه في أحوال متباينة وإحياء الأرض بعد موتها الكاشف عن حقية ذلك من آثار ألوهيته تعالى وأحكام شؤنه الذاتية والوصفية والفعلية وأن ما ينكرونه من إتيان الساعة والبعث من أسباب تلك الآثار العجيبة المعلومة لهم ومبادي صدورها عنه تعالى وفيه من الإيذان بقوة الدليل وأصالة المدلول في التحقق وإظهار بطلان إنكاره ما لا يخفى فإن إنكار تحقق السبب مع الجزم يتحقق المسبب مما يقضي ببطلانه بديهة العقول فذلك إشارة إلى خلق الإنسان على أطوار مختلفة وما معه والإفراد باعتبار المذكور وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الكمال وهو
(17/119)

مبتدأ خبره الجار والمجرور والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق ثبوته لا محالة لكونه لذاته لا الثابت مطلقا فوجه الحصر ظاهر أي ما ذكر من الصنع البديع حاصل بسبب أنه تعالى هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله المحقق لما سواه من الأشياء وأنه يحيي الموتى أي شأنه وعادته تعالى شأنه إحياء الموتى وحاصله أنه تعالى قادر على إحيائها بدءا وإعادة وإلا لما أحيا النطفة والأرض المبتة مرة بعد مرة وما تفيده صيغة المضارع من التجدد إنما باعتبار تعلق القدرة ومتعلقها لا باعتبار نفسها لأن القدم الشخصي ينافي ذلك
وأنه على كل شيء قدير
6
- أي مبالغ في القدرة وإلا لما أوجد هذه الموجودات الفاتنة للحصر التي من جملتها ما ذكر وتخصيص إحياء الموتى بالذكر مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها للتصريح بما فيه النزاع والدفع في نحو المنكرين وتقديمه لإبراز الإعتنار به وأن الساعة آتية أي سيأتي والتعبير بذلك دون الفعل للدلالة على تحقيق إتيانها وتقرره البتة لاقتضاء الحكمة إياه لا محالة وقوله تعالى لا ريب فيها إما خبر ثان لآن أو حال من ضمير الساعة في الخبر ومعنى نفي الريب عنها أنها في ظهور أمرها ووضوح دلائلها بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها
وأن ما بعدها في تأويل مصدر عطف على المصدر المجرور بباء السببية داخل معه في حيزها كالمصدرين الحاصلين من قوله تعالى : وأنه يحيي الموتى وقوله سبحانه وأنه على كل شيء قدير وكذا قوله عز و جل : وأن الله يبعث من في القبور
8
- لكن لا من حيث أن إتيان الساعة وبعث من في القبور مؤثر أن فيما ذكر من أفاعيله تعالى تأثير القدرة فيها بل من حيث أن كلا منهما بسبب داع له عز و جل بموجب رأفته بالعبادة المبنية على الحكم البالغة إلى ما ذكر من خلقهم ومن إحياء الأرض الميتة على نمط بديع صالح للإستشهاد به على إمكانهما ليتأملوا في ذلك ويستدلوا به عليه أو على وقوعهما ويصدقوا بذلك لينالوا السعادة الأبدية ولو لا ذلك لما فعل بل لما خلق العالم رأسا وهذا كما ترى من أحكام حقيته تعالى في أفعاله وابتنائها على الحكم الباهرة كما أن ما قبله من أحكام حقيته تعالى في صفاته وكونها في غاية الكمال هذا ما اختاره العلامة أبو السعود في تفسير ذلك وهو مما يميل إليه الطبع السليم وجعل صاحب الكشاف الإشارة إلى ما ذكر أيضا إلا أنه بحسب الظاهر جعل إتيان الساعة وبعث من في القبور حيث إن ذلك من روادف الحكمة كناية عنها فكأن الأصل ذلك حاصل بسبب أن الله تعالى هو الحق الثابت الموجود وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وأنه حكيم فاكتفى بمقتضى الحكمة عن الوصف لما في الكناية من النكتة خصوصا والكلام مع منكري البعث للدفع في نحورهم ولا يخلو عن بعد ونقل النيسابوري عبارة الكشاف واعترضها بما لا يخفى رده وأبدى وجها في الآية ذكر أنه مما لم يخطر لغيره ورجا أن يكون صوابا وهو مع اقتضائه حمل الباء على ما يعم السببية الفاعلية والسببية الغائية مما لا يخفى ما فيه وقيل : ذلك إشارة إلى ما ذكر إلا أن قوله تعالى وأن الساعة آتية الخ ليس معطوفا على المجرور بالباء ولا داخلا في حيز السببية بل هو خبر والمبتدأ محذوف لفهم المعنى والتقدير والأمر أم الساعة آتية الخ وعليه اقتصر أبو حيان وفيه قطع للكلام على الإنتظام وقيل : ذلك إشارة إلى ما ذكر إلا أن الباء صلة لكون خاص وليست سببية أي مشعر بأن الله هو الحق الخ وفيه أنه لا قرينة على هذا الكون الخاص
(17/120)

وقيل : المعنى ذلك ليعلموا أن الله هو الحق الخ وفيه تلويح ما إلى معنى الحديث القدسي المشهور على الألسنة وفي كتب الصوفية وإن لم يثبت عند المحدثين وهو كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف وهو كما ترى وقيل : الإشارة إلى البعث المستدل عليه بما سبق واستظهره بعضهم ولا يخفى عليك ما يحتاج إليه من التكلف ونقل في البحر أن ذلك منصوب بفعل مضمر أي فعلنا ذلك بأن الخ وأبو علي اقتصر على القول بأنه مرفوع على الإبتداء والجار والمجرور خبره وقال : لا يجوز غير ذلك وكأنه عنى بالغير ما ذكر وما نقله العكبري من أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والحق الجواز إلا أنه خلاف الظاهر جدا ثم إن المراد من الساعة قيل يوم القيامة المشتمل على النشر والحشر وغيرهما وقال سعدي جلبي المراد بها هنا فناء العالم بالكلية لئلا تتكرر مع البعث وقول الطيبي إن سبيل قوله تعالى أن الساعة آتية من قوله سبحانه أن الله يبعث من في القبور سبيل قوله جل وعلا أن الله على كل شيء قدير من قوله عز و جل وأنه يحيي الموتى لكن قدم وأخر لرعاية الفواصل ظاهر في الأول هذا وفي الإتقان للجلال السيوطي أن الإسلاميين من أهل المنطق ذكورا أن في أول سورة الحج إلى قوله تعالى وأن الله يبعث من في القبور خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات ثم بين ذلك بما يقتضي منه العجب ويدل على قصور باعه في ذلك العلم وقد يقال في بيان ذلك : إن النتائج الخمس هي الجمل المتعاطفة الداخلة في حيز الباء واستنتاج الأولى بأنه لو لم يكن الله سبحانه هو الحق أي الواجب الوجود لذاته لما شوهد بعض الممكنات من الإنسان والنبات وغيرها والتالي باطل ضرورة فالله تعالى هو الحق ودليل الملازمة برهان المانع واستنتاج الثانية بأنه لو لم يكن سبحانه قادرا على إحياء الموتى لما طور الإنسان في اطوار مختلفة حتى جعله حيا وأنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها والتالي باطل ضرورة أن الخصم لا ينكر أنه تعالى أحيا الإنسان وأحيا الأرض فالله تعالى قادر على إحياء الموتى ووجه الملازمة ظاهر واستنتاج الثالثة بأنه إذا كان الله تعالى قادرا على إحياء الموتى فهو سبحانه على كل شيء قدير لكنه تعالى قادر على إحياء الموتى فهو على كل شيء قدير ووجه الملازمة أن المراد من الشيء الممكن وإحياء الموتى ممكن والقدرة على بعض الممكنات دون بعض تنافي وجوب وجوده تعالى الذاتي وأيضا إحياء الموتى أصعب الأمور عند الخصم المجادل حتى زعم أنه من الممتنعات فإذا ثبت أنه سبحانه قادر عليه بما سبق ثبت أنه تعالى قادر على سائر الممكنات بالطريق الأولى واستنتاج الرابعة بأن الساعة أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه وكل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فالساعة آتية أما أن الساعة أمر ممكن فلأنه لا يلزم من فرض وقوعها محال وأما أنها وعد الصادق بإتيانها فللآيات القرآنية المتحدي بها وأما أن كل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فلاستحالة الكذب واستنتاج الخامسة بنحو ذلك ولا يتعين استنتاج كل بما ذكر بل يمكن بغير ذلك واختباره لتسارعه إلى الذهن وربما يقتصر على ثلاث من هذه الخمس بناء على ما علمت بين قوله تعالى وأنه يحيي الموتى وقوله تعالى وأنه على كل شيء قدير وكذا بين قوله سبحانه وأن الساعة آتية وقوله سبحانه وأن الله يبعث من في القبور ويعد من الخمس قوله تعالى إن زلزلة الساعة شيء عظيم واستنتاجها بأن يقال : زلزلة الساعة تذهل كل مرضعة عما أرضعت وكل ما هذا شأنه فهو شيء عظيم فزلزلة الساعة شيء عظيم والتقوى واجبة عليكم المدلول عليه بقوله تعالى واتقوا ربكم واستنتاجه بأن يقال : التقوى يندفع بها ضرر الساعة وكل ما يندفع به الضرر واجب عليكم فالتقوى واجبة عليكم ولا يخفى أن ما ذكر
(17/121)

أولا أولى إلا أنه لو كان مرادهم لكان الظاهر أن يقولوا : إن في قوله تعالى ذلك بأن الله هو الحق إلى قوله سبحانه و أن الله يبعث من في القبور خمس نتائج دون أن يقولوا : إن في أول سورة الحج إلى آخره ويناسب هذا القول ما ذكر ثانيا إلا أنه يرد عليه أن المتبادر من كلامهم كون كل من النتائج مذكورا صريحا ولا شك أن التقوى واجبة عليكم ليس مذكورا كذلك وإنما المذكور ما يدل عليه في الجملة وهو أيضا ليس بقضية كما لا يخفى وقد تكلف بعض الناس لبيان ذلك غير ما ذكرنا رأينا ترك ذكره أولى فتأمل
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم نزلت على ما روي عن محمد بن كعب في الأخنس بن شريق وعلى ما روي عن ابن عباس في أبي جهل وعلى ما ذهب إليه جمع في النضر كالآية السابقة فإذا اتحد المجادل في الآيتين فالتكرار مبالغة في الذم أو لكون كل من الآيتين مشتملة على زيادة ليست في الأخرى وقال ابن عطية : كررت الآية على جهة التوبيخ فكأنه قيل هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل إلى آخره فالواو هنا واو الحال وفي الآية المتقدمة واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها على معنى الإخبار لا للتوبيخ انتهى وهو كما ترى وفي الكشف أن الأظهر في النظم والأوفق للمقام كون هذه الآية في المقلدين بفتح اللام وتلك في المقلدين بكسر اللام فالواو للعطف على الآية الأولى والمراد بالعلم العلم الضروري كما أن المراد بالهدى في قوله تعالى ولا هدى الإستدلال والنظر الصحيح الهادي إلى المعرفة ولا كتاب منبر
8
- وحي مظهر للحق أي يجادل في شأنه تعالى شأنه من غير تمسك بمقدمة ضرورية ولا بحجة ولا ببرهان سمعي
ثاني عطفه حال من ضمير يجادل كالجار والمجرور السابق أي لا و يا لجانبه وهو كناية عن عدم قبوله وهو مراد ابن عباس بقوله متكبرا والضحاك بقوله شامخا بأنفه وابن جريج بقوله معرضا عن الحق
وقرأ الحسن عطفه بفتح العين أي مانعا لتعطفه ليضل عن سبيل الله متعلق بيجادل علة له فإن غرضه من الجدال الإضلال عن سبيله تعالى وإن لم يعترف بأنه إضلال وجوز أبو البقاء تعلقه بثاني وليس بذاك والمراد بالإضلال إما الإخراج من الهدى إلى الضلال فالمفعول من يجادله من المؤمنين أو الناس جميعا بتغليب المؤمنين على غيرهم وأما التثبيت على الضلال أو الزيادة عليه مجازا فالمفعول هم الكفرة خاصة
وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية ليضل بفتح الياء أي ليضل في نفسه والتعبير بصيغة المضارع مع أنه لم يكن مهتديا لجعل تمكنه من الهدى كالهدى لكونه هدى بالقوة ويجوز أن يراد ليستمر على الضلال أو ليزيد ضلاله وقيل : إن ذلك لجعل ضلاله الأول كلإضلال وأياما كان فاللام للعاقبة له في الدنيا خزي جملة مستأنفة لبيان نتيجة ما سلكه من الطريق وجوز أبو البقاء أن تكون حالا مقدرة أو مقارنة على معنى استحقاق ذلك والأول أظهر أي ثابت له في الدنيا بسبب ما فعله ذلك وهوان والمراد به عند القائلين بأن هذا المجادل النضر أو أبو جهل ما أصابه يوم بدر ومن عمم وهو الأولى حمله على ذم المؤمنين إياه وإفحامهم له عند البحث وعدم إدلائه بحجة أصلا أو على هذا مع ما يناله من النكال كالقتل لكن بالنسبة إلى بعض الأفراد
ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق
9
- أي النار البالغة في الإحراق والإضافة على ما قيل من إضافة المسبب إلى السبب وفسر الحرق أيضا بطبقة من طباق جهنم وجوز أن تكون الإضافة من أضافة الموصوف إلى
(17/122)

الصفة والمراد العذاب الحريق أي المحرق جدا وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه وأذيقه بهمزة المتكلم
ذلك أي ما ذكر من ثبوت الخزي له في الدنيا وإذاقة عذاب الحريق في الأخرى وما فيه من معنى البعد للإيذان بكون في الغاية القاصية من الهول والفظاعة وهو مبتدأ وخبره قوله تعالى : بما قدمت يداك أي بسبب ما اكتسبته من الكفر والمعاصي وإسناده إلى يديه لما أن الإكتساب عادة يكون بالأيدي وجوز أن يكون ذلك خبرا لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وأن يكون مفعولا لفعل محذوف أي فعلنا ذلك الخ وهو خلاف الظاهر والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب وجوز أن تكون في محل نصب مفعولة لقول محذوف وقع حالا أي قائلين أو مقولا له ذلك الخ وعلى الأول يكون في الكلام التفات لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد وأن الله ليس بظلام للعبيد
10
- الظاهر أنه عطف على ما وبه قال بعضهم وفائدته الدلالة على أن سببية ما افتروه من الذنوب لعذابهم مقيدة بانضمام انتفاء ظلمه تعالى إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ما اقترفوا لا أن يعذبهم بما اقترفوا وحاصله أن تعذيب العصاة يحتمل أن يكون لذنبوبهم ويحتمل أن يكون لمجرد إرادة عذابهم من غير ذنب بهذا الرفع الاحتمال الثاني وتعيين الأول للسببية لا لرفع احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم لأنه جائز بل بعض الآيات تدل على وقوعه في حق بعض العصاة ومرجع ذلك في الآخرة إلى تقريع الكفر وتبكيتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم كأنه قيل : إن ذلك العذاب إنما نشأ من ذنبوبكم التي اكتسبتموها لا من شيء آخر
واختار العلامة أبو السعود أن محل أن وما بعدها الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها وقال في العطف : للدلالة على أن سببية الخ أنه ليس بسديد لما أن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة المعينة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه نعم لو كان المدعي كون جميع تعذيباته تعالى بسبب المعذبين لاحتيج إلى ذلك انتهى
وتعقب قوله : إن إمكان الخ بأن الكلام ليس في منافاة ذينك الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب لا ذنب لتعين سببية الذنوب له وقوله نعم لو كان المدعي الخ بأن الإحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المذنبين بأنه لا سبب لتعذيبهم إلا من قبلهم فالقول بالإحتياج في صورة الجمع وبعدمه في صورة الخصوصية ركيك جدا وتعقب أيضا بغير ذلك والقول بالإعتراض وإن كان لا يخلو عن بعد أبعد من الإعتراض والتعبير عن نفي تعذيبه تعالى لعبيده من غير ذنب بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظالم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم وقيل : هي لرعاية جمعية العبيد فتكون للمبالغة كما لا كيفا واعترض بأن نفي المبالغة كيفما كانت توهم المحال وقيل : يجوز أن تعتبر المبالغة بعد النفي فيكون ذلك مبالغة في النفي لا نفيا للمبالغة واعترض بأن ذلك ليس مثل القيد المنفصل الذي يجوز اعتبار تأخره وتقدمه كما قالوه في القيود الواقعة مع النفي وجعله قيدا في التقدير لأنه بمعنى ليس بذي ظلم عظيم أو كثير تكلف لا نظير له وقيل : إن ظلاما للنسبة أي ليس بذي ظلم ولا يختص ذلك بصيغة فاعل فقد جاء
(17/123)

وليست بذي رمح ولست بنبال
وقيل غير ذلك
ومن الناس من يعبد الله على حرف شروع في حال المذبذبين أي ومنهم من يعبده تعالى كائنا على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون في طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر ففي الكلام استعارة تمثيلية وقوله تعالى فإن أصابه خير الخ تفسير لذلك وبيان لوجه الشبه والمراد من الخير الخير الدنيوي كالرخاء والعافية والولد أي إن أصابه ما يشتهي اطمأن به أي ثبت على ما كان عليه ظاهر لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين الذين لا يزحزحهم عاصف ولا يثنيهم عاطف وإن أصابته فتنة أي شيء يفتن به من مكروه يعتريه في نفسه أو أهله أو ماله انقلب على وجهه أي مستوليا على الجهة التي يواجهها غير ملتفت يمينا وشمالا ولا مبال بما يستقبله من حرار وجبيال وهو معنى قوله في الكشاف : طار على وجهه وجعله في الكشف كناية عن الهزيمة وقيل هو ههنا عبارة عن القلق لأنه في مقابلة اطمأن وأياما كان فالمراد دار تدو رجع عن دينه إلى الكفر
أخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردوية عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : كان الرجل يقدم المدينة فإذا ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء وأخرج ابن مردوية عن أبي سعيد قال : أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم من الإسلام فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أقلني فقال عليه الصلاة و السلام : إن الإسلام لا يقال فقال : لم أصب من ديني هذا خيرا ذهب بصري ومالي ومات ولدي فقال صلى الله عليه و سلم : يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة فنزلت هذه الآية وضعف هذا ابن حجر وقيل : نزلت في شيبة ابن ربيعة أسلم قبل ظهوره عليه الصلاة و السلام وارتد بعد ظهوره وروي ذلك عن ابن عباس وعن الحسن أنها نزلت في المنافقين خسر الدنيا والآخرة جملة مستأنفة أو بدل من انقلب كما قال أبو الفضل الرازي أو حال من فاعله بتقدير قد أو بدونها كما هو رأي أبي حيان والمعنى فقد الدنيا والاخرة وضيعهما حيث فاته ما يسره فيهما
وقال مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم خاسر بزنة فاعل منصوبا على الحال لأن إضافته لفظية وقريء خاسر بالرفع على أنه فاعل انقلب وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليفيد تعليل انقلابه بخسرانه وقيل : إنه من التجريد ففيه مبالغة وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو خاسر والجملة واردة على الذم والشتم ذلك أي ما ذكر من الخسران وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في غاية ما يكون وقيل إن أداة البعد لكونه المشار إليه غير مذكور صريحا هو الخسران المبين
11
- أي الواضح كونه خسرانا لا غير يدعوا من دون الله قيل استئناف نافع عليه بعض قبائحه وقيل استئناف مبين لعظم الخسران ويجوز أن يكون حالا من فاعل انقلب وما تقدمه اعتراض وأياما كان فهو يبعد كون الآية في أحد من اليهود لأنهم لا يدعون الأصنام وإن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله
والظاهر أن المدعو الأصنام لمكان ما في قوله تعالى ما لا يضره وما لا ينفعه والمراد بالدعاء العبادة
(17/124)

أي يعبد متجاوزا عبادة الله تعالى ما لا يضره إن لم يعبده وما لا ينفعه إذا عبده وجوز أن يراد بالدعاء النداء أي ينادي لأجل تخليصه مما أصابه من الفتنة جمادا ليس من شأنه الضر والنفع ويلوح بكون المراد جمادا كذلك كما في إرشاد العقل السليم تكرير كلمة ما ذلك أي الدعاء هو الضلال البعيد
12
- عن الحق والهدى مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالا عن الطريق
يدعو المن ضره أقرب من نفعه استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله تعالى ويقرر كون ذلك ضلالا بعيدا مع إزاحة ما عسى أن يتوهم من نفي الضرر عن معبوده بطريق المباشرة نفيه عنه بطريق التسبب أيضا فالدعاء هنا بمعنى القول كما في قول عنترة : يدعون عنترة الرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم واللام داخلة في الجملة الواقعة مقولا له وهي لام الإبتداء ومن مبتدأ و ضره أقرب مبتدأ وخبر والجملة صلة له وقوله تعالى : لبئس المولى ولبئس العشير
13
- جواب قسم مقدر واللام فيه جوابية وجملة القسم وجوابه خبر من أي يقوم الكافر يوم القيامة ببرفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ولا يرى منه أثرا مما كان يتوقعه منه من النفع لمن ضره أقرب تحققا من نفعه : والله لبئس الذي يتخذ ناصرا ولبئس الذي يعاشر ويخالط فكيف بما هو ضرر محض عار النفع بالكلية وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه ما لا يخفى وهو سر إيثار من على ما وإيراد صيغة التفضيل وهذا الوجه من الإعراب اختاره السجاوندي والمعنى عليه مما لا إشكال فيه
وقد ذهب إليه أيضا جار الله وجوز أن يكون يدعو هنا إعادة ليدعو السابق تأكيدا له وتمهيدا لما بعد من بيان سوء حال معبوده إثر بيان سوء حال عبادته بقوله تعالى ذلك هو الضلال البعيد كأنه قيل من جهته سبحانه بعد ذكر عبادة الكافر ما لا يضره ولا ينفعه يدعو ذلك ثم قيل لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا والله لبئس المولى الخ ولا تناقض عليه أيضا إذ الضر المنفي ما يكون بطريق المباشرة والمثبت ما يكون بطلايق التسبب وكذا النفع المنفي هو الواقعي والمثبت هو التوقعي قيل ولهذا الإثبات عبر بمن فإن الضر والنفع من شأنهما أن يصدرا عن العقلاء وفي إرشاد العقل السليم أن يرد كلمة وصيغة التفضيل على تقدير أن يكون ذلك إخبارا من جهته سبحانه عن سوء حال معبود الكفرة للتهكم به ولا مانع عندي أن يكون ذلك كما في التقدير الأول للمبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه
واعترض ابن هشام على هذا الوجه بأن فيه دعوى خلاف الأصل مرتين إذ الأصل عدم التوكيد والأصل أن لا يفصل المؤكد عن توكيده ولا سيما في التوكيد اللفظي وقال الأخفش : إن يدعو بمعنى يقول واللام للإبتداء ومن موصول مبتدأ صلته الجملة بعده وخبره محذوف تقديره إله أو إلهي والجملة محكية بالقول واعترض بأنه فاسد المعنى لأن هذا القول من الكافر إنما يكون في الدنيا وهو لا يعتقد فيها أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها
وأجيب بأن المراد إنكار قولهم بألوهية الأوثان إلا أن الله تعالى عبر عنها بما ذكر للتهكم نعم الأولى أن يقدر الخبر مولى لأن قوله تعالى لبئس المولى ولبئس العشير أدل عليه ومع هذا لا يخفى بعد هذا الوجه وقيل يدعو مضمن معنى يزهم وهي ملحقة بأفعال القلوب الزعم قولا مع اعتقاد واللام ابتدائية معلقة للفعل ومن
(17/125)

مبتدأ وخبرها محذوف كما في الوجه السابق والجملة في محل نصب بيدعو وإلى هذا الوجه أشار الفارسي ولا يخفى عليك ما فيه
وقال الفراء : إن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه فمن في محل نصب بيدعو وتعقبه أبو حيان وغيره بأنه بعيد لأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول وقال ابن الحاجب : قيل اللام زائدة للتوكيد ومن مفعول يدعو وليس بشيء لأن اللام المفتوحة لا تزاد بين الفعل ومفعوله لكن قوي القول بالزيادة هنا بقراءة عبد الله يدعو من ضره بإسقاط اللام وقيل يدعو بمعنى يسمى ومن مفعوله الأول ومفعوله الثاني محذوف أي إلها ولا يخفى عليك ما فيه وقيل إن يدعو ليست عاملة فيما بعدها وإنما هي عاملة في ذلك قبلها وهو موصول بمعنى الذي ونقل هذا عن الفارسي أيضا وهو على بعده لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة مطلقا أن يكون موصولا وأما البصريون فلا يجيزون إلا في ذا بشرط أن يتقدمها الإستفهام بما أو من وقيل هي عاملة في ضمير محذوف راجع إلى ذلك أي يدعوه والجملة في موضع الحال والتقدير ذلك هو الضلال البعيد مدعوا وفيه مع بعده أن يدعو لا يقدر بمدعو أو إنما يقدر بداعيا والذي والذي يقدر بمدعوا إنما هو يدعى المبني للمفعول وقيل يدعو عطف على يدعو الأول وأسقط حرف العطف لقصد تعداد أحوال ذلك المذبذب واللام زائدة و من مفعول يدعو وهي واقعة على العاقل والدعاء في الموضعين إما بمعنى العبارة وإما بمعنى النداء والمراد إما بيان حال طائفة منهم على معنى أنهم تارة يدعون ما لا يضر ولا ينفع وتارة يدعون من ضره أقرب من نفعه وإما بيان حال الجنس باعتبار ما تحته على معنى أن منهم من يدعو ما لا يضر ولا ينفع ومنهم من يدعو من ضره أقرب من نفعه وهو كما ترى وبالجملة أحسن الوجوه أولها
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار استئناف لبيان كمال حسن حال المؤمنين العابدين له تعالى وأنه تعالى يتفضل عليهم بالنعين الدائم أثر بيان غاية سوء حال الكفرة
وجملة تجري الخ صفة لجنات فإن أريد بها الأشجار المتكاثفة الساترة لما تحتها فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وإن جعلت عبارة عن مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل كما في إرشاد العقل السليم
وقوله تعالى إن الله يفعل ما يريد
14
- تعليل لما قبله وتقرير بطريق التحقيق أي هو تعالى يفعل البتة كل ما يريده من الأفعال المتقنة اللائقة المبنية على الحكم الرائقة التي من جملتها إثابة من آمن به وصدق برسوله صلى الله عليه و سلم وعقاب من كفر وكذب برسوله عليه الصلاة و السلام
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة الضمير في ينصره لرسول الله صلى الله عليه و سلم على ما روي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختاره الفراء والزجاج كأنه لما ذكر المجادل بالباطل وخذلانه في الدنيا لأنه لا يدلي بحجة ما ضرورية أو نظرية أو سمعية ولما يؤل إليه أمره من النكال وفي الآخرة بما هو أطم وأطم ثم ذكر سبحانه مشايعيه وعمم خسارهم في الدارين ذكر في مقابلهم المؤمنين وأتبعه ذكر المجادل عنهم وعن دين الله تعالى بالتي هي أحسن وهو رسوله عليه الصلاة و السلام وبالغ في كونه منصورا بما لا مزيد عليه واختصر الكلام دلالة على أنه صلى الله عليه و سلم العلم الذي لا يشتبه وإن الكلام
(17/126)

فيه وله ومعه وأن ذكر عيره بتبعية ذكره فالمعنى أنه تعالى ناصر لرسوله صلى الله عليه و سلم في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته وإدخال من صدقه جنات تجري من تحتها الأنهار والإنتقام ممن كذبه وأذاقته عذاب الحريق لا يصرفه سبحانه عن ذلك صارف ولا يعطفه عنه عاطف فمن كان يغيظه ذلك من أعاديه وحساده ويظن أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور ومباشرة ما يرده من المكايد فليبالغ في استفراغ المجهود وليتجاوز في الجد كل حد معهود فقصارى أمره خيبة مساعيه وعقم مقدماته ومباديه وبقاء ما يغيظ على حاله ودوام شجوه وبلباله وقد وضع مقام هذا الجزاء
قوله سبحانه فليمدد بسبب الخ أي فليمدد حبلا إلى السماء أي إلى سقف بيته كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك ثم ليقطع أي ليختنق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من قطع إذا اختنق كان أصله قطع نفسه بفتحتين أو أجله ثم ترك المفعول نسيا منسيا فصار بمعنى اختنق لازم خنقه وذكورا أن قطع النفس كناية عن الإختناق وقيل المعنى ليقطع الحبل بعد الإختناق على أن المراد به فرض القطع وتقديره كما أن المراد بالنظر في قوله تعالى : فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ
15
- تقدير النظر وتصويره وإلا فبعد الإختناق لا يتأتى منه ذلك أي فليقدر في نفسه النظر هل يذهبن كيده غيظه أو الذي يغيظه من النصر ويجوز أن يراد فلينظر الآن أنه إن فعل ذلك هل يذهب ما يغيظه وجوز أن يكون المأمور بالنظر غير المأمور الأول ممن يصح منه النظر وأن يكون الكلام خارجا مخرج التهكم كما قيل إن تسمية فعله ذلك كيدا خارجا هذا المخرج وقال جمع : إن إطلاق الكيد على ذلك لشبهه به فإن الكائد إذا كاد أتى بغاية ما يقدر عليه وذلك الفعل غاية ما يقدر عليه ذلك العدو الحسود ونقل عن ابن زيد أن المعنى فليمدد حبلا إلى السماء المظلة وليصعد عليه ثم ليقطع الوحي عنه صلى الله عليه و سلم وقيل : ليقطع المسافة حتى يبلغ عنان السماء فيجهد في دفع نصره عليه الصلاة و السلام النازل من جهتها وتعقبه المولى أبو السعود بأنه يأباه مسارق النظ الكريم بيان أن الأمور المفروضة على تقدير وقوعها وتحققها بمعزل من إذهاب ما يغيظ ومن البين أن لا معنى لفرض وقوع الأمور الممتنعة وترتيب الأمر بالنظر عليه لاسيما قطع الوحي فإن فرض وقوعه مخل بالمرام قطعا ونوقش في ذلك بما لا يخفى على الناظر نعم المعنى السابق هو الأولى وأياما كان فمن يظن ذلك هم الكفرة الحاسدون صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : أعراب من أسلم وغطفان تباطؤا عن الإسلام وقالوا : نخاف أن لا ينصر محمد عليه الصلاة و السلام فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا وقيل : قوم من المسلمين كانوا لشدة غيظهم من المشركين يستبطئون ما وعد الله تعالة ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم من النصر والمعنى عليه وكذا على سابقه أن قيل إن أولئك الأعراب كانوا يستبطئون النصر أيضا من استبطأ نصر الله تعالى وطلبه عاجلا فليقتل نفسه لأن له وقتا اقتضت الحكمة وقوعه فيه فلا يقع في غيره وأنت تعلم بعد هذين القولين وأن ثانيهما أبعد
واستظهر أبو حيان كون ضمير ينصره عائدا على من لأنه المذكور وحتى الضمير أن يعود على مذكور وهو قول مجاهد وإليه ذهب بعضهم وفسر النصر بالرزق قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله تعالى وقالوا : أرض منصورة أي ممطورة وقال الفقعسي :
(17/127)

وإنك لا تعطي أمرا فوق حقه ولا تملك الشيء الذي انت ناصره أي معطيع وكأنه مستعار من النصر بمعنى العون فالمعنى أن الأرزاق بيد الله تعالى لا تنال إلا بمشيئته فلا بد للعبد من الرضا بقسمته فمن ظن أن الله تعالى غير رازقه ولم يصبر ولم يستسلم فليبلغ غاية الجزع وهو الإختناق فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقا والغرض من الحث على الرضا بما قسم الله تعالى لا كمن يعبده على حرف وكأنه سبحانه لما ذكر المؤنين عقيبهم على ما مر حذرهم عن مثل حالهم لطفا في شأنهم ولا يخلو عن بعد وإن كان ربط الأمية بما قبلها عليه قريبا وقيل : الضمير لمن والنصر المتبادر منه والمعنى من كان يظن أن لن ينصره الله تعالى فيغتاظ لانتفاء نصره فليحتل بأعظم حيلة في نصر الله تعالى إياه وليستفرغ جهده في إيصال النصر إليه فلينظر هل يذهبن ذلك ما يغيظه من انتفاء النصر ولا يخفى ما في وجه الربط على هذا من الخفاء
ومن كما أشرنا إليه شرطية وجوز أن تكون موصولة والفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط وهل يذهبن في حل نصب بينظر وذكر أنه على إسقاط الخافظ وقرأ البصريون وابن عامر وورش ثم ليقطع بكسر لام الأمر والباقون بسكونها على تشبيه ثم بالواو والفاء لأن الجميع عواطف وكذلك أي مثل ذلك الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أنزلناه أي القرآن الكريم كله آيات بينات واضحات الدلالة على معانيها الرائقة فالمشار إليه الإنزال المذكور بعد اسم الإشارة ويجوز أن يكون المراد إنزال الآيات السابقة وأياما كان ففيه أن القرآن الكريم في جميع أبوابه كامل البيان لا في أمر البعث وحده ونصب آيات على الحال من الضمير المنصوب وقوله تعالى وأن الله يهدي من يريد
16
- بتقدير اللام وهو متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا إفادة للحصر الإضافي أي ولأن الله تعالى يهدي بعد ابتداء أو يثبت على الهدى أو يزيد فيه من يريد هدايته أو ثباته أو زيادته فيها أنزله كذلك أو في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر أن الله يهدي الخ
وجوز أن يكون معطوفا على محل مفعول أنزلناه أي وأنزلنا أن الله يهدي الخ إن الذين آمنوا أي بما ذكر من المنزل بهداية الله تعالى أو بكل ما يجب أن يؤمن به ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا والذين هادوا والصابئين هم على ما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرءون الزبور وفي القاموس هم قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام وقبلتهم من مهب الشمال عند منتصب النهار وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني أن الصابئة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام ويقال لمقابليهم الحنفاء وكانوا يقولون : إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأمره وأحكامه جل شأنه إلى متوسط روحاني لا جسماني
ومدار مذاهبهم على التعصب للروحانيات وكانوا يعظمونها غاية التعظيم ويتقربون إليها ولما لم يتيسر لهم التقرب إلى أعيانها والتقى منها بذواتها فزعت جماعة إلى هياكل وهي السبع السيارات وبعض الثوابت فمصابئة الروم مفزعها السيارات وصابئة الهند مفزعها الثوابت وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئا والفرقة الأولى هم عبدة الكواكب والثانية هم عبدة الأصنام وقد أفحم
(17/128)

إبراهيم عليه السلام كلتا الفرقتين وألزمهم الحجة
وذكر في موضع آخر أن ظهورهم كان في أول سنة من ملك طهمورث من ملوك الفرس ولفظ الصابئة عربي من صبا كمنع وكرم صبأ وصبوأ خرج من دين إلى آخر والنصارى والمجوس هم على ما يرى عن قتادة أيضا قوم يعبدون الشمس والقمر والنيران واقتصر بعضهم على وصفهم بعبادة الشمس والقمر وآخرون على وصفهم بعبادة النيران وقيل : هم قوم اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح وقيل : قوم أخذوا من دين النصارى شيئا ومن دين اليهود شيئا وهم قائلون بأن للعالم أصلين نور أو ظلمة وفي كتاب الملل والنحل ما يدل على أنهم طوائف وأنهم كانوا قبل اليهود والنصارى وأنهم يقولون بالشرائع على خلاف الصابئة وأن لهم شبهة كتاب وأنهم يعظمون النار وفيه أن بيوت النيران للمجوس كثيرة فأول بيت بناه أفريدون بين نار بطوس وآخر بمدينة بخارى هوبردسون واتخذ بهمن بيتا بسجستان يدعى كركو ولهم بيت نار ببخارى أيضا يدعى قبادان وبيت نار يسمى كونشة بين فارس وأصفهان بناه كيخسرد وآخر بقومش يسمى جرير وبيت نار كيكدر بناه في مشرق الصين وآخر بارجان من فارس اتخذه أرجان جد كشتاسف وكل هذه البيوت كانت قبل زرادشت ثم جدد زرادشت بيت نار بنيسا بعد كشتاسف أن تطلب النار التي كان يعظمها جم فوجدوها بمدينة خوارزم فنقلها إلى دار أبجرد والمجوس يعظمونها أكثر من غيرها وكيخسرد ولما غزا أفراسياب عظمها وسجد لها ويقال : إن أنوشر وإن هو الذي نقلها إلى كارشان فتركوا بعضها هناك وحملوا بعضها إلى نسا وفي بلاد الروم على باب قسطنطينية بيت نار اتخذه شابور بن أزدشير فلم تزل كذلك إلى أيام المهدي وبيت نار باسفيثا على قرب مدينة السلام لبوران بنت كسرى وفي الهند والصين بيوت نيران أيضا والمجوس إنما يعظمون النار لمعان منها أنها جوهر شريف علوي يظنون أن ذلك ينجيهم من عذاب نار يوم القيامة ولم يدركوا أن ذلك السبب الأعظم لعذابهم أه
وفيه ما لا يخفى على من راجع التواريخ وفي القاموس مجوس كصبور رجل صغير الأذنين وضع دينا ودعا إليه معرب ميخ كوش وفي الصحاح المجوسية نحلة والمجوسي نسبة إليها والجمع المجوس قال أبو علي النحوي : المجوس واليهود إنما عرفا على حد يهودي ويهود ومجوسي ومجوس فجمع على قياس شعيرة وشعير ثم عرف الجمع بالألفت واللام ولو ذلك لم يجز دخول الألف واللام عليهما لأنها معرفتان مؤنثان فجريا في كلامهم مجرى القبيلتين ولم يجعلا كالحيين في باب الصرف وأنشد : أحار أريك برقاهب وهنا كنار مجوس يستعر استعارا انتهى وذكر بعضهم أن مجوس معرب موكوش وأطلق على أولئك القوم لأنهم كانوا يرسلون شعور رؤسهم إلى آذانهم ونقل في البحر أن الميم بدل من النون وأطلق ذلك عليهم لاستعمالهم النجاسات وهو قول لا يعول عليه والذين أشركوا المشهور أنهم عبدة الأوثان وقيل ما يعمهم وسائر من عبد مع الله تعالى إلها آخر من ملك وكوكب وغيرهما ممن لم يشتهر باسم خاص كالصابئة والمجوس وقوله تعالى : إم الله يفصل بينهم يوم القيامة في حيز الرفع على أنه خبر لأن السابقة وأدخلت إن على كل واحد من
(17/129)

جزئي الجملة لزيادة التأكيد كما في قول جرير : إن الخليفة إن الله سربله سربال ملك به تزجي الخواتيم وقيل : خبر إن الأولى محذوف أي مفترقون يوم القيامة أو نحو ذلك مما يدل عليه قوله سبحانه : إن الله يفصل بينهم الخ فإن قولك : إن زيدا إن عمرا يضربه رديء والبيت لا يتعين فيه جعل الجملة المقترنة بإن خبرا بل يجوز أن تكون معترضة والخبر جملة به تزجى الخواتيم ولا يخفى عليك بعد تسليم الرداءة أن الآية ليست كالمثال المذكور لطول الفاصل فيها قال في البحر : وحسن دخول إن في الجملة الواقعة خبرا في الآية طول الفصل بالمعاطيف وقال الزجاج : زعم قوم أن قولك : إن زيدا أنه قائم رديء وأن هذه الآية إنما صلحت بتقدم الموصول ولا فرق بين الموصول وغيره في باب إن وليس بين البصريين خلاف في أن إن تدخل على كل مبتدأ وخبر فعلى هذا لا ينبغي العدول عن الوجه المتبادر والمراد بالفصل القضاء أي إنه تعالى يقضي بين المؤمنين والفرق الخمس المتفقة على الكفر بإظهار المحق من المبطل وتوفية كل منهما حقه من الجزاء بإثابة المؤمنين وعقاب الفرق الآخرين بحسب استحقاق أفراد كل منهما وقيل : المراد أنه تعالى يفصل بين الفرق الست في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحد بلا تفاوت بل يجزي المؤمنين بما يليق واليهود بما يليق بهم وهكذا لا يجمعهم في موطن واحد بل يجعل المؤمنين في الجنة وكلا من الفرق الكافرة في طبقة من طبقات النار وقوله تعالى : إن الله على كل شيء شهيد
17
- تعليل لما قبله من الفصل أي أنه تعالى عالم بكل شيء من الأشياء ومراقب لأحواله ومن قضيته الإحاطة بتفاصيل ما صدر عن كل فرد من أفراد الفرق المذكورة وإجراء جزائه اللائق به عليه وقوله تعالى : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض الخ بيان لما يوجب الفصل المذكور من أعمال الفرق مع الإشارة إلى كيفيته وكونه بطريق التعذيب والإثابة والإكرام والإهانة وجوز أن يكون تنويرا لكونه تعالى شهيدا على كل شيء وقيل : هو تقريع على اختلاف الكفرة واستبعاد له لوجوب الصارف والمراد بالرؤية العلم والخطاب لكل من يتأتى منه ذلك والمراد بالسجود دخول الأشياء تحت تسخيره تعالى وإرادته سبحانه وقابليتها لما يحدث فيها عز و جل وظاهر كلام الآدمي أنه معنى حقيقي للسجود وفي مفردات الراغب السجود في الأصل التظامن والتذلل وجعل ذلك عبارة عن التذلل لله تعالى وعبادته وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد وذلك ضربان باختيار يكون للإنسان وبه يستحق الثواب وسجود بتسخير يكون للإنسان وغيره من الحيوان والنباتات وخص في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة وما جرى مجراه من سجود التلاوة وسجود الشكر انتهى
وذكر بعضهم أنه كما خص في الشريعة بذلك خص في عرف اللغة به وقال ابن كمال : أن حقيقته على ما نص عليه في المجمل وصع الرأس وقال العلامة الثاني : حقيقته وضع الجبهة لا الرأس حتى لو وضع الرأس من جانب القفا لم يكن ساجدا وعلى هذين القولين على علامتهما قيل السجود هنا مجاز عن الدخول تحت تسخيره تعالى والإنقياد لإرادته سبحانه وجوز أن يكون مجازا عن دلالة لسان حال الأشياء بذلتها وافتقارها على صانعها وعظمته جلت عظمته ووجه التنوير على هذا ظاهر وكذا التقريع على الإختلاف و من إما خاصة بالعقلاء وإما عامة لهم ولغيرهم بطريق التغليب وهو الأولى لأنه الأنسب بالمقام لإفادته شمول الحكم
(17/130)

لكل ما فيهما بطريق القرار فيهما أو بطريق الجزئية منهما ويكون قوله تعالى : والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب إفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها بحسب الظاهر في باديء النظر القاصر كما قيل أو لأنها قد عبدت من دون الله تعالى إما باعتبار شخصها أو جنسها فالشمس عبدتها حمير والقمر عبدته كنانة وعبد الدبران من النجوم تميم والشعري لخم وقريش والثريا طيء وعطاردا أسد والمرزم ربيعة وعبد اكثر العرب الأصنام المنحوتة من الجبال وعبدت غطفان العزي وهي سمرة واحدة السمر شجر معروف ومن الناس من عبد البقر وقرأ الزهري وابن وثاب الدواب بتخفيف الباء وخص ابن جني في المحتسب هذه القراءة بالزهري وقال : لا أعلم من خففها سواه وهو قليل ضعيف قياسا وسماعا لأن التقاء الساكنين على حده وعذره كراهة التضعيف ولذا قالوا في ظللت ظلت وقالوا جان بالتخفيف وذكر له نظائر كثيرة
وقوله تعالى وكثير من الناس قيل مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس سجود الطاعة المعروف واعترض بأنه صرح في المغنى بأن شرط الدليل اللفظي على المحذوف أن يكون طبقه لفظا ومعنى أو معنى لا لفظا فقط فلا يجوز زيد ضارب وعمرو على أن خبر عمرو محذوف وهو ضارب من الضرب في الأرض أي مسافر والمذكور بمعناه المعروف وأجاب الخفاجي بأن ما ذكر غير مسلم لما ذكره النحاة من أن المقدر قد يكون لازما للمذكور نحو زيدا ضربت أي أهنت زيدا ولا يكون مشتركا كالمثال المذكور إلا أن يكون بينهما ملاءمه فيصح إذا اتحدا لفظا وكان من المشترك وبينهما ملازمة تدل على المقدر ولذا لم يصح المثال المذكور انتهى وعطفه بعضهم على المذكورات قبله وجعل السجود بالنسبة إليه بمعنى السجود المعروف وفيما تقدم بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على عظمة الصانع جل شأنه
واستدل بذلك على جواز استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه والجواب ما علمت ولا يجوز العطف وجعل السجود في الجميع بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على العظمة لأن ذلك عام لجميع الناس فلا يليق حينئذ ذكر كثير وغير العام إنما هو السجود بالمعنى المعروف فيفيد ذكر كثير إذا أريد أن منهم من لم يتصف بذلك وهو كذلك وما قيل : إنه يجوز أن يكون تخصيص الكثير على إرادة السجود العام للدلالة على شرفهم والتنويه بهم ليس بشيء إذ كيف يتأتى التنويه وقد قرن بهم غير العقلاء كالدواب وقال ابن كمال : تمسك من جوز حمل المشترك في استعمال واحد على أكثر من معنى بقوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض الآية بناء على أن المراد بالسجود المنسوب إلى غير العقلاء الإنقياد لتعذر السجود المعهود في حقه ومن المنسوب إليهم ما هو المعهود دون الإنقياد لأنه شامل للكل غير مخصوص بالكثير ولا متمسك لهم في ذلك لأن كلا من التعليلين في معرض المنع أما الأول فلأن حقيقة السجود وضع الرأس ولا تعذر في نسبته إلى غير العقلاء ولا حاجة إلى إثبات حقيقة الرأس في الكل لأن التغليب سائغ شائع وأما الثاني فلأن الكفار لا سيما المتكبرين منهم لا حظ لهم من الإنقياد لأن المراد منه الإطاعة بما ورد في حقه من الأمر تكليفيا كان أو تكوينيا على وجه ورد به الأمر وتقدير فعل آخر في هذا المقام من ضيق الطعن كما لا يخفى على أرباب الفطن انتهى وفيه القول بجواز العطف
(17/131)

على كلا معنى السجود وضع الرأس والإنقياد وبيان فائدة تخصيص الكثير على الثاني ولا يخفى أن المتبادر من معتبرات كتب اللغة أن السجود حقيقة لغوية في الخضوع مطلقا وأن ما ذكره من حديث التغليب خلاف الظاهر وكذا حمل الإنقياد على ما ذكره وقد أخذ رحمه الله تعالى كلا المعنيين من التوضيح وقد أسقط مما فيه ما عنه غنى وما زعم أنه من ضيق الطعن هو الذي ذهب إليه أكثر القوم وعليه يكون من الناس صفة كثير وأورد أنه حينئذ يرد أن سجود الطاعة المعروف لا يختص بكثير من الناس فإن كثيرا من الجن متصف به أيضا وكونهم غير مكلفين خلاف القول الأصح نعم يمكن أن يقال : إنهم لم يكونوا مأمورين بالسجود عند نزول الآية وعلى مدعيه البيان والقول بأنه يجوز أن يراد بالناس ما يعم الجن فإنه يطلق عليهم حسب إطلاق النفر والرجال عليهم ليس بشيء ومن الناس من أجاب عن ذلك بأن بسجد المقدر داخل في الرؤية وقد قالوا : المراد بها العلم والتعبير بها عنه للإشعار بظهور المعلوم وظهور السجود بمعنى الدخول تحت التسخير في الأشياء المنسوب هو إليها مما لا سترة عليها وكذا ظهوره بمعنى السجود المعروف في كثير من الناس وأما في الجن فليس كذلك فلذا وصف الكثير بكونه من الناس وتعقب بأن الخطاب في ألم تر لمن يتأتى منه ذلك ولا سترة في ظهور أمر السجود مطلقا بالنسبة إليه ورد بأن مراد المجيب أن سجود الجن ليس بظاهر في نفس الأمر ومع قطع النظر عن المخاطب كائنا من كان ظهور دخول الأشياء المذكورة أولا تحت التسخير بخلاف سجود كثير من الناس فإنه ظاهر ظهور ذلك في نفس الأمر فخص الكثير بسكونه من الناس ليكون الداخل في حيز الرؤية من صقع واحد من الظهور في نفس الأمر
وقيل المقام يقتضي تكثير الرائين لما يذكر في حيز الرؤية والتخصيص أوفق بذلك فلذا خص الكثير بكونهم من الناس والكل كما ترى والأولى أن يقال : تخصيص الكثير من الناس بنسبة السجود بالمعنى المعروف إليهم على القول بأن كثيرا من الجن كذلك للتنويه بهم ولا يرد عليه ما مر لأنه لم يقرن بهم في هذا السجود غير العقلاء فتأمل وقيل : إن كثير مرفوع على الإبتداء حذف خبره ثقة بدلالة خبر قسميه عليه نحو حق الثواب ويفيد الكلام كثرة الفريقين والأول أولى لما فيه من الترغيب في السجود والطاعة للحق المعبود وجوز أن يكون كثير مبتدأ و من الناس خبره والتعريف فيه للحقيقة والجنس أي وكثير من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون المتقون وقال الراغب : قد يكون الناس ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزا وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه والمخصص للمبتدأ النكرة أنه صفة محذوف بالحقيقة على أن المعادلة من المخصصات إذا قلت رجال مكرمون ورجال مهانون لأنه تفصيل مجمل فهو موصوف تقديرا ولأن كلا من المقابلين موصوف بمغايرة الآخر فهذا داخل في الوصف المعنوي وأن يكون كثيرا مبتدأ و من الناس صفته وقوله تعالى وكثير معطوف عليه وقوله سبحانه : حق عليه العذاب أي ثبت وتقرر خبر ويكون الكلام على حد قولك : عدني ألف وألف أي ألوف كثيرة ومثله شائع في كلامهم فيفيد كثرة من حق عليه العذاب من الناس وهذان الوجهان بعيدان وقال في البحر : ضعيفان
والظاهر أن كثير الثاني مبتدأ والجملة بعده خبره وقد أقيمت مقام لا يسجد فكأنه قيل ويسجد كثير من
(17/132)

الناس ولا يسجد كثير منهم ولا يخفى ما في تلك الإقامة من الترهيب عن ترك السجود والطاعة ولا يخفى ما في عدم التصريح بتقييد الكثير بكونه من الناس مما يقوي دعوى أن التقييد فيما تقدم للتنويه وحمل عدم التقييد ليعم الكثير من الكثير من الجن خلاف الظاهر جدا
وجوز أن يكون معطوفا على من والسجود بأحد المعنيين السابقين وجملة حق الخ صفته ويقدر وصف لكثير الأول بقرينة مقابله أي حق له الثواب و من الناس صفة له أيضا ولا يخفى ما فيه وقريء حق بضم الحاء و حقا أي حق عليه العذاب حقا فهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة ومن يهن الله بأن كتب الله تعالى عليه الشقاء حسبما استعدت له ذاته من الشر ومن مفعول مقدر ليهن فما له من مكرم يكرمه بالسعادة
وقرأ ابن أبي عبلة مكرم بفتح الراء على أنه مصدر ميمي كما في القاموس أي مما له إكرام وقيل اسم مفعول بمعنى المصدر ولا حاجة إلى التزامه وقيل يجوز أن يكون باقيا على ما هو الشائع في هذه الصيغة من كونه اسم مفعول والمعنى ماله من يكرم ويشفع فيه ليخلص من الإهانة ولا يخفى بعده إن الله يفعل ما يشاء
18
- من الأشياء التي من جملتها الإكرام والإهانة وهذا أولى من تخصيص ما بقرينة السياق بهما
هذان خصمان اختصموا في ربهم تعيين لطرفي الخصام وتحرير لمحله فالمراد بهذان فريق المؤمنين وفريق الكفرة المنقسم إلى الفرق الخمس وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي ما يؤيد ذلك وبه يتعين كون الفصل السابق بين المؤمنين ومجموع من عطف عليهم ولما كان كل خصم فريقا يجمع طائفة جاء اختصموا بصيغة الجمع
وقرأ ابن أبي عبلة اختصما مراعاة اللفظ خصمان وهو تثنية خصم وذكروا أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد المذكور وغيره قال أبو البقاء : وأكثر الإستعمال توحيده فمن ثناه وجمعه حمله على الصفات والأسماء وعن الكسائي أنه قرأ خصمان بكسر الخاء ومعنى اختصامهم في ربهم اختصامهم في شأنه عز شأنه وقيل في دينه وقيل في ذاته وصفاته والكل من شؤنه تعالى واعتقاد كل من الفريقين حقية ما هو عليه وبطلان ما عليه صاحبه وبناء أقواله وأفعاله عليه يكفي في تحقق خصومته للفريق الآخر ولا يتوقف عن التحاور
وأخرج ابن جرير وابن مردوية عن ابن عباس أنه قال : تخاصمت المؤمنين واليهود فقالت اليهود : نحن أولى بالله تعالى وأقدم منكم كتابا ونبيا قبل نبيكم وقال المؤمنون : نحن أحق بالله تعالى آمنا بمحمد صلى الله عليه و سلم وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله تعالى من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا فنزلت
وأخرج جماعة عن قتادة نحو ذلك واعترض بأن الخصام على هذا ليس في الله تعالى بل في أيهما أقرب منه عز شأنه وأجيب بأنه يستلزم ذلك وهو كما ترى وقيل عليه أيضا : أن تخصيص اليهود خلاف مساق الكلام في هذا المقام وفي الكشف قالوا : إن هذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس من أن الآية ترجع إلى أهل الأديان الستة في التحقيق لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والطبراني وغيرهم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية هذان خصمان إلى قوله تعالى : إن الله يفعل ما يريد
(17/133)

نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر هم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحرث وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وأنت تعلم أن هذا الإختصام ليس اختصاما في الله تعالى بل منشؤه ذلك فتأمل ولا تغفل
وأما ما قيل من أن المراد بهذين الخصمين الجنة والنار فلا ينبغي أن يختلف في عدم قبوله خصمان أو بنتطح فيه كبشان وفي الكلام كما قال غير واحد تقسيم وجمع وتفريق فالتقسيم إن الذين آمنوا إلى قوله تعالى والذين أشركون والجمع إن الله يفصل بينهم إلى قوله تعالى : هذا خصمان اختصموا في ربهم والتفريق في قوله سبحانه : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار الخ أي أهد لهم ذلك وكأنه شبه إعداد النار المحيطة بهم بتقطيع ثياب وتفصيلها لهم على قدر جثثهم ففي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية وليس هناك تقطيع ولا ثياب حقيقة وكأن جمع الثياب للإيذان بتراكم النار المحيطة بهم وكون بعضها فوق بعض
وجوز أن يكون ذلك لمقابلة الجمع بالجمع والأول أبلغ وعبر بالماضي لأن الإعداد وقع فليس من التعبي بالماضي لتحققه كما في نفخ في الصور
وأخرج جماعة عن سعيد بن جبير أن هذه الثياب من نحاس مذاب وليس شيء حمى في النار أشد حرارة منه فليست الثياب من نفس النار بل من شيء يشبهها وتكون هذه الثياب كسوة لهم وما أقبحها كسوة ولذا قال وهب : يكسى أهل النار والعري خير لهم وقرأ الزعفراني في اختياره قطعت بالتخفيف والتشديد أبلغ
يصب من فوق رؤسهم الحميم
19
- أي الماء الحار الذي انتهت حرارته وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو سقط من الحميم نقطة على جبال الدنيا لآذابتها وفسره ابن جبير بالنحاس المذاب والمشهور التفسير السابق ولعله إنما جيء بمن بشدة الوقوع والجملة مستأنفة أو خبر ثان للموصول أو في موضع الحال المقدرة من ضمير لهم يصهر به أي يذاب ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء
وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وجماعة عن ابن أبي هريرة أنه تلا هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الحميم ليصب على رؤسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق إلى قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان
وقرأ الحسن وفرقة يصهر بفتح الصاد وتشديد الهاء والظاهر أن قوله تعالى والجلود
20
- عطف على ما وتأخيره عنه قيل إما لمراعاة الفواصل أو للإشعار بغايه شدة الحرارة بإيهام أن تأثيرها في الباطن أقدم من تأثيرها في الظاهر مع ملابستها على العكس وقيل إن التأثير في الظاهر غني عن البيان وإنما ذكر للإشارة إلى تساويهما ولذا قدم الباطن لأنه المقصود الأهم وقيل التقدير ويحرق الجلود لأن الجلود لا تذاب وإنما تجتمع على النار وتنكمش وفي البحر أن هذا من باب علفتها تبنا وماء باردا
وقال بعضهم : لا حاجة إلى التزام ذلك فإن أحوال تلك النشأة أمر آخر وقيل يصهر بمعنى يتضج وأنشد :
تصهره الشمس ولا ينصهر
وحينئذ لا كلام في نسبته إلى الجلود والجملة حال من الحميم أو مستأنفة
ولهم أي للكفرة وكون الضمير للزبانية بعيد واللام للإستحقاق أو للفائدة تهكما بهم وقيل للأجل
(17/134)

والكلام على حذف مضاف أي لتعذيبهم وقيل بمعنى على كما في قوله تعالى ولهم اللعنة أي وعليهم
مقامع من حديد
21
- جمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف وفي مجمع البيان هي مدقة الرأس من قمعه قمعا إذا ردعه وفسرها الضحاك وجماعة بالمطارق وبعضهم بالسياط وفي الحديث لو وضع مقمع منها في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما ألقوه من الأرض كلما أرادوا أن يخرجوا منها أي أشرفوا على الخروج من النار ودنوا منه حسبما يروى أنها تضربهم بلهبها فترفعهم فإذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقاطع فهووا فيها سبعين خريفا فالإرادة مجاز عن الإشراف والقرب كما في قوله تعالى يريد أن ينقض وجعل بعضهم ضمير منها للثياب وهو ركيك وقوله تعالى من غم بدل اشتمال من ضمير منها بإعادة الجار والرابط محذوف والتنكير للتفخيم والمراد من غم عظيم من غمومها أو مفعول له للخروج أي كلما أرادوا الخروج منها لأجل غم عظيم يلحقهم من عذابها والغم أخوالهم وهو معروف وقال بعضهم : هو هنا مصدر غممت الشيء أي غطيته أي كلما أرادوا أن يخرجوا من تغطية العذاب لهم أو مما يغطيهم من العذاب أعيدوا فيها أي في قعرها بأن ردوا من أعاليها إلى أشافلها من غير أن يخرجوا منها إذ لا خروج لهم كما هو المشهور من حالهم واستدل له بقوله تعالى وما هم بخارجين وفي اختيار فيها دون إليها إشعار بذلك وقيل الإعادة مجاز عن الإبقاء وقيل التقدير كلما كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا أعيدوا فيها فالإعادة معلقة على الخروج وحذف للإشعار بسرعة تعلق الإرادة بالإعادة ويجوز أن يحصل لهم والمراد من قوله تعالى وما هم بخارجين نفي الإستمرار أي لا يستمرون على الخروج لا استمرار النفي وكثيرا ما يعدى العود بقي لمجرد الدلالة على التكن والإستقرار وقال بعضهم : إن الخروج ليس من النار وإنما هو من الأماكن المعدة لتعذيبهم فيها والمعنى كلما أراد أحدهم أن يخرج من مكانه المعد له في النار إلى مكان آخر منها فخرج منه أعيد فيه وهو كما ترى وهذه الإعادة على ما قيل بضرب الزبانية إياهم بالمقاطع وقوله تعالى : وذوقوا على تقدير معطوف على أعيدوا أي وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق
22
- قد مر الكلام فيه والأمر للإهانة
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها بيان لحسن حال المؤمنين أثر بيان سوء حال الكفرة وغير الأسلوب فيه بإسناد الإدخال إلى الاسم الجامع وتصدير الجملة بحرف التحقيق وفصلها للإستئناف إيذانا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة وإظهارا لمزيد العناية بأمر المؤمنين ودلالة على تحقيق مضمون الكلام يحلون فيها بالبناء للمفعول والتشديد من التحلية بالحلي أي تحليهم الملائكة عليهم السلام بأمره تعالى وقوله تعالى : من أساور قيل متعلق بيحلون و من ابتدائية والفعل متعد لواحد وهو النائب عن الفاعل وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول محذوف ومن للبيان والفعل متعد لاثنين أحدهما النائب عن الفاعل والآخر الموصوف المحذوف أي يحلون حليا أو شيئا من أساور وعلى القول بتعدي هذا الفعل لاثنين جوز أن تكون من للتبعيض واقعة موقع المفعول وأن تكون زائدة على مذهب الأخفش من جواز زيادتها في الإيجاب و أساور مفعول يحلون وقوله تعالى : من ذهب
(17/135)

صفة لأساور و من للبيان وقيل : لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب وقيل : للتبعيض وتعلقه بيحلون لا يخفى حاله وقريء يحلون بضم الياء والتخفيف وهو ما في البحر بمعنى المشدد ويشعر كلام بعض أنه متعد لواحد وهو النائب الفاعل فمن أساور متعلق به ومن ابتدائية
وقرأ ابن عباس يحلون بفتح الياء واللام وسكون الحاء من حليت المرأة إذا لبست حليها وقال أبو حيان : إذا صارت ذات حلي وقال أبو الفضل الرازي : يجوز أن يكون من حلى بعيني يحلى إذا استحسنته وهو في الأصل من الحلاوة وتكون من حينئذ زائدة والمعنى يستحسنون فيها الأساورة وقيل : هذا الفعل لازم ومن سببية والمعنى يحلي بعضهم بعين بعض بسبب لباس أساور الذهب
وجوز أبو الفضل أن يكون من حليت به إذا ظفرت به ومنه قولهم : لم يحل فلان بطائل ومن حينئذ بمعنى الباء أي يظفرون فيها بأساور من ذهب وقرأ ابن عباس من أسور بفتح الراء من غير ألف ولا هاء وكان قياسه أن يصرف لأنه نقص بناؤه صار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودا فمنع الصرف وقد تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف فتذكر وقوله تعالى ولؤلؤا عطف على محل من أساور أو على الموصوف المحذوف وحمله أبو الفتح على إضمار فعل أي ويؤتون لؤلؤا أو نحو ذلك
وقرأ أكثر السبعة والحسن في رواية وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة ولؤلؤ بالخفض عطفا على أساور أو على ذهب لأن السوار قد يكون من ذهب مرصع بلؤلؤ وقد يكون من لؤلؤ فقط كما رأيناه ويسمى في ديارنا خصرا وأكثر ما يكون من المرجان واختلفوا هل في الإمام ألف بعد الواو فقال الجحدري : نعم وقال الأصمعي : لا وروي يحيى عن أبي بكر همز الآخر وقلب الهمزة الأولى واوا ورور المعلى بن منصور عنه ضد ذلك
وقرأ الفياض لوليا قلب الهمزتين واوين فصارت الثانية واوا قبلها ضمة وحيث لم يكن في كلامهم اسم متمكن آخره واو قبلها ضمة قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة وقرأ ابن عباس وليليا بقلب الهمزتين واوين ثم قلبهما ياءين أما قلب الثانية فلما علمت وأما قلب الأولى فللإتباع وقرأ طلحة ولول كأدل في جمع دلو قلبت الهمزتان واوين ثم قلبت ضمة اللام كسرة والواو ياء ثم أعل إعلال قاض ولباسهم فيها حرير
23
- غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم وإنما المحتاج إلى البيان أن لباسهم ماذا بخلاف التحلية فإنها ليست من لوازمهم الضرورية فلذا جعل بيانها مقصودا بالذات ولعل هذا هو السر في تقديم بيان التحلية على بيان حال اللباس قاله العلامة شيخ الإسلام ولم يرتض ما قيل : إن التغيير للدلالة على أن الحرير لباسهم المعتاد أو لمجرد المحافظة على هيئة الفواصل وظاهر كلامهم أن الجملة معطوفة على السابقة وجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير يحلون ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام في كل أهل الجنة وقيل هو باعتبار الأغلب لما أخرج النسائي وابن حيان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة ألبسه أهل الجنة ولم يلبسه وحديث عدم لبس ذلك له في الآخرة مذكور في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا
(17/136)

والظاهر أن حرمة استعمال الحرير للرجال في غير ما استثنى مجمع عليها وأنه يكفر من استحل ذلك غير متأول ولعل خبر البيهقي في سننه وغيره عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما مرفوعا من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ولم يدخل الجنة إن صح محمول على ما إذا كان اللبس محرما بالإجماع وقد استحله فاعله من غير تأول أو على أن المراد لم يدخل الجنة مع السابقين وإلا فعدم دخول اللابس مطلقا الجنة مشكل
وهدوا إلى الطيب من القول وهو قولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة كما روي عن ابن عباس وقيل : ما يعمه وسائر ما يقع في محاور أهل الجنة بعضا لبعض وقيل : إن هذه الهداية في الدنيا فالطيب قول لا إله إلا الله وفي رواية عن ابن عباس ذلك مع زيادة والحمد لله وزاد ابن زيد والله أكبر وعن السدي هو القرآن وحكى الماوردي هو المر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيل : ما يعم ذلك وسائر الأذكار وهدوا إلى صراط الحميد
24
- أي المحمود جدا وإضافة صراط إليه فقيل بيانية والمراد به الإسلام فإنه صراط محمود من يسلكه أو محمود هو نفسه أو عاقبته وقيل : الجنة وإطلاق الصراط عليها باعتبار أنها طريق للفوز بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقيل : الحميد هو الجنة والإضافة على ظاهرها والمراد بصراطها الإسلام أو الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة واستظهر أن المراد من الحميد هو الله عز و جل المستحق لذاته لغاية الحمد والمراد بصراطه تعالى الإسلام فإنه طريق إلى رضوانه تعالى وقيل : الجنة فإنها طريق للفوز بما تقدم وأضيفت إليه تعالى للتشريف وحاصل ما قالوه هنا أن الهداية تحتمل أن تكون في الآخرة وأن تكون في الدنيا وأن المراد بالحميد إما الحق تعالى شأنه وإما الجنة وإما الصراط نفسه وبالصراط إما الإسلام وإما الجنة وإما الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة
ووجهوا تأخير هذه الجملة عن الجملة الولى تارة بأنه لرعاية الفواصل وأخرى بأن ذكر الحمد الذي تضمنته الأولى يستدعي ذكر المحمود ولا يبعد أن يقال : إن الهداية في الجملتين في الآخرة بعد دخول الجنة وإن الإضافة هنا بيانية وإن المراد بالقول الطيب القول الذي تستلذه النفوس الواقع في محاورة أهل الجنة بعضهم لبعض وبالصراط الحميد ما يسلكه أهل الجنة في معاملة بعضهم بعضا من الأفعال التي يحمدون عليها أو مما هو أعم من ذلك فحاصل الجملة الأولى وصف أهل الجنة بحسن الأقوال وحاصل الثانية وصفهم بحسن الأفعال أو مما هو أعم منها ومن الأقوال وكأنه تعالى بعد أن ذكر حسن مسكنهم وحليهم ولباسهم ذيل ذلك بحسن معاملة بعضهم بعضا في الأقوال والأفعال إيماءا إلى أن ما هم فيه لا يخرجهم إلى خشونة المقال ورداءة الأفعال المشينتين لحسن ما هم فيه والمنغصتين للذة الإجتماع ووجه التقديم والتأخير على هذا غير خفي على الفطن والذي اختاره أن القول الطيب قولهم بعد دخول الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب لقوله تعالى : في سورة فاطر بعد قوله سبحانه : يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن الخ والقرآن يفسر بعضه بعضا وأن المراد بالصراط الحميد ما يعم الأقوال والأفعال الجارية بين أهل الجنة مما يحمد سلوكه في المعاشرة والإجتماع في هاتيك البقاع فرارا من شائبة التأكيد كما لا يخفى
(17/137)

على ذي فكر سديد فتأمل هديت إلى صراط الحميد
إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام وعيد لصنف من الكفرة وحسن عطف المضارع على الماضي لنا أنه لم يرد بالمضارع حال أو استقبال كما في قولهم : فلا يحسن إلى الفقراء فإن المراد به استمرار وجود الإحسان وقيل يصدون بمعنى صدوا إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية تهويلا لأمر الصد وقيل لا عطف بل الجملة خبر مبتدأ محذوف والمجموع في موضع الحال من فاعل كفروا أي وهم يصدون وجوز أن تكون الجملة حالا من غير تقدير مبتدأ لشبهها بالجملة الإسمية معنى وخبر إن محذوف لدلالة آخر الآية الكريمة عليه أي نذيقهم من عذاب أليم وقدره الزمخشري بعد المسجد الحرام وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لما فيه من الفصل بين الصفة وهو المسجد والموصوف وهو الذي
وأجيب باحتمال أنه جعل الذي مقطوعا وقدره ابن عطية بعد والباء وهو أولى إلا أنه قدر خسروا أو هلكوا وتقدير نذيقهم الخ أولى منه وقيل الواو في ويصدون زائدة والجملة بعده خبران
وتعقبه ابن عطية بأنه مفسد للمعنى المراد وغيره بأن البصريين لا يجيزون زيادة الواو والقول بجواز زيادتها قول كوفي مرغوب عنه والظاهر أن المسجد عطف على سبيل وجوز أن يكون معطوفا على الاسم الجليل والآية على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم عام الحديبية عن المسجد الحرام فكره عليه الصلاة و السلام أن يقاتلهم وكان محرما بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل والمراد بالمسجد الحرام مكة وعبر به عنها لأنه المقصود المهم منها ويدل على ذلك قوله تعالى الذي جعلناه للناس أي كائنا من كان من غير فرق بين مكي وآفاقي سواء العاكف فيه والبارد أي المقيم فيه والطاريء فإن الإقامة لا تكون في المسجد نفسه بل في منازل مكة وفي وصفه بذلك زيادة التشنيع عن الصادين عنه وقد استشهد بعض الأئمة بالآية على عدم جواز بيع دور مكة وإجارتها وإلا لما استوى العاكف فيها والبارد وقد ورد التصريح بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة فروي من عدة طرق أنه عليه الصلاة و السلام قال : مكة حرمها الله تعالى لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها وذكر ابن سابط أن دون أهل مكة كانت بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر رضي الله تعالى عنه قال : أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله تعالى فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه فاتخذ الناس الأبواب وأخرج ابن ماجة وابن أبي شيبة عن علقمة ابن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وما تعدى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : من أكل كراء بيوت مكة قائما أكل نارا في بطنه لأن الناس في الإنتفاع بها سواء وجاء صدره من رواية الدارقطني مرفوعا وفي النهاية لا بأس ببيع بناء مكة ويكره بيع أرضها وهذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال : لا بأس ببيع أرضها وهو رواية عنه أيضا وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة وعليه الفتوى وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار وجاز بيع بناء بيوت مكة وأرضها بلا كراهة وبه قال الشافعي وبه يفتى عيني وفي البرهان في باب العشر ولا يكره بيع أرضها كبنائها وبه يعمل وفي مختارات النوازل لصاحب الهداية لا بأس ببيع بنائها وإجارتها
(17/138)

لكن في الزيلعي وغيره يكره إجارتها وفي آخر الفصل الخامس من التاتار خانية وإجارة الوهبانية قال أبو حنيفة : أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم وكان يفتي لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم لقوله تعالى سواء العاكف فيه والبارد ورخص فيها في غير أيام الموسم انتهى فليحفظ قلت : وبهذا يظهر الفرق والتوفيق انتهى
والذي يفهم من غاية البيان أن القول بكراهة إجارة بيوتها أيام الموسم مما لم ينفرد به الإمام بل وافقه عليه صاحباه حيث نقل عن تقريب الإمام الكرخي ما نصه وروي هشام عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه كره إجارة بيوت مكة في الموسم ورخص في غيره وكذا قال أبو يوسف وقال هشام : أخبرني محمد عن أبي حنيفة أنه يكره كراء بيوت مكة في الموسم ويقول لهم إن ينزلوا عليهم في دورهم إن كان فيها فضل وإن لم يكن فلا وهو فول محمد انتهى
والذي تحرر مما رأيناه من أكثر معتبرات كتب ساداتنا الحنفية أن جواز بيع بناء البيوت متفق عليه لأنه ملك لمن بناه كمن بنى في أرض الوقف بأذن المتولي ولا يقال : إنه بناء عاصب كمن بنى بيتا في جامع لظهور الإذن هنا دونه ثمة وكذا كراهة الأجارة في أيام الموسم وأما بيع الأرض فعند الإمامين جائز بلا كراهة قولا واحدا وعن الإمام روايتان الجواز وعدمه والمفتي به الجواز ومستند من يجوز من الكتاب الجليل هذه الآية وأجاب أصحاب الشافعي عنها أن المسجد الحرام في المطاف والعاكف في المعتكف للعبادة المعدود من أهل المسجد لملازمته له أظهر وكذلك المسواة في أنه من شعائر الله تعالى المنصوبة لكل عاكف وباد أوضح وهو المقابل للموصوف بالصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام خاصة فما كانوا يصدون عن مكة ولا أن الصد عنها لغير مريد النسك معصية وأي مدخل لحديث التمليك وعدمه في هذا المساق
والإستدراك بأن له مدخلا على سبيل الإدماج وإشارة النص كلام لا طائل تحته وقد فسر سواء بما فسر كذا في الكشف وقد جرت مناظرة بمكة بين الشافعي وإسحاق بن راهوية الحنظلي وكان إسحاق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق فأضيفت الديار إلى مالكيها وقوله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وبأنه قد اشترى عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن أترى أنه اشترى من مالكيها أو غير مالكيها قال إسحاق : فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي وأجاب بعضهم أن الإضافة إلى مالكي منفعة السكنى وأن عمر رضي الله تعالى عنه اشترى البناء دون الأرض وأرضىي بالثمن من أنفق مالا فيه لحاجة العامة وللإمام من ذلك ما ليس لغيره وتعقب بأن الإستدلال بالظاهر والعدول عن الظاهر دون سند أقوى غير ملتفت إليه ولذا قال ابن راهوية : وهو أحد أركان المسلمين وعلم من أعلام الدين ما قال
والظاهر أن الأخبار المصرحة بتحريم البيع والإجارة لم تصح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه وعند من قال بمثل قوله ونصب سواء على أنه مفعول ثان لجعلنا والأول الضمير الغائب المتصل و العاكف مرتفع به لأنه بمعنى مستو وإن كان الأصل مصدرا ومن كلامهم مررت برجل سواء هو والعدم واللام ظرف لما عنده
وجوز أن يكون للناس في موضع المفعول الثاني أي جعلناه مباحا للناس أو معبدا لهم و سواء حالا من الهاء وكذا يكون حالا إذا لم يعد الجعل إلى مفعولين
(17/139)

وقرأ الجمهور سواء بالرفع على أنه خبر والعاكف مبتدأ وضعف العكس لما فيه من الأخبار بالمعرفة عن النكرة والجملة في موضع المفعول الثاني أو الحال وجوز أن تكون تفسيرية لجعله للناس وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي سواء بالنصب العاكف فيه بالجر ووجه النصب ما تقدم ووجه جر العاكف أنه بدل تفصيل من الناس وقيل : هو عطف بيان وقريء والبادي بإثبات الياء وصلا ووفقا وقريء بتركها فيهما وبإثباتها وصلا وحذفها وفقا ومن يرد فيه مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول أي ومن يرد فيه شيئا ما أو مرادا ما وقدر ابن عطية المفعول الناس أي ومن يرد فيه الناس
وقوله تعالى بالحاد أي عدول عن القصد أي الإستقامة المعنوية وأصله إلحاد الحافر بظلم بغير حق حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار والباء فيهما للملابسة أو الأول حال والثاني متعلق به والباء فيه للسببية أي ملحدا بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام وقال أبو عبيدة : الباء زائدة و إلحاد مفعول يرد وأنشد عليه قوله الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
وأيد بقراءة الحسن ومن يرد إلحاده بظلم وهي على معنى إلحادا فيه إلا أنه توسع فقيل إلحاده وقال أبو حيان : الأولى أن يضمن يرد معنى يتلبس وتجعل الباء للتعدية وقرأت فرقة يرد بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء أي من أتى فيه بإلحاد الخ وتفسير الإلحاد بما ذكر هو الظاهر فيشمل سائر الآثام لأن حاصل معناه الميل عن الحق إلى الباطل وهو محقق في جميع الآثام وكذا المراد بالظلم عند جمع وجمعهما على هذا للتأكيد وقيل : المراد بذلك الشرك ولم يرتضه ابن أبي مليكة فقد أخرج عبد بن حميد أنه سئل عن قوله تعالى ومن يرد الخ فقال : ما كنا نشك أنها الذنوب حتى جاء اعلاج من أهل البصرة إلى اعلاج من أهل الكوفة فزعموا أنها الشرك وأخرج أبو داود وغيره عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه وهو من ذكر بعض الأفراد لاقتضاء الحال إياه وجعل بعضهم من ذلك دخوله من غير إحرام وروي عن عطاء تفسير الإلحاد به وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد قال : كان لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يصلي صلى في الذي في الحرم وإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الذي في الحل فقيل له فقال : نحدث أن من الإلحاد فيه لا والله يلي والله نذقه من عذاب أليم
25
- جواب لمن الشرطية والظاهر أن الوعيد على إرادة ذلك مطلقا فيفيد أن من أراد سيئة في مكة ولم يعملها يحاسب على مجرد الإرادة وهو قول ابن مسعود وعكرمة وأبي الحجاج وقال الخفاجي : الوعيد على الإرادة المقارنة للفعل لا على مجرد الإرادة لكن في التعبير بها إشارة إلى مضاعفة السيئات هناك والإرادة المصممة مما يؤاخذ عليها أيضا وإن قيل إنها ليست كبيرة وقد روي عن مالك كراهة المجاورة بمكة انتهى وإلى مضاعفة السيئة في مكة ذهب مجاهد فقد أخرج عنه ابن المنذر وغيره أنه قال : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات وقال رحمه الله تعالى سألت ابن عمر وكان منزله في الحل ومسجده في الحرم لم تفعل هذا فقال : لأن العمل في الحرم أفضل والخطيئة فيه أعظم فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد في جميع ما يهم به ويقصده
والظاهر أن هذه الإذاقة في الآخرة وقيل كان قبل أن يستحله أهله تعجل العقوبة في الدنيا لمن قصده
(17/140)

بسوء : وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية حدثنا رجل سمعه من عقب المهاجرين والأنصار أنهم أخبروه أن أيما أحد أراد به ما أراد أصحاب الفيل عجل لهم العقوبة في الدنيا وقال : إنما يوفى استحلاله من قبل أهله وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما ينفعك في هذا المطلب وحد بعضهم الحرم بقوله : وللحرم التحديد من أرض طيبة ثلاثة أميال إذا رمت أتقانه وسبعة أميال عراق وطائف وجدة عشر ثم تسع جعرانه ومن يمن سبع بتقديم سينه وقد كملت فاشكر لربك إحسانه وأما المسجد الحرام فيطلق على الحرم كله عند عطاء فيكون وحده ما ذكر وفي البحر العميق عن أبي هريرة قال : إنا لنجد في كتاب الله تعالى أن حد المسجد الحرام إلى آخر المسعى وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزوة إلى مخرج مسيل جباد وقد ذكروا أن طول المسجد اليوم أربعمائة ذراع وأربعة أذرع وعرضه ثلثمائة ذراع وحكى أنه لم يكن كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يكن له جدار يحيط به فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وسع المسجد واشترى دورا فهدمها وأدخلها فيه ثم أحاط عليه جدارا قصيرا دون القامة وكانت المصابيح توضع عليه ثم لما استخلف عثمان اشترى دورا أيضا ووسع بها وبنى المسجد والأروقة ثم إن عبد الله بن الزبير زاد سنة بضع وستين في المسجد زيادة كثيرة في خلافته ومن ذلك بعض دار الأزرقي اشتراه بسبعة آلاف دينار ثم عمره بعد ذلك عبد الملك بن مروان ولم يزد فيه لكن رفع جدار المسجد وحمل إليه أعمدة الحجارة والرخام ثم إن المنصور زاد في شقه الشامي وبناه وجعل فيه أعمدة من الرخام ثم زاد المهدي بعده مرتين وكانت الكعبة في جانب المسجد فأحب أن تكون في الوسط فاشترى دورا وزاد في المسجد ووسطها كذا ذكره النووي
وفي البحر العميق أن زيادة المهدي هي التي تلي دار الندوة خلف مقام الحنفي ثم لما انتهت الدولة إلى سلاطين آل عثمان أبقى الله تعالى دولتهم ما دام الدوران لم يألوا جهدا في خدمته والسعي في مرمته
وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت أي اذكر لهؤلاء الكفرة الذين يصدون عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام وقت جعلنا مكان البيت مباءة لجدهم إبراهيم عليه السلام أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعيادة ويقال بوأه منزلا إذا أنزله فيه ولما لزمه جعل الثاني مباءة للأول جيء باللام فهي للتعدية و مكان مفعول به
وقال الزجاج : المعنى بينا له مكان البيت ليبينه ويكون مباءة له ولعقبه يرجعون إليه ويحجونه والأول مروي عن ابن عباس وقيل : اللام زائدة في المفعول به و مكان ظرف لبوأنا واعترض بأن اللام إنما تزاد إذا قدم المعمول أو كان العامل فرعا وشيء منهما غير متحقق ههنا وأن مكان البيت ظرف معين فحقه أن يتعدى الفعل إليه بفي وفيه نظر كما يعلم من كتب العربية وقيل : مفعول بوأنا محذوف أي بوأنا الناس واللام في لإبراهيم لام العلة أي لأجل إبراهيم أي كرامة له والمعول عليه ما قدمنا وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المراد تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر غير مرة والمكان المتعارف ويمنعه من النزول وللعلماء فيه مذاهب وليس هذا مكان تحقيقها وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن أخص والأبيات بالشعر أخص ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر ويعبر عن مكان الشيء ببيته والمراد بالبيت بيت الله عز و جل الكعبة المكرمة وقد بنيت خمس مرات أحدها بناء الملائكة عليهم السلام قبل آدم وكانت من ياقوتة حمراء ثم رفع ذلك البناء إلى السماء أيام الطوفان والثانية لناء إبراهيم عليه السلام روي أنه تعالى لما أمره ببناء البيت لم يدر أين يبني فأرسل الله تعالى له الريح الخجوج فكشف عن أسه القديم فبنى عليه والثالثة بناء قريش في الجاهلية وقد حضره النبي صلى الله عليه و سلم وكان شابا فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فأراد كل قبيلة أن يتولى رفعه ثم توافقوا على أن يحكم بينهم أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم أول من خرج فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه ثم ارتقى صلى الله عليه و سلم فرفعوه إليه فوضعه مكانه وكانوا يدعونه عليه السلام الأمين وكان ذلك قبل المبعث فيما قيل بخمس عشرة سنة والرابعة بناء عبد الله بن الزبير والخامسة بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم وارتفاعها في السماء سبعة وعشرون ذراعا وربع ذراع والذراع أربع وعشرون أصبعا والأصبع ست شعيرات والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون : وأما طولها في الأرض فمن الركن اليماني إلى الركن الأسود خمسة وعشرون ذراعا وكذا ما بين اليماني والغربي وأما عرضها فهو من الركن اليماني إلى الركن الأسود عشرون ذراعا وطول الباب ستة أذرع وعشرة أصابع وعرضه أربعة أذرع والباب في جدارها الشرقي وهو من خشب الساج مضبب بالصفائح من الفضة وارتفاع ما تحت عتبة الباب من الأرض أربعة أذرع وثلاث أصابع والميزاب في وسط جدار الحجر وعرض الملتزم وهو ما بين الباب والحجر الأسود أربعة أذرع وارتفاع الحجر الأسود من الأرض ثلاثة أذرع إلا سبعا وعرض القدر الذي بدر منه شبر وأربع أصابع مضمومة وعرض المستجاد وهو بين الركن اليماني إلى الباب المسدود في ظهر الكعبة مقابلا للملتزم أربعة أذرع وخمس أصابع وعرض الباب المسدود ثلاثة أذرع ونصف ذراع وطوله أكثر من خمسة أذرع وأما الحجر ويسمى الحطيم والحظيرة فعلى هيئة نصف دائرة من صوب الشام والشمال بين الركن العراقي والشامي وحده من جدار الكعبة الذي تحت الميزاب إلى جدار الحجر سبعة عشر ذراعا وثماني أصابع منها سبعة أذرع أو ستة وشبر من أرض الكعبة والباقي كان زربا لغنم سيدنا إسماعيل عليه السلام فأدخلوه في الحجر وما بين بابي الحجر عشرون ذراعا وعرض جدار الحجر ذراعان وذرع تدوير جدار الحجر من داخله ثمانية وثلاثون ذراعا ومن خارجه أربعون ذراعا وست أصابع وارتفاع جدار الحجر ذراعان فذرع الطوق وحده حوالي إلى الكعبة والحجر مائة ذراع وثلاثة وعشرون ذراعا واثنتا عشرة أصبعا وهذا على ما ذكره الإمام حسين بن محمد الآدمي في رسالة له في ذلك والعهدة عليه وأنا لنرجوا من رب البيت أن يوفقنا لزيارة بيته وتحقيق ذلك بلطفه وكرمه و أن في قوله تعالى أن لا تشرك بي شيئا قيل مفسرة والتفسير باعتبار أن التبوئة من أجل العبادة فكأنه قيل أمرنا إبراهيم عليه السلام بالعبادة وذلك فيه معنى القول دون حروفه أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ وقال ابن عطية : مخففة من الثقيلة وكأنه لتأويل بوأناه بأعلمناه فلا يرد عليه أنه لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح
(17/141)

وقال أبو حيان : الأولى أن تكون الناصبة وكما توصل بالمضارع توصل بالماضي والأمر والنهي انتهى وحينئذ لا تنصب لفظا وقول أبي حاتم : لا بد من نصب الكاف على هذا رده في الدر المصون أي فعلنا ذلك لئلا تشرك بي في العبادة شيئا والظاهر أن الخطاب لإبراهيم عليه السلام ويؤيده قراءة عكرمة وأبي نهيك أن لا يشرك بالياء التحتية وقيل : الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم
وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود
26
- المراد بالطهارة ما يشمل الحسية والمعنوية أي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي عنده ولعل التعبير عن الصلاة بأركانها من القيام والركوع والسجود للدلالة على أن كل واحدة منها مستقل باقتضاء الظهير أو التبوئة على ما قيل : فكيف وقد اجتمعت أو للتنصيص على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية إذ اجتماع هذه الأركان ليس إلا في صلاتهم ولم يعطف السجود لأنه من جنس الركوع في الخضوع وجوز أن يكون القائمين بمعنى المقيمين و الطائفين بمعنى الطارئين فيكون المراد بالركع السجود فقط المصلين إلا أن المتبادر من الطائفين ما ذكر أولا وأذن في الناس أي ناد فيهم بالحج بدعوة الحج والأمر به أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال : رب قد فرغت فقال : أذن في الناس بالحج قال : يا رب وما يبلغ صوتي قال : أذن وعلي البلاغ قال : رب كيف أقول قال : قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه أهل السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد يلبون وجاء في رواية أخرى عنه أنه عليه السلام صعد أبا قبيس فوضع أصبعيه في أذنيه ثم نادى يا أيها الناس إن الله تعالى كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجاب أهل اليمن فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من أجاب يومئذ إبراهيم عليه السلام وفي رواية أنه قام على الحجر فنادى وعن مجاهد أنه عليه السلام قام على الصفا وفي رواية أخرى عنه أنه عليه السلام تطاول به المقام حتى كان كما طول جبل في الأرض فأذن بالحج ويمكن الجمع بتكرر النداء وأياما كان فالخطاب لإبراهيم عليه السلام وزعم بعضهم أنه لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بذلك في حجة الوداع وروي ذلك عن الحسن وهو خلاف الظاهر جدا ولا قرينة عليه وقيل : يأباه كون السورة مكية وقد علمت ما فيه أولها
وقرأ الحسن وابن محيصن و آذن بالمد والتخفيف أي أعلم كما قال البعض وقال آخرون : المراد به هنا أوقع الإيذان لأنه على الأول كان ينبغي أن يتعدى بنفسه لا بفي فهو كقوله :
يجرح في عراقيبها نصلي
وقال ابن عطية : وقد تصحفت هذه القراءة على ابن جني فإنه حكى عنهما وآذن فعلا ماضيا وجعله معطوفا على بوأنا وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بتصحيف بل قد حكى ذلك أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه وقرأ ابن أبي إسحاق بالحج بكسر الحاء حيث وقع وقوله تعالى : يأتوك جزم في جواب الأمر وهو آذن على القراءتين و طهر على الثالثة كما قال صاحب اللوامح : وإيقاع الإتيان على ضميره عليه السلام لكون ذلك بندائه والمراد يأتوا بيتك وقوله سبحانه : رجالا في موضع
(17/143)

الحال أي مشاة جمع راجل كقيام جمع قائم
وقرأ ابن أبي إسحاق رجالا بضم الراء والتخفيف وروي ذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز وهو اسم جمع لراجل كطؤار لطائر أو هو جمع نادر وروي عن هؤلاء وابن عباس ومحمد بن جعفر ومجاهد رضي الله تعالى عنهم رجالا بالضم والتشديد على أنه جمع راجل كتاجر وتجار وعن عكرمة أنه قرأ رجالي كسكارى وهو جمع رجلان أو راجل وعن ابن عباس وعطاء وابن حدير مثل ذلك إلا أنهم شددوا الجيم وقوله تعالى وعلى كل ضامر عطف على رجالا أي وركبانا على كل بعير مهزول أتبعه بعد الشقة فهزله هزاله والضامر يطلق على المذكر والمؤنث وعدل عن ركبانا الأخصر للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة
وفي الآية على جواز المشي والركوب في الحج قال ابن العربي : واستدل علماؤنا بتقديم رجالا على أن المشي أفضل وروي ذلك عن ابن عباس فقد أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة والبيهقي وجماعة أنه قال : ما آسي على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر أسمع الله تعالى يقول : يأتوك رجالا وعلى كل ضامر فبدأ بالرجال قبل الركبان وفي ذلك حديث مرفوع فقد أخرج ابن سعد وابن مردوية وغيرهما عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم قال : الحسنة مائة ألف حسنة وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجا وهما ماشيان
وقال ابن الفرس : واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجب الحج على من في طريقه بحر ولا طريق له سواه لكونه لم يذكر في الآية وتعقب بأنه استدلال ضعيف لأن مكة ليست على بحر وإنما يتوصل إليها على إحدى الحالين مشي أو ركوب وأيضا في دلالة عدم الذكر على عدم الوجوب نظر وقوله تعالى يأتين صفة لضامر أو لكل والجمع باعتبار المعنى كأنه قيل وركبانا على ضوامر يأتين و كل هنا للتكثير لا للإحاطة وما قيل من أنها إذا أضيفت لنكرة لم يراع معناها إلا قليلا ردوه بهذه الآية ونظائرها وكذا ما قيل إنه يجوز إذا كان في جملتين لأن هذه جملة واحدة
وجوز أبو حيان أن يكون الضمير شاملا لرجال و كل ضامر والجملة صفة لذلك على معنى الجماعات والرفاق وتعقب بأنه يلزمه تغليب غير العقلاء عليهم وقد صرحوا بمنعه نعم قرأ عبد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة يأتون واعتبار التغليب فيه على بابه والمشهور جعل الضمير لرجالا وركبانا فلا تغليب وجوز جعل الضمير للناس والجملة استئنافية من كل فج أي طريق كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : وأبي العالية وهو في الأصل شبقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع وكأنهم جردوه عن معنى السعة لأنه لا يناسب هنا بل لا يخلو من خلل عميق
27
- أي بعيد وبه فسره الجماعة أيضا وأصله البعيد سفلا وهو غير مناسب هنا
وقرأ ابن مسعود معيق قال الليث : يقال عميق ومعيق لتميم وأعمقت البئر وأمعقتها وقد عمقت ومعقت عماقه ومعاقة وهي بعيدة العمق والمعق ليشهودا متعلق بيأتوك وجوز أبو البقاء تعلقه بأذن أي
(17/144)

ليحضروا منافع عظيمة الخطر كثيرة العدد فتنكيرها وإن لم يكن فيها تنوين للتعظيم والتكثير ويجوز أن يكون للتنويع أي نوعا من المنافع الدينية والدنيوية وتعميم المنافع بحيث تشمل النوعين مما ذهب إليه جمع وروي ذلك عن ابن عباس فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية : منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة فأما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات وخص مجاهد منافع الدنيا بالتجارة فهي جائزة للحاج من غير كراهة إذا لم تكن هي المقصودة من السفر واعترض بأن نداءهم ودعوتهم لذلك مستبعد وفيه نظر على أنه إنما يتأتى على ما جوزه أبو البقاء وعن الباقر رضي الله تعالى عنه تخصيص المنافع بالآخروية وفي رواية عن ابن عباس تخصيصها بالدنيوية والتعميم أولى
لهم في موضع الصفة لمنافع أي منافع كائنة لهم ويذكروا اسم الله عند النحر في أيام معلومات أي مخصوصات وهي أيام النحر كما ذهب إليه جماعة منهم أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة وعدتها ثلاثة أيام يوم العيد ويومان بعده عندنا وعند الثوري وسعيد بن جبير وسعيد ابن المسيب لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأنس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا : أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها وقد قالوه سماعا لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير وفي الأخبار التي يعول عليها تعارض فأخذنا بالمتيقن وهو الأقل وقال الشافعي والحسن وعطاء : أربعة أيام يوم العيد وثلاثة بعده لقوله صلى الله عليه و سلم أيام التشريق كلها أيام ذبح وعند النخعي وقت النحر يومان وعند أبي سيرين يوم واحد وعند أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم ولم نجد في ذلك مستندا يعول عليه واستدل بذكر الأيام على أن الذبح لا يجوز ليلا قال أبو حيان : وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي انتهى والمذكور في كتب الأصحاب أنه يجوز الذبح ليلا إلا أنه يكره لاحتمال الغلظ في ظلمة الليل
وأما الإستدلال على عدم الجواز بذكر الأيام فكما ترى وقيل الأيام المعلومات عشر ذي الحجة وإليه ذهب أبو حنيفة عليه الرحمة وروي عن ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة ولعل المراد بذكر اسمه تعالى على هذا ما قيل حمده وشكره عز و جل وعلى الأول قول الذابح : بسم الله والله أكبر على ما روي عن قتادة وذكر أنه يقال مع ذلك : اللهم منك ولك عن فلان وسيأتي إن شاء الله تعالى قول آخر ورجح كونه بمعنى الشكر بأنه أوفق بقوله تعالى : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
واختار الزمخشري أن الذكر على على بهيمة الأنعام أو مطلقا على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم كناية عن النحر وذكر أنه بذلك على المقصود الأصلي من النحر وما يميزه عن العادات وأومأ فيه إلى أن الأعمال الحجية كلها شرعت للذكر وأنه قيل على ما رزقهم إلى آخره تشويقا في التقرب ببهيمة الأنعام المراد بها الإبل والبقر والضأن والمعز إلى الرازق وتهوينا عليهم في الإنفاق مع ما في ذلك من الإجمال والتفسير وظرفية الأيام المعلومات على القول بأنها هشر ذي الحجة للنحر باعتبار أن يوم النحر منها وقد يقال مثل ذلك على تقدير إبقاء الذكر على ما يتبادر منه فكلوا منها التفات إلى الخطاب والفاء فصيحة أي
(17/145)

فاذكروا اسم الله تعالى على ضحاياكم فكلوا من لحومها والأمر للإباحة بناء على أن الأكل كان منهيا عنه شرعا وقد قالوا : إن الأمر بعد المنع يقتضي الإباحة ويدل على ما سبق النهي قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادخروا وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه أو للندب على مساواة الفقراء ومساواتهم في الأكل منها وهذا على ما قال الخفاجي مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه
وأطعموا البائس أي الذي أصابه بؤس أي شدة وعن مجاهد وعكرمة تفسيره بالذي يمد كفيه إلى الناس يسأل الفقير
28
- أي المحتاج والأمر للندب عند الإمام على ما ذكره الخفاجي أيضا ويستحب كما في الهداية أن لا ينقص ما يطعم عن الثلث لأن الجهات الأكل والإطعام الثابثان بالآية والإدخار الثابت بالحديث فتقسم الأضحية عليها أثلاثا وقال بعضهم : لا تحديد فيما يؤكل أو يطعم لإطلاق الآية وأوجب الشافعية الإطعام وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب أيضا وتخصيص البائس الفقير بالإطعام لا ينفي جواز إطعام الغني وقد يستدل على الجواز بالأمر الأول لإفادته جواز أكل الذابح ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكله غنيا ثم ليقضوا تفثهم هو في الأصل الوسخ والقذر وعن قطرب تفث الرجل كثر وسخه في سفره وقال أبو محمد البصري : التفث من التف وهو وسخ الأظفار وقلبت الفاء ثاء كما في مغثور وفسره جمع هنا بالشعور والأظفار الزائدة ونحو ذلك والقضاء في الأصل القطع والفصل وأريد به الإزالة مجازا أي ليزيلوا ذلك بتقليم الأظفار والأخذ من الشوارب والعارضين كما في رواية عن ابن عباس ونتف الأبط وحلق الرأس والعانة وقيل : القضاء مقابل الإداء والكلام على حذف مضاف أي ليقضوا إزالة تفثهم والتعبير بذلك لأنه لمضي زمان إزالته عد الفعل قضاء لما فات وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنه قال : التفث النسك كله من الوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والقضاء على هذا بمعنى الأداء كأنه قيل : ليؤدوا نسكهم وكان التعبير عن النسك بالتفث لما أنه يستدعي حصوله فإن الحجاج مالم يحلوا شعث غبر وهو كما ترى وقد يقال : إن المراد من إزالة التفث بالمعنى السابق قضاء المناسك كلها لأنها لا تكون إلا بعده فكأنه أراد أن قضاء التفث هو قضاء النسك كله بضرب من التجوز ويؤيده ما أخرجه جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قضاء التفث قضاء النسك كله وليوفوا نذورهم ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم وعن ابن عباس تخصيص ذلك بما ينذرونه من نحر البدن وعن عكرمة هي مواجب الحج وعن مجاهد ما وجب من الحج والهدى وما نذره الإنسان من شيء يكون في الحج فالنذر بمعنى الواجب مطلقا مجازا وقرأ شعبة عن عاصم وليوفوا مشددا وليطوفوا طرف الإفاضة وهو طواف الزيادة الذي هو من أركان الحج وبه تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث بالمعنى السابق وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وجماعة بل قال الطبري وإن لم يسلم له : لا خلاف بين المتأولين في أنه طواف الإفاضة ويكون ذلك يوم النحر وقيل : طواف الصدر وهو طواف الوداع وفي عده المناسك خلاف بالبيت العتيق
29
- أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن جرير والطبراني وغيرهم عن ابن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما سمى الله
(17/146)

البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط وإلى هذا ذهب ابن أبي نجيح وقتادة وقد قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج فأشير عليه أن يكف عنه وقيل : له رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه وأما الحجاج فلم يقصد التسلط على البيت لكن يتحصن به ابن الزبير فاحتمال لإخراجه ثم بناه ولعل ما وقع من القرامطة وإن أخذوا الحجر الأسود وبقي عندهم سبعين سنين من هذا القبيل ويقال فيما يكون آخر الزمان من هدم الحبشة إياه وإلقاهء أحجاره في البحر إن صح : إن ذلك من أشراط الساعة التي لا ترد نقضا على الأمور التي قيل باطرادها وقيل : في الجواب غير ذلك وعن مجاهد أنه إنما سمي بذلك لأنه لم يملك موضعه قط وفي رواية أخرى عنه أن ذلك لأنه أعتق من الغرق زمان الطوفان وعن ابن جبير أن العتيق بمعنى الجيد من قولهم : عتاق الخيل وعتاق الطير وقيل : فعيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين ونسبة الإعتاق إليه مجاز لأنه تعالى يعتق رقابهم بسبب الطواف به وقال الحسن وابن زيد : العتيق القديم فإنه أول بيت وضع للناس وهذا هو المتبادر إلا إنك تعلم أنه إذا صح الحديث لا يعدل عنه ثم إن حفظه من الجبابرة وبقاءه الدهر الطويل معظما يؤتى من كل فج عميق بمحض إرادة الله تعالى المبنية على الحكم الباهرة
وبعض الملحدين زعموا أنه بني في شرف زحل والطالع الدلو أحد بيتيه وله مناظرات سعيدة فاقتضى ذلك حفظه من الجبابرة وبقاءه معظما الدهر الطويل ويسمونه لذلك بيت زحل وقد ضلوا بذلك ضلالا بعيدا وسنبين إن شاء الله تعالى خطأ من يقول بتأثير الطالع أتم بيان والله تعالى المستعان ذلك أي الأمر وهذا وأمثاله من أسماء الإشارة يطلق للفصل بين الكلامين أو بين وجهي كلام واحد والمشهور من ذلك هذا كقوله تعالى هذا وإن للطاغين لشر مآب وكقول زهير وقد يتقدم له وصف هرم بالكرم والشجاعة : هذا وليس كمن يعيا بخطبته وسط الندى إذا ما ناطق نطقا واختيار ذلك هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته وهو من الإقتضاب القريب من التخلص لملاءمة ما بعده لما قبله : وقيل : هو في موضع نصب بفعل محذوف أي امتثلوا ذلك ومن يعظم حرمات الله جمع حرمة وهو ما يحترم شرعا والمراد بها جميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها وتعظيمها بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه وقال جمع : هي ما أمر به من المناسك وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي جميع المناهي في الحج فسوق وجدال وجماع وصيد وتعظيمها أن لا يحوم حولها وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام والمسجد الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل فهو أي فالتعظيم خير له من غيره على أن خير اسم تفضيل وقال أبو حيان : الظاهر أنه ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقدير متعلق ومعنى كونه خيرا له عند ربه أنه يثاب عليه يوم القيامة والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير من لتشريفه والإشعار بعلة الحكم
وأحلت لكم الأنعام أي ذبحها وأكلها لأن ذاتها لا توصف بحل وحرمة والمراد بها الأزواج الثمانية على الإطلاق وقوله تعالى : إلا ما يتلى عليكم أي ما يتلى عليكم آية تحريمه استثناء متصل كما اختاره الأكثرون منها على أن ما عبارة عما حرم منها لعارض كالميتة وما أهل به لغير الله تعالى وجوز أن يكون
(17/147)

الإستثناء منقطعا بناء على أن ما عبارة عما حرم في قوله سبحانه : حرمت عليكم الميتة الآية وفيه ما ليس من جنس الأنعام والفعل على الوجهين لم يرد منه الإستقبال لسبق تلاوة آية التحريم وكأن التعبير بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لمزيد الإعتناء وقيل : التعبير بالمضارع للدلالة على الإستمرار التجددي المناسب للمقام والجملة معترضة مقررة لما قبلها من الأمر بالأكل والإطعام ودافعة لما عسى يتوهم أن الإحرام يحرم ذلك كما يحرم الصيد فاجتنبوا الرجس أي القذر من الأوثان أي الذي هو الأوثان على أن من بيانية
وفي تعريف الرجس بلام الجنس مع الإبهام والتعيين وإيقاع الإجتناب على الذات دون العبادة ما لا يخفى من المبالغة في التنفير عن عبادتها وقيل : من لابتداء الغاية فكأنه تعالى أمرهم باجتناب الرجس عاما ثم عين سبحانه لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس وفي البحر يمكن أن تكون للتبعيض بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج فكأنه قيل فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم منها إنما هو العبادة ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع فكان للوثن جهات منها عبادته وهو المأمور باجتنابه وعبادته بعض جهاته فقول ابن عطية : إن من جعل من للتبعيض قلب المعنى وأفسده ليس في محله انتهى ولا يخفى ما في كلا الوجهين الإبتداء والتبعيض من التكلف المستغنى عنه وههنا احتمال آخر ستعلمه مع ما فيه إن شاء الله تعالى قريبا والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفيده قوله تعالى : ومن يعظم الخ من وجوب مراعاة الحرمات والإجتناب عن هتكها
وذكر أن بالإستثناء حسن التخلص إلى ذلك وهو السر في عدم حمل النعام على ما ذكر من الضحايا والهدايا المعهودة خاصة ليستغني عنه إذ ليس فيها ما حرم لعارض فكأنه قيل : ومن يعظم حرمات الله فهو خير له والأنعام ليست من الحرمات فإنها محللة لكم إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنه ما يجب الإجتناب عنه فاجتنبوا ما هو معظم الأمور التي يجب الإجتناب عنها وهو عبادة الأوثان وقيل : الظاهر أن ما بعد الفاء متسبب عن قوله تعالى : أحلت لكم الأنعام فإن ذلك نعمة عظيمة تستدعي الشكر لله تعالى لا الكفر والإشراك بل لا يبعد أن يكون المعنى فاجتنبوا الرجس من أجل الأوثان على أن من سببية وهو تخصيص لما أهل به لغير الله تعالى بالذكر فيتسبب عن قوله تعالى : إلا ما يتلى ويؤيده قوله تعالى : فيما بعد غير مشركين به فإنه إذا حمل على ما حملوه كان تكرارا انتهى وأورد على ما ادعي ظهوره أن إحلال الأنعام وإن كان من النعم العظام إلا أنه من الأمور الشرعية دون الأدلة الخارجية التي يعرف بها التوحيد وبطلان الشرك فلا يحسن اعتبار تسبب اجتناب الأوثان عنه وأما ماادعي عدم بعده فبعيد جدا وإنكار ذلك مكابرة فتأمل
وقوله تعالى واجتنبوا قول الزور
30
- تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور لما فيها من ادعاء الإستحقاق كأنه تعالى لما حث على تعظيم الحرمات اتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما والإفتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك ولم يعطف قول الزور على الرزجس بل أعاد العامل لمزيد الإعتناء والمراد من الزور مطلق الكذب وهو الزور بمعنى الإنحراف فإن الكذب منحرف عن الواقع والإضافة بيانية وقيل : هو أمر باجتناب شهادة الزور لما أخرج أحمد وأبو داود
(17/148)

ابن ماجة والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه و سلم صلى صلاة الصبح فلما انصرف قائما قال : عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاث مرات ثم تلا هذه الآية
وتعقب بأنه لا نص فيما ذكر من الخبر مع ما في سنده في بعض الطرق من المقال على التخصيص لجواز بقاء الآية على العموم وتلاوتها لشمولها لذلك وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال يعني بقول الزور الشرك بالكلام وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت فيقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وهو قول بالتخصيص ولا يخفى أن التعميم أولى منه وإن لاءم المقام كتخصيص بعضهم ذلك بقول المشركين هذا حلال وهذا حرام حنفاء لله مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق مخلصين له تعالى غير مشركين به أي شيئا من الأشياء فيدخل في ذلك الأوثان دخولا أوليا وهو حالان مؤكدتان من واو فاجتنبوا وجوز أن يكون حالا من واو واجتنبوا وأخر التبري عن التولي ليتصل بقوله تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء وهي جملة مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الإجتناب من الإشراك وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال قبح الإشراك وقد شبه الإيمان بالسماء لعلوه والإشراك بالسقوط منها فالمشرك ساقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر وهذا السقوط إن كا في حق المرتد فظاهر وهو في حق غيره باعتبار الفطرة وجعل التمكن والقوة بمنزلة الفعل كما قيل في قوله تعالى والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فتخطفه الطير فإن الأهواء المردية توزع أفكاره وفي ذلك تشبيه الأفكار الموزعة بخطف جوارح الطير وهو مأخوذ من قوله تعالى ضرب مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون وأصل الخطف الإختلاس بسرعة
وقرأ نافع فتخطفه بفتح الخاء والطاء مشددة وقرأ الحسن وأبو رجاء وألعمش فتخطفه بكسر التاء والخاء والطاء مشددة وعن الحسن كذلك إلا أنه فتح الطاء مشددة وقرأ الأعمش أيضا تخطفه بغير فاء وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة والجملة على هذه القراءة في موضع الحال وأما على القراءات الأول فالفاء للعطف وما بعدها عطف على خر وفي إيثار المضارع إشعار باستحضار تلك الحالة العجيبة في مشاهدة المخاطب تعجيبا له وجوز أبو البقاء أن يكون الكلام بتقدير فهو يخطفه والعطف من عطف الجملة على الجملة أو تهوى به الريح أي تسقطه وتقذفه وقرأ أبو جعفر وأبو رجاء الرياح في مكان سحيق
31
- بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة وفي ذلك تشبيه الشيطان المضل بالريح المهوية وهو مأخوذ من قوله تعالى ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فالتشبيه في الآية مفرق والظاهر أن تهوي عطف على تخطف واو للتقسيم على معنى أن مهلكه إما هوى يتفرق به في شعب الخسار أو شيطان يطوح به في مهمه البوار وفرق بين خاطر النفس والشيطان فلا يرد ما قاله ابن المنير من أن الأفكار من نتائج وساوس الشيطان والآية سيقت لجعلهما شيئين وفي تفسير القاضي أنها للتخيير على معنى أنت مخير بين أن تشبه المشرك بمن خر من السماء فتطفه الطير وبين من خر من السماء فتهوى به الريح في مكان سحيق أو للتنويع على معنى أن المشبه به نوعان والمشبه بالنوع الأول الذي توزع لحمه في
(17/149)

بطون جوارح الطير المشرك الذي لا خلاص له من الشرك ولا نجاة أصلا والمشبه بالنوع الثاني الذي رمته الريح في المهاوي المشرك الذي يرجى خلاصه على بعد وقال ابن المنير : إن الكافر قسمان لا غير مذبذب متمادي على الشرك وعدم التصميم على ضلالة واحدة وهذا مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولي طائر على قطعة منه إلا انتهبها منه آخر وتلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه وترك ما كان عليه ومشرك مصمم على معتقد باطل لو نشر بالمناشير لم يكن ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو فرح مبتهج بضلالته وهذا مشبه في قرارة على الكفر باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل هو أبعد الإحياز عن السماء فاستقر فيه انتهى ولا يخفى أن ما ذكرناه أوفق بالظاهر
وجوز غير واحد أن يكون من التشبيهات المركبة فكأنه سبحانه قال : من أشرك بالله تعالى فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فنفرق قطعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به المطارح البعيدة وجعل في الكشف أو على هذا للتخيير وليس بمتعين فيما يظهر وعلى الوجهين تفريق التشبيه وتركيبه في الآية تشبيهان
وذكر الطيبي أن فيها على التركيب تشبيهين و تهوى عطف على خر وعلى التفريق تشبيها واحدا و تهوى عطف على تخطف وزعم أن عبارة الكشاف ما يؤذن بذلك وهو غير مسلم ذلك أي الأمر ذلك أو امتثلوا ذلك ومن يعظم شعائر الله أي البدن الهدايا كما روي عن ابن عباس ومجاهد وجماعة وهي جمع شعيرة أو شعارة بمعنى العلامة كالشعار وأطلقت على البدن الهدايا لأنها من معالم الحج أو علامات طاعته تعالى وهدايته
وقال الراغب : لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمى بشعيرة أي حديدة يشعر بها ووجه الإضافة على الأوجه الثلاثة لا يخفى وتعظيمها أن تختار حسانا سمانا غالية الأثمان روي أنه صلى الله عليه و سلم أهدى مائة بدنة فيها جمل : لأبي جهل في أنفه برة من ذهب وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار وقد سأل النبي صلى الله عليه و سلم أن يبيعا ويشتري بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك وقال : بل أهدها وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها وقال زيد بن أسلم : الشعائر ست الصفا والمروة والبدن والجمار والمسجد الحرام وعرفة والركن وتعظيمها إتمام ما يفعل بها وقال ابن عمر والحسن ومالك وابن زيد : الشعائر مواضع الحج كلها من منى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك وهو نحو قول زيد
وقيل : هي شرائع دينه تعالى وتعظيمها والتزامها والجمهور على الأول وهو أوفق لما بعد و من إما شرطية أو موصولة وعلى التقديرين لا بد في قوله تعالى فإنها من تقوى القلوب
32
- من ضمير يعود إليها أو ما يقوم مقامه فقيل إن التقدير فإن تعظيمها الخ والتعظيم مصدر مضاف إلى مفعوله ولا بد له من فاعل وهو ليس إلا ضميرا يعود إلى من فكأنه قيل فإن تعظيمه إياها و من تحتمل أن تكون للتعليل أي فإن تعظيمها لأجل تقوي القلوب ولن تكون لابتداء الغاية أي فإن تعظيمها ناشيء من تقوي القلوب وتقدير هذا المضاف واجب على ما قيل من حيث أن الشعائر نفسها لا يصح الإخبار عنها بأنها من التقوى بأي معنى كانت من وقال الزمخشري : التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد
(17/150)

من راجع من الجواء إلى من ليرتبط به أه
وتعقبه أبو حيان بأن ما قدره عار من راجع إلى من ولذا لما سلك جمع مسلكه في تقدير المضافات قيل التقدير فإن تعظيمها منه من أفعال الخ أو فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب منهم فجاؤا بضمير مجرور عائد إلى من في آخر الكلام أو في أثنائه وبعض من سلك ذلك لم يقدر منه ولا منهم لكن التزم جعل اللام في القلوب بدلا من الضمير المضاف إليه على رأي الكوفيين للربط أي تقة قلوبهم والدماميني جعل الرابط في تقدير الزمخشري فاعل المصدر المحذوف لفهم المعنى فلا يكون ما قدره عاريا عن الراجع إلى من كما زعمه أبو حيان فإن المحذوف المفهوم بمنزلة المذكور
وقال صاحب الكشف : في الإنتصار له أيضا أراد أنه على ما قدره يكون عموم ذوي تقوى القلوب بمنزلة الضمير فتقدير منه كما فعل البيضاوي ليس بالوجه واعترض صاحب التقريب تقدير المضافين الأخيرين أعني أفعال وذوي بأنه إنما يحتاج إليه إذا جعل من للتبعيض وأما إذا جعل للإبتداء فلا إذ المعنى حينئذ فإن تعظيمها ناشيء من تقوى القلوب وهو قول بأحد الوجهين اللذين سمعتهما أولا ولم يرتض ذلك صاحب الكشف قال : إن إضمار الفعار لأن المعنى إن التعظيم باب من التقوى ومن أعظم أبوابها لا أن التعظيم صادر من ذي تقوى ومنه يظهر أن الحمل على أن التعظيم ناشيء من تقوى القلوب والإعتراض بأن قول الزمخشري : إنما يستقيم إذا حمل على التبعيض ليس على ما ينبغي على أنه حينئذ إن قدر من تقوى قلوبهم على المذهب الكوفي أو من تقوى القلوب منهم اتسع الخرق على الراقع ثم التقوى إن جعلت متناولة للأفعال والتروك على العرف الشرعي فالتعظيم بعض البتة وإن جعلت خاصة بالتروك فمنشأ التعظيم منها غير لائح إلا على التجوز انتهى
وأعرض بأن دعواه أن المعنى على أن التعظيم باب من التقوى دون أن التعظيم صادر من ذي تقوى دعوى بلا شاهد وبأنه لا تظهر الدلالة على أنه من أعظم أبواب التقوى كما ذكره وبأن القول بعدم الإحتياج إلى الإضمار على تقدير أن يكون التعظيم بعضا من التقوى صلح لا يرضى به الخصم وبانه صح الكلام على التجوز لا يستقيم قول الزمخشري : لا يستقم الخ
وتعقب بأنه غير وارد أما الأول فلأن السياق للتحريض على تعظيم الشعائر وهو يقتضي عده من التقوى بل من اعظمها وكونه ناشئا منها لا يقتضي كونه منها بل ربما يشعر بخلافه وأما الثاني فلأن الدلالة على أن الأعظمية مفهومة من السياق كما إذا قلت : هذا من أفعال المتقين والعفو من شيم الكرام والظلم من شيم النفوس كما يشهد به الذوق وأما الثالث فلأنه لم يدع عدم الإحياج إلى الإضمار على تقدير كون التعظيم بعضا بل يقول الرابط العموم كما قال أولا وأما الرابع فلأن صحة الكلام بدون تقدير على التجوز لكونه خفيا في قوة الخطأ إذ لا قرينة عليه والتبعيض متبادر منه فلا غبار إلا على نظر المعترض وأقول : لا يخفى أنه كلما كان التقدير أقل كان أولى فيكون قول من قال : التقدير فإن تعظيمها من تقوى القلوب أولى من قول من قال : التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ومن في ذلك للتبعيض وما يقتضيه السياق من تعظيم أمر هذا التعظيم يفهم من جعله بعض تقوى القلوب بناء على أن تقييد التقوى بالقلوب للإشارة إلى أن التقوى قسمان تقوى القلوب والمراد بها التقوى الحقيقية الصادقة التي يتصف بها المؤمن الصادق وتقوى الأعضاء والمراد بها التقوى الصورية الكاذبة التي يتصف بها المنافق الذي كثيرا
(17/151)

ما تخشع أعضاؤه وقلبه ساه لاه والتركيب أشبه التراكيب بقولهم : العفو من شيم الكرام فمتى فهم منه كون العفو من أعظم أبواب الشيم فليفهم من ذلك كون التعظيم من أعظم أبواب التقوى والفرق تحكم
ولعل كون الإضافة لهذه الإشارة أولى من كونها لأن القلوب منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما فتدبر
ومن الناس من لم يوجب تقدير التعظيم وأرجع ضمير فإنها إلى الحرمة أو الخصلة كما قيل نحو ذلك في قوله صلى الله عليه و سلم : من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت أو إلى مصدر مؤنث مفهوم من يعظم أي التعظيمة
واعترض هذا بأن المصدر الذي تضمنه الفعل لا يؤنث إلا إذا اشتهر تأنيثه كرحمة وهذا ليس كذلك ونظر فيه نعم إن اعتبار ذلك مما لا يستلذه الذوق السليم ومنه يعلم حال اعتبار التعظيمات بصيغة الجمع على أنه قيل عليه : إنه يوهم أن التعظيمة الواحدة ليست من التقوى ولا يدفعه أنه لا اعتبار بالمفهوم أو أن ذلك من مقابلة الجمع بالجمع كما لا يخفى
وإذا اعتبر المذهب الكوفي في لام القلوب لم يحتج في الآية إلى إضمار شيء أصلا وذهب بعض أهل الكمال إلى أن الجزاء محذوف تقديره فهم متقون حقا لدلالة التعليل القائم مقامه عليه وتعقب بأن الحذف خلاف الأصل وما ذكر صالح للجزائية باعتبار الإعلام والإخبار كما في أمثاله وأنت تعلم أن هذا التقدير ينساق إلى الذهن ومثله كثير في الكتاب الجليل وقريء القلوب بالرفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو تقوى واستدل الشيعة ومن يحذو حذوهم بالآية مشروعية تعظيم قبور الأئمة وسائر الصالحين بإيقاد السرج عليها وتعليق مصنوعات الذهب والفضة ونحو ذلك مما فاقوا به عبدة الأصنام ولا يخفى ما فيه لكم فيها أي في الشعائر بالمعنى السابق منافع هي درها ونسلها وصوفها وركوب ظهورها إلى أجل مسمى وهو وقت أن يسميها ويوجبها هديا وحينئذ ليس لهم شيء من منافعها قاله ابن عباس في رواية مقسم ومجاهد وقتادة والضحاك وكذا عند الإمام أبي حنيفة فإن المهدي عنده بعد التسمية والإيجاب لا يملك منافع الهدى أصلا لأنه لو ملك ذلك لجاز له أن يؤجره للركوب وليس له ذلك اتفاقا نعم يجوز له الإنتفاع عند الضرورة وعليه يحمل ما روي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه و سلم مر برجل يسوق هديه وهو في جهاد فقال عليه الصلاة و السلام : اركبها فقال يا رسول الله : إنها هدي فقال : اركبها ويلك
وقال عطاء : منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هديا أن تركب ويشرب لبنا عند الحاجة إلى أجل مسمى وهو وقت أن تنحر وإلى ذلك ذهب الشافعي فعن جابر أنه صلى الله عليه و سلم قال : اركبوا الهدى بالمعروف حتى تجدوا ظهرا واعترض على ما تقدم بأن مولى أم الولد يملك الإنتفاع بها وليس له أن يبيعها فلم لا يجوز أن يكون الهدى كذلك لا يملك المهدي بيعه وإجارته ويملك الإنتفاع به بغير ذلك وقيل المسمى وقت أن تشعر فلا تركب حينئذ إلا عند الضرورة
وروي أبو رزين عن ابن عباس الأجل المسمى وقت الخروج من مكة وفي رواية أخرى عنه وقت الخروج والإنتقال من هذه الشعائر إلى غيرها وقيل الأجل المسمى يوم القيامة ولا يخفى ضعفه
ثم محلها أي وجوب نحرها على أن يكون محل مصدرا ميميا بمعنى الوجوب من حل الدين إذا وجب أو وقت نحرها على أن يكون اسم زمان وهو على الإحتمالين معطوف على منافع والكلام على تقدير مضاف
(17/152)

وقوله تعالى إلى البيت العتيق
33
- في موضع الحال أي منتهية إلى البيت والمراد به ما يليه بعلاقة المجاورة فإنها لا تنتهي إلى البيت نفسه وإنما تنتهي إلى ما يقرب منه وقد جعلت منى منحرا ففي الحديث كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر وقال القفال : هذا في الهدايا التي تبلغ مني وأما الهدى المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فمنحره موضعه وقالت الإمامية : منحر هدى الحج منى ومنحر هدى العمرة المفردة مكة قبالة الكعبة بالحزورة و ثم للتراخي الزماني أو الرتبي أي لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الأخروي وهو وجوب نحرها أو وقت نحرها وفي ذلك مبالغة في كون نفس النحر منفعة والتراخي الرتبي ظاهر وأما التراخي الزماني فهو باعتبار أول زمان الثبوت فلا تغفل
والمعنى على القول بأن المراد من الشعائر مواضع الحج لكم في تلك المواضع منافع بالأجر والثواب الحاصل بأداء ما يلزم أداؤه فيها إلى أجل مسمى وهو انقضاء أيام الحج ثم محلها أي محل الناس من أحرامهم إلى البيت العتيق أي منته إليه بأن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد أداء ما يلزم في هاتيك المواضع فأضافة المحل إليها لأدنى ملابسة وروي نحو ذلك عن مالك في الموطأ أو لكم فيها منافع التجارات في الأسواق إلة وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتنهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيادة أو لكم منافع دنيوية وأخروية إلى وقت المراجعة الخ وهكذا يقال ما روى عن زيد بن أسلم من تخصيصها بالست وعلى القول بأن المراد بها شرائع الدين لكم في مراعاتها منافع دنيوية وأخروية إلى انقطاع التكليف ثم محلها الذي توصل إليه إذا روعيت منته إلى البيت العتيق وهو الجنة أو محل رعايتها منته إلى البيت العتيق وهو معبد للملائكة عليهم السلام وكونه منتهى لأنه ترفع إليه الأعمال وقيل كون محلها منتهيا إلى البيت العتيق أي الكعبة كما هو المتبادر باعتبار أن محل بعضها كالصلاة والحج منته إلى ذلك وقيل : غير ذلك والكل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الناس فضلا عن كلام رب العالمين وأهون ما قيل : إن الكلام على هاتيك الروايات متصل بقوله تعالى وأحلت لكم الأنعام وضمير فيها لها ولكل أمة جعلنا منسكا عطف على قوله سبحانه لكم فيه منافع أو على قوله تعالى ومن يعظم الخ وما في البين اعتراض على ما قيل وكأنى بك تختار الأول وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام عليه عند نظير الآية والمنسك موضع النسك إذا كان اسم مكان أو النسك إذا كان مصدرا وفسره مجاهد هنا بالذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى فجعله مصدرا وحمل النسك على عبادة خاصة وهو أحد استعمالاته وإن كان في الأصل بمعنة العبادة مطلقا وشاع في أعمال الحج وقال الفراء : المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير وبر وفسره هنا بالعيد وقال قتادة : هو الحج وقال ابن عرفة منسكا أي مذهبا من طاعته تعالى
واختار الزمخشري ما روي عن مجاهد وهو الأوفق أي شرع لكل أهل دين أن يذبحوا له تعالى على وجه التقرب لا لبعض منهم فتقديم الجار والمجرور على الفعل للتخصيص وقرأ الإخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو : ويونس ومحبوب وعبد الوارث منسكا بكسر السين قال ابن عطية وهو في هذا شاذ ولا يجوز في القياس ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب وقال الأزهري : الفتح والكسر
(17/153)

فيه لغتان مسموعتان ليذكروا اسم الله خاصة دون غيره تعالى كما يفهمه السياق والسباق وفي تعليل الجعل بذلك فقط تنبيه على أن المقصود الأهم من شرعية النسك ذكره عز و جل على ما رزقهم من بهيمة الأنعام عند ذبحها وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام فلا يجوز الخيل ونحوها والفاء في قوله تعالى : فإلهم إله واحد قيل للتعليل وما بعدها علة لتخصيص اسم الله تعالى بالذكر والفاء في قوله سبحانه : فله أسلموا لترتيب ما بعدها من الأمر بالإسلام على وحدانيته عز و جل وقيل : الفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها أيضا فإن جعله تعالى لكل أمة من الأمم منسكا يدل على وحدانيته جل وعلا ولا يخفى ما في وجه الدلالة من الخفاء وتكلف بعضهم في بيانه بأن شرع المنسك لكل أمة ليذكروا اسم الله تعالى يقتضي أن يكون سبحانه إلها لهم لئلا يلزم السفه ويلزم من كونه تعالى إلها لهم أن يكون عز و جل واحدا لأنه لا يستحق الألوهية أصلا من لم يتفرد بها فإن الشركة نقص وهو كما ترى وفي الكشف لما كانت العلة لقوله سبحانه : لكل أمة جعلنا منسكا ذكر اسمه تعالى على المناسك ومعلوم أن الذكر إنما يكون ذكرا عند مواطأة القلب اللسان وذكر القلب إشعار بالتعظيم جاء قوله تعالى فله أسلموا مسببا عنه تسببا حسنا واعترض بقوله تعالى : فإلهكم إله واحد لأنه يؤكد الأمر بالإخلاص ويقوي السبب تقوية بالغة ويؤكد أيضا كون الذكر هو المقصود من شريعة النسك انتهى وهو يشعر بأن الفاء الأولى للإعتراض والفاء الثانية للترتيب ولعل ما ذكر أولا أظهر وأما ما قيل من أن الفاء الأولى للتعليل والمعلل محذوف والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله فإن إلهم إله واحد فما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى الجليل كما لا يخفى وإنما قيل : إله واحد ولم يقل واحد لما أن المراد بيان أنه تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته وتقديم الجار على الأمر للقصر والمراد أخلصوا له تعالى الذكر خاصة واجعلوه لوجهه سالما خالصا لا تشوبوه بإشراك وبشر المخبتين
34
- خطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم والمخبتون المطمئنون كما روي عن مجاهد أو المتواضعون كما روي عن الضحاك وقال عمرو بن أوس : هم الذي لا يظلمون الناس وإذا ظلموا لم ينتصروا وقال سفيان : هم الراضون بقضاء الله تعالى وقال الكلبي : هم المجتهدون في العبادة وهو من الإخبات وأصله كما قال الراغب : نزلت الخبت وهو المطمئن من الأرض ولا يخفى حسن موقع ذلك هنا حيث أن نزول مناسب للحاج الذين إذا ذكر الله وجلت أي خافت قلوبهم منه عز و جل لإشراق أشعة الجلال عليها والصابرين على ما أصابهم من مشاق التكاليف ومؤنات النوائب كالأمراض والمحن والغربة عن الأوطان ولا يخفى حسن موقع ذلك هنا أيضا والظاهر أن الصبر على المكاره مطلقا ممدوح وقال الرازي : يجب الصبر على ما كان من قبل الله تعالى وأما على ما يكون من قبل الظلمة فغير واجب بل يجب دفعه على من يمكنه ذلك ولو بالقتال انتهى وفيه نظر والمقيمي الصلاة في أوقاتها ولعل ذكر ذلك هنا لأن السفر مظنة التقصير في إقامة الصلاة وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية الصلاة بالنصب على المفعولية لمقيقي وحذفت النون منه تخفيفا كما في بيت الكتاب : الحافظون عورة العشيرة لا تأتيهم من ورائهم نطف
(17/154)

بنصب عورة ونظير ذلك قوله : إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يأم مالم وقوله ابني كليب أن عمي اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا وقرأ ابن مسعود والأعمش والمقيمين الصلاة بإثبات النون ونصب الصلاة على الأصل وقرأ الضحاك والمقيم الصلاة بالإفراد والإضافة ومما رزقناهم ينفقون
35
- في وجه الخير ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون فيها والبدن جعلناها لكم من شعائر الله أي من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى والبدن جمع بدنة وهي كما قال الجوهي ناقة الله أو بقرة تنحر بمكة وفي القاموس هي الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة وتطلق على الذكر والأنثى وسميت بذلك لعظم بدنها لأنهم كانوا يسمنونها ثم يهدونها وكونها من النوعين قول معظم أئمة اللغة وهو مذهب الحنفية فلو نذر بحر بدنة يجزئه نحر بقرة عندهم وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب وأخرج عبد بن حميد
وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا تعلم البدن إلا من الإبل والبقر
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه كما ننحر البدنة عن سبعة فقيل والبقرة فقال : وهل هي إلا من البدن وقال صاحب البارع من اللغويين : إنها لا تطلق على ما يكون من البقر وروي ذلك عن مجاهد والحسن وهو مذهب الشافعية فلا يجزي عندهم من نذر نحر بدنة نحر بقرة وأريد بما رواه أبو داود عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فإن العطف يقتضي المغايرة وفيما يأتي آخرا تأييد لذلك أيضا والظاهر أن استعمال البدنة فيما يكون من الإبل أكثر وإن كان أمر الأجزاء متحدا
ولعل مراد جابر بقوله في البقرة وهل هي إلا من البدن أن حكمها حكمها وإلا فيبعد جهل السائل بالمدلول اللغوي ليرد عليه بذلك ويمكن أن يقال فيما روي عن ابن عمر : أن مراده بالبدن فيه البدن الشرعية ولعله إذا قيل باشتراكها بين ما يكون من النوعين يحكم العرف أو نحوه في التعيين فيما غذا نذر الشخص بدنة ويشير إلى ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن يعقوب الرياحي عن أبيه قال : أوصى إلى رجل وأوصى ببدنة فأتيت ابن عباس فقلت له : إن رجلا أوصى إلي وأوصى ببدنة فهل تجزيء عني بقرة قال : نعم ثم قال : ممن صاحبكم فقلت : من رياح قال : ومتى اقتنى بنو رياح البقر إلى الإبل وهم صاحبكم إنما البقر لأسد وعبد القيس فتدبر
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى البدن بضم الباء والدال قيل وهو الأصل كخشب وخشبة وإسكان الدال تخفيف منه ورويت هذه القراءة عن نافع وأبي جعفر
وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا بضم الباء والدال وتشديد النون فاحتمل أن يكون اسما مفردا بني على فعل كعتل واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف والجمهور على نصب البدن على الإشتغال أي وجعلنا البدن جعلناها وقريء بالرفع على الإبتداء وقوله تعالى لكم ظرف متعلق بالجعل و من شعائر الله في موضع المفعول الثاني له وقوله تعالى لكم فيها خير أي نفع في الدنيا وأجر في الآخرة كما روي عن ابن عباس وعن السدي الإقتصار على الأجر جملة مستأنفة مقررة لما قبلها
فاذكروا اسم الله بأن تقولوا عند ذبحها بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك وقد أخرج ذلك
(17/155)

جماعة عن ابن عباس وفي البحر بأن يقول : عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك
صواف أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن فهو جمع صافة ومفعوله مقدر وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن مسعود والباقر ومجاهد وقتادة وعطاء والكلبي والأعمش بخلاف عنه صوافن بالنون جمع صافنة وهو إما من صفن الرجل إذا صف قدميه فيكون بمعنى صواف أو من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة لأن البدنة عند الذبح تعلق إحدى يديها فتقوم على ثلاث وعقلها عند النحر سنة فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قد رأى رجلا قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه و سلم والأكثرون على عقل اليد اليسرى فقد أخرى ابن أبي شيبة عن ابن سابط رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه كانوا يعقلون يد البدنة اليسرى وينحرونها قائمة على ما بقي من قوائمها وأخرج عن الحسن قيل له : كيف تنحر البدنة قال : تعلق يدها اليسرى إذا أريد نحرها وذهب بعض إلى عقل اليمنى فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان ينحرها وهي معقولة يدها اليمنى وقيل لا فرق بين عقل اليسرى وعقل اليمنى فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عطاء قال : أعقل أي اليدين شئت
وأخرج جماعة عن ابن عمر أنه فسر صواف بقائمات معقولة إحدى أيديهن فلا فرق في المراد بين صواف وصوافن على هذا أصلا ولكن روي عن مجاهد أن الصواف على أربع والصوافن على ثلاث وقرأأبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج صوافن بالياء جمع صافية أي خوالص لوجه الله عز و جل لا يشرك فيها شيء كما كانت الجاهلية تشرك ونون الياء عمر وابن عبيد وهو خلاف الظاهر لأن صوافن ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع وخرج على وجهين أحدهما أنه وقف عليه بألف الإطلاق لأنه منصوب ثم نون تنوين الترنم لا تنوين الصرف بدلا من الألف وثانيهما أنه على لغة من يصرف ما لا يصرف لا سيما الجمع المتناهي ولذا قال بعضهم : والصرف في الجمع أتى كثيرا حتى ادعى قوم به التخييرا وقرأ الحسن أيضا صواف بالتنوين والتخفيف على لغة من ينصب المنقوص بحركة مقدرة ثم يحذف الياء فأصل صواف صوافي حذفت الياء لثقل الجمع واكتفى بالكسرة التي قبلها ثم عوض عنها التنوين ونحوه
ولو أن واش باليمامة داره وداري بأعلى حضرموت أهتدي ليا وقد تبقى ساكنة كما في قوله : يا باري القوس بريا لست تحسنها لاتفسدنها وأعط القوس باريها وعلى ذلك قراءة بعضهم صوافي بإثبات الياء ساكنة بناء على أنه كما في القراءة المشهورة حال من ضمير عليها ولو جعل كما قيل بدلا من الضمير لم يحتج إلى التخريج على لغة شاذة فإذا وجبت جنوبها أي سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت وظاهر ذلك مع ما تقدم من الآثار يقتضي أنها تذبح وهي قائمة وأيد به كون البدل من الإبل دون البقر لأنه لم تجر عادة بذبحها قائمة وإنما تذبح مضطجعة وقلما شوهد نحر
(17/156)

الإبل وهي مضطجعة فكلوا منها وأطعموا القانع أي الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسئلة ولا تعرض لها وعليه حمل قول لبيد : فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ومنهم شقي بالعيشة قانع والمعتر أي المعترض للسؤال من اعتره إذا ترض له وتفسيرهما بذلك مروي عن ابن عباس وجماعة وقال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبي : القانع الشائل كما في قول عدي بن زيد : وما خنت ذا عهد وأيت بعهده ولم أحرم المضطر إذا جاء قانعا والمعتر المعترض من غير سؤال فالقانع قيل على الأول من قنع يقنع كتعب يتعب قنعا إذا رضي بما عنده من غير سؤال وعلى الثاني من قنع يقنع كسأل يسأل لفظا ومعنى قنوعا وعلى ذلك جاء قول الشاعر : العبد حر إن قنع والحر عبد إن قنع فاقنع ولا تطمع فما شيء يشين سوى الطمع فلا يكون القانع على هذا من الإضداد لاختلاف الفعلين ونص على ذلك الخفاجي حاكما بتوهم من يقوله بخلافه وفي الصحاح نقل القول بأنه من الأضداد عن بعض أهل العلم ولم يتعقبه بشيء ونقل عنه أيضا أنه يجوز أن يكون السائل سمي قانعا لأنه يرضى بما يعطي قل أو كثر ويقبله ولا يرد فيكون معنى الكلمتين راجعا إلى الرضا وإلى كون قنع بالكسر بمعنى رضي وقنع بالفتح بمعنى سأل ذهب الراغب وجعل مصدر الأول قناعة وقناعا ومصدر الثاني قنوعا ونقل عن بعضهم أن أصل ذلك من القناع وهو ما يغطى به الرأس فقنع بالكسر لبس القناع ساترا لفقره كقولهم : خفى إذا لبس الخفاء وقنع إذا رفع قناعة كاشفا لفقره بالسؤال نحو خفى إذا رفع الخفاء وأريد كون القانع بمعنى الراضي بقراءة أبي رجاء القنع بوزن الحذر بناء على أنه لم يرد بمعنى السائل بخلاف القانع فإنه ورد بالمعنيين والأصل توافق القراءات وعن مجاهد القانع الجار وإن كان غنيا وأخرج ابن أبي شيبة عنه وعن ابن جبير أن القانع أهل مكة والمعتر سائر الناس وقيل : المعتر الصديق الزائر والذي اختاره من هذه الأقوال أولها
وقرأ الحسن والمعتري اسم فاعل من اعتى وهو واعتر بمعنى وقرأ عمرو وإسماعيل كما نقل ابن خالوية المعتر بكسر الراء بدون ياء وروي ذلك المقري عن ابن عباس وجاء ذلك أيضا عن أبي رجاء وحذفت الياء تخفيفا منه واستغناء بالكسرة عنها واستدل بالآية على أن الهدى يقسم أثلاثا ثلث لصاحبه وثلث للقانع وثلث للمعتر وروي ذلك عن ابن مسعود وقال محمد بن جعفر رضي الله تعالى عنهما بقسمته أثلاثا أيضا إلا أنه قال : أطعم القانع والمعتر ثلثا والبائس الفقير ثلثا وأهلي ثلثا وفي القلب من صحته شيء
وقال ابن المسيب : ليس لصاحب الهدى منه إلا الربع وكأنه عد القانع والمعتر والبائس الفقير ثلاثة وهو كما ترى قال ابن عطية : وهذا كله على وجه الإستحسان لا الفرض وكأنه أراد بالإستحان الندب فيكون قد حمل كلا الأمرين في الآية على الندب
وفي التيسير أمر كلوا للإباحة ولو لم يأكل جاز وأمر أطعموا للندب ولو صرفه كله لنفسه لم يضمن شيئا وهذا في كل هدى نسك ليس بكفارة وكذا الأضحية وأما الكفارة فعليه التصدق بجميعها فما أكله
(17/157)

أو أهداه لغني ضمنه وفي الهداية يستحب له أن يأكل من هدى التطوع والمتعة والقرآن وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا وهو قول بنحو ما يقتضيه كلام ابن عطية في كلا الأمرين وأباح مالك الأكل من الهدى الواجب الأجزاء الصدي والأذى والنذر وأباحه أحمد إلا من جزاء الصيد والنذر وعند الحسن الأكل من جميع ذلك مباح وتحقيق ذلك في كتب الفقه كذلك أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله تعالى صواف سخرناها لكم مع كمال عظمها ونهاية قوتها فلا تستعصي عليكم حتى إنكم تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنون في لباتها ولو لا تسخير الله تعالى لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما وأقل قوة وكفى ما يتأبد من الأبد شاهدا وعبرة
وقال ابن عطية : كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرناها لكم ولا يخفى بعده لعلكم تشكرون
36
- أي لتشكروا أنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص لن ينال الله لحومها ولا دماؤها أي لن يصيب وضا الله تعالى اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر من حيث أنها لحوم ودماء ولكن يناله التقوى منكم ولكن يصيبه ما يصحب ذلك من تقوي قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيمه تعالى والتقرب له سبحانه والإخلاص له عز و جل
وقال مجاهد : أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم ونصبه حول الكعبة ونضحها بالدماء تعظيما لها وتقربا إليه تعالى فنزلت هذه الآية وروي نحوه عن ابن عباس وغيره وقرأ يعقوب وجماعة لن تنال ولكن تناله بالتاء وقرأ أبو جعفر الأول بالتاء والثاني بالياء آخر الحروف وعن يحيى ابن يعمر والجحدري أنهما قرأا بعكس ذلك وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما لن ينال ولكن يناله بالبناء لما يسم فاعله في الموضعين ولحومها ولا دماءها بالنصب كذلك سخرها لكم كرره سبحانه تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله تعالى : لتكبروا الله أي لتعرفوا عظمته تعالى باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره عز و جل فتوحدوه بالكبرياء وقيل : أي لتقولوا الله أكبر عند الإحلال أو الذبح على ما هداكم أي على هدايته وإرشاده إياكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها فما مصدرية وجوز أن تكون موصوفة وأن تكون موصولة والعائد محذوف ولا بد أن يعتبر منصوبا عند من يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا و على متعلقة بتكروا لتضمنه معنى الشكر أو الحمد كأنه قيل : لتكبروه تعالى شاكرين أو حامدين على ما هداكم وقال بعضهم : على بمعنى اللام التعليلية ولا حاجة إلى اعتبار التضمين ويؤيد ذلك قول الداعي على الصفا : الله أكبر على ما هدانا والحمد لله تعالى على ما أولانا ولا يخفى أن لعدم اعتبار التضمين هنا وجها ليس فيما نحن فيه فافهم وبشر المحسنين
37
- أي المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم وعن ابن عباس هم الموحدوه
ومن باب الإشارة في الآيات يا أيها الناس اتقوا ربكم بالإعراض عن السوى وطلب الجزاء إن زلزلة الساعة وهي مبادي القيامة الكبرى يوم ترونها تذهل كل مرضعة وهي مواد الأشياء فإن لكل مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه في مهد الإستعداد وتضع كل ذات حمل وهي الهيولات
(17/158)

حملها وهي الصور يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وترى الناس سكارى الحيرة وما هم بسكارى المحبة قيل سكر الأعداء من رؤية القهريات وسكر الموافقين من رؤية بدائع الأفعال وسكر المريد من لمعان الأنوار وسكر المحبين من كشوف الأسرار وسكر المشتاقين من ظهور سنى الصفات وسكر العاشقين من مكاشفة الذات وسكر المقربين من الهيبة والجلال وسكر العارفين من الدخول في حجال الوصال وسكر الموحدين من استغراقهم في بحار الأولية وسكر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام من طلاعهم على أسرار الأزلية : ألم بنا ساق يجل عن الوصف وفي طرفه خمر وخمر على الكشف فاسكر أصحابي بخمرة كفه وأسكرني والله من خمرة الطرف ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية يدخل فيه من يعبد الله تعالى طمعا في الكرامات ومحمدة الخلق ونيل دنياهم فإن رأى شيئا من ذلك سكن إلى العبادة وإن لم ير تركها وتهاون فيها خسر الدنيا بفقدان الجاه والقبول والإفتضاح عند الخلق والآخرة ببقائه في الحجاب عن مشاهدة الحق واحتراقه بنار البعد من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء الآية فيه إشارة إلى حسن مقام التسليم والرضا بما فعل الحكيم جل جلاله وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود فيه من تعظم أمر الكعبة ما فيه وقد جعلها الله تعالى مثالا لعرشه وجعل الطائفين بها من البشر كالملائكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن تسبيح البشر وثناءهم عليه عز و جل بكلمات إلهية قرآنية فيكونون من حيث تسبيحهم وثناؤهم بتلك الكلمات من حيث أنها كلماته تعالى نوابا عنه عز و جل في ذلك ويكون أهل القرآن وهم كما في الحديث أهل الله تعالى وخاصته وللكعبة أيضا امتياز على العرش وسائر البيوت الأربعة عشر لأمر ما نقل إلينا أنه في العرش ولا في غيره من تلك البيوت وهو الحجر الأسود الذي جاء في الخبر أنه يمين الله عز و جل ثم إنه تعالى جعل لبيته أربعة أركان لسر إلهي وهي في الحقيقة ثلاثة لأنه شكل شكل مكعب الركن الذي يلي الحجر كالحجر في الصورة مكعب الشكل ولذلك سمى الكعبة تشبيها بالكعب ولما جعل الله تعالى له بيتا في العالم الكبير جعل نظيره في العالم الصغير وهو قلب المؤمن وقد ذكروا أنه أشرف من هذا البيت ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن وجعل الخواطر التي تمر عليه كالطائفين وفيها مثلهم المحمود والمذموم وجعل محل الخواطر فيه كالأركان التي للبيت فمحل الخاطر الإلهي كركن الحجر ومحل الخاطر الملكي كالركن اليماني ومحل الخاطر النفسي كالمكعب الذي في الحجر لا غير وليس للخاطر الشيطاني فيه محل وعلى هذا قلوب الأنبياء عليهم السلام وقد يقال : محل الخاطر النفسي كالركن الشامي ومحل الخاطر الشيطاني كالركن العراقي وإنما جعل ذلك للركن العراقي لأن الشارع شرع أن يقال عنده : أعوذ بالله تعالى من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وعلى هذا قلوب المؤمنين ما عدا الأنبياء عليهم السلام وأودع سبحانه فيه كنزا أراد صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخرجه فلم يفعل لمصلحة رآها وكذا أراد عمر فامتنع اقتداءا برسول الله صلى الله عليه و سلم وكذلك أودع جل وعلا في قلب الكامل كنز العلم به عز و جل
وارتفاع البيت ما مر سبعة وعشرون ذراعا وربع ذراع وقال بعضهم : ثمانية وعشرون ذراعا
(17/159)

وعليه يكون ذلك نظير منازل القلب التي تقطعها كواكب الإيمان السيارة لإظهار حوادث تجري في النفس كما تقطع السيارة منازلها في الفلك لإظهار الحوادث في العالم العنصري إلى غير ذلك مما لا يعرفه إلا أهل الكشف
لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق أي إلى ما يليه فإن النحر بمنى وجعلت محلا للقرابين على ما ذكر الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره لأنها من بلوغ الأمنية ومن بلغ المنى المشروع فقد بلغ الغاية وفي نحر القرابين إتلاف أرواح عن تدبير أجسام حيوانية لتتغذى بها أجسام إنسانية فتنظر أرواحها إليها في حال تفردها فتدبرها إنسانية بعد ما كانت تدبرها إبلا أو بقرا وهذه مسئلة دقيقة لم يفطن لها إلا من نور الله تعالى بصيرته من أهل الله تعالى انتهى وتعقله مفوض إلى أهله فاجهد أن تكون منهم
وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم حسبما يحصل لهم من التجلي عند ذلك وقد يحصل من الذكر طمأنينة القلب لاقتضاء التجلي إذ ذاك ذلك وذكر بعضهم أن لكل اسم تجليا خاصا فإذا ذكر الله تعالى حصل حسب الإستعداد ومن ههنا يحصل تارة وجل وتارة طمأنينة و إذا لا تقتضي الكلية بل كثيرا ما يؤتى بها في الشرطية الجزئية وقيل العارف متى سمع الذكر من غيره تعالى وجل قلبه ومتى سمعه منه عز و جل اطمأن ويفهم من ظاهر كلامهم أن السامع للذكر إما وجل أو مطمئن ولم يصرح بقسم آخر فإن كان فالباقي على حاله قبل السماع وأكثر مشائخ زماننا يرقصون عند سماع الذكر فما أدري أينشأ رقصهم عن وجل منه تعالى أم طمأنينة وسيظهر ذلك يوم تبلى السرائر وتظهر الضمائر والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف وقد تقدم لك أنهم ينحرون البدن معقولة اليد اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها وذكروا في سر ذلك أنه لما كان نحرها قربة أراد صلى الله عليه و سلم المناسبة في صفة نحرها في الوترية فأقامها على ثلاث قوائم لأن الله تعالى وتر يحب الوتر والثلاثة أول الإفراد فلها أول المراتب في ذلك والأولية وترية أيضا وجعلها قائمة لأن القيمومية مثل الوترية صفة إلهية فيذكر الذي ينحرها مشاهدة القائم على كل نفس بما اكتسبت وقد صح أن المناسك إنما شرعت لإقامة ذكر الله تعالى وشفع الرجلين لقوله تعالى والتفت الساق بالساق وهو اجتماع أمر الدنيا بالآخرة وأفرد اليمين من يد البدن حتى لا تعتمد إلا على وتر له الإقتدار وكان العقل في اليد اليسرى لأنها خلية عن القوة التي لليمنى والقيام لا يكون إلا عن قوة
وقد أخرج مسلم عن ابن عباس أنه قال : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت عنها الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته الحديث
والسر في كون هديه عليه الصلاة و السلام من الإبل مع أنه جاء فيها أنها شياطين ولذا كرهت الصلاة في معاطنها الإشارة إلى أن مقامه عليه الصلاة و السلام رد البعداء من الله تعالى إلى حال التقريب وفي إشعارها في سنامها الذي هو أرفع ما فيها إشعار منه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه عليه الصلاة و السلام أتى عليهم من صفة الكبرياء الذي كانوا عليه في نفوسهم فليجتنبوها فإن الدار الآخرة إنما جعلت للذين لا يريدون علوا في الأرض وفسادا ووقع الإشعار في الصفحة اليمنى لأن اليمين محل الإقتدار والقوة والصفحة من الصفح ففي ذلك إشعار بأن الله تعالى يصفح عمن هذه صفته إذا طلب القرب من الله تعالى وزال عن كبريائه الذب أوجب له البعد وجعل عليه الصلاة و السلام الدلالة على إزالة الكبرياء في شيطنة البدن في تعليق النعال في رقابها إذ لا يصفح بالنعال إلا أهل الهون والمذلة ومن كان بهذه المثابة فما بقي فيه كبرياء تشهد وعلق
(17/160)

النعال بقلائد العهد ليتذكر بذلك ما أراد الله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش وقد ذكروا الجميع أفعال الحج أسرارا من هذا القبيل وعندي أن أكثرها تعبدية وأن أكثر ما ذكروه من قبيل الشعر والله تعالى الموفق للسداد
إن الله يدافع عن الذين آمنوا كلام مستأنف مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج وذكر أن ذلك متصل بقوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون وأن ما وقع في البين من ذكر الشعائر مستطرد لمظيد تهجين فعلهم وتقبيحهم لازدياد قبح الصد بازدياد تعظيم ما صد عنه وتصويره بكلمة التحقيق لإبراز الإعتناء التام بمضمونه وصيغة المفاعلة إما للمبالغة أو للدلالة على تكرر الدفع فإنها قد تتجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين فيبقى تكرره كالممارسة أي إن الله تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وضررهم من جملته الصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام مبالغة من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى حسبما يتجدد منهم القصد إلى الإضرار بهم كما في قوله تعالى : كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله
وقرأ أبو عمرو وابن كثير يدفع والمفعول محذوف كما أشير إليه وفي البحر أنه لم يذكر ما يدفعه سبحانه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي العموم بل هو غير صحيح
وقوله تعالى : إن الله لا يحب كل خوان كفور
38
- تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين وإيذان بأن دفعهم بطريق القهر والخزي وقيل : تعليل للدفاع عن المؤمنين ببغض المدفوعين على وجه يتضمن أن العلة في ذلك الخيانة والكفر وأوثر لا يحب على يبغض تنبيها على مكان التعريض وأن المؤمنين هم أحباء الله تعالى ولعل الأول أولى لإيهام هذا أن الآية من قبيل قولك : إني أدفع زيدا عن عمرو لبغض زيدا وليس في ذلك كثير عناية بعمرو أي أن الله تعالى يبغض كل خوان في أماناته تعالى وهي أوامره تعالى شأنه ونواهيه أو في جميع الأمانات التي هي معظمها كفور لنعمه عز و جل وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك لا للتقييد المشعر بمحبة الخائن والكافر أو لأن خيانة أمانة الله تعالى وكفران نعمته لا يكونان حقيرين بل هما أمران عظيمان أو لكثرة ما خانوا فيه من الأمانات وما كفروا به من النعم أو للمبالغة في نفي المحبة على اعتبار النفي أولا وإيراد معنى المبالغة ثانيا كما قيل في قوله تعالى : وما ربك بظلام للعبيد وقد علمت ما فيه
وأياما كان فالمراد نفي الحب عن كل فرد فرد من الخونة الكفرة أذن أي رخص وقرأ ابن عباس وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي أذن بالبناء للفاعل أي أذن الله تعالى للذين يقاتلون أي يقاتلهم المشركون والمأذون فيه القتال وهو في قوة المذكور لدلالة المذكور عليه دلالة نيرة
وقرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب يقاتلون على صيغة المبني للفاعل أي يريدون أن يقاتلوا المشركين في المستقبل ويحرصون عليه فدلالته على المحذوف أنور بأنهم ظلموا أي بسبب أنهم ظلموا والمراد بالموصول أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذين في مكة فقد نقل الواحدي وغيره أن المشركين كانوا يؤذونهم وكانوا يأتون النبي عليه الصلاة و السلام بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه صلوات الله تعالى
(17/161)

وسلامه عليه فيقول لهم : أصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت هذه الآية وهي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية على ما روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت فيه وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وفي الإكليل للحاكم أن أول آية نزلت في ذلك إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم وروي البيهقي في الدلائل وجماعة أنها نزلت في مؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاتبعهم كفار قريش فأذن الله تعالى لهم في قتالهم وعدم التصريح بالظالم لمزيد السخط تحاشيا عن ذكره
وإن الله على نصرهم لقدير
39
- وعد لهم بالنصر وتأكيد لما مر من العدة وتصريح بأن المراد به ليس مجرد تخليصهم من أيدي المشركين بل تغليبهم وإظهارهم عليهم وقد أخرج الكلام على سنن الكبرياء فإن الرمزة والإبتسامة من الملك الكبير كافية في تيقن الفوز بالمطلوب وقد أوكد تأكيدا بليغا زيادة في توطين نفوس المؤمنين الذين أخرجوا من ديارهم في حيز الجر على أنه صفة للموصول قبل أو بيان له أو بدل منه أو في محل النصب على المدح أو في محل الرفع بإضمار مبتدأ والجملة مرفوعة على المدح والمراد الذين أخرجهم المشركون من مكة بغير حق مكتعلق بالإخراج أي أخرجوا بغير ما يوجب إخراجهم
وجوز أن يكون صفة مصدر محذوف أي أخرجوا إخراجا كائنا بهذه الصفة واختار الطبرسكونه في موضع الحال أي كائنين بغير حق مترتب عليهم يوجب إخراجهم وقوله تعالى إلا أن يقولوا ربنا الله استثناء متصل من حق وأن وما بعدها في تأويل مصدر بدل منه لما في غير من معنى النفي وحاصل المعنى لا موجب لإخراجهم إلا التوحيد وهو إذا أريد بالموجب النفس الأمري على حد قول النابغة : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وجوز أن يكون الإبدال من غير وفي أخرجوا معنى النفي أي لم يقرروا في ديارهم إلا بأن يقولوا الخ وهو وهو كما ترى وجوز أن يكون الإستثناء منقطعا وأوجبه أبو حيان أي ولكن أخرجوا بقولهم ربنا وأوجب نصب ما بعد إلا كما أوجبوه في قولهم : ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر ورد كونه متصلا وكون ما بعد إلا بدلا من حق بما هو أشبه شيء بالمغالطة ويفهم من كلامهم جواز أن تكون إلا بمعنى سوى صفة لحق أي أخرجوا بغير حق سوى التوحيد وحاصله أخرجوا بكونهم موحدين
ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع تحريض على القتال المأذون فيه بإفادة أنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية لينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم فكأنه لما قيل اذن للذين يقاتلون الخ قيل فليقاتل المؤمنون فلو لا القتال وتسليط الله تعالى المؤمنين على المشركين في كل عصر وزمان لهدمت متعبداتهم ولذهبوا شذرمذر وقيل : المعنى لو لا دفع الله بعض الناس ببعض بتسليط مؤمني هذه الأمة على كفارها لهدمت المتعبدات المذكورة إلا أنه تعالى سلط المؤمنين على الكافرين فبقيت هذه المتعبدات بعضها للمؤمنين وبعضها لمن في حمايتهم من أهل الذمة وليس بذاك وقال مجاهد : أي لو لا دفع
(17/162)

ظلم قوم بشهادة العدول ونحو ذلك لهدمت الخ
وقال قوم : أي لو لا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة وقالت فرقة : أي لو لا دفع العذاب عن الأشرار بدعاء الأخيار وقال قطرب : أي لو لا الدفع بالقصاص عن النفوس وقيل بالنبيين عليهم السلام عن المؤمنين والكل مما لا يقتضيه المقام ولا ترتضيه ذوو الأفهام والصوامع جمع صومعة بوزن فعولة وهي بناء مرتفع حديد الأعلى والأصمع من الرجال الحديد القول وقال الراغب : هي كل بناء متصمع الرأس أي متلاصقه والأصمع اللاصقة أذنه برأسه وهو قريب من قريب وكانت قبل الإسلام كما قال قتادة مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئة ثم استعملت في مئذنة المسلمين والمراد بها هنا متعبد الرهبان عن أبي العالية ومتعبد الصابئة عند قتادة ولا يخفى أنه لا ينبغي إرادة ذلك حيث لم تكن الصابئة ذات ملة حقة في وقت من الأوقات والبيع واحدها بيعة بوزن فعلة وهي مصلى النصارى ولا تختص برهبانهم كالصومعة وقال الراغب : فإن يكن ذلك عربيا في الأصل فوجه التسمية به لما قال سبحانه إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم الآية وقيل هي كنيسة اليهود
وقرأ أهل المدينة ويعقوب ولو لا دفاع بالألف وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني لهدمت بالتخفيف والتضعيف باعتبار كثرة المواضع
وصلوات جمع صلاة وهي كنيسة اليهود وقيل : معبد للنصارى دون البيعة والأول أشهر وسميت الكنيسة بذلك لأنها يصلي فيها فهي مجاز من تسمية المحل باسم الحال وقيل : هي بمعناها الحقيقي وهدمت بمعنى عطلت أو في الكلام مضاف مقدر وليس بذاك وقيل : صلوات معرب صلوثا بالثاء المثلثة والقصر ومعناها بالعبرانية المصلى وروي عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد أنهم قرأوا بذلك والظاهر أنه على هذا القول اسم جنس لا علم قبل التعريب وبعده لكن ما رواه هارون عن أبي عمرو من عدم تنوينه ومنع صرفه للعلمية والعجمية يقتضي أنه علم جنس إذ كونه اسم موضع بعينه كما قيل بعيد فعليه كان ينبغي منع صرفه على القراءة المشهورة فلذا قيل إنه ضرف لمشابهته للجمع لفظا فيكون كعرفات والظاهر أنه نكر إذ جعل عاما لما عرب وأما القول المشهور بأن القائل به لا ينونه فتكلف قاله الخفاجي
وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما صلوات بضم الصاد واللام وحكى عنه ابن خالويه بكسر الصاد وسكون اللام وحكيت عن الجحدري وحكى عنه أيضا صلوات بضم الصاد وفتح اللام وحكيت عن الكلبي وقرأ أبو العالية في رواية صلوات بفتح الصاد وسكون اللام وقرأ الحجاج بن يوسف صلوات بضم الصاد واللام من غير ألف وحكيت عن الجحدري أيضا وقرأ مجاهد صلوتا بضمتين وتاء مثناة بعدها ألف وقرأ الضحاك والكلبي صلوث بضمتين من غير ألف وبثاء مثلثة وقرأ عكرمة صلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف وحكي عن الجحدري أيضا صلواث بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة وحكي عن مجاهد أنه قرأ كذلك إلا أنه بكسر الصاد وحكى ابن خالوية وابن عطية عن الحجاج والجحدري صلوب بضمتين وباء موحدة على أنه جمع صليب كظريف وظروف وجمع فعيل على فعول شاذ فهذه عدة قراآت قلما يوجد مثلها في كلمة واحدة ومساجد جمع مسجد وهو معبد معروف للمسلمين وخص بهذا الاسم اعتناء بشأنه من حيث أن السجود أقرب ما يكون العبد
(17/163)

فيه إلى ربه عز و جل وقيل : لاختصاص السجود في الصلاة بالمسليمن ورد بقوله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين وحمل السجود فيها على المعنى اللغوي بعيد وقال ابن عطية : الأسماء المذكورة تشترك الأمم في مسمياتها لا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف كل لغة والأكثرون على أن الصوامع للرهبان والبيع للنصارى والصلوات لليهود والمساجد للمسلمين
ولعل تأخير ذكرها مع أن الظاهر تقديمها لشرفها لأن الترتيب الوجودي كذلك أو لتقع في جوار مدح أهلها أو للتبعيد من قرب التهديم ولعل تأخير صلوات عن بيع مع مخالفة الترتيب الوجودي له للمناسبة بينها وبين المساجد كذا قيل وقيل إنما جيء المتعبدات على هذا النسق للإنتقال من شريف إلى أشرف فإن البيع أشرف من الصوامع لكثرة العباد فيها فإنها للرهبان وغيرهم والصوامع مع معبد للرهبان فقط وكنائس اليهود أشرف من البيع لأن حدوثها أقدم وزمان العبادة فيها أطول والمساجد أشرف كم الجميع لأن الله تعالى قد عبد فيها بما لم يعبد به في غيرها
ولعل المراد من قوله تعالى لهدمت الخ المبالغة في ظهور الفساد ووقوع الإختلال في أمر العباد لو لا تسليط الله تعالى المحقين على المبطلين لا مجرد تهديم متعبدات للمليين يذكر فيها اسم الله كثيرا في موضع الصفة لمساجد وقال الضحاك ومقاتل والكلبي : في موضع الصفة للجميع واستظهره أبو حيان وكون كون بيان ذكر الله عز و جل في الصوامع والبيع والكنائس بعد انتساخ شرعيتها مما لا يقتضيه المقام ليس بشيء لأن الإنتساخ لا ينافي بقاءها ببركة ذكر الله تعالى فيها مع أن معنى الآية عام لما قبل الإنتساخ كما مر
ولينصرن الله من ينصره وبالله لينصرن الله تعالى من ينصر دينه أو من ينصر أولياءه ولقد أنجز الله تعالى وعده حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم إن الله لقوي على ما يريده من مراداته التي من جملتها نصرهم عزيز
40
- لا يمانعه شيء ولا يدافعه الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وصف للذين أخرجوا مقطوع أو غير مقطوع وجوز أن يكون بدلا والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر والمراد بالأرض جنسها وقيل مكة والمراد بالصلاة الصلاة المكتوبة وبالزكاة الزكاة المفروضة وبالمعروف التوحيد وبالمنكر الشرك على ما روي عن زيد بن أسلم
ولعل الأولى في الأخيرين التعميم والوصف بما ذكر كما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه ثناء قبل بلاء يعني أن الله تعالى أثنى عليهم أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا قالوا : وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم وذلك على ما في الكشف لأن الآية مخصوصة بالمهاجرين لأنهم المخرجون بغير حق والممكنون في الأرض منهم الخلفاء دون غيرهم فلو لم تثبت الأوصاف الباقية لزم الخلف في المقال تعالى الله سبحانه عنه لدلالته على أن كل ممكن منهم يلزمه التوالي لعموم اللفظ ولما كان التمكين واقعا تم الإستدلال دون نظر إلى استدعاء الشرطية الوقوع كالكلام المقرون بلعل وعسى العظماء فإن لزوم التالي مقتضى اللفظ لا محالة ولما وقع المقدم لزم وقوعه أيضا وفي ثبوت التالي ثبوت حقية الخلافة البتة وهي واردة على صيغة
(17/164)

الجمع المنافية للتخصيص بعلى وحده رضي الله تعالى عنه وعن الحسن وأبي العالية هم أمة محمد صلى الله عليه و سلم والأولى على هذا أن يجعل الموصول بدلا من قوله تعالى من ينصره كما أعربه الزجاج وكذا يقال على ما روي عن ابن عباس أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون وعلى ما روي عن أبي نجيح أنهم الولاة
وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي إلا الأول ولله خاصة عاقبة الأمور
41
- فإن مرجعها إلى حكمه تعالى وتقديره فقط وفيه تأكيد للوعد بإعلاء كلمته وإظهار أوليائه وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود
42
- وقوم إبراهيم وقوم لوط
43
- وأصحاب مدين تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وصيغة المضارع في الشرط مع تحقق التكذيب لما أن المقصود تسليته عليه الصلاة و السلام عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع أو للإشارة إلى أنه مما لا ينبغي تحققه وإلحاق كذب تاء التأنيث لأن الفاعل وهو قوم اسم جمع يجوز تذكيره وتأنيثه ولا حاجة لتأويله بالأمة أو القبيلة كما فعل أبو حيان ومن تبعه وفي اختيار التأنيث حظ لقدر المذكبين ومفعول كذب محذوف لكمال ظهور المراد
وجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي فعلت التكذيب واستغنى في عاد وثمود عن ذكر القوم لاشتهارهم بهذا الاسم الأخضر والأصل في التعبير العلم فلذا لم يقل قوم صالح وقوم هود ولا علم لغير هؤلاء ولم يقل وقوم شعيب قيل لأن قومه المكذبين له عليه السلام هم هؤلاء دون أهل الأيكة لأنهم وإن أرسل عليه السلام إليهم فكذبوه أجنبيون وتكذيب هؤلاء أيضا أسبق وأشد والتخصيص لأن التسلية للنبي عليه الصلاة و السلام عن تكذيب قومه أي وإن يكذبك قومك فاعلم أنك لست بأوحدي في ذلك فقد كذبت قبل تكذيب قومك إياك قوم نوح الخ وكذب موسى المكذب له عليه السلام هم القبط وليسوا قومه بل قومه عليه السلام بنو إسرائيل ولم يكذبوه بأسرهم ومن كذبه منهم تاب إلا اليسير وتكذيب اليسير من القوم كلا تكذيب ألا ترى أن تصديق اليسير من المذكورين قبل عد كلا تصديق ولهذا لم يقل وقوم موسى كما قيل قوم نوح وقوم إبراهيم وأما أنه لم يقل والقبط بل أعيد الفعل مبنيا للمفعول فللايذان بأن تكذيبهم له عليه الصلاة و السلام في غاية الشناعة لكون آياته في كمال الوضوح فأمليت للكافرين أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم والفاء لترتيب أمهال كل فريق من فرق المكذبين على تكذيب ذلك الفريق لا لترتيب أمهال الكل على تكذيب الكل ووضع الظاهر موضع المضمر العائد على المكذبين لذمهم بالكفر والتصريح بمكذبي موسى عليه السلام حيث لم يذكروا فيما قبل تصريحا ثم أخذتهم أي أخذت كل فريق من فريق المكذبين بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله والأخذ كتابة على الإهلاك فكيف كان نكير
44
- أي إنكاري عليهم بتغيير ما هم عليه من الحياة والنعمة وعمارة البلاد وتبديله لضده فهو مصدر من نكرت عليه إذا فعلت فعلا يردعه بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار وياء الضمير المضاف إليها محذوفة للفاصلة وأثبتها بعض القراء والإستفهام للتعجب كأنه قيل فما أشد ما كان إنكاري عليهم وفي الجملة إرهاب لقريش وقوله تعالى فكأين من قرية منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى أهلكناها أي فأهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها والجملة بدل من قوله
(17/165)

سبحانه فكيف كان نكير أو مرفوع على الإبتداء وجملة أهلكناها خبره فكثير من القرى أهلكناها واختار هذا أبو حيان قال : الأجود في إعراب كأين أي تكون مبتدأ وكونها منصوبة بفعل مضمر قليل
وقرأ أبو عمرو وجماعة أهلكتها بتاء المتكلم على وفق فأمليت للكافرين ثم أخذتهم ونسبة الإهلاك إلى القرى مجازية والمراد إهلاك أهلها ويجوز أن يكون الكلام بتقدير مضاف وقيل : الإهلاك استعارة لعدم الإنتفاع بها بإهلاك أهلها وقوله تعالى وهي ظالمة جملة حالية من مفعول أهلكنا وقوله تعالى فهي خاوية عطف على أهلكناها فلا محل له من الإعراب أو محله الرفع كالمعطوف عليه ويجوز عطفه على جملة كأين الخ الإسمية واختاره بعضهم لقضية التشاكل والفاء غير مانعة بناء على ترتيب الخواء على الإهلاك لأنه على نحو زيد أبوك فهو عطوف عليك وجوز عطفه على الجملة الحالية واعترض بأن خواءها ليس في حال إهلاك أهلها بل بعده وأجيب بأنها حال مقدرة ويصح عطفها على الحال المقارنة أو يقال : هي حال مقارنة أيضا بأن يكون إهلاك الأهل بخوائها عليهم ولا يخفى أن كلا الجوابين خلاف الظاهر والخواء إما بمعنى السقوط من خوى النجم وإذا سقط وقوله تعالى على عروشها متعلق به والمراد بالعروش السقوف والمعنى فهي ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف وإسناد السقوط على العروش إليها لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه وإما بمعنى الخلو من خوت الدار تخوي خواء إذا خلت من أهلها ويقال : خوى البطن يخوى خوى إذا خلا من الطعام وجعل الراغب أصل معنى الخواء هذا وجعل خوى النجم من ذلك فقال : يقال خوى النجم وأخوى إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيها بذلك فقوله تعالى على عروشها إما متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا و على بمعنى مع أي فهي خالية مع بقاء عروشها وسلامتها ويجوز على تفسير الخواء بالخلو أن يكون على عروشها خبرا بعد خبر أي فهي خالية وهي على عروشها أي قائمة مشرفة على عروشها على أن السقوف سقطت على الأرض وبقيت الحيطان قائمة وهي مشرفة على السقوف الساقطة وإسناد الإشراف إلى الكل مع كونه حال الحيطان لما مر آنفا وبئر معطلة عطف على قرية والبئر من بأرت أي حفرت وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول وقد تذكر على معنى القليب وتجمع على أبار وآبار وأبؤر وأأبر وبيار وتعطيل الشيء أبطال منافعه أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يسقى منها لهلاك أهلها وقرأ الجحدري والحسن وجماعة معطلة بها لتخفيف من أعطله بمعنى عطله
وقصر مشيد
45
- عطف على ما تقدم أيضا أي وكم قصر مرفوع البنيان أو مبني بالكسر أي الجص أخليناه عن ساكنيه كما يشعر به السياق ووصف البئر بمعطلة قيل وهذا يؤيد كون معنى خاوية على عروشها خالية مع بقاء عروشها وفي البحر ينبغي أن يكون بئر وقصر من حيث عطفهما على قرية داخلين معها في حيز الإهلاك مخبرا به عنهما بضرب من التجوز أي وكم بئر معطلة وقصر مشيد أهلكنا أهلهما
وزعم بعضهم عطفهما على عروشها وليس بشيء وظاهر التنكير فيهما عدم إرادة معين منهما وعن ابن عباس أن البئر كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني
(17/166)

وعن الضحاك وغيره أن القصر على قلة جبل بحضرموت والبئر بسفحه وأن صالحا عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وسميت حضرموت بفتح الراء والميم ويضمان ويبنى ويضاف لأن صالحا عليه السلام حين حضرها مات وعند البئر بلدة اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمروا عليها جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى عن آخرهم وعطل سبحانه بئرهم وقصرهم
وجوز أن يكون إرادة ذلك بطريق التعريض وفيه بعد أفلم يسيروا في الرض حث لهم على السفر للنظر واعتبار بمصارع الهالكين هذا إن كانوا لم يسافروا وإن كانوا سافروا فهو حث على النظر والإعتبار وذكر المسير لتوقفه عليه وجوز أن يكون الإستفهام للإنكار أو التقرير وأيا ما كان فالعطف على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى : فتكون لهم منصوب في جواب الإستفهام عند ابن عطية وفي جواب التقرير عند الحوفي وفي جواب النفي عند بعض ومذهب البصريين أن النصب بإضمار أن ينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على يسيروا وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب وهو كما ترى ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها
وقرأ مبشر بن عبيد فيكون بالياء التحتية قلوب يعقلون بها أي يعلمون بها ما يجب أن يعلم من التوحيد فمفعول يعقلون محذوف لدلالة المقام عليه وكذا يقال في قوله تعالى : أو آذان يسمعون بها أي يسمعون بها ما يجب أن يسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف منهم بحالهم فإنها لا تعمى البصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
46
- ضمير فإنها للقصة فهو مفسر بالجملة بعده ويجوز في مثله التذكير باعتبار الشأن وعلى ذلك قراءة عبد الله فإنه وحسن التأنيث هنا وقوع ما فيه تأنيث بعده وقيل : يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بالإبصار وكان الأصل فإنها الأبصار لا تعمى على أن جملة لا تعمى من الفعل والفاعل المستتر خبر بعد خبر فلما ترك الخبر الول أقيم الظاهر مقام الضمير لعدم ما يرجع إليه ظاهرا فصار فاعلا مفسرا للضمير واعترضه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن الضمير المفسر بمفرد بعده محصور في أمور وهي باب رب وباب نعم وبئس وباب الأعمال وباب البدل وباب المبتدأ والخبر وما هنا منها ورد بأنه من باب المبتدا والخبر نحو إن هي إلا حياتنا الدنيا ولا يضره دخول الناسخ وفيه نظر والمعنى أنه لا يعتد بعمى الأبصار وإنما يعتد بعمى القلوب فكأن عمى الأبصار ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب فالكلام تذييل لتهويل ما بهم من عدم فقه القلب وأنه العمى الذي لا عمى بعده بل لا عمى إلا هو أو المعنى إن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما بقلوبهم فكأنه قيل : أفلم يسيروا فتكون لهم قلوب ذات بصائر فإن الآفة ببصائر قلوبهم لا بإبصار عيونهم وهي الآفة التي كل آفة دونها كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعى عليهم تقاعدهم عنها ووصف القلوب بالتي في الصدور على ما قال الزجاج للتأكيد كما في
(17/167)

قوله تعالى : يقولون بأفواههم وقولك : نظرت بعيني
وقال الزمخشري : قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة ومثل فلما أريد إثبات ما هو خلاف المتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيف وهو في حكم قولك : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا
وهذه الآية على ما قيل نزلت في ابن مكتوم حين سمع قوله تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى فقال : يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى وربما يرجح بهذه الرواية إن صحت المعنى الأول إذ حصول الجواب بالآية عليه ظاهر جدا فكأنه قيل له : أنت لا تدخل تحت عموم ومن كان الخ لأن عمى الأبصار في الدنيا ليس بعمى في الحقيقة في جنب عمى القلوب والذي يدخل تحت عموم ذلك من اتصف بعمى القلوب وهذا يكفي في الجواب سواء كان معنى قوله تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة كذلك أو ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى البصر لأنه فيها تبلى السرائر فيظهر عمى القلب بصورة عمى البصر نعم في صحة الرواية نظر
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية : ذكر لنا أنها نزلت في عبد الله بن زائدة يعني ابن أبي مكتوم ولا يخفى حكم الخبر إذا روي هكذا واستدل بقوله تعالى أفلم يسيروا الخ على استحباب السياحة في الأرض وتطلب الآثار
وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب التفكر عن مالك بن دينار قال : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اتخذ نعلين من حديد وعصا ثم سح في الأرض فاطلب الآثار والعبر حتى تحفى النعلان وتنكسر العصا وبقوله تعالى فتكون الخ على أن محل العقل القلب لا الرأس قاله الجلال السيوطي في أحكام القرآن العظيم
وقال الإمام الرازي : في الآية دلالة على أن العقل هو العلم وعلى أن محله هو القلب وأنت تعلم أن كون العقل هو العلم هو اختيار أبي إسحاق الأسفرائيني واستدل عليه بأنه يقال لمن عقل شيئا علمه ولمن علم شيئا عقله وعلى تقدير التغاير لا يقال ذلك وهو غير سديد لأنه إن أريد بالعلم كل علم يلزم منه أن لا يكون عاقلا من فاته بعض العلوم مع كونه محصلا لما عداه وإن أريد بعض العلوم فالتعريف غير حاصل لعدم التمييز وما ذكر من الإستدلال غير صحيح لجواز أن يكون العلم مغايرا للعقل وهما متلازمان وقال الأشعري : لا فرق بين العقل والعلم إلا في العموم والخصوص والعلم أعم من العقل إذا علم مخصوص فقيل : هو العلم الصارف عن القبيح الداعي إلى الحسن وهو قول الجبائي وقيل : هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين وهو قول لبعض المعتزلة أيضا ولهم أقوال أخر والذي اختاره القاضي أبو بكر أنه بعض العلوم الضرورية كالعلم باستحالة اجتماع الضدين وأنه لا واسطة بين النفي والإثبات وأن الموجود لا يخرج عن أن يكون قديما أو حادثا ونحو ذلك واحتج إمام الحرمين على صحة ذلك وإبطال ما عداه بما ذكره الآدمي في أبكار الفكار بما له وعليه واختار المحاسبي عليه الرحمة أنه غريزة يتوصل بها إلى المعرفة ورد بأنه إن أراد بالغريزة العلم
(17/168)

لزمه ما لزم القائل بأنه العلم وإن أراد غير العلم فقد لا يسلم وجود أمر وراء العلم يتوصل به إلى المعرفة
وقال صاحب القاموس بعد نقل عدة أقوال في العقل : والحق أنه نور روحاني به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى ثم إن في محلية القلوب للعلم خلافا بين العقلاء فالمشهور عن الفلاسفة أن محل العلم المتعلق بالكليات والجزئيات المجردة النفس الناطقة ومحل العلم المتعلق بالجزئيات الماديةقوى جسمانية قائمة بأجزاء من البدن وهي منقسمة إلى خمس ظاهرة وخمس باطنة وتسمى الأولى الحواس الظاهرة والثانية الحواس الباطنة وأمر كل مشهور
وزعم بعض متفلسفة المتأخرين أن المدرك للكليات والجزئيات إنما هو النفس والقوى مطلقا غير مدركة بل آلة في إدراك النفس وذهب إليه بعض منا وفي أبكار الفكار بعد نقل قولي الفلاسفة واما أصحابنا فالبنية المخصوصة غير مشترطة عندهم بل كل جزء من أجزاء بدن الإنسان إذا قام به إدراك وعلم علم فهو مدرك عالم وكون ذلك مما يقوم بالقلب أو غيره مما لا يجب عقلا ولا يمتنع لكن دل الشرع على القيام بالقلب لقوله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وقوله سبحانه فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقوله عز و جل أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها انتهى ولا يخفى أن الإستدلال بما ذكر على محلية القلب للعلم لا يخلو عن شيء نعم لا ينكر دلالة الآيات على أن للقلب الإنساني لما أودع فيه مدخلا تاما في الإدراك والوجدان يشهد بمدخلية ما أودع في الدماغ في ذلك أيضا ومن هنا لا أرى للقول بأن لأحدهما مدخلا دون الآخر وجها وكون الإنسان يضرب على رأسه فيذهب عقله لا يدل على أن لما أودع في الدماغ لا غير مدخلا في العلم كما لا يخفى على من له قلب سليم وذهن مستقيم فتامل
ويستعجلونك بالعذاب الضمير لقريش كان صلى الله عليه و سلم يحذرهم عذاب الله تعالى ويوعدهم مجيئه ينكرون ذلك أشد الإنكار ويطلبون كجيئه استهزاء وتعجيزا صلى الله عليه و سلم فأنكر عليهم ذلك فالجملة خبر لفظا واستفهام وإنشاء معنى وقوله تعالى ولن يخلف الله وعده جملة حالية جيء بها لبيان بطلان إنكارهم العذاب في ضمن استعجالهم به كأنه قيل : كيف تنكرون مجيء العذاب الموعود والحال أنه تعالى لا يخلف وعده وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه أو اعتراضية لما ذكر أيضا وقوله تعالى وأن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
47
- جملة مستأنفة إن كانت الأولى حالية ومعطوفة عليها إن كانت اعتراضية سيقت لتحقيق إنكار الإستعجال وبيان خطئهم ببيان كمال ساحة حمله تعالى وإظهار غاية ضيق عطنهم المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى مددا طوالا عندهم حسبما ينطق به قوله تعالى إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ولذا يرون مجيئه ويتخذونه ذريعة إلى إنكارهم على الإستعجال به ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها وقوعا وإخبارا ما عنده من المقدار وقراءة الأخوين وابن كثير يعدون على صيغة الغيبة أي يعده المستعجلون أوفق لهذا المعنى وقد جعل الخطاب في قراءة الجمهور لهم أيضا بطريق الإلتفات لكن الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه و سلم ومن معه من المؤمنين وقيل : المراد بوعده تعالى ما جعل لهلاك كل أمة من موعد معين وأجل مسمى كما في قوله تعالى : يستعجلونك بالعذاب ولو لا أجل مسمى لجاءهم العذاب فتكون الجملة الولى مطلقا مبينة لبطلان الإستعجال
(17/169)

به ببيان استحالة مجيئه قبل وقته الموعود والجملة الأخيرة بيان لبطلانه ببيان ابتنائه على استطالة ما هو قصير عنده تعالى على الوجه المار بيانه وحينئذ لا يكون في النظم الكريم تعرض لإنكارهم مجيئه الذي دسوه تحت الإستعجال ويكتفي في رد ذلك ببيان عاقبة من قبلهم من أمثالهم وأياما كان فالعذاب المستعجل به العذاب الدنيوي وهو الذي يقتضيه السباق والسياق وقيل : المراد بالعذاب الأخروي والمراد باليوم المذكور يوم ذلك العذاب واستطالته لشدته فغن أيام الترحة مستطلة وأيام الفرحة مستقصرة كما قيل : تمتع بأيام السرور فإنها قصار وأيام الهموم طوال وعلى ذلك جاء قوله : ليلى وليلى نفي نومي واختلافهما بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا يجود بالطول ليلى كلما بخلت بالطول ليلى وأن جادت به بخلا فيكون قد رد عليهم إنكار مجيء العذاب بالجملة الولى وأنكر عليهم الإستعجال به وإن كان ذلك على وجه الإستهزاء بالجملة الثانية فكأنه قيل : كيف تنكرون مجيئه وقد سبق الوعد ولن يخلف الله تعالى وعده فلا بد من مجيئه حتما تستعجلون به واليوم الواحد من أيامه لشدته يرى كألف سنة مما تعدون ويقال نحو ذلك على القول بأن المراد باليوم أحد أيام الآخرة فإنها اعتبرت طوالا أو أنها تستطال لشدة عذابها
واعترض بأن ذلك مما لا يساعده السباق ولا السياق وقال الفراء : تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة وأريد بالعذاب المستعجل به عذاب الدنيا أي لن يخلف الله تعالى وعده في إنزال العذاب بكم في الدنيا وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى
واستدل المعتزلة بقوله تعالى : لن يخلف الله وعده على أن الله سبحانه لا يغفر للعصاة لأن الوعد فيه بمعنى الوعيد وقد أخبر سبحانه أنه لا يخلفه والمغفرة تستلزم الخلف المستلزم للكذب المحال عليه تعالى
وأجاب أهل السنة بأن وعيدات سائر العصاة إنشاءات أو إخبارات عن استحقاقهم ما أوعدوا به لا عن إيقاعه أو هي إخبارات عن إيقاعه مشروطة بعد العفو وترك التصريح بالشرط بزيادة الترهيب ولا كذلك وعيدات الكفار فإنها محض إخبارات عن الإيقاع غير مشروطة بشرط أصلا كمواعيد المؤمنين والداعي للتفرقة الجمع بين الآيات وأنت تعلم أن ظاهر هذا أن وعيدات الكفار بالعذاب الدنيوي كوعيداتهم بالعذاب الأخروي لا يتطرقها عدم الوقوع فلا يجوز العفو عن عذابهم مطلقا متى وعد به وعندي في التسوية بين الأمرين تردد ويعلم من ذلك حال هذا الجواب على تقدير حمل العذاب في الآية على العذاب الدنيوي الأوفق للمقام والوعد على الوعد به وأجاب بعضهم هنا بأن المراد بالوعد تعالى بالنظرة والإمهال وهو مقابل للوعيد في نظر الممهل ولا خلاف في أن الله تعالى لا يخلف الوعد المقابل للوعيد وأن ما يؤدي به خبر محض لا شرط فيه وقيل : المراد به وعده تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بإنزال العذاب المستعجل به عليهم وذلك مقابل للوعيد من حيث أن فيه خيرا له عليه الصلاة و السلام ولا مانع من أن يكون شيء واحد خيرا وشرا بالنسبة إلى شخصين فقد قيل :
مصائب قوم عند قوم فوائد
وحينئذ لا دليل للمعتزلة في الآية على دعواهم
وكأين من قرية أي كم من سكنة قرية أمليت لها كما أمليت لهؤلاء حتى أنكروا مجيء ما وعد
(17/170)

من العذاب واستعجلوا به استهزاء وتعجيزا لرسلهم عليهم السلام كما فعل هؤلاء والجملة عطف على ما تقدمها جيء بها لتحقيق الرد كما تقدم فلذا جيء بالواو وجيء في نظيرتها السابقة بالفاء قيل : لأنها أبدلت من جملة مقرونة بها وفي إعادة الفاء تحقيق للبدلية وقيل : جيء بالفاء هناك لأن الجملة مترتبة على ما قبلها ولم يجيء بها هنا لعدم الترتب وقوله تعالى : وهي ظالمة جملة حالية مفيدة لكمال حلمه تعالى ومشعرة بطريق التعريض بظلم المستعجلين أي أمليت لها زالحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء ثم أخذتها بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال وإلي المصير
48
- أي إلى حكمي مرجع جميع الناس أو جميع أهل القرية لا إلى أحد غيري لا استقلالا ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل مما يليق بأعمالهم والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله مصرح بما أفاده ذلك بطرق التعريض من أن مآل أمر المستعجلين أيضا ما ذكر من الأخذ الوبيل
قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين
49
- ظاهر السياق يقتضي أن المراد بالناس المشركون فإن الحديث مسوق لهم فكأنه قيل : قل يا أيها المشركون المستعجلون بالعذاب إنما أنا منذر لكم إنذارا بينا بما أوحي إلي من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في إتيان ما تستعجلون من العذاب الموعود حتى تستعجلوني به فوجه الإقتصار على الإنذار ظاهر وأما وجه ذكر المؤمنين وثوابهم في قوله تعالى : فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم
50
- فالزيادة في إغاظة المشركين فهو بحسب المآل إنذار ويجوز أن يقال : إن قوله سبحانه : فالذين آمنوا الآية تفصيل لمن نجع فيه الإنذار من الناس المشركين ومن بقي منهم على كفره غير ناجع فيه ذلك كأنه قيل : إنذر يا محمد هؤلاء الكفرة المستعجلين بالعذاب وبالغ فيه فمن آمن ورجع عما هو عليه فله كذا ومن داوم على كفره واستمر على ما هو عليه فله كذا واختاره الطيبي وهو كما في الكشف حسن وعليه لا يكون التقسيم داخلا في المقول بخلاف الوجه الأول
وقال بعض المحققين : الناس عام للمؤمن والكافر والمنذر به قيام الساعة وإنما كان صلى الله عليه و سلم نذيرا مبينا لأن بعثه عليه الصلاة و السلام من إشراطها فاجتمع فيه الإنذار قالا وحالا بقوله أنا لكم نذير مبين كقوله صلى الله عليه و سلم الثابت في الصحيحين أنا النذير العريان وقد دل على ذلك تعقيب الخطاب بالإنذار تفصيل حال الفريقين عند قيامها أه
ولا ما نع منه لو لا ظاهر السياق وكون المؤمنين لا ينذرون لا سيما وفيهم الصالح والطالح مما لا وجه له ومن منع من العموم لذلك قال : التقدير عليه بشير ونذير ونقل هذا عن الكرماني ثم المغفرة تحتمل أن تكون لما ندر من الذين آمنوا من الذنوب وذلك لا ينافي وصفهم بعمل الصالحات وتحتمل أن تكون لما سلف منهم قبل الإيمان والرجوع عما كانوا عليه والمراد بالرزق الكريم هنا الجنة كما يشعر به وقوعه بعد المغفرة وكذلك في جميع القرءات على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي ومعنى الكريم في صفات غير الآدميين الفائق والذين سعوا في آياتنا أي بذلوا الجهد في إبطالها فسموها تارة سحرا وتارة
(17/171)

شعرا وتارة أساطير الأولين
وأصل السعي الإسراع في المشي ويطلق على الإصلاح والإفساد يقال : سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه معاجزين أي مسابقين للمؤمنين والمراد بمسابقتهم مشاقتهم لهم ومعارضتهم فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله وأصله من عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه فإن كلا من المتسابقين يريد إعجاز الآخر عن اللحاق
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني معجزين بالتشديد أي مثبطين الناس عن الإيمان وقال أبو علي الفارسي : ناسبين المسلمين إلى العجز كما تقول : فسقت فلانا إذا نسبته إلى الفسق وهو المناسب لقوله تعالى يستعجلونك بالعذاب وقرأ ابن الزبير معجزين بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزك إذا سبقك ففاتك قال صاحب اللوامح : والمراد هنا ظانين أنهم يعجزوننا وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون وفسر معاجزين في قراءة الجمهور بمثل ذلك والوصف على جميع القراءات حال من ضمير سعوا وليست مقدرة على شيء منها كما يظهر للتأمل أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجحيم
51
- أي ملازمو النار الشديدة التأجج وقيل هو اسم دركة من دركات النار
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته من الأولى ابتدائية والثانية مزيدة لاستغراق الجنس والجملة المصدرة بإذا في موضع الحال عند أبي حيان وقيل : في موضع الصفة وأفرد الضمير بتأويل كل واحد أو بتقدير جملة مثل الجملة المذكورة كما قيل في قوله تعالى : فالله ورسوله أحق أن يرضوه والظاهر أن إذا شرطية ونص على ذلك الحوفي لكن قالوا : إن إلا في النفي إما أن يليها مضارع نحو ما زيد إلا يفعل وما رأيت زيدا إلا يفعل أو يليها ماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله تعالى : وما يأتيهم من رسول إلا كانوا الخ أو يكون الماضي مصحوبا بقدر نحو ما زيد إلا قد قام ويشكل عليه هذه الآية إذ لم يلها فيها مضارع ولا ماض بل جملة شرطية فإن صح ما قالوه احتيج إلى التأويل وأول ذلك في البحر بأن إذا جردت للظرفية وقد فصل بها وبما أضيفت إليه بين إلا والفعل الماضي الذي هو ألقى وهو فصل جائز فتكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجد الشرط وعطف نبي على رسول يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع ويدل على المغايرة أيضا ما روي أنه صلى الله عليه و سلم سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل : فكم الرسل منهم قال : ثلثمائة وثلاثة عشرة جما غفيرا وقد أخرج ذلك كما قال السيوطي أحمد وابن راهوية في مسنديهما من حديث أبي أمامة وأخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر
وزعم ابن الجوزي أنه موضوع وليس كذلك نعم قيل في سندع ضعف جبر بالمتابعة وجاء في رواية الرسل ثلثمائة وخمسة عشر واختلفوا هنا في تفسير كل منهما فقيل : الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى بشرع جديد يدعو الناس إليه والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام وقيل الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن
(17/172)

جديدا في نفسه كإسماعيل عليه السلام إذ بعث لجرهم أولا والنبي يعمه ومن بعث بشرع غير جديد كذلك وقيل : الرسول ذكر حر له تبليغ في الجملة وإن كان بيانا وتفصيلا لشرع سابق والنبي من أوحى إليه ولم يؤمر بتبليغ أصلا أو أعم منه ومن الرسول وقيل : الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له وقيل : الرسول من له كتاب أو نسخ في الجملة والنبي من لا كتاب له ولا نسخ وقيل من يأتيه الملك عليه السلام بالوحي يقظة والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير : وهذا أغرب الأقوال ويقتضي أن بعض الأنبياء عليه السلام لم يوح إليه إلا مناما وهو بعيد ومثله لا يقال بالرأي
وأنت تعلم أن المشهور أن النبي في عرف الشرع أعم من الرسول فإنه من أوحى إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا والرسول من أوحي إليه وأمر بالتبليغ ولا يصح إرادة ذلك لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورا بالتبليغ فيكون رسولا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع جديد وبالنبي من بعث لتقرير شرع من قبله أو يراد بالرسول من بعث بكتاب وبالنبي من بعث بغير كتاب أو يراد نحو ذلك مما يحصل به المقابلة مع تعلق الإرسال بهما والتمني على ما قال أبو مسلم نهاية التقدير ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله تعالى والأمنية على ما قال الراغب الصورة الحاصلة في النفس من التمني وقال غير واحد : التمني القراءة وكذا الأمنية وأنشدوا قبول حسان في عثمان رضي الله تعالى عنهما : تمنى كتاب الله أول ليلة تمني داود الزبور على رسل وفي البحر أن ذلك راجع إلى الأصل المنقول عن أبي مسلم فإن التالي يقدر الحروف ويتصورها فيذكرها شيئا فشيئا والمراد بذلك هنا عند كثير القراءة والآية مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه و سلم بأن السعي في إبطال الآيات أمر معهود وأنه لسعي مردود والمعنى وما أرسلنا من قبلك رسول ولا نبيا إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئا من الآيات ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به كما قال تعالى وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وقال سبحانه وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلى الله عليه و سلم حرم عليكم الميتة إنه يحل ذبيح نفسه ويحرم ذبيح الله تعالى وقولهم على ما في بعض الروايات عند سماع قراءته عليه الصلاة و السلام إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم إن عيسى عبد من دون الله تعالى والملائكة عليهم السلام عبدوا من دون الله تعالى فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ويذهب به بتوفيق النبي صلى الله عليه و سلم لرده أو بإنزال ما يرده ثم يحكم الله آياته أي يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بوجه من الوجوه و ثم للتراخي التربي فإن الإحكام أعلا رتبة من النسخ وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على الإستمرار التجددي وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بان الألوهية من موجبات أحكام آياته تعالى الباهرة ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار الشيطان والله عليم مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه حكيم
52
- في كل
(17/173)

ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها والإظهار ههنا لما ذكر أيضا مع ما فيه من تأكيد استقلال الإعتراض التذييلي ليجعل ما يلقى الشيطان أي الذي يلقيه وقيل : إلقاءه فتنة أي عذابا وفي البحر ابتلاء واختيارا للذين في قلوبهم مرض أي شك ونفاق وهو المناسب لقوله تعالى في المنافقين في قلوبهم مرض وتخصيص المرض بالقلب مؤيد له لعدم إظهار كفرهم بخلاف الكافر المجاهر والقاسية قلوبهم أي الكفار المجاهرين وقيل : المراد من الأولين عامة الكفار ومن الأخيرين خواصهم كأبي جهل والنضر وعتبة وحمل الأولين على الكفار مطلقا والأخيرين على المنافقين لأنهم أحق بوصف القسوة لعدم انجلاء صدإ قلوبهم بصقيل المخالطة للمؤمنين ليس بشيء
وإن الظالمين أي الفريقين المذكورين فوضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم مع ما وصفوا به من المرض والقسوة لفي شقاق بعيد
53
- أي عداوة شديدة ومخالفة تامة ووصف الشقاق بالبعد مع أن الموصوف به حقيقة هو معروضه للمبالغة والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ولام ليجعل للتعليل وهو عند الحوفي متعلق بيحكم وعند ابن عطية بينسخ وعند غيرهما بألقى لكن التعليل لما ينبيء عنه إلقاء الشيطان من تمكنه تعال إياه من ذلك في حق النبي صلى الله عليه و سلم خاصة لعطف قوله تعالى وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك وكون ضمير أنه للقرآن وقيل لا حاجة للتخصيص وضمير أنه لتمكين الشيطان من الإلقاء أي وليعلم العلماء أن ذلك التمكين هو الحق المتضمن للحكمة البالغة لأنه مما جرت به عادته تعالى في جنس الإنس من لدن آدم عليه السلام وضميرا به وله في قوله تعالى فيؤمنوا به أي يثبتوا على الإيمان أو يزدادوا إيمانا فتخبت له قلوبهم بالإنقياد والخشية للقرآن على التخصيص وللرب على التعميم وجعلهما لتمكين الشيطان لا سيما الثاني مما لا وجه له
ورجح ما قاله ابن عطية بأن أمر التعليل عليه أظهر أي فينسخ الله تعالى ما يلقيه الشيطان ويرده ليجعله بسبب الرد وظهور فساد التمسك به عذابا للمنافقين والكافرين أي سببا لعذابهم حيث استرسلوا معه مع ظهور فساده أو اختبارا لهم هل يرجعون عنه وليعلم الذين أوتوا العلم أن القرآن مو الحق حيث بطل ما أورد من الشبه عليه ولم يبطل هو وقد يقال مثل ذلك على ما ذهب إليه الحوفي ولا يبعد أن يكون قوله تعالى ليجعل الخ متعلقا بمحذوف أي فعل ذلك ليجعل الخ والإشارة إلى النسخ والأحكام ويجعل ليجعل علة النسخ وليعلم علة لفعل الإتيان بالآيات محكمة ويجوز أن تكون الإشارة إلى التمكين المفهوم مما تقدم مع النسخ والإحكام ويجعل ليجعل علة لفعل التمكن وما بعد علة لما بعد ويجوز أيضا أن ترجع الضمائر في أنه وبه وله للموحي الذي يقرأه كل من الرسل والإنبياء عليهم السلام المفهوم من الكلام فلا حاجة للتخصيص وأياما كان فقوله تعالى : وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم
54
- اعتراض مقرر لما قبله والمراد بالذين آمنوا المؤمنين من هذه المة على تقدير التخصيص أو المؤمنون مطلقا على تقدير التعميم والمراد بالصراط المستقيم النظر الصحيح الموصل إلى الحق الصريح أي إنه تعالى لهادي المؤمنين في الأمور الدينية خصوصا في المداحض والمشكلات التي من جملتها رد شبه الشياطين عن آيات الله عز و جل
(17/174)

وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة لهاد بالتنوين
ولا يزال الذين كفروا في مرية أي في شك منه أي من القرآن وقيل : من الرسول ويجوز أن يرجع الضمير إلى الموحي على ما سمعت و من على جميع ذلك ابتدائية وجوز أن يرجع إلى ما ألقى الشيطان واختير عليه أن من سببية فإن مرية الكفار فيما جاءت به الرسل عليهم السلام بسبب ما ألقى الشيطان في الموحي من الشبه والتخيلات فتأمل حتى تأتيهم الساعة أي القيامة نفسها كما يؤذن به قوله تعالى : بغتة أي فجأة فإنها الموصوفة بالإتيان كذلك وقيل : أشراطها على حذف المضاف أو على التجوز
وقيل : الموت على أن التعريف في الساعة للعهد أو يأتيهم عذاب يوم عقيم
55
- أي منفرد عن سائر الأيام لا مثل له في شدته أو لا يوم بعده كأن كل يوم يلد ما بعده من اليام فما لا يوم بعده يكون عقيما والمراد به الساعة بمعنى يوم القيامة أيضا كأنه قيل أو يأتيهم عذابها فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل والتخويف
و أو في محلها لتغاير الساعة وعذابها وهي لمنع الخلو وكان المراد المبالغة في استمرارهم على المرية وقيل : المراد بيوم عقيم يوم موتهم فإنه لا يوم بعده بالنسبة إليهم وقيل : المراد به حرب يقتلون فيه ووصف بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم وفيه على الول مجاز في الإسناد ومجاز في المفرد من جعل الثكل عقما وكذا على الثاني لأن الولود والعقيم هو الحرب على سبيل الإستعارة بالكناية فإذا وصف يوم الحرب بذلك كان مجازا في الإسناد ومن ثم قيل : إنه مجاز موجه من قولهم ثوب موجه له وجهان وقيل : هو الذي لا خير فيه يقال : ريح عقيم إذا لم تنشيء مطرا ولم تلقح شجرا وفيه على هذا استعارة تبعية لأن ما في اليوم من الصفة المانعة من الخير جعل بمنزلة العقم وخص غير واحد هذا اليوم بيوم بدر فإنه يوم حرب قتل فيه عتاة الكفرة ويوم لا خير فيه لهم ويصح أيضا أن يكون وصفه بعقيم لتفرده بقتال الملائكة عليهم السلام فيه وأنت تعلم أن الظاهر مما يأتي بعد إن شاء الله تعالى تعين تفسير هذا اليوم بيوم القيامة هذا وجوز أن يراد من الشيطان شيطان الإنس كالنضر بن الحرث كأن يلقى الشبه إلى قومه وإلى الوافدين يثبطهم بها عن الإسلام وقيل : ضمير أمنيته للشيطان والمراد بها الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء و في للسببية مثلها في قوله صلى الله عليه و سلم إن امرأة دخلت النار في هرة أي ألقى الشيطان بسبب أمنيته الشبه وأبداها ليبطل بها الآيات
وقيل : تمني قرأ و أمنيته قراءته والضمير للنبي أو الرسول و في على ظاهرها والمراد بما يلقى الشيطان ما يقع للقاريء من إبدال كلمة بكلمة أو حرف بحرف أو تغيير إعراب سهوا وقيل : المراد ما يلقيه في الآيات المتشابهة من الإحتمالات التي ليست مرادا لله تعالى وقيل تمنى هيأ وقدر في نفسه ما يهواه و أمنيته قراءته والمعنى إذا تمنى إيمان قومه وهدايتهم ألقى الشيطان إلى أوليائه شبها فينسخ الله تعالى تلك الشبه ويحكم الآيات الدالة على دفعها وقيل : تمنى قدر في نفسه ما يهواه و أمنيته تشهيه وما يلقيه الشيطان ما يوجب اشتغاله في الدنيا وجعله فتنة باعتبار ما يظهر منه من الإشتغال بأمور الدنيا ونسخه إبطاله بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يزيغه
(17/175)

وقيل : تمنى قرأ و أمنيته قراءته وما يلقى الشيطان كلمات تشابه الوحي يتكلم بها الشيطان بحيث يظن السامع أنها من قراءة النبي وقد روي أن الآية نزلت حين قرأ عليه الصلاة و السلام أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فألقى الشيطان في سكتته محاكيا نغمته عليه الصلاة و السلام بحيث يسمعه من حوله تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي فظن المشركون أنه عليه الصلاة و السلام هو المتكلم بذلك ففرحوا وسجدوا معه لما سجد آخر السورة وقيل : المتكلم بذلك بعض المشركين وظن سائرهم أنه عليه الصلاة و السلام هو المتكلم به وقيل : إنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي تكلم بذلك عامدا لكن مستفهما على سبيل الإنكار والإحتجاج على المشركين وجعل من إلقاء الشيطان لما ترتب عليه من ظن المشركين أنه مدح لآلهتهم ولا يمنع ذلك أنه عليه الصلاة و السلام كان يصلي لأن الكلام في الصلاة كان جائزا إذ ذاك وقيل : بل كان ساهيا فقد أخرج عبد بن حميد من طريق يونس عن ابن شهاب قال : حدثني أبو بكر ابن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم والنجم فلما بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى قال : إن شفاعتهن ترتجي وسها رسول الله عليه الصلاة و السلام ففرح المشركون بذلك فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا إنما ذلك من الشيطان فأنزل الله تعالى وما أرسلنا حتى بلغ عذاب يوم عقيم قال الجلال السيوطي : وهو خبر مرسل صحيح الإسناد وقيل : تكلم بذلك ناعسا
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : بينا نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان على لسانه كلمة فتكلم فقال : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وإن شفاعتهن لترتجي وإنها لمع الغرانيق العلا فحفظها المشركون وأخبرهم الشيطان أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد قرأها فنزلت ألسنتهم فأنزل الله تعالى وما أرسلنا الآية وقيل : تمنى قدر في نفسه ما يهواه و أمنيته قراءته وما يلقى الشيطان كلمات تشابه الوحي فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة النجم قال : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان عندها كلمات فقال : وإنهن لهن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لهي التي ترتجي وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وزلت بهما ألسنتهم وتباشروا بهما وقالوا إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله تعالى وما أرسلنا الآيات وقيل : إن النبي صلى الله عليه و سلم حين ألقاها الشيطان تكلم بها ظانا وحي حتى نبه جبريل عليه السلام ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة النجم فلما بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن
(17/176)

شفاعتهن لترتجي قالوا : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا ثم جاءه جبريل عليهما الصلاة والسلام بعد ذلك فقال : أعرض على ما جائتك به فلما بلغ تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي قال له جبريل عليهما السلام : لم آتك بهذا هذا من الشيطان فأنزل الله تعالى وما أرسلنا الآية
وأخرج البزار والطبري وابن مردوية والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد عن ابن عباس نحو ذلك لكن ليس فيه حديث السجود وفيه أيضا مغايرة يسيرة غير ذلك وجاء حديث السجود في خبر آخر عنه أخرجه البزاز وابن مردوية أيضا من طريق أمية بن خالد عن شعبة لكن قال في إسناده : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب فشك في وصله وفي رواية أبي حاتم عن السدي أن جبريل عليه السلام قال له عليه الصلاة و السلام حين عرض عليه ذلك : معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا فاشتد عليه الصلاة و السلام فأنزل الله تعالى وطيب نفسه وما أرسلنا الآية قيل : ولمشابهة ما ألقى الشيطان للوحي المنزل وكونه في أثنائه أطلق على إبطاله اسم النسخ الشائع إيقاعه على ما هو وحي حقيقة لكن لا يخفى أن النسخ الشرعي لا يتعلق بنحو ما ذكر من الأخبار فلا بد من تأويل ما لذلك وقد أنكر كثير من المحققين هذه القصة فقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل وقال القاضي عياض في الشفاء : يكفيك في توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم
وفي البحر أن هذه القصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف في ذلك كتابا وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب حصص الأتقياء الصواب أن قوله : تلك الغرانيق العلا من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين ليرتابوا في صحة الدين وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية وذكر غير واحد أنه يلزم على القول بأن الناطق بذلك النبي صلى الله عليه و سلم بسبب إلقاء الشيطان الملبس بالملك أمور منها تسلط الشيطان عليه عليه الصلاة و السلام وهو صلى الله عليه و سلم بالإجماع معصوم من الشيطان لا سيما في مثل هذا من أمور الوحي والتبليغ والإعتقاد وقد قال سبحانه إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وقال تعالى إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا إلى غير ذلك ومنها زيادته صلى الله عليه و سلم في القرآن ما ليس منه وذلك مما يستحيل عليه الصلاة و السلام لمكان العصمة ومنها اعتقاد النبي صلى الله عليه و سلم ما ليس بقرآن أنه قرآن مع كونه بعيد الإلتئام متناقضا ممتزج المدح بالذم وهو خطأ شنيع لا ينبغي أن يتساهل في نسبته إليه صلى الله عليه و سلم ومنها أنه إما أن يكون عليه الصلاة و السلام عند نقطة بذلك متعقدا ما اعتقده المشركون من مدح آلهتهم بتلك الكلمات وهو كفر محال في حقه صلى الله عليه و سلم وإما أن يكون معتقدا معنى آخر مخالفا لما اعتقدوه ومياينا لظاهر العبارة ولم يبينه لهم مع فرحهم وادعائهم أنه مدح آلهتهم فيكون مقرا لهم على الباطل وحاشاه صلى الله عليه و سلم أن يقر على ذلك ومنها كونه صلى الله عليه و سلم اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما يلقيه عليه الملك وهو يقتضي أنه عليه الصلاة و السلام على غير بصيرة فيما يوحى إليه ويقتضي أيضا جواز تصور الشيطان بصورة الملك ملبسا على النبي ولا يصح ذلك كما قال في الشفعاء لا في أول الرسالة ولا بعدها والإعتماد في ذلك دليل المعجزة
(17/177)

وقال ابن العربي : تصور الشيطان في صورة الملك ملبسا على النبي كتصوره في صورة النبي ملبسا على الخلق وتسليط الله تعالى له على ذلك كتسليطه في هذا فكيف يسوغ في لب سليم استجازة ذلك ومنها التقول على الله تعالى إما عمدا أو خطأ أو سهوا وكل ذلك محال في حقه عليه الصلاة و السلام وقد اجتمعت الأمة على ما قال القاضي عياض على عصمته صلى الله عليه و سلم فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال عن الأخبار بخلاف الواقع لا قصدا ولا سهوا ومنها الإخلال بالوثوق بالقرآن فلا يؤمن فيه التبديل والتغيير ولا يندفع كما قال البيضاوي بقوله تعالى فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته لأنه أيضا يحتمل إلى غير ذلك وذهب إلى صحتها الحافظ ابن حجر في شرح البخاري وساق طرقا عن ابن عباس وغيره ثم قال : وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع لكن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلا مع أن لها طريقا بسند صحيح أخرجه البزار وطريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب والثاني ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية ثم أخذ الرد على أبي بكر بن العربي والقاضي عياض في إنكارهما الصحة
وذهب إلى صحة القصة أيضا خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني وذكر بعد كلام طويل أنه تحصل من ذلك أن الحديث أخرجه غير واحد من أهل الصحة وأنه رواه ثقات بسند سليم متصل عن ابن عباس وبثلاث أسانيد صحيحة عن ثلاث من التابعين من أئمة الآخذين عن الصحابة وهم سعيد بن جبير وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو العالية وقد قال السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول : قال الحاكم في علوم الحديث : إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند ومشى عليه ابن الصلاح وغيره ثم قال : ما جعلناه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضا لكنه مرسل فقد يقبل إذا صح السند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل ونحو ذلك فعلى هذا يكون الخبر في القصة مسندا من الطريق المتصلة بابن عباس مرسلا مرفوعا من الطرق الثلاثة والزيادة فيه التي رواها الثقات عن ابن عباس في غير رواية البخاري ليست مخالفة لما في البخاري عنه فلا تكون شاذة فإطلاق الطعن فيه من حيث النقل ليس في محله وأجاب عما يلزم على تقدير كون الناطق بذلك النبي صلى الله عليه و سلم أما عن الأول فبأن السلطان المنفي عن العباد المخلصين هو الإغواء أعني التلبيس المخل بأمر الدين وهو الذي وقع الإجماع على أن النبي عليه الصلاة و السلام معصوم منه وأما غير المخل فلا دليل على نفيه ولا إجماع على العصمة منه وما هنا غير مخل لعدم منافاته للتوحيد كما يبين إن شاء الله تعالى بل فيه تأديب وتصفية وترقية للحبيب الأعظم صلى الله عليه و سلم لأنه عليه الصلاة و السلام تمنى هدى الكل ولم يكن ذلك مرادا لله تعالى وإلا كمل في العبودية فناء إرادته في إرادة الحق سبحانه فليس عليه عليه الصلاة و السلام إلا لقاء حالة تمني هدى الكل المصادم للقدر والمنافي لما هو الأكمل ليرتقي إلى الأكمل وقد حصل ذلك بهذه المرة ولذا لم يقع التلبيس مرة أخرى بل كان يرسل بعد من بين يديه ومن خلفه رصد ليعلم أن قد أبلغوا رسالة ربه سبحانه وفي ترتيب الإلقاء على التمني ما يفهم العتاب عليه وأما عن الثاني فبأن المستحيل المنافي للعصمة أن يزيد عليه الصلاة و السلام فيه من تلقاء نفسه أي يزيد فيه ما يعلم أنه ليس منه وما هنا
(17/178)

ليس كذلك لأنه عليه الصلاة و السلام إنما تبع فيه الإلقاء الملبس عليه في حالة خاصة فقط تأديبا أن يعود لمثل تلك الحالة وأما عن الثالث فبأنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم نطق به على فهم أنه استفهام إنكاري حذف منه الهمزة أو حكاية عنهم بحذف القول وحينئذ لا يكون بعيد الإلتئام ولا متناقضا ولا ممتزج المدح بالذم ولا بد من التزام أحد الأمرين على تقدير صحة الخبر لمكان العصمة والنكتة في التعبير كذلك إيهام الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أنه عليه الصلاة و السلام مدح آلهتهم ويحصل ذلك مراد الله تعالى المشار إليه بقوله سبحانه ليجعل الخ وأما عن الرابع فبأنا نختار الشق الثاني بناء على أنه استفهام حذف منه الهمزة أو حكاية بحذف القول وعلى التقديرين يكون عليه الصلاة و السلام معتقدا لمعنى مخالف لما اعتقدوه ولا يلزم منه التقرير على الباطل لأنه بين بطلان معتقدهم بقوله تعالى بعد إن هي لا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان فإن ما لم ينزل الله تعالى به سلطانا لا ترجى شفاعته إذ لا شفاعة إلا من بعد إذن إلهي لقوله تعالى بعد وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى
وأما عن الخامس فبأن هذا الإشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة وأما قول القاضي عياض : لا يصح أن يتصور الشيطان بصورة الملك ويلبس عليه عليه الصلاة و السلام فإن أراد به أنه لا يصح أن يلبس تلبيسا قادحا فهو مسلم لكنه لم يقع وإن أراد مطلقا ولو كان فير مخل فلا دليل عليه ودليل المعجزة إنما ينفي الإشتباه المخل بأمر النبوة المنافي للتوحيد القادح في العصمة وما ذكر غير مخل بل فيه تأديب بما يتضمن تنقية وترقية إلى الأكمل في العبودية وأما ما ذكر ابن العربي فقياس من الفرق لأن تصور الشيطان في صورة النبي مطلقا منفي بالنص الصحيح وتصوره في صورته ملبسا على الخلق إغواء يعم وهو سلطان منفي بالنص عن المخلصين وأما تصوره في صورة الملك في حالة خاصة ملبسا على النبي لا يكون منافيا للتوحيد لما يريد الله تعالى بذلك تأديبا ولا يهامه خلاف المراد فتنة لقوم فليس من السلطان المنفي ولا بالتصور الممنوع لعدم إخلاله بمقام النبوة
وأما عن السادس فبأن التقول تكلف القول ومن لا يتبع إلا ما يلقى إليه من الله تعالى حقيقة أو اعتقادا ناشئا من تلبيس غير مخل لا تكلف للقول عنده فلا تقول على الله تعالى أصلا ما أشبه هذه القصة مما تضمنه حديث ذي اليدين فالتلبيس عليه عليه الصلاة و السلام في الإلقاء في حالة التمني تأديبا كإيقاع السهو عليه صلى الله عليه و سلم في الصلاة باعتقاد التمام تشريعا والنطق بما ألقاه الشيطان في حالة خاصة مما لا ينافي التوحيد على أنه قرآن بناء على اعتقاد أن الملقى ملك تلبيسا للتأديب كالنطق بالسلام ثم بلم أنس معتقد أنه مطلق للواقع بناء على اعتقاد التمام سهوا ووقوع البيان على لسان جبريل عليه السلام ثم النسخ والإحكام كوقوع البيان على لسان الصحابي ثم التدارك وسجود السهو فكما أن السهو للتشريع غير قادح في منصب النبوة كذلك الإشتباه في الإلقاء للتأديب غير قادح وكما أن النطق بلم أنس مع تبين أنه عليه الصلاة و السلام قد نسي صدق بناء على اعتقاد التمام سهوا كذلك النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة على أنه قرآن بناء على اعتقاد أن الملقى ملك صدق ولا شيء من الصدق بالتقول فلا شيء من النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة به وما ذكر عن القاضي عياض من حكاية الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية كما قال الحافظ ابن حجر متعقب
وأما عن السابع فبأنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما
(17/179)

تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين فإذا جزم بشيء أنه كذا جزموا به وإذا رجع عن شيء بعد الجزم رجعوا كما هو شأنهم في نسخ غير هذا من الآيات التي هي كلام الله تعالى لفظا ومعنى إذ قبل نسخ ما نسخ لفظه كانوا جازمين بأنهم متعبدون بتلاوته وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم متعبدين بتلاوته وما نسخ حكمه كانوا جازمين بأنهم مكلفون بحكمه وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم مكلفين به فقول البيضاوي : إن ذلك لا يندفع بقوله تعالى : فينسخ الله الخ لأنه أيضا يحتمله ليس بشيء وبيانه أن إن أراد أنه يحتمله عند الفرق الأربع المذكورة في الآيات وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم والذين أوتوا العلم والذين آمنوا ممنوع لدلالة قوله تعالى : وليعلم إلخ على انتفاء الإحتمال عند فريقين من الفرق الأربع بعد النسخ والأحكام وإن أراد أنه يحتمله في الجملة أي عند بعض دون بعض فهو مسلم وغير مضر لعدم إخلاله بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا وأما إخلاله بالنسبة إلى الفريقين الآخرين فهو مراد الله عز و جل
هذا واعترض على الجواب الأول بأن التلبيس بحيث يشتبه الأمر على النبي صلى الله عليه و سلم فيعتقد أن الشيطان ملك مخل بمقام النبوة ونقص فيه فإن الولي الذي هو دونه عليه الصلاة و السلام بمراتب لا يكاد يخفى عليه الطائع من العاصي فيدرك نور الطاعة وظلمة المعصية فكيف بمن هو سيد الأنبياء ونور عيون قلوب الأولياء يلتبس عليه من هو محض نور بمن محض ديجور واشتباه جبريل عليه السلام عليه صلى الله عليه و سلم في بعض المرات حتى لم يعرفه إلى أن ذهب فقال : والذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه وما عرفته حتى ولي إذا صح ليس من قبيل اشتباه الشيطان به عليه السلام إذ يجوز أن يكون من اشتباه ملك بملك وكل منهما نوراني وقد كان يأتيه صلى الله عليه و سلم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام وأن يكون من اشتباه ملك بواحد من البشر نوراني أيضا لم يكن رآه عليه الصلاة و السلام قبل ذلك كالخضر والياس مثلا إن قلنا بحياتهما
وأيضا قال المحققون : إن الأنبياء عليهم السلام ليس لهم خاطر شيطاني وكون ذلك ليس منه بل كان مجرد إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع ألا ترى أنه قال تعالى : ألقى الشيطان في أمنيته دون ألقى الشيطان على لسانه وتسمية القراءة أمنية لما أن القاريء يقدر الحروف في قلبه أولا ثم يذكرها شيئا فشيئا وأيضا حفظه صلى الله عليه و سلم لذلك إلى أن أمسي كما جاء في بعض الروايات فنبهه عليه جبريل عليهما السلام يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط على أن لو سلمنا ذلك وقلنا : إن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه و سلم ولم يلق في قلبه كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله تعالى نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين وقلنا : إن ذلك مما يعقل للزم أن يعلم صلى الله عليه و سلم من خلو قلبه واشتغال لسانه أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه السلام والقول بأنه لبس الحال عليه عليه الصلاة و السلام للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبودية وهو فناء إرادته صلى الله عليه و سلم في إرادة مولاه عز و جل حيث تمنى إيمان الكل وحرص عليه ولم يكن مراد الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله تعالى وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ولا شك أن التأديب به لم يبق ولم يذر ولم يقرن بما فيه تسلية أصلا فإذا قيل والعياذ بالله تعالى : إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه وأيضا أية دلالة في الآية على التأديب وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات ولا نسلم أن
(17/180)

ترتيب الإلقاء على التمني مع ما في السباق والسياق مما يدل على التسلية عن ذلك يجدي نفعا في هذا الباب كما لا يخفى على ذوي الألباب
ويرد على قوله : إنه بعد حصول التأديب بما ذكر كان يرسل من بين يديه ومن خلفه رصد يحفظونه من إلقاء الشيطان أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى : إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا قال : كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان بالملك وقد ذكروا أن كان في ذلك للإستمرار
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال : ما جاء جبريل عليه السلام بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه و سلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة وهذا صريح في ذلك ولا شك أن هذا الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي فقد أخرج ابن جرير وابن مردوية من طريق العوفي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا : إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنوا منه فبينما هو يتلوها وهو يقول أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلا منها الشفاعة ترتجي فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجودا مع عدم ترتب أثره عليه والقول بأن جبريل عليه السلام ومن معه تنحوا عنه حتى ألقى الشيطان ما ألقى بناء على ما أخرج ابن مردوية عن ابن عباس أنه قال في آية الرصد : كان النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن يلقى الشيطان في أمنيته يدنون منه فلما ألقى الشيطان في أمنيته أمرهم أن يتنحوا عنه قليلا فإن المراد من قوله : فيه فلما ألقى فلما أراد أن يلقى في حيز المنع وكذا صحة هذا الخبر ثم أية فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ بل كيف يسمى رصدا ومما ذكر في هذا الإعتراض يعلم ما في الجواب الثاني من الإعتراض وهو ظاهر وقد يقال : إن إعجاز القرآن معلوم له صلى الله عليه و سلم ضرورة كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري بل قال القاضي : إن كل بليغ بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه وذكر أن الإعجاز يتعلق بسورة أو قدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوى البلاغة فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فهو معجز وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدم ولم يخف على الرسول عليه الصلاة و السلام ولا على ذلك البليغ عدم إعجازه فلا يشتبه عنده بالقرآن أصلا ولا شك أن ما ألقى الشيطان على ما في الروايات حروفه بقدر سورة الكوثر بل أزيد إن اعتبر الحرف المشدد بحرفين وهو وأنهن لهن الغرانيق العلا وأن شفاعتهن لهي التي ترتجي الوراد فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب
وجاء في رواية ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي : هو صحيح عن أبي العالية أنه ألقى تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجي ترتضي ومثلهن لا ينسى وحروفه أزيد من حروفها إذا لم يعتبر الحرف المشدد في شيء منهما رفين أما إذا اعتبر فحروفها أزيد بواحد فإن كان ما ذكر مما يتعلق به الإعجاز
(17/182)

فإن كان معجزا لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك وإن لم يكن مما يتعلق به الإعجاز فهو كلام غير يسير يتنبه البليغ الحاذق إذا سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب لكونه ليس منه فيبعد كل البعد أن يخفى عليه عليه الصلاة و السلام قصور بلاغته من بلاغة شيء من آيات القرآن سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة كما اختاره أبو نصر القشيري وجماعة أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي فيعتقد أنه قرآن حتى ينبه جبريل عليه السلام لا سيما وقد تكرر على سمعه الشريف سكر الآيات وما زجت لحمه ودمه والواحد منا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا ألف شعر شاعر وتكرر على ما سمعه إذا دس بيت أو شطر في قصيدة له إن ذلك ليس له وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله : لأن النفس مختلف وهذا البعد متحقق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي أيضا رسيما على قول جماعة : إن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره من الجمل المفيدة لقوله تعالى : فليأتوا بحديث مثله والقول بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خفي عليه ذلك للتأديب فيه ما فيه ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب
وما ذكره في الجواب عن الثالث من أنه لا بد من حمل الكلام على الإستفهام أو حذف القول وهو دون الأول إذا صح الخبر صحيح لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلاء عارفون بالغث والسمين من الخبار وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودا وما ألقى الشيطان إلى أوليائه معدودا وهم أكثر ممن قال بقبوله ومنهم من هو أعلم منه ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين وفات ذلك القائل بالقبول ولعمري أن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم نسخه سبحانه وتعالى لا سيما وهو مما لم يتوقف على صحته أمر ديني ولا معنى آية ولا ولا سوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد ويؤيد عدم الثبوت مخالفته لظواهر الآيات فقد قال سبحانه في وصف القرآن : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكم حميد والمراد بالباطل ما كان باطلا في نفسه وذلك الملقى كذلك وإن سوغ نطق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم به تأويله بأحد التأويلين والمراد بلا يأتيه استمرار النفي لا نفي الإستمرار
وقال عز و جل : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فجيء بالجملة الإسمية مؤكدة بتأكيدين ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلقة إفادة للعموم إلى ضمير العظمة وفي ذلك من الدلالة على الإعتناء بأمر القرآن ما فيه
وقد استدل بالآية من استدل على حفز القرآن من الزيادة والنقص وما علينا ما قيل في ذلك وكون الإلقاء المذكور لا ينافي الحفظ لأنه نسخ ولم يبق إلا رمانا يسيرا لا يخلو عن نظر والظاهر أنه وإن لم يناف الحفظ في الجملة لكنه ينافي الحفظ المشار إليه في الآية على ما يقتضيه ذلك الإعتناء ثم إن قيل : بما روي عن الضحاك من أن سورة الحج كلها مدنية لزم بقاء ما ألقى الشيطان قرآنا في اعتقاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين زمانا طويلا والقول بذلك من الشناعة بمكان وقال جل وعلا : إن هو إلا وحي يوحى والظاهر أن الضمير لما ينطق به عليه الصلاة و السلام مما يتعلق بالدين ومن هنا
(17/182)

أخرج الدارمي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال : كان جبريل عليه السلام ينزظل بالسنة كما ينزل بالقرآن
والمتبادر من لحن الخطاب أن جميع ما ينطق به عليه الصلاة و السلام من ذلك ليس عن إلقاء شيطاني كما أنه ليس عن هوى وبقيت آيات أخر في هذا الباب ظواهرها تدل على المدعي أيضا وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول شرذمة قليلة بصحة الخبر المنافي لها مع قول جم غفير بعد الفحص التام بعدم صحته مما لا يميل إليه القلب السليم ولا يرتضيه ذو الطبع المستقيم ويبعد القول بثبوته أيضا عدم إخراج أحد من المشايخ الكبار له في شيء من الكتب الست مع أنه مشتمل على قصة غريبىة وفي الطباع ميل إلى سماع الغريب وروايته ومع إخراجهم حديث سجود المشركين معه صلى الله عليه و سلم حين سجد آخر النجم فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد كل من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب ورفعه إلى جهته وقال : يكفيني هذا وروى البخاري أيضا والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس إلى غير ذلك وليس لأحد أن يقول : إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم وإلا لما سجدوا لأنا نقول : يجوز أن يكونوا لدهشة أصابتهم وخوف اعترافهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشي إلى آخر الآيات فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مقلها منه صلى الله عليه و سلم وهو قائم بين يدي ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير وقد ظنوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان كاف في دفع ما توهموه ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه و سلم فقد نزلت سورة حم السجدة بعد ذلك كما جاء مصرحا به في حديث عن ابن عباس ذكره السيوطي في أول الإتقان فلما سمع عتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسك على فم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وناشده بالرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال : كيف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب وقد أخرج ذلك البيهقي في الدلائل وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه
ويمكن أن يقال على بعد : إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم ولا يلزم منه ثبوت ذلك الخبر لجواز أن يكون ذلك الإستشعار من قوله تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بناء على أن المفعول محذوف وقدروه حسبما يشتهون أو على أن المفعول ألكم الذكر وله الأنثى وتوهموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثا والحب للشيء يعمى ويصم وليس هذا بأبعد من حملهم تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه من الغين
واعترض على الجواب الرابع بأن سجودهم كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم آخرا بعد سماع قوله تعالى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان فكان ينبغي التنبيه بعد السجود ولعلهم أرجعوا ضمير هي للأسماء وهي قولهم اللات والعزى ومناة كما هو أحد احتمالين فيه ذكرهما الزمخشري فيكون
(17/183)