[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
إن قتلهم كان خطئا كبيرا 13 تعليل آخر ببيان أن المنهي عنه في نفسه منكر عظيم لما فيه من قطع التناسل وقطع النوع والخطء كالإثم لفظا ومعنى وفعلهما من باب علم وقرأ أبو جعفر وابن ذكوان عن عامر خطأ بفتح الخاء والطاء من غير مد وخرج ذلك الزجاج على وجهين الأول أن يكون اسم مصدر من أخطأ يخطيء إذا لم يصب أي إن قتلهم كان على غير صواب والثاني أن يكون لغة في الخطأ بمعنى الإثم مثل ومثل وحذر وحذر فمن استشكل هذه القراءة بأن الخطأ ما لم يتعمد وليس هذا محله فقد نادى على نفسه بقلة الإطلاع
وقرأ ابن كثير خطاء بكسر الخاء وفتح الطاء والمد وخرج على وجهين أيضا الأول أن يكون لغة في الخطء بمعنى الإثم مثل دبغ ودباغ ولبس ولباس والثاني أن يكون مصدر خاطأ يخاطيء مثل قاتل يقاتل قتالا
قال أبو علي الفارسي : وإن كنا لم نجد خاطأ لكن وجد تخطأ مطاوعه فدلنا عليه وذلك في قولهم : تخطأت النبل أحشاءه وأنشد محمد بن السوي في وصف كماءة في كما في مجمع البيان : وأشعث قد ناولته أحرش الفرى أدرت عليه المدجنات الهواضب تخطأه القناص حتى وجدته وخرطومه في منقع الماء راسب والمعنى على هذا إن قتلهم كان عدو لا عن الحق والصواب فقول أبي حاتم إن هذه القراءة غلط غلط
وقرأ الحسن خطاء بفتح الخاء والطاء مع المد وهو اسم مصدر أخطى كالعطاء اسم مصدر أعطى وقرأ الزهري وأبو رجاء خطا بكسر الخاء وفتح الطاء وألف في آخره مبدلة من الهمزة وليس من قصر الممدود لأنه ضرورة لا داعي إليه وفي رواية عن ابن عامر أنه قرأ خطا كعصا ولا تقربوا الزنى بمباشرة مباديه القريبة أو البعيدة فضلا عن مباشرته والنهي عن قربانه على خلاف ما سبق ولحق للمبالغة في النهي عن نفسه ولأن قربانه داع إلى مباشرته وفسره الراغب بوطء المرأة من غير عقد شرعي وجاء فيه المد والقصر وإذا مد يصح أن يكون مصدر المفاعلة وتوسيط النهي عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرمة مطلقا كما قال شيخ الإسلام باعتبار أنه قتل للأولاد لما أنه تضييع للأنساب فإن من لم يثبت نسبه ميت حكما
إنه كان فاحشة فعلة ظاهرة القبح زائدته وساء سبيلا 23 أي وبئس السبيل لما فيه من اختلال أمر الأنساب وهيجان الفتن وقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وجاء في غير رواية أنه إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإن تاب ونزع رجع إليه وهو من الكبائر وفاحشة مطلقا على ما أجمع عليه المحققون بل في الحديث الصحيح أنه بحليلة الجار من أكبر الكبائر وزعم الحليمي أنه فاحشة إن كان بحليلة الجار أو بذات الرحم أو بأجنبية في شهر رمضان أو في البلد الحرام وكبيرة إن كان مع امرأة الأب أو حلية الابن أو مع أجنبية على سبيل القهر والإكراه وإذا لم يوجب حدا يكون صغيرة ولا يخفى رده وضعف مبناه والآية ظاهرة في أنه فاحشة مطلقا نعم أفحش أنواعه الزنا بحليلة الجار وقال بعضهم : أعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم فقد صحح الحاكم أنه قال : من وقع على ذات محرم فاقتلوه وزنا الثيب أقبح من زنا البكر بدليل اختلاف حديهما وزنا الشيخ لكمال عقله أقبح من زنا الشاب وزنا الحر والعالم لكمالهما أقبح من زنا القن والجاهل وهل هو أكبر من اللواط أم لا فيه خلاف وفي الأحياء أنه أكبر منه لأن الشهوة داعية إليه من
(15/67)
الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم الضرر ومنه اختلاط الأنساب بكثرته وقد يعارض بأن حده أغلظ بدليل قول مالك وآخرين برجم الوطي ولو غير محصن بخلاف الزاني وقد يجاب بأن المفضول قد يكون فيه مزية وفيه ما فيه وبالغ بعضهم فقال : إنه مطلقا يلي الشرك في الكبر والأصح أن الذي يلي الشرك هو القتل ثم الزنا وخبر الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام الظاهر كما قال ابن حجر الهيتمي أنه لا أصل له نعم روى الطبراني والبيهقي رضي الله تعالى عنهما الغيبة أشد من الزنا إلا أن له ما يبين معناه وهو ما رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل ليزني فيتوب الله تعالى عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه فعلم منه أن أشدية الغيبة من الزنا ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنة المستوفية لجميع شروطها من الندم من حيث المعصية والإقلاع وعزم أن لا يعود مع عدم الغرغرة وطلوع الشمس من مغربها مكفرة لإثم الزنا بمجردها بخلاف الغيبة فإن التوبة وإن وجدت فيها هذه الشروط لا تكفرها بل لابد وأن ينضم إليها استحلال صاحبها مع عفوه فكانت الغيبة أشد من هذه الحيثية لا مطلقا فلا يعكر الحديث على الأصح وعلم منه أيضا أن الزنا لا يحتاج في التوبة منه إلى استحلال وهو ما صرح به غير واحد من المحققين وهو مع ذلك من الحقوق المتعلقة بالآدمي كيف لا وهو من الجناية على الأعراض والأنساب ومعنى قولهما إن الزنا لا يتعلق به حق آدمي أي من المال ونحوه وعدم اشتراط الاستحلال لا يدل على أنه ليس من الحقوق المتعلقة بالآدمي مطلقا وإنما لم يشترط الاستحلال لما يترتب على ذكره من زيادة العار والظن الغالب بأن نحو الزوج أو القريب إذا ذكر له ذلك يبادر إلى قتل الزاني أو المزنى بها أو إلى قتلهما معا ومع ما ذكر كيف يمكن القول باشتراطه وقد صرح بنحو ذلك حجة الإسلام الغزالي في منهاج العابدين فقال في ضمن تفصيل قال الأذرعي : إنه في غاية الحسن والتحقيق أما الذنب في الحرم فإن خنته في أهله وولده فلا وجه للإستحلال والإظهار لأنه يولد فتنة وغيظا بل تتضرع إلى الله سبحانه ليرضيه عنك ويجعل له خيرا كثيرا في مقابلته فإن أمنت الفتنة والهيج وهو نادر فتستحل منه وقد قال الأذرعي في مواضع في الحسد والتوبة منه : ويشبه أن يحرم الإخبار به إذا غلب على ظنه أن لا يحلله وأنه يتولد منه عداوة وحقد وأذى للمخبر ثم قال : ويجوز أن ينتظر إلى المحسود فإن كان حسن الخلق بحيث يظن أنه يحلله تعين أخباره ليخرج من ظلامته بيقين وإن غلب على ظنه أن إخباره يجر شرا وعداوة حرم أخباره قطعا وإن تردد فالظاهر ما ذكره النووي من عدم الوجوب والاستحباب فإن النفس الزكية نادرة وربما جر ذلك شرا وعداوة وإن حلله بلسانه ا ه فإذا كان هذا في الحسد مع سهولته عند أكثر الناس وعدم مبالاتهم به ومن ثم أطلق النووي عدم الإخبار فقال : المختار بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود بل لا يستحب ولو قيل يكره لم يبعد فما بالك في الزنا المستلزم أن الزوج والقريب يقتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقق ويعلم من الأخبار أن ثمرات الزنا قبيحة منها أنه يورد النار والعذاب الشديد وأنه يورث الفقر وذهاب البهاء وقصر العمر وأنه يؤخذ بمثله من ذرية الزاني ولما قيل لبعض الملوك ذلك أراد تجربته بابنة له وكانت غاية في الحسن فأنزلها مع امرأة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء وأمرها بكشف وجهها فطافت بها في الأسواق فما مرت على أحد إلا وأطرق حياء وخجلا منها فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمد أحد نظره إليها رجعت بها إلى دار الملك فلما أرادت الدخول أمسكها إنسان وقبلها ثم ذهب عنها فأدخلتها على الملك وذكرت له القصة
(15/68)
فسجد شكرا وقال : الحمد لله تعالى ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة وقد قوصصت بها نسأل الله سبحانه أن يعصمنا وذرياتنا ومن ينسب إلينا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بحرمة النبي وقرأ أبي بن كعب كما أخرجه عنه ابن مردويه ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا إلا من تاب فإن الله كان غفورا رحيما فذكر لعمر رضي الله تعالى عنه فأتاه فسأله فقال أخذتها من رسول الله وليس لك عمل إلا الصفق بالنقيع وهذا إن صح كان قبل العرضة الأخيرة ولا تقتلوا النفس التي حرم الله أي حرمها الله تعالى والمراد حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد إلا بالحق متعلق بلا تقتلوا والباء للسببية والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ويجوز أن يكون حالا من الفاعل أو المفعول أي لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحق أو لا تقتلوها إلا ملتبسة بالحق وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لا تقتلوها قتلا ما إلا قتلا ملتبسا بالحق والأول أظهر وأما تعلقه بحرم فبعيد وإن صح وفسر الحق مما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود لا يحل دم امريء يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة ونقض الحصر بدفع الصائل فإن ذلك ربما أدى إلى القتل ودفع بأن المراد ما يكون بنفسه مقصودا به القتل وما ذكر المقصود به الدفع وقد يفضي إليه في الجملة والحق عدم انحصار الحق فيما ذكر وهو في الخبر ليس بحقيقي وقد ذهب الشافعية إلى أن ترك الصلاة كسلا مبيح للقتل وكذا اللواطة عند جمع من الأجلة
ومن قتل مظلوما بغير حق يوجب قتله أو يبيحه للقاتل حتى أنه لا يعتبر إباحته لغير القاتل فقد نص علماؤنا أن من عليه القصاص إذا قتله غير من له القصاص له ولا يقيده قول الولي أنا أمرته بذلك إلا أن يكون الأمر ظاهرا فقد جعلنا لوليه لمن يلي أمره من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث واقتصار البعض على الأول رعاية للأغلب سلطانا أي تسلطا واستيلاء على القاتل بمؤاخذته بأحد أمرين القصاص أو الدية وقد تتعين الدية كما في القتل الخطأ والمقتول خطأ مقتول ظلما بالمعنى الذي أشير إليه وإن قلنا لا إثم في الخطأ لحديث رفع عن أمتي الخطأ وشرع الكفارة فيه لعدم التثبت واجتناب ما يؤدي إليه فليتأمل
واستدل بتفسير الولي بالوارث على أن للمرأة دخلا في القصاص
وقال القاضي إسماعيل : لا تدخل لأن لفظه مذكر فلا يسرف أي الولي في القتل أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلا والقاتل واحد كعادة الجاهلية فإنهم كانوا إذا قتل منهم واحد قتلوا قاتله وقتلوا معه غيره ومن هنا قال مهلهل : كل قتيل في كليب غره حتى ينال القتل آل مره وإلى هذا ذهب ابن جبير وأخرجه المنذر من طريق أبي صالح عن ابن عباس أو بأن يقتل غير القاتل ويترك القاتل وروي هذا عن زيد بن أسلم فقد أخرج البيهقي في سننه عنه أن الناس في الجاهلية إذا قتل من ليس شريفا شريفا لم يقتلوه به وقتلوا شريفا من قومه فنهى عن ذلك أو بأن يزيد على القتل المثلة كما قيل
وأخرج ابن جرير وغيره عن طلق بن حبيب أنه قال : لا يقتل غير قاتله ولا يمثل به وقيل بأن يقتل القاتل
(15/69)
والمشروع عليه الدية وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : من قتل بحديدة قتل بحديدة ومن قتل بخشبة قتل بخشبة ومن قتل بحجر قتل بحجر ولا يقتل غير القاتل وفيه القول بأن القتل بالمثقل يوجب القصاص وهو خلاف مذهبنا
وقرأ حمزة والكسائي فلا تسرف بالخطاب للولي التفاتا وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة فلا يسرف بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر وفيه مبالغة ليست في الأمر إنه كان منصورا 33 تعليل للنهي والضمير للولي أيضا على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فلا يبغ ما وراء حقه ولا يخرج من دائرة أمرة الناصر
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن الضمير للمقتول على معنى أن الله تعالى نصره في الدنيا بأخذ القصاص أو الدية وفي الأخرى بالثواب فلا يسرف وليه في شأنه وجوز أن يعود على الذي أسرف به الولي أي أنه تعالى نصره بإيجاب القصاص والتعزيز والوزر على ما أسرف في شأنه وقيل ضمير يسرف للقاتل أي مريد القتل ومباشره ابتداء ونسبه في الكشاف إلى مجاهد والضميران في التعليل عائدان على الولي أو المقتول وأيد بقراءة أبي فلا تسرفوا لأن القاتل متعدد في النظم في قوله تعالى ولا تقتلوا والأصل توافق القراءتين ولم تعنيه لأن الولي عام في الآية فهو في معنى الأولياء فيجوز جمع ضميره بهذا الاعتبار ويكون التفاتا وتوافق القراءتين ليس بلازم والمعنى فلا يسرف على نفسه في شأن القتل بتعريضها للهلاك العاجل والآجل وفي الكشف أنه ردع للقاتل على أسلوب ولكم في القصاص حياة والنهي عن الاسراف لتصوير أن القتل بغير حق كيف ما قدر إسراف ومعناه فلا يقتل بغير حق وأنت تعلم أن هذا الوجه غير وجيه فلا ينبغي التعويل عليه وهذه الآية كما أخرج غير واحد عن الضحاك أول آية نزلت في شأن القتل وقد علمت أن الأصح أنه أكبر الكبائر بعد الشرك بالله وكون القتل العمد العدوان من الكبائر مجمع عليه وعد شبه العمد منها هو ما صرح به الهروي وشريح الروياني وأما الخطأ فالصواب أنه ليس بمعصية فضلا عن كونه ليس بكبيرة فليحفظ ولا تقربوا مال اليتيم نهى عن قربانه لما ذكر سابقا من المبالغة في النهي عن التعرض له وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى إلا بالتي هي أحسن أي بالخصلة والطريقة التي هي أحسن الخصال والطرائق وهي حفظه واستثماره حتى يبلغ أشده غاية لجواز التصرف على الوجه الأحسن المدلول عليه بالاستثناء لا للوجه المذكور فقط والأشد قيل جمع شد كالأضر جمع ضر والشد القوة وهو استحكام قوة الشباب والسن كما أن شد النهار ارتفاعه قال عنترة : عهدي به شد النهار كأنما خضب البنان ورأسه بالعظلم وقيل هو جمع شدة مثل نعمة وأنعم وقال بعض البصريين وهو واحد مثل الآنك : والمراد ببلوغه الأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله ثم التصرف بمال اليتيم بنحو الأكل على غير الوجه المأذون فيه من الكبائر وتردد ابن عبد السلام بتقييده بنصاب السرقة فقال في القواعد : قد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فهو ظاهر وإن وقعا في مال حقير
(15/70)
كزبيبة وتمرة فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطالما عن جنس هذه المفسدة كالقطرة من الخمر وإن لم تتحقق المفسدة ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة ا ه وقد يفرق بينهما بأن في شهادة الزور مع الجراءة على انتهاك حرمة المال المعصوم جراءة على الكذب في الشهادة بخلاف القليل من مال اليتيم فلا يستبعد التقييد به بخلافها كذا قيل
والحق إن الآيات والأخبار الواردة في وعيد أكل مال اليتيم مطلقة فتتناول القليل والكثير فلا يجوز تخصيصها إلا بدليل سمعي وحيث لا دليل كذلك فالتخصيص غير مقبول فالوجه أنه لا فرق بين أكل القليل وأكل الكثير في كونه كبيرة يستحق فاعله الوعيد الشديد نعم الشيء التافه الذي تقتضي العادة بالمسامحة به لا يبعد كون أكله ليس من الكبائر والله تعالى أعلم وقد توصل القضاة اليوم إلى أكل مال اليتيم في صورة حفظه عاملهم الله تعالى بعدله وأذاق خائنهم في الدارين جزاء فعله وأوفوا بالعهد ما عاهدتم الله تعالى عليه من التزام تكاليفه وما عاهدتم عليه غيركم من العباد ويدخل في ذلك العقود
وجوز أن يكون المراد ما عاهدكم الله تعالى عليه وكلفكم به والايفاء بالعهد والوفاء به هو القيام بمقتضاه والمحافظة عليه وعدم نقضه واشتقاق ضده وهو الغدر يدل على ذلك وهو الترك ولا يكاد يستعمل إلا بالباء فرقا بينه وبين الايفاء الحسي كإيفاء الكيل والوزن إن العهد أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال العناية بشأنه وقيل دفعا لتوهم عود الضمير إلى الايفاء المفهوم من أوفوا كان مسئولا 43 أي مسؤلا عنه على حذف الجار وجعل الضمير بعد انقلابه مرفوعا مستكنا في اسم المفعول ويسمى الحذف والايصال وهو شائع
وجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي إن صاحب العهد كان مسؤلا وقيل لا حذف أصلا والكلام على التخييل كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفى بك تبكيتا للناكث كما يقال للموؤدة بأي ذنب قتلت وقد يعتبر فيه الاستعارة المكنية والتخييلية وزعم بعضهم أنه يجوز أن يجعل العهد متمثلا على هيئة من يتوجه عليه السؤال كما تجسم الحسنات والسيآت لتوزن
وجوز أن يكون مسؤلا بمعنى مطلوبا من سألت كذا إذا طلبت وإسناد المطلوبية إليه مجازا والمراد مطلوب عدم إضاعته ويجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف ارتفع الضمير واستتر بعد حذفه والأصل ما أشرنا إليه وقد سمعت آنفا أن مثل ذلك شائع وليس في ذلك تعليل الشيء بنفسه فإن المآل إلى أن يقال : أوفوا بالعهد فإن عدم إضاعته لم تزل مطلوبة من كل أحد فتطلب منكم أيضا ثم إن الإخلال بالوفاء بالعهد على ما تقتضيه الأحاديث الصحيحة قيل كبيرة وقد جاء عن علي كرم الله وجهه أنه عد من الكبائر نكث الصفقة أي الغدر بالمعاهد بل صرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي أنه سماه كبيرة وقال بعض المحققين : إن في إطلاق كون الإخلال المذكور كبيرة نظرا بناء على أن العهد هو التكليفات الشرعية فإن من الإخلال ما يكون كبيرة ومنه ما يكون صغيرة وينظر في ذلك إلى حال المكلف به ولعل من قال : إن الإخلال بالعهد كبيرة أراد بالعهد مبايعة الإمام وبالإخلال بذلك نقض بيعته والخروج عليه لغير موجب ولا تأويل ولا شبهة في أن ذلك كبيرة فليتأمل وأوفوا الكيل أتموه ولا تخسروه إذا كلتم أي وقت كيلكم للمشترين وتقييد الأمر به لما أن التطفيف يكون هناك وأما وقت الاكتيال على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى :
(15/71)
إذا اكتالوا على الناس يستوفون الآية وزنوا بالقسطاس هو القبان على ما روي عن الضحاك ويقال له القرسطون بلغة أهل الشام كما قال الأزهري وقال الزجاج : هو الميزان صغيرا كان أو كبيرا من موازين الدراهم وغيرها وقال الليث : هو أقوم الموازين وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه العدل وعن الحسن أنه الحديد وهو رومي معرب كما قال ابن دريد لفقد مادتخ في العربية وقيل : إنه عربي وروي القول بتعريبه وأنه الميزان في اللغة الرومية عن ابن جبير وجماعة وقيل : هو مركب من كلمتين القسط وهو العدل وطاوس وهو كفة الميزان لكنه حذف أحد الطائين لأن التركيب محل تخفيف وهو كما ترى وعلى القول بأنه رومي معرب وهو الصحيح لا يقدح استعماله في القرآن في عربيته المذكورة في قوله تعالى : إنا أنزلناه قرآنا عربيا لأنه بعد التعريب والسماع في فصيح الكلام يصير عربيا فلا حاجة إلى إنكار تعريبه أو ادعاء التغليب أو أن المراد عربي الأسلوب
وقد قرأه الكوفيون بكسر القاف والباقون بضمها وقد تبدل السين الأولى صادا كما أبدلت الصاد سينا في الصراط
المستقيم أي العدل السوي وهو يبعد تفسير القسطاس بالعدل ولعل الاكتفاء باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن كما قال شيخ الإسلام لما أن عند استقامته لا يتصور الجور غالبا بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاء بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءه لا يتصور بدون تعديل المكيال وقد أمر بتقويمه أيضا في قوله تعالى وأوفوا المكيال والميزان بالقسط ذلك أي إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم خير في الدنيا لأنه سبب لرغبة الناس في معاملة فاعله وجلب الثناء الجميل عليه وأحسن تأويلا 53 أي عاقبة لما يترتب عليه من الثواب في الآخرة والتأويل تفعيل من آل إذا رجع وأصله رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كما في قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله أو فعلا كما في قوله سبحانه يوم يأتي تأويله وقول الشاعر : وللنوى قبل يوم البين تأويل وقيل : المراد ذلك خير في نفسه لأنه أمانة وهي صفة كمال وأحسن عاقبة في الدنيا لأنه سبب لميل القلوب والرغبة في المعاملة والذكر الجميل بين الناس ويفضي ذلك إلى الغنى وفي الآخرة لأنه سبب للخلاص من العذاب والفوز بالثواب وقيل : أحسن تأويلا أي أحسن معنى وترجمة ثم إن إيفاء الكيل والوزن واجب إجماعا ونقص ذلك من الكبائر مطلقا على ما يقتضيه الوعيد الشديد لفاعله الوارد في الآيات والأحاديث الصحيحة ولا فرق بين القليل والكثير نعم قال بعضهم : إن التطفيف بالشيء التافه الذي يسامح به أكثر الناس ينبغي أن يكون صغيرة فإن قلت : ذكروا في الغصب أن غصب ما دون ربع دينار لا يكون كبيرة وقضيته أن يكون التطفيف كذلك قلت قيل ذلك مشكل فلا يقاس عليه بل حكى الاجماع على خلافه
وقال الأذرعي : إنه تحديد لا مستند له انتهى وعلى التنزيل فقد يفرق بأن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره لأنه إنما يكون على سبيل القهر والغلبة بخلاف التطفيف فتعين التنفير عنه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا مما قالوه في شرب القطرة من الخمر من أنه كبيرة وأن لم يوجد فيها مفسدة الخمر لأن قليله يدعو إلى كثيره ومثل التطفيف في الكيل والوزن النقص في الذرع ولا يكاد يسلم كيال أو وزان أو ذراع في هذه الاعصار من نقص إلا من عصمه الله تعالى ولا تقف ولا تتبع وأصل معنى قفا اتبع قفاه ثم استعمل في مطلق الاتباع وصار حقيقة فيه وقريء ولا تقفوا بإثبات حرف العلة مع الجازم وهو شاذ وقريء أيضا ولا تقف بضم القاف وسكون
(15/72)
الفاء كتقل على أنه أجوف مجزوم بالسكون وماضيه قاف يقال قاف أثره يقوفه إذا قصه واتبعه ومنه القيافة وأصلها ما يعلم من الاقدام وأثرها وعن أبي عبيدة أن قاف مقلوب قفا كجذب وجبذ وتعقب بأن الصحيح خلافه
ما ليس لك به علم أي لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما ويندرج في ذلك أمور وكل من المفسرين اقتصر على شيء فقيل المراد نهي المشركين عن القول في الإلهيات والنبوات تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن الحنفية أن المراد النهي عن شهادة الزور وقيل : المراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات ومن ذلك قول الكميت : ولا أرمي البري بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن رمينا وروى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن أنس من قفا مؤمنا بما ليس فيه يريد شينه به حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال وقيل : المراد النهي عن الكذب أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر واختار الإمام العموم قال : إن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد واحتج بالآية نفاة القياس لأنه قفو للظن وحكم به وأجيب بأنهم أجمعوا على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة فمن ذلك الصلاة على الميت ودفنه في مقابر المسلمين وتوريث المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو مظنون والتوجه إلى القبلة في الصلاة وهو مبني على الاجتهاد بإمارات لا تفيد إلا الظن ولأكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم وهو مظنون والشهادة فإنها ظنية وقيم المتلفات واروش الجنايات فإنها لا سبيل إليها إلا الظن ومن نظر ولو بمؤخرة العين رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وقد قال : نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر فالنهي عن اتباع ما ليس بعلم قطعي مخصوص بالعقائد وبأن الظن قد يسمى علما كما في قوله تعالى إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتوهن مؤمنات فلا ترجعوا إلى الكفار فإن العلم بإيمانهن إنما يكون بإقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا على أنه متى حصل ظن أن حكم الله تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن فههنا الظن واقع في طريق الحكم وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن وأجاب النفاة عن الأول بأن قوله تعالى لا تقف الآية عام دخله التخصيص فيما يذكرون فيه العمل بالظن فيبقى العموم فيما وراءه على أن بين ما يذكرونه من الصور وبين محل النزاع فرقا لأن الأحكام المتعلقة بالأول مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة فالتنصيص على ذلك متعذر فاكتفى بالظن للضرورة بخلاف الثاني فإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة والتنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن وعن الثاني بأن المغايرة بين العلم والظن مما لا شبهة فيه ويدل عليها قوله تعالى هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن والمؤمن هو المقر وذلك الاقرار هو العلم فليس في الآية تسمية الظن علما وعن الثالث بأنه إنما يتم لو ثبت حجية القياس بدليل قاطع وليس فليس وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب على ما قال الإمام أن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت
(15/73)
علىعلى أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يفضي إلى نفيه وهو باطل وللمجيب أن يقول نعلم بالتواتر الظاهر من دين النبي أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة ويمكن أن يجاب عن هذا بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر فتأمل إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك أي كل هذه الأعضاء وأشير إليها بأولئك على القول بأنها مختصة بالعقلاء تنزيلا لها منزلتهم لما كانت مسؤلة عن أحوالها شاهدة على أصحابها
وقال بعضهم : إنها غالبة في العقلاء وجاءت لغيرهم من حيث أنها اسم جمع لذا وهو يعم القبيلين ومن ذلك قول جرير على ما رواه غير واحد : ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام وعلى هذا لا حاجة إلى التنزيل وارتكاب الاستعارة فيما تقدم كان عنه مسئولا 63 كل الضمائر ضمائر كل أي كان كل من ذلك مسؤلا عن نفسه فيقال له : هل استعملك صاحبك فيما خلقت له أم لا وذلك بعد جعله أهلا للخطاب والسؤال وجوز أن يكون ضمير عنه لكل وما عداه للقافي فهناك التفات إذ الظاهر كنت عنه مسؤلا
وقال الزمخشري : عنه نائب فاعل مسؤلا فهو مسند إليه ولا ضمير فيه نحو غير المغضوب عليهم
ورده أبو البقاء وغيره بأن القائم مقام الفاعل حكمه حكمه في أنه لا يجوز تقدمه على عامله كأصله وذكر أنه حكى ابن النحاس الاجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا ومجرورا فليس ذلك نظير غير المغضوب عليهم وليس لقائل أن يقول : إنه على رأي الكوفيين في تجويزهم تقديم الفاعل إلا أن ينازع في صحة الحكاية ونقل عن صاحب التقريب أنه إنما جاز تقديم عنه مع أنه فاعل لمحا لاصالة ظرفيته لا لعروض فاعليته ولأن الفاعل لا يتقدم لالتباسه بالمبتدأ ولا التباس ههنا ولأنه ليس بفاعل حقيقة ا ه والإنصاف أنه مع هذا لا يقال لما ذهب إليه شيخ العربية إنه غلط
وذكر في شرح نحو المفتاح أنه مرتفع بمضمر يفسره الظاهر وجوز إخلاء المفسر عن الفاعل إذا لم يكن فعلا معللا بأصالة الفعل في رفع الفاعل فلا يجوز خلوه عنه بخلاف اسمي الفاعل والمفعول تشبيها بالجوامد
وتعقبه في الكشف بأن فيه نظرا نقلا وقياسا أما الأول فلتفرده به وأما الثاني فلأن احتياج إليه من حيث أنه إذا جرى على شيء لابد من عائد إليه ليرتبط به ويكون هو الذات القائم هو بها إن كان فاعلا أو ملابسا لتلك الذات وليس كالجوامد في ارتباطها بالسوابق بنفس الحمل لأنها تدل على معنى متعلق بذات فالوجه أن يقال حذف الجار واستتر الضمير بعده في الصفة وقد سمعت عن قرب أن هذا من باب الحذف والايصال وأنه شائع وجوز أن يكون مرفوع مسؤلا المصدر وهو السؤال و عنه في محل النصب وسأل ابن جني أبا علي عن قولهم : فيك يرغب وقال لا يرتفع بما بعده فأين المرفوع فقال : المصدر أي فيك يرغب الرغب بمعنى تفعل الرغبة كما في قولهم : يعطي ويمنع أي يفعل الاعطاء والمنع وجوز أن يكون اسم كان أو فاعله ضمير كل محذوف المضاف أي كان صاحبه عنه مسؤلا أو كان عنه مسؤلا صاحبه فيقال له لم استعملت السمع فيما لا يحل ولم صرفت البصر إلى كذا والفؤاد إلى كذا وقرأ الجراح العقيلي والفؤاد بفتح الفاء وإبدال الهمزة واوا وتوجيهها أنه أبدلت الهمزة واوا لوقوعها مع ضمة في المشهور ثم فتحت الفاء تخفيفا وهي لغة في ذلك ولا عبرة بإنكار
(15/74)
أبي حاتم لها واستدل بالآية على أن العبد يؤاخذ بفعل القلب كالتصميم على المعصية والأدواء القلبية كالحقد والحسد والعجب وغير ذلك نعم صرحوا بأن الهم بالمعصية من غير تصميم لا يؤاخذ به للخبر الصحيح في ذلك
ثم إن اتباع الظن يكون كبيرة ويكون صغيرة حسب أنواعه وأصنافها ومنه ما هو أكبر الكبائر كما لا يخفى نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن جميع ذلك
ولا تمش في الأرض مرحا أي فخرا وكبرا قاله قتادة وقال الراغب : المرح شدة الفرح والتوسع فيه والأول أنسب وهو مصدر وقع موقع الحال والكلام في مثله إذا وقع حالا أو خبرا أو صفة شائع وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية لفعل محذوف أي تمرح مرحا وأن يكون مفعولا له أي لأجل المرح وقريء مرحا بكسر الراء عن أنه صفة مشبهة ونصبه على الحالية لا غير قيل وهذه القراءة باعتبار الحكم أبلغ من قراءة المصدر المفيد للمبالغة بجعله عين المرح نظير ما قيل في زيد عدل لأن الوصف واقع في حيز النهي الذي هو في معنى النفي ونفي أصل الاتصاف أبلغ من نفي زيادته ومبالغته لأنه ربما يشعر ببقاء أصله في الجملة وجعل المبالغة راجعة إلى النفي دون المنفي كما قيل في قوله تعالى : وما ربك بظلام للعبيد بعيد هنا والقول بأن الصفة المشبهة تدل على الثبوت فلا يقتضي نفي ذلك نفي أصله كما قيل في المصدر مغالطة نشأت من عدم معرفة معنى الثبوت في الصفة فإن المراد به أنها لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام والأخفش فضل القراءة بالمصدر لما فيه من التأكيد ولم ينظر إلى أن ذلك في الإثبات لا في النفي أو ما في حكمه وأورد على ماقيل أن فيه تفضيل القراءة الشاذة على المتواترة وهو كما ترى
ولذا فضل بعضهم القراءة بالمصدر كالأخفش وجعل المبالغة المستفادة منه راجعة إلى النهي ومنع كون ذلك بعيدا وقيل إذا جعل التقدير في المتواترة ذا مرح تتحد مع الشاذة وتعقب بأن ذا مرح أبلغ من مرحا صفة لما فيه من الدلالة على أنه صاحب مرح وملازم له كأنه مالك إياه وفيه توقف كما لا يخفى والتقييد بالأرض لا يصح أن يقال للاحتراز عن المشي في الهواء أو على الماء لأن هذا خارق ولا يحترز عنه بل للتذكير بالمبدأ والمعاد وهو أردع عن المشي مشية الفاخر المتكبر وادعى لقبول الموعظة كأنه قيل : لا تمش فيما هو عنصرك الغالب عليك الذي خلقت منه وإليه تعود والذي قد ضم من أمثالك كثيرا مشية الفاخر المتكبر : وقيل للتنصيص على أن النهي عن المشي مرحا في سائر البقع والأماكن لا يختص به أرض دون أرض والأول ألطف
إنك لن تخرق الأرض تعليل للنهي وفيه تهكم بالمختال أي إنك لن تقدر أن تجعل فيها خرقا بدوسك وشدة وطأتك ولن تبلغ الجبال التي عليها طولا 73 بتعاظمك ومد قامتك فأين أنت والتكبر عليها إذا التكبر إنما يكون بكثرة القوة وعظم الجثة وكلاهما مفقود فيك أو إنك لن تقدر على ذلك فأنت أضعف من كل واحد من هذين الجمادين فكيف يليق بك التكبر وقال بعض المحققين : مآل النهي والتعليل لا تفعل ذلك فإنه لا جدوى فيه وهو وجه حسن ونصب طولا على أنه تمييز وجوز أن يكون مفعولا له وقيل : يشير كلام بعضهم إلى أنه منصوب على نزع الخافض وهو بمعنى التطاول أي لن تبلغ الجبال بتطاولك ولا يخفى بعده وإيثار الإظهار على الإضمار حيث لم يقل لن تخرقها لزيادة الإيقاظ والتقريع ثم إن الاختيال في المشي كبيرة كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة وهذا فيما عدا بين الصفتين أما بينهما فهو مباح لخبر صح فيه ويكفي ما في الآية من التهكم
(15/75)
والتقريع زاجرا لمن اعتاده حيث لا يباح ككثير من الناس اليوم وفي الانتصاف قد حفظ الله تعالى عوام زماننا من هذه المشية وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا بينا أحدهم قد عرف مسئلتين أو أجلس بين يديه طالبين أو نال طرفا من رياسة الدنيا إذ هو يمشي خيلا ولا يرى أنه يطاول الجبال ولكن يرى أنه يحك بيافوخه عنان السماء كأنهم على هذه الآية لا يمرون أو يمرون عليها وهم عنها معرضون ا ه
وإذا كان هذا حال قراء زمانه وفقهائه فماذا أقول أنا في قراء زماني وفقائهم سوى لا كثر الله تعالى أمثالهم ولا ابتلانا بشيء من أفعالهم وجعلها أفعى لهم كل ذلك المذكور في تضاعيف الأوامر والنواهي السابقة من الخصال المنحلة إلى نيف وعشرين كان سيئه وهو ما نهى عنه منها من الجعل مع الله سبحانه إلها آخر وعبادة غيره تعالى والتأفيف والنهر والتبذير وجعل اليد مغلولة إلى العنق وبسطها كل البسط وقتل الأولاد خشية إملاق وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وإسراف الولي في القتل وقف ما ليس بمعلوم والمشي في الأرض مرحا فالإضافة لامية من إضافة البعض إلى الكل عند ربك مكروها 83 أي مبغضا وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية وإلا لما وقع كما يدل عليه قوله ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وغير ذلك وليست هذه الإرادة مرادفة أو ملازمة للرضى ليلزم اجتماع الضدين الإرادة المذكورة والكراهة كما يزعمه المعتزلة وهذا تتميم لتعليل الأمور المنهي عنها جميعا ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عن ذلك وتوجيه الإشارة إلى الكل ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء لما قيل : من أن البعض المذكور ليس بمذكور جملة بل على وجه الاختلاط لنكتة اقتضته وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيا عنده سبحانه وإنما لم يصرح بذلك إيذانا بالغنى عنه وقيل اهتماما بشأن التنفير عن النواهي لما قالوا من أن التخلية أولى من التحلية ودرأ المفاسد أهم من جلب المصالح وجوز أن تكون الإضافة بيانية و ذلك أما إشارة إلى جميع ما تقدم ويؤخذ من المأمورات أضدادها وهي منهي عنها كما في قوله تعالى : أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا بعد قوله سبحانه قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم وأما إشارة إلى ما نهي عنه صريحا فقط
وقرأ الحجازيان والبصريان سيئة بفتح الهمزة وهاء التأنيث والنصب على أنه خبر كان والإشارة إلى ما نهي عنه صريحا وضمنا أو صريحا فقط و مكروها قيل بدل من سيئة والمطابقة بين البدل والمبدل منه غير معتبرة
وضعف بأن البدل المشتق قليل وقيل : صفة سيئة محمولة على المعنى فإنها بمعنى سيئا وقد قريء به أو أن السيئة قد زال عنها معنى الوصفية وأجريت مجرى الجوامد فإنها بمعنى الذنب أو تجري الصفة على موصوف مذكر أي أمرا مكروها وقيل : إنه خبر لكان أيضا ويجوز تعدد خبرها على الصحيح وقيل : حال من المستكن في كان أو في الظرف بناء على جعله صفة سيئة لا متعلقا بمكروها فيستتر فيه ضميرها والحال على هذا مؤكدة
وأنت تعلم أن ضمير السيئة المستتر مؤنث فجعل مكروها حالا منه كجعله صفة سيئة في الاحتجاج إلى التأويل
وإضمار مذكرا كما في قوله
ولا أرض أبقل أبقالها
لا يخفى ما فيه وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قرأ شانه ذلك المتقدم في التكاليف المفصلة مما أوحى إليك ربك أي بعض منه أو من جنسه
(15/76)
من الحكمة التي هي علم الشرائع أو معرفة الحق سبحانه لذاته والخير للعمل به أو الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد وفي الكشاف عن ابن عباس هذه الثماني عشرة آية يعني من لا تجعل فيما مر إلى ملوما مدحورا بعد كانت في ألواح موسى عليه السلام وهي عشر آيات في التوراة وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن التوراة كلها خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا ولا تجعل مع الله إلها آخر وهذا أعظم مدحا للقرآن الكريم ما في الكشاف و من إما متعلقة بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائية وإما بمحذوف وقع حالا من الموصول أو عائده المحذوف أي من الذي أوحاه إليك ربك كائنا من الحكمة وجوز أن يكون الجار والمجرور بدلا من ما ولا تجعل مع الله إلها آخر الخطاب نظير الخطاب السابق كرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه وأنه رأس كل حكمة وملاكها ورتب عليه أولا ما هو عائد للشرك في الدنيا حيث قال فتقعد مذموما مخذولا ورتب عليه ههنا نتيجته في العقبى فقيل فتلقى في جهنم ملوما من جهة نفسك ومن جهة غيرك مدحورا 93 مبعدا من رحمة الله تعالى وفي التفسير الكبير الفرق بين المذموم والملوم أن المذموم هو الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر والملوم هو الذي يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت منه إلا إلحاق الضرر بنفسك ومن هذا يعلم أن الذم يكون أولا واللوم آخرا والفرق بين المخذول والمدحور أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت والمراد به من تركت إعانته وفوض إلى نفسه والمدحور المطرود والمراد به المهان والمستخف به انتهى وفي إيراد الالقاء مبينا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وازدراء بالمشرك وجعل له كخشبة يأخذها من كان فيلقيها في التنور هذا وقد وحد الخطاب في بعض هذه الأوامر والنواهي وجمع في بعض آخر منها ولم يظهر لي سر اختيار كل من التوحيد والجمع فيما اختير فيه على وجه يسلم من القيل والقال ويهش له كمل الرجال وقد ذكرت ذلك لبعض أحبابي من أجلة المحققين ورؤساء المدرسين وطلبت منه أن يحرر ما يظهر له حيث إني محقق كماله وفضله فكتب ما نصه أقول معترفا بالقصور محترزا عن الغرور ومعتذرا بالقول المأثور المأمور معذور يخطر على خاطر الفقير لتغيير اسلوب الخطاب وجوه تسعة لا تدخل في الحساب
الأول الإشعار بانقسام هذه التكاليف إلى أقسام ثلاثة قسم أهل الكل خوطب به الأمة مرتين مرة تصريحا بخطاب أنفسهم ومرة تعريضا بخطاب رسولهم وهذا الأهم هو التوحيد وقسم مهم جدا لكن دون الأول خوطبوا به واحدة تصريحا وهو أمور سبعة الأول مطلق الإحسان بالوالدين فإن انتقاه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق والثاني ترك قتل الأولاد والثالث الزنا والرابع ترك قتل النفس المحرمة إلا بالحق والخامس ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن والسادس الايفاء بالعهد والسابع الوزن بالقسطاس المستقيم وقسم ثالث دون الأولين في المهمية خوطبوا به واحدة تعريضا وهو أيضا أمور أحد عشر
الأول ترك قول أف للوالدين والثاني ترك النهر فإن التأفيف والنهر من أهون مراتب العقوق بخلاف ترك الإحسان مطلقا والثالث قول القول الكريم لهما والرابع خفض الجناح من الرحمة والخامس الدعاء برحمة الله تعالى وهذه الثلاثة تركها ليس كترك مطلق الإحسان مثلا والسادس ترك إيتاء حق ذي القربى والمساكين وابن السبيل وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم
(15/77)
الثاني السابع ترك التبذير والثامن من قول القول الميسور والتاسع العدل في المنع والعطاء والعاشر ترك القفو لما ليس به علم الصادق على القول بموجب الظن مثلا والحادي عشر ترك المشي مرحا وترك واحد من هذه الخمسة أيها كان لا يبلغ ترك واحد من الأمور المكلف بها المذكورة في القسم الثاني كما لا يخفى والثاني من تلك الوجوه الإيماء باقتران خطاب الأمة في النهي عن كبائر خطيرة مثلا بخطابه عما ليس في خطرها إلى أن الذنوب تزداد عظما بعظم مرتكبها فرضا كما يدل عليه آية لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات وكريمة يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكما اشتهر أن حسنات الأبرار سيئات المقربين وأن المقربين على خطر عظيم لكن لم تراع هذه النكتة في النهي عن الشرك إشارة إلى أنه في غاية العظم بحيث لا ينبغي أن يتصور في عظمه ازدياد وتفاوت الأفراد أو نقول : لما عارضت هذه النكتة نكتة أخرى رجحت لكونها بالرعاية أحرى وهي الإشارة إلى أن الشرك كان عند الله سبحانه عظيما فكرر الخطاب بالنهي عنه تخصيصا وتعميما وهكذا نقول في عدم رعاية نكتة الوجوه الآتية في التكليف بالتوحيد ولا نعيد والثالث من تلك الوجوه التنبيه بتعميم الخطاب في النهي عن بعض المعاصي والأمر ببعض الطاعات على أن فتنة فعل تلك المعاصي وترك تلك الطاعات لا تصيب الذين ظلموا خاصة والرابع منها الإشارة بتعميم الخطاب فيما عمم فيه من المنهيات والمأمورات إلى تلك المنهيات كما يجب على كل مكلف الانكفاف عنها يجب عليه كف الغير بحيث لو تركه لكان كفاعلها في أنه اقترف كبيرة نهى عنها نهي تلك المنهيات وإلى أن تلك المأمورات كما يجب على الكل أداؤها يجب إجبار التارك على أدائها بحيث لو لم يجبر لكان كتاركها في أنه ترك واجبا أمر به أمر تلك المأمورات وبتخصيص الخطاب فيما خصص فيه إلى أنه ليس بتلك المثابة فإنه وإن وجب إجبار الغير على بعض تكاليفه لكن عسى أن لا يكون تركه كبيرة والخامس الرمز بتوحيد الخطاب فيما وحد فيه أن تلك الطاعات لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفي حقها إلا المتورعون الصالحون وقليل ما هم بخلاف غيرها فإنه مضبوط
موالسادس الإشعار بأن التكاليف التي خوطب بها النبي والمراد أمته لا يقوم بها حق القيام إلا هو أو من يقتدي بأنواره ويقتفي لآثاره ويسعى في اتباع سننه القويم ويجتهد في التخلق بخلقه الكريم بخلاف غيرها مما خوطبوا به صريحا فإنها لا تأتي من أغلبهم
والسابع أنه صرف الخطاب عنه في النهي عن قتل الأولاد والزنا وقتل النفس المحرمة إلا بالحق والتصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إشارة إلى أن تلك الشنائع لا يأتيها النبي عليه الصلاة و السلام وإن لم ينه عنها لأن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كانت كافية في كفه عنها وكذا صرف عنه الخطاب في الأمر بالإحسان بالوالدين والإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم إشارة إلى أنه يأتي بهذه الأمور وإن لم يؤمر بها لأن ترك مطلق الإحسان بالوالدين لو بلغا لديه الكبر مثلا يلزمه من الفظاظة وغلظة القلب وجفاء الطبع ما كان يأباه طبيعته وكذا الغدر والتطفيف كانا تأباهما أخلاقه الكريمة لكن خوطب بالنهي عن الشرك لأنه ليس للطبع والخلق في التوحيد والشرك دخل
والثامن أنه تعالى إجلالا لحبيبه لم يخاطبه بنهيه عن فواحش قتل الولد والزنا وقتل النفس بغير حق لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يأتيها قبل النهي وكذا لم يخاطبه بأمره بالإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس
(15/78)
المستقيم لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يتركها قبل هذا وهذا الإيهام ادعى للاعتناء بدفعه من الإيهام فيما خوطب به وحده وخوطب بالنهي عن الشرك لأن معهودية دعوته للخاص والعام مدى الليالي والأيام كفته هذا الإيهام
والتاسع لعل التكاليف التي خوطب بها كترك القفو لما ليس له به علم وترك المشي في الأرض مرحا لم تكن في غير دينه من سائر الأديان أو لم تكن مصرحا بها منصوصا عليها في الكتب السماوية ما عدا القرآن فوجه الخطاب إليه وحده تلويحا بأنها من خصائص دينه أو بأن التصريح بها والتنصيص عليها من خصائص كتابه ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى بعد النهي عن القفو بلا علم والمشي مرحا ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ثم إني لا أدعي في هذا بل وفي سائر الوجوه البت والجزم ولا أقفو ما ليس لي به علم بل أقول هذا خطر ببالي الكسير والعلم عند اللطيف الخبير ا ه
ويرد على قوله في الأول فإن انتقاءه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق أن العقوق الذي هو كبيرة فعل ما يتأذى به من فعل معه من الوالدين تأذيا ليس بالهين عرفا كما سمعت وعدم الإحسان أصلا قد لا يكون من ذلك قال العلامة ابن حجر في أثناء الكلام على الفرق بين العقوق وقطع الرحم : إنه لو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى ببقية الأقارب ا ه وكأنه أحسن الله تعالى إليه ظن أنه إذا تحقق عدم الإحسان تحققت الإساءة وهو بمعزل عن الصواب ويرد أيضا على قوله : وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم الثاني أنه إن أراد أنه أهون من ترك مجموع التكليفات فما معنى هذا التخصيص وإن أراد أنه أهون من ترك كل واحد من ترك الأمور المذكورة فهو ممنوع كيف لا ويكون في ذلك قطيعة رحم وقاطعها ملعون في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع
وروى أحمد بإسناد صحيح أن من أربا الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة ومنع زكاة أيضا وقد قال تعالى في حم السجدة وهي مكية كهذه السورة وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون وإن نوقش فيما ذكر قلنا : إن عدم القيام بإيتاء ما ذكر صادق على منع حقوق ثلاثة أصناف ولا شك أن منع ذي الحق حقه ظلم له فيتعدد الظلم فيما نحن فيه ولا أظن أن ذلك أهون من التطفيف وإن كان ظلما أيضا : وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على القلب من وقع الحسام المهند ومما ذكرنا يعلم أن قوله ظاهر غير ظاهر ويرد أيضا على قوله : وترك واحد من هذه الخمسة الخ أن قوله سبحانه ولا تقف ما ليس لك به علم نهي على ما اختاره الإمام عن كبائر لا شك في أن بعضها أعظم بكثير من بعض ما في القسم الثاني كالقول في الإلهيات والنبوات نحو ما يقوله المشركون تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى وإن أبيت إلا تخصيصه ببعض ما قاله المفسرون ونقله الإمام مما هو أهون أفراده كالكذب قيل لك
(15/79)
إن في كونه أهون من انتقاء الإحسان مطلقا مع كونه قد لا يكون كبيرة منعا ظاهرا كما لا يخفى وكذا في كون المشي مرحا دون كل واحد من الأمور السابقة بحث
وقد أخرج الشيخان بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل مختال في مشيته إذ خسف الله تعالى به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة وروى أحمد وابن ماجة والحاكم ما من رجل يتعاظم في نفسه ويختال في مشيته إلا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان وصح لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر إلى غير ذلك من الأحاديث التي لم يجيء مثلها فيمن لم يحسن إلى والديه نعم جاء ذلك فيمن عق والديه وبين عقوقهما وعدم الإحسان إليهما عموم وخصوص مطلق وعلى هذا فلا يخفى حال كما لا يخفى ويرد على الوجه الثاني على ما فيه أنه غير واف بالغرض وعلى الثالث أنه مجرد دعوى لم تساعدها الآثار نعم ورد في بعض ما ذكر أن فتنته لا تصيب الظالم فقط ما يؤيده ومن ذلك ما أخرجه البيهقي وغيره يا معشر المهاجرين خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلت بكم أعوذ بالله تعالى أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة الموءنة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا المطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله تعالى وعهد رسوله إلا سلط الله تعالى عليهم عدوا من غيرهم فيأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى إلا جعل الله تعالى بأسهم بينهم وإن كان في عدم إيتاء المسكين وابن السبيل حقهما منع الزكاة فأمر الإيماء المذكور لا يخفى حاله فإن ألاخبار قد تظافرت بعموم شؤم ذلك فقد صح ما منع قوم الزكاة إلا حبس الله تعالى عنهم القطر وفي رواية صحيحة إلا ابتلاهم الله تعالى بالسنين إلى غير ذلك ويرد على الوجه الرابع أن بعضهم قد أطلق القول بأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كبيرة
وصرح صاحب العدة بأن الغيبة نفسها صغيرة وترك النهي عنها كبيرة وقال بعض المتأخرين : ونقله الجلال البلقيني ينبغي أن يفصل في النهي عن المنكر فيقال : إن كان كبيرة فالسكوت عليه مع إمكان دفعه كبيرة وإن كان صغيرة فالسكوت عليه صغيرة ويقاس ترك المأمور بهذا إذا قلنا : إن الواجبات تتفاوت وهو الظاهر ا ه
وقد علمت أن فيما وحد الخطاب فيه من الأوامر ما تركه كبيرة ومن النواهي ما فعله كذلك فلم يتحقق ما رجا سلمه الله تعالى على أن في تعبيره بالإجبار فيما عبر فيه ما لا يخفى ويرد على الخامس أن في كون الطاعات التي وحد فيها الخطاب لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفى حقها إلا المتورعون منعا ظاهرا فإن أكثر الناس صالحهم وطالحهم لا يمشي في الأرض مرحا ومثل ذلك الدعاء للوالدين بالرحمة فإنا نسمعه على أتم وجه من كثير ممن لا يعرف الورع أي شيء هو وكذا في قوله : بخلاف غيرها فإنه مضبوط فإن ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ممن له ولاية عليه أمر شاق لا يكاد يقوم به إلا الأفراد قال في رد المحتال حاشية الدر المحتار : لا ينبغي للموصى إليه أن يقبل لصعوبة العدل جدا ومن هنا قال أبو يوسف : الدخول في الوصاية أول مرة غلط وثاني مرة خيانة وثالث مرة سرقة ومن هذا يعلم ما في الوجه السادس ويرد على السابع أيضا أن المشي في الأرض مرحا كالأمور التي صرف الخطاب في النهي عنها عنه في أن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كافية في الكف عنه فإن الكبر من البشر لا ينشأ إلا عن جهل وبلادة وقد جبل عليه الصلاة و السلام على أكمل ما يكون من التواضع بل وسائر الصفات التي هي
(15/80)
كما في النوع الإنساني ويؤيد ذلك قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم مع أنه لم يصرف الخطاب فيه وأنه حيث اعتبر الفطنة في الكافي عن الكف لم ينفعه الاعتذار عن توحيد الخطاب في النهي عن الشرك بما اعتذر به فإن للفطنة دخلا تاما في التوحيد كما لا يخفى على فطن ويرد على قوله في الثامن : وهذا الإيهام الخ منع ظاهر فلا يخفى حاله كما لا يخفى ويرد على التاسع أنه لا يساعده نقل ولا عقل بل جاء في النقل ما يخالفه كما سمعت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإن اعتبر النهي عن الشرك من تلك التكليفات فهو كاف في تزييف هذا الوجه لأن النهي عن الشرك جاء به كل رسول ونطق به كل كتاب وما ذكره مؤيدا لغرضه بمعزل عن التأييد هذا وبقيت إيرادات أخر على هذه الوجوه أعرضنا عنها وتركناها للذكي الفطن حذرا من التطويل فتأمل ذاك والله يتولى هداك
أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذتم من الملائكة إناثا خطاب للقائلين بأن الملائكة بنات الله سبحانه والاصفاء بالشيء جعله خالصا والهمزة للإنكار وهي داخلة على مقدر على أحد الرأيين والفاء للعطف على ذلك المقدر أي أفضلكم على جنابه فخصكم بأفضل الأولاد على وجه الخلوص وآثر لذاته أخسها وأدناها والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد النكير وتأكيده وعبر بالإناث إظهارا للخسة
وقال شيخ الإسلام : أشير بذكر الملائكة عليهم السلام وإيراد الإناث مكان البنات إلى كفرة لهم أخرى وهي وصفهم لهم عليهم السلام بالأنوثة التي هي أخس صفات الحيوان كقوله تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وفي الكشف أنه تعالى لما نهى عن الشرك ودل على فساده أتى بالفاء الواصلة وأنكر عليهم ذلك دليلا على مكان التعكيس وأنهم بعد ما عرفوا أنه سبحانه بريء من الشرك بدليل العقل والسمع نسبوا إليه تعالى ما هو شرك ونقص وازدراء بمن أصطفاه من عباده فيا له من كفرة شنيعة ولذا قيل : إنكم لتقولون بمقتضى مذهبكم الباطل قولا عظيما 04 لا يقادر قدره في استتباع الاثم وخرقه لقضايا العقول بحيث لا يجتريء عليه ذو عقل حيث تجعلونه سبحانه من قبيل الأجسام السريعة الزوال المحتاجة إلى بقاء النوع بالتوالد وليس كمثله شيء وهو الواحد القهار الباقي بذاته ثم تضيفون إليه تعالى ما تكرهون من أخس الأولاد وتفضلون عليه سبحانه أنفسكم بالبنين ثم تصفون الملائكة عليهم السلام بما تصفون
ولقد صرفنا من التصريف وهو كثرة صرف الشيء من حال إلى حال ومفعوله هنا محذوف للعلم به أي صرفناه أي هذا المعنى والمراد عبرنا عنه بعبارات وقررناه بوجوه من التقريرات في هذا القرءان العظيم أي في مواضع منه فالمراد بالقرآن مجموع التنزيل وجوز أن يراد به البعض المشتمل على إبطال إضافة البنات إليه سبحانه ومفعول صرفنا محذوف أيضا أي صرفنا القول المشتمل على إبطال الإضافة المذكورة في هذا المعنى وإيقاع القرآن على المعنى وجعله ظرفا للقول إما بإطلاق اسم المحل على الحال لما اشتهر أن الألفاظ قوالب المعاني أو بالعكس كما يقال الباب الفلاني في كذا وهذه الآية في تحريم كذا أي في بيانه ويجوز تنزيل الفعل منزلة اللازم وتعديته بفي كما في قوله
يجرح في عراقيبها نصلى
أي أوقعنا التصريف فيه وقريء صرفنا بالتخفيف والصرف كالتصريف إلا في التكثير ليذكروا أي ليتذكروا ويتعظوا ويطمئنوا له فإن
(15/81)
التكرار يقتضي الإذعان واطمئنان النفس وما يزيدهم ذلك التصريف إلا نفورا 14 عن الحق وإعراضا عنه وهو تعكيس وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الفرقان ليذكروا من الذكر الذي هو بمعنى التذكر ضد النسيان والغفلة والتذكر على القراءة الأولى بمعنى الاتعاظ كما أشير إليه والالتفات إلى الغيبة للايذان باقتضاء الحال أن يعرض عنهم ويحكى للسامعين هناتهم قل في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى لو كان معه سبحانه وتعالى في الوجود ءالهة كما يقولون أي المشركون قاطبة وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء ثالث الحروف خطابا لهم والأمران في مثل هذا المقام شائعان وذلك أنه إذا أمر أحد بتبليغ كلام لأحد فالمبلغ له حال تكلم الآمر غائب ويصير مخاطبا عند التبليغ فإذا لوحظ الأول حقه الغيبة وإذا لوحظ الثاني حقه الخطاب وكذا قرؤا فيما بعد وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم هنا بالتاء وهناك بالياء آخر الحروف على أنه تنزيه منه سبحانه لنفسه ابتداء من غير أمر الرسول عليه الصلاة و السلام بقوله لهم والكاف في محل النصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي كونا مشابها لما يقولون والمراد بالمشابهة على ما قيل الموافقة والمطابقة
إذا لابتغوا جواب عن قولهم : إن مع الله سبحانه آلهة وجزاء للو أي لطلب الآلهة إلى ذي العرش أي إلى من له الملك والربوبية على الاطلاق سبيلا 24 بالمبالغة والممانعة كما اطردت العادة بين الملوك وهي إشارة إلى برهان التمانع كقوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وذلك بتصوير قياس استثنائي استثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم المطلوب وسيأتي إن شاء الله تعالى تقريره في محله وإلى هذا ذهب سعيد ابن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وعن مجاهد وقتادة أن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه تعالى والتقريب بالطاعة لعلمهم بعلوه سبحانه عليهم وعظمته وهذا كقوله تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة وهو إشارة إلى قياس اقتراني هكذا لو كان كما زعمتم آلهة لتقربوا إليه تعالى وكل من كان كذلك ليس إلها فهم ليسوا بآلهة قيل و لو على الأول امتناعية وعلى هذا شرطية والقياس مركب من مقدمتين شرطية اتفاقية وحملية واختار المحققون الوجه الأول لأنه الأظهر الأنسب بقوله سبحانه : سبحانه فإنه ظاهر في أن المراد بيان أنه يلزم ما يقولونه محذور عظيم من حيث لا يحتسبون وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقدير ولا مما يلزمهم من حيث لا يشعرون بل هو أمر يعتقدونه رأسا أي ينزه بذاته تنزيها حقيقا به سبحانه وتعالى متباعدا عما يقولون من العظيمة التي هي أن يكون معه تعالى آلهة وأن يكون له بنات علوا أي تعاليا فهو مصدر من غير فعله كقوله تعالى أنبتكم من الأرض نباتا كبيرا 34 بعيد الغاية بل لا غاية وراءه كيف لا وأنه تعالى في أقصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه من أن معه آلهة وأن له أولادا في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي
وقيل لأنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه
وتعقب بأن ما يقولونه ليس مجرد اتخاذ الولد بل مع ما سمعت ولا ريب في أن ذلك ليس بداخل في حد الإمكان فضلا عن دخوله تحت الوجود وكونه من أدنى مراتب الوجود إنما هو بالنسبة إلى من من شأنه
(15/82)
ذلك واعتذر بأنه من باب التنبيه بحال الأدنى على حال الأعلى ولا يخفى أن ذكر العلو بعد عنوانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة تسبح بالفوقانية وهي قراءة أبي عمرو والأخوين وحفص وقرأ الباقون بالتحتانية لأن تأنيث الفاعل مجازي مع الفصل وقريء سبحت له السموات السبع والأرض ومن فيهن أي من الملائكة والثقلين وإن من شيء من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا إلا يسبح ملتبسا بحمده تعالى والمراد من التسبيح الدلالة بلسان الحال أي تدل بإمكانها وحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث كما يدل الأثر على مؤثره ففي الكلام استعارة تبعية كما في نطقت الحال
وجوز أن يعتبر فيه استعارة تمثيلية ولا يأبى حمل التسبيح على ذلك قوله تعالى ولكن لا تفقهون تسبيحهم بناء على أن كثيرا من العقلاء فهم تلك الدلالة لما أن الخطاب للمشركين والكفرة لا للناس على العموم لأنه تقدم ذكر قبائحهم من نسبتهم إليه تعالى شأنه ما لا يليق بجلاله فإن الله سبحانه وصف ذاته بالنزاهة عنه وبالغ فيه ما بالغ تم عقبه بما ذكر دلالة على أن كل الأكوان شاهدة بتلك النزاهة مبالغة على مبالغة فلو كان الخطاب مع غير هؤلاء المنكرين وأضرابهم لم يتلاءم الكلام ويخرج عن النظام
وقوله تعالى إنه كان حليما غفورا 44 تذييل من تتمة الإنكار على الوجه الأبلغ أي إنه سبحانه حليم ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة لإخلالكم بالنظر الصحيح الموصل إلى التوحيد ولو تبتم ونظرتم لغفر لكم ما صدر منكم من التقصير فإنه غفور لمن يتوب وظن ابن المنير أن هذا التذييل يأبى كون الخطاب للمشركين قال : لأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم والظاهر أن المخاطب المؤمنون وعدم فقههم للتسبيح الصادر من الجمادات كناية والله تعالى أعلم عن عدم العمل بمقتضى ذلك فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة من ذرات الكون يقدس الله تعالى وينزهه ويشهد بجلاله وكبريائه وقهره وعمر خاطره بهذا الفهم لشغله ذلك عن الطعام فضلا عن فضول الأفعال والكلام والعاكف على الغيبة التي هي فاكهتنا في زماننا لو استشعر حال إفاضته فيها أن كل ذرة من ذرات لسانه الذي يلقلقه في سخط الله تعالى عليه مشغولة مملوءة بتقديس الله تعالى وتسبيحه وتخويف عقابه وإنذار جبروته وتيقظ لذلك حق التيقظ لكاد يبكم بقية عمره فالظاهر أن الآية وردت خطابا على الغالب من أحوال الغافلين وإن كانوا مؤمنين ا ه وليس بسديد لخروج الكلام على ذلك من النظام ووجه التذييل ما سمعت فلا إباء كما لا يخفى على ذوي الإفهام
وجوز أن يراد بالتسبيح الدلالة على تنزيه الباري سبحانه عن لوازم الامكان وتوابع الحدوث مطلقا سواء كانت حالية أو مقالية على أنه من عموم المجاز أو بالجمع بين المعنى الحقيقي والمجازى على رأي من يجوزه فتسبيح بعض قالي وتسبيح بعض آخر حالي وتعقبه بأنه لا يلائمه لا تفقهون لأن من ذلك التسبيح ما يفقهه المشركون وغيرهم وهو التسبيح القالي وأجيب بأن المشركين لعدم تدبرهم له وانتفاعهم به كان فهمهم بمنزلة العدم أو أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفهم الجميع تغليبا وذهب بعض الظاهرية وارتضاه الراغب وقال في تفسير الخازن إنه الأصح على أن التسبيح على معناه الحقيقي فالكل يسبح بلسان القال حتى الجمادات
(15/83)
ولم يرتض ذلك الإمام لأن هذا التسبيح لا يحصل إلا مع العلم وهو مما يتصور في الجماد لفقد شرطه العقلي وهو الحياة ولو لم يكن ذلك شرطا عقليا لا نسد باب العلم لكونه سبحانه وتعالى حيا وأيضا التذييل السابق يأبى ذلك لدلالته على أن عدم فقه التسبيح المذكور جرم ولا شك أن عدم فقه تسبيح الجمادات بألفاظها ليس بجرم وإنما الجرم عدم فقه دلالتها للغفلة وقصور النظر ومن تتبع الأحاديث والآثار رأي فيها ما يشهد بما ذهب إليه هذا البعض شهادة لا تكاد تقبل التأويل فقد صح سماع تسبيح الحصا في كفه
وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال : أتى رسول الله بطعام ثريد فقال : إن هذا الطعام يسبح فقالوا : يا رسول الله وتفقه تسبيحه قال : نعم ثم قال لرجل أدن هذه القصعة من هذا الرجل فأدناها فقال : نعم يا رسول الله هذا طعام يسبح فقال : أدنه من آخر فأدناها منه فقال : يا رسول الله هذا الطعام يسبح ثم قال : ردها فقال رجل : يا رسول الله لو أمرت على القوم جميعا فقال : لا أنها لو سكتت عند رجل لقالوا : من ذنب ردها فردها
وأخرج ابن مردوية عن ابن مسعود قال : كنا أصحاب محمد نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا بينما نحن مع رسول الله ليس معنا ماء فقال : لنا أطلب من معه فظل ماء فأتي بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه ثم قال : حي على الطهور المبارك والبركة من الله تعالى فشربنا منه قال عبد الله : كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب
وأخرج أحمد وابن مردوية عن ابن عمر أن النبي قال : إنا نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه : آمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء وأخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول الله أنه مر على قوم وهم وقوفا على دواب لهم ورواحل فقال لهم : اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكر الله تعالى منه وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال : نهى النبي عن قتل الضفدع وقال نقيقها تسبيح
واخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال : ظن داود عليه السلام في نفسه أن أحدا لم يمدح خالقه بما مدحه وإن ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه فقال يا داود إفهم إلى ما تصوت به الضفدع فأنصت داود فإذا الضفدع تمدحه بحمده لم يمدحه بها فقال له الملك : كيف ترى يا داود أفهمت ما قالت قال : نعم قال : ماذا قالت قال : قالت سبحانك الله وبحمدك منتهى علمك يا رب قال داود : لا والذي جعلني نبيه إن لم أمدحه بهذا
وأخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن شهر بن حوسب من حديث طويل أن داود علي السلام أتى البحر في الساعة فنادته ضفدعة يا داود إنك حدثت نفسك إنك قد سبحت في ساعة ليس يذكر الله تعالى فيها غيرك وإني في سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل نسبح الله تعالى ونقدسه
وأخرج الخطيب عن أبي ضمرة قال : كنا عند علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما فمر بنا عصافير يصحن فقال : أتدرون ما تقول هذه العصافير قلنا : لا قال : أما أنا ما أقول إنا نعلم الغيب ولكن سمعت أبي يقول سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه يقول سمعت رسول الله يقول : إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها
(15/84)
وأخرجوأخرج ابن راهوية في مسنده من طريق الزهري قال : أتى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وافر الجناحين فقال : سمعت رسول الله يقول : ما صيد صيد ولا عضدت عضاه ولا قطعت وشيجه إلا بقلة التسبيح وأخرج أبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه الصلاة و السلام ما صيد من صيد ولا شج من شج إلا بتضييعه التسبيح
وأخرج ابن الشيخ عن أبي الدرداء وابن مردوية عن ابن مسعود مثل ذلك مرفوعا أيضا وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لولا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم من البيوت ما تقاررتم وأخرج عن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال : بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى والثانية سبحانه وتعالى والثالثة سبحانه وحمده والرابعة سبحانه ولا حول ولا قوة إلا به والخامسة سبحان محيي الموتى وهو على كل شيء قدير والسادسة سبحان الملك القدوس والسابعة سبحان الذي ملأ السماوات السبع والأرضين السبع عزة ووقارا إلى ما يكاد يحصى من الأخبار والآثار وهي بمجموعها متعاضدة في الدلالة على أن التسبيح قالي كما لا يخفى وهو مذهب الصوفية وذكروا أن السالكة عند وصوله إلى بعض المقامات يسمع تسبيح الأشياء بلغات شتى
وقد روي عن بعض السلف سماعا لتسبيح بعض الجمادات واختلف القائلون بهذا التسبيح فقال بعضهم : بثبوته للأشياء مطلقا وقيل إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح وأن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها فإذا رفعت تركت وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت وإن الثوب يسبح ما لم يتسخ فإذا اتسخ ترك وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت وإذا سكتت تركت وعلى هذا ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال : جلس الحسن مع أصحابه على مائدة فقال بعضهم : هذه المائدة تسبح الآن فقال الحسن : كلا إنما ذاك كل شيء على أصله
وأخرج عن السدي أنه قال : ما من شيء على أصله الأول لم يمت إلا وهو يسبح بحمده تعالى ولعله أراد بالموت خروجه عن أصله الأول
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن قتادة أنه قال في الآية : كل شيء فيه الروح يسبح من شجرة وحيوان وكون الشجرة ذات روح مبني على قول الناس فيها إذا يبست ماتت واستثنى بعضهم بعض الحيوانات من عموم كل شيء لما أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال كل شيء يسبح إلا الحمار والكلب
ولا أرى لاستثناء ما ذكر وجها وفي القلب من صحة الرواية عن الحبر شيء وكذا للتقييد بعد أن لم تكن الجمادية مانعة عن التسبيح والأخبار الظاهرة في عدم التقييد أكثر ولا أظن لما يخالفها امتيازا عليها في الصحة
ويشكل على هذا القول ما تقدم عن الامام من إباء التذييل عنه وعدم وجود العلم الذي يستدعيه التسبيح القالي في الجمادات وتقصى بعضهم عن هذا بالتزام آن لكل شيء حياة وعلما لائقين به ولا يطلع على حقيقة ذلك إلا الله تعالى اللطيف الخبير فكل ما في العالم عند هذا الملتزم حي عالم لكنه متفاوت المراتب في العلم والحياة
ونقل الشعراني عن الخواص أنه قال : كل جماد يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان وقال الشيخ الأكبر قدس سره : أن المسمى بالجماد والنبات له عندنا أرواح بطنت عن إدراك غير الكشف إياها في العادة فالكل عندنا حي ناطق غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة ووقع التفاصل بين الخلائق في المزاج والكل
(15/85)
يسبح الله تعالى كما نطقت الآية به ولا يسبح إلا حي عاقل عالم عارف بمسبحه وقد رود أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس والشرائع والنبوات مشحونة بما هو من هذا القبيل ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف إلى آخر ما قال
واستدل بعضهم في هذا المقام بما روي عن النبي أنه قال في دعائه للحمى : يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله تعالى فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تفوري من الفم وانتقلي إلى من يزعم أن مع الله تعالى آلهة أخرى فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وجاء عن السجاد رضي الله تعالى عنه في الصحيفة في مخاطبة القمر ما هو ظاهر في أنه له شعورا واستفاض عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب للنيل كتابا يخاطبه فيه بما يخاطبه وضرب الأرض بالدرة حين تزلزلت وقال لها : إني أعدل عليك وكم وكم في الأخبار نحو ذلك قيل ولا داعي لتأويلها إذ لا أحد يقول : إن شعور الجمادات كشعور الحيوانات الظاهرة بحيث يدركه كل أحد حتى يكون العمل بظاهر اللفظ خلاف حس العقلاء فيجب ارتكاب التأويل والتجوز ومن علم عظم قدرة الله عز و جل وأنه سبحانه لا يعجزه شيء وأن المخلوقين على اختلاف مراتبهم لا سيما المنغمسين في أحوال العلائق والعوائق الدنيوية والمسجونين في سجين الطبيعة الدنية لم يقفوا على عشر العشر مما أودع في عالم الإمكان ونقش بيد الحكمة على برود الأعيان سلم ما جاء به الصادق عليه الصلاة و السلام وإن خالف ما عنده نسب القصور إلى نفسه فرب فكر يظنه المرء حقا وهو من الأوهام كما لا يخفى على من أنصف ولم يتعسف
وعلى هذا الذي ذكروه لا تحتاج إعادة ضمير ذوي العلم في تسبيحهم على ما تقدم إلى توجيه وتفصي آخر عن الأول بأن قوله تعالى إنه كان حليما غفورا متعلق بقوله سبحانه سبحانه وتعالى عما يقولون ولا يخفى ما في هذا التفصي ولعل الأولى فيه أن يلتزم حمل التسبيح على ما هو الأعم من الحالي والقالي ويثبت كلا النوعين بكل شيء والتذييل باعتبار القصور في فقه الحالي لا باعتبار القصور في فقه الآخر ويشكل أيضا أن من أفراد من نسب إليه التسبيح الجحد فضلا عن الساكت فالحمل على المجاز واجب وأجيب بأن استثناء أولئك معلوم بقرينة السباق واللحاق وزعم من زعم أن الجاحد مقدس أيضا وأنشدوا للحلاج جحودي لك تقديس وعقلي فيك منهوس فما آدم الاك وما في الكون إبليس وأنت تعلم أم مثل هذا الحلج والندف صار سببا لما لاقى من الحتف فماذا عسى أقول سوى حسبنا الله ونعم الوكيل وقريء لا يفقهون على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل وإذا قرأت القرآن الناطق بالتسبيح والتزيه ودعوتهم إلى العمل بما فيه جعلنا بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفية
بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم المشركون المتقدم ذكرهم وأوثر الموصول على الضمير ذما لهم بما في حين الصلة ويتم به مع ما سبق الإشارة إلى كفرهم بالمبدأ والمعاد
وفي إرشاد العقل السليم إنما خص بالذكر كفرهم بالآخرة من بين سائر ما كفروا به من التوحيد ونحوه دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن وتمهيدا لما سينقل عنهم من إنكار البعث واستعجاله ونحو ذلك ا ه وفي كون الآخرة معظم ما أمروا بالإيمان به في القرءان ترددو ربما يدعي أن ذلك هو التوحيد فالأولى
(15/86)
الاقتصار على أنه للتمهيد حجابا يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة وجلالة القدر ولذلك اجترؤا على التفوه بالعظيمة وهي قوله : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وأصل الحجاب كالحجب المنع من الوصول فهو مصدر وقد أريد به الوصف أي حاجبا مستورا 54 أي ذا ستر فهو للنسب كرجل مرطوب ومكان مهول وجارية مغنوجة ومنه وعدا مأتيا وكذا سيل مفعم بفتح العين والأكثر مجيء فاعل لذلك كلابن وتامر وجوز أن يكون الإسناد مجازيا كما اشتهر في المثال الأخير وفي الأخفش أن مفعول يرد بمعنى مفعول كماء دافق فمستور بمعنى ساتر أو مستورا عن الحس فهو على ظاهره ويكون بيانا لأنه حجاب معنوي لا حسي أو مستورا في نفسه بحجاب آخر فيكون إيذانا بتعدد الحجب أو مستورا كونه حجابا حيث لا يدرون أنهم لا يدرون وقيل : إنه على الحذف والإيصال أي مستورا به الرسول
وجعلنا على قلوبهم أكنة أغطية جمع كنان والمراد بمعونة المقام التكثير أي أكنة كثيرة
أن يفقهوه مفعول له بتقدير مضاف أي كراهة أن يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند الله تعالى أو مفعول به لفعل مقدر مفهوم من الجملة أو من أكنة لا أن جعلنا أي شيئا مما ذكر قد ضمنه كما يتوهم أي منعناهم فقهه والوقوف على كنهه وفي آذانهم وقرا صمما وثقلا عظيما مانعا من سماعه اللائق به فإنهم كانوا يسمعونه من غير تدبر وهذه كما قال بعض المحققين تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جيء بها بيانا لعدم فقههم فصيح المقال إثر بيان عدم فقههم دلالة الحال وفيه إيذان بأن ما تضمنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيه على أن حالهم هذه أقبح من حالهم السابقة وحمل الآية على ما ذكر من لم يجعل التسبيح فيما سبق لفظيا وعلى جعله لفظيا لا يحسن حملها على ذلك كما لا يخفى هذا وقال بعضهم : المراد بالحجاب ما يحجبه عن فهم ما يقرؤه عليه الصلاة و السلام فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال : الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به وإلى ذلك ذهب الزجاج وتعقب بأنه لا يلائم بينك وبين الذين إلخ إلا بتقدير مضافين أي جعلنا بين فهم قراءتك وأيضا يلزم عليه التكرار من غير فائدة جديدة وأجيب بأن الظاهر أنه لا يقدر فيه وإنما يلزم لو كان حقيقة وهذا تمثيل لهم في عدم إسماع الحق بمن كان وراء جدار وحجاب كما أن الأكنة كذلك وأما حديث التكرار من غير فائدة فمدفوع بأن قوله تعالى : وجعلنا الخ تصريح بمقتضاه نفي فصيح المقال بعد نفي فهم دلالة الحال من كونهم مطبوعين على الضلال ولا يخفى على المنصف أولوية ما تقدم
وعن الجبائي أن المراد بالحجاب ما يحجبهم عن إيذاء الرسول وذلك أنهم كانوا يقصدونه إذا قرأ ليؤذوه فآمنه الله تعالى وذكر له عليه الصلاة و السلام أنه جل شأنه جعل بينه وبينهم حجابا عند القراءة فلا يمكنهم الوصول إليه وهو عندي مما لا بأس به وإن ذكره في معرض التفصي عن استدلال أصحابنا بالآية على أن الله تعالى يمنع عن الإيمان من شاء كما يهدي إليه من شاء نعم هو دون الأول عند من يتأمل
(15/87)
وقيل : المراد حجاب منعهم رؤية شخص النبي وذاته الكريمة فقد أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي معافى الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت : لما نزلت تبت يدا أبي لهب أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول :
مذمما أبينا ودينه قلينا
وأمره عصينا
ورسول الله جالس وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال : إنها لن تراني وقرأ قرءانا أعتصم به كما قال تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي عليه الصلاة و السلام فقالت : يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ماهجاك فانصرفت وهي تقول
قد علمت قريش أني بنت سيدها
وجاء في روايةأنها حين ولت ذاهبة قال أبو بكر : يا رسول الله إنها لم ترك فقال النبي حال بيني وبينها جبريل عليه السلام وذكر الإمام أنه كان إذا أراد تلاوة القرءان تلا قبلها ثلاث ءايات قوله تعالى : في سورة الكهف وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا
وقوله سبحانه في النحل أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وقوله جل وعلا في سورة حم الجاثية أفرأيت من اتخذ إلهه هواه الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله سبحانه وإذا قرأت القرآن جعلنا الخ واحتج أصحابنا بذلك على أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرا مع أنه لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق في العين مانعا يمنع من الرؤيا قالوا إن النبي عليه الصلاة و السلام كان حاضرا وحواس الكفار سليمة وكانوا لا يرونه وقد أخبر سبحانه أن ذلك لأجل أنه جعل بينه عليه الصلاة و السلام حجابا مستورا ولا معنى للحجاب المستور إلا المعنى الذي يخلقه في عيونهم ويكونوا مانعا لهم من الرؤيا انتهى وقال بعض المحققين : إن حمل الحجاب على ما روي من حديث أسماء مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم وكأنه أراد أن حمله في الآية على الحجاب المانع من الرؤية كذلك فهو وارد على ما نقل عن الإمام أيضا ويعلم منه حال احتجاج الأصحاب مع ما يرد على قولهم فيه ولا معنى للحجاب الخ من أنه مخالف لما في الرواية السابقة التي ذكر فيها حيلولة جبريل عليه السلام والخبر الذي أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة و السلام قال : كان بيني وبينها ملك يسترني بجناحيه حتى ذهبت فإن كلا الخبرين ظاهر في أن المانع لم يكن في عيونهم بل هو إما جبريل عليه السلام أو ملك آخر حال بينه وبينهم فلم يروه لكن يبقى الكلام في أن منع اللطيف الرؤيه خلاف العادة أيضا وهو بحث آخر فليتدبر ثم إن ما عن أسماء ليس نصا في أن الحجاب في الآية هو الحجاب المانع عن الرؤية كما لا يخفى على من أمعن النظر وهذا القول إنما يحتاج إليه أن اعتبر تصحيح الحاكم أو نص على صحته من اعتبر تصحيحه من المحدثين أما إذا لم يكن ذلك فأمره سهل وجعل الزمخشري ما تقدم حكاية لما قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب على معنى جعلنا على زعمهم ولم يرتضه شيخ الإسلام لأن قصدهم بذلك إنما هو الاخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي جهلا وكفرا من اتصافهما بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير وقص عليه حال النبي عليه الصلاة و السلام لا الاخبار بأن هناك أمرا وراء ما أدركوه
(15/88)
قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام انتهى وقد يقال : حيث كان الكلام مسوقا لتعداد قبائحهم والإنكار عليهم فالملاءمة مما ريب فيها نعم اختيار الزمخشري هذا الوجه مما لا يخلو عن دسيسه اعتزالية ولا أظنها تخفى عليك وإذا ذكرت ربك في القرءان أي غير مقرون بذكره ذكر شيء من آلهتهم التي يزعمونها كما كانوا يقولون بالله تعالى واللات مثلا ويصدق هذا بذكره سبحانه و وحده الزمخشري مصدر الثلاثي يقل وحده يحده وحدا وحدة كوعده يعده وعدا وعدة وهو ساد مسد الحال بمعنى واحدا وقيل : هو مصدر أوحد على حذف الزوائد وأصله إيحاد ومذهب سيبويه أنه ليس بمصدر بل هو اسم موضوع موضع المصدر وهو ايحاد الموضوع موضع الحال وهو موحد
ومذهب يونس أنه منصوب على الظرفية وتحقيق الأقوال فيه في الرفدة كما قدمنا وذكر أنه على الحالية إذا وقع بعد فاعل ومفعول كما هنا جاز كونه حالا من كل منهما أي وإذا ذكرت ربك موحدا له أو موحدا بالذكر ولو على أدبارهم هربوا أو نفروا نفورا 64 فهو مفعول مطلق منصوب بولوا لتقارب معناهما
وجوز أن يكون مفعولا لأجله أي ولوا لأجل النفور والإنزعاج وأن يكون حالا على أنه جمع نافر أي ولوا نافرين من ذلك والضمير للمشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس ما ظاهره أنه للشياطين ولا يكاد يصح عن الحبر إلا بتأويل نحن أعلم بما يستمعون به أي متلبسين به من اللغو والأستخفاف والهزء بك وبالقرآن يروى أنه عليه الصلاة و السلام كان يقوم عن يمينه رجلان من عبد الدار وعن يساره رجلان منهم فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار ويجوز أن تكون الباء للسببية أو بمعنى اللام أي نحن أعلم بما يستمعون بسببه أو لأجله من الهزء وهي متعلقة بيستمعون وجعلها على ظاهرها على معنى أيستمعون بقلوبهم أم بظاهر أسماعهم غير ظاهر والباء الأولى متعلقة بأعلم وأفعل التفضيل في العلم والجهل يتعدى بالباء وفي سوى ذلك يتعدى باللام فيقال هو أكسى للفقراء مثلا والمراد من كونه تعالى أعلم بذلك الوعيد لهم
إذ يستمعون إليك ظرف لأعلم لا مفعول به وفائدته كما قال شيخ الإسلام تأكيد الوعيد بالإخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لا أن العلم المستفاد هناك من أحد وليس المراد تقييد علمه تعالى بذلك الوقت وكذا قوله تعالى وإذ هم نجوى لكن من حيث تعلقه بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم
موالمعنى نحن أعلم بما يستمعون به مما لا خير فيه مما سمعت وبما يتناجون به فيما بينهم وجوز أن يكون الأول ظرفا ليستمعون والثاني ظرفا ليتناجون والمعنى نحن أعلم بما به الاستماع وقت استماعهم من غير تأخير وبما به التناجي وقت تناجيهم والأول أظهر و نجوى مصدر مرفوع على الخبرية وفي ذلك ما في زيد عدل ويجوز أن يعتبر جمع نجى كقتلى وقتيل أي إذ هم متناجون إذ يقول الظلمون بدل من إذ الثانية وبيان لما يتناجون به فهو غير ما يستمعون به لا معمول لا ذكر محذوفا كما قيل و الظالمون من المظهر الذي أقيم مقام المضمر للدلالة على أن تناجيهم باب من الظلم أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم إن تتبعون أي ما تتبعون إن وجد منكم الاتباع فرضا وجوز أن يكون المعنى ما تتبعون باللغو والهزء إلا رجلا مسحورا 74 أي سحر فجن فهو كقولهم : إن هو إلا رجل مجنون وقيل : جعل له سحر يتوصل بلطفه ودقته إلى ما يأتي به ويدعيه فهو في معنى
(15/89)
قولهم ساحر وجعل بعضهم مسحورا بمعنى ساحرا كمستور بمعنى ساتر وعن أبي عبيدة أن مسحورا بمعنى جعل له سحرا وإذا سحر أي رئة ومن هذا قول امريء القيس : أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب وأراد نغذي وقول لبيد أو أمية بن أبي الصلت : فإن تسألينا فيما نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر وكنوا بذلك عن كونه بشرا يتنفس ويأكل ويشرب لا يمتاز عنهم بشيء يقتضى اتباعه على زعمهم الفاسد ولا يخفى ما فيه من البعد حتى قال ابن قتيبة : لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة وقال ابن عطية : إنه لا يناسب قوله تعالى : أنظر كيف ضربوا لك الأمثال أي مثلوك فقالوا تارة شاعر وتارة مجنون مع علمهم بخلافه فظلوا في جميع ذلك عن منهاج المحاجة فلا يستطيعون سبيلا 84 طريقا ما إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخبطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه من سمعه أو إلى سبيل الحق والرشاد وفيه من الوعيد وتسلية الرسول ما لا يخفى
وقالوا ءإذا كنا عظاما ورفاتا عطف على ضربوا ولما عجب من ضربهم الأمثال عطف عليه أمرا آخر يعجب منه أيضا وفي الكشف الأظهر أن يكون هذا إلى تمام المقالات الثلاث تفسيرا لضربوا لك الأمثال ألا ترى إلى قوله تعالى : واضرب لهم مثلا وتفسيره بمثلوك غير ظاهر بل الظاهر مثلوا لك ولا خفاء أن تجاوب الكلام على ما ذكرنا أتم وذلك أنه لما ذكر استهزاءهم به وبالقرآن عجبه من استهزائهم بمضمونه من البعث دلالة على أنه أدخل في التعجب لأن العقل أيضا يدل عليه ولكن على سبيل الإجمال وأما على تفسير ضربوا لك الأمثال بمثلوك فوجهه أن يكون معطوفا على قوله سبحانه فضلوا لأنه باب من أبواب الضلال أو على مقدر دل عليه كيف ضربوا لأن معناه مثلوك وقالوا شاعر ساحر مجنون وقالو : أئذا كنا الخ ا ه
ولا يخفى أنه على التفسير الذي اختاره يكون قالوا معطوفا على ضربوا أي عطفا تفسيريا لكن الظاهر فيه حينئذ الفاء وأنه لا يحتاج على ما ذكرنا إلى تكلف العطف على مقدر والارتباط عليه لا يقصر عن الارتباط الذي ذكره وعطفه على فضلوا مما لا يحسن لعدم ظهور دخوله معه في حيز الفاء والاعتراض على التفسير بمثلوك بأنهم ما مثلوه عليه الصلاة و السلام بالشاعر والساحر مثلا بل قالوا تارة كذا وأخرى كذا وأيضا كان الظاهر أن يقال فيك بدل لك ليس بشيء لأن ما ذكروه على طريق التشبيه لتقريعه وعجزهم عن معارضته و لك أظهر من فيك لأنه عليه الصلاة و السلام الممثل له هذا وأقول : أنظر هل ثم مانع من عطف قالوا على يقول الظالمون وجعل هذا القول مما يتناجون به أيضا وإعلانهم به أحيانا لا يمنع من هذا الجعل وكذا اختلاف المتعاطفين ماضوية ومضارعية لا يمنع من العطف نعم يحتاج إلى نكتة ولا أظنها تخفى فتدبر
والرفات ما تكسر وبلى من كل شيء وكثر بناء فعال في كل ما تحطم وتفرق كدقاق وفتات
وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه التراب وهو قول الفراء وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس
(15/90)
أنه الغبار وقال المبرد : هو كل شيء مدقوق مبالغ في دقه وهي أقوال متقاربة والهمزة للاستفهام الانكاري مفيدة لكمال الاستبعاد والاستنكار للبعث بعد ما آل الحال إلى هذا المآل كأنهم قالوا : إن ذلك لا يكون أصلا
ومنشؤه أن بين غضاضة الحي وطراوته المتيقضة للاتصال المقتضي للحياة وبين يبوسة الرميم المقتضية للتفرق المقتضي لعدم الحياة تنافيا و إذا هنا كما في الدر المصون متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى : ءانا لمبعثون لا نفسه لأن إن لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها وكذا الاستفهام وإن كان تأكيدا مع كون الاستفهام بالفعل أولى وهو نبعث أو نعاد وهو مصب الإنكار وتقييده بالوقت المذكور لتقوية إنكار البعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له وإلا فالظاهر من حالهم أنهم منكرون للأحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله
وجوز أن تكون شرطية وجوابها مقدر أي نبعث أو نحوه وهو العامل فيها وقيل الشرط والمعنى أنبعث وقد كنا رفاتا في وقت وهو مذهب لبعض النحويين غير مشهور ولا معول عليه وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم عظاما ورفاتا كما يتراءى من ظاهر الجملة الإسمية بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيد عليه قاله بعض المحققين خلقا جديدا 94 نصب بمبعوثين على أنه مفعول مطلق له من غير لفظ فعله أو حال على أن الخلق بمعنى المخلوق ووحد الاستواء الواحد وإن أريد منه اسم المفعول أي مخلوقين قل جوابا لهم وتقريبا لما استبعدوه
كونوا حجارة أو حديدا 05 رد سبحانه قوله كونوا على قولهم كنا فهو من باب المشاكلة والمقابلة بالجنس ومعنى الأمر كما قيل الاستهانة كما في قول موسى عليه السلام ألقوا ما أنتم ملقون وجعله صاحب الإيضاح أمر إهانة والفاضل الطيبي أمر تسخير كما في قوله تعالى كونوا قردة خاسئين لكنه قال : إنه على الفرض وفي الكشف أنه غير ظاهر ولو جعل من باب كن فلانا على معنى أنت فلان من استعمال الطلب في معنى الخبر أي أنتم حجارة ولستم عظاما ومع ذلك تبعثون لا محالة لكان وجها قويما وبحث فيه الشهاب بأنه كيف يقال أنتم حجارة على أنه خبر وهو غير مطابق للواقع فلا بد من قصد الإهانة وعدم المبالاة وجعل الأمر مجازا عن الخبر والخبر خبر فرضي وليس فيه ما يدل على الفرض كان ولو الشرطيتين فهو مما لا يخفى بعده وليس بأقرب مما استبعده فالصواب أنه للإهانة كما جنح إليه صاحب الإيضاح فتدبر والحجارة جمع حجر كأحجار وهو معروف وكذا الحديد وهو مفرد وجمعه حدائد وحديدات
والظاهر أن المراد كونوا من هذين الجنسين أو خلقا أي مخلوقا آخر مما يكبر في صدوركم أي مما يستبعد عندكم قبوله الحياة لكونه أبعد شيء منها وتعيينه مفوض إليكم فإن الله تعالى لا يعجزه إحياؤكم لتساوي الأجسام في قبول الإعراض فكيف إذا كنتم عظاما بالية وقد كانت موصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد وقال مجاهد : الذي يكبر السموات والأرض والجبال
(15/91)
وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس وابن عمر والحسن وابن جبير أنهم قالوا : ما يكبر في صدورهم الموت فإنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت والمعنى لو كنتم مجسمين من نفس الموت لأعادكم فضلا عن أصل لا يضاد الحياة إن لم يقتضها وفيه مبالغة حسنة وإن كان اللفظ غير ظاهر فيه فسيقولون لك : من يعيدنا مع ما بيننا وبين الإعادة من مثل هذه المباعدة والمباينة قل لهم تحقيقا للحق وإزاحة للإستبعاد وإرشادا إلى طريقة الاستدلال الذي فطركم أي القادر العظيم الذي اخترعكم أول مرة من غير مثال يحتذيه ولا أسلوب ينتحيه وكنتم ترابا ما شم رائحة الحياة أليس الذي يقدر على ذلك بقادر على أن يفيض الحياة على العظام البالية ويعيدها إلى حالها المعهودة بلى إنه سبحانه على كل شيء قدير والموصول مبتدأ خبره يعيدكم المحذوف لدلالة السؤال عليه أو فاعل به أو خبر مبتدأ محذوف على اختلاف في الأولى كما فصل في محله
و أول مرة ظرف فطركم فسينغضون إليك رءوسهم أي سيحركونها نحوك استهزاء كما روي عن ابن عباس وأنشد عليه قول الشاعر : أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى خيولا عليها كالأسود ضواريا ومثله قول الآخر : أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنه يطلب شيئا أطعما وفي القاموس نغض كنصر وضرب نغضا ونغوضا ونغضانا ونغضا محركتين تحرك واضطرب كأنغض وحرك كأنغض وفسر الفراء الانغاض بتحريك الرأس بارتفاع وانخفاض وقال أبو الهيثم : من أخبر بشيء فحرك رأسه إنكارا له فقد أنغض رأسه فكأنه سيحركون رؤسهم إنكارا ويقولون استهزاء متى هو أي ما ذكرته من الإعادة وجوز أن يكون الضمير للعود أو البعث المفهوم من الكلام قل لهم عسى أن يكون ذلك قريبا 15 فإن ما هو محقق اتيانه قريب ولم يعين زمانه لأنه من المغيبات التي لا يطلع عليها غيره تعالى ولا يطلع عليها سبحانه أحدا وقيل : قربه لأن ما بقي من زمان الدنيا أقل مما مضى منه وانتصاب قريبا على أنه خبر كان الناقصة واسمها ضمير يعود على ما أشير إليه وجوز أن يكون منصوبا على الظرفية والأصل زمانا قريبا فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه فانتصب انتصابه وكان على هذا تامة وفاعلها ذلك الضمير عسى أن يقع ذلك في زمان قريب وأن يكون في تأويل مصدر منصوب وقع خبرا لعسى واسمها ضميرا يعود على ما عاد عليه اسم يكون وجوز أن يكون مرفوعا بعسى وهي تامة لا خبر لها أي عسى كونه قريبا أو في وقت قريب
واعترض بأن عسى للمقاربة فكأنه قيل : قرب أن يكون قريبا ولا فائدة فيه وأجيب بأن نجم الأئمة لم يثبت معنى المقاربة في عسى ولا وضعا ولا استعمالا ويدل له ذكر قريبا بعدها في الآية فلا حاجة إلى القول بأنها جردت عنه فالمعنى يرجى ويتوقع كونه قريبا يوم يدعوكم منصوب بفعل مضمر أي اذكروا أو بدل من قريبا على أنه ظرف أو متعلق بيكون تامة بالاتفاق وناقصة عند من يجوز أعمال الناقصة في الظروف أو بتبعثون محذوفا أو بضمير المصدر المستتر في يكون أو عسى العائد على العود مثلا بناء مذهب على الكوفيين المجوزين أعمال الضمير المصدر كما في قوله :
(15/92)
وما الحرب إلا ماعلمتم وذقتمو وما هو عنها بالحديث المرجم وجعله بدلا من الضمير المستتر بدل اشتمال ولم يرفع لأنه إذا أضيف إلى مثل هذه الجملة قد يبنى على الفتح تكلف وادعاء ظهوره ومكابرة والدعاء قيل : مجاز عن البعث وكذا الاستجابة في قوله تعالى : فتستجيبون مجاز عن الانبعاث أي يوم يبعثكم فتنبعثون فلا دعاء ولا استجابة وهو نظير قوله تعالى كن فيكون في أنه لا خطاب ولا مخاطب في المشهور وتجوز بالدعاء والاستجابة عن ذلك للتنبيه على السرعة والسهولة لأن قول : قم يا فلان أمر سريع لا بطء فيه ومجرد النداء ليس كمزاولة الايجاد بالنسبة إلينا وعلى أن المقصود الاحضار للحساب والجزاء فإن دعوة السيد لعبده إنما تكون لاستخدامه أو للتفحص عن أمره والأول منتف لأن الآخرة لا تكليف فيها فتعين الثاني وقال الإمام وأبو حيان : يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال سبحانه يوم ينادي المناد من مكان قريب الآية ويقال إن إسرافيل عليه السلام وفي رواية جبرائيل عليه السلام ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت
وأخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال : قال إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسمائكم ولعل هذا عند الدعاء للحساب وهو بعد البعث من القبور واقتصر كثير على التجوز السابق فقيل إن فيه إشارة إلى امتناع الحمل على الحقيقة لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد وهو الأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادةالحقيقة لكان ذلك كناية عن البعث والانبعاث لا مجاز والمجوز لإرادتها يقول أن الدعوة بالأمر التكويني وهو مما يوجه إلى المعدوم وقد قال جمع به في قول كن ولم يتجوزوا في ذلك وأما إنه لو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان كناية لا مجاز فأمر سهل كما لا يخفى فتدبر
بحمده حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار كما هو الظاهر والباء للملابسة أي فتستجيبون ملتبسين بحمده أي حامدين له تعالى على كمال قدرته وقيل المراد معترفين بأن الحمد له على النعم لا تنكرون ذلك لأن المعارف هناك ضرورية
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن جرير أنه قال : يخرجون من قبورهم وهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ولا بعد في صدور ذلك من الكافر يوم القيامة وإن لم ينفعه وحمل الزمخشري ذلك على المجاز والمراد المغالبة في انقيادهم للبعث كقوله لمن تأمره بركوب ما يشق عليه ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسرا حتى إنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه فكأنه قيل : منقادين لبعثه انقياد الحامدين له وتعلق الجار بيدعوكم ليس بشيء وعن الطبري أن بحمده معترض بين متعاطفين اعتراضه بين اسم إن وخبرها في قوله : فإني بحمد الله لثوب فأجرى لبست ولا من غدره أتقنع ويكون الكلام على حد قوله لرجل وقد خصمته في مسألة أخطأت بحمد الله تعالى فكأن الرسول عليه الصلاة و السلام قال : عسى أن يكون البعث قريبا يوم تدعون وتقومون بخلاف ما تعتقدون اليوم وذلك بحمد الله سبحانه على صدق خبري وملخصه يكون ذلك على اختلاف اعتقادكم والحمد لله تعالى ولا يخفى أنه معنى متكلف لا يكاد يفهم من الكلام ونحن في غنى عن ارتكابه والحمد لله وقيل الخطاب للمؤمنين وانقطع
(15/93)
خطاب الكافرين عند قوله تعالى : قريبا فيستجيبون حامدين له سبحانه على إحسانه إليهم وتوفيقه إياهم للإيمان بالبعثوأخرج الترمذي والطبراني وغيرهما عن ابن عمرقال : قال رسول الله ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم وكأن بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وفي رواية عن أنس مرفوعا ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رؤسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وقيل : الخطاب للفريقين وكلهم يقولون : ما روي عن ابن جبير
وتظنون الظاهر أنه عطف على تستجيبون وإليه ذهب الحوفي وغيره وقال أبو البقاء : هو بتقدير مبتدأ والجملة في موضع الحال أي وأنتم تظنون إن لبثتم أي ما لبثتم في القبور إلا قليلا 25 كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدنيا كما روى غير واحد عن قتادة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يستقلون لبثهم بين النفختين فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك البين ولذا يقولون من بعثنا من مرقدنا وقيل يستقلون لبثهم في عرصة القيامة لما أن عاقبة أمرهم الدخول إلى النار وهذا في غاية البعد كما لا يخفى والظن يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين وهو معلق عن العمل بأن النافية وقل من ذكرها من أدوات التعليق قاله أبو حيان وانتصاب قليلا على أنه نعت لزمان محذوف أي إلا زمانا قليلا وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لبثا قليلا ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية وقل لعبادي أي المؤمنين فالإضافة لتشريف المضاف يقولوا عند محاورتهم مع المشركين التي أي الكلمة أو العبارة التي هي أحسن ولا يخاشنوهم كقوله تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ومقول فعل الأمر محذوف أي قل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا ذلك فجزم يقولوا لأنه جواب الأمر وإلى هذا ذهب الأخفش ولكون المقول لهم هم المؤمنون المسارعون لامتثال أمر الله تعالى وأمر رسوله بمجرد ما يقال لهم لم يكن غبار في هذا الجزم
وقال الزجاج : إن يقولوا هو المقول وجزمه بلام الأمر محذوفة أي قل لهم ليقولوا التي الخ وقال المازني : إنه المقول أيضا إلا أنه مضارع مبني لحلوله محل المبني وهو فعل الأمر والمعنى قل لعبادي قولوا التي هي أحسن وهو كما ترى ومقول يقولوا التي وإذا أريد به الكلمة حملت على معناها الشامل للكلام
إن الشيطان ينزغ بينهم أي يفسد ويهيج الشر بين المؤمنين والمشركين بالمخاشنة فلعل ذلك يؤدي إلى تأكد العناد وتمادي الفساد فالجملة تعليل للأمر السابق وقرأ طلحة ينزغ بكسر الزاي قال أبو حاتم : لعلها لغة والقراءة بالفتح وقال صاحب اللوامح : الفتح والكسر لغتان نحو يمنح ويمنح إن الشيطان كان قدما للإنسان عدوا مبينا 35 ظاهر العداوة فهو من أبان اللازم والجملة تعليل لما سبق من أن الشيطان ينزغ بينهم ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم بالتوفيق للايمان وإن يشأ يعذبكم بالإماتة على الكفر وهذا تفسير التي هي أحسن والجملتان اعتراض بينهما والخطاب فيه للمشركين فكأنه قيل : قولوا لهم هذه الكلمة وما يشاكلها وعلقوا أمرهم على مشيئة الله تعالى ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها غيره تعالى فلعله سبحانه يهديهم إلى الايمان والظاهر أن أو للانفصال الحقيقي
(15/94)
وقال الكرماني : هي للإضراب ولذا كررت معها أن وقال ابن الأنباري : دخلت أو هنا لسعة الأمرين عند الله تعالى ويقال لها المبيحة كالتي في قولهم جالس الحسن وابن سيرين فإنهم يعنون قد وسعنا لك الأمر وهو كما ترى وما أرسلناك عليهم وكيلا 45 أي موكولا ومفوضا إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بمداراتهم وتحمل أذيتهم وترك المشاقة معهم وهذا قبل نزول آية السيف وربك أعلم بمن في السموات والأرض وبأحوالهم الظاهرة والباطنة فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن تراه حكمته أهلا لذلك وهو رد عليه إذ قالوا : بعيد أن يكون يتيم ابن أبي طالب نبيا وأن يكون العراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديد
وذكر من في السموات لإبطال قولهم لولا أنزل علينا الملائكة وذكر من في الأرض لرد قولهم : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فلا يدل تخصيصهما بالذكر وتعلقهما بأعلم على اختصاص أعلميته تعالى بما ذكر فما قاله أبو علي من أن الجار متعلق بعلم محذوفا ولا يجوز تعلقه بأعلم لاقتضائه أنه سبحانه ليس بأعلم بغير ذلك ناشيء عن عدم العلم بما ذكرنا على أن أبا حيان أنكر تعدي علم بالباء وإنما يتعدى لواحد بنفسه في مثل هذا الموضع ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض بالفضائل النفسانية والمزايا القدسية وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع وآتينا داود زبورا 55 بيان لحيثية تفضيله عليه الصلاة و السلام وأنه بإيتائه الزبور لا بإيتائه الملك والسلطنة وفيه إيذان بتفضيل نبينا فإن كونه عليه الصلاة و السلام خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم مما تضمنه الزبور وقد أخبر سبحانه عن ذلك بقوله عز قائلا : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون يعني محمدا وأمته ونص بعضهم أن هذا من باب التلميح نحو قصة المنصور وقد وعد الهذلي بعدة فنسيها فلما حجا وأتيا المدينة قال له يوما وهو يسايره يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي يقول : فيه الأحوص
يا بيت عاتكة الذي أتغزل
ففطن لمراده حيث قال ذلك ولم يسأله وعلم أنه يشير إلى قوله في هذه القصيدة : وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق اللسان يقول ما لا يفعل فأنجز عدته والزبور في الأصل وصف المفعول كالحلوب أو مصدر كالقبول نعم هذا الوزن في المصادر قليل والا كثر ضم الفاء وبه قرأ حمزة وجعله بعضهم على هذه القراءة جمع زبر بكسر الزاي بمعنى مزبور ثم جعل علما للكتاب المخصوص وليس فيه من الأحكام شيء أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : الزبور ثناء على الله عز و جل ودعاء وتسبيح وأخرج هو وابن جرير عن قتادة قال : كنا نحدث أن الزبور دعاء علمه داود عليه السلام وتحميد وتمجيد لله عز و جل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود
والذي تدل عليه بعض الآثار اشتماله على بعض النواهي والأوامر فقد روى ابن أبي شيبة أنه مكتوب فيه أني أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي فأيما قوم كانوا على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة وأيما قوم كانوا على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ولا تتوبوا إليهم وتوبوا إلي أعطف قلوبهم عليكم والمزامير التي يفهم منها الأمر والنهي كثيرة فيه كما لا يخفى على من رآه ومع هذا الفرق
(15/95)
بينه وبين التوراة ظاهر ودخول أل عليه في بعض الآيات للمح الأصل وذلك لا ينافي العملية كما في العباس والفضل
وجوز أن يكون نكرة غير علم ونكر ليفيد أنه بعض من الكتب الإلهية أو من مطلق الكتب ولا إشكال أيضا في دخول أل عليه أي آتيناه زبورا من الزبر وجوز أن يكون مختصا بكتاب داود عليه السلام وليس بعلم بل من غلبة اسم الجنس وهو كالقرآن يطلق على المجموع وعلى الأجزاء وتقدم إفادة التنكير للبعضية في قوله تعالى : ليلا فيجوز أن يكون المراد هنا آتيناه بعضا من الزبور فيه ذكره هذا ووجه ربط الآيات بما تقدم على هذا التفسير على ما في الكشف أنه تعالى لما أرشد نبيه إلى جواب الكفار يجده في استهزائهم وتوقره في استخفافهم ليكون أغيظ لهم وأشجى لحلوقهم أرشده إلى أن يحمل أصحابه أيضا على ذلك وأن يستنوا بسنته وعلل ذلك بما اعترض به من أن الشيطان ينزغه يحمل على المخاشنة فعلى العاقل الحازم أن لا يغتر بوساوسه كيف وقد تبين له أنه عدو مبين وقوله تعالى : وما أرسلناك عليهم وكيلا متعلق بجميع السابق من قوله تعالى : قل كونوا المشتمل على مجادلته بالتي هي أحسن وقل لعبادي المشتمل على حملهم عليها إلى قوله سبحانه : أو أن يشاءيعذبكم وقوله عز و جل : وربك أعلم بمن في السموات والأرض من تتمة إن تتبعون إلا رجلا مسحورا فإنهم طعنوا فيه وحاشاه تارة بأنه شاعر ساحر مجنون وأخرى بنحو لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ولو كان خيرا ما سبقونا إليه فأجيب عن الأول بما أجيب وعن الثاني بقوله سبحانه : وربك أعلم وربك أعلم وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى : ربكم أعلم الخ للمؤمنين وروي ذلك عن الكلبي وأخرج الأول ابن جرير وابن المنذر عن أبي جريج والمعنى أنه تعالى إن يشأ يرحمكم أيها المؤمنون في الدنيا بإنجائكم من الكفرة ونصركم عليهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم والمراد بالتي هي أحسن المجادلة الحسنة فكأنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد أمر نبيه عليه الصلاة و السلام أن يقول للمؤمنين إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا الدلائل بالطريق الأحسن وهو أن لا يكون ذلك ممزوجا بالشتم والسب لأنه لو اختلط به لا يبعد أن يقابل بمثله فيزداد الغضب ويهيج الشر فلا يحصل المقصود وأشار سبحانه إلى ذلك بقوله عز قائلا : إن الشيطان الخ وضمير بينهم إما للكفار أو للفريقين وروي أن المشركين أفرطوا في إيذاء المؤمنين فشكوا إلى رسول الله فنزلت وقيل شتم عمر رجل فهم رضي الله تعالى عنه به فأمره الله تعالى بالعفو قال في الكشف إنه على هذين القولين الكلمة التي هي أحسن نحو يهديكم الله تعالى وليست مفسرة بربكم أعلم بكم وقوله سبحانه : إن الشيطان ينزغ تعليل للأمر بالاحتمال بأن المخاشنة من فعل الشيطان والخطاب في قوله تعالى ربكم أعلم بكم للمؤمنين وفيه حث على المداراة أي فداروهم لأن ربكم أعلم بكم وبما يصلح لكم من أوامر إن يشأ يرحمكم بقبول أوامره ونواهيه وإن يشأ يعذبكم بمخاشنتكم في غير إبانها وما أرسلناك عليهم وكيلا فهؤلاء المؤمنون وهم أتباعك أولى وأولى بأن لا يكونوا وكيلا عليهم ثم قال والأول أوفق لتأليف النظم وفي إفادة ربكم أعلم بكم الحث على ما قرر تكلف ما ا ه وقيل : المراد من عبادي الكفار وحيث كان المقصود من الآيات الدعوة لا يبعد أن يعبر عنهم بذلك ليصير سببا لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين الحق فكأنه قيل قل يا محمد لعبادي الذين أقروا بكونهم عبادا لي يقولوا التي هي
(15/96)
أحسن وهي الكلمة الحقة الدالة على التوحيد وإثبات القدرة على البعث وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على المذهب الباطل تعصبا للأسلاف فإن ذلك من الشيطان وهو للإنسان عدو مبين فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله والمراد من الأمر بالقول الأمر باعتقاد ذلك وذكر القول لما أنه دليل الاعتقاد ظاهرا ثم قال لهم سبحانه : ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم بالهداية أو إن يشأ يعذبكم بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ولا تصروا على الباطل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية ثم قال سبحانه : وما أرسلناك عليهم وكيلا أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم بالقول والمقصود من كل ذلك إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة لأنه أقرب لحصول المقصود ثم إنه تعالى عمم علمه بقوله : وربك أعلم الخ ويحسن على هذا ما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن سيرين من تفسير التي هي أحسن بلا إله إلا الله ونقل ذلك ابن عطية عن فرقة من العلماء ثم قال : ويلزم عليه أن يراد بعبادي جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى قول لا إله إلا الله ويجيء قوله سبحانه : إن الشيطان ينزغ بينهم غير مناسب إلا على معنى ينزغ خلالهم وأثناءهم ويفسر النزغ بالوسوسة والاملال ولا يخفى أنه في حيز المنع وما ذكر من الدليل لا يتم إلا إذا لم يكن للتخصيص نكتة وهي ههنا ظاهرة ويكون قوله تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دونه الخ كالاستدلال على حقية ما دعاهم إليه من التوحيد وربطه بما تقدم على ما ذكرناه أولا لا أظنه يخفى والزعم بتثليث الزاي قريب من الظن ويقال إنه القول المشكوك فيه ويستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس : كلما ورد في القرآن زعم فهو كذب وقد يطلق على القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه
فقد أخرج مسلم من حديث أنس أن رجلامن أهل البادية واسمه ضمام بن ثعلبة جاء إلى رسول الله فقال : يا محمد أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله تعالى أرسلك قال صدق الحديث فإن تصديق النبي عليه الصلاة و السلام إياه مع قوله زعم وتزعم دليل على ما قلنا
وورد عن النبي أنه قال : زعم جبريل عليه السلام كذا وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه من قوله : زعم الخليل زعم أبو الخطاب يريد بذلك القول المحقق وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم ونقله أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين وهو مما يتعدى إلى مفعولين وقد حذفنا ههنا أو ما يسد مسدهما أي زعمتم أنهم آلهة أو زعمتموهم آلهة ويدل عليه قوله تعالى : من دونه وحذف المفعولين معا أو حذف ما يسد مسدهما جائز والخلاف في حذف أحدهما والظاهر أن المراد من الموصول كل من عبد من دون الله سبحانه من العقلاء
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي والطبراني وجماعة عن ابن مسعود قال : كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن وتمسك الانسيون بعبادتهم فنزلت هذه الآية وكان هؤلاء الانس من العرب كما صرح به في رواية البيهقي وغيره عنه وفي أخرى التصريح بأنهم من خزاعة وفي رواية ابن جرير أنه قال : كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن ويقولون هم بنات الله سبحانه فنزلت الآية وعن ابن عباس أنها نزلت في الذين أشركوا بالله تعالى فعبدوا عيسى وأمه
(15/97)
وعزيرا والشمس والقمر والكواكب وعلى هذا ففي الآية على ما في البحر تغليب العاقل على غيره ومتى صح ادراج الشمس والقمر والكواكب على سبيل التغليب بناء على أنها ليست من ذوي العلم فليدرج سائر ما عبد والباطل من الأصنام ويرتكب التغليب وتعقب بأن ما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى من ابتغاء الوسيلة ورجاء الرحمة والخوف من العذاب يؤيد إرادة العقلاء كعيسى وعزير عليهما السلام بناء على أن الأصنام لا يعقل منها ذلك وارتكاب التغليب هناك أيضا خلاف الظاهر جدا والدعاء كالنداء لكن النداء قد يقال إذا قيل : يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان وقد يستعمل كل منهما موضع الآخر والمراد ادعوهم لكشف الضر الذي هو أولى من جلب النفع وأهم وتوجه القلب إلى من يكشفه أكمل وأتم
فلا يملكون فلا يستطيعون بأنفسهم كشف الضر عنكم كالمرض والفقر والقحط وغيرها ولاتحويلا 65 ولا نقله منكم إلى غيركم ممن لم يعبدهم أو ولا تبديله بنوع آخر ومن لا يملك ذلك لا يستحق العبادة إذ شرط استحقاقها القدرة الكاملة التامة على دفع الضر وجلب النفع ولا تكونوا كذلك إذا كانت مفاضة من الغير وكأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامة الكاملة عليه وكون قدرة الآلهة الباطنة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لأنهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها وأن الله سبحانه أقوى وأكمل صفة منها وبهذا يتم الدليل ويحصل الإفحام وإلا فنفي قدرة نحو الجن والملائكة الذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل : هو أنا نرى الكفرة يتضرعون إليهم ولا تحصل لهم الإجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى ولا تحصل لهم الإجابة وقد يقال : المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا ويحتج له بدليل الأشعري على استناد جميع الممكنات إليه عز و جل ابتداء
وفسر بعضهم الضر هنا بالقحط بناء ما روي أن المشركين أصابهم قحط شديد أكلوا فيه الكلاب والجيف فاستغاثوا بالنبي ليدعو لهم فنزلت وأنت تعلم أن هذا لا يوجب التخصيص واستدل بهذه الرواية على أن نفي الاستطاعة مطلقا عن آلهتهم إذ ذاك مسلما عندهم وإلا لما تركوها واستغاثوا بالنبي ليدعو لهم وفيه نظر فانظر وتدبر
أولئك الذين يدعون أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم وينادونهم لكشف الضر عنهم يبتغون يطلبون باجتهاد لأنفسهم إلى ربهم ومالك أمرهم الوسيلة القربة بالطاعة والعبادة فضمير يدعون للمشركين وضمير يبتغون للمشار إليهم وقال ابن فورك : الضميران للمشار إليهم والمراد بهم الأنبياء الذين عبدوا من دون الله تعالى ومفعول يدعون محذوف أي يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله سبحانه ويتضرعون إليه جل وعلا وعلى هذا لا يتعين كون المراد بهم الأنبياء عليهم السلام كما لا يخفى وهو كما ترى
وقرأ ابن مسعود وقتادة تدعون بالتاء ثالثة الحروف وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما يدعون بالياء آخر الحروف مبنيا للمفعول وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى ربك بكاف الخطاب و اسم
(15/98)
الاشارة مبتدأ والموصول نعت أو بيان والخبر جملة يبتغون أو الموصول هو الخبر ويبتغون حال أو بدل من الصلة وقوله تعالى : أيهم أقرب فيه وجوه من الإعراب فالزمخشري ذكر وجهين الأول كون أي موصولة بدلا من ضمير يبتغون بدل بعض من كل وهي إما معربة أو مبنية على اختلاف الرأيين أي أولئك المعبودين يطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى بطاعته فكيف بالأبعد وليس فيه إلا حذف صدر الصلة والتقدير أيهم أقرب وهو مما لا بأس ولا ينافي ذلك جمع يرجون ويخافون فيما بعد لعدم اختصاص ما ذكر بالأقرب أو لكون الأقرب متعددا والثاني كون أي استفهامية وهي مبتدأ و أقرب خبرها والجملة في محل نصب بيبتغون وضمن معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح قيل واعتبر التضمين ليصح التعليق فإنه مختص بأفعال القلوب خلافا ليونس
وقال الطيب : لابد من تقدير حرف الجر لأن حرص تتعدى بعلي كقوله تعالى : إن تحرص على هداهم و لابد من تأويل الإنشاء بأن يقال يحرصون على ما يقال فيه أيهم أقرب إلى الله تعالى بسببه من الطاعة ويتعلق حينئذ قوله تعالى : إلى ربهم بأقرب وهو كما ترى
وقال صاحب الكشف في تحقيق هذا الوجه : إن المطالب إذا كانت مشتركة اقتضت التسارع إليها في العادة وهو نفس الحرص أو مالا ينفك عنه فناسب أن يضمن الابتغاء معنى الحرص لا سيما وبعده استفهام لا يحسن موقعه دون تضمينه لأن قولك أيهم أقرب إلى فلان بكذا سؤال عن مميز أحدهم عن الباقين بما يتقرب به زيادة فضيلة مع الاستواء في أصل التقرب فإذا ورد استئنافا بعد فعل صالح لأن يكون معلوله وجب تقديره ذلك لأنك إذا قلت هؤلاء يحرصون على الهدى كان كلاما جاريا على الظاهر وإذا قلت هؤلاء يحرصون على أيهم يكون أهدى أفاد أن حرصهم ذلك على الهدى مع مغالبة بعضهم بعضا فيه فيكون أتم في وصفهم بالحرص عليه
ووجه الإفادة أنه تعقيبه على وجه التعليل وكأن كل واحد يسأل نفسه أهو أهدى أم غيره أي هو أشد حرصا عليه أم غيره إذ لا معنى لهذا السؤال عن النفس إلا وتعرف أن ثمت تقصيرا في ذلك أولا وعلى هذا لو قلت يحرصون على الهدى أيكم يكون أهدى عد مستهجنا لأن الاستئناف سد مسد صلته كما في أمرته فقام ولو شاء ربك لآمن وود لو أنه أحسن وكم وكم فعلى هذا الطلب واقع على الوسيلة وهي الطاعة والحرص على الأقربية بها والازدياد منها ولا يمكن أن يستغني عن يحرصون بإجراء أيهم أقرب مجرى التعليل ليبتغون على ما أشير إليه لأن أيهم أقرب لا يصلح جوابا فارقا بين الطالبين وغيرهم إنما هو فارق بين الطالبين أعنى المتقربين بعضهم مع بعض وهو يناسب الحرص والشعف ولأن صلة الطلب أعنى الوسيلة مذكورة وقد عرفت أن الاستئناف مغن عن ذلك والجمع مستهجن ا ه
ولعمري لم يبق في القوس منزعا في تحقيقه لكن الوجه مع هذا متكلف و وجوز الحوفي والزجاج أن يكون أيهم أقرب مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب بينظرون أي يفكرون والمعنى ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به وكأن المراد يتوسلون بدعائه وإلا ففي التوسل بالذوات ما فيه وتعقب ذلك في البحر بأن في إضمار الفعل المعلق نظرا ومع ذا هو وجه غير ظاهر وجوز أبو البقاء كون أيهم أقرب جملة استفهامية في موضع نصب بيدعون وكون أي موصولة بدلا من ضمير يدعون وتعقب الأول بأن فيه تعليق ما ليس بفعل قلبي والجمهور
(15/99)
على منعه وأما الثاني فقال أبو حيان : فيه الفصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية لكنه لا يضر لأنها معمولة للصلة وأنت إذا نظرت في المعنى على هذا لم ترض أن تحمل الآية عليه وقوله تعالى : ويرجون عطف على يبتغون أي يبتغون القربة بالعبادة ويتوقعون رحمته تعالى ويخافون عذابه كدأب سائر العباد فأين هم من ملك كشف الضر فضلا عن كونهم آلهة إن عذاب ربك كان محذورا 75 حقيقا بأن يحذره ويحترز عنه كل أحد من الملائكة والرسل عليهم السلام وغيرهم والجملة تعليل لقوله سبحانه : ويخافون عذابه وفي تخصيصه بالتعليل زيادة تحذير للكفرة من العذاب وتقديم الرجأء على الخوف لما أن متعلقه أسبق من متعلقه ففي الحديث القدسي سبقت رحمتي غضبي وفي اتحاد اسلوبي الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين للوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وخوفهم وقد ذكر العلماء أنه ينبغي للمؤمن ذلك ما لم يحضره الموت فإذا حضره الموت ينبغي أن يغلب رجاءه على خوفه وفي الآية دليل على أن رجاء الرحمة وخوف العذاب مما لا يحل بكمال العابد وشاع عن بعض العابدين أنه قال : لست أعبد الله تعالى رجاء جنته ولا خوفا من ناره والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح والحق تفصيل وهو أن من قاله إظهارا للإستغناء عن فضل الله تعالى ورحمته فهو مخطيء كافر ومن قاله لاعتقاد أن الله عز و جل أهل للعبادة لذاته حتى لو لم يكن هناك جنة ولانار لكان أهلا لأن يعبد فهو محقق عارف كما لا يخفى
وإن من قرية الظاهر العموم لأن أن النافية ومن زائدة لاستغراق الجنس أي وما من قرية من القرى إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة بإماتة أهلها حتف أنوفهم أو معذبوها عذابا شديدا بالقتل وأنواع البلاء وروي هذا عن مقاتل وهو ظاهر ما روي عن مجاهد وإليه ذهب الجبائي وجماعة وروي عن الأول أنه قال : الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة وقال أيضا : وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها إما مكة فتخربها الحبشة وتهلك المدينة بالجوع والبصرة بالغرق والكوفة بالترك والجبال بالصواعق والرواجف وأما خراسان فهلاكها ضروب ثم ذكر بلدا بلدا وروي عن وهب بن منبه أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ولاتكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت القسطنطينية على يد رجل من بني هاشم وخراب الأندلس من قبل الزنج وخراب أفريقية من قيل الأندلس وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها وخراب العراق من الجوع و خراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم برا وبحرا وخراب الري من الديلم وخراب خراسان من قبل النبت وخراب النبت من قبل الصين وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان وخراب مكة من الحبشة وخراب المدينة من قبل الجوع و عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال : آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة كذا نقله العلامة أبو السعود وما في كتاب الضحاك وكذا ما روي عن وهب لا يكاد يعول عليه وما روي عن أبي هريرة مقبول وقد رواه عنه بهذا اللفظ النسائي ورواه أيضا الترمذي بنحوه وقال حسن غريب ورواه أبو حيان بلفظآخر قرية في الإسلام خرابا المدينة وفي البحور الزاخرة أن
(15/100)
سبب خرابها أن بعض أهلها يخرجون من المهدي إلى الجهاد ثم ترجف بمنافقيها وترميهم إلى الدجال ويهاجر بعض المخلصين إلى بيت المقدس عند إمامهم ومن بقي منهم تقبض الريح الطيبة روحه فتبقى خاوية ويأبى كونها سبب خرابها الجوع حسبما سمعت عن الضحاك وابن منبه ظاهر ما أخرجه الشيخان لتتركن المدينة على خير ما كانت مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي الطير والسباع وآخر من يحشر راعيان من مزينة الحديث
وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة قالوا : فمن يأكلها قال : السباع والعوافي وما ذكر من أن مكة تخربها الحبشة ثابت في الصحيحين وغيرهما لكن بلفظ يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة وفي حديث حذيفة مرفوعا كأني أنظر إلى حبشي أحمر الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن وقد صف قدميه على الكعبة هو وأصحاب له ينقضونها حجرا حجرا ويتداولونها بينهم حتى يطرحوها في البحر وفي حديث أحمد عن أبي هريرة أنه تجيء الحبشة فيخربونه أي البيت خرابا لا يعمر بعده أبدا نعم اختلف في أنه متى يكون ذلك فقيل : زمن عيسى عليه السلام وقيل حين لا يبقى على الأرض من يقول الله وهو آخر الآيات ومال إلى ذلك السفاريني وظاهر ما تقدم في المدينة من الأخبار بأنها آخر قرى الإسلام خرابا يقتضي أن خراب مكة قبلها والله تعالى أعلم
موما ذكر في خبر ابن منبه من أن مصر آمنة حتى تخرب الكوفة إن صح يقتضي أن الكوفة تعمر ثم تخرب وإلا فهي قد خربت منذ مئات من السنين وبقيت إلى الآن خرابا ومصر آمنة عامرة على أحسن حال اليوم وبعمارتها حسبما يقتضيه الخبر جاءت آثار عديدة كما لا يخفى على من طالع الكتب المؤلفة في أمارات الساعة وأخبار المهدي والسفياني إلا أن في أكثرها للمنقر مقال وزعم البوني وأضرابه أنها تعمر في أواخر القرن الثالث عشر وقد أخذوا ذلك من كلام الشيخ محيي الدين قدس سره وأنت تعلم أنه أشبه شيء بالهندية ولا يكاد يعد من اللغة العربية وما ذكر من أن خراب العراق من الجوع يعم بغداد فإنها قاعدته
وقال القاضي عياض في الشفاء : روي أنه قال : تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة تنتقل إليها الخزائن يخسف بها يعني بغداد وهذا صريح في أن هلاكها بالخسف لا بالجوع لكن ذكر المحدثون أن في سند الخبر مجهولا ثم الظاهر على هذا التفسير أن قوله تعالى : أو معذبوها الخ مقيد بمثل ما قيد به المعطوف عليه فيكون كل من الإهلاك والتعذيب قبل يوم القيامة أي في الزمان القريب منه وقد شاع استعمال ذلك بهذا المعنى وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى في الحديث وإنكاره مكابرة غير مسموعة وكأنه سبحانه بعد أن ذكر من شأن البعث والتوحيد ما ذكر ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه وفيه تأييد لما ذكر قبله وقد صح أنه بعد موت عيسى عليه السلام تجيء ريح باردة من قبل الشام فلا تبقى على وجه الأرض أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته فيبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة وجاء في غير ما خبر ما يصيب الناس قبل قيامها من العذاب فمن ذلك ما أخرجه الطبراني وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه لتقدنكم نار هي اليوم خامدة في واد يقال لهبرهوت يغشى الناس فيها عذاب أليم تأكل الأنفس والأموال وتدور الدنيا كلها في ثمانية أيام تطير طيران الريح والسحاب حرها بالليل أشد من حرها بالنهار ولها بين السماء والأرض دوي كدوي الرعد القاصف قيل : يارسول الله أسليمة يومئذ على المؤمنين والمؤمنات قال : وأين المؤمنون والمؤمنات الناس يومئذ شر من الحمر يتسافدون كما يتسافد البهائم وليس فيهم رجل يقول
(15/101)
مه مه إلى غير ذلك من الأخبار ولا يبعد بعد أن اعتبر العموم في القرية حمل الإهلاك والتعذيب على ما تضمنته تلك الأخبار من أمانة المؤمنين بالريح وتعذيب الباقين من شرار الناس بالنار المذكورة وصح أنها تسوقهم إلى المحشر وورد أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك وأنه تلقى الآفة على الظهر حتى لا تبقى ذات ظهر حتى أن الرجل ليعطى الحديقة المعجبة بالشارف ذات القتب ليفر عليها وكون ذلك قبل يوم القيامة هو المعول عليه وقد اعتمده الحافظ ابن حجر وصوبه القاضي عياض وذهب إليه القرطبي والخطابي وجاء مصرحا به في بعض الأحاديث فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وقال : حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر للناس الحديث ولا يبعد أن يعذبوا بغير ذلك أيضا بل في الآثار ما يقتضيه كان ذلك أي ما ذكر من الاهلاك والتعذيب في الكتاب أي في اللوح المحفوظ كما روي عن إبراهيم التيمي وغيره مسطورا 85 مكتوبا وذكر غير واحد أنه ما من شيء إلا بين فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الإبعاد وقد قامت البراهين النقلية والعقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشيء على ما يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك وقال بعضهم بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية والأخروية وما كان وما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه وقد رأيت أنا صحيفة للشيخ الأكبر قدس سره ادعى أنه يعلم منها ما يقع في أرض المحشر يوم القيامة وأخرى ادعى أنه يعلم منها أسماء أهل الجنة والنار وأسماء آبائهم وأخرى ادعى أنه يعلم منها الحوادث التي تكون في الجنة وقبول هذه الدعاوى وردها مفوض إليك وفسر بعضهم الكتاب بالقضاء السابق ففي الكلام تجوز لا يخفى
هذا وذهب أبو مسلم إلى أن المراد ما من قرية من قرى الكفار واختاره المولى أبو السعود وجعل الآية بيانا لتحتم حلول عذابه تعالى بمن لا يحذره إثر بيان أنه حقيق بالحذر وأن أساطين الخلق من الملائكة والنبيين عليهم السلام على حذر من ذلك وذكر أن المعنى ما من قرية من قرى الكفار إلا نحن مخربوها البتة بالخسف بها أو بإهلاك أهلها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجبة لذلك أو معذبو أهلها عذابا شديدا لا يكتنه كنهه والمراد به ما يعم البلايا الدنيوية من القتل والسبي ونحوهما والعقوبات الأخروية مما لا يعلمه إلا الله تعالى حسبما يفصح عنه إطلاق التعذيب عما قيد به الاهلاك من قبلية يوم القيامة ولا يخص البلايا الدنيوية كيف وكثير من القرى العاتية العاصية قد أخرت عقوبتها إلى يوم القيامة ثم إنه يحتمل أن يقال في وجه الربط على تقدير التخصيص : أنه سبحانه بعد أن أشار إلى أن الكفرة المخاطبين في بلاء وضر وأن آلهتهم لا يملكون كشف ذلك عنهم ولا تحويله أشار إلى أن مثل ذلك لابد وأن يصيب الكفرة ولا يملك أحد كشفه ولا تحويله عنهم وهذا ظاهر بناء على ما تقدم عن البعض في سبب النزول الذي بسببه فسر الضر بالقحط فتأمل
وفي اختيار صيغة الفاعل في الموضعين وإن كانت بمعنى المستقبل من الدلالة على التحقق والتقرر ما فيه والتقييد بيوم القيامة لأن الإهلاك يومئذ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا ثم قال : إن تعميم القرية لا يساعده السياق ولا السباق ا ه وفيه تأمل ومن الناس من رجحه
(15/102)
على ما سبق فيه حمل الاهلاك على ما يتبادر منه وهو ما يكون عن عقوبة ولا كذلك فيما سبق
وأجيب بأن ذلك سهل فقد استعمل في مقام التخويف فيما لم يكن عن عقوبة كقوله تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات أي الآيات التي اقترحتها قريش فقد أخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم فقال عليه الصلاة و السلام : لا بل استأني بهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وأن ما بعدها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول منع على ما صرح به الطبرسي أو منصوب بنزع الخافض كما قيل : لتعدي الفعل إلى مفعوله الثاني بالحرف كما في قوله تعالى : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين أي وما منعنا الإرسال أو من الإرسال بالآيات إلا أن كذب بها أي بجنسها الأولون من الأمم السابقة المقترحة والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء وأن ما بعدها في تأويل مصدر فاعل منع أي ما منعنا شيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين
وزعم أبو البقاء أنه على تقدير مضاف أي إلا إهلاك تكذيب الأولين ولا حاجة إليه عند الآخرين
والمنع لغة كف الغير وقسره عن فعل يريد أن يفعله ولاستحالة ذلك في حقه سبحانه لاستلزامه العجز المحال المنافي للربوبية قالوا : إنه هنا مستعار للصرف وأن المعنى وما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة إلا تكذيب الأولين المقترحين المستتبع لاستئصالهم فإنه يؤدي إلى تكذيب الآخرين المقترحين بحكم اشتراكهم في العتووالعناد وهو مفض إلى أن يحل بهم مثل ما حل بهم بحكم الشركة في الجريرة والفساد وجريان السنة الإلهية والعادة الربانية بذلك وفعل ذلك بهم مخالف لما كتب في لوح القضاء بمداد الحكمة من تأخير عقوبتهم وحاصله أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا تأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها واستشعر بعضهم من الصرف نوع محذور فجعل المنع مجازا عن الترك وتعقب بأنه لا يصح مع كون الفاعل التكذيب لأن التارك هو الله تعالى
وأجيب بأن دعوى لزوم اتحاد الفاعل في المعنى الحقيقي والمستعار له مما لم يقم عليه دليل بل الظاهر خلافه
وذكر بعض المحققين ولله تعالى أبوه وإن نوقش أن تكذيب الأولين المستتبع للإستئصال والمستلزم لتكذيب الآخرين المفضي لحلول الوبال مناف لإرسال الآيات المقترحة لتعين التكذيب المستدعي لما ينافي الحكمة في تأخير عقوبة هذه الأمة فعبر عن تلك المنافاة بالمنع عن نهج الاستعارة إيذانا بتعاضد مبادي الإرسال لا كما زعموا من عدم إرادته تعالى لتأييد رسوله بالمعجزات وهو السر في إيثار الإرسال على الايتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآيات إلى النزول لولا أن تمسكها يد التقدير وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين لا إلى علمه تعالى بما سيكون من المقترحين الآخرين كما في قوله تعالى لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون لإقامة الحجة عليهم بإبراز الأنموذج وللايذان بأن مدار عدم الإجابة إلى إيتاء مقترحهم ليس إلا صنيعهم ثم حكمة التأخير قيل إظهار مزيد شرف النبي وقيل العناية بمن سيولد من بعضهم من المؤمنين وبمن سيؤمن منهم وينبغي أن يزاد في كل إلى غير ذلك مثلا وإلا فلا حصر وقيل معنى الآية أنا لا نرسل الآيات المقترحة لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها كما لم يؤمن بها من اقترحوها قبلهم فيكون إرسالها عبثا لا فائدة فيه والحكيم لا يفعله وأنت تعلم أنه إذا كان إرسال المقترح إذا لم يؤمن عنده المقترح عبثا لا يفعله الحكيم أشكل
(15/103)
فعله من أول مرة على أن ما روي في سبب النزول يقتضي التفسير الأول كما لا يخفى وفسرت الآيات بالمقترحة لأن ما بها إثبات دعوى الرسالة من مقتضيات الإرسال وما زاد على ذلك ولم يكن عن اقتراح لطف من الملك المتعال وءاتينا ثمود الناقة عطف على ما يفصح عنه النظم الكريم كأنه قيل : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث أتيناهم ما اقترحوا على أنبيائهم عليهم السلام من الآيات الباهرة فكذبوها وآتينا ثمود الناقة باقتراحهم على نبيهم صالح عليه السلام وأخرجناها لهم من الصخرة مبصرة على صيغة اسم الفاعل حال من الناقة والمراد ذات أبصار أو ذات بصيرة يبصرها الغير ويتبصر بها فالصيغة للنسب أو جاعلة الناس ذوي بصائر على أنه اسم فاعل من أبصره والهمزة للتعدية أي جعله ذا بصيرة وإدراك ويحتمل أن يكون إسناد الإبصار إليها مجازا وهو في الحقيقة حال من يشاهدها وقرأ قوم مبصرة بزنة اسم المفعول أي يبصرها الناس ولا خفاء في ذلك وقرأ قتادة مبصرة بفتح الميم والصاد أي محل إبصار بجعل الحامل على الشيء بمنزلة محله نحو الولد مبخلة مجبنة وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما مبصرة بزنة اسم الفاعل والرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة وقرأ الجمهور ثمود ممنوعا من الصرف وقال هرون : أهل الكوفة ينونون في كل وجه وقال أبو حاتم لا تنون العامة والعلماء بالقرآن ثمود في وجه من الوجوه وفي أربعة مواطن مكتوبة ونحن نقرؤه بغير ألف ا ه وهو كما قال الراغب عجمي وقيل عربي وترك صرفه لكونه اسم قبيلة وهو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل : فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفذت مادة ماله وصحح كثير عربيته أي آتينا تلك القبيلة الناقة فظلموا بها أي فكفروا بها وجحدوا كونها من عند الله تعالى لتصديق رسوله أوفكفروا بها ظالمين أي لم يكتفوا بمجرد الكفر بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر أو ظلموا أنفسهم وعرضوها للهلاك بسبب عقرها
ولعل تخصيص ايتائها بالذكر لما أن ثمود عرب مثل أهل مكة المقترحين وأن لهم من العلم بحالهم ما لا مزيد عليه حيث يشاهدون آثار هلاكهم لقرب ديارهم منهم ورودوا وصدورا وجوز أن يكون ذلك لأن الناقة من جهة أنها حيوان أخرج من الحجر أوضح دليل على تحقق مضمون قوله تعالى : قل كونوا حجارة أو حديدا الخ والأول أقرب وما نرسل بالآيات إلا تخويفا 95 أي لمن أرسلت عليهم والمراد بها إما المقترحة فالتخويف بالاستئصال لانذارها به في عادة الله تعالى أي ما نرسلها إلا تخويفا من العذاب المستأصل كالطليعة له فإن لم يخافوا فعل بهم ما فعل وأما غيرها كآيات القرآن والمعجزات فالتخويف بعذاب الآخرة دون العذاب الدنيوي بالإستئصال أي ما نرسلها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة واستظهر أبو حيان كون المراد بها الآيات التي معها إمهال كالخسوف والكسوف وشدة الرعد والبرق والرياح والزلازل وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى يغرق منها بعض الأرضين وعد الحسن من ذلك الموت الذريع أي ما نرسلها إلا تخويفا مما هو أعظم منها
أخرج ابن جرير عن قتادة قال : إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبون أو يذكرون ويرجعون وذكر ابن عطية أن آيات الله تعالى المعتبر بها ثلاثة أقسام قسم عام في كل شيء
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وهناك فكرة العلماء وقسم معتاد كالرعد والكسوف وهناك فكرة الجهلة وقسم
(15/104)
خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر اليوم بتوهم مثله وتصوره ا ه
وفيه غفلة عن الكرامة فإن أهل السنة يثبتونها للولي في كل عصر والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب وجوز على الوجه الأول أن تكون حالا من ضمير ظلموا أي فظلموا بها ولم يخافوا العاقبة والحال إنا ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفا من العذاب الذي يعقبها فنزل بهم ما نزل ونصب تخويفا على أنه مفعول له
وجوز أن يكون حالا أي مخوفين والباء في الموضعين سيف خطيب و الآيات مفعول نرسل أو للملابسة والمفعول محذوف أي ما نرسل نبيا ملتبسا بها وقيل إنها للتعدية وأن أرسل يتعدى بنفسه وبالباء ورد بأنه لم ينقل عن أحد من الثقات قال الخفاجي : ولا حجة في قول كثير : لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول لاحتمال الزيادة فيه أيضا مع أن الرسول فيه بمعنى الرسالة فهو مفعول مطلق والكلام في دخولها على المفعول به ولا يخفى أن جعل الرسول مفعولا به وزيادة الباء فيه مما لا يقدم عليه فاضل وإذ قلنا أي واذكر زمان قولنا بواسطة الوحي لك يا محمد إن ربك أحاط بالناس أي علما كما رواه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلا يخفى عليه سبحانه شيء من أحوالهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة من الكفر والتكذيب
وقوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس إلى آخر الآية تنبيه على تحققها بالاستدلال عليها بما صدر عنهم عند مجيء بعض الآيات لاشتراك الكل في كونها أمورا خارقة للعادات منزلة من جناب رب العزة جل مجده لتصديق رسوله عليه الصلاة و السلام فتكذيبهم ببعضها يدل على تكذيب الباقي كما أن تكذيب الأولين بغير المقترحة يدل على تكذيبهم بالمقترحة والمراد بالرؤيا ما عاينه ليلة أسري به من العجائب السماوية والأرضية كما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس وهي عند كثير بمعنى الرؤية مطلقا وهما مصدر رأى مثل القربى والقرابة
وقال بعضهم : هي حقيقة في رؤيا المنام رؤيا اليقظة ليلا والمشهور اختصاصها لغة بالمنامية وبذلك تمسك من زعم أن الإسراء كان مناما وفي الآية ما يرد عليه والقائلون بهذا المشهور الذاهبون إلى أنه كان يقظة كما هو الصحيح قالوا : إن التعبير بها إما مشاكله لتسميتهم له رؤيا أو جار على زعمهم كتسمية الأصنام آلهة فقد روي أن بعضهم قال له لما قص عليهم الإسراء لعله شيء رأيته في منامك أو على التشبيه بالرؤيا لما فيها من العجائب أو لوقوعها ليلا أو لسرعتها أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عيانا مع كونها آية عظيمة وأية آية وقد أقمت البرهان على صحتها إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعض من أسلم منهم والشجرة عطف على الرؤيا أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرءان إلا فتنة لهم أيضا
والمراد بها كما روى البخاري وخلق كثير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شجرة الزقوم والمراد بلعنها لعن طاعميها من الكفرة كما روي عنه أيضا ووصفها بذلك من المجاز في الإسناد وفيه من المبالغة ما فيه
(15/105)
أو لعنها نفسها ويراد باللعن معناه اللغوي وهو البعد فهي لكونها في أبعد مكان من الرحمة وهو أصل الجحيم الذي تنبت فيه ملعونة حقيقة
وأخرج ابن المنذر عن الحبر أنها وصفت بالملعونة لتشبيه طلعها برؤس الشياطين والشياطين ملعونون
وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار : ملعون وروي في جعلها فتنة لهم أنه لما نزل في أمرها في الصافات وغيرها ما نزل قال أبو جهل وغيره : هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر وما نعرف الزقوم إلا بالتمر بالزبد وأمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه تزقموا
وافتتن بهذه المقالة أيضا بعض الضعفاء ولقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا حيث كابروا قضية عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة الحمر فلا تضرها والسمندل يتخذ من وبره مناديل تلقى في النار إذا اتسخت فيذهب الوسخ وتبقى سالمة ومن أمثالهم في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار
وعن ابن عباس أنها الكشوث المذكورة في قوله تعالى كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ولعنها في القرآن وصفها فيه بما سمعت في هذه الآية ومر آنفا ما مر عن العرب والافتتان بها أنهم قالوا عند سماع الآية : ما بال الحشائش تذكر في القرآن والمعول عليه عند الجمهور رواية الصحيح عن الحبر
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والشجرة بالرفع على الابتداء وحذف الخبر أي والشجرة الملعونة في القرآن كذلك ونخوفهم بذلك ونظائره من الآيات فإن الكل للتخويف وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي
وقرأ الأعمش ويخوفهم بالياء آخر الحروف فما يزيدهم التخويف إلا طغيانا تجاوزا عن الحد كبيرا 06 لا يقادر قدره فلو أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها فعلهم بإخوانها وفعل بهم ما فعل بأمثالهم وقد سبقت كلمتنا بتأخير العقوبة العامة إلى الطامة الكبرى هذا فيما أرى هو الأوفق بالنظم الكريم واختاره في إرشاد العقل السليم
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وأكثر المفسرين تفسير الإحاطة بالقدرة والكلام مسوق لتسلية رسول الله عما عسى يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخالفتها للحكمة من نوع حزن من طعن الكفرة حيث كانوا يقولون : لو كنت رسولا حقا لأتيت بهذه المعجزة كما أتى بها من قبلك من الأنبياء عليهم السلام فكأنه قيل اذكر وقت قولنا لك إن ربك اللطيف بك قد أحاط بالناس فهم في قبضة قدرته لا يقدرون على الخروج من ربقة مشيئته فهو يحفظك منهم فلا تهتم بهم وامض لما أمرتك به من تبليغ الرسالة ألا ترى أن الرؤيا التي أريناك من قبل جعلناها فتنة للناس مورثة للشبهة مع أنها ما أورثت ضعفا لأمرك وفتورا في حالك وبعضهم حمل الإحاطة على الإحاطة بالعلم إلا أنه ذكر في حاصل المعنى ما يقرب مما ذكر فقال : أي أنه سبحانه عالم بالناس على أتم وجه فيعلم قصدهم إلى إيذائك إذا لم تأتهم بما اقترحوا ويعصمك منهم فامض على ما أنت فيه من التبليغ والإنذار ألا ترى الخ
ولا يخفى أن ذكر الرب مضافا إلى ضميره وأمره عليه الصلاة و السلام بذكر ذلك القول أنسب بكون الآية مسوقة لتسليته على الوجه الذي نقل وذكر التخويف وأنه ما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا أوفق
(15/106)
بما فسرت به الآية أولا وادعى بعضهم أنه لا يخلو عن نوع تسلية وقيل : الإحاطة هنا الإهلاك كما في قوله تعالى : وأحيط بثمره والناس قريش ووقت ذلك الإهلاك يوم بدر وعبر عنه بالماضي مع كونه منتظرا حسبما ينبيء عنه قوله تعالى : سيهزم الجمع ويولون الدبر وقوله سبحانه : قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وغير ذلك لتحقق الوقوع وأولت الرؤيا بما رآه في المنام من مصارعهم كما صرح به في بعض الروايات وصح أنه لما ورد ماء بدر كان يقول : والله لكأني أنظر إلى مصارعهم كم صرح به في بعض الروايات وصح أنه لما ورد ماء بدر كان يقول : والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يضع يده الشريفة على الأرض ههنا وههنا ويقول : هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان وهو ظاهر في كون ذلك مناما
ويروى أن قريشا سمعت بما أوحي إلى رسول الله في شأن بدر وما أري في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويسخرون وهو المراد بالفتنة وبما رآه عليه الصلاة و السلام أنه سيدخل مكة وأخبر أصحابه فتوجه إليها فصده المشركون عام الحديبية وإليه ذهب أبو مسلم والجبائي واعتذر عن كون ما ذكر مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بإهلاكهم وكذا الرؤيا واقعا بمكة وذكر الرؤيا وتعيين المصارع واقعين بعد الهجرة ويلزم منه أن يكون الافتتان بذلك بعد الهجرة وأن يكون ازديادهم طغيانا متوقعا غير واقع عند نزول الآية وكل ذلك خلاف الظاهر
وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال : رأى رسول الله بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات عليه الصلاة و السلام وأنزل الله تعالى هذه الآية وما جعلنا الرؤيا الخ
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : رأى رسول الله بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله تعالى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه وذلك قوله تعالى : وما جعلنا الخ
وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلي بن مرة قال : قال رسول الله : رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء واهتم عليه الصلاة و السلام لذلك فأنزل الله سبحانه وما جعلنا الآية وأخرج عن ابن عمر أن النبي قال : رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل الله تعالى في ذلك وما جعلنا الخ والشجرة الملعونة الحكم وولده وفي عبارة بعض المفسرين هي بنو أمية
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان بن الحكم : سمعت رسول الله يقول لأبيك وجدك : إنكم الشجرة الملعونة في القرآن فعلى هذا معنى إحاطته تعالى بالناس إحاطة أقداره بهم والكلام على ما قيل على حذف مضاف أي وما جعلنا تعبير الرؤيا أو الرؤيا فيه مجاز عن تعبيرها ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبرا وبذلك فسره ابن المسيب وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ممن كان عندهم عاملا وللخبائث عاملا أو ممن كان من أعوانهم كيفما كان ويحتمل أن يكون المراد ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلا فتنة وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه وجعل ضمير نخوفهم على هذا لما كان له أو لا أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أمية ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصمومة والفروج المحصنة وأخذ الأموال من غير حلها ومنع الحقوق عن أهلها وتبديل الأحكام والحكم بغير ما أنزل الله تعالى على نبيه عليه الصلاة
(15/107)
والسلام إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام وجاء لعنهم في القرآن إما على الخصوص كما زعمته الشيعة أو على العموم كما نقول فقد قال سبحانه وتعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وقال عز و جل فهل عسيتم إن توليتم إلا أن تفسدوا في الأرض أو تقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم إلى آيات أخر ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوليا لكن لا يخفى أن هذا لا يسوغ عند أكثر أهل السنة لعن واحد منهم بخصوصه فقد صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بخصوصه ما لم يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمروذ فكيف من ليس كافرا وادعى السراج البلقيني جواز لعن العاصي المعين ونور دعواه بحديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنها الملائكة حتى تصبح
وقال ولده الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقول : لعن الله تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها ولو استدل لذلك بخبر مسلم أنه مر بحمار وسم بوجهه فقال : لعن الله تعالى من فعل هذا لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد فاعل جنس ذلك لا فاعل هذا المعين وفيه ما فيه واستدل بعض من وافقه لذلك أيضا بما صح أنه قال : اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله تعالى ورسوله فإن فيه لعن أقوام بأعيانهم وأجيب بأنه يجوز عليه الصلاة و السلام علم موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن إلا من علم موته عليه وهو كما ترى ولا يخفى أن تفسير الآية بما ذكر غير ظاهر الملاءمة للسياق والله تعالى أعلم بصحة الأحاديث وقيل الشجرة الملعونة مجاز عن أبي جهل وكان فتنة وبلاء على المسلمين لعنه الله تعالى وقيل مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على رسول الله ولعنهم في القرآن ظاهر وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه الصلاة و السلام فلما بعث كفروا به وقالوا : ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم عن الإسلام وإذ قلنا للملائكة تذكير لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعة من غير تثبط وتحقيق لمضمون قوله تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة الخ أما إن كان المراد من الموصول الملائكة فظاهر وأما إن كان غيرهم فللمقايسة وفيه إشارة إلى عاقبة أولئك الذين عاندوا الحق واقترحوا الآيات وكذبوا الرسول عليه الصلاة و السلام فإنهم داخلون في الذرية الذين احتنكهم ابليس عليه اللعنة واتبعوه اتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة حتى قالو إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فوجه مناسبة الآية لما قبلها ظاهر وقيل الوجه مشابهة قريش الذين كذبوا النبي لابليس في أن كلا منهما حمله الحسد والكبر على ما صدر منه أي واذكر وقت قولنا للملائكة اسجدوا لآدم تحية وتكريما له عليه السلام وقيل المعنى اجعلوه قبلة سجودكم لله تعالى فسجدوا من غير تلعثتم امتثالا لأمره تعالى إلا إبليس لم يكن من الساجدين وكان معدودا في إعدادهم مندرجا تحت الأمر بالسجود قال استئناف بيان كأنه قيل فما كان منه بعد التخلف فأجيب بأنه قال أي بعد أن وبخ بما وبخ مما قصه الله سبحانه في غير هذا الموضع على سبيل الانكار والتعجب ءأسجد وقد خلقتني من نار لمن خلقت طينا 16 نصب على نزع الخافض
(15/108)
أي من طين كما صرح به في آية أخرى وجوز الزجاج كونه حالا من العائد المحذوف والعامل خلقت فيكون المعنى أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا فالطينية وإن كانت مقدمة على خلقه إنسانا لكنها مقارنة لابتداء تعلقه به والزمخشري أيضا كونه حالا من نفس الموصول والعامل حينئذ أأسجد على معنى أأسجد له وهو طين أي أصله طين قال في الكشف : وهو أبلغ لأنه مؤيد لمعنى الانكار وفيه تحقير له عليه السلام وحاشاه بجعله نفس ما كان عليه لم تزل عنه تلك الذلة وليس في جعله حالا من العائد هذه المبالغة وأنت تعلم أن الحالية على كل حال خلاف الظاهر لكون الطين جامدا ولذا أوله بعضهم بمتأصلا وجوز الزجاج أيضا وتبعه ابن عطية كونه تمييزا ولا يظهر ذلك وذكر الخلق مع أنه يكفي في المقصود أن يقال : لمن كان من طين أدخل في المقصود مع أنه فيه على ما قيل إيماء إلى علة أخرى وهي أنه مخلوق والسجود إنما هو للخالق تعالى مجده
قال أي ابليس وفي إعادة الفعل بين كلامي اللعين إيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتناءه عليه بل على غيره وقد ذكر ذلك في مواضع آخر أي قال بعد طرده من المحل الأعلى ولعنه واستنظاره وإنظاره أرأيت هذا الذي كرمت علي الكاف حرف خطاب مؤكد لمعنى التاء قبله وهو من التأكيد اللغوي فلا محل له من الإعراب ورأى عليه فتتعدى إلى مفعولين و هذا مفعولها الأول والموصول صفته والمفعول الثاني محذوف لدلالة الصلة عليه وهذا الانشاء مجاز عن إنشاء آخر ومن هنا تسمعهم يقولون : المعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي لما كرمته علي وأنا أكرم منه والعلاقة ما بين العلم والاخبار من السببية والمسببية واللازمية والملزومية وجملة لما كرمته واقعة على ما نص عليه أبو حيان موقع المفعول الثاني وذهب بعض النحاة إلى أن رأى بصرية فتتعدى إلى واحد واختاره الرضي ويجعلون الجملة الاستفهامية المذكورة مستأنفة
وقال الفراء : الكاف ضمير في محل نصب أرأيت نفسك وهو كما تقول : أتدبرت آخر أمرك فإني صانع كذا و هذا الذي كرمت علي مبتدأ وخبر وقد حذف منه الاستفهام أي أهذا الخ وقال بعضهم بهذا إلا أنه جعل الكاف حرف خطاب مؤكد أي أخبرني أهذا من كرمته علي وقال ابن عطية : الكاف حرف كما قيل لكن معنى أرأيتك أتأملت كأن المتكلم ينبه المخاطب على استحضار ما يخاطبه به عقيبه وكونه بمعنى أخبرني قول سيبويه والزجاج وتبعهما الحوفي والزمخشري وغيرهما وزعم ابن عطية أن ذلك حيث يكون استفهام ولا استفهام في الآية
وأنت تعلم أن المقرر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر فيها استفهاما ما مذكورا أو مقدرا فمجرد عدم وجوده لا يأبى ذلك وأياما كان فاسم الاشارة للتحقير والمراد من التكريم التفضيل
وجملة لئن أخرتني إلى يوم القيامة استئناف وابتداء كلام واللام موطئة للقسم وجوابه لأحتنكن ذريته
وفي البحر لو ذهب ذاهب إلا أن هذا مفعول أول لأرأيتك بمعنى أخبرني والمفعول الثاني الجملة القسمية المذكورة لانعقادهما مبتدأ وخبرا قبل دخول أرأيتك لذهب مذهبا حسنا إذ لا يكون في الكلام على هذا إضمار وهو كما ترى والمراد من أخرتني أبقيتني حيا أو أخرت موتي ومعنى لأحتنكن ذريته لأستولين عليه استيلاء قويا من قولهم حنك الدابة واحتنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به
وأخرج هذا ابن جرير وغيره عن ابن عباس وإليه ذهب الفراء أو لأستأصلنهم وأهلكنهم
(15/109)
بالإغواء من قولهم : أحتنك الجراد الأرض إذا أهلك نباتها وجرد ما عليها واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله وعلى ذلك قوله : نشكو إليك سنة قد أجحفت
جهدا إلى جهد بنا فأضعفت واحتنكت أموالنا وأجلفت وكأنه مأخوذ من الحنك وهو باطن أعلى الفم من داخل المنقار فهو اشتقاق من اسم عين واختار هذا الطبري والجبائي وجماعة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال يقول لأضلنهم وهو بيان لخلاصة المعنى وهذا كقول اللعين لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا قليلا 26 منهم وهو العباد المخلصون الذين جاء استثناءهم في آية أخرى جعلنا الله تعالى وإياكم منهم وعلم اللعين تسنى هذا المطلب له حتى ذكره مؤكدا إما بواسطة التلقي من الملائكة سماعا وقد أخبرهم الله تعالى به أو رواه في اللوح المحفوظ أو بواسطة استنباطه من قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء مع تقرير الله تعالى له أو بالفراسة لما رأى فيه من قوة الوهم والشهوة والغضب المقتضية لذلك ولا يبعد أن يكون استثناء القليل بالفراسة أيضا وكأنه لما رأى أن المانع من الاستيلاء في القليل مشترك بينه وبين آدم عليه السلام ذكره من أول الأمر وعن الحسن أنه ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم وغره حتى كان ما كان فقاس الفرع على الأصل وهو مشكل لأن هذا القول كان قبل الوسوسة التي كان بسببها ما كان ومن زعم أنه كان هناك وسوستان فعليه البيان ولا يأتي به حتى يؤب القارضان أو يسجد لآدم عليه السلام الشيطان
قال الله سبحانه تعالى : إذهب ليس المراد به حقيقة الأمر بالذهاب ضد المجيء بل المراد تخليته وما سولته نفسه إهانة له كما تقول لمن يخالفك إفعل ما تريد وقيل : يجوز أن يكون من الذهاب ضد المجيء فمعناه حينئذ كمعنى قوله تعالى : أخرج منها فإنك رجيم وقيل هو طرد وتخلية ويلزم على ظاهره الجمع بين الحقيقة والمجاز والقائل ممن ير جوازه ويدل على أنه ليس المراد منه ضد المجيء تعقيبه بالوعيد في قوله سبحانه : فمن تبعك منهم وضل عن الحق فإن جهنم جزاؤكم أي جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية وجوز الزمخشري وتبعه غير واحد أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات من غيبة المظهر إلى الخطاب وتعقبه ابن هشام في تذكرته فقال : عندي أنه فاسد لخلو الجواب أو الخبر عن الرابط فإن ضمير الخطاب لا يكون رابطا وأجيب بأنه مؤول بتقدير فيقال لهم : إن جهنم جزاؤكم ورد بأنه يخرج حينئد عن الإلتفات وقال بعض المحققين : إن ضمير الخطاب إن سلم أنه لا يكون عائدا لا نسلم أنه إذا أريد به الغائب التفاتا لا يربط به لأنه ليس بأبعد من الربط بالاسم الظاهر فاحفظ
جزاء موفورا 36 أي مكملا لا يدخر منه شيء كما قال ابن جبير من فر كعد لصاحبك عرضه فرة أي كمل لصاحبك عرضه وعلى ذلك قوله : ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم وجاء وفر لازما نحو وفر المال يفر وفورا أي كمل وكثر وانتصب جزاء على المصدر بإضمار تجزون أو تجازون فإنهما بمعنى وهذا المصدر لهما
(15/110)
وجوز أبو حيان وغيره كون العامل فيه جزاؤكم بناء على أن المصدر ينصب المفعول المطلق وجوز كونه حالا موطئا لصفتها التي هي حال في الحقيقة ولذا جاءت جامدة كقوله تعالى : قرآنا عربيا ولا حاجة لتقدير ذوي فيه حينئذ وصاحب الحال مفعول تجزمونه محذوفا والعامل الفعل وقيل إنه حال من فاعله بتقدير ذوي جزاء وقال الطيبي : قيل المعنى ذوي جزاء ليكون حالا عن ضمير المخاطبين ويكون المصدر عاملا وإلا فالعامل مفقود ثم قال : الأظهر أنه حال مؤكدة لمضمون الجملة نحو زيد حاتم جوادا وفي الكشف أن هذا متعين وليس الأول بالوجه ومثله جعله حالا عن الفاعل وقيل هو تمييز ولا يقبل عند ذويه واستفزز أي واستخفف يقال استفزه إذا استخفه فخدعه وأوقعه فيما أراده منه وأصل معنى الفز القطع ومنه تفزز الثوب إذا انقطع ويقال للخفيف فز ولذا سمي به ولد البقرة الوحشية كما في قول زهير : إذا استغاث بشيء فز غيطلة خاف العيون فلم تنظر به الحشك والواو على ما في البحر للعطف على اذهب والمراد من الأمر التهديد وكذا من الأوامر الآتية ويمنع من إرادة الحقيقة أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء من استطعت أي الذي استطعت أن تستفزه منهم فمن موصول مفعول استفزز ومفعول استطعت محذوف وهو ما أشرنا إليه واختار أبو البقاء كون من استفهاميه في موضع نصب باستطعت وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إلى ارتكابه بصوتك أي بدعائك إلى معصية الله تعالى ووسوستك وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له كأنه لا معنى له كصوت الحمار
وأخرج ابن المندر وابن جرير وغيرهما عن مجاهد تفسيره بالغناء والمزامير واللهو والباطل وذكر الغزنوي أنه آدم عليه السلام أسكن ولد هابيل أعلى جبل وولد قابيل أسفله وفيهم بنات حسان فزمر الشيطان فلم يتمالك أن انحدروا واقترنوا واجلب عليهم أي صح عليهم من الجلبة وهي الصياح قاله الفراء وأبو عبيدة وذكر أن جلب وأجلب بمعنى وقال الزجاج : أجلب على العدو جمع عليه الخيل
وقال ابن السكيت جلب عليه أعان عليه وقال ابن الأعرابي : أجلب على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع وفسر بعضهم أجلب هنا بأجمع فالباء في قوله تعالى : بخيلك ورجلك مزيدة كما في لا يقرأن بالسور وقرأ الحسن واجلب بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثيا والخيل يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه وقيل إن واحده خائل لاختياله في مشيه وعلى الفرسان مجازا وهو المراد هنا ومنه قوله في بعض غزواته لأصحابه رضي الله تعالى عنهم يا خيل الله اركبي والرجل بكسر الجيم فعل بمعنى فاعل فهو صفة كحذر بمعنى حاذر يقال : فلان يمشي رجلا أي غير راكب
وقال صاحب اللوامح : هو بمعنى الرجال يعني أنه مفرد أريد به الجمع لأنه المناسب للمقام وما عطف عليه وبهذا قرأ حفص وأبو عمر في رواية والحسن وظاهر الآية يقتضي أن للعين خيلا ورجلا وبه قال جمع فقيل هم من الجن وقيل منهم ومن الإنس وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة قالوا : إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية الله تعالى فهو من خيل ابليس وما كان من راجل يقاتل في معصية الله تعالى فهو من رجل ابليس وقال آخرون : ليس للشيطان خيل ولا رجالة
(15/111)
وإنما هما كناية عن الأعوان والأتباع من غير ملاحظة لكون بعضهم راكبا وبعضهم ماشيا
وجوز بعضهم أن يكون استفزازه بصوته وإجلابه بخيله ورجله تمثيلا لتسلطه على من يغويه فكأن مغوارا وقع على قوم فسوط بهم سوطا يزعجهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم ومراده أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية ولا يضر فيها اعتبار مجاز أو كناية في المفردات فلا تغفل
وقرأ الجمهور رجلك بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع راجل كركب وراكب لا جمع لغلبة هذا الوزن في المفردات وقريء رجل بفتح الراء وضم الجيم وهو مفرد كما في قراءة حفص وقد جاءت ألفاظ من الصفة المشبهة على فعل وفعل كسر أو ضما كحدث وندس وغيرهما
وقرأ عكرمة وقتادة رجالك كنبالك وقريء رجالك ككفارك وكلاهما جمع رجلان وراجل كما في الكشف وفي بعض نسخ الكشاف أنه قريء رجالك بفتح الراء وتشديد الجيم على أن أصله رجالة فحذف تاؤه تخفيفا وهي نسخة ضعيفة وشاركهم في الأموال بحملهم على كسبها مما لا ينبغي وصرفها فيما لا ينبغي
وقيل بحملهم على صرفها في الزنا وعن الضحاك بحملهم على الذبح للآلهة وعن قتادة بحملهم على تسييب السوائب وبحر البحائر والتعميم أولى والأولاد بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضي الله تعالى فيهم وأخرج ابن جريري وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المشاركة في الأولاد حملهم على تسميتهم بعبد الحرث وعبد شمس وفي روايةحملهم على أن يرغبوهم في الأديان الباطلة ويصبغوهم بغير صبفة الاسلام وفي أخرى حملهم على تحصيلهم بالزنا وأخرى تزيين قتلهم إياهم خشية الاملاق أو العار وقيل حملهم على أن يرغبوهم في القتال وحفظ الشعر المشتمل على الفحش والحرف الخسيسة الخبيثة وعن مجاهد أن الرجل إذا لم يسم عند الجماعة فالجان ينطوى على إحليله فيجامع معه وذلك هي المشاركة في الأولاد والأولى ما ذكرنا
وعدهم المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة ونفع الأنساب الشريفة من لم يطع الله تعالى أصلا وعدم خلود أحد في النار لمنافاة ذلك عظم الرحمة وطول أمل البقاء في الدنيا ومن الوعد الكاذب وعده إياهم أنهم إذا ماتوا لا يبعثون وغير ذلك مما لا يحصى كثرة ثم هذا من قبيل المشاركة في النفس كما في البحر وما يعدهم الشيطان إلا غرورا اعتراض بين ما خوطب به الشيطان لبيان حال مواعيده الالتفات إلى الغيبة لتقوية معنى الاعتراض مع ما فيه من صرف الكلام عن خطابه وبيان حاله للناس ومن الاشعار بعلية شيطنته للغرور وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب ويقال غر فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد وأصل ذلك على ما قال الراغب من الغر وهو ألأثر الظاهر من الشيء ونصبه على أنه وصف مصدر محذوف أي وعدا غرورا على الأوجه التي في رجل عدل
وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي وما يعدهم ويمنيهم مالا يتم ولا يقع إلا لأن يغرهم والأول أظهر وذكر الإمام في سبب كون وعد الشيطان غرورا لا غير أنه إنما يدعو إلى أحد ثلاثة أمور قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة والرفعة ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وتلك الأشياء الثلاثة
(15/112)
ليست لذائذ في الحقيقة بل دفع آلام وإن سلم لأنها لذائذ لكنها خسيسة يشترك فيها الناقص والكامل بل الانسان والكلب ومع ذلك هي وشيكة الزوال ولا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة ويتبعها الموت والهرم واشتغال البال بالخوف من زوالها والحرص على بقائها ولذات البطن والفرج منها لا تتم إلا بمزاولة رطوبات متعفنة مستقذرة فتزيين ذلك لا يكاد يكون بما هو أكذب من دعوى اجتماع النقيضين وهو الغرور
إن عبادي الإضافة للتعظيم فتدل على تخصيص العباد بالمخلصين كما وقع التصريح به في الآية الأخرى ولقرينة كون الله تعالى وكيلا لهم يحميهم من شر الشيطان فإن من هو كذلك لا يكون إلا عبدا مكرما مختصا به تعالى وكثيرا ما يقال لمن يستولي عليه حب شيء فينقاد له عبد ذلك الشيء ومنه عبد الدينار والدرهم وعبد الخميصة وعبد بطنه ومن هنا يقال لمن يتبع الشيطان عبد الشيطان فلا حاجة إلى القول بأن في الكلام صفة محذوفة أي إن عبادي المخلصين
وزعم الجبائي أن عبادي عام لجميع المكلفين وليس هناك صفة محذوفة لكن ترك الاستثناء اعتمادا على التصريح به في موضع آخر وليس بشيء وفي هذه الإضافة إيذان بعلة ثبوت الحكم في قوله سبحانه : ليس لك عليهم سلطان أي تسلط وقدرة على إغوائهم وتأكيد الحكم مع اعتراف الخصم به لمزيد الاعتناء
وكفى بربك وكيلا 56 لهم يتوكلون عليه جل وعلا ويستمدون منه تعالى في الخلاص عن إغوائك فيحميهم سبحانه منه والخطاب في هذه الجملة قيل للشيطان كما في الجملة السابقة ففي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي مع الإضافة إلى ضميره إشعار بكيفية كفايته تعالى لهم وحمايته إياهم منه أعني سلب قدرته على إغوائهم وقيل للنبي عليه الصلاة و السلام أو للإنسان كأنه لما بين سبحانه من حال الشيطان ما بين صار ذلك لحصول الخوف في القلوب فقال سبحانه : وكفى بربك أيها النبي أو أيها الانسان وكيلا فهو جل جلاله يدفع كيد الشيطان ويحفظ منه والقلب يميل إلى عدم كونه خطابا للشيطان وإن كان في السابق له واستدل بالآية على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وأن الانسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلال وإلا لقيل وكفى بالإنسان وكيلا لنفسه هذا وههنا سؤالان ذكرهما الإمام مع جوابيهما الأول أن إبليس هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بهذه التهديدات هو إله العالم أو لم يكن عالما فإن كان الأول فكيف يصر على الوعيد الشديد بقوله سبحانه : فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا مانعا له من المعصية مع أنه سمعه من الله جل جلاله من غير واسطة وإن كان الثاني فكيف قال : أرأيتك هذا الذي كرمت علي والجواب لعله كان شاكا في الكل وكان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن وأقول لا يخفى ما في هذا الجواب
والحق فيه أنه كان جازما بأن الذي تكلم معه بذلك هو إله العالم جل وعلا إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته فلم يصر الوعيد مانعا له ولذا حين تنصب لهلاكه الحبائل إذا جاء وقته ويعاين من العذاب ما يعاين وتضيق عليه الأرض بما رحبت فيقال له : أسجد اليوم لآدم عليه السلام لتنجو لا يسجد ويقول : لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا كما ورد في بعض الآثار وليس هذا بأعجب من حال الكفار الذين يعذبون يوم القيامة أشد العذاب على كفرهم ويطلبون العود ليؤمنوا حيث أخبر الله تعالى بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
وربما يقال : إن اللعين مع هذا الوعيد له أمل بالنجاة فقد حكي أن مولانا عبد الله التستري سأل الله تعالى أن
(15/113)
يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة الله تعالى فقال : كيف لا أطمع فيها والله سبحانه يقول : ورحمتي وسعت كل شيء وأنا شيء من الأشياء فقال التستري : ويلك إن الله تعالى قيد في آخر الآية فقال إبليس له : ويحك ما أجهلك القيد لك لا له ولعله يزعم أن آيات الوعيد مطلقا مقيدة بالمشيئة وإن لم تذكر كما يقوله بعض الأشاعرة في آيات الوعيد للعصاة من المؤمنين
السؤال الثاني ما الحكمة في أن الله تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة والحكيم إذا أراد أمرا وعلم أن له مانعا يمنع من حصوله لا يسعى في تحصيل ذلك المانع والجواب إما على مذهبنا فظاهر وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم : إن الله تعالى علم أن الذين يكفرون عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد وحينئذ لم يكن في وجوده مزيد مفسدة وقال أبو هاشم : لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة إلا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقوا بذلك مزيد الثواب وأنا أقول : إن إبليس ليس مانعا مما يريده الله جل مجده وتعالى جده فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن والله تبارك وتعالى خلق الخلق طبق علمه وعلم به طبق ما هو عليه في نفسه فأفهم والله تعالى أعلم
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر مبتدأ وخبر وقيل الموصول صفة ربكم وهو صفة لقوله تعالى الذي فطركم أو أبدل منه وذلك جائز وإن تباعد ما بينهما ا ه وفيه ما فيه وأصل الأزجاء السوق حالا بعد حال والمراد به الاجراء وكأن اختياره عليه لما أنه أدل منه على القسر وهو أوفق بالمقام وأعظم في الإنعام أي هو سبحانه وتعالى القادر الحكيم الذي يجري لنفعكم السفن في البحر بالريح اللينة وبالآلات حسبما جرت به عادته تعالى لتبتغوا من فضله تصريح بالنفع أي لتطلبوا من رزقه الذي هو فضل من قبله سبحانه أو من الربح الذي هو جل شأنه معطيه ومن تبعيضية وتفسير الفضل بالحج أو الغزو غير مناسب وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائل التوحيد الذي هو المراد الأصلي من البعثة وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر تكملة لما مر من قوله سبحانه : فلا يملكون الآية إنه كان أزلا وأبدا بكم رحيما 66 حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من مباديه وهذا تذليل فيه تعليل لما سبق من الازجاء والابتغاء للفضل وصيغة الرحيم كما في إرشاد العقل السليم للدلالة على أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة وهو مبني على اختصاص الرحيم بالدنيا كما هو المشهور وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا وقيل بعدم الاختصاص وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما
وإذا مسكم الضر في البحر خوف من الغرق بعصف الريح وتقاذف الأمواج ضل من تدعون أي ذهب عن خواطركم من تدعونه وترجون نفعه فلا تذكرونه إلا إياه جل وعلا فإنكم تذكرونه وحده سبحانه لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره تعالى لكشف ما حل بكم من الضر استقلالا أو اشتراكا فالمراد بضلالهم غيبتهم عن الكفر لا عن النظر والحس لأنه أمر معلوم من قولهم : ضل عنه كذا إذا نسيه وفي الكشف هو من ضل عنه كذا إذا ضاع ولا حاجة إلى تضمين أو من ضله فلان ذهب عنه فلم يقدر عليه ذكره الأزهري وأنشد
(15/114)
والسائل المبتغي كرائمها يعلم أني تضلني عللي أي تفارقني وتذهب عني فلا أتعلل بعلة وهذا أظهر نعم الضلال راجع إلى الذكر لا بمعنى إضماره فإنه ركيك يقال ضل عن خاطري كذا إذا لم تذكره فإنه ضلال له لا أنه ضلال ذكره ولا تقول ضل عن خاطري ذكره وكذلك ضلني الأمر ا ه والدعاء في هذا على ظاهره والاستثناء متصل بناء على أن ما عبارة عن المدعوين مطلقا وأنهم كانوا يدعون الله تعالى وغيره في الحوادث وإن كانت ما عبارة عن آلهتهم الباطلة فقط وأنهم كانوا في حالة السراء يدعونها وحدها كما يدل عليه ظاهر ما بعد فالاستثناء منقطع وفسر الدعاء على هذا بدعاء العبادة واللجأ
وقال أبو حيان : الظاهر الانقطاع لأنه تعالى لم يندرج في من تدعون إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله تعالى وتعقب بأن مقتضى كونهم مشركين أنهم يعبدونه سبحانه أيضا لكن على طريق الإشراك بل قولهم وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى كما قص سبحانه عنهم يقتضي أنه جل مجده المعبود الحقيقي عندهم وقد يقال : إن الشارع أسقط مثل هذه العبادة عن درجة الاعتبار فهم غير عابدين الله جل وعلا شرعا بل قيل إنهم غير عابدين لغة أيضا لأن العبادة لغة غاية الخضوع والتذلل ولا يتحقق ذلك مع الشركة ولو على الوجه الذي زعموه فتأمل
وجوز غير واحد أن يكون المعنى ضل من تدعونه عن إغاثتكم إلا إياه تعالى والضلال فيه إما بمعنى الغيبة أو بمعنى عدم الاهتداء منه كأنه قيل ضل عن محجة الصواب ولم يقدر على ذلك وأمر الاستثناء من الاتصال والانقطاع ومبني كل على حاله والزمخشري جوز أن يكون المعنى ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله تعالى هو الذي ترجونه وجعل الاستثناء عليه منقطعا فقيل إن ذلك لتخصيصه المدعوين بالآلهة
وفي الكشف لعل الوجه فيه أنه تعالى ما كانوا يدعونه أي دعاء العبادة واللجأ إلا في تلك الحالة وأما في حالة السراء فيخصون آلهتهم بالدعاء والتحقيق أن الضلال بهذا المعنى لم يتناول الحق سبحانه لأن معناه ضل المدعوون وغابوا عن إغاثتهم ولا يراد غابوا وحضر جل وعلا بل المراد ولكن رجوا أن يغيثهم ولا يخذلهم فعل المدعوين على حسبانهم وهذا هو الوجه إن شاء الله تعالىا ه ومبني التحقيق لا يخفى على المتدرب في علم النحو هذا من اللطائف أن بعض الناس قال لبعض الأئمة : أثبت لي وجود الله تعالى ولا تذكر لي الجوهر والعرض فقال له : هل ركبت البحر قال : نعم قال : فهل عصفت الريح قال : نعم قال : فهل أشرفت بك السفينة على الغرق قال : نعم قال : فهل يئست من نفع من في السفينة ونحوهم من المخلوقين لك وإنجائهم مما أنت فيه إياك قال : نعم قال : فهل بقي قلبك متعلقا بشيء غير أولئك قال : نعم قال : ذلك هو الله عز و جل فاستحسن ذلك
فلما نجيكم من الضر وأوصلكم إلى البر أعرضتم عن ذكره تعالى بعد أن كنتم غير ذاكرين إلا إياه سبحانه أو أعرضتم عن توحيده جل وعلا أو عن شكره عز و جل بتوحيده وطاعته سبحانه أو توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض مقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرمة : عطاء فتى تمكن في المعالي فأعرض في المكارم واستطالا وكأنه أريد أعرضتم واستطلتم في الكفران إلا أنه استغنى بذكر العرض عن ذكر الطول للزومه له
وكان الإنسان كفورا 76 كالتعليل للإعراض وهو بيان لحكم الجنس ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين
(15/115)
وفيه لطافة حيث أعرض سبحانه عن خطابهم بخصوصهم وذكر أن جنس الإنسان مجبول على الكفران فلما أعرضوا أعرض الله سبحانه عنهم
أفأمنتم الهمزة للإنكار على معنى أنه لا ينبغي الأمن والفاء للعطف على محذوف متوسط بينها وبين الهمزة أي أنجوتم فأمنتم وهو مذهب بعض النحويين واختار بعضهم أن الهمزة مقدمة من تأخير لأصالتها في الصدارة والعطف على ما قبله وجملة كان الإنسان الخ معترضة بين المتعاطفين ولا حذف في مثل ذلك وهو مذهب الأكثرين لكن لا يظهر تسبب الإنكار للأمن على ما قبل على ما يقتضيه هذا المذهب بل الظاهر ترتبه على النجاة فقط ولا مدخل للإعراض في تسبب الإنكار والحق عندي في أمثال ذلك ما فيه استقامة المعنى من غير تكلف ولا يتعين التزام أحد المذهبين وإن أدى إلى التكلف فإنه تعصب محض والخطاب لمن تقدم أفأمنتم أيها المعرضون عند النجاة أن يخسف بكم جانب البر الذي هو مأمنكم أي أن يغيبه الله تعالى ويذهب به في أعماق الأرض مصاحبا بكم أي وأنتم عليه على أن الباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال وجوز أن تكون الباء للسببية والجار والمجرور متعلق بما عنده أي أن يغيبه سبحانه بسببكم وتعقب بأنه لا يلزم من قبله بسببهم أن يكونوا مهلكين مخسوفا بهم وأوجيب بأنه حيث كان المراد من جانب البر جانبه الذي هم فيه استلزم خسفه هلاكهم ولولا هذا لم يكن في التوعد به فائدة ونصب جانب في الوجهين على أنه مفعول به ليخسف
وفي الدر المصون أنه منصوب على الظرفية وحينئذ يجوز كون الباء للتعدية على معنى أفأمنتم أن يغيبكم في ذلك
وفي القاموس خسف الله تعالى بفلان الأرض غيبه فيها والظاهر أنه بيان للمعنى اللغوي للفظ وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم عند ما وصلوا الساحل أعرضوا أو ليكون المعنى أن الجوانب والجهات متساوية بالنسبة إلى قدرته سبحانه وقهره وسلطانه فله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة فليس جانب البحر وحده مختصا بذلك بل إن كان الغرق في جانب البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء فعلى العاقل أن يخاف من الله تعالى في جميع الجوانب وحيث كان
والأول على تقدير أن يراد بجانب البر طرفه مما يلي البحر وهو الساحل وهذا على احتمال أن يراد به ما يشتمل جميع جوانبه وقرأ ابن كثير وأبو عمرو نخسف بنون العظمة وكذا في الأربعة التي بعده
أو يرسل عليكم من فوقكم حاصبا أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال : هو مطر الحجارة أي مطرا يحصبكم أي يرميكم بالحصباء وهو صغار الحجارة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه فسر الحاصب بالحجارة نفسها ولعله حينئذ صيغة نسبة أي ذا حصب ويراد منه الرمي وقال الفراء : الحاصب الريح التي ترمي بالحصباء وقال الزجاج : هو التراب الذي فيه الحصباء والصيغة عليه صيغة نسبة أيضا وجاء بمعنى ما تناثر من دقائق الثلج والبرد ومنه قول الفرزدق
مستقبلين شمال الشام تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور وبمعنى السحاب الذي يرمي بهما واختار الزمخشري ومن تبعه تفسير الفراء والظاهر أن الكلام عليه على حقيقته فالمعنى أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها فيكون أشد عليكم من الغرق في البحر ويقال نحو هذا على سائر تفاسير الحاصب وقال الخفاجي
(15/116)
في وصف الريح بالرمي بالحصباء : إنه عبارة عن شدتها وذكرها إشارة إلى أنهم خافوا إهلاك الريح في البحر فقيل إن شاء أهلككم بالريح في البر أيضا ولا أدري ما المانع من إرادة الظاهر والشدة تلزم الرمي المذكور عادة والإشارة هي الإشارة ثم لا تجدوا لكم وكيلا 86 تكلون إليه أموركم فيحفظكم من ذلك أو يصرفه عنكم غيره جل وعلا فإنه لا راد لأمره الغالب جل جلاله أم أمنتم أي أأمنتم أن يعيدكم فيه أي في البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم بركوب الفلك لا في الفلك لأنها مؤنثة وأوثرت كلمة في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم فيه تارة أخرى أي مرة غير المرة الأولى وهو منصوب على الظرفية ويجمع على تارات وتير كما في قوله
يقوم تارات ويمشي تيرا
وربما حذفوا منه الهاء كقوله
بالويل تارا والثبور تارا
وإسناد الإعادة إليه تعالى مع أن العودة باختيارهم ومما ينسب إليهم وإن كان مخلوقا له سبحانه كسائر أفعالهم باعتبار خلق الدواعي فيهم الملجئة إلى ذلم وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لاقوه في التارة الأولى بحيث لولا الإعادة ما عادوا فيرسل عليكم وأنتم في البحر قاصفا من الريح وهي الريح الشديدة التي تقصف ما تمر به من الشجر ونحوه أو التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : القاصف من الريح الريح التي تغرق وقيل : الريح المهلكة في البر حاصب والريح المهلكة في البحر قاصف والعاصف كالقاصف كما روي عن عبد الله بن عمرو وفي رواية عن ابن عباس تفسير القاصف بالعاصف وقرأ أبو جعفر من الرياح بالجمع فيغرقكم الله سبحانه بواسطة ما ينال فلككم من القاصف وقرأ أبو جعفر فتغرقكم بالتاء ثالثة الحروف على أن الفعل مسند إلى الريح والحسن وأبو رجاء فيغرقكم بالياء آخر الحروف وفتح الغين وشد الراء وفي رواية عن أبي جعفر كذلك إلا أنه بالتاء لا الياء وقرأ حميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن بما كفرتم أي بسبب كفركم السابق وهو إعراضهم عند الإنجاء في المرة الأولى وقيل : بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائما ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا 96 أي نصيرا كما روي عن ابن عباس أو ثائرا يطلبنا بما فعلنا انتصارا منا أو دركا للثأر من جهتنا فهو كقوله تعالى فسواها ولا يخاف عقباها كما روي عن مجاهد وضمير به قيل للإرسال وقيل : للإغراق وقيل : لهما باعتبار ما وقع ونحوه كما أشير إليه وكأنه سبحانه لما جعل الغرق بين الإعادة إلى البحر انتقاما في مقابلة الكفر عقبه تعالى بنفي وجدان التبيع فكأنه قيل ننتقم من غير أن يقوم لنصركم فهو وعيد على وعيد وجعل ما قبل من شق العذاب كمس الضر في البحر عقبه بنفي وجدان الوكيل فكأنه قيل لا تجدون من تتكلون عليه في دفعه غيره تعالى لقوله سبحانه ضل من تدعون إلا إياه وهذا اختيار صاحب الكشف فلا تغفل ولقد كرمنا بني ءادم أي جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ذوي كرم أي شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطاق الحصر وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كرمهم بالعقل وفي رواية بتناولهم الطعام بأيديهم لا بأفواههم كسائر الحيوانات
وعن الضحاك بالنطق وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات وعن يمان بحسن
(15/117)
الصورة وعن ابن جرير بالتسلط على غيرهم من الخلق وتسخيره لهم وعن محمد بن كعب بجعل محمد منهم
وقيل : بخلق الله تعالى أباهم آدم بيديه وقيل : بتدبير المعاش والمعاد وقيل : بالخط وقيل : باللحية للرجل والذؤابة للمرأة وقيل وقيل والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل ومن ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال : إنما التكريم بالعقل لا غير فقد ادعى غلطا ورام شططا وخالف صريح العقل وصحيح النقل ولذا استدل الإمام الشافعي بالآية على عدم نجاسة الآدمي بالموت وحملناهم في البر والبحر على أكباد رطبة وأعواد يابسة من الدواب والسفن فهو من حملته على كذا إذا أعطيته ما يركبه ويحمله فالمحمول عليه مقدر بقرينة المقام
وقيل : المراد من حملهم في البر والبحر جعلهم قارين فيهما بأن لم يخسف بهم الأرض ولم يغرقهم بالماء والأول أنسب بالتكريم إذ لا يثبت لشيء من الحيوانات سواهم بخلاف الثاني ورزقناهم من الطيبات أي فنون النعم وضروب المستلذات مما يحصل بصنعهم وبغير صنعهم من المأكولات والملبوسات والمفروشات والمقتنيات وغير ذلك وفضلناهم قيل : أي بالتكريم المذكور على كثير ممن خلقنا تفضيلا 07 عظيما والمراد أن ذلك مخصوص بهم بالنسبة إلى الكثير فلم يكرم الكثير كما كرموا وبحث الإمام في هذا المقام بأنه تعالى قال أولا ولقد كرمنا بني آدم وقال سبحانه هنا وفضلناه فلا بد من فرق بين التكريم والتفضيل لئلا يلزم التكرار
والأقرب في ذلك أن يقال : إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم أنه عز و جل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل فكأنه قيل فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة والزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادي ذلك فعليهم أن يشكروا ويصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره عز و جل ويقال نحو هذا على ما سبق أيضا بقليل تغيير وقال الطيبي : قدد كرر في الآية ما ينبغي عن غاية المدح من ذكر الكرامة والتفضيل وتسخير الأشياء على سبيل الترقي كأنه قيل : ولقد كرمنا بني آدم بكرامة أبيهم عليه السلام ثم سخرنا لهم الأشياء ورزقناهم من الطيبات ثم فضلناهم تفضيلا أي تفضيل ولذا عقب بها قوله سبحانه وإذ قلنا للملائكة اسجدوا الخ وهو لبيان كرامة أبيهم وما توسط بينهما من الآيات كالاستطراد والاعتراض إلى آخر ما قال ويعلم منه دفع التكرار وإن لم يسقه لذلك الغرض وفيه تخصيص التكريم وكذا فيما قيل إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف الذي عرضهم به للمنازلة الرفيعة والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام عند الكثير ومنهم الزمخشري وزعم أن الآية صريحة في تفضيل الملك على البشر وشنع على أهل السنة تشنيعا أقذع فيه
والحق أنها لا تصلح للاحتجاج على التفضيل المتنازع فيه ففي الكشف أن الظاهر من سياق الآية أنه حث للإنسان على الشكر وعلى أن لا يشرك به تعالى حيث ذكر ما في البر والبحر من حسن كلاءته سبحانه له وضمن فيه أنه جلا وعلا هداهم إلى الفلك وصنعته وما يترتب عليه من الفوائد في قوله سبحانه ربكم الذي يسجي لكم الفلك الآيات فقال عز و جل ولقد كرمنا بني آدم أي هذا النوع من بين سائر الأنواع باصطناعات خصصناهم بها فذكر تعالى منها حملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات وتفضيلهم على كثير من المخلوقات وهذا التفضيل لا يراد منه عظم الدرجة وزيادة القربة عند الله تعالى وهو المتنازع فيه لأن الحكم للنوع من حيث هو وذكر
(15/118)
الله تعالى لذلك موجبات تعم الصالح والطالح فسواء دخل في هذا الكثير الملائكة أو لم يدخل لم يدل على الأفضلية بالمعنى المذكور فلا يصلح لاحتجاج إحدى الطائفتين ا ه
ثم إن على فرض أن التفضيل بالمعنى المتنازع فيه لا يدل الآية على أن الملك أفضل من البشر إلا بطريق المفهوم وفي حجيته خلاف وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لا يقول به على أنه يدل على أنهم فضلوا على الكثير ولم يفضلوا على مقابله وهو يحتمل المساواة وتفضيل المقابل فليس نصا في مذهب الزمخشري
وجعل الطيبي من بيانية كما في قولك بذلت له العريض من جاهي أي فضلناهم على الكثيرين الذين خلقناهم من ذوي العقول كما هو الظاهر من من وهم منحصرون في الملك والجن والبشر فحيث خرج البشر لأن الشيء لا يفضل على نفسه بقي الملك والجن فيكون المراد بيان تفضيل البشر عليهم جميعا وهو الذي يقتضيه مقام المدح فإن الآية مسوقة له وإذا جعلت للتبعيض كان ممن خلقنا بدلا أي فضلناهم على بعض المخلوقين
وذكر البعض في هذا المقام يدل على تعظيم المفضل عليه كما قرر في قوله تعالى ورفع بعضهم درجات وأي مدح لبني آدم وإثبات للفضل والكرامة بالجملة القسمية إذا جعلوا مفضلين على الجن والشياطين على أن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة لإخراج البعض كانت الملائكة أولى من الجن والشياطين لأنهم هم الموصوفون بالكثرة كما تدل عليه الأخبار الكثيرة كخبر أطيط السماء وخبر نزول قطرات المطر وخبر ما يدخل البيت المعمور في كل يوم من الملائكة إلى غير ذلك وإليه ينظر قول صاحب التقريب إنه يحتمل أن يراد بكثير ممن خلقنا الملائكة إذ هم كثير من العقلاء المخلوقين ا ه
وتعقب بأن ما ذكره من حمل من خلقنا على تعميم ذوي العقول مقبول فإن تفضيلهم على غير ذوي العقول حينئذ آت من طريق مفهوم الموافقة فلا حاجة إلى ارتكاب خلاف الظاهر واعتبار تغليبهم ليعمهم وغيرهم لكن حمل من على البيان غير مقبول فإنه بعيد جدا لأن قيد الكثرة يضيع عليه حمل من على التعميم التغليبي أو الوضعي ولأن استعماله في التبعيض شائع أينما وقع في التنزيل واستعمالات الفصحاء وهو أكثر تعسفا من حمله على الغاية في قوله تعالى فامسحوا برؤسكم وأرجلكم منه على ما ذكره الزمخشري فيه وأنه إذا قوبل بشيء آخر دل على القلة في المقابل كما في قوله تعالى فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون فإنه صرح بأنه يدل على أن الغلبة للفساق للمقابلة أما ورد ابتداء فربما كان الأكثر خلاف ذلك كما في قوله تعالى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين فقوله إن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة الخ كلام لم يصدر عن ثبث ولهذه النكتة قال صاحب التقريب : يحتمل دلالة على أنه مرجوح
هذا ثم إن مسئلة التفضيل مختلف فيها بين أهل السنة فمنهم من ذهب إلى تفضيل الملائكة وهو مذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط ومنهم من فصل فقال : إن الرسل من البشر أفضل مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة ثم عموم الملائكة على عموم البشر وهذا ما عليه أصحاب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة وكثير من الشافعية والأشعرية ومنهم من عمم
(15/119)
تفضيل الكمل من نوع الإنسان نبيا كان أو وليا ومنهم من فضل الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة على عموم البشر
وهذا ما عليه الإمام الرازي وبه يشعر كلام الغزالي في مواضع عديدة في كتبه ومن هذا يعلم أن إطلاق القول بأن أهل السنة يفضلون البشر على الملك ليس على ما ينبغي وهذه المسئلة ومسئلة تفضيل الأئمة ليستا مما يبدع الذاهب إلى أحد طرفيهما على ما في الكشف إذ لا يرجع إلى أصل في الاعتقاد ولا يستند إلى قطعي بعد أن يسلم من الطعن وما يخل بتعظيم في المسئلتين لكن المشهور في مسئلة تفضيل الأئمة أن القول بخلاف ما استقر عليه رأي أهل السنة ابتداع ومن أنصف قال بما في الكشف فهذر الزمخشري على من خالفه محض جهالة إذا لم يكن بتلك الغاية فكيف وهو قد بلغ فيه من السفاهة غايتها ومن البذاذة نهايتها وسيرى جزاء ذلك
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم شروع في بيان تفاوت أحوال بني آدم في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا و يوم مفعول به لفعل محذوف أي اذكر يوم ندعوا الخ
وجوز ابن عطية وغيره أن يكون ظرفا لفعل يدل عليه لا يظلمون ولم يجعل ظرفا له بناء على أن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ولو ظرفا وجوز أيضا أن يكون مبتدأ وهو مبني لإضافته إلى غير متمكن والخبر جملة فمن أوتي الخ ويقدر للربط فيها فيه وفيه أن المنقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل وما في حيزه هنا فعل مضارع على أن بناء أسماء الظروف المضافة إلى جملة هو أحد ركنيها بناء على مذهب الكوفيين والبصريون لا يجوزون ذلك ومع هذا هو تخريج متكلف
وجوز أيضا كونه ظرفا لفضلناهم قال : وتفضيل البشر على سائر الحيوانات يوم القيامة بين وبه قال بعض النحاة إلا أنه قال : فضلناهم بالثواب وفيه أنه أي تفضيل للبشر ذلك اليوم والكفار منهم أخس من كل شيء إلا أن يقال : يكفي في تفضيل الجنس تفضيل بعض أفراده ألا ترى صحة الرجال أفضل من النساء مع أن من النساء من هي أفضل من بعض الرجال بمراتب وأيضا أريد التفضيل بالثواب لا يصح إخراج الملائكة لأن جنس البشر يثابون والملائكة عليهم السلام لا يثابون كما هو مقرر في محله ثم إنهم يشاركهم في الثواب الجن لأن مؤمنيهم يثابون كما يثاب البشر عند بعض وقيل إن ثوابهم دون ثوابهم لأنهم لا يرون الله تعالى في الجنة عند من قال : إن الله تعالى يرى فيها فالبشر مفضلون عليهم في الثواب من هذه الجهة وقيل ظرف يقرءون أو ما دل عليه وفيه أنهم لا يقرؤن كتابهم وقت الدعوة وأجيب بأن المراد بيوم يدعون وقت طويل وهو اليوم الآخر الذي يكون فيه ما يكون ويبقى في جعله ظرفا للمذكور حديث الفاء
وقال الفراء : هو ظرف لنعيدكم محذوفا وقيل ظرف ليستجيبون وقيل هو بدل من يوم يدعوكم وقيل العامل فيه ما دل عليه قوله سبحانه متى هو وهي أقوال في غاية الضعف وأقرب الأقوال وأقواها ما ذكرناه أولا
والإمام المقتدى به والمتبع عاقلا كان أو غيره والجار والمجرور متعلق بندعوا أي ندعوا كل أناس من بني آدم الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم وما عطف عليه بمن ائتمنوا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال : يا أتباع فلان يا أهل دين كذا أو كتاب كذا
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول الله في الآية : يدعى كل قوم
(15/120)
بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : إمام هدى وإمام ضلالة
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : بإمامهم بكتاب أعمالهم فيقال : يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر وروى ذلك عن أبي العالية والربيع والحسن وقريء بكتابهم ولعل وجه كون ذلك إمامهم إنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار وقال الضحاك وابن زيد : هو كتابهم الذي نزل عليهم
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال : هو نبيهم الذي بعث إليهم
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال : هو نبيهم الذي بعث إليهم
واختار ابن عطية كغيره عموم الإمام لما ذكر في الآثار وقيل : المراد القوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم كالقوة النظرية والعملية والقوة الغضبية والشهوية سواء كانت الشهوة شهوة النقود أو الضياع أو الجاه والرياسة ولأتباعهم لها دعيت إماما وهو مع كونه غير مأثور بعيد جدا فلا يقتدى بقائله وإن كان إماما
وفي الكشاف أن من بدع التفاسير أن الإمام جمع أم كخف خفاف وأن الناس يدعون يوم القيامة بأماتهم وأن الحكمة في الدعاء بهن دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام وشرف الحسن والحسين ولا يفضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة تفسيره أم بهاء حكمته انتهى وهو مروي عن محمد بن كعب
ووجه عدم قبوله على ما في الكشف أما أو لا فلأن إمام جميع أم غير شائع وإنما المعروف الأمهات
وأما ثانيا فلأن رعاية حق عيسى عليه السلام في امتيازه بالدعاء بالأم فإن خلقه من غير أب كرامة له لا غض منه ليجبر بأن الناس أسوته في انتسابهم إلى الأمهات وإظهار شرف الحسنين بدون ذلك أتم فإن أباهما خير من أمهما مع أن أهل البيت كحلقة مفرغة وأما افتضاح أولاد الزنا فلا فضيحة إلا للأمهات وهي حاصلة دعى غيرهم بالأمهات أو الآباء ولا ذنب لهم في ذلك حتى يترتب عليه الافتضاح انتهى وما ذكر من عدم شيوع الجمع المذكور بين وأما الطعن في الحكمة فقد تعقب فإن حاصلها أنه لو دعى جميع الناس بآبائهم ودعى عيسى عليه السلام بأمه لربما أشعر بنقصه فروعي تعظيمه عليه السلام ودعى الجميع بالأمهات وكذا روعي تعظيم الحسنين رضي الله تعالى عنهما لما أن في ذلك بيان نسبهما من رسول الله ولو نسبا إلى أبيهما كرم الله وجهه لم يفهم هذا وإن كان هو هو رضي الله تعالى عنه وفي ذلك أيضا ستر على الخلق حتى لا يفتضح أولاد الزنا فإنه لو دعي الناس بآبائهم ودعوا هم بأمهاتهم علم أنهم لا نسبة لهم إلى آباء يدعون بهم وفيه تشهير لهم ولو دعوا بآباء لم يعرفوا بهم في الدنيا وإن لم ينتسبوا إليهم شرعا كان كذلك وعلى هذا يسقط ما في الكشف وعندي أن القائل بذلك لا يكاد يقول به من غير أن يتمسك بخبر لأنه خلاف ما ينساق إلى الأذهان على اختلاف مراتبها ولا تكاد تسلم حكمته عن وهن
ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر
ولعل الخبر إن كان ليس بالصحيح ويعارضه ما قدمناه غير بعيد من قوله : إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم والله تعالى أعلم وما ذكر من تعلق الجار بما عنده هو الظاهر الذي ذهب إليه الجمهور وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا أي مصحوبين بإمامهم ثم إن الداعي إما الله عز و جل وإما الملك وهو الذي تشعر به الآثار فإسناد الفعل إليه تعالى مجاز
وقرأ مجاهد يدعو بالياء آخر الحروف أي يدعو الله تعالى أو الملك والحسن في رواية يدعى بالبناء
(15/121)
للمفعول ورفع كل على النيابة عن الفاعل وفي رواية أخرى يدعوا بضم الياء وفتح العين بعدها واو ورفع كل وخرجت على وجهين فإن الظاهر يدعون بإثبات النون التي هي علامة الرفع الأول إن الواو ليست ضمير جمع ولا علامته وإنما هي حرف من نفس الكلمة وكانت ألفا والأصل يدعى كما في القراءة الأخرى وقلبت الألف واوا على لغة من يقول في أفعى وهي الحية أفعو وهذه اللغة مخصوصة بالوقف على المشهور فيكون قد أجرى هنا الوصل مجرى الوقف ونقل عن سيبويه أن قلب الألف في الآخر واو لغة مطلقا والثاني أن الواو ضمير أو علامة كما يتعاقبون فيكم ملائكة والنون محذوفة كما في قوله : لا تؤمنوا حتى تحابوا وكما تكونوا يولى عليكم في قول وكذا في قول الشاعر : أبيت أسرى وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي وكأنها لكونها علامة إعراب عوملت معاملة حركته في إظهارها تارة وتقديرها أخرى ولا فرق في كونها علامة إعراب بين أن تكون الواو ضميرا وأن تكون علامة جمع على الصحيح والظاهر أن حذفها في مثل ما ذكر شاذ لا ضرورة وإلا فلا يصح هذا التخريج في الآية وفي توجيه رفع كل على هذه القراءة الأقوال في توجيه الرفع في أمثاله وهي مشهورة في كتب النحو فمن أوتي يومئذ من أولئك المذعوين كتابه صحيفة أعمالهم والله سبحانه أعلم بحقيقتها بيمينه إبانة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفا لصاحبه وتبشيرا له من أول الأمر بما في مطاويه فأولئك إشارة إلى من باعتبار معناه وكأنه أشير بذلك إلى أنهم حزب مجتمعون على شأن جليل وقيل فيه إشعار بأن قراءتهم لكتبهم على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما في حال الايتاء وأكثر الأخبار ظاهرة في أن حال القراءة كحال الايتاء نعم جاء من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ويقرأ الناس حسناته ثم يحول الصحيفة فيحول الله تعالى حسناته فيقرؤها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة
ويحتمل أن يكون كل من يؤتى كتابه بيمينه بعد أن يقرأه منفردا يأتي أصحابه ويقول هاؤم اقرؤا كتابيه فيجتمعون عليه ويقرؤنه ويقرؤه هو أيضا معهم تلذذا به لكن لم نجد في ذلك أثرا ومع هذا لا يجدي نفعا فيما أراد القائل وفي إلحاق اسم الإشارة علامة البعد إشارة إلى رفعه درجات المشار إليهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامة التي لا يشعر بها إيتاء الكتاب باليمين يقرءون ولو لم يكونوا قارئين في الدنيا كتابهم الذي أوتوه باليمين ليذكروا أعمالهم ويقفوا على تفاصيلها فيحاسبوا عليها وقيل يقرؤنه تبجحا بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات والإظهار في مقام الإضمار لمزيد الاعتناء ولا يظلمون أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة فتيلا 17 أي قدر فتيل وهو القشر الذي في شق النواة سمي بذلك لأنه على هيئة الشيء المفتول وقيل هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب به المثل في الشيء الحقير ثم إن الذي يسرع إلى الذهن أن فاعل الايتاء الملائكة عليهم السلام يعطون السعيد بعد أن يدعى كتابه بيمينه فيقرؤه فيحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا
لكن أخرج العقيلي عن أنس عن النبي قال : الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة
(15/122)
يبعث الله تعالى ريحا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل وأول خط فيها اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وهو ظاهر في أن فاعل الايتاء ليس الملك إلا أن الخبر يحتاج إلى تنقير فإني لست من صحته على يقين
نعم جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد عن عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : قلت يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة قال : أما عند ثلاث فلا إلى أن قال وعند تطاير الكتب وهو مؤيد بظاهره الخبر السابق والله تعالى أعلم
وجاء في بعض الآثار أن أول من يؤتى كتابه بيمينه من هذه الأمة أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد وأول من يؤتى كتابه بشماله أخوه الأسود سود الله تعالى وجهه بعد أن يمد يمينه ليأخذه بها فيخلعها ملك وسبب ذلك مذكور في السير ومن كان من المدعوين المذكورين في هذه الدنيا التي فعل بهم فيها من التكريم والتفضيل ما فعل أعمى لا يهتدي إلى طريق نجاته من النظر إلى ما أولاه مولاه جل علاه والقيام بحقوقه وشكره سبحانه بما ينبغي له عز شأنه من الإيمان والعمل فهو في الآخرة التي عبر عنها بيوم ندعو أعمى لا يهتدي أيضا إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه لأن العمى الأول موجب للثاني وهو في الموضعين مستعار من آفة البصر
م وجوز أن يكون أعمى الثاني أفعل تفضيل من عمى البصيرة وهو من العيوب الباطنة التي لا يجوز أن يصاغ منها أفعل التفضيل كالأحمق والأبله وبني على ذلك إمالة أبي عمرو الأول وتفخيمه الثاني وبيان أن الألف في الأول آخر الكلمة كما ترى وتحسن الإمالة في الأواخر وهي في الثاني على تقدير كونه أفعل تفضيل كأنها في وسط الكلمة لأن أفعل المذكور باللام ولا مضاف لا يستعمل بدون من الجارة للمفضل عليه ملفوظة أو مقدرة وهو معها في حكم الكلمة الواحدة ولا تحسن الإمالة فيها ولا تكثر كما في المتطرفة
وقد صرح بذلك أبو علي في الحجة فلا يرد إمالة أدنى من ذلك والكافرين وأن حمزة والكسائي وأبا بكر يميلون الأعمى في الموضعين ولا حاجة إلى أن يقال : إنهم لا يرونه أفعل تفضيل أو أن الإمالة فيما يرونه كذلك للمشاكلة وقال بعض المحققين : إنه لما أريد افتراق معنيي الأعمى في الموضعين افتراق اللفظان إمالة وتفخيما وفخم الثاني لأن ما يدل على زيادة المعنى أولى بالتفخيم مع عدم حسن الإمالة فيه حسنها في الأول ولا يظن يأبى على أنه يقول بامتناع الإمالة وإنما يقول بأولوية التفخيم
وقال بعضهم : إن كان الأعمى فيما يكون للبصر وما يكون للبصيرة حقيقة فلا إشكال وإن كان حقيقة في الأول وتجوز به عن الثاني ففيه إشكال إلا أن يقال : إنه ألحق بما وضع لذلك وقد منعه آخرون لأن العلة وهي الالباس بالوصف موجودة فيه فتدبر وقوى هذا التأويل بعطف قوله تعالى : وأضل سبيلا 27 منه في الدنيا لزوال الاستعداد وعدم إمكان تدارك ما فات وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له ولعل العدول إلى هذا العنوان للإيذان بالعلة الموجبة كما في قوله تعالى : وأما إن كان من المكذبين بعد قوله سبحانه وأما إن كان من أصحاب اليمين وللرمز إلى علة حال الفريق الأول وفي ذلك ما هو من قبيل الاحتباك حيث ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخر السبب ودل بالمذكور في كل منهما
(15/123)
على المتروك في الآخر تعويلا على شهادة العقل وجعله ابن المنير مقابلا للقسم الأول على معنى فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يتبصره ويقرؤه ومن كان في الدنيا أعمى غير متبصر في نفسه ولا ناظر في معاده فهو في الآخرة كذلك غير متبصر وفي كتابه بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين وهو خلاف الظاهر
ويشعر أيضا بأن من كان في الدنيا أعمى عن السلوك في طريق نجاته لا يقرأ في الآخرة كتابه وهو خلاف المصرح به في الآيات والأحاديث نعم فرق بين القراءتين ولعل الآية تشعر بالفرق وإن لم تقرر المقابلة بما ذكر هذا وعن أبي مسلم تفسير أعمى الثاني بأعمى العين ولا تجوز أي من كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى العين أي يحشر كذلك عقوبه له على ضلالته في الدنيا وهو كقوله تعالى ونحشره يوم القيامة أعمى الآية وتأول فبصرك اليوم حديد بالعلم والمعرفة وعنه أيضا تجويز أن يكون العمى عبارة عما يلحقه من الغم المفرط كأنه قيل من كان في الدنيا ضالا فهو في الآخرة مغموم جدا فإن من لا يرى إلا ما يسوؤه والأعمى سواء وهذا كما يقال : فلان سخين العين وهو كما ترى
وقيل إن هذه إشارة إلى النعم المذكورة قبل على معنى من كان أعمى غير متبصر في هذه النعم وقد عاينها فهو في شأن الآخرة التي لم يعاينها أعمى وأضل سبيلا واستند في ذلك إلى ما أخرجه الفريابي وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل منهم أرأيت قوله تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى فقال ابن عباس : لم تصل المسئلة اقرأ ما قبلها هو الذي يزجي لكم الفلك في البحر حتى بلغ وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ثم قال : من كان أعمى عن هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا
وفي رواية أخرى أخرجها عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة من طريق الضحاك أنه قال في الآية : يقول تعالى من كان في الدنيا أعمى عما رأى من قدرة من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا فهو عما وصفت له في الآخرة أعمى وأضل سبيلا يقول سبحانه أبعد حجة
وروى أبو الشيخ عن قتادة نحوه ولا يخفى أن كلا التأويلين بعيد جدا وإن كان الثاني دون الأول في البعد ولا أظن الحبر يقول ذلك والله تعالى أعلم
ومن باب الإشارة في الآيات وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه قالت الوجودية من الصوفية : أنه تعالى سبق قضاؤه أن لا يعبد سواه وكل عابد إنما يعبد الله سبحانه من حيث يدري ومن حيث لا يدري فإنه جل شأنه الأول والآخر والظاهر والباطن والأعيان الثابتة ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبدا ومما ينسبونه إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه ويزعمون أنه مشير إلى مدعاهم قوله : إني لأكتم من على جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
(15/124)
قالوا : إنه رضي الله تعالى عنه عني بهذا الجوهر الذي لو باح به لقيل له : أنت ممن يعبد الوثن علم الوحدة إذ منه يعلم أن الوثن وكذا غيره مظهر له جل وعلا وليس في الدار غيره ديار وقد مر عن قرب ما نقل عن الحلاج ومثله كثير للشيخ الأكبر قدس سره ولغيره عربا وعجما وهو عفا الله تعالى عنه قد فتح بابا في هذا المطلب لا يسد إلى أن يأتي أمر الله عز و جل وكأنه أوصى إليه بأن يبوح وينكر هاتيك الجواهر بين الأصاغر والأكابر كما أوصى إلى الحسنين بأن يكتما من ذلك ما علما وفي بعض كتبه قدس سره ما هو صريح في أنه مأمور فإن صح ذلك فهو معذور وأنا لا أرى عذرا لمن يقفوا أثره في المقال مع مباينته له في الحال فإن هذا المطلب أجل من أن يحصل لغريق الشهوات وأسير المألوفات ورهين العادات ولله تعالى در من قال : تقول نساء الحي تطمع أن ترى محاسن ليلى مت بداء المطامع وكيف ترى ليلى بعين ترى بها سواها وما طهرتها بالمدامع وتطمع منها بالحديث وقد جرى حديث سواها في خروق المسامع ولا يخفى أنه على تأويل الصوفية هذه الآية لا يكون قوله تعالى : وبالوالدين إحسانا داخلا فيما قضى إذ لا يسمعهم أن يقولوا إنا كل أحد محسن بوالديه من حيث يدري ومن حيث لا ويفهم من كلام بعض المتصوفة أن هذا إيصاء بالإحسان إلى الشيخ أيضا وعليه فيحتمل أن يكون تثنية الوالدين كما في قوله : القلم أحد اللسانين وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل قيل : ذو القربى إشارة إلى الروح لأنها كانت قبل في القربة والمشاهدة ثم هبطت والمسكين إشارة إلى العقل لأنه عاجز عن تحصيل العلم بحقيقة ربه سبحانه وابن السبيل إشارة إلى القلب لأنه يتقلب في سبل السلوك إلى ملك الملوك وحق الروح المشاهدة والعقل الفكر والقلب الذكر وقيل : الأول إشارة إلى إخوان المعرفة الذين وصلوا معالي المقامات وحقهم ذكر ما يزيد تمكينهم والثاني إشارة إلى العاشقين الذين سكنهم عشق مولاهم عن طلب ما سواه وحقهم ذكر ما يزيد عشقهم والثالث إشارة إلى السالكين سبل الطلب الممتطين نجائب الهمة وحقهم ذكر ما يزيد رغبتهم ويهول مشقتهم ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فيه إشارة للمشايخ كيف يكونون مع المريدين أي لا يبخل على المريد بنشر فضائل المعرفة وحقائق القربة ولا تذكروا شيئا لا يحتمله فيهلك وكنا بين بين وأوفوا بالعهد الذي أخذ منكم قبل خلق الأشباح وهو أن توحدوه تعالى ولا تشركوا به شيئا
وقال يحيى بن معاذ : لربك عليك عهود ظاهرا وباطنا فعهد على الأسرار أن لا تشاهد سواه جل جلاله وعهد على الروح أن لا تفارق مقام القربة وعهد على القلب أن لا يفارق القول وعهد على النفس أن لا تترك شيئا من الفرائض وعهد على الجوارح أن تلازم الأدب وتترك المخالفات وأوفوا الكيل إذا كلتم قيل فيه إشارة للمشايخ أيضا أن لا ينقصوا المستعدين ما يقتضيه استعدادهم من الفيوضات القلبية وفي قوله تعالى : وزنوا بالقسطاس المستقيم إشارة لهم أن يعرضوا أعمال المريدين القلبية والقالبية على الشريعة فهي القسطاس المستقيم وكفتاها الحظر والإباحة ولا تقف ما ليس لك به علم الآية فيه إشارة إلى بعض ما يلزم السالك من التثبت والاحتياط والكف عن الدعاوى العاطلة يسبح له السموات السبع الآية وقد علمت ما عند الصوفية في تسبيح الأشياء من أنه قالي إلا أنه لا يسمعه إلا من فاز بقرب النوافل أو من أشرق عليه شيء من أنواره
(15/125)
كالذين سمعوا تسبيح الحصى في مجلس سيد الكاملين والتسبيح الحالي مما لا ينكره أحد من المسلمين وقرره بعض الصوفية بأن لكل شيء خاصية ليست لغيره وكما لا يخصه دونما عداه فهو يشتاقه ويطلبه إذا لم يكن حاصلا له ويحفظه ويحبه إذا حصل فهو بإظهار خاصيته ينزه الله تعالى من الشريف وإلا لم يكن متوحدا فيها فلسان حاله يقول أوحده على ما وحدني وبطلب كماله ينزهه سبحانه عن صفات النقص كأنه يقول يا كامل كملني وبإظهار كماله كأنه يقول كملني الكامل المكمل وعلى هذا القياس وحينئذ يقال : تسبحه السموات بالكمال والتأثير والربوبية وبأنه كل يوم هو في شأن ونحو ذلك والأرض بالخلاقية والرزاقية والرحمة إلى غير ذلك والملائكة بالعلم والقدرة والتجرد عن المادة على القول بأنهم أرواح مجردة وهكذا وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا من الجهل وعمى القلب فلا يرون حقيقتك القدسية ولا يدركون منك إلا الصورة البشرية وإنما خص ذلك بوقت قراءة القرآن مع أنهم في كل وقت هم أجهل الخلق به بأن في ذلك الوقت يظهر إشراق أنوار الصفات عليه عليه الصلاة و السلام فإذا كانوا محجوبين إذ ذاك كانوا في غيره من الأوقات أحجب وأحجب وجعلنا على قلوبهم أكنة من الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية أن يفقهوه فإن القرآن كلامه تعالى وهو أحد صفاته وإذا لم يعرفوا نبيه لم يعرفوه عز و جل وإذا لم يعرفوه سبحانه لم يعرفوا صفاته تعالى فلم يعرفوا كلامه سبحانه وفي آذانهم وقرا لرسوخ أوساخ التعلقات فيها يمنعهم عن سماع القراءة وهذا ناشيء من جهلهم بأفعاله تعالى وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا لتشتت أهوائهم وتفرق همهم في عبادة آلهتهم المتنوعة فلا تناسب الوحدة بواطنهم يوم يدعوكم للقيام من القبور فتستجيبون بحمده حامدين له تعالى مجده بلسان القال أو بلسان الحال حيث أظهر فيكم الحياة بعد الموت ونحو ذلك
وتظنون إن لبثتم في القبور أو في الدنيا إلا قليلا لذهولكم عن ذلك الزمان أو لاستقصاركم الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم فيه إشارة إلى أن المشيئة تابعة للعلم فمن علم سبحانه أهليته للرحمة شاء تعالى رحمته فرحمه ومن علم جل وعلا أهليته للعذاب شاء عذابه فعذبه ولا يخفى ما في تقديم شق مشيئة الرحمة من تقوية الأمل أولئك الذين يدعون أي يدعونهم الكفار ويعبدونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب أي يطلب الأقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى فكيف بغير الأقرب والوسيلة في الأصل الواسطة التي يتوسل ويتقرب بها إلى الشيء وهي هنا الطاعة كما تقدم
وقيل هي كرمه تعالى القديم وإحسانه عز و جل العميم وقيل هي الشفاعة يوم القيامة ولما كان مقام الوسيلة بهذا المعنى خاصا بنبينا أطلقوا الوسيلة عليه عليه الصلاة و السلام وفسرها بذلك هنا بعض الصوفية فكل من عبد من دون الله تعالى من عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام وسيلتهم إلى الله تعالى نبينا بل هو عليه الصلاة و السلام وسيلة سائر الموجودات والواسطة بينهم وبين الله تعالى في إفاضته سبحانه الوجود وكذا سائر ما أفيض عليهم وأحظى الخلق بوسطاته الأنبياء عليهم السلام فإنهم أشعة أنواره وعكوسات آثاره وهو النور الحق والنبي المطلق وكان نبينا آدم بين الماء والطين وقد تلقى الأنبياء منه من وراء حجاب الأرحام والأصلاب وظهروا إذا كان محتجبا ظهور الكواكب في الليل فلما بزغت شمس النبوة
(15/126)
المطلقة من أفق الظهور غابوا ونسخت أحكامهم على نحو غيبوبة الكواكب وانمحاق أنوارها وأضوائها عند طلوع الشمس من تحت الحجاب منخلعة على الجلباب ويرجون رحمته ويخافون عذابه لعلمهم بجماله وجلاله والرجاء والخوف جناحا من يطير إلى حضرة القدس وروضة الأنس ومن عطل أحدهما تعطل عن الطيران واستفزز من استطعت منهم بصوتك إلى قوله سبحانه وكفى بربك وكيلا فيه إشارة إلى اختلاف مراتب تمكن الشيطان من إغواء بني آدم فمن كان منهم ضعيف الاستعداد واستفزه واستخفه بصوته فأغواه بوسوسة وهمس بل هاجسة ولمة ومن كان قوي الاستعداد فإن كان خالصا عن شوائب الغيرية أو عن شوائب الصفات النفسانية لم يتمكن من إغوائه وهذا هو المراد بقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وإن لم يكن خالصا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية منهمكا في الأمور الدنيوية شاركه في أمواله وأولاده وحرضه على إشراكهم بالله تعالى في المحبة وسول له التمتع والتكاثر والتفاخر بهم ومناه الأماني الكاذبة وزين له الآمال الفارغة وإن لم ينغمس فإن كان عالما بتسويلاته أجلب عليه بخيله ورجله أي مكر بأنواع الحيل وكاده بصنوف الفتن وأفتاه بأن تحصيل أنواع الحطام والملاذ من جملة مصالح المعاش وغره بعلمه وحمله على الإعجاب به وأمثال ذلك حتى أضله على علم وإن لم يكن عالما بل كان عابدا متنسكا أغواه بالوعد وغره برؤية الطاعة وتزكية النفس ولقد كرمنا بني آدم الآية قيل كرمهم تعالى بأن خلق أباهم آدم على صورة الرحمن وجعل لهم ذلك بحكم الوراثة وأن الولد سر أبيه وفضلهم على الكثير بأن جعل لهم من النعم ما يستغرق العد وجوز أن يقال : تكريمهم بأن بسط موائد الأنعام لهم وجعل من عداهم طفيليا وتفضيلهم بما ذكر في التكريم أولا وفيه احتمالات أخر يوم ندعو كل أناس بإمامهم أي نناديهم بنسبتهم إلى من كانوا يقتدون به في الدنيا لأنه المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم فمن أوتي كتابه بيمينه أي من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه فأولئك يقرؤن كتابهم ويأخذون أجور أعمالهم المكتوبه فيه ولا يظلمون فتيلا أدنى شيء حقير من ذلك ومن كان في هذه أعمى عن الاهتداء إلى الحق فهو في الآخرة أعمى أيضا وأضل سبيلا لبطلان الكسب هناك وهذا الذي يؤتى كتابه بشماله أي من جهة النفس التي هي أضعف جانبيه إلا أنه عبر عنه بما ذكر لما قدمناه والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل ثم إنه عز و جل لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة وانقسامهم إلى قسمين سعداء وأشقياء أتبع ذلك بذكر بعض مساوي بعض الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة وفي ذلك إشارة إلى أنهم داخلون فيمن عمي عن الاهتداء في الدنيا دخولا أوليا فقال سبحانه وتعالى : وإن كانوا ليفتنونك قيل نزلت في ثقيف قالوا للنبي : لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في الصلاة وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا وجا كما حرمت مكة فإن قالت العرب : لم فعلت ذلك فقل : إن الله تعالى أمرني وروى ذلك الثعلبي عن ابن عباس ولم يذكر له سندا
وقال العراقي فيه : إنا لم نجده في كتب الحديث ونقله الزمخشري بزيادة ونقل غيره أنهم طلبوا ثلاث خصال عدم التجبية في الصلاة وكسر أصنامهم بأيديهم وتمتيعهم باللات سنة من غير أن يعبدوها بل ليأخذوا ما يهدى لها فقال : لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما كسر أصنامكم بأيديكم فذلك لكم
(15/127)
وأما الطاغية اللات فاني غير ممتعكم بها وقام رسول الله فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما بالكم آذيتم رسول الله عليه الصلاة و السلام إنه لا يدع الأصنام في أرض العرب فما زالوا به حتى أنزل الله تعالى الآية
وأخرج ابن أبي إسحق وابن مردويه وغيرهما عنه رضي الله تعالى عنه أن أمية بن خلف وأبا جهل ورجالا من قريش أتوا رسول الله فقالوا : تعال فتمسح بآلهتنا وندخل معك في دينك وكان رسول الله يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله سبحانه : نصيرا وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن باذان عن جابر بن عبدالله مثله
وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن قريشا أتوا النبي فقالوا له : إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك فنزلت وقيل : إنهم قالوا له عليه الصلاة و السلام : اجعل لنا آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت
وفي ذلك روايات آخر مختلفة أيضا وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول ولا يكاد يؤول وذلك يدل على الوضع والتفسير لا يتوقف على شيء من ذلك وأيا ما كان فضمير الجمع للكفار وهو إما ثقيف أو قريش و إن مخففة من المثقلة وإسمها ضمير شأن مقدر واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها أي أن الشأن قاربوا في ظنهم أن يوقعوك في الفتنة صار فيك عن الذي أوحينا إليك من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد لتفتري علينا غيره لتتقول علينا غير الذي أوحيناه إليك مما اقترح عليك ثقيف من تحريم وج مثلا أو قريش من جعل آية الرحمة آية عذاب وبالعكس وقيل : المعنى لتحل محل المفتري علينا لأنك إن اتبعت أهواءهم أو همت أنك نفعل ذلك عن وحينا لأنك رسولنا فكنت كالمفتري
وإذا لاتخذوك خليلا 37 أي لو فعلت ليتخذنك صديقا لهم وكان المراد ليكونن بينك وبينهم مخالة وصداقة وهم أعداء الله تعالى فمخالفتهم تقتضي الانقطاع عن ولايته عز و جل كما قيل : إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام وقيل : الخليل هذا من الخلة بمعنى الحاجة أي لاتخذوك فقيرا محتاجا إليهم وهو كما ترى ولولا أن ثبتناك أي لولا تثبيتنا إياك على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليل47 من الركون الذي هو أدنى ميل وأصله الميل إلى ركن وذكروا أنه إذا أطلق يقع على أدنى الميل ونصب شيئا على المصدرية أي لولا ذلك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من الميل اليسير لقوة خدعهم وشدة اختيالهم لكن أدركتك العصمة فمنعتك من أن تقرب أدنى الأدنى من الميل إليهم فضلا عن نفس الميل إليهم وهذا صريح في أنه لم يهم بإجابتهم ولم يكد وبه يرد على من زعم أنه عليه الصلاة و السلام هم فمنعه نزول الآية وكأنه غره ظواهر بعض الروايات في بيان سبب النزول كرق في رواية ابن إسحق ومن معه عن الحبر ولا يخفى أن في قوله سبحانه إليهم دون إلى إجابتهم ما يقوى الدلالة على أنه عليه الصلاة و السلام بمعزل عن
(15/128)
الإجابة في أقصى الغايات وهذا الذي ذكر في معنى الآية هو الظاهر المتبادر للإفهام وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كادوا أن يخبروا عنك أنت ركنت إليهم ونسب فعلهم إليه عليه الصلاة و السلام مجازا واتساعا كما تقول للرجل كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت وهو من الألغاز المستغنى عنها
واستدل بالآية على أن العصمة بتوفيق الله تعالى وعنايته
وقرأ قتادة وابن أبي إسحق وابن مصرف تركن بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهو على قراءة الجمهور مضارع ركن بكسر الكاف وقيل : بفتحها أيضا وجعل ذلك من تداخل اللغتين إذا أي لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركنة لأذقناك ضعف الحياة أي مضاعف الحياة وهو صفة محذوف والإضافة على معنى في أو للملابسة أي عذابا مضاعفا في الحياة والمراد بها الحياة الدنيا لأنه المتبادر عند إطلاق لفظها وكذا يقال في قوله تعالى وضعف الممات أي وعذابا ضعفا في الممات والمراد به ما يشمل العذاب في القبر وبعد البعث واستسهل بعض المحققين أن يكون التقدير من أول الأمر لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات وتكون الإضافة لامية والقرينة على تقدير العذاب لأذقناك والمعنى لو قاربت ما ذكرنا لنضاعفن لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا والعذاب المؤجل لهم بعد الموت
وقيل المراد بالحياة حياة الآخرة وبعذاب الممات ما يكون في القبر وأمر الإضافة والتقدير على حاله والمعنى لو قاربت لنضاعفن لك عذاب القبر وعذاب يوم القيامة المدخرين للعصاة وفي هذه الشرطية إجلال عظيم بمكان رسول الله وتنبيه على أن الأقرب أشد خطرا وذلك أنه أوعد بضعف العذاب على مقاربة أدنى ركون وقد وضع عنا الركون ما لم يصدقه العمل ونظير ذلك من وجه ما جاء في نسائه عليه الصلاة و السلام من قوله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وذكر في وجه مضاعفة جزاء خطأ الخطير أنه يكون سببا لارتكاب غيره مثله والاحتجاج به فكأنه سن ذلك وقد جاء من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وعلى هذا يضاعف عذاب الخطير في خطئه أضعافا مضاعفة ولا يلزم من إثبات الضعف الواحد نفي الضعف المتعدد وقيل الضعف من أسماء العذاب وأنشدوا على ذلك قوله : لمقتل مالك أذبان منى أبيت ليلة في ضعف أليم وذكر بعضهم أن الضعف ليس من أسماء العذاب وضعا لكنه يعبر به عنه لكثرة وصف العذاب به كما في قوله تعالى : عذابا ضعفا وزعم أن ذلك مراد القائل والله تعالى أعلم واللام في لأذقناك ولاتخذوك لام القسم على ما نص عليه الحوفي والماضي في الموضعين واقع موقع المضارع الدال عليه اللام والنون على ما نص عليه أبو حيان وأشرنا إليه فيما سبق ثم لا تجد لك علينا نصيرا 57 يدفع العذاب أو يرفعه عنك روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى : وإن كادوا إلى هنا قال : اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين وينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها وأن يستشعر الخشية وازدياد التصلب في دين الله تعالى ويقول كما قال النبي وإن كادوا أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما ليستفزونك ليزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم من الأرض أي الأرض التي أنت فيها وهي أرض مكة ليخرجوك
(15/129)
أي ليتسببوا إلى خروجك منها وكان هذا الاستفزاز بما فعلوا من حصره في الشعب والتضييق عليه عليه الصلاة و السلام ووقع ذلك بعد نزول الآية كما في البحر وصار سببا لخروجه مهاجرا
وإذا لا يلبثون أي إن استفزوك فخرجت لا يبقون خلافك أي بعدك وبه قرأ عطاء بن رباح واستحسن أنها تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف وأنشدوا
عفت الديار خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا وقرأ أهل الحجاز وأبو بكر وأبو عمرو خلفك بغير ألف والمعنى واحد واللفظان في الأصل من الظروف المكانية فتجوز فيهما واستعملا للزمان وقد أطرد إضافتهما كقبل وبعد إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله أي لا يلبثون خلف استفزازك وخروجك إلا قليلا 67 أي إلا زمانا قليلا وجوز أن يكون التقدير إلا لبثا قليلا والمعنيان متقاربان واختير التقدير الأول لأن التوسع أعنى إقامة الوصف مقام الموصوف في بالظروف أشبه وهذا وعيد لهم بإهلاك مجموعهم من حيث هو مجموع بعد خروجه بقليل وتحقق بإفناء البعض في بدر لا سيما وقد كانوا صناديدهم والرؤس وأنت تعرف أن معظم الشيء يقام مقام كله وكان الزمان القليل على ما روى ابن أبي حاتم عن السدي ثمانية عشر شهرا ويجوز أن يفسر الإخراج بالإكراه على الخروج والوعيد بإهلاك كل واحد منهم أي لو أخرجوك لاستؤصلوا على بكرة أبيهم لكن لم يقع المقدم لأن الاكراه على الخروج مباشرة وقد خرج رسول الله مهاجرا بأمر ربه عز و جل فلم يقع التالي وهذا هو التفسير المروي عن مجاهد قال : أرادت قريش ذلك ولم تفعل لأنه سبحانه أراد استبقاءها وعدم استئصالها ليسلم منها ومن أعقابها من يسلم فأذن لرسوله عليه الصلاة و السلام بالهجرة فخرج بإذنه لا بإخراج قريش وقهرهم و الاخراج في قوله تعالى وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك محمول على المعنى الأول وكذا في قول ورقة : ياليتني كنت جذعا إذيخرجك قومك وقوله عليه الصلاة و السلامأو مخرجي هم فلم تتضمن الآية وكذا الخبر إثبات إخراج قلنا بنفيه هنا والقول بأنه يلزم على هذا التناقض بين هذه الآية والآية السابقة بناء على تفسير الإخراج فيها بالتسبب إلى الخروج لأن كاد تدل على مقاربته لا حصوله وهذه الآية دلت على حصوله مجاب عنه بأن قصارى ما دلت عليه الآية السابقة على التفسير الأول قرب حصول الاستفزاز منهم ليتسببوا به إلى خروجه وأنه إن لم يكن حاصلا وقت نزول الآية لا أنه لا يكون حاصلا أبدا ليناقض حصوله بعد وحكى الزجاج أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله والمراد من الأرض وجه البسيطة مطلقا وقال أبو حيان : المراد ما على هذا الدنيا وقيل ضمير كادوا وما بعده لليهود فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم قال : إن اليهود أتوا النبي فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء فصدق رسول الله عليه الصلاة و السلام ما قالوا فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى وإن كادوا ليستفزونك إلى تحويلا وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث وفي رواية أنهم قالوا : يا أبا القاسم إن الشام أرض مقدسة وهي أرض الأنبياء فلو خرجت إليها لآمنا بك وقد علمنا أنك تخاف الروم فإن كنت نبيا فاخرج إليها فإن الله تعالى سيحميك كما حمى غيرك من
(15/130)
الأنبياء فخرج عليه الصلاة و السلام بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت هذه الآية فرجع ثم أنه عليه الصلاة و السلام قتل منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل وتعقب بأنه ضعيف لم يقع في سيرة ولا كتاب يعتمد عليه وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة وكيفما كان يكون المراد من الأرض عليه المدينة وقيل أرض العرب وكأن من ذهب إلى أن هذه الآية مدنية يستند إلى ما ذكر من الروايات وقد صرح الخفاجي بأن هذا المذهب غير مرضي والله تعالى أعلم
وقرأ عطاء لا يلبثون بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة وقرأ يعقوب كذلك إلا إنه كسر الباء وقرأ أبي وإذا لا يلبثوا بحذف النون وكذا في مصحف عبد الله وتوجيه الإثبات والحذف أن النحويين عدوا من جملة شروط عمل إذن كونها في أول الجملة فعلى قراءة الحذف تكون الجملة معطوفة على جملة ليستفزونك وهي خبر كاد فيكون الشرط منخرما لتوسطها حينئذ في الكلام لكون ما بعدها خبر كاد كالمعطوف هو عليه وعلى قراءة الإثبات تكون الجملة معطوفة على جملة وإن كادوا فيتحقق الشرط والعطف لا يضر في ذلك ووجه أبو حيان الإهمال بأن لا يلبثون جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت لا يلبثون وقد توسطت إذا بين القسم المقدر والفعل فأهملت ثم قال ويحتمل أن يكون لا يلبثون خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره وهم إذا لا يلبثون فتكون إذا واقعة بين المبتدأ وخبره ولذلك ألغيت وكلا التوجيهين ليس بوجيه كما لا يخفى
سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا نصب على المصدرية أي سننا سنة من إلخ وهي أن لا ندع أمة تستفز رسولها لتخرجه من بين ظهرانيها تلبث بعده إلا قليلا فالسنة لله عز و جل وأضيفت للرسل عليهم السلام لأنها سنت لأجلهم ويدل على ذلك قوله سبحانه ولا تجد لسنتنا تحويلا 77 حيث أضاف السنة إليه تعالى وقال الفراء : انتصب سنة على إسقاط الخافض أي كسنة فلا يوقف على قوله تعالى قليلا فالمراد تشبيه حاله بحال من قبله لا تشبيه الفرد بفرد من ذلك النوع وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به لفعل محذوف أي اتبع سنة الخ كما قال سبحانه فبهداهم اقتده وإلا نسب بما قبل ما قبل وكأنه اعتبر الأوامر بعد وهو خلاف ما عليه عامة المفسرين والتحويل التغيير أي لا تجد لما أجرينا به العادة تغييرا أي لا يغيره أحد
والمراد من نفي الوجدان هنا وفيما أشبهه نفي الوجود ودليل نفي وجود من يغير عادة الله تعالى أظهر من الشمس في رابعة النهار وللإمام كلام في هذا المقام لا يخلو عن بحث ثم إنه تعالى بعد أن ذكر كيد الكفار وسلى نبيه عليه الصلاة و السلام بما سلى أمره أن يقبل على شأنه من عبادة ربه تعالى شأنه ووعده بما يغبطه عليه كل الخلق ويتضمن ذلك إرشاده إلى أن لا يشغل قلبه بهم أو أنه سبحانه بعد أن قدم القول في الالهيات والمعاد والنبوات أمر بأشرف العبادات بعد الإيمان وهي الصلاة فقال جل وعلا أقم الصلاة أي المفروضة لدلوك الشمس أي لزوالها عن دائرة نصف النهار وهو المروي عن عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس في رواية وأنس وأبي برزه الأسلمي والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد ورواه الأمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما وخلق آخرين وأخرج ابن جرير وإسحق بن راهويه في مسنده وابن مردويه في تفسيره والبيهقي في المعرفة عن أبي مسعود عقبة بن عامر قال : قال رسول الله أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر وقيل لغروبها وهو المروي عندنا عن علي
(15/131)
كرم الله تعالى وجهه وأخرجه ابن مردويه والطبراني والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن مسعود وابن المنذر وغيره عن ابن مسعود وروي عن زيد بن أسلم والنخعي والضحاك والسدي وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة وأنشد لذي الرمة : مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالأفلاك الدوالك وأصل مادة د ل ك تدل على الانتقال ففي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها وكذا في الدلك المعروف انتقال اليد من محل إلى آخر بل كل ما أوله دال ولام مع قطع النظر عن آخره يدل على ذلك كدلج بالجيم من الدلجة وهي سير الليل وكذا دلج بالدلو إذا مشى بها من رأس البئر للمصب ودلح بالحاء المهملة إذا مشي مشيا متثاقلا ودلع بالعين المهملة إذا أخرج لسانه ودلف بالفاء إذا مشى مشية المقيد وبالقاف إذا أخرج المائع من مقره ووله إذا ذهب عقله وفيه انتقال معنوي إلى غير ذلك وهذا المعنى يشمل كلا المعنيين السابقين وإن قيل إن الانتقال في الغروب أتم لأنه انتقال من مكان إلى مكان ومن ظهور إلى خفاء وليس في الزوال إلا الأول وقيل إن الدلوك مصدر مزيد مأخوذ من المصدر المجرد أعني الدلك المعروف وهو أظهر في الزوال لأن من نظر إلى الشمس حينئذ يدلك عينه ويكون على هذا في دلوك الشمس تجوز عن دلوك ناظرها وقد يستأنس في ترجيح القول الأول مع ما سبق بأن أول صلاة صلاها النبي نهار ليلة الإسراء الظهر وقد صح أن جبريل عليه السلام ابتدأها حين علم النبي عليه الصلاة و السلام كيفية الصلاة في يومين وقال المبرد : دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها فالأمر بإقامة الصلاة لدلوكها أمر بصلاتين الظهر والعصر وعلى القولين الآخرين أمر بصلاة واحدة الظهر أو العصر واللام للتأقيت متعلقة بأقم وهي بمعنى بعدكما في قول متمم بن نويرة يرثي أخاه : فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر وتكون بمعنى عند أيضا وقال الواحدي : هي للتعليل لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة إلى غسق الليل أي إلى شدة ظلمته كما قال الراغب وغيره وهو وقت العشاء
وأخرج ابن الأنباري في الوقف عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني ما الغسق فقال : دخول الليل بظلمته وأنشد قول زهير بن أبي سلمى : ظلت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق وقال النضر بن شميل : غسق الليل دخول أوله قال الشاعر : إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا وهو عنده وقت المغرب وروي ذلك عن مجاهد وأصله من السيلان يقال غسقت العين تغسق إذا هملت بالماء كان الظلمة تنصب على العالم وقيل : المراد من غسق الليل ما يعم وقتي المغرب والعشاء وهو ممتد إلى الفجر كما أن المراد بدلوك الشمس ما يعم وقتي الظهر والعصر ففي الآية بدخول الغاية تحت المعيا وبضم ما بعد إشارة إلى أوقات الصلوات الخمس واختاره جماعة من الشيعة واستدلوا بها على أن وقت الظهر موسع إلى غروب الشمس ووقت المغرب موسع إلى انتصاف الليل وهي أحد أدلة الجمع في الحضر بلا عذر الذي ذهبوا إليه وأبدوا ذلك بما رواه العياشي باسناده عن عبيدة وزرارة عن أبي عبد الله أنه قال في هذه الآية : إن الله
(15/132)
تعالى افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه ومنها صلاتان أول وقتهما غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا إن هذه قبل هذه وهو مرتضى المرتضى في أوقات الصلاة والمعتمد عليه عند جمهور المفسرين أن دلوك الشمس وقت الظهر وغسق الليل وقت العشاء كما ينبيء عنه اقحام الغسق وعدم الاكتفاء بالي الليل والجار والمجرور متعاق بأقم وأجاز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من الصلاة أي ممدودة إلى الليل والأول أولى وليس المراد بإقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين على وجه الاستمرار بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة التي لم يروها من شهد أحد من الأئمة الطاهرين بزندقتهم ونجاسة بواطنهم كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه الصلاة و السلام ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلاة من غير فصل بينها لما أن الانسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم عادة ينقطع أحدهما عن الآخر ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات ثم إن المستدل من الشيعة بالآية لا يتم له الاستدلال بها على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وبين صلاتي المغرب والعشاء ما لم يضم إلى ذلك شيئا من الأخبار فإنها إذا لم يضم إليها ذلك أولى بأن يستدل بها على جواز الجمع بين الأربعة جميعها لا بين الاثنتين والاثنتين ولا يخفى ما في الاستدلال بها على هذا المطلب ولذا لم يرتضه أبو جعفر منهم نعم ما ذهبوا إليه مما يؤيده ظواهر بعض الأحاديث الصحيحة كحديث ابن عباس وهو في صحيح مسلم صلى رسول الله الظهر والعصر جمعا بالمدينة وفي رواية أنه صلى ثمانيا جميعا وسبعا جميعا من غير خوف ولا سفر
واختلف في تأويله فمنهم من أوله بأنه جمع بعذر المطر والجمع بسبب ذلك تقديما وتأخيرا مذهب الشافعي في القديم وتقديما فقط في الجديد بالشرط المذكور في كتبهم وخص مالك جواز الجمع بالمطر في المغرب والعشاء وهذا التأويل مشهور عن جماعة من الكبار المتقدمين وهو ضعيف لما في صحيح مسلم عنه أيضا جمع رسول الله بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر وكون المراد ولا مطر كثير لا يرتضيه ذو إنصاف قليل والشذوذ غير مسلم ومنهم من أوله بأنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن أول وقت العصر دخل فصلاها وفيه أنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر إلا إنه لا احتمال في المغرب والعشاء ومنهم من أوله بأنه عليه الصلاة و السلام أخر الأولى وإلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت الصورة صورة جمع وفيه أنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل ويرده أيضا ما صح عن عبد الله بن شقيق قال : خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون : الصلاة الصلاة فجاء رجل من بني تميم فجعل لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة فقال ابن عباس : أتعلمني بالسنة لا أم لك رأيت رسول الله جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال عبد الله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته ومنهم من قال : هو محمول بالجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار وهذا هو قول الامام أحمد والقاضي حسين من الشافعية واختاره منهم الخطابي والمتولي والروياني
وقال النووي : هو المختار في التأويل ومذهب جماعة من الأئمة جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه
(15/133)
عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الامام الشافعي وعن أبي إسحق المروزي وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر ما صح عن ابن عباس ورواه مسلم أيضا أنه لما قال : جمع رسول الله بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر قيل له : لم فعل ذلك فقال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمته وهو من الحرج بمعنى المشقة فلم يعلله بمرض ولا غيره ويعلم مما ذكرنا من قول الترمذي في آخر كتابه ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ناشيء من عدم التتبع نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح فقد صرحوا بأنه حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه
وقال ابن الهمام : إن حديث ابن عباس معارض بما في مسلم من حديث التعريس أنه قال ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى وللبحث في ذلك مجال
وذهب الامام أبي حنيفة عدم جواز جمع صلاتي الظهر والعصر في وقت إحداهما والمغرب والعشاء كذلك مطلقا إلا بعرفات فيجمع فيها بين الظهر والعصر بسبب النسك وإلا بمزدلفة فيجمع فيها بين المغرب والعشاء بسبب ذلك أيضا واستدل بما استدل وفي الصحيحين وسنن أبي داود وغيره ما لا يساعد على التخصيص وأنت تعلم أن الاحتياط فيما ذهب إليه الامام رضي الله تعالى عنه فالمحتاط لا يخرج صلاة الظهر مثلا عن وقتها المتيقن الذي لا خلاف فيه إلى وقت فيه خلاف وقد صرح غير واحد بأنه إذا وقع التعارض يقدم الأحوط وتعارض الأخبار في هذا الفصل مما لا يخفى على المتتبع هذا وزعم بعضهم أن المراد بالصلاة المأمور بإقامتها صلاة المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدأ وقتها ومنتهاه على أن الغاية خارجة واستدل به على امتداده إلى غروب الشفق وهو خلاف ما ذهب إليه الامام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجديد من أنه ينقضي بمضي قدر زمن وضوء وغسل وتيمم وطلب خفيف وإزالة خبث مغلط يعم البدن والثوب والمحل وستر عورة واجتهاد في القبلة وأذان وإقامة وألحق بهما سائر سنن الصلاة المتقدمة متعمم وتقمص ومشي لمحل الجماعة وأكل جائع حتى يشبع وسبع ركعات ولعل الزمان الذي يسع كل هذا يزيد على زمن ما بين غروب الشمس وغروب الشفق وفسر الغسق باجتماع الظلمة وشدتها كان ذلك مؤيدا لما في ظاهر الرواية عن الامام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من أول وقت العشاء حتى يغيب الشفق بمعنى البياض الذي يعقب الحمرة في الأفق الغربي لأن الظلمة لا تجتمع ولا تشتد ما لم يغب ولا يأبى ذلك أن الأحاديث الصحيحة صريحة في أن أول وقتها حين يغيب الشفق وهو اللغة الحمرة المعلومة لأن تفسيره بالبياض قد جاء أيضا وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر ومعاذ بن جبل وعائشة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ورواه عبدالرزاق عن أبي هريرة وعن عمر بن عبد العزيز وبه قال الأوزاعي والمزني وابن المنذر والخطابي واختاره المبرد : وثعلب وما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي أنه قال : أول وقت العشاء حين يغيب الأفق ظاهر في كون الشفق البياض إذ لا غيبوبة للأفق إلا بسقوطه نعم ذهب
(15/134)
صاحباه إلى أنه الحمرة وهو قول ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ورواه أسد بن عمرو عن الإمام أيضا لكنه خلاف ظاهر الرواية عنه والصحيح المفتى به ما جاء في ظاهر الرواية وقد نص على ذلك المحقق ابن الهمام والعلامة قاسم وابن نجيم وغيرهما وما قاله الإمام أبو المفاخر من أن الإمام رجع إلى قولهما وقال إن الحمرة لما ثبت عنده من حمل عامة الصحابة إياه على ذلك وعليه الفتوى وتبعه المحبوبي وصدر الشريعة ليس بشيء لأن الرجوع لم يثبت ودون اثباته مع نقل الكافة عن الكافة خلافه خرط القتاد وكذا دعوى حمل عامة الصحابة خلاف المنقول كما سمعت حتى أن البيهقي لم يرو أن الشفق الحمرة إلا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
وما رواه الدارقطني عنه قال قال رسول الله الشفق الحمرة فإذا غاب وجبت الصلاة قال البيهقي والنووي فيه الصحيح أنه موقوف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ومثل هذا الاختلاف الاختلاف في أول وقت العصر فقال الإمام : هو إذا صار ظل كل شي مثليه بعد ظل الزوال وقالا : إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال وفتوى المحققين على قوله رحمة الله تعالى عليه بل قال ابن نجيم : إن الإفتاء بغيره لا يجوز وقد أطال الكلام في ذلك في رسالته رفع الغشاء عن وقتي العصر والعشاء وقرآن الفجر عطف على مفعول أقم أو نصب على الاغراء كما قال الزجاج وأبو البقاء والجمهور على الأول والمراد بقرآن الفجر صلاته كما روي عن ابن عباس ومجاهد وسميت قرآنا أي قراءة لأنها ركنها كما سميت ركوعا وسجودا وهذه حجة على ابن علية والأضم في زعمهما أن القراءة ليست بركن في الصلاة قاله في الكشاف ورد بأن ذلك لا يدل على الركنية لجواز كون مدار التجوز كون القراءة مندوبة فيها وفي الكشف أنه مدفوع بأن العلاقة المعتبرة في إطلاق غير الصلاة وإرادة الصلاة هي علاقة الكل والجزء بدليل النظائر وههنا إذا ورد وتجوزا فحمله على معلوم النظير من الاستقراء واجب على أن الندبية لا تصلح علاقة معتبرة إلا بالتكلف وجعل سبح بمعنى صلى لأن التسبيح بمعنى التنزيه البالغ والمصلي مسبح قولا بقراءة الفاتحة بل في التكبير الواجب بالاتفاق وفعلا أيضا بالركوع والسجود مثلا الدالين على كمال التعظيم والتبجيل فهو الركن كله لا لأن التسبيح بمعنى قول سبحان الله ليقال تجوز عن الصلاة بما هو مندوب فيها وتعقب بأن الاكتفاء بعلاقة الندبية التي يقول بها الأصم وابن علية لا تكلف فيه فإن القرآن جزء من الصلاة الكاملة فيكون ذلك كالنظائر بلا ضرر ولا ضير وبأن مذهبهما في التكبير غير معلوم فدعوى الاتفاق غير مسلمة منه ولو كان كما ذكره لكان الوجوب كافيا في علاقة أخرى وهي اللزوم وفيه بحث وأبقى الجصاص القرآن على حقيقته وقال : في الآية دلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر لأن التقدير فيها وأقم قرآن الفجر والأمر للوجوب ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة وزعم أن كون المعنى صلوا الفجر غلط من وجهين الأول أنه صرف عن الحقيقة بغير دليل والثاني أن فتهجد به فيما بعد يأباه إذ لا معنى للتهجد لصلاة الفجر وفيه أن الدليل قائم وهو أقم لاشتهار أقم الصلاة دون أقم القراءة وضمير به فيما بعد يجوز أن يرجع إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى ثم متى دلت الآية على وجوب القراءة في صلاة الفجر نصا كان ثبوت وجوبها في غيرها من الصلاة قياسا وذكر
(15/135)
بعضهم أن في التعبير عن صلاة الفجر بخصوصها بما ذكر إشارة إلى أنه يطلب فيها من تطويل القراءة ما لم يطلب في غيرها وهو حسن وقال الإمام : إن في الآية دلالة على أنه ليس التغليس في صلاة الفجر لأنه أضيف فيها القرآن إلى الفجر علم معنى أقم قرآن الفجر والأمر للوجوب والفجر أول طلوع الصبح لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح حينئذ ولذلك سمي الفجر فجرا فيقتضي ذلك وجوب إقامة صلاة الفجر أول الطلوع وحيث أجمع على عدم وجوب ذلك بقي الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع الترك فإذا منع مانع من تحقق وجوب كالإجماع هنا وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تقل مخالفة الدليل
وأنت تعلم ما للعلماء من الخلاف في الباقي بعد رفع الوجوب وما ذكر قول في المسئلة لكنه لا يفيد المطلوب لأن صلاة الفجر إسم للصلاة المخصوصة سواء وقعت بغلس أم أسفار والأخبار الصحيحة تدل على سنية الأسفار بها كخبر الترمذي وهو كما قال : حسن صحيح أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر وحمله على تبين الفجر حتى لا يكون شك في طلوعه إذ ما لم يتبين لا يحكم بجواز الصلاة فضلا عن إصابة الأجر المفاد بآخر الخبر ولو حمل أعظم فيه على عظيم ورد أن المناسب في التعليل فإنه لا تصح الصلاة بدونه على أنه على ما فيه ينفيه رواية الطحاوي أسفروا في الفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر أو لأجوركم كما قال وروي بسنده الصحيح عن ابراهيم قال : ما اجتمع أصحاب رسول الله على شيء ما اجتمعوا على التنوير ومحال نظرا إلى علو شأنهم أن يجتمعوا على خلاف ما فارقهم عليه حبيبهم رسول الله عليه الصلاة و السلام
وفي الصحيحين عن ابن مسعود وما رأيت رسول الله صلى صلاة لميقاتها إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذقبل ميقاتها مع أنه كان بعد الفجر كما يفيده لفظ البخاري فيكون المراد قبل ميقاتها الذي اعتاد الأداء فيه والظاهر أنه عليه الصلاة و السلام لم يكن يعتاد التغليس إلا أنه فعله يومئذ ليمتد الوقوف ونحن نقول بسنيته بفجر جمع لهذا الحديث
وخبر عائشة رضي الله تعالى عنها كان يصلي الصبح بغلس فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن لا يعرفهن أحد من الغلس حمل الغلس فيه بعض أصحابها على غلس داخل المسجد ويأباه قولها : ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس إذ لا يمكن حمل هذا الغلس المانع من معرفتهن في طريق رجوعهن إلى بيوتهن على غلس داخل المسجد وكون المراد لا يعرفهن أحد في داخل المسجد من الغلس خلاف الظاهر على تقدير جعل الجملة حالا من ضمير يرجعن
والظاهر ما أشرنا إليه وكذا جعلنا الجملة حالا من نساء أو صفة لها كأنه قيل فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن لا يعرفهن أحد من الغلس ثم يرجعن إلى بيوتهن وقيل كان ذلك في يوم غيم ويبعده كان فإنها شائعة الإستعمال فيما كان يداوم عليه عليه الصلاة و السلام وقيل هو منسوخ كما يدل عليه اجتماع الصحابة على التنوير ويبعد ذلك أن النسخ يقتضي سابقية وجود المنسوخ وقول ابن مسعود : وما رأيت إلخ يفيد أن لا سابقية له وقال بعضهم : ترجح في الأخبار المتعارضة هنا رواية الرجال خصوصا مثل ابن مسعود فإن الحال أكشف لهم في صلاة الجماعة فتأمل
وذكر الطحاوي أن الذي ينبغي الدخول في الفجر وقت التغليس والخروج وقت الأسفار وهو قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه وهو خلاف ما يذكره الأصحاب عنهم من البدء والختم في الأسفار وهو الذي
(15/136)
يفيده حديث الترمذي وغيره والله تعالى أعلم ثم إن صلاة الفجر وإن كانت إحدى الصلوات الخمس التي فرضت ليلة الإسراء عليه وعلى أمته ودلت هذه الآية على وجوب إقامتها كذلك إلا أنه عليه الصلاة و السلام لم يصلها صبح تلك الليلة لعدم العلم بكيفيتها حينئذ وإنما علم الكيفية بعد
وقد قدمنا قريبا أن البداءة وقعت في صلاة الظهر إشارة إلى أن دينه عليه الصلاة و السلام سيظهر على الأديان ظهورها على بقية الصلوات ونوه سبحانه هنا بشأن صلاة الفجر بقوله عز و جل : إن قرآن الفجر حيث لم يقل سبحانه إنه كان مشهودا 87 أخرج أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه وجماعة عن أبي هريرة عن النبي أنه قال في تفسير ذلك : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار وفي الصحيحين عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال النبي تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ثم قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا
والمراد بهؤلاء الملائكة الكتبة والحفظة فتنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل وتلتقي الطائفتان في ذلك الوقت وكذا تلتقي الطائفتان وأمر النزول والصعود على العكس وقت العصر كما جاء في الآثار وهذا مما يعكر على الإمام في زعمه أن هذا أيضا دليل قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع في الصلاة من أول الصبح يكون ملائكة الليل حاضرين لبقاء الظلمة فإذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت وظهر الضوء وحضرت الملائكة فإنه يلزمه على هذا البيان الذي لا يروج إلا على الصبيان القول بأن تأخير صلاة العصر إلى أن يزول الضوء وتظهر الظلمة وهو لا يقول به بل لا يقول به أحد
وهل الطائفة التي تشهد اليوم مثلا تشهد غدا أو كل يوم تشهد طائفة أخرى لم تشهد قبل ولا تشهد بعد فيه خلاف وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيما يتعلق بذلك
وقيل يشهد الكثير من المصلين في العادة وقيل من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة وقيل تشهد وتحضر فيه شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت وهو احتمال أبداه الإمام وبسط الكلام فيه ثم قال وهذا هو المراد من قوله تعالى إن قرآن الفجر كان مشهودا ثم ذكر احتمال كون المراد مشهودا بالجماعة الكثيرة وبسط الكلام أيضا في تحقيقه وأنت تعلم أنه لا وجه للحصر المدلول عليه بقوله : وهذا هو المراد ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراما ومتلقى كراما فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل ويرتاح له النازل
ومن الليل قيل أي وعليك بعض الليل وظاهره أنه من باب الإغراء كما نقل عن الزجاج وأبي البقاء في قوله تعالى : وقرآن الفجر وتعقبه أبو حيان بأن المغرى به لا يكون حرفا ولا يجدي نفعا كون من للتبعيض لأن ذلك لا يجعلها اسما ألا ترى إجماع النحاة على أن واو مع حرف وإن قدرت بمع وأجيب بأنه يحتمل أن يكون القائل بذلك قائلا باسمية من في مثل ذلك كما قالوا باسمية الكاف في نحو جعلهم كعصف مأكول وعن في نحو
من عن يميني تارة وشمالي
وعلى نحو من عليه وكذا القائل بأن ذلك نصب على
(15/137)
الظرفية بمقدر أي وقم بعض الليل واختار الحوفي أن من متعلقة بفعل دل عليه الكلام أي واسهر من الليل فالفاء في قوله تعالى : فتهجد به إما عاطفة على ذلك المقدر أو مفسرة بناء على أنه من أسلوب وإياي فارهبون وفي الكشف أن الإغراء هو الظاهر ههنا بخلافه فيما تقدم لأن النصب على التفسير والصلات مختلفة لا يتضح كل الإتضاح ومعنى الإغراء من السابق اللاحق وتتعاضد الأدلة عليه وفيه منع ظاهر والتهجد على ما نقل عن الليث الاستيقاظ من النوم للصلاة ويطلق على نفس الصلاة بعد القيام من النوم ليلا يقال : تهجد أي صلى في الليل بعد الاستيقاظ وكذا هجد وهذا يقتضي سابقية النوم في تحقق التهجد فلو لم ينم ويصلي وصلى ما شاء لا يقال له تهجد وهو المروي عن مجاهد والأسود وعلقمة وغيرهم وقال المبرد : هو السهر للصلاة أو لذكر الله تعالى وقيل : السهر للطاعة وظاهره عدم اشتراط سابقية النوم في تحققه والمشهور أن ذلك يسمى قياما وما بعد النوم يسمى تهجدا وأغرب الحجاج بن عمرو المازني فإنه روي عنه أنه قال : أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله وأنا أقول : إن تخلل النوم بين الصلوات جاء في صحيح مسلم من رواية حصين عن حبيب بن أبي ثابت وهي مما استدركها الدارقطني عن مسلم لاضطرابها فقد قال وروى عنه علي سبعة أوجه وخالف فيه الجمهور يعني الخبر الذي تخلل فيه النوم والكثير من الروايات ليس فيه ذلك فليحفظ واشترط أن لا تكون الصلاة إحدى الخمس فلو نام عن العشاء ثم قام فصلاها لا يسمى متهجدا ولا ضرر في كونها واجبة كأن نام غن الوتر ثم قام إليها وفي القاموس الهجود النوم كالتهجد وتهجد واستيقظ كهجد ضد وقال ابن الأعرابي : هجد الرجل صلى من الليل وهجد نام بالليل وقال أبو عبيدة : الهاجد النائم والمصلي وفي مجمع البيان أنه يقال هجدته إذا أنمته وعليه قول لبيد :
قلت هجدنا فقال طال السرى
ونقل عن ابن برزخ أنه يقال : هجدته إذا أيقظته ومصدر هذا التهجيد وصرح في القاموس بأنه من الأضداد أيضا وذكر بعضهم أن المعروف في كلام العرب كون الهجود بمعنى النوم وفسر التهجد بترك الهجود أي النوم على أن التفعل للسلب كالتأثم والتحنث وهو مأخذ من فسره بالاستيقاظ ويجوز أن يقال : إن التفعل للتكلف أي تكلف الهجود بمعنى اليقظة ورجح هذا بأن مجيء التفعل للتكلف أكثر من مجيئه للسلب
وعورض بأن استعمال الهجود في اليقظة مختلف في ثبوته وإن ثبت فهو أقل من استعماله في النوم والضمير المجرور في به للقرآن من حيث هو لا بقيد إضافته إلى الفجر واستدل بذلك على تطويل القراءة في صلاة التهجد وقد صرح العلماء بندب ذلك وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة صليت وراء النبي ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية تسبيح سبح الخبر ويجوز أن يكون للبعض المفهوم من قوله تعالى ومن الليل والباء للظرفية أي فتهجد في ذلك البعض
وقال ابن عطية : هو عائد على الوقت المقدر في النظم الكريم أي قم وقتا من الليل فتهجد به نافلة لك فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة ولعله الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر
(15/138)
صلاة الفجر مع تقدم وقتها على وقتها واستدل به على أن ما أمر به فأمته مأمورون به أيضا إلا أن يدل دليل على الاختصاص كما هنا ويدل على أن ما ذكر ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في ذلك يعني خاصة للنبي أمر بقيام الليل وكتب عليه لكن صحح النون أنه نسخ عنه عليه الصلاة و السلام فرضية التهجد ونقله أبو حامد من الشافعية وقالوا إنه الصحيح
وقيل الخطاب في لك له والمراد هو وأمته على حد الخطاب في أقم الصلاة فيما سبق أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس لنفعكم ففيه دليل على فرضية التهجد عليه عليه الصلاة و السلام وعلى أمته لكن نسخ ذلك في حق الأمة وبقي في حقه عليه الصلاة و السلام بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : نسخ قيام الليل إلا عن النبي أو ونسخ في حقه أيضا بناء على الصحيح وهو خلاف الظاهر جدا ويجوز أن يراد بالنافلة الفضيلة إما لأنه عليه الصلاة و السلام فضل على أمته بوجوبها وإن نسخ بعد أو لأنها فضيلة له وزيادة في درجاته وليست بالنسبة إليه مكفرة للذنوب وسادة للخلل الواقع في الفرائض كما أنها وسائر النوافل بالنسبة إلى الأمة كذلك لكونه عليه الصلاة و السلام قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وفرائضه وسائر تعبداته واقعة على الوجه الأكمل
وقد أخرج هذا الأخير البيهقي في الدلائل وابن جرير وغيرهما عن مجاهد وابن أبي حاتم عن قتادة وابن المنذر عن الحسن واستحسنه الإمام وضعفه الطبري وجوزابن عطية عموم الخطاب كما سمعت آنفا إلا أنه حمل نافلة على تطوعا وليس بشيء أيضا وربما يختلج في بعض الأذهان بناء على ما تقدم عن أبي البقاءفي قوله تعالى : سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا من أنه بتقدير اتبع سنة كما قال سبحانه : فبهداهم اقتده احتمال أن يكون قوله تعالى : أقم الصلاة إلخ بيانا للإتباع المأمور به وهو متضمن للأمر بالصلوات الخمس وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يصلونها على ما يدل قول جبريل عليه السلام في خبر تعليمه عليه الصلاة و السلام كيفية الصلاة بعد صلاته الخمس : هذا وقت الأنبياء من قبلك فإنه ظاهر في أنهم عليه السلام كانوا يصلونها غاية ما في الباب أنه على القول بأنها لم تجتمع لغير نبينا وهو الصحيح يحتمل أن المراد أنه وقتهم على الإجمال وإن اختص من اختص منهم بوقت حيث ورد أن الصبح لآدم والظهر لداود وفي رواية لإبراهيم والعصر لسليمان وفي رواية ليونس والمغرب ليعقوب وفي رواية لعيسى والعشاء ليونس وفي رواية لموسى عليهم السلام إلا إن ذلك لا يضر بل هو أنسب بالأمر بالتباع سنة جميعهم وقد استدل الإمام على أنه أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى : فبهداهم اقتده من جهة أنه عليه الصلاة و السلام أمر بالاقتداء بهدى جميعهم والمتثل ذلك فكان عنده من الهدى ما عند الجميع فيكون أفضل من كل واحد منهم وحينئذ يقال معنى كون ذلك نافلة له عليه الصلاة و السلام أنه زائد على الصلوات الخمس خاص به دون سائر الأنبياء عليهم السلام المأمور باتباع سنتهم وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ويعول عليه اللائق به أن يجعل من قبيل حديث النفس وتخيلها بحرا من مسك موجه الذهب فإن فساده تأصيلا وتفريعا مما لا يخفى على من له أدنى مسكة وأقل اطلاع والله تعالى العاصم من الزلل والحافظ من الخطأ والخطل وانتصاب نافلة إما على المصدرية
(15/139)
بتقدير تنفل وقدر الحوفي نفلناك أو بجعل تهجد بمعنى تنفل أو بجعل نافلة بمعنى تهجدا فإن ذلك عبادة زائدة وأما على الحال مع الضمير الراجع إلى القرآن أي حال كونه صلاة نافلة كما قال أبو البقاء وإما على المفعول لتهجد كما جوزه الحوفي إذا كان بمعنى صل وجعل الضمير المجرور للبعض المفهوم أو للوقت المقدر أي فصل فيه نافلة لك عسى أن يبعثك ربك الذي يبلغك إلى كمالك اللائق بك من بعد الموت الأكبر لما انبعثت من الموت الأصغر بالصلاة والعبادة فالمعنى على التعليل والتهوين لمشقة قيام الليل حتى زعم بعضهم أن عسى بمعنى كي وهو وهم بل هي كما قال أهل المعاني للأطماع ولما كان أطماع الكريم إنسانا بشيء ثم حرمانه منه غرورا والله عز و جل أجل وأكرم من أن يغر أحدا فيطمعه في شيء ثم لا يطيعه قالوا هي للوجوب منه تعالى مجده على معنى أن المطمع به يكون ولا بد للوعد وقيل هي على بابها للترجي لكن يصرف إلى المخاطب أي لتكن على رجاء من أن يبعثك ربك مقاما محمودا 97 وهي تامة و أن يبعثك فاعلها و ربك فاعله و مقاما كما قال جمع منصوب على الظرفية إما على إضمار فعل الإقامة أو على تضمين الفعل المذكور وذلك أي عسى أن يبعثك فيقيمك مقاما أي في مقام أو يقيمك في مقام محمود باعثا إذ لا يصح أن يعمل في مثل هذا الظرف إلا فعل فيه معنى الاستقرار خلافا للكسائي واستظهر في البحر كونه معمولا ليبعثك وهو مصدر من غير لفظ الفعل لأن نبعث بمعنى نقيم تقول أقيم من قبره وبعث من قبره
وجوز أبو البقاء وغيره كونه حالا بتقدير مضاف أي نبعثك ذا مقام وقيل يجوز أن يكون مفعولا به ليبعثك على تضمينه معنى نعطيك وجوز أبو حيان أن تكون عسى ناقصة و ربك الفاعل على تقدير أن ينتصب مقاما بمحذوف لا يبعث لئلا يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وتنكير مقاما للتعظيم والمراد بذلك المقام مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه فقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله يقول : إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك ثم موسى فيقول كذلك ثم محمد فيشفع فيقضي الله تعالى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله تعالى مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذآدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض ولكن ائتوا نوحا فيأتون نوحا فيقول إنى دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى ابراهيم فيقول ائتوا موسى فيقول إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى فيقول إني عبدت من دون الله تعالى فائتوا محمدا فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فاقعقعها فيقال من هذا فأقول محمد فيفتحون لي ويقولون مرحبا فأخر ساجدا فيلهمني الله تعالى من الثناء والحمد والمجد فيقال ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقوله فهو المقام المحمود الذي قال الله
(15/140)
تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة و السلام يسجد أربع سجدات أي كسجود الصلاة كما هو الظاهر تحت العرش فيجاب لما فزعوا إليه وذكر الغزالي في الدرة الفاخرة أن بين اتيانهم نبيا واتيانهم ما بعده ألف سنة ولا أصل له كما قال الحافظ ابن حجر وقيل هو مقام الشفاعة لأمته لما أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة عن النبي أنه سئل عن المقام المحمود في الآية فقال : هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي وأجاب من ذهب إلى الأول بأنه يحتمل أن يكون المراد المقام الذي أشفع فيه أولا لأمتي فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضا من حديث طويل في الشفاعة فيه فزع الناس إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام واعتذار كل منهم ما عدا عيسى عليه السلام بذنب أنه قال : فيأتوني يعني الناس بعد من علمت الأنبياء عليهم السلام فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله تعالى علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يارب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ومن الناس من فسره بمقام الشفاعة في موقف الحشر حيث يعترف الجميع بالعجز أعم من أن تكون عامة كالشفاعة لفصل القضاء أو خاصة كالشفاعة لبعض عصاة أمته في العفو عنهم والاقتصار على أحد الأمرين في بعض الأخبار لنكتة اقتضاها الحال ولكل مقام مقال وحمل هذا الشفاعة للأمة في خبر أبي هريرة المتقدم على الشفاعة لبعض عصاتهم في الموقف قبل دخولهم النار وإلا فلو أريد الشفاعة لهم بعد الحساب ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار كما روي عن أبي سعيد لم يتيسر الجمع بين الروايات إلا بأن يقال : المقام المحمود هو مقام الشفاعة أعم من أن تكون في الموقف عامة وخاصة وأن تكون بعد ذلك ويكون الاقتصار لنكتة وقد جاء تفسيره بمقام الشفاعة مطلقا فقد أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : سئل النبي عن المقام المحمود فقال : هو الشفاعة وأخرج ابن جرير عن وهب عن أبي هريرة أن رسول الله قال المقام المحمود الشفاعة
وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه فسره بذلك ثم الشفاعة من حيث هي وإن شاركه فيها غيره من الملائكة والأنبياء عليهم السلام وبعض المؤمنين إلا أن الشفاعة الكاملة والأنواع الفاضلة لا تثبت لغيره عليه الصلاة و السلام وقد أوصل بعضهم الشفاعة المختصة به إلى عشر وذكره بعض شراح البخاري فليراجع ووصف المقام بأنه محمود على ما ذكر باعتبار أن النبي يحمد فيه على أنعامه الواصل إلى الخاص والعام من أصناف الأنام
وأخرج النسائي والحاكم وصححه وجماعة عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال : يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه فينادى يا محمد فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت فهذا المقام المحمود وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال في الآية : يجلسه فيما بينه وبين جبريل عليه السلام ويشفع لأمته فذلك المقام المحمود
(15/141)
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قال : المقام المحمود أن يجلسه معه على عرشه وأنت تعلم أن الحمد على أكثر ما في هذه الروايات مجاز عند من يقول : إنه مختص بالثناء على الانعام وأما عند من يقول بعدم الإختصاص فلا مجاز وتعقب الواحدي القول بأن المقام المحمود اجلاسه معه عز و جل على العرش بعد ذكر روايته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأنه قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه الأول أن البعث ضد الأجلاس يقال بعث الله تعالى الميت إذا أقامه من قبره وبعثت البارك والقاعد فانبعث فتفسيره به تفسير الضد بالضد الثاني لو كان جالسا سبحانه وتعالى على العرش لكان محدودا متناهيا فيكون محدثا تعالى عن ذلك علوا كبيرا الثالث أنه سبحانه قال مقاما ولم يقل مقعدا والمقام موضع القيام لا القعود الرابع أن الحمقى والجهال يقولون : إن أهل الجنة كلهم يجلسون معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية فلا مزية له بإجلاسه معه عز و جل أنه إذا قيل : بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه انتهى وأبو عمر لم يطلع إلا على رواية ذلك عن مجاهد فقال : إن مجاهدا وإن كان أحد الأئمة بتأويل القرآن حتى قيل : إذا جاءك التأويل عن مجاهد فحسبك إلا أن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما تأويل المقام المحمود لهذا الاجلاس والثاني تأويل إلى ربها ناظرة بانتظار الثواب
وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم فما زال أهل العلم يحدثون به قال ابن عطية : أراد من أنكره على تأويله فهو متهم وقد يؤول قوله يجلسني معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله تعالى : إن الذين عند ربك وقوله سبحانه : حكاية ابن لي عندك بيتا وقوله تعالى : وإن الله لمع المحسنين إلى غير ذلك مما هو كناية عن المكانة لا عن المكان
وأنت تعلم أنه لا ينبغي لمجاهد ولا لغيره أن يفسر المقام المحمود بالإجلاس على العرش حسبما سمعت من غير أن يثبت عنده ذلك الإجلاس في خبر كخبر الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله في قوله سبحانه : عسى أن يبعثك إلخ يجلسني معه على السرير فإن تمسك المفسر بهذا أو نحوه لم يناظر إلا بالطعن في صحته وبعد إثبات الصحة لا مجال للمؤمن إلا التسليم وما ذكره الواحدي لا يستلزم عدم الصحة فكم وكم من حديث نصوا على صحته ويلزم من ظاهره المحال كحديث ابي سعيد الخدري المشتمل على رؤية المؤمنين الله عز و جل ثم أتيانه إياهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها وقوله تعالى لهم : أنا ربكم وقولهم نعوذ بالله تعالى منك حتى يكشف لهم عن ساق فيسجدون ثم يرفعون رؤسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة وهو في الصحيحين وحديث لقيط بن عامر المشتمل على قوله تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثم ثم تبعث الصائحة لعمر إلهك لا تدع على ظهرها شيئا إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز و جل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد الحديث وقد رواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد إلى ما لا يحصى من هذا القبيل ومذاهب المحدثين وأهل الفكر من العلماء في الكلام على ذلك مما لا تخفى ومتى أجريت هناك فلتجر هنا فالكل قريب من قريب والصوفية يقولون : إن لله عز و جل الظهور فيما يشاء على ما يشاء وهو سبحانه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق فإنه العزيز الحكيم ومتى ظهر جل وعلا في
(15/142)
صورة اجريت عليه سبحانه أحكامها من حيث الظهور فيوصف عز مجده عندهم بالجلوس ونحوه من تلك الحيثية وينحل بذلك أمور كثيرة إلا أنه مبني على ما دون اثباته خرط القتاد ويرد على ما ذكره الواحدي في الوجه الثالث أن المقام وإن كان في الأصل بمعنى محل القيام إلا أنه شاع في مطلق المحل ويطلق على الرتبة والشرف وعلى ما ذكره في الوجه الأول أنه ليس هناك إلا تفسير المقام المحمود بالإجلاس لا تفسير البعث بالإجلاس نعم فيه مسامحة والمراد أن إحلاله في المحل المحمود هو اجلاسه على العرش وهذا المعنى يتأتى بإبقاء البعث على معناه وتقدير فيقيمك بمعنى فيحلك وبتفسيره بالإقامة بمعنى الإحلال وقد يقال : لا مسامحة والمراد من المقام الرتبة والبعث متضمن معنى الإعطاء أي عسى يعطيك ربك رتبة محمودة وهي إجلاسه إياك على عرشه باعثا وماذكره في الوجه الثاني حق لو أريد من الجلوس على العرش ظاهره أن أريد معنى آخر فلا نسلم اللازم وباب التأويل واسع وقد أول الإجلاس معه على رفع المحل والتشريف وهو مقول بالتشكيك فمتى صح أن أهل الجنة كلهم يجلسون معه آمنا به مع إثبات المزية للرسول فاندفع ما ذكره في الوجه الرابع ويرد على ما في الوجه الخامس أن الإجلاس معه لم يفهم من مجرد البعث وما ادعى أحد ذلك فيكون بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لاصلام مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه لا يضرنا كما لا يخفى على منصف
وبالجملة كما قيل أو يقال لا يصغى إليه إن صح التفسير عن رسول الله لكن يبقى حينئذ أنه يلزم التعارض بين ظواهر الروايات ومن هنا قال بعضهم : المراد بالمقام المحمود ما ينتظم كل مقام يتضمن كرامة له والاقتصار في بعض الروايات على بعض لنكتة نحو ما مر ووصفه بكونه محمودا إما باعتبار أنه يحمد الله تعالى عليه أبلغ الحمد أو باعتبار أن كل من يشاهده يحمده ولم يشترط أن يكون الحمد في مقابلة النعمة ويدخل في هذا كل مقام له محمود في الجنة
وكذا يدخل فيه ما جوز مفتي الصوفية سيدي شهاب الدين السهروردي أن يكون المقام المحمود وهو إعطاؤه عليه الصلاة و السلام مرتبة من العلم لم تعط لغيره من الخلق أصلا فإنه ذكر في رسالة له في العقائد أن علم عوام المؤمنين يكون يوم القيامة كعلم علمائهم في الدنيا ويكون علم العلماء إذ ذاك كعلم الأنبياء عليهم السلام ويكون علم الأنبياء كعلم نبينا ويعطى نبينا عليه الصلاة و السلام من العلم ما لم يعط أحد من العالمين ولعله المقام المحمود ولم أر ذلك لغيره عليه الرحمة والله تعالى أعلم
ثم هذا الاختلاف في المقام المحمود هنا لم يقع فيه في دعاء الأذان بل ادعى العلامة ابن حجر الهيتمي أنه فيه مقام الشفاعة العظمى لفصل القضاء اتفاقا فتأمل في هذا المقام والله تعالى ولي الإنعام والإفهام
وقل رب أدخلني مدخل صدق أي إدخالا مرضيا جيدا لا يرى فيه ما يكره والإضافة للمبالغة
وأخرجني مخرج صدق نظي الأول واختلف في تعيين المراد من ذلك فأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم أن المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة ويدل عليه على ما قيل قوله تعالى وإن كادوا ليستفزونك إلخ
وأيد بما أخرجه أحمد والطبراني والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس قال : كان النبي بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل الله تعالى عليه وقل رب الآية وبدأ بالإدخال لأنه الأهم
(15/143)
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الإدخال في القبر والإخراج وأيد بذكره بعد البعث وقيل إدخال مكة ظاهرا عليها بالفتح وإخراجه منها آمنا من المشركين وقيل إخراجه من المدينة وإدخال مكة بالفتح وقال محمد بن المنكدر : إدخاله الغار وإخراجه منه وقيل الإدخال في الجنة والإخراج من مكة وقيل الإدخال في الصلاة والإخراج منها وقيل الإدخال في المأمورات والإخراج عن المنهيات وقيل الإدخال فيما حمله من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤيدا لما كلفه من غير تفريط وقيل الإدخال في بحار التوحيد والتنزيه والإخراج من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في الآثار إلى الاستغراق في معرفة الواحد القهار وقيل وقيل والأظهر أن المراد إدخاله عليه الصلاة و السلام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه فيكون عاما في جميع الموارد والمصادر واستظهر ذلك أبو حيان وفي الكشف أنه الوجه الموافق لظاهر اللفظ والمطابق لمقتضى النظم فسابقه ولاحقه لا يختصان بمان دون آخر وكفاك قوله تعالى واجعل لي إلخ شاهد صدق على إيثاره
وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة مدخل ومخرج بفتح الميم فيهما قال صاحب اللوامح : وهما مصدران من دخل وخرج لكنهما جاءا من معنى أدخلني وأخرجني السابقين دون لفظهما ومثل ذلك أنبتكم من الأرض نباتا ويجوز أن يكون اسمي مكان وانتصابهما على الظرفية وقال غيره من المحققين : هما مصدران منصوبان على تقدير فعلين ثلاثيين إذ مصدر المزيدين مضموم الميم كما في القراءة المتواترة أي أدخلني فأدخل مدخل صدق وأخرجني فأخرج مخرج صدق
واجعل لي من لدنك سلطانل نصيرا 08 أي حجة تنصرني على من خالفني وهو مراد مجاهد بقوله حجة بينة وفي رواية أخرى عنه أنه كتاب يحوي الحدود والأحكام وعن الحسن أنه أريد التسلط على الكافرين في السيف وعلى المنافقين بإقامة الحدود وقريب ما قيل أن المراد قهرا وعزا تنصر به الإسلام على غيره
وزعم بعضهم أنه فتح مكة وقيل السلطان أحد السلاطين الملوك فكأن المراد الدعاء بأن يكون في كل عصر ملك ينصر دين الله تعالى قيل وهو ظاهر ما أخرجه البيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عن قتادة قال : أخرجه الله تعالى من مكة مخرج صدق وأدخله المدينة مدخل صدق وعلم نبي الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطان نصيرا لكتاب الله تعالى وحدوده وفرائضه فإن السلطان عزة من الله عز و جل جعلها بين أظهر عباده لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم وفيه نظر وفعيل على سائر الأوجه مبالغة في فاعل
وجوز أن يكون في بعضها بمعنى مفعول والحق أن المراد من السلطان كل ما يفيده الغلبة على أعداء الله تعالى وظهور دينه جل شأنه ووصفه بنصيرا للمبالغة وقل جاء الحق الإسلام والدين الثابت الراسخ
والجملة عطف على جملة قل أولا واحتمال أنها من مقول القول الأول لما فيها من الدلالة على الاستجابة في غاية البعد
وزهق الباطل أي زال واضمحل ولم يثبت الشرك والكفر وتسويلات الشيطان من زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف وعن قتادة أن الحق القرآن والباطل الشيطان وعن ابن جريج أن الأول الجهاد والثاني الشرك وعن مقاتل الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة الشيطان وهذا قريب مما ذكرنا
(15/144)
إن الباطل كائنا ما كان كان زهوقا 18 مضمحلا غير ثابت الآن أو فيما بعد أو مطلقا لكونه كان لم يكن وصيغة فعول للمبالغة
أخرج الشيخان وجماعة عن ابن مسعود قال : دخل النبي مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا حتى مر عليها كلها
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين أي ما هو في تقديم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواءالشافي للمرض و من للبيان وقدم اهتماما بشأنه وأنكر أبو حيان جواز التقديم واختار هنا كون من لابتداء الغاية وهو إنكار غير مسموع فيفيد أن كل القرآن كذلك وفي الخبر من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى أو للتبعيض ومعناه على ما في الكشف وننزل ما هو شفاء أي تدرج في نزوله شفاء فشفاء وليس معناه أنه منقسم إلى ما هو شفاء وليس بشفاء والمنزل الأول كما وهم الحوفي فأنكر جواز إرادة التبعيض وإنما المعنى أن مالم ينزل بعد ليس بشفاء للمؤمنين لعدم الإطلاع وأن كل ما ينزل فهو شفاء لداء خاص يتجدد نزول الشفاء كفاء تجدد الداء
وفيه أيضا أن هذا الوجه أوفق لمقتضى المقام ولا يخفى عليك بعده ولذا اختير في توجيه التبعيض أنه باعتبار الشفاء الجسماني وهو من خواص بعض دون بعض ومن البعض الأول الفاتحة وفيها آثار مشهورة وآيات الشفاء وهي ست ويشف صدور قوم مؤمنين شفاء لما في الصدور فيه شفاء للناس وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين وإذا مرضت فهو يشفين قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء
قال السبكي : وقد جربت كثيرا وعن القشيري أنه مرض له ولد أيس من حياته فرأى الله تعالى في منامه فشكى له سبحانه ذلك فقال له : اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه فيه ما محيت به ففعل فشفاه الله تعالى والأطباء معترفون بأن من الأمور والرقي ما يشفى بخاصية روحانية كما فصله الأندلسي في مفرداته وكذا داود في الجلد الثاني من تذكرته ومن ينكر لا يعبأ به نعم اختلف العلماء في جواز نحو ما صنعه القشيري عن الرؤيا وهو نوع من النشرة وعرفوها بأنها أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه فمنع ذلك الحسن والنخعي ومجاهد وروى أبو داود من حديث جابر أن النبي سئل عن النشرة فقال : هي من عمل الشيطان
وأجاز ذلك ابن المسيب والنشرة التي قال فيها ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية وهي أنواع منها ما يفعله أهل التعزيم في غالب الأعصار من قراءة أشياءغير معلومة المعنى ولم تثبت في السنة أو كتابتها وتعليقها أو سقيها وقال مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين وعنى بذلك أنه لا بأس
(15/145)
بالتعليق بعد نزول البلاء وجاء الفرج والبرء كالرقى التي وردت السنة بها من العين وأما قبل النزول ففيه بأس وهو غريب وعند ابن المسيب يجوز تعليق العوذة من كتاب الله تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع وعند الغائط ولم يقيد بقبل أو بعد ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان مطلقا وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الانسان كبيرا أو صغيرا مطلقا وهو الذي عليه الناس قديما وحديثا في سائر الأمصار لكن توجيه التبعيض بما ذكر لا يساعده قوله سبحانه : ولا يزيد الظالمين إلا خسارا 28 أي لا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء في غير موضعها مع كونه في نفسه شفاء لما في الصدور من أدواء الريب وإسقام الأوهام إلا خسارا أي هلاكا بكفرهم وتكذيبهم وزيادتهم من حيث أنهم كلما جددوا الكفر والتكذيب بالآية النازلة تدريجا ازدادوا بذلك هلاكا وفسر بعضهم الخسار بالنقصان المنبيء عن حصول بعض مباديء الاسلام فيهم وفيه كما قال إيماء إلا أن ما بالمؤمنين من السبه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم المزدادون في ذلك لسوء صنيعهم باعتبار كونه سببا لذلك وفيه تعجيب من أمره من حيث كونه مدارا للشفاء والهلاك كما صار في الأصداف درا وفي ثغر الأفاعي صار سما وهذا ربما يقال : إن انقسام القرآن إلى ما هو شفاء من أدواء الريب إنما هو الأدلة كالآيات الدالة على بطلان الشرك وثبوت الوحدانية له تعالى وكالآيات الدالة على إمكان الحشر الجسماني وليس كل آيات القرآن كذلك فإن منه ما هو أمر بصلاة وصوم وزكاة ومنه ما هو نهي عن قتل وزنى وسرقة ونحو ذلك وهو لا يشفى به أدواء الريب وإسقام الوهم وكذا آيات القصص نعم فيما ذكر نفع غير الشفاء من تلك الأدواء فهو رحمة وحينئذ يقال في الآية حذف أي ننزل من القرآن ما هو شفاء وما هو رحمة على معنى ننزل من القرآن آيات هي شفاء وآيات هي رحمة
وفيه إن الريب غير مختص فيما يتعلق بالله عز و جل وبإمكان الحشر بل يكون أيضا في الرسالة وصدقه في دعواها وما من آية في القرآن إلا وهي مستقلة أو لها دخل في الشفاء من ذلك الداء لما فيها من الإعجاز وكذا ما من آية إلا وفيها نفع من جهة أخرى فكل آية رحمة كما أن كلها شفاء لكن كونه رحمة بالنسبة إلى كل واحد واحد من المؤمنين إذ كل مؤمن ينتفع به نوعا من الانتفاع وكونه شفاء بالفعل بالنسبة إلى من عرض له شيء من أدواء الريب وإسقام الوهم وليس كل المؤمنين كذلك والقول بأن كلا كذلك في أول الأيمان غير مسلم ولا يحتاج إليه كما لا يخفى
موالإمام عمم شفائيته وقد أحسن فقال : هو شفاء للأمراض الروحانية وهي نوعان اعتقادات باطلة وأخلاق مذمومة فلاشتماله على الدلائل الحقة الكاشفة عن المذاهب الباطلة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر المبينة لبطلانها يشفي عن النوع الأول من الأمراض ولاشتماله على تفاصيل الأخلاق المذمومة وتعريف
(15/146)
ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة يشفي عن النوع الآخر والشفاء إشارة إلى التخلية والرحمة إشارة إلى التحلية ولأن الأولى أهم من الثانية قدم الشفاء فتأمل والله تعالى الموفق
وقرأ البصريان ننزل بالنون والتخفيف وقرأ مجاهد بالياء والتخفيف و رواها المروزي عن حفص
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما شفاء ورحمة بنصبهما وقال أبو حيان : ويتخرج ذلك على أنهما حالان والخبر للمؤمنين والعامل في الحال ما في الجار والمجرور من الفعل ونظير ذلك والسموات مطويات بيمينه في قراءة نصب مطويات وقول الشاعر : رهط ابن كوز محقبي أدراعهم فيهم ورهط ربيعة بن حذار ثم قال : وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف لا يجوز إلا عند الأخفش ومن منع جعله منصو با على إضمار أعني وأنت تعلم أن من يجوز مجيء الحال من المبتدأ لا يحتاج إلى ذلك وإذا أنعمنا بالصحة والسعة ونحوهما على الانسان أي جنسه فيكفي في صحة الحكم وجوده في بعض الأفراد ولا يضر وجود نقيضه في البعض الآخر وقيل المراد به الوليد بن المغيرة أعرض عن ذكرنا كأنه مستغن عنا فضلا عن القيام بمواجب شكرنا ونأى بجانبه لوى عطفه عن طاعتنا وولاها ظهره وأصل معنى النأي البعد وهو تأكيد للاعراض بتصوير صورته فهو أوفى بتأدية المراد منه ومثله يجوز عطفه لايهام المغايرة بينهما وهو أبلغ من ترك العطف على ما بين في محله على أن ما ذكره أهل المعاني من أن التأكيد يتعين في ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم والجانب على ظاهره والمراد ترك ذلك ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار فإن ثنى العطف من أفعال المستكبرين و لا يبعد أن يراد بالجانب النفس كما يقال جاء من جانب فلان كذا أي منه وهو كناية أيضا كما يعبر بالمقام والمجلس عن صاحبه وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان وناء هنا وفي فصلت فقيل ذلك من باب القلب ووضع العين محل اللام كراء ووراء وقيل لا قلب وناء بمعنى نهض كما في قوله : حتى إذا ما التأمت مفاصله وناء في شق الشمال كاهله أي نهض متوكئا على شماله وفسر نهض هنا بأسرع والكلام على تقدير مضاف أي أسرع بصرف جانبه وقيل : معناه تثاقل عن أداء الشكر فعل المعرض وإذا مسه الشر من مرض أو فقر أو نازلة من النوازل كان يؤسا 38 شديد اليأس من رحمتنا لأنه لم يحسن معاملتنا في الرخاء حتى يرجو فضلنا في الشدة وفي إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الانعام إلى ضميره تعالى وإيذان بأن الخير مراد بالذت وليس الشر كذلك لأن ذلك هو الذي يقتضيه الكرم المطلق والرحمة الواسعة وإلى ذلك الإشارة بقوله اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك وللفلاسفة ومن يحذو حذهم في ذلك بحث طويل لا بأس بالاطلاع عليه ليؤخذ منه ما صفا ويترك منه ما كدر قالوا : إن الأول تعالى تام القدرة والحكمة والعلم كامل في جميع أفاعيله لا يتصور بخله بإضافة الخيرات وليس الداعي له لذلك إلا علمه بوجوه الخير ومصالح الغير الذي هو عين ذاته كسائر صفاته وأما النقائص والشرور الواقعة في ضرب من الممكنات وعدم وصولها إلى كمالها المتصور في حقها فهي لقصور قابلياتها ونقص استعداداتها لا من بخل الحق تعالى مجده عن ذلك
(15/147)
وقصور القابلية ينتهي في الآخرة إلى لوازم الماهيات الإمكانية ومنبعها الإمكان وتحقيق ذلك أن الشر يطلق عرفا على معنيين أحدهما ما هو عدم كالفقر والجهل البسيط وهذا على ضربين الأول عدم محض ليس بأزاء الوجود الذي يطلبه طباع الشيء ولا مما يمكن حصوله له من الكمالات والخيرات كقصور الممكن عن الوجود الواجبي والوجوب الذاتي وقصور بعض الممكنات عن بعض كقصور الأجسام عن النفوس فالخير الذي يقابل هذا منحصر في الواجب تعالى إذ له الكمال المطلق والوجود الحق بلا جهة إمكانية بوجه من الوجوه وما عداه من المهيآت المعروضة للوجود لا يخلو من شوب شرية ما وظلمة ما على تفاوت إمكاناتهم حسب تفاوت طبقاتهم في البعد عن ينبوع الوجود ومطلع نور الخير والجود وهذا الشر منبعه الإمكان الذاتي والثاني ما يكون عدم ما يطلبه الشيء أو ما يمكن حصوله له من الكمالات ولا يتصور هذا في غير الماديات إذ الإبداعيات يكون وجودها على أكمل ما يتصور في حقها فلا يكون لها شرية بهذا المعنى وما عداها من المتعلقة بالمادة لا تخلو من شرية على تفاوت إمكاناتها الاستعدادية بحسب تفاوت مراتبها في التعلق بالهيولي وهذا الشر منبعه الهيولي ومنبعها الإمكان إذ لولاه ما صدرت من مصدرها فآل الشر إلى الإمكان كما سمعت أولا
وثانيهما ما يمنع الشيء عن الوصول إلى الخير الممكن في حقه من الوجود أو كمال الوجود كالبرد والحر المفسدين للثمار والمطر المانع للقصار عن تبييض الثياب والأخلاق الذميمة المانعة للنفس عن وصولها إلى كمالها العقلي كالبخل والإسراف والجهل المركب والسفاهة والأفعال الذميمة كالزنا والسرقة والنميمة وأشباه ذلك من الآلام والغموم وغير ذلك من الأشياء الوجودية لكن يتبعها إعدام وإطلاق الشر عندهم على المعنى الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز لأن الشر الحقيقي لا ذات له بل هو إما عدم ذات أو عدم كمال لذات والبرهان عليه أنه لو كان أمرا وجوديا فلا يخلو أما أن يكون شرا لنفسه أو لغيره والأول باطل وإلا لما وجد إذ الشيء لا يقتضي لذاته عدمه أو عدم كماله كيف وجميع الأشياء طالبة لكمالاتها لا مقتضية لعدمها مع أنه لو اقتضى كان الشر ذلك العدم لا نفسه وكذا الثاني لأن كونه لغيره إما لأنه لعدم ذلك الغير أو لأنه لعدم بعض كمالاته فإنه لو لم يكن معدما لشيء أصلا لا لوجوده ولا لكمال وجوده لم يكن شرا لذلك الشيء ضرورة أن كل ما لا يوجب عدم شيء و لا عدم كمال له لا يكون شرا فإذا ليس الشر إلا عدم ذلك الشيء أو عدم كماله لا نفس الأمر الوجودي المعدم بل هو في ذاته من الكمالات النفسانية أو الجسمانية كالظلم فإنه وإن كان شرا بالقياس إلى المظلوم وإلى النفس الناطقة التي كمالها في تسخير قواها وكسرها لكنه خير بالقياس إلى القوة الغضبية التي كمالها بالانتقام وكذا الإحراق كمال للنار وشر لمن يتضرر به فعلم أن الشر إما عدم ذات أو عدم كمال لها فالوجود من حيث أنه وجود خير محض والعدم من حيث أنه عدم شر محض ثم إنك قد علمت أن الشر الذي هو بمعنى العدم منه ما هو من لوازم الماهيات التي لا علة لها ومنه ما لا يكون من هذا القبيل بل قد يلحق الماهيات لا من ذاتها فلا بد له من علة والكلام ليس في الأول الذي لا لمية له إذ قد تقرر أنه ليس للماهيات في كونها ممكنة ولا في حاجتها إلى علة لوجودها علة ولا لقصور الممكن عن الواجب بذلته ولا لتفاوت مراتب هذا النقصان في الماهيات علة بل إنما ذلك لاختلاف الماهيات في حدود ذاتها لا لأمر خارج عنها كيف ولو كان النقص في جميعها متشابها لكانت الماهيات ماهية واحدة بل الكلام في الثاني وهو عدم ما هو من الأمور الزائدة على مقتضى النوع
(15/148)
كالجهل بالفلسفة للإنسان مثلا فإن ذلك ليس شرا له لأجل كونه إنسانا بل لأجل أنه فقد لما اقتضاه شخص مستعد له مشتاق إليه من حيث أنه وجد فيه هذا الاستحقاق والاشتياق الذي لاصلاح في أن يعم
وهذا الشر إنما يوجد يوجد في الأشياء على سبيل الندرة فكل ما وجد فهو خير محض أو خيره أكثر من شره وأما ما يكون شرا محضا أو مستولى الشرية أو متساوي الطرفين فمما لا وجود له أصلا حتى يحتاج فيه إلى منشأ سوى الواجب تعالى الذي هو خير محض لا يوجد منه شر أصلا كما توهمه كفرة المجوس ثم كل ما كان خيرا محضا أو كان خيره أكثر يصدر من الواجب بمقتضى أن من شأنه إفاضة الخير لأن ترك الأول شر محض وترك الثاني شر غالب وعالم العناصر من القسم الثاني فإن إيجابه للشرور على الوجه النادر ولا تسوغ عناية المبدع ورحمة الجواد إهماله وإلا لزم خير كثير لشر قليل وهو شر كثير على أنها إنما تكون للنفع في أشياء لو لم تخلق لخلق سر بال الوجود وقصر رداء الجود وبقي في كتم العدم عوالم كثيرة ونفائس جمة غفيرة فمن هذه الحثيثة يكون ذلك الشر القليل مقتضيا بالذات وهي مع ذلك إنما توجد تحت كرة القمر في بعض جوانب الأرض التي هي حقيرة بل لا شيء بالنسبة إلى ما عند ربك سبحانه وتكون لبعض الأشخاص في بعض الأوقات وليست أيضا شرورا بالنسبة إلى نظام الكل فإذا تصورت ذرة الشر في أبحر أشعة شمس الخير لا يضرها بل يزيدها بهاء وجمالا وضياء وكمالا كالشامة السوداء على الصورة المليحة البيضاء يزيدها حسنا وملاحة وإشراقا وصباحة
ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء ومقابله بلا داع ومصلحة كما هو مذهب الأشاعرة وإلا فقد يقال : إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء وأساطين الاسلام قالوا : إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط وأمور العالم منوطة بقوانين كلية وأفعاله تعالى مربوطة بحكم ومصالح جلية وخفية
وقول الإمام : إن الفلاسفة لما قالوا بالايجاب والجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها ناشيء من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار وليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بيسط عندهم ولا يجوزون صدور الشر عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في باديء النظر إثبات ما افترته الثنوية من مبدأين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك بذلك البحث فهو فضل لا فضول وبالجملة ما يصدر عنه تعالى إما ما هو بريء بالكلية عن الشر وإما ما يلزمه شر قليل وفي تركه شر كثير ولا يصدر عنه تعالى ذلك أيضا في حق شخص إلا بعد طلب ما هيته له في نفسها كما يشير إليه قوله تعالى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى إلى غير ذلك من الآيات
وفي الإشارات وشروحها كلام طويل يتعلق بهذا المقام ولعل فيما ذكرنا كفاية لذوي الإفهام هذا ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر حال القرآن بالنسبة إلى المؤمنين وإلى الكافرين وبين حال الكافر في حالي الإنعام ومقابله ذكر ما يصلح جوابا لمن يقول : لم كان الأمر كذلك فقال عز قائلا قل كل أي واحد من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي والقانط يعمل
(15/149)
عمله على شاكلته أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله وما هو عليه في نفس الأمر وتشابهه في الحسن والقبح من قولهم طريق ذو شواكل أي طرق تتشعب منه وهو مأخوذ من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير ويقال لست من شكلي ولا شاكلتي وأما الشكل بكسر الشين فالهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة وظاهر عبارة القاموس أن كلا من الشكل والشكل يطلق على المثل والهيئة
وهذا التفسير مروي عن الفراء والزجاج واختاره الزمخشري وغيره لقوله تعالى : فربكم الذي برأكم متخالفين أعلم بمن هو أهدى سبيلا 48 أسد طريقا وأبين منهاجا وفسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة على أنها من شكلت الدابة إذا قيدتها أي على طبيعته التي قيدته لأن سلطان الطبيعة على الإنسان ظاهر وهو ضابط له وقاهر وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومثل ذلك في المأخذ تفسير بعضهم بالعادة ومن مشهور كلامهم العادات قاهرات وكذا تفسير ابن زيد لها بالدين وكلا التفسيرين دون الأولين ولعل الدين هنا بمعنى الحال وهو أحد معانيه
وجوز الإمام وغيره أن يكون المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسا مشرقة حرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه وإن كانت نفسا كدرة نذلة خبيثة ظلمانية سفلية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة والذي خبث لا يخرج إلا نكدا واختار أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة الماهية ولذا اختلفت آثارها وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى قريبا ولا يرد أن خسة الأفعال وشرافتها إذا كانتا تابعتين لخسة النفس وشرافتها وهما أمران خلقيان لا مدخل للاختيار فيهما فعلام المدح والذم والثواب والعقاب لأنهم قالوا : إن ذلك لأمر ذاتي وهو حسن استعداد النفس في نفسها وسوء استعدادها أيضا في نفسها ولا تثاب النفس ولا تعاقب إلا لاستعدادها في الأزل وطلبها لذلك بلسان حالها والمشهور إطلاق القول بأن ذلك غير مجعول وإنما المجعول وجوده وإبرازه على طبق ما هو عليه في نفسه فاعملوا فكل ميسر لما خلق له ومن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وقال بعض : إنه مجعول بالجعل البسيط على معنى أنه أثر الفيض الأقدس الذي هو مقتضى ذاته عز و جل بطريق الإيجاب ويجري نحو هذا في الوجهين الأولين
وقال بعض المتأخرين من فلاسفة الاسلام المتصدين للجمع برأيهم بين الشريعة والفلسفة إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة واقتضاؤها للمعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجرى المرض والخروج على الحالة الطبيعية فيكون ميلها للمعصية مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب كما أن الصحة منها وفي الحديث القدسي إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وفي الأثر كل مولود يولد على فطرة الاسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه أي بواسطة الشياطين أو المراد بهم ما يعم شياطين الإنس والجن أو الشياطين كناية عن العوارض الغريبة فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصوا ولبقوا على
(15/150)
فطرتهم لكن مسهم الشيطان ففسدت عليهم فطرتهم الأصليه فاقتضوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهي الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جلبوا عليه ولولا المزعجات من الليالي لما ترك القطا طيب المنام ولذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات الله تعالى ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية ومقتضى ذاتهم البهية ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم ولذا قيل : الأنبياء أطباء وهم أعرف بالداء والدواء ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولا لعروضهما لهم ورخصة في لحوقهما بهم لم يكونا يعرضان ولا يلحقان فإذا كان ما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة لجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان الملاءمة والمنافاة أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم قضتها وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافية لهم فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمرا آخر وانظر إلى طبيعة التي تقتضي يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقصورة من وجه ومطبوعة من وجه فالإنسان عند عروض مثل هذا المنافي ملتذ متألم سعيد شقي ملتذ ولكن لذته ألمه سعيد ولكن سعادته شقاوته وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب ومن تأمل وأنصف ظهر له أنه لا ملخص لكثير من الشبهات في هذا الفصل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي وأن لكل شيء حالة في نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتبارات لا يفاض عليه إلا هي لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإثابة والتعذيب تابعان لذلك فسبحان الحكيم المالك فتثبت فكم قد زلت في هذا المقام أقدام أعلام كالأعلام نسأل الله تعالى أن ينور أفهامنا ويثبت أقدامنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ثم أعلم أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال : لم أر في القرآن أرجى من هذه الآية لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران قال ذلك حين تذاكروا القرآن فقال عمر : لم أر آية أرجى من التي فيها غافر الذنب وقابل التوب قدم الغفران قبل قبول التوبه وقال عثمان : لم أر آية أرجى من نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم
وقال علي كرم الله تعالى وجهه : لم أر أرجى من يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم وقيل في الأرجى غير ذلك وسيمر عليك إن شاء الله تعالى لكن ما قاله الصديق لا يتأتى إلا على تقدير أن يراد كل أحد مطلقا يعمل على شاكلته فافهم
ويسألونك عن الروح الظاهر عند المنصف أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدار البدن الانساني ومبدأ حياته لأن ذلك من أدق الأمور التي لا يسع أحدا إنكارها ويشرئب كل إلى معرفتها وتتوفر ذواعي العقلاء إليها وتكل الأذهان عنها ولا تكاد تعلم إلا بوحي وزعم ابن القيم أن المسؤول عنه الروح
(15/151)
الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة عليهم السلام قال لأنهم إنما يسألونه عليه الصلاة و السلام عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند الله تعالى لا يعلمه الناس وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب إلى آخر ما قال وقد أطال وفي البحور الزاخرة أن هذا هو الذي عليه أكثر السلف بل كلهم والحق ما ذكرنا وهو الذي عليه الجمهور كما نص عليه في البحر وغيره نعم ما زعمه ابن القيم مروي عن بعض السلف فقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : الروح خلق من خلق الله تعالى وصورهم على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح ثم تلا يوم يقوم الروح والملائكة
وأخرج أبو الشيخ وغيره من طريق عطاء عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال في الروح المسؤل عنه : هو ملك واحد له عشرة آلاف جناح جناحان منها ما بين المشرق والمغرب له ألف وجه لكل وجه لسان وعينان وشفتان يسبح الله تعالى بذلك إلى يوم القيامة وأخرج هو وغيره أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال فيه : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائمة إلى يوم القيامة وتعقب هذا بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه وطعن الإمام في ذلك بما طعن
وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن مجاهد أنه قال : الروح خلق من الملائكة عليهم السلام لا يراهم الملائكة كما لا ترون أنتم الملائكة
وأخرج أبو الشيخ عن سلمان أنه قال : الإنس والجن عشرة أجزاء فالإنس جزء والجن تسعة أجزاء والملائكة والجن عشرة أجزاء فالجن من ذلك جزء والملائكة تسعة والملائكة والروح عشرة أجزاء فالملائكة من ذلك جزء والروح تسعة أجزاء والروح والكروبيون عشرة أجزاء فالروح من ذلك جزء والكروبيون تسعة أجزاء وقال الحسن وقتادة : الروح هو جبرائيل عليه السلام وقد سمي روحا في قوله تعالى نزل به الروح الأمين على قلبك والسؤال عن كيفية نزوله والقائه الوحي إليه عليه الصلاة و السلام وقال بعضهم هو القرآن وقد سمي روحا في قوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقيل غير ذلك
وزعم بعضهم أن السؤال عن حدوث الروح بالمعنى الأول وقدمه وليس بشيء كما ستسمعه إن شاء الله تعالى
وضمير يسألون لليهود فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : كنت أمشي مع النبي في خرب المدينة وهو متكيء على عسيب فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح وقال بعضهم : لا تسألوه فسألوه فقالوا : يا محمد ما الروح فما زال متوكئا على العسيب فظننت أنه يوحى إليه فلما نزل الوحي قال ويسألونك عن الروح الآية وقال بعضهم : لقريش لما أخرج أحمد والنسائي والترمذي والحاكم وصححه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فسألوه فنزلت ويسألونك الخ
وفي السير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا بعثت النضر بن الحرث وعقبه بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهم سلوهم محمدا فإنهم أهل كتاب عندهم من العلم ما ليس عندنا فخرجنا حتى قدما المدينة فسألوهم فقالوا سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها أو سكت
(15/152)
فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فجاؤا وسألوه فتبين لهم القضيتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة والآية وعلى هذا وما قبله مكية وعلى خبر الصحيحين مدنية وجمع بعضهم بين ذلك بأن الآية نزلت مرتين فتدبر وأياما كان فوجه تعقيب ما تقدم بها أن فسر الروح بالقرآن ظاهر ملائم لقوله تعالى وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة ولما بعده من الامتنان عليه وعلى متبعيه بحفظه في الصدور والبقاء وكذلك أن فسر بجبرائيل عليه السلام وأما على قول الجمهور فقد ورد معترضا دلالة على خسار الظالمين وضلالهم وأنهم مشتغلون عن تدبر الكتاب والانتفاع به إلى التعنت بسؤال ما اقتضت الحكمة سد طريق معرفته ويقال نحو هذا على القول المروي عن بعض السلف قل الروح أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال الإعتناء من أمر ربي كلمة من تبعيضية وقيل : بيانية والأمر واحد الأمور بمعنى الشأن والإضافة للإختصاص العلمي لا الإيجادي إذ ما من شيء إلا وهو مضاف إليه عز و جل بهذا المعنى فيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هي من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا تكاد تدركها عيون عقول البشر
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا 58 لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك وهذا على ما قيل ترك للبيان ونهي لهم عن السؤال
أخرج ابن إسحق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت هذه الآية بمكة فلما هاجر إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك قال : كلا قد عنيت قالوا : فانك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله : هي في علم الله تعالى قليل وقد آتاكم الله تعالى ما إن عملتم به انتفعتم فأنزل الله تعالى ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام إلى قوله سبحانه إن الله سميع بصير وكأنه أشار إلى أن المراد في الآية تبيانا لكل شيء من الأمور الدينية ولا شك أنها أقل قليل بالنسبة إلى معلومات الله تعالى التي لا نهاية لها وبهذا يرد على القائل بالعموم الحقيقي
وفي رواية النسائي وابن حبان والترمذي والحاكم وصححاها أن اليهود قالوا حين نزلت الآية : أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا فأنزل الله تعالى : قل لو كان البحر الآية ولا يخفى أن هذا أيضا لا يلزم منه التناقص لأن الكثرة والقلة من الأمور الإضافية فالشيء يكون قليلا بالنسبة إلى ما فوقه وكثيرا بالنسبة إلى ما تحته فما في التوراة قليل بالنسبة إلى ما في علم الله تعالى شأنه كثير بالنسبة إلى أمر آخر وفي رواية أخرجها ابن مردويه عن عكرمة أنه لما قال ذلك قال اليهود : نحن مختصون بهذا الخطاب فقال : بل نحن وأنتم فقالوا : ما أعجب شأنك ساعة تقول : ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وساعة تقول : هذا فنزل : ولو أن ما الأرض من شجرة أقلام إلخ ولا يلزم منه التناقض أيضا على نحو ما تقدم بأن يقال : الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وهو قليل بالنسبة إلى معلوماته تعالى كثير بالنسبة إلى غيرها وإلى تعميم الخطاب بحيث يشمل الناس أجمعين ذهب ابن جريج كما أخرجه عن ابن جرير وابن المنذر لكن يعكر على القول بالعموم ظاهر
(15/153)
قراءة ابن مسعود والأعمش وما أوتوا فإنه يقتضي الإختصاص بالسائلين والحديث الأخير الذي هو نص فيه قال العراقي : إنه غير صحيح والحديث الأول الله تعالى أعلم بحاله وقال غير واحد : معنى كون الروح من أمره تعالى أنه من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني فالمراد من الأمر واحد الأوامر أعني كن والسؤال عن الحقيقة والجواب إجمالي ومآله أن الروح من عالم الأرض مبدعة من غير مادة لا من عالم الخلق وهو من الأسلوب الحكيم كجواب موسى عليه السلام سؤال فرعون إياه ما رب العالمين إشارة إلى أن كنه حقيقته مما لا يحيط به دائرة إدراك البشر وإنما الذي يعلم هذا المقدار الإجمالي المندرج تحت ما استثنى بقوله تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات ولذلك قيل : من فقد حسا فقد فقد علما ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس لكونه غير محسوس أو محسوسا منع من إحساسه مانع كالغيبة مثلا وكذا لا يدرك شيئا من عرضياته ليرسمه بها فضلا عن أن ينتقل منها الفكر إلى الذاتيات ليقف على الحقيقة وظاهر كلام بعضهم أن الوقوف على كنه الروح غير ممكن فلا فرق عنده بين الجوابين
وفرق الخفاجي بأن بيان كنه الروح ممكن بخلاف كنه الذات الأقدس وفي الكشف أن سبيل معرفة الروح إزالة الغشاء عن أبصار القلوب باجتلاء كحل الجواهر من كلام علام الغيوب فهو عند المكتحلين أجلى جلي وعند المشتغلين أخفى خفي ويشكل على هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة قال : لقد قبض النبي وما يعلم الروح ولعل عبد الله هذا يزعم أنها يمتنع العلم بها وإلا فلم يقبض رسول الله حتى علم كل شيء يمكن العلم به كما يدل عليه ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال : حديث صحيح وسئل البخاري عنه فقال : حديث حسن صحيح عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال : إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز و جل في أحسن صورة فقال : يا محمد فيما يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري رب قال : يا محمد فيما يختصم الملأ الأعلى قلت : لا أدري رب قال : يا محمد فيما يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري رب فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري وتجلى لي كل شيء وعرفت الحديث و رأيت يعلم في الخبر السابق في بعض الكتب مضبوطا بالبناء للمفعول والروح مضبوطا بالرفع والاشكال على ذلك أوهن إلا أنه خلاف الظاهر
ويفهم من كلام بعض متأخري الصوفية أنه يمتنع الوقوف على حقيقة الروح بل ذكر هذا البعض أن حقيقة جميع الأشياء لا يوقف عليها وهو مبني على ما لا يخفى عليك ورده أو قبوله مفوض إليك ثم إن لي في هذا الوجه وقفة فإن الظاهر أن إطلاق عالم الأمر على الكائن من غير تحصل من مادة وتولد من أصل وإطلاق عالم الخلق على خلافه محض اصطلاح لا يعرف للعرب ولا يعرفونه وفي الاستدلال عليه بقوله تعالى : ألا له الخلق والأمر ما لايخفى على منصف هذا وذكر الإمام أن السؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة وليس في قوله تعالى : ويسألونك عن الروح ما يدل على وجه منها إلا أن الجواب المذكور لا يليق إلا بوجهين منها الأول كونه سؤالا عن الماهية والثاني كونه سؤالا عن القدم والحدوث وحاصل الجواب على الأول أنها جوهر بسيط مجرد محدث بأمر الله تعالى وتكوينه وتأثيره إفادة الحياة للجسد ولا يلزم من عدم العلم
(15/154)
بحقيقته المخصوصة فإن أكثر حقائق الأشياء ماهياتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها ويشير إليه وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ومبنى هذا أيضا الفرق بين عالم الأمر وعالم الخلق وقد سمعت ما فيه وحاصل الجواب على الثاني أنه حادث حصل بفعل الله تعالى وتكوينه وإيجاده وجعل قوله تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا احتجاجا على الحدوث بمعنى أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها ذلك فلا تزال في تغير من حال إلى حال وهو من إمارات الحدوث وأنت تعلم أن حمل السؤال على ما ذكر وجعل الجواب إخبارا بالحدوث مع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمهم حينئذ وقد أخبر عنهم وجعل ذلك احتجاجا على الحدوث من أعجب الحوادث كما لا يخفى على ذي روح والله تعالى أعلم
وههنا أبحاث لا بأس بإيرادها : البحث الأول في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان وظاهر كلام الإمام أن الاختلاف في حقيقته غير الاختلاف في حقيقة الروح وفي القلب من ذلك ما فيه فذهب جمهور المتكلمين إلى أنه عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم المحسوس وهو الذي يشير إليه بقوله أنا وأبطل ذلك الإمام بسبع عشرة حجة نقلية وعقلية لكن للبحث في بعضها مجال منها ما تقدم من أن أجزاء البنية متغيرة زيادة ونقصانا وذبولا ونموا والعلم الضروري قاض بأن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول العمر إلى آخره وغير الباقي غير الباقي ومنها أن الإنسان قد يعتريه ما يشغله عن الإلتفات إلى أجزاء بنيته كلا وبعضا ولا يغفل عن نفسه المعينة بدليل أنه يقول مع ذلك الشاغل فعلت وتركت مثلا وغير المعلوم غير المعلوم
ومنها أنه قد توجد البنية المخصوصة وحقيقة الإنسان غير حاصلة فإن جبريل عليه السلام كثيرا ما رؤي في صورة دحية الكلب وإبليس عليه اللعنة رؤي في صورة شيخ نجد وقد تنتفى البنية مع بقاء حقيقة الإنسان فإن الممسوخ مثلا قردا باقية حقيقته مع انتفاء البنية المخصوصة وإلا لم يتحقق مسخ بل إماتة لذلك الانسان وخلق قرد ومنها أنه جاء في الخبر أن الميت إذا حمل على النعش رفرف روحه فوق النعش ويقول : يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله ومن غير حله ثم تركته لغيري فالهناء له واتبعت علي فاحذروا مثل ما حل بي فصرح بأن هناك شيئا ينادي غير المحمول كأن الأهل أهلا له وكان الجامع للمال من الحلال والحرام وليس ذلك إلا الانسان إلى غير ذلك مما ذكره في تفسيره وقيل : إن الانسان هو الروح الذي في القلب وقيل إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ وقيل : إنه أجزاء نارية مختلطة بالأرواح القلبية والدماغية وهي المسماة بالحرارة الغريزية وقيل : هو الدم الحال في البدن وقيل وقيل إلى نحو ألف قول والمعول عليه عند المحققين قولان الأول أن الانسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس سار فيه سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا لقبول الفيض لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان والروح عبارة عن ذلك الجسم واستحسن هذا الإمام فقال هو مذهب قوي وقول شريف يحب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت وقال ابن القيم في كتابه الروح : إنه الصواب ولا يصح غيره وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع
(15/155)
الثاني أنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة وذهب إليه جماعة عظيمة من المسلمين منهم الشيخ أبو القاسم الراغب الأصفهاني وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ومن المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة ومن أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم وقد قدمنا لك الأدلة على ذلك ومن أراد الإحاطة بذلك فليرجع إلى كتب الشيخين أبي علي وشهاب الدين المقتول وإلى كتب الإمام الرازي كالمباحث الشرقية وغيره وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج الغر أحكمها وأتقنها ما يبتني على تعقل النفس لذاتها وابن القيم زيف حججه في كتابه وهو كتاب مفيد جدا يهب للروح روحا ويورث للصدر شرحا واستدل الإمام على ذلك في تفسيره للآية المذكورة فقال : إن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات آخر فإذا سئل رسول الله عنه وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن إنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك وقال هو من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كن فيكون دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد ولا يخفى أن ذلك من الاقناعيات الخطابية وهي كثيرة في هذا الباب منها قوله تعالى : ونفخت فيه من روحي وقوله سبحانه وكلمته ألقاها إلى مريم فإن هذه الإضافة مما تنبه على شرف الجوهر الأنسي وكونه عريا عن الملابس الحسية ومنها قوله عليه الصلاة و السلام : أنا النذير العريان ففيه إلى تجرد الروح عن علائق الأجرام وقوله : إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن وفي رواية على صورته وقوله عليه الصلاة و السلامأبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ففي ذلك إيذان بشرف الروح وقربه من ربه قربا بالذات والصفات مجردا عن علائق الإجرام وعوائق الأجسام إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو على هذا المنوال وللبحث فيه مجال أي مجال وكان ثابت بن قرة يقول : إن الروح متعلق بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وتلك الأجسام سارية في البدن وهي ما دامت سارية كان الروح مدبرا للبدن وإذا انفصلت عنه انقطع التعلق وهو قول ملفق وأنا لا أستبعده
البحث الثاني في اختلاف الناس في حدوث الروح وقدمه : أجمع المسلمون على أنه حادث حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم إلا أنهم اختلفوا في أنه هل هو حادث قبل البدن أم بعده فذهب طائفة إلى الحدوث قبل منهم محمد بن نصر المروري وأبو محمد بن حزم الظاهري وحكاه إجماعا وقد افترى واستدل بذلك بما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي قال : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وقال ابن الجوزي في تبصرته : قال أبو سليمان الخطابي معنى هذا الحديث الإخبار عن كون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد وزعم ابن حزم أنها في برزخ وهو منقطع العناصر فإذا استعد جسد لشيء منها هبط إليه وأنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة ولا دليل لهذا من كتاب أو سنة
وبعضهم استدل على ذلك بخبر خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام وتعقبه ابن القيم بأنه لا يصح إسناده وذهب آخرون منهم حجة الإسلام الغزالي إلى الحدوث بعد ومن أدلة ذلك كما قال ابن القيم
(15/156)
الحديث الصحيح إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما دما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ووجه الإستدلال أن الروح لو كان مخلوقا قبل لقيل ثم يرسل إليه الملك بالروح فيدخله فيه وصرح في روضة المحبين ونزهة المشتاقين باختيار هذا القول فقال إن القول بأن الأرواح خلقت قبل الأجساد قول فاسد وخطأ صريح والقول الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أنها مخلوقة مع الأجساد وأن الملك ينفخ الروح أي يحدثه بالنفخ بالجسد إذا مضى على النطفة أربعة أشهر ودخلت في الخامس ومن قال أنها مخلوقة قبل فقد غلط وأقبح منه قول من قال أنها قديمة انتهى وفيه تأمل ويوافق مذهب الحدوث قوله تعالى : ثم أنشأناه خلقا آخر فليفهم
وذهب أفلاطون ومن تقدمه الفلاسفة إلى قدم الروح وذهب المعلم الأول إلى حدوثها مع حدوث البدن المستعد له كما ذهب إليه بعض الإسلاميين وقد تقدم الكلام في استدلال كل جرحا وتعديلا ويقال هنا : إن المعلم الأول قائل كغيره من الفلاسفة بتجرد الروح المسماة بالنفس الناطقة عندهم عن المادة فكيف يسعه القول بحدوثها مع قولهم كل حادث زماني يحتاج إلى مادة وأجيب بأن المادة ههنا أعم من المحل والمتعلق به والبدن مادة للنفس بهذا المعنى وأنت تعلم أن استعداد الشيء للشيء لا يكون إلا فيما إذا كان ذلك مقترنا به لا مباينا عنه فالأولى أن يقال : إن البدن الإنساني لما استدعى لمزاجه الخاص صورة مدبرة له متصرفة فيه أي أمرا موصوفا بهذه الصفة من حيث هو كذلك وجب على مقتضى جود الواهب الفياض وجود أمر يكون مبدأ للتدابير الإنسية والأفاعيل البشرية ومثل هذا الأمر لا يمكن إلا أن يكون ذاتا مدركة للكليات مجردة في ذاتها فلا محالة قد فاض عليه حقيقة النفس لا من حيث البدن استدعاها بل من حيث عدم فكاكها عما استدعاه فالبدن استدعى باستعداده الخاص أمرا ماديا وجود المبدأ الفياض أفاد جوهرا قدسيا وكما أن الشيء الواحد قد يكون على ما قرروه جوهرا وعرضا باعتبارين كذلك يكون أمر واحد مجردا وماديا باعتبارين فالنفس الإنسانية مجردة ذاتا مادية فعلا فهي من حيث الفعل من التدبير والتحريك مسبوقة باستعداد البدن مقترنة به وأما من حيث الذات والحقيقة فمنشأ وجودها وجود المبدأ الواهب لا غير فلا يسبقها من تلك الحيثية استعداد البدن ولا يلزمها الاقتران في وجودها به ولا يلحقها شيء من مثالب الماديات إلا بالعرض
ويمكن تأويل ما نقل عن أفلاطون في باب قدم النفس إلى هذا بوجه لطيف كذا قاله بعض صدور المتأخرين فتأمله
البحث الثالث : اختلف الناس في الروح والنفس هل هما شيء واحد أم شيئان فحكى ابن زيد عن أكثر العلماء أنهما شيء واحد فقد صح في الأخبار إطلاق كل منهما على الآخر وما أخرجه البزاز بسند صحيح عن أبي هريرة رفعه أن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يود لو خرجت نفسه والله تعالى يحب لقاءه وأن المؤمن تصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا الحديث ظاهر في ذلك
وقال ابن حبيب : هما شيئان فالروح هو النفس المتردد في الإنسان والنفس أمر غير ذلك لها يدان ورجلان ورأس وعينان وهي التي تلتذ وتتألم وتفرح وتحزن وإنها هي التي تتوفى في المنام وتخرج وتسرح وترى الرؤيا ويبقى الجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح حتى تعود واحتج بقوله تعالى : الله يتوفى الأنفس الآية وحكى ابن منده عن بعضهم أن النفس طينية نارية والروح نورية روحانية وعن آخر أن
(15/157)
النفس ناسوتية والروح لاهوتية وذكر أن أهل الأثر على المغايرة وأن قوام النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لابن آدم من نفسه لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها وظاهر كلام بعض محققي الصوفية القول بالمغايرة ففي منتهى المدارك للمحقق الفرغاني أن النفس المضافة إلى الإنسان عبارة عن بخار ضبابي منبعث من باطن القلب الصنوبري حامل لقوة الحياة متجانس بأثر الروح الروحانية المرادة بقوله تعالى : ونفخت فيه من روحي الثابت تعينها في عالم الأروح وأثرها وأصل إلى هذا البخار الحامل للحياة فالنفس إذا أمر مجتمع من البخار ووصف الحياة وأثر الروح الروحانية وهذه النفس يحكم تجنسها بأثر الروح الروحانية متعينة لتدبير البدن الإنساني قابلة لمعالي الأمور وسفاسفها كما قال سبحانه وتعالى : فألهمها فجورها وتقواها والروح الروحانية أمر لا يكتنه والحق أنهما قد يتحدان إطلاقا وقد يتغيران وابن القيم اعتمد ما عليه الأكثرون من الاتحاد ذاتا وذكر غير واحد أنه هو الذي عليه الصوفية بيد أنهم قالوا إن النفس هي الأصل في الإنسان فإذا صقلت بالرياضة وأنواع الذكر والفكر صارت روحا ثم قد تترقى إلى أن تصير سرا من أسرار الله تعالى
وتفصيل الكلام حينئذ في هذا المقام أن للنفس مراتب تترقى فيها الأولى تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهية من القيام والصيام وغيرهما الثانية تهذيب الباطن عن الملكات الردية والأخلاق الدنية الثالثة تحلي النفس بالصور القدسية الرابعة فناؤها عن ذاتها وملاحظتها جلال رب العالمين جل جلاله ويقال في كيفية الترقي في هذه المراتب أن الإنسان أول ما يولد فهو كباقي الحيوانات لا يعرف إلا الأكل والشرب ثم بالتدريج يظهر له باقي صفات النفس من الشهوة والغضب والحرص والحسد وغير ذلك من الهيآت التي هي نتائج الإحتجاب والبعد من معدن الجود والصفات الكمالية ثم إذا تيقظ من سنة الغفلة وقام من نوم الجهل وبان له أن وراء هذه اللذات البهيمية لذات أخر وفوق هذه المراتب مراتب أخر كما ليتوب عن اشتغاله بالمنهيات الشرعية وينيب إلى الله تعالى بالتوجه إليه فيشرع في ترك الفضول الدنيوية طلبا للكمالات الأخروية ويعزم عزما تاما ويتوجه إلى السلوك إلى ملك الملوك من مقام نفسه فيهاجر منه فيقع في الغربة ويا طوبى للغرباء وإن قيل : إنما الغربة للأحرار ذبح ثم إذا دخل في الطريق يزهد عن كل ما يعوقه عن مقصوده ويصده عن معبوده فيتصف بالورع والتقوى والزهد الحقيقي ثم يحاسب نفسه دائما في أقواله وأفعاله ويتهمها في كل ما تأمر به وإن كان عبادة فإنها مجبولة على حب الشهوات ومطبوعة عن الدسائس الخفيات فلا ينبغي أن يأمنها ويكون على ثقة منها
يحكى عن بعض الأكابر أن نفسه لم تزل تأمره بالجهاد وتحثه عليه فاستغرب ذلك ثم فطن أنها تريد أن تستريح من نصب القيام والصيام بالموت فلم يجبها إلى ذلك فإذا خلص منها وصفا وقته وطاب عيشه بما يجده في طريق المحبوب يتنور باطنه ويظهر له لوامح أنوار الغيب وينفتح له باب الملكوت وتلوح منه لوائح مرة بعد أخرى فيشاهد أمورا غيبية في صور مثالية فإذا ذاق شيئا منها يرغب في العزلة والخلوة والذكر والمواظبة على الطهارة والعبادة والمراقبة والمحاسبة ويعرض عن الملاذ الحسية كلها ويفرغ القلب عن محبتها فيتوجه باطنه إلى الحق تعالى بالكلية فيظهر له الوجد والسكر والشوق والعشق والهيمان فانيا عن نفسه غافلا عنها فيشاهد الحقائق السرية والأنوار الغيبية فيتحقق بالمشاهدة والمعاينة والمكاشفة ويظهر له أنوار
(15/158)
حقيقية تارة وتختفي أخرى حتى يتمكن ويتخلص من التلوين وينزل عليه السكينة الروحية والطمأنينة الإلهية ويصير ورود هذه البوارق والأحوال له ملكة فيدخل في عوالم الجبروت ويشاهد العقول المجردة والأنوار القاهرة من الملائكة المقربين والمهيمين ويتحقق بأنوارهم فيظهر له أنوار سلطان الأحدية وسواطع العظمة والكبرياء الإلهية فتجعله هباءا منثورا ويندك حينئذ جبال إنيته فيخر لله تعالى خرورا ويتلاشى في التعين الذاتي ويضمحل وجوده في الوجود الإلهي وهذا مقام الفناء والمحو وهو غاية السفر الأول للسالكين فإن بقي في الفناء والمحو ولم يجيء إلى البقاء والصحو صار مستغرقا في عين الجمع محجوبا بالحق عن الخلق لا يزيغ بصره عن مشاهدة جماله عز شأنه وأنوار ذاته وجلاله فاضمحلت الكثرة في شهوده واحتجب التفصيل عن وجوده وذلك هو الفوز العظيم وفوق ذلك مرتبة يرجع فيها إلى الصحو بعد المحو وينظر إلى التفصيل في عين الجمع ويسع صدره الحق والخلق فيشاهد الحق في كل شيء ويرى كل شيء بالحق على وجه لا يوجب التكثر والتجسم وهو طور وراء طور العقل ووقع في عبارة بعضهم أنه قد يصير العارف متخلقا بأخلاق الله تعالى بالحقيقة لا بمعنى صيرورة صفاته تعالى عرضا قائما بالنفس فإن هذا مما لا يتصور أبدا والقول به وخروج عن الشريعة والطريقة والحقيقة بل بمعنى علاقة أخرى أتم من علاقتها مع الصفات الكونية البدنية وغيرها لا تعلم حقيقتها ولعل مرادهم بالمرتبة التي تترقى إليها النفس فتكون سرا من أسرار الله تعالى هي هذه المرتبة والاطلاع عليها يحتاج إلى سلوك طريقة الأبرار ولا يتم بمجرد الأنظار والأفكار والله تعالى الموفق للسلوك والمتفضل بالغنى على الصعلوك
البحث الرابع : اختلف الناس في الروح هل تموت أم لا فذهبت طائفة إلى أنها تموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت وقد دل الكتاب على أنه لا يبقى إلا الله تعالى وحده وهو يستدعي هلاك الأرواح كغيرها من المخلوقات وإذا كانت الملائكة عليهم السلام يموتون فالأرواح البشرية أولى وأيضا أخبر سبحانه عن أهل النار أنهم يقولون أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ولا تحقق الإماتتان إلا بإماتة البدن مرة وإماتة الروح أخرى
وقالت طائفة : إنها لا تموت للأحاديث الدالة على نعيمها وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى إلى الجسد وإن قلنا بموتها لزم انقطاع النعيم والعذاب والصواب أن يقال : موت الروح هو مفارقتها الجسد فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت وإن أريد أنها تعدم وتضمحل فهي لا تموت بل تبقى مفارقة ما شاء الله تعالى ثم تعود إلى الجسد وتبقى معه في نعيم أو عذاب أبد الأبدين ودهر الداهرين وهي مستثناة ممن يصعق عند النفخ في الصور على أن الصعق لا يلزم منه الموت والهلاك ليس مختصا بالعدم بل يتحقق بخروج الشيء عن حد الانتفاع به ونحو ذلك وما ذكر في تفسير الإماتتين غير مسلم وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه
وإلى أنها لا تموت بموت البدن ذهبت الفلاسفة أيضا واحتج الشيخ عليه بأن قال : قد ثبت أن النفس يجب حدوثها عند حدوث البدن فلا يخلو إما أن يكونا معا في الوجود أو لأحدهما تقدم على الآخر فإن كانا معا فلا يخلو إما أن يكونا معا في الماهية والأول باطل وإلا لكانت النفس والبدن متضايفين لكنهما جوهران هذا خلف وإن كانت المعية في الوجود فقط من غير أن يكون لأحدهما حاجة في ذلك الوجود إلى الآخر فعدم كل واحد منهما يوجب عدم تلك المعية إما لا يوجب عدم الآخر وإما إن كان لأحدهما حاجة في الوجود إلى الآخر فلا يخلو أما أن يكون المقدم هو النفس أو البدن فإن كان المقدم في الوجود هو النفس فذلك التقدم إما أن يكون زمانيا أو ذاتيا والأول باطل لما ثبت أن
(15/159)
النفس ليست موجودة قبل البدن وأما الثاني فباطل أيضا لأن كل موجود يكون وجوده معلول شيء كان عدمه معلول عدم ذلك الشيء إذ لو انعدم ذلك المعلول مع بقاء العلة لم تكن تلك العلة كافية في إيجابها فلا تكون العلة علة بل جزء من العلة هذا خلف فإذا لو كان البدن معلولا لامتنع عدم البدن إلا لعدم النفس والتالي بطلان البدن قد ينعدم لأسباب أخر مثل سوء المزاج أو سوء التركيب أو تفرق الاتصال فبطل أن تكون النفس علة البدن وباطل أيضا أن يكون البدن علة للنفس لأن العلل كما عرف أربع ومحال أن يكون البدن علة فاعلية للنفس فإنه لا يخلو إما أن يكون علة فاعلية لوجود النفس بمجرد أو لأمر زائد على جسميته والأول باطل وإلا لكان كل جسم كذلك والثاني باطل مما أولا فلما ثبت أن الصور المادية انما تفعل بواسطة الوضع وكل ما لا يفعل إلا بواسطة الوضع استحال أن يفعل أفعالا مجردة عن الحيز والوضع وأما ثانيا فلأن الصور المادية أضعف من المجرد القائم بنفسه والأضعف لا يكون سببا للأقوى ومحال أن يكون البدن علة قابلية لما ثبت أن النفس مجردة مستغنية عن المادة ومحال أن يكون علة صورية للنفس أو تمامية فان الأمر أولى أن يكون بالعكس فإذا ليس بين البدن والنفس علاقة واجبة الثبوت أصلا فلا يكون عدم أحدهما علة لعدم الآخر
فان قيل : ألستم جعلتم البدن علة لحدوث النفس فنقول : قد بين أن الفاعل إذا كان منزها عن التغير ثم صدر عنه الفعل بعد أن كان غير صادر فلا بد أن يكون لأجل أن شرط الحدوث قد حصل في ذلك الوقت دون ما قبله ثم إن ذلك شرط لما كان شرطا للحدوث فقط وكان غنيا في وجوده عن ذلك الشيء استحال أن يكون عدم ذلك الشرط مؤثرا في عدم ذلك الشيء ثم لما اتفق إن كان ذلك الشرط مستعدا لأن يكون آلة للنفس في تحصيل الكمالات والنفس لذاتها مشتاقة إلى الكمال لا جرم حصل للنفس شوق طبيعي إلى التصرف فى ذلك البدن والتدبير فيه على الوجه الأصلح ومثل ذلك لا يمكن أن يكون عدمه علة لعدم ذلك الحادث بل ذهب الفلاسفة إلى استحالة انعدام النفس وبرهنوا على ذلك بما برهنوا وعندنا لا استحالة في ذلك
البحث الخامس في تمايز الأرواح بعد مفارقتها الأبدان : نص ابن القيم على أن كل روح تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها وأن تمايز الأرواح أعظم من تمايز الأبدان إلا أنه زعم أنه لا يمكن التمايز بينها على القول بأنها جوهر مجرد عن المادة وفيه نظر فإن القائلين بذلك قائلون بالتمايز أيضا باعتبار ما يحصل لها من التعلق بالبدن أو بنحو آخر من التمايز وذكر الشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله أن الأرواح بعد مفارقتها أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها وإلى ذلك الإشارة بالطير الخضر في حديث الشهداء ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر وأخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي أن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر الجنة أي أنها تكون في أبدان على تلك الصور ويؤيد ذلك رواية ابن ماجه عن ابن مسعود أرواح الشهداء عند الله تعالى كطير خضر وفي لفظ عن كعب أرواح الشهداء طير خضر ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول أن ذراري المؤمنين أرواحهم عصافير في الجنة وعلى هذا يكون إنكار قوم من المتكلمين خبر في أجواف طير وكذا خبر في عصافير لما في ذلك من تعلق روحين في بدن واحد وقد قالوا باستحالته ناشئا من عدم التأمل والتثبت لأنه على ما قررنا لا يكون للطائر غير روح الشهيد على أنه لو بقي الخبر على ظاهره لم يلزم محال لجواز ان تكون الروح في جوف الطير على نحو كون الجنين في بطن أمه فتدبر
(15/160)
البحث السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان : الذي دلت عليه الأخبار أن مستقر الأرواح بعد المفارقة مختلف فمستقر أرواح الأنبياء عليهم السلام في أعلى عليين وصح أن آخر كلمة تكلم بها اللهم الرفيق الأعلى وهو يؤيد ما ذكر ومستقر أرواح الشهداء في الجنة ترد من أنهارها وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش وروي في أرواح أطفال المؤمنين ما هو قريب من ذلك وروى ابن المبارك عن كعب قال : جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا ولعل هذا كما قال ابن رجب في عوام الشهداء وما تقدم في خواصهم أو لعل هذا في شهداء الآخرة كالغريق والمبطون إلى غير ذلك وأما مستقر أرواح سائر المؤمنين فقيل في الجنة أيضا وهو نص الإمام الشافعي وقد أخرج الإمام مالك عن كعب بن مالك مرفوعا إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى في جسده حين يبعثه ورواه الإمام أحمد في مسنده وخرجه النسائي من طريق مالك وخرجه ابن ماجه ورواه خلق كثير وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء وقال وهب بن منبه : إن لله تعالى في السماء السابعة دار يقال لها البيضاء يجتمع فيها أرواح المؤمنين ومستقر أرواح الكفار في سجين وفي حديث أم بشر أن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى جحر في النار يقولون ربنا ولا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا وقيل : مستقر أواح الموتى أفنية قبورهم وحكى هذا ابن حزم عن عامة أهل الحديث واستدل له بعضهم بحديث ابن عمر عن النبي إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمنأهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى وبأنه حين زار الموتى قالالسلام عليكم دار قوم مؤمنين ورجح ابن عبد البر أن مستقر أرواح ما عدا الشهداء بأفنية القبور وفيه أنه أريد أن الأرواح لا تفارق الأفنية فهو خطأ يرده نصوص الكتاب والسنة وإن أريد أنها تكون هناك وقتا من الأوقات كما روي عن مجاهد الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت أولها اشراق على قبورها وهي في مقرها فهو حق لكن لا قال مستقرها أفنية القبور وعول بعض المحققين على أن الأرواح حيث كانت لها اتصال لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وبذلك ترد السلام وتعرف المسلم ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار وقال بعضهم : لامانع من انتقالها من مستقرها وعودها إليه في أسرع وقت حيث يشاء الله تعالى ذلك نعم جاء في حديث البراء بن عازب ما يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود إلى السماء بعد عرضها حيث قال فيه في صفة قبض روح المؤمن فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ويقول الرب تعالى شأنه : ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتها إني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى وفي لفظ ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أن أردهم فيها ثم قرأ رسول الله منها خلقناكم الآية لكن قال الحافظ بن رجب : إن حديث البراء وحده لا يعارض الأحاديث الكثيرة المصرحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما الشهداء وقوله تعالى منها خلقناكم الخ باعتبار الأبدان وقالت طائفة : مستقر الأرواح مطلقا في السماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام وعن شماله ويدل عليه ما في الصحيحين عن أبي ذر من حديث المعراج ففيه لما فتح علونا السماء الدنيا
(15/161)
فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شمله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت لجبريل من هذا قال آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه وأهل اليمين هم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار ويجاب بأن المراد أنه عليه السلام يرى هذين الصنفين من جهة يمينه وجهة شماله وهو يجامع كون أرواح كل فريق في مستقرها من الجنة والنار فقد رأى النبي الجنة والنار في صلاة الكسوف وهو في الأرض والجنة ليست فيها ورآهما وهو في السماء والنار ليست فيها وفي حديث لأبي هريرة في الإسراء ما يؤيد ما قلنا والنسفي في بحر الكلام جعل الأرواح على أربعة أقسام أرواح الأنبياء عليهم السلام وتخرج من جسدها ويصير مثل صورتها مثل المسك والكافور وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش وأرواح الشهداء تخرج من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتنعم وتأوي إلى قناديل كأرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح المطيعين من المؤمنين يربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة وأرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء وأما أرواح الكفار ففي سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة وهي متصلة بأجسادها فتعذب الأرواح وتتألم من ذلك الأجساد ا ه وما ذكره في أرواح المطيعين مخالف لما صح من أنها تتمتع في الجنة وفي الإفصاح أن المنعم من الأرواح على جهات مختلفة منها ما هو طائر في شجر الجنة ومنها ما هو في حواصل طير بيض ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير ومنها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة ومنها ما هو في صورة تخلق من ثواب أعمالهم ومنا ما تسرح وتتردد إلى جثتها وتزورها ومنها ما تتلقى أرواح المقبوضين وممن سوى ذلك ما هو في كفالة آدم عليه السلام ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام ا ه قال القرطبي : وهذا قول حسن يجمع الأخبار حتى لا تتدافع وارتضاه الجلال السيوطي
وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك قال : بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت وهو إن صح ليس على إطلاقه
وقيل في مستقر غير ذلك حتى زعم بعضهم أن مستقرها لعدم المحض وهو مبني على أنها من الإعراض وهي الحياة وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد يرده الكتاب والسنة والإجماع والعقل السليم ويعجبني في هذا الفصل ما ذكره الإمام العارف ابن برجان في شرح أسماء الله تعالى الحسنى حيث قال : والنفس مبرأة من باطن ما خلق منه الجسم وأوجد تبارك وتعالى الروح من باطن ما برأ منه النفس وهو للنفس بمنزلة النفس للجسم والنفس حجابه والروح يوصف بالحياة بإحياء الله تعالى شأنه له وموته خمود إلا ما شاء الله تعالى إلى يوم خمود الأرواح والجسم يوصف بالموت حتى يحيى بالروح وموته مفارقة الروح إياه وإذا فارق هذا العبد الروحاني الجسم صعد به فإن كان مؤمنا فتحت له أبواب السماء حتى يصعد إلى ربه عز و جل فيؤمر بالسجود فيسجد ثم يجعل حقيقته النفسانية تعمر السفل من قبره إلى حيث شاء الله تعالى من الجو وحقيقته الروحانية تعمر العلو من السماء الدنيا إلى السابعة في سرور ونعيم ولذلك لقي رسول الله موسى عليه السلام قائما في قبره يصلي وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده إلى السماء الدنيا ولقيهما في السموات العلى فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما وإن كان شقيا لم يفتح له فرمي من علو إلى الأرض ا ه وفيه القول
(15/162)
بالمغايرة بين الروح والنفس وبهذا التحقيق تندفع معارضات كثيرة واعتراضات وفيرة ويعلم أن حديث ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ليس نصا في أن الروح على القبر إذ يفهم منه أن الذي في القبر حقيقته النفسانية المتصلة بالروح اتصالا لا يعلم كنهه إلا الله تعالى
وللروح مع ذلك أحوالا وأطوارا لا يعلمها إلا الله تعالى فقد تكون مستغرقة بمشاهدة جمال الله تعالى وجلاله سبحانه ونحو ذلك وقد تصحو عن ذلك الإستغراق وهو المراد برد الروح في خبر ما من أحد يسلم علي إلا رد الله تعالى روحي فأرد عليه السلام والذي ينبغي أن يعول عليه مع ما ذكر أن الأرواح وإن اختلف مستقرها بمعنى محلها الذي أعطيته بفضل الله تعالى جزاء عملها لكن لها جولانا في ملك الله تعالى حيث شاء جل جلاله ولا يكون إلا بعد الإذن وهي متفاوتة في ذلك حسب تفاوتها في القرب والزلفى من الله تعالى حتى أن بعض الأرواح الطاهرة لتظهر فيراها من شاء الله تعالى من الأحياء يقظة وأن أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر وقد تتلاقى ارواح الأموات والأحياء مناما ولا يمكن ذلك إلا من يجعل الرؤيا خيالات لا أصل لها وذلك لا يلتفت إليه لكن لا ينبغي أن يبنى على ذلك حكم شرعي لاحتمال عدم الصحة وإن قامت قرينة عليها وما صح من أن ثابت بن قيس بن شماس خرج مع خالد بن الوليد إلى حرب مسيلمة فاستشهد رضي الله تعالى عنه وكان عليه درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينا رجل من الجند نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له : أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله فقل له : إن علي من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق فأتى الرجل خالدا فأخبره فبعث إلى الدرع وأتى بها وحدث أبا بكر رضي الله تعالى عنه برؤياه فأجاز وصيته وقد ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره مجاب عنه بأن ذلك كان بإجازة الوارث وهي بنته لغلبة ظن صدق الرؤيا بما قام من القرينة ولو لم تجز لم يسغ لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ذلك بمجرد الرؤيا وقيل : إن أبا بكر لم يرد الرد ففعل ذلك من حصة بيت المال ومثل هذه القصة قصة مصعب بن جثامة وعوف بن مالك وقد ذكرها ابن القيم في كتاب الروح وهي أغرب مما ذكر بكثير وربما يؤذن لأرواح بعض الناس في زيارة أهليهم كما ورد في بعض الآثار وبعض الأرواح تحبس في قبرها أو حيث شاء الله تعالى عن مقامها كروح من يموت وعليه دين استدانه في محرم لا مطلقا كما هو المشهور وتحقيقه في شرح الشمائل للعلامة ابن حجر ثم اعلم أن اتصال الروح بالبدن لا يختص بجزء دون جزء بل هي متصلة مشرقة على سائر أجزائه وإن تفرقت وكان جزء بالمشرق وجزء بالمغرب ولعل هذا الإشراق على الأجزاء الأصلية لأنها التي يقوم بها الإنسان من قبره يوم القيامة على ما اختاره جمع وأعلم أيضا أن الروح على القول بتجردها لا مستقر لها بل لا يقال أنها داخل العالم أو خارجه كما سمعت وإنما المستقر حينئذ للبدن الذي تتعلق به وقد نص بعض الصوفية على أنه لا مانع من أن تتعلق نفس ببدنين فأكثر بل هو واقع عندهم وذكر بعضهم أن أحد البدنين هو البدن الأصلي والآخر مثالي يظهر للعيان على وجه خرق العادة وقال آخر : إن الآخر من باب تطور الروح وظهورها بصورة على نحو ظهور جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلب وظهور القرآن لحافظه بصورة الرجل الشاحب
(15/163)
يوم القيامة والفلاسفة قالوا لا يجوز أن تتعلق نفس واحدة بأبدان كثيرة لأنه يلزم أن يكون معلوم أحدها معلوم الآخر ومجهول أحدها مجهول الآخر ومعلوم أن الأمر ليس كذلك ولا يخفى أن هذا الدليل يدل على أن كل إنسانين يعلم أحدهما ما لا يعلم الآخر فإن نفسهما متغايرتان فلما لا يجوز وجود إنسانين يتعلق ببدنهما نفس واحدة ويكون كل علمه أحدهما علمه الآخر لا محالة وما يجهله أحدهما يكون مجهولا للآخر لا بد لعدم الجواز من دليل وعلى ما ذكره هؤلاء الصوفية يجوز أن تتعلق الروح ببدن في الجنة وببدن آخر حيث شاء الله تعالى بل يجوز أن تظهر بصور شتى في أماكن متعددة على حد ما قالوه في جبريل عليه السلام أنه في حال ظهوره في صورة دحية أو أعرابي غيره بين يدي النبي لم يفارق سدرة المنتهى وأنت تعلم ما يقولون في تجلي الله تعالى في الصور وسمعت خبر إن الله تعالى خلق آدم على صورته ومن هنا قالوا : من عرف نفسه فقد عرف ربه فافهم الإشارة ولعمري هي عبارة ثم إن أرواح سائر الحيوانات من البهائم ونحوها قيل : تكون بعد المفارقة في الهواء ولا اتصال لها بالأبدان وقيل : تعدم ولا يعجز الله تعالى شيء ومن الناس من قال : إن كان للحيوانات حشر يوم القيامة كما هو المشهور الذي تقتضيه ظواهر الآيات والأخبار فالأولى أن يقال ببقاء أرواحها في الهواء أو حيث شاء الله تعالى وإن لم يكن لها حشر كما ذهب إليه الغزالي وأول الظواهر فالأولى أن يقال بانعدامها هذا وبقيت أبحاث كثيرة تركناها لضيق القفص واتساع دائرة الغصص ولعل فيما ذكرناه هنا مع ما ذكرناه فيما قيل كفاية لأهل البداية وهداية لمن ساعدته العناية والله عز و جل ولي الكلام والجود ومنه سبحانه بدء كل شيء وإليه جل وعلا يعود
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين والذي ثبتناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه إلى غير ذلك من أوصافه التي يشعر بها السياق وإنما عبر عنه بالموصول تفخيما لشأنه ووصفا له بما في حيز الصفة ابتداء إعلاما بحاله من أول الأمر وبأنه ليس من قبيل كلام المخلوق واللام الأولى موطئة للقسم ولنذهبن جوابه النائب مناب جزاء الشرط فهو مغن عن تقديره وليس جزاء لدخول اللام عليه وهو ظاهر بذلك حسن حذف مفعول المشيئة ويراد بالذهاب به محوه عن المصاحف والصدرور وهو أبلغ من الأفعال ويراد على هذا من القرآن على ما قيل صورته من أن تكون في نقوش الكتابة أو في الصور التي في القوة الحافظة ثم لا تجد لك به أي القرآن علينا وكيلا 68 أي متعهدا وملتزما استرداده بعد الذهاب به كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه حال كونه متوقعا أن يكون محفوظا في السطور والصدور كما كان قبل فالوكيل مجاز عما ذكر
إلا رحمة من ربك استثناء منقطع على ما اختاره ابن الأنباري وابن عطية وغيرهما وهو مفسر بلكن في المشهور والإستدراك على ما صرح به الطيب وغيره واقتضاه ظاهر كلام جمع عن قوله تعالى : وإن شئنا لنذهبن وقال في الكشف : إنه ليس استدراكا عن ذلك فإن المستثنى منه وكيلا وهذا من المنقطع الممتنع إيقاعه موقع الاسم الأول الواجب فيه النصب في لغتي الحجاز وتميم كما في قوله تعالى : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم في رأى وقولهم : لا تكونن من فلان إلا سلاما بسلام فقد صرح الرضي وغيره بأن الفريقين يوجبون ولا يجوزون الإبدال في المنقطع فما لا يكون قبله اسم يصح حذفه وكون
(15/164)
ما نحن فيه من ذلك ظاهر لمن له ذوق والمعنى ثم بعد الإذهاب لا تجد من يتوكل علينا بالاسترداد ولكن رحمة من ربك تركته غير منصوب فلم تحتج إلى من يتوكل لاسترداد مأيوس عنه بالفقدان المدلول عليه بلا تجد والتغاير المعنوي بين الكلامين من دلالة الأول على الإذهاب ضمنا والثاني على خلافه حاصل وهو كاف فافهم ويفهم صنيع البعض اختيار أنه استثناء متصل من وكيلا أي لا تجد وكيلا باسترداده إلا الرحمة فإنك تجدها مستردة وأنت تعلم أن شمول الوكيل للرحمة يحتاج إلى نوع تكلف وقال أبو البقاء : إن رحمة نصب على أنه مفعول له والتقدير حفظناه عليك للرحمة ويجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق أي ولكن رحمناك رحمة ا ه وهو كما ترى والآية على تقدير الانقطاع امتنان بإبقاء القرآن بعد الإمتنان بتنزيله وذكروا أنها على التقدير الآخر دالة على عدم الإبقاء فالمنة حينئذ إنما هي في تنزيله ولا يخفى ما فيه من الخفاء وما يذكر في بيانه لا يروي الغليل والآية ظاهرة في أن مشيئة الذهاب به غير متحققة وأن فقدان المسترد إلا الرحمة إنما هو على فرض تحقق المشيئة لكن جاء في الأخبار أن القرآن يذهب به قبل يوم القيامة فقد أخرج البيهقي والحاكم وصححه وابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال قال رسول الله : يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صدقة ولا نسك ويسري على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن تقولها
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا : خطب رسول الله : يا أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب الله تعالى يوشك أن يغضب الله تعالى لكتابه فيسري عليه ليلا لا يترك في قلب ولا ورق منه حرف إلا ذهب به فقيل : يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات قال : من أراد الله تعالى به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : يسري على كتاب الله تعالى فيرفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة والإنجيل والزبور فينزع من قلوب الرجال فيصبحون في الضلالة لا يدرون ما هم فيه
وأخرج الديلمي عن ابن عمر مرفوعا لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث جاء له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الله عز و جل : مالك فيقول منك خرجت وإليك أعود أتلى ولا يعمل بي وأخرج محمد بن نصر نحوه مرفوعا على عبد الله بن عمرو بن العاص وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال : سيرفع القرآن من المصاحف والصدور ثم قرأ ولئن شئنا الآية وفي البهجة أنه يرفع أولا من المصاحف ثم يرفع لأعجل زمن من الصدور والذاهب به هو جبريل عليه السلام كما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده فيالها من مصيبة ما أعظمها وبلية ما أوخمها فإن دلت الآية على الذهاب به فلا منافاة بينها وبين هذه الأخبار وإذا دلت على إبقائه فالمنافاة ظاهرة إلا أن يقال : إن الإبقاء لا يستلزم الاستمرار ويكفي فيه إبقاؤه إلى قرب قيام الساعة فتدبر ومما يرشد إلى أن سوق الآية للامتنان قوله تعالى : إن فضله كان لم يزل ولا يزال عليك كبيرا 78 ومنه إنزال القرآن واصطفاؤه على جميع الخلق وختم الأنبياء عليهم السلام به وإعطاؤه المقام المحمود إلى غير ذلك وقال أبو سهل : إلى أنها
(15/165)
سقيت لتهديد غيره بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال مالم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة
وقال صاحب التحرير : يحتمل أن يقال : أنه لما سئل عن الروح وذي القرنين وأهل الكهف وأبطأ عليه الوحي شق عليه ذلك وبلغ منه الغاية فأنزل الله تعالى هذه الآية تسكينا له والتقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنا إن شئنا ذهبنا بما أوحينا إليك جميعه فسكن ما كان يجهده وطاب قبله انتهى وكلا القولين كما ترى
قل لئن اجتمعت الانس والجن أي اتفقوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة الشأن من البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما والتحدي إنما كان معهما وإن كان النبي مبعوثا إلى الملك كما هو مبعوث إليهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة فإن الملائكة عليهم السلام على فرض تصديهم لها وحاشاهم إذ هم معصومون لا يفعلون إلا ما يؤمرون عاجزون كغيرهم لا يأتون بمثله أي هذا القرآن وأوثر الإظهار على إيراد الضمير الراجع إلى المثل المذكور واحتراز عن أن يتوهم أن له مثلا معينا وإيذانا بأن المراد نفي الإتيان بمثل ما أي لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات الجميلة الشأن وفيه العرب العرباء أرباب البراعة والبيان وقيل : المراد تعجيز الإنس وذكر الجن مبالغة في تعجيزهم لأنهم إذا عجزوا عن الإتيان بمثله ومعهم الجن القادرون على الأفعال المستغربه فهم عن الإتيان بمثله وحدهم أعجز وليس بذاك وقيل : يجوز أن يراد من الجن ما يشمل الملائكة عليهم السلام وقد جاء إطلاق الجن على الملائكة كما في قوله تعالى : وجعلوا بينهم وبين الجنة نسبا نعم الأكثر استعماله في غير الملائكة عليهم السلام ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وزعم بعضهم أن الملائكة عليهم السلام حيث كانوا وسائط في إتيانه لا ينبغي إدراجهم إذ لا يلائمه حينئذ لا يأتون بمثله وفيه أنه ليس المراد نفي الإتيان بمثله من عند الله تعالى في شيء ممن أسند إليهم الفعل وجملة لايأتون جواب القسم الذي ينبيء عنه اللام الموطئة وساد مسد جزاء الشرط ولولاها لكان لا يأتون جزاء الشرط وإن كان مرفوعا بناءا على القول بأن فعل الشرط إذا كا ماضيا يجوزالرفع في الجواب كما في قول زهير : وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرام لأن أداة الشرط إذا لم تؤثر في الشرط ظاهرا مع قربه جاز أن لا تؤثر في الجواب مع بعده وهذا القول خلاف مذهب سيبويه ومذهب الكوفيين والمبرد كما فصل في موضعه ولا يجوز عن البصريين مع وجود هذه اللام جعل المذكور جواب الشرط خلافا للفراء وأما قول الأعشى : لئن منيت بنا عن غب معركة لأتلفنا عن دماء الخلق تنتفل فاللام ليست الموطئة بل هي زائدة على ما قيل فافهم وحيث كان المراد بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآن مطلق الإتفاق على ذلك سواء كان التصدي للمعارضة من كل واحد منهم على الإنفراد أو من المجموع بأن يتألبوا على تلفيق كلام واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الأنظار قال سبحانه : ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا 88 أي معينا في تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله والجملة عطف على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم
(15/166)
لبعض ظهيرا ولو كان الخ وهي في موضع الحال كالجملة المحذوفة والمعنى لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في مثل هذه الحال المنافية لعدم الإتيان به فضلا عن غيرها وفيه رد لليهود أو قريش في زعمهم الإتيان بمثله فقد روي أن طائفة من الأولين قالوا أخبرنا يا محمد بهذا الحق الذي جئت به أحق من عند الله تعالى فإنا لا نراه متناسقا كتناسق التوراة فقال لهم : أما والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله تعالى قالو : إنا نجيئك بمثل ما تأتي به فأنزل الله تعالى هذه الآية
وفي رواية أن جماعة من قريش قالوا له : جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنا نحن نقدر على المجيء بمثله فنزلت ولعل مرادهم بهذه الآية الغريبة ما تضمنه الآيات بعد وهي قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك الخ وحينئذ قيل يمكن أن تكون هذه الآية مع الآيات الآخر رد لجميع ما عنوه بهذا الكلام إلا إنه ابتدأ برد قولهم : نحن نقدر الخ اهتماما به فإن قولهم ذلك منشأ طلبهم الآية الغريبة
وفي إرشاد العقل السليم أن في هذه الآية حسم أطماعهم الفارغة في روم تبديل بعض آياته ببعض ولا مساغ لكونها تقريرا لما قبلها من قوله تعالى : ثم لا تجد لك به علينا وكيلا كما قيل لكن لا لما قيل من أن الإتيان بمثله أصعب من استرداد عينه ونفي الشيء إنما يقرره نفي ما دونه دون نفي ما فوقه لأن أصعبية الاسترداد بغير أمره تعالى من الإتيان المذكور مما لا شبهة فيه بل لأن الجملة القسمية ليست مسوقة إلى النبي بل إلى المكابرين من قبله عليه الصلاة و السلام انتهى ومنه يعلم ما في قول بعضهم في وجه التقرير : أن عدم قدرة الثقلين على رده بعد إذهابه مساو لعدم قدرتهم على مثله لأن رده بعينه غير ممكن لعدم وصولهم إلى الله تعالى شأنه فلم يبق إلا رده بمثله فصرح بنفيه تقريرا له من النظر وعدم الجدوى هذا واستدل صاحب الكشاف بإعجاز القرآن على حدوثه إذ لو كان قديما لم يكن مقدورا فلا يكون معجزا كالمحال وتعقبه في الكشف بأنه لا نزاع في حدوث النظم وإن تحاشى أهل السنة من إطلاق المخلوق عليه للإيهام وهو المعجز إنما النزاع في المعبر بهذه العبارة المعجزة وهو المسمى بالكلام النفسي فهو استدلال لا ينفعه وذكر نحوه ابن المنير
وقال صاحب التقريب : الجواب منع الملازمة إذ مصحح المقدورية الإمكان وهو حاصل لا الحدوث وأيضا المعجز لفظه ولا يقال بقدمه والقديم كلام النفس ولا يقال بإعجازه وأيضا سلمنا أن التقديم لا يقدر البشر على عينه لكن لم لا يقدر على مثله واختار العلامة الطيبي هذا الأخير في الجواب وقد ذكرنا في المقدمات من الكلام ما ينفعك في هذا المقام فتدبر والله تعالى ولي الإنعام ومسدد الإفهام
ولقد صرفنا كررنا ورددنا على أساليب مختلفة توجب زيادة تقرير ورسوخ للناس أهل مكة وغيرهم كما هو الظاهر في هذا القرآن المنعوت لما ذكر من النعوت الفاضلة من كل مثل من كل معنى بديع هو في الحسن والغرابة واستجلاب النفوس كالمثل ومفعول صرفنا على ما استظهره أبو حيان محذوف أي البيان وقدره البينات والعبر ومن الإبتداء الغاية وجوز ابن عطية أن تكون سيف خطيب فكل هو المفعول وهذا مبني على مذهب الكوفيين والأخفش لأنهم يجوزون زيادة من في الإيجاب دون جمهور البصريين
وقرأ الحسن صرفنا بتخفيف الراء وقراءة الجمهور أبلغ وأيا ما كان فالمراد فعلنا ذلك للناس ليذعنوا ويتلقوه بالقبول فأبى أكثر الناس إلا كفورا 98 أي جحودا وفسر به لثبوت الصدق بأصل
(15/167)
الإعجاز والمراد بالناس المذكورون أولا وأوثر الإظهار على الإضمار تأكيدا وتوضيحا والمراد بالأكثر قيل : من كان في عهده من المشركين وأهل الكتاب
واستظهر في البحر أنهم أهل مكة بدليل أن الضمائر الآتية لهم ونصب كفورا على أنه مفعول أبى والاستثناء مفرغ وصح ذلك هنا مع أنه مشروط بتقدم النفي فلا يصح ضربت إلا زيدا لأن أبى قريب من معنى النفي فهو مؤول به فكأنه قيل ما قبل أكثرهم إلا كفورا وفيه من المبالغة ما ليس في أبوا الإيمان لأن فيه زيادة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفر من الإيمان والتوقف في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء وإنما لم يجز ذلك في الإثبات لفساد المعنى إذ لا قرينة على التقدير أمر خاص والعموم لا يصح إذ لا يمكن في المثال أن تضرب كل أحد إلا زيدا فإن صح العموم في مثال جاز التفريغ في غير تأويل بنفي فيجوز صليت إلا يوم كذا إذ يجوز أن تصلي كل يوم غيره وجوز أن تكون الآية من هذا القبيل بأن يكون المراد أبوا كل شيء فيما اقترحوه إلا كفورا وقالوا عند ظهور عجزهم ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي وغيره من المعجزات الباهرة متعللين بما لا تقتضي الحكمة وقوعه من الأمور ولا توقف لثبوت المدعى عليه وبعضه من المحالات العقلية لن نؤمن لك حتى تفجر بالتخفيف من باب نصر المتعدي وبذلك قرأ الكوفيون أي تفتح وقرأ باقي السبعة تفجر من فجر مشددا والتضعيف للتكثير لا للتعدية
وقرأ الأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار تفجر من أفجر رباعيا وهي لغة في فجر لنا من الأرض أي أرض مكة لقلة مياهها فالتعريف عهدي ينبوعا 09 مفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر وكثر موجه فالياء زائدة للمبالغة والمراد عينا لا ينضب ماؤها وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي لأن الينبوع هو النهر الذي يجري من العين والأول مروي عن مجاهد وكفى به أو تكون لك خاصة جنة بستان تستر أشجارها ما تحتها من العرصة من نخيل وعنب خصوهما بالذكر لأنهما كانا الغالب في هاتيك النواحي مع جلالة قدرهما فتفجر الأنهار أي تجريها خلالها نصب على الظرفية أي وسط تلك الجنة و أثنائها تفجيرا 19 كثيرا والمراد إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبيء الفاء أو تسقط السماء الجرم معلوم كما زعمت علينا كسفا جمع كسفة كقطعة وقطع لفظا ومعنى وهو حال من السماء والكاف في كما في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي اسقاطا مماثلا لما زعمت يعنون بذلك قوله تعالى أو تسقط عليهم كسفا من السماء وزعم بعضهم أنهم يعنون ما في هذه السورة من قوله تعالى أفأمنتم أن نخسف بكم جانب البر أو نرسل عليكم حاصبا وليس بشيء وقيل : أن المعنى كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في خبر ابن عباس وقرأ مجاهد يسقط السماء بياء الغيبة ورفع السماء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب كسفا بسكون السين في جميع القرآن إلا في الروم وابن عامر إلا في هذه السورة ونافع وأبو بكر في غيرهما وحفص فيما عدا الطور في قول وفي النشر أنهم اتفقوا على إسكان السين في الطور وهو إما مخفف من المفتوح لأن السكون من الحركة مطلقا كسدر وسدر أو هو فعل صفة بمعنى مفعول كالطحن بمعنى المطحون أي شيئا مكسوفا أي مقطوعا م أو تأتي بالله والملائكة قبيلا 29 أي مقابلا كالعشير والمعاشر
(15/168)
وأرادوا كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس عيانا وهذا كقولهم لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا وفي رواية أخرى عن الحبر والضحاك تفسير القبيل بالكفيل أي كفيلا بما تدعيه يعنون شاهدا يشهد لك بصحة ما قلته وضامنا يضمن ما يترتب عليه وهو على الوجهين حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة لدلالة الحال المذكورة عليها أي قبلاء كما حذف الخبر في قوله : ومن يك أمسى في المدينة رحله فإني وقيار بها لغريب وذكر الطبرسي عن الزجاج أنه فسر قبيلا بمقابلة ومعاينة وقال إن العرب تجريه في هذا المعنى مجرى لمصدر فلا يثني ولا يجمع ولا يؤنث فلا تغفل وعن مجاهد القبيل الجماعة كالقبيلة فيكون حالا من الملائكة وفي الكشف جعله حالا من الملائكة لقرب اللفظ وسداد المعنى لأن المعنى تأتي بالله تعالى وجماعة من الملائكة لا تأتي بهما جماعة ليكون حالا على الجمع إذ لا يراد معنى المعية معه تعالى ألا ترى إلى قوله سبحانه حكاية عنهم أونرى ربنا والقرآن يفسر بعضه بعضا انتهى وقرأ الأعرج قبلا من المقابلة وهذا يؤيد التفسير الأول
أو يكون لك بيت من زخرف من ذهب كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما وأصله الزينة وإطلاقه على الذهب لأن الزينة به أرغب وأعجب وقرأ عبد الله من ذهب وجعل ذلك في البحر تفسيرا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف أو ترقى في السماء أي تصعد في معارجها فحذف المضاف يقال رقي في السلم والدرجة والظاهر أن السماء هنا المظلمة وقيل : المراد المكان العالي وكل ما ارتفع وعلا يسمى سماء قال الشاعر : وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر ولن نؤمن لرقيك أي لأجل رقيك فيها وحده أو لن نصدق رقيك فيها حتى تنزل منها علينا كتابا نقرؤه بلغتنا عن أسلوب كلامنا وفيه تصديقك قل تعجبا من شدة شكيمتهم وفرط حماقتهم سبحان ربي أو قل ذلك تنزيها لساحة الجلال عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الإقتراحات التي تضمنت ما هو من أعظم المستحيلات كإتيان الله تعالى على الوجه الذي اقترحوه أو عن طلب ذلك وفيه تنبيه على بطلان ما قالوا
وقرأ ابن كثير وابن عامر قال سبحان ربي أي قال النبي : هل كنت إلا بشرا رسولا 39 كسائر الرسل عليهم السلام وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله تعالى على أيديهم حسبما تقتضيه الحكمة من غير تفويض إليهم فيه ولا تحكم منهم عليه سبحانه و بشرا خبر كان و رسولا صفته وهو معتمد الكلام وكونه بشرا توطئة لذلك ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا ودلالة على أن الرسل عليهم السلام من قبل كانوا كذلك ولهذا قال الزمخشري هل كنت إلا رسولا كسائر الرسل بشرا مثلهم وزعم بعض أن ذكر بشرا ليس للتوطئة فإن طلب القوم منه عليه الصلاة و السلام ما طلبوه يحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقدرة نفسه ويحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقدرة الله تعالى فذكر بشرا لنفي أن يأتي بذلك بقدرة نفسه كأنه قال : هل كنت إلا بشرا والبشر لا قدرة له على الإتيان بذلك وذكر رسولا لنفي أن يأتي به بقدرة الله تعالى كأنه قيل هل كنت إلا رسولا والرسول لا يتحكم على ربه سبحانه
(15/169)
وتعقب بأن هذا مع ما فيه من مخالفة لآثار كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى ظاهر في جعل الإسمين خبرين وهو مما يأباه الذوق السليم وقال الخفاجي : إن كون الإسمين خبرين غير متوجه لأنه يقتضي استقلالها وأنهم أنكروا كلا منهما حتى رد عليهم بذلك ولم ينكر أحد بشريته وتعقب بأنهم لما طلبوا منه عليه الصلاة و السلام مما لا يتأتى من البشر كالرقي في السماء كانوا بمنزلة من أنكر بشريته وهو كما ترى وجوز بعضهم كون بشرا حالا من النكرة وسوغ ذلك تقدمه عليها وهو ركيك لأنه يقتضي أن له حالا آخر غير البشرية ولا يقول بذلك أحد اللهم إلا أن يكون من الوجودية هذا والظاهر اتحاد القائل لجميع ما تقدم ويحتمل عدم الإتحاد بأن يكون بعض اقترح شيئا وبعض ءاخر اقترح ءاخر لكن نسب القول إلى الجميع لرضا كل بما اقترح الآخر
وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن ابن جبير أن قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك الخ نزل في عبد الله بن أبي أمية وهو ظاهر في أنه القائل ولا يعكر عليه ضمير الجمع لما أشرنا إليه وأخرج ابن إسحق وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف وناسا ءآخرين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه فجاءهم سريعا وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا وقد جثته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب غليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول الله ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم و الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم فقالوا : يامحمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من قد مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله تعالى وأنه بعثك رسولا فقال رسول الله ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله تعالى بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما
(15/170)
تقول فيراجعنا عنك وتسأله أن يجعل لك جنانا وكنوزا أو قصورا من ذهب وفضة ويغنك عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسمه حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال : ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا : فتسقط السماء كما زعمت إن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول الله : ذلك إلى الله تعالى إن شاء فعل بكم ذلك فقالوا : يا محمد فأعلم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم يقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول الله عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا يتعرفوا بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما نخوفهم به من العذاب فوالله لا نؤمن بك أحدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لأصدقك ثم انصرف وانصرف رسول الله إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم فأنزل عليه هذه الآيات وقوله تعالى : كذلك أرسلناك في أمة قد خلت الآية وقوله سبحانه : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية ا ه والله تعالى أعلم
وما منع الناس أي الذين حكيت أباطيلهم أن يؤمنوا مفعول منع وقوله تعالى : إذجاءهم الهدى ظرف منع أو يؤمنوا أي ما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبتوك أو ما منعهم أن يؤمنوا وقت مجيء ما ذكر إلا أن قالوا فاعل منع أي إلا قولهم : أبعث الله بشرا رسولا 49 منكرين أن يكون رسول الله عليه الصلاة و السلام من جنس البشر وليس المراد أن هذا القول صدر عن بعض فمنع آخرين بل المانع هو الإعتقاد الشامل للكل المستتبع لهذا القول منهم
وإنما عبر عنه بالقول إيذانا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهوم ومصداق وحصر المانع فيما ذكر مع أن لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال أعني عند سماع الجواب في قوله تعالى : هل كنت إلا بشرا رسولا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية وفيه على هذا إيذان بكمال عنادهم حتى يشير إلى أن الجواب المذكور من كونه حاسما بمواد شبههم مقتضيا للإيمان يعكسون الأمر ويجعلوته مانعا قاله بعض المحققين وظاهر ذلك أن القوم لا يقولون في رسالة أحد من الرسل المشهورين كإبراهيم وموسى عليهما السلام أصلا وصرح بعضهم بأنهم لم ينكروا إرسال غيره منهم وبأن قولهم هذا كان نعتا وهذا خلاف الظاهر هنا ولعل القوم كانوا في ريب وتردد لا يستقيمون على حال فتدبر
والظاهر أن الآية إخبار منه عز مجده عن الأمر المانع إياهم عن الإيمان ويظهر من كلام ابن عطية أن هذا الكلام منه عليه الصلاة و السلام قاله على معنى التوبيخ والتلهف وحاشا من له أدنى ذوق من أن يذهب
(15/171)
إلى ذلك قل لهم أولا من قبلنا تبيينا للحكمة وتحقيقا للحق المزيح للريب لو كان أي لو وجد في الأرض بدل البشر ملئكة يمشون كما يمشي البشر ولا يطيرون إلى السماء فيسمع من أهلها ويعلموا ما يجب علمه مطمئنين ساكنين مقيمين فيها وقال الجبائي أي مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها غير خائفين ولا متعبدين بشرع لأن المطمئن من زال الخوف عنه لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا 59 يعلمهم مالا تستقل قدرهم بعلمه ليسهل عليه الإستماع به والتلقي منه وأما عامة البشر فلا يسهل عليهم ذلك لبعد ما بين الملك وبينهم فلا يبعث إليهم وإنما يبعث إلى خواصهم لأن الله تعالى قد وهبهم نفوسا زكية وأيدهم بقوى قدسية وجعل لهم جهتين جهة ملكية بها من الملك يستفيضون وجهه بشرية بها على البشر يفيضون وجعل كل البشر كذلك مخل بالحكمة وأنزال الملك عليهم على وجه يسهل التلقي منه بأن يظهر لهم بصورة بشر كما ظهر جبريل عليه السلام مرارا في صورة دحية الكلبي
وقد صح أن أعرابيا جاء وعليه أثر السفر إلى رسول الله فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وغيرها فأجابه عليه الصلاة و السلام بما أجابه ثم انصرف ولم يعرفه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقال هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم مما لا يجدي نفعا لأولئك الكفرة كما قال تعالى جده ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون وقيل علة تنزيل الملك عليهم أن الجنس إلى الجنس أميل وهو به آنس ولعل الأول أولى وإن زعم خلافه
وحكى الطبرسي عن بعضهم أنه قال في الآية : إن العرب قالوا كنا ساكنين مطمئنين فجاء محمد فأزعجنا وشوش علينا أمرنا فبين سبحانه أنه لو كان ملائكة مطمئنين لأوجيت الحكمة إرسال الرسل إليهم ولم يمنع اطمئنانهم الإرسال فكذلك الناس لا يمنع كونهم مطمئنين إرسال الرسل إليهم وأنت تعلم أن هذا بمراحل عن السياق ولا يصح فيه أثر كما لا يخفى على المتتبع
ونصب ملكا يحتمل أن يكون على الحالية من رسولا الواقع مفعولا لنزلنا وسوغ ذلك التقدم ويحتمل أن يكون على المفعولية لنزلنا ورسولا صفة له وكذا الكلام في قوله تعالى أبعث الله بشرا رسولا ورجح غير واحد الأول بأنه أكثر موافقة للمقام وأنسب ووجه ذلك القطب وصاحب التقريب بأنه على الحالية يفيد المقصود بمنطوقه وعلى الوصفية يفيد خلاف المقصود بمفهومه أما الأول فلأن منطوقه أبعث الله تعالى رسولا حال كونه بشرا لا ملكا ولنزلنا عليهم رسولا حال كونه ملكا لا بشرا وهو المقصود وأما الثاني فلأن التقريب بالصفة يفيد أبعث الله تعالى بشرا مرسلا لا بشرا غير مرسل ولنزلنا عليهم ملكا مرسلا لا ملكا غير مرسل وهو خلاف المقصود بل غير مستقيم وقال صاحب الكشف تبعا لشيخه العلامة الطيبي في ذلك : لأن التقديم إزالة عن موضعه الأصلي دلالة على أنه مصب الإنكار في الأول أعني أبعث الله بشرا رسولا فيدل على أن البشرية منافية لهذا الثابت أعني الرسالة كما تقول أضربت قائما زيدا ولو قلت أضربت زيدا قائما أو القائم لم يفد تلك الفائدة لأن الأول يفيد أن المنكر ضربه قائما لا الضرب مطلقا والثاني يفيد أن المنكر ضرب زيد لاتصافه بهذه الصفة المانعة ولا يفيد أن أصل الضرب حسن ومسلم والجهة منكرة هذا أن جعل التقديم للحصر
(15/172)
وإن جعل للإهتمام دل على كونه مصب الإنكار وإن لم يدل على ثبوت مقابله وعلى التقديرين فائدة التقديم لائحة ا ه وهو أكثر تحقيقا واستشكل بعضهم هذه الآية بأنها ظاهرة في أنه إنما يرسل إلى كل قبيل لا يناسبه ويجانسه كالبشر للبشر والملك للملك ولا يرسل إلى قبيل ما لا يناسبه ولا يجانسه وهو ينافي كونه مرسلا إلى الجن كالإنس إجماعا معلوما من الدين بالضرورة فيكفر منكره ومن نازع في ذلك فقد وهم وأجيب بمنع كونها ظاهرة في ذلك بل قصارى ما تدل عليه أن القوم أنكروا أن يبعث الله تعالى إلى البشر بشرا وزعموا أنه يجب أن يكون المبعوث إليهم ملكا ومرامهم نفي أن يكون النبي مبعوثا إليهم فأجيبوا بما حاصله أن الحكمة تقتضي بعث الملك إلى الملائكة لوجود المناسبة المصححة للتلقي لا إلى عامة البشر لانتفاء تلك المناسبة فأمر الوجوب الذي يزعمونه بالعكس وليس في هذا أكثر من الدلالة على أن أمر البعث منوط بوجود المناسبة فمتى وجدت صح البعث ومتى لم توجد لا يصح البعث وأنها موجودة بين الملك والملك لا بينه وبين عامة البشر كالمنكرين المذكورين وهذا لا ينافي بعثته إلى الجن لأنه عليه الصلاة و السلام متى صح فيه المناسبة المصححة للإجتماع مع الملك والتلقي منه صح فيه المناسبة المصححة للإجتماع مع الجن والإلقاء إليهم كيف لا وهو عليه الصلاة و السلام نسخة الله تعالى الجامعة وآيته الكبرى الساطعة وإذا قلنا إن اجتماعه عليه الصلاة و السلام بالجن وإلقاءه عليهم بعد تشكلهم له فأمر المناسبة أظهر وليس تشكل الملك لو أرسل إلى البشر بمجد لما سمعت آنفا ويقال نحو هذا في إرساله إلى الملائكة لما فيه عليه الصلاة و السلام من قوة الإلقاء إليهم كالتلقي منهم وإلى كونه عليه الصلاة و السلام مرسلا إليهم ذهب من الشافعية تقى الدين السبكي والبارزي والجلال المحلي في خصائصه ومن الحنابلة ابن تيمية وابن مفلح في كتاب الروع ومن المالكية عبد الحق وقال كابن التيمية : لا نزاع بين العلماء في جنس تكليفهم بالأمر والنهي
وقال ابراهيم اللقاني لا شك في ثبوت أصل التكليف بالطاعات العملية في حقهم وأما نحو الإيمان فهو فيهم ضروري فيستحيل تكليفهم به وقال السبكي في فتاويه : الجن مكلفون بكل شيء من هذه الشريعة بأنه إذا ثبت أنه عليه الصلاة و السلام مرسل إليهم كما هو مرسل إلى الإنس وإن الدعوة عامة والشريعة كذلك لزمتهم جميع التكاليف التي توجد فيهم أسبابها إلا أن يقوم دليل على تخصيص بعضها فنقول : إنه يجب عليهم الصلاة والزكاة إن ملكوا نصابا بشرطه والحج وصوم رمضان وغيرها من الواجبات ويحرم عليهم كل حرام في الشريعة بخلاف الملائكة فإنا لانلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قلنا بعموم الرسالة إليهم بل يحتمل ذلك ويحتمل الرسال في شيء خاص ا ه ولا مانع من أن يكلفهم كلهم بما جاءه من ربه جل جلاله بواسطة بعضه على أنه ليس كل ما جاء به عليه الصلاة و السلام حاصلا بوساطة الملك فيمكن أن يكون ما كلفوا به لم يكن بواسطة أحد منهم وأنكر بعضهم إرساله إليهم وبعدم الإرسال إليهم جزم الحليمي والبيهقي من الشافعية ومحمود بن حمزة الكرماني في كتابه العجائب والغرائب من الحنفية بل نقل البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الإجماع عليه وجزم به من المتأخرين زين الدين العراقي في نكته على ابن الصلاح والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع وصريح آية ليكون للعالمين نذيرا إذ العالم ما سوى الله تعالى وصفاته وخبر مسلم أرسلت إلى الخلق كافة يؤيد المذهب الأول نعم استدل أهل هذا المذهب بما استدلوا به وفيه ما فيه وقد ادعى
(15/173)
بعض الناس أن الآية تؤيد مذهبهم لأنه تعالى خص فيها الملك بالإرسال إلى الملائكة فيتعين أن يكون هو الرسول إليهم لا البشر سواء كان بينه وبينهم مناسبة أم لا وقد سمعت ما نقل عن العلامة القطب وصاحب التقريب من أن المراد لنزلنا عليهم رسولا حال كونه ملكا لا بشرا وأجيب بأنه بعد إرخاء العنان لا تدل الآية إلا على تعين إرسال الملك إلى الملائكة إذا كانوا في الأرض يمشون مطمئنين بدل البشر ولا يلزم منه أن لا يصح إرسال البشر إليهم إذا لم يكونوا كذلك لجواز أن يكون حكمة التعين في الصورة الأولى سوى المناسبة المترتب عليها سهولة الإجتماع والتلقي شيء آخر لا يوجد في الصورة الثانية وذلك أنه إذا كان أهل الأرض ملائكة وأرسل إليهم بشر له قوة الإلقاء إليهم والإضافة عليهم نحو إرسال رسل البشر عليهم السلام صعب بحسب الطبع على ذلك الرسول بقاؤه معهم زمنا يعتد بهم كما يبقى رسل البشر مع البشر كذلك إلا أن يجعل مشاركا لهم فيما جبلوا عليه ويلحق بهم وهو أشبه شيء بإخراجه عن الطبيعة البشرية بالمرة فيكون العدول عن إرسال ملك إلى إرساله أشبه شيء بالعبث المنافي للحكمة ا ه فتدبر
فلعل الله سبحانه يمن عليك بما يروي الغليل وتأمل في جميع ما تقدم فلعلك توفق بعون الله تعالى إلى الجرح والتعديل قل لهم ثانيا من جهتك بعد ما قلت لهم من قبلنا ما قلت وبينت لهم ما تقتضيه الحكمة في البعثة ولم يرفعوا إليه رأسا كفى بالله عز و جل وحده شهيدا على أني قد أديت ما علي إليكم بإظهار المعجزة على وفق دعواى ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى : بيني وبينكم وكذا بقوله سبحانه تعليلا للكفاية إنه كان بعباده أي الرسل والمرسل إليهم خبيرا بصيرا 69 أي محيطا بظواهرهم وبواطنهم فيجازيهم على ذلك وزعم الخفاجي أن الثاني أوفق بالسياق منه إذ يكون الكلام عليه كالسابق ردا لإنكارهم أن يكون الرسول بشرا وإلى ذلك ذهب الإمام وأن كون الأول أوفق بقوله تعالى إنه كان إلخ لا وجه له لأن معناه التهديد والوعيد بأنه سبحانه يعلم ظواهرهم وبواطنهم وإنهم إنما ذكروا هذه الشبهة للحسد وحب الرياسة والإستنكاف عن الحق وفيه من التسلية لحبيبه مافيه وأنت تعلم أن إنكار كون الأول أوفق بذلك مما لا وجه له لظهور خلافه ولا ينافيه تضمن الجملة الوعيد والتسلية وأيضا يبقى أمر أوفقيته بيني وبينكم في البين ومع ذلك في تصدير الكلام بقل نوع تأييد لإرادة الأول كما لا يخفى على الذكر هذا وإنما لم يقل سبحانه بيننا تحقيقا للمعارقة وإبانة للمبانية ونصب شهيدا إما على الحال أو على التمييز ومن يهد الله كلام مبتدأ غير داخل في حيز قل يفصل ما أشار إليه الكلام السابق من مجازاة العباد لما أن علمه تعالى في مثل هذا الموضع مستعمل بمعنى المجازاة أي من يهد الله تعالى إلى الحق فهو المهتد إليه وإلى ما يؤدي إليه من الثواب أو المهتدي إلى كل مطلوب والأكثرون حذفوا ياء المهتدي ومن يضلل يخلق فيه الضلال لسوء إختياره قبح استعداده كهؤلاء المعاندين فلن تجد لهم أولياء أي أنصارا من دونه عزوجل يهدونهم إلى طريق الحق أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالهم على معنى لن تجد لأحد منهم وليا على ما يقتضيه قضية مقابلة الجمع بالجمع من انقسام الآحاد على الآحاد على
(15/174)
ما هو المشهور وقيل قال سبحانه : أولياء مبالغة لأن الأولياء إذا لم تنفعهم فكيف الولي الواحد وضمير لهم عائد على من باعتبار معناه كما أن هو عائد عليه باعتبار لفظه فلذا أفرد الضمير تارة وجمع أخرى
وفي إيثار الأفراد والجمع فيما أوثرا فيه تلويح بوحدة طريق الحق وقلة سالكيه وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال وذكر أبو حيان وتبعه بعضهم أن الجملة الثانية من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى الابتداء من غير أن يتقدمه الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن وتعقب ذلك الخفاجي بأنه لا وجه له فإنه حمل فيها الضمير على اللفظ أولا إذ في قوله تعالى يظلل ضمير محذوف مفرد إذ تقديره يضلله على الأصل وهو راجع إلى لفظ من فلا يقال إنه لم يتقدمه حمل على اللفظ ثم قال : وأغرب من ذلك ما قيل إنه قد يقال أن الحمل على اللفظ قد تقدمه في قوله سبحانه من يهد الله وإن كان في جملة أخرى ا ه وفيه أن وجهه جعل أبي حيان من مفعول يضلل كما نص عليه في البحر وكذا نص على أنها في الجملة الأولى مفعول يهد وحينئذ ليس هناك ضمير مفرد محذوف كما لايخفى فتفطن وجوز كون الجملتين داخلتين في حيز قبل لمجيء ومن بالواو وقوله تعالى : ونحشرهم أوفق بالأول وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم لليذان لكمال الإعتناء بأمر الحشر وعلى الإحتمال الثاني يجعل حكاية لما قاله الله تعالى عليه الصلاة و السلام يوم القيامة حين يقومون من قبورهم على وجوههم في موضع الحال من الضمير المنصوب أي كائنين عليها إما مشيا بأن يزحفون منكبين عليها ويشهد له ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم قال الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم والمراد كيف يحشر هذا الجنس على الوجه لأن ذلك خاص بالكفار وغيرهم يحشر على وجه آخر
فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله : يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنف المشاة أي على العادة وصنف ركبان وصنف على وجوههم قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على أوجههم أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوكة وإما سحبا بأن تجرهم الملائكة منكبين عليهم كقوله تعالى يوم يسحبون في النار على وجوههم ويشهد له ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه عن أبي ذر أنه تلا هذه الآية ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم الخ فقال : حدثني الصادق المصدوق أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون ويسعون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وحسنه عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول الله إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم وليطلب وجه الجمع فإن لم يوجد فالمعول عليه ما شهد له حديث الشيخين ولا تعين الآية أعني قوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم الثاني لأن القرآن يفسر بعضه بعضا لأنها في حالهم بعد دخول النار وما هنا في حالهم قبل فتغايرا وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز وذلك كما يقال للمنصرف عن أمر خائبا مهموما انصرف على وجهه فالمراد ونحشرهم يوم القيامة مهمومين خائبين وكأن الداعي لهذا الإرتكاب أنه قد روي عن ابن عباس حمل الأحوال الآتية على المجاز وحينئذ تكون جميع الأحوال على طرز واحد ولايخفى عليك فإياك أن تلتفت إلى تأويل نطقت
(15/175)
السنة النبوية بخلافه ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك عميا وبكما وصما أحوال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع حالا أولا وفي إرشاد العقل السليم أنها أحوال من الضمير المجرور في الحال السابقة والأول أبعد عن القيل والقال وجوز أبو البقاء كون ذلك بدلا من تلك الحال وهو كما ترى
واستظهر أبو حيان كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع
نعم قد يختم على أفواههم في البين وقيل هو على المجاز على معنى أنهم لفرط الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات أو على معنى أنهم لا يرون شيئا يسرهم ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضا عن الحسن فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الإنتفاع به ولا يعكر عليه أن بعض الآيات يدل على سلب بعض القوى عنهم لاختلاف الأوقات وقيل عميا عن النظر إلى ما جعل الله تعالى لأوليائه بكما عن الكلام معه سبحانه عما مدح الله تعالى به أولياءه وقيل يحصل لهم ذلك حقيقة بعد قوله تعالى لهم اخسؤا فيها ولا تكلمون وعلى هذا تكون الأحوال مقدرة كقوله تعالى مأواهم أي مستقرهم جهنم على تقدير جعله حالا ويحتمل أن يكون استئنافا وقوله سبحانه كلما خبت زدناهم سعيرا 79 يحتما أيضا الاستئناف ويحتمل أن يكون حالا من جهنم كما قال أبو البقاء وجعل العامل في الحال معنى المأوى وقال الطبرسي : هو حال منها لأنها توضع متلظ ومتسعر ولولا ذلك ما جعل حالا منها
وجوز جعله حالا مما جعلت الجنة الأولى منه لكن بعد اعتبارها في النظم والرابط الضمير المنصوب في زدناهم وهو كما ترى والاستئناف أقل مؤنة والخبو وكذا الخبو بضمتين وتشديد وهما مصدرا خبت النار سكون اللهب قال في البحر : يقال خبت النار تخبو إذا سكن لهبها وخمدت إذا سكن جمرها وضعف وهمدت إذا طفئت جملة وقال الراغب : خبت النار سكن لهبها وصار عليها خباء من رماد أي غشاء وفي القاموس تفسير خبت بسكنت وطفئت وتفسير طفئت بذهب لهبها وفيه مخالفة لما في البحر والأكثرون على ما فيه والغريب ما أخرجه ابن الأنباري عن أبي صالح من تفسير خبت في الآية بحميت وهو خلاف المشهور والمأثور والسعير اللهب والمعنى كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما تتعلق به النار وتحرقه زدناهم لهبا وتوقدا بأن أعدناهم على ما كانوا فاستعرت النار بهم وتوقدت أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية إن الكفرة وقود النار فإذا أحرقتهم فلم يبق شيء صارت جمرا تتوهج كذلك خبوها فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم ولعل ذلك على ما قاله بعض الأجلة عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الأفناء بتكررها مرة بعد الأخرى ليروها عيانا حيث لم يروها برهانا كما يفصح عنه ما بعد واستشكل ماذكر بأن قوله تعالى كلما نضجت جلودهم بدلناها جلودا غيرها يدل على أن النار لا تتجاوز عن إنضاجهم إلى إحراقهم وإفنائهم فيعارض ذلك وأجاب بعضهم بأن تبديلهم جلودا غيرها بإحراقها وإفنائها وخلق غيرها
(15/176)
فكأنه قيل كلما نضجت جلودهم أحرقناها وأفنيناها وخلقنا لهم غيرها وبعض بأن المراد كلما نضجت جلودهم كمال النضج بأن يبلغ شيها إلى حد لو بقيت عليه لا يحس صاحبها بالعذاب وهو مرتبة الإحتراق بدلناهم الخ ويدل على ذلك قوله تعالى ليذوقوا العذاب وقال الخفاجي : أجيب بأنه يجوز أن يحصل لجلودهم تارة النضج وتارة الإفناء أو كل منهما في حق قوم على أنه لا سد لباب المجاز بأن يجعل النضج عبارة عن مطلق تأثير النار إذ لا يحصل في ابتداء الدخول غير الإحراق دون النضج ا ه ولا يخفى ما في قوله بأن يجعل : النضج عبارة عن مطلق تأثير النار من المساهلة وفي قوله : إذ لا يحصل الخ منع ظاهر وذكر أنه أورد على الجواب الأول أن كلمة كلما تنافيه وفيه بحث فتأمل وربما يتوهم أن بين هذه الآية وقوله تعالى لا يخفف عنهم العذاب تعارضا لأن الخبو يستلزم التخفيف وهو مدفوع بأن الخبو سكون اللهب كما سمعت واستلزمه تخفيف عذاب النار ممنوع على أن لو سلمنا الإستلزام والعذاب الذي لا يخفف ليس منحصرا بالعذاب بالنار والإيلام بحرارتها وحينئذ فيمكن أن يعوض ما فات منه بسكون اللهب بنوع آخر من العذاب مما لا يعلمه إلا الله تعالى وذكر الإمام أن قوله سبحانه زدناهم سعيرا يقتضي ظاهره أن الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى فتكون الحالة الأولى تخفيفا بالنسبة إلى الحالة الثانية وأجاب بأنه حصل في الحالة الأولى خوف حصول الثانية فكان العذاب شديدا ويحتمل أن يقال : لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أثنائه غير مشعور به نعوذ بالله تعالى منه ا ه وقد يقال : ليس في الآية أكثر من ازدياد توقده ولعله لا يستلزم ازدياد عذابهم والمراد من الآية كلما أحرقوا أعيدوا إلا أنه عبر بما عبر للمبالغة ويشير إلى كون المراد ذلك قوله تعالى زدناهم دون زدناها فتدبر ذلك أي العذاب المفهوم من قوله سبحانه كلما خبت زدناهم سعيرا أو إلى جميع ما ذكر من حشرهم على وجوهم وبكما وصما الخ والمفهوم مما ذكرنا مندرج فيه جزاؤهم بأنهم أي بسبب أنهم كفروا بآياتنا القرآنية والآفاقية الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة أو على صحة ما أرسلناك به مطلقا فيشمل ما ذكر و ذلك مبتدأ أو جزاؤهم خبره والظرف متعلق به وجوز أن يكون جزاؤهم مبتدأ ثانيا والظرف خبره والجملة خبر لذلك وأن يكون جزاؤهم بدلا من ذلك أو بيانا والخبر هو الظرف وقيل ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر وليس بشيء وقالوا منكرين أشد الإنكار أئذا كنا عظاما ورفاتا هو في الأصل كما قال الراغب كالفتات ما تكسر وتفرق من التبن والمراد هنا بالين متفرقين أئنا لمبعوثون خلقا جديدا 89 إما مصدر مؤكد من غير لفظه أي لمبعوثون بعثا جديدا وإما حال أي مخلوقين مستأنفين
أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الله تعالى الذي قدر على خلق هذه الأجرام والأجسام الشديدة العظيمة التي بعض ما تحويه البشر قادر على أن يخلق مثلهم من الإنس أي ومن هو قادر على ذلك كيف لا يقدر على إعادتهم وهي أهون عليه جل وعلا وقال بعض المحققين : مثل هنا مثلها في مثلك لا يبخل أي قادر على أن يخلقهم والمراد بالخلق الإعادة كما عبر عنها أولا بذلك حيث قيل خلقا جديدا ولا يخلو عن بعد وزعم بعضهم أن المراد قادر على أن يخلق عبيدا آخرين يوحدونه تعالى ويقروم بكمال قدرته وحكمته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة كقوله تعالى ويأت بخلق جديد
(15/177)
وقوله سبحانه ويستبدل قوما غيركم وفيه أنه لا يلائم السياق كما لا يخفى على ذوي الأذواق ثم اعلم أن ظاهر الآية أن الكفرة أنكروا إعادتهم إلى يوم القيامة على معنى جمع أجزائهم المتفرقة وعظامهم المتفتتة وتآليفها وإضافة الحياة عليها كما كانت في الدنيا فهو الذي عنوه بقولهم أئنا لمبعوثون خلقا جديدا بعد قولهم أئذا كنا عظاما ورفاتا فرد عليهم بإثبات ذلك بطريق برهاني وعلى هذا تكون الآية أحد أدلة من يقول : إن الحشر بإعادة أجزاء الأبدان التي تتفرق كأبدان ما عدا الأنبياء عليهم السلام ومن لم يعمل خطيئة قط والمؤذنين احتسابا ونحوهم ممن حرمت أجسادهم على الأرض كما جاء في الأخبار وجمعها بعد تفرقها وعنوا بذلك الأجزاء الأصلية وهي الحاصلة في أول الفطرة حال نفخ الروح وهي عندهم محفوظة من أن تصير جزءا لبدن آخر فضلا عن أن تصير جزءا أصليا له والذاهبون إلى هذا هم الأقل وحكاه الآمدي بصيغة قيل لكن رجحه الفخر الرازي وذكر أن الأكثر على أن الله سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وقال : إنه الصحيح وكذا قال البدر الزركشي وذكر اللقاني أنه قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء والعدم على الأجسام بل بوقوعه وإن اختلفوا في أن ذلك هل هو بحدوث ضد أو بانتفاء شرط أو بلا ولا فذهب إلى الأخير القاضي من أهل السنة وأبو الهذيل من المعتزلة قالا : إن الله يعدم ما يريد إعدامه على نحو إيجاده إياه فيقول له عند أبي الهذيل أفن فيفنى كما يقول له كن فيكون وذهب جمهور المعتزلة إلى الأول فقالوا : إن فناء الجوهر بحدوث ضد له وهو الفناء ثم اختلفوا فذهب ابن الأخشيد إلى أن الله تعالى يخلق الفناء في جهة من جهات الجواهر فتعدم الجواهر بأسرها وقال ابن شبيب : إنه تعالى يحدث في كل جوهر بعينه فناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني وذهب أبو علي وأبو هاشم وأتباعهما إلى أن الله تعالى يعدم الجوهر بخلق فناء لا في محل معين منه ثم اختلفا فقال أبو علي وأتباعه : إن الله سبحانه يخلق فناء واحدا لا في محل فيفني به الجواهر بأسرها وقال أبو هاشم وأتباعه إنه تعالى يخلق لكل جوهر فناء لا في محل
وذهب إمام الحرمين وأكثر أهل السنة وبشر المريسي والكعبي من المعتزلة إلى الثاني ثم اختلفوا في تعيين الشرط فقال بشر : إنه بقاء يخلقه سبحانه لا في محل فإن لم يخلقه عدم الجوهر وقال الأكثر والكعبي : إنه بقاء قائم بالجوهر يخلقه جل وعلا فيه حالا فحالا فإذا لم يخلقه تعالى فيه انتفى الجوهر وقال إمام الحرمين : إنه الإعراض التي يجب اتصاف الجسم بها فإن الله تعالى شأنه يخلقها في الجسم حالا فحالا فمتى لم يخلقها سبحانه فيه انعدم وقال النظام : إنه خلق الله تعالى الجوهر حالا فحالا فإن الجواهر عنده لا بقاء لها بل هي متجددة بتجدد الأعراض فإذا لم يوالي عن مجده على الجوهر خلقه فنى وأنت تعلم أن أكثر هذه الأقاويل من قبيل الأباطيل سيما القول بأن الفناء أمر محقق في الخارج ضد للبقاء قائم بنفسه أو بالجوهر وكون البقاء موجودا لا في محل ولعل وجه البطلان غني عن البيان واحتجوا لهذا المذهب بقوله سبحانه كل شيء هالك إلا وجهه وقوله تعالى كل من عليها فان وأجابوا عن الآية بأن الكفار اكتفوا بأقل اللازم وأرادوا المبالغة في الإنكار لأنه إذا لم يمكن بزعمهم الحشر بعد كونهم عظاما ورفاتا فعدم إمكانه بعد فنائهم بالمرة أظهر وأظهر وفيه أن هلاك كل شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه والتفرق كذلك فيقال له هلاك ويسمى أيضا فناء عرفا فالإحتجاج بالآيتين غير تام وإن ما قالوه في الجواب عن الآية خلاف الظاهر ولا يرد عليهم أن إعادة المعدوم محال لما
(15/178)
ذكر الفلاسفة من الأدلة لما ذكره المسلمون في إبطالها ومن الناس من قال : إن عجب الذنب لا يفنى وإن فنى ما عداه من أجزاء البدن لحديث الصحيحين ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه خلق الخلق يوم القيامة
وفي رواية مسلم كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب وصحح المزني أنه يفنى أيضا وتأول الحديث بأن المراد منه أن كل الإنسان يبلى بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن الله تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت والخلق منه والتركيب يمكن أي يكون بعد إعادته فليس ما ذكر نصا في بقائه ووافقه على ذلك ابن قتيبة وأنت تعلم أن ظواهر الأخبار تدل على عدم فنائه مطلقا وتوقف بعض العلماء عن الجزم بأحد المذهبين السابقين في كيفية الحشر
وقال السعد : إنه الحق وهو اختيار إمام الحرمين وفي المواقف وشرحه للسيد السند هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت في ذلك شيء فلا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من الطرفين
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه الاقتصاد : فإن قيل ما تقولون هل تعدم الجواهر والأعراض ثم يعادان جمبعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر ثم تعاد الأعراض فقط قلنا كل ذلك ممكن والحق أنه ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد الأمرين الممكنين
وقال بعضهم : الحق وقوع الأمرين جميعا إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بإعراضه وهو حسن والكلام في هذا المقام طويل جدا ولعل الله سبحانه وتعالى يمن علينا باستيفائه ولو في مواضع متعددة
وجعل لهم أجلا وهو ميقات إعادتهم وحشرهم أو موتهم وهو على هذا اسم جنس لأن لكل أحد أجلا للموت يخصه وقد جاء إطلاق الأجل على الموت ووجهه أنه يطلق على مدة الحياة وعلى آخرها والموت مجاور لذلك لا ريب فيه أي لا ينبغي الريب فيه والإنكار لمن تدبره أو النفي على ظاهره والجملة معطوفة على أو لم يروا وهي وإن كانت إنشائية وفي عطف الإخبارية عليها مقال مؤولة بخبرية والعطف على الصلة فيما مر متعذر للفصل بخبر أن
م وكذا على ما بعد أن المصدرية لفظا ومعنى والمعنى كما في الكشف وغيره قد علموا بدليل العقل أن الله تعالى قادر على إعادتهم وقد جعل أجلا لها لا ريب فيه فلا بد منها أي إذا كان ذلك ممكنا في نفسه واجب الوقوع بخبر الصادق لا يبقى للإنكار معنى فإن كان الأجل بمعنى ميقات إعادتهم أي يوم القيامة لقولهم أئذا كنا عظاما ورفاتا وهو الظاهر فهو واضح وإن كان بمعنى الموت فوجهه أنهم قد علموا إمكانه وأنهم ميتون لا محالة منسلخون من هذه الحياة وأنه لا بد لهم من جزاء فلم يخلقوا عبثا ولم يتركوا سدى ففيم الإنكار وكأنه قد اكتفى بالموت عما بعده لأنه أول القيامة ومن مات فقد قامت قيامته فالعطف في التقدير على قد علموا ويعلم من هذا التقرير أن الجامع بين الجملتين لصحة العطف في غاية القوة
وزعم القطب أن الأولى العطف على ما بعد أن المصدرية أما أولا فلأنه أقرب وأما الثانية فلأن جعل الأجل يدخل حينئذ تحت قدرته تعالى وتحت علمهم بخلاف ما إذا عطف على قوله سبحانه أو لم يروا إلخ
(15/179)
ولا يخفى ما فيه على من استدارت كرة فكره على محور التحقيق فأبى الظالمون الذين كفروا بالآيات وقالوا ما قالوا ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد بالمرة إلا كفورا 99 أي جحودا
قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم أي خزائن نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات فالرحمة مجاز عن النعم والخزائن استعارة تحقيقية أو تخييلية و أنتم على مذهب إليه الحوفي والزمخشري وأبو البقاء وابن عطية وغيرهم فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور لأن لو يمتنع أن يليها الاسم والأصل لو تملكون تملكون فلما حذف الفعل انفصل الضمير ومثل ذلك قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية لو ذات سوار لطمتني وقول الملتمس : ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي جعلت لهم فوق العرانين ميسما وفائدة الحذف والتفسير على ما قيل الإيجاز فإنه بعد قصد التوكيد لو قيل تملكون تملكون لكان أطنابا وتكرارا بحسب الظاهر والمبالغة لتكرير الإسناد أو لتكرير الشرط فإنه يقتضي تكرر ترتب الجزاء عليه والدلالة على الإختصاص وذلك بناء على أن أنتم بعينه ضمير تملكون المؤخر فهو في المعنى فاعل مقدم وتقديم الفاعل المعنوي يفيد الإختصاص إذا ناسب المقام فيفيد الكلام حينئذ ترتب الإمساك وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى المراد منه على تفردهم بملك الخزائن ويعلم منه ترتبه على ملكها بالإشتراك بالطريق الأولى وإلى تخريج مثل هذا التركيب على هذا الطرز ذهب البصريون بيد أن أبا الحسن بن الصائغ وغيره صرحوا بأنهم يمنعون إيلاء لو فعلا مضمرا في الفصيح ويجيزونه في الضرورة وفي نادر كلام ولعل شعر الملتمس ومثل حاتم عندهم من ذلك والحق خلاف ذلك
وقال أبو الحسن علي بن فضالة المجاشعي : إن التقدير لو كنتم أنتم تملكون وظاهره أن أنتم عنده توكيد للضمير المحذوف مع الفعل وليس بشيء وقال أبو الحسن بن الصائغ : إن الأصل لو كنتم تملكون فحذفت كان وحدها وانفصل الضمير فهو عنده اسم لكان محذوفة وجملة تملكون خبرها وعلى هذا تخرج نظائره
قال أبو حيان بعد نقل ما تقدم : وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد لو معهود في لسان العرب ولا يخفى أن الكلام على ما سمعت أولا أفيد وإن كان الظاهر أن الإمساك على هذا يكون على استمرار الملك والمراد من الإمساك البخل وذلك لأن البخل إمساك خاص فلما حذف المفعول ووجه إلى نفس الفعل بمعنى لفعلتم الإمساك جعل كناية عن أبلغ أنواعه وأقبحها وإلى كونه كناية عما ذكر صاحب الفرائد وغيره
وجوز أن يكون مضمنا معنى البخل وتعقب بأنه ليس بشيء لفظا ومعنى وعلى ما ذكرنا بتخريج قولهم للبخيل ممسك خشية الإنفاق أي مخافة الفقر كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس وروى نحوه عن قتادة وإليه ذهب الراغب وقال : : يقال أنفق فلان إذا افتقر وأبو عبيدة قال : أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد وقال بعضهم : الإنفاق بمعناه المعروف وهو صرف المال وفي الكلام مقدر أي خشية عاقبة الإنفاق
(15/180)
وجوز أن يكون مجازا عن لازمه وهو النفاد ونصب خشية على أنه مفعول له وجعله مصدرا في موضع الحال كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر وقد بلغت هذه الآية من الوصف بالشح الغاية القصوى التي لا يبلغها الوهم حيث أفادت أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى التي لا تتناهى وانفردوا بملكها من غير مزاحم أمسكوها من غير مقتض إلا خشية الفقر وإن شئت فوازن بقول الشاعر : ولو أن دارك أنبتت لك أرضها إبرا يضيق بهل فناء المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ليخيط قد قميصه لم تفعل مع أن فيه من المبالغات ما يزيد على العشرة ترى التفاوت الذي لا يحصر وجعل غير واحد الخطاب فيها عاما فيقتضي أن يكون كل واحد من الناس بخيلا كما هو الظاهر ما بعد مع أنه قد أثبت لبعضهم الإيثار مع الحاجة وأجيب بأن ذلك بالنسبة إلى الجواد الحقيقي والفياض المطلق عز مجده فإن الإنسان إما ممسك أو منفق والإنفاق لا يكون إلا لغرض للعاقل كعوض مالي أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع كما في النفقة على الأهل أو نحو ذلك وما كان لعوض كان مبادلة لا مباذلة أو هو بالنظر إلى الأغلب وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل : عدنا في زماننا عن حديث المكارم من كفى الناس شره فهو في جود حاتم وهذا الجواب عندي أولى من الأول على ذلك يحمل قوله تعالى وكان الانسان قتورا 001 مبالغا في البخل وجاء القتر بمعنى تقليل النفقة وهو بأزاء الإسراف وكلاهما مذموم ويقال قترت الشيء واقترته وقترته أي قللته وفلان مقتر فقير وأصل ذلك كما قال الراغب من القتار والقتر وهو الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما فكأن المقتر والمقتر هو الذي يتناول من الشيء قتاره وقيل الخطاب لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها والمراد من الإنسان كما في القول الأول الجنس ولا شك في أن جنس الإنسان مجبول على البخل لأن مبنى أمره الحاجة وقيل الإنسان وعليه الإمام ووجه ارتباط الآية بما قبلها على تخصيص الخطاب أن أهل مكة طلبوا من الينبوع والأنهار لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم فبين سبحانه أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى لبخلوا وشحوا ولما قدموا على إيصال النفع لأحد والمراد التشنيع عليهم بأنهم في غاية الشح ويقترحون ما يقترحون أو المراد أن صفتهم هذه فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا كذا قال العسكري وغيره فالآية عندهم مرتبطة بقوله تعالى وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ويكفي على العموم اندراج أهل مكة فيه
وقال أبو حيان : المناسب في وجه الإرتباط أن يقال : إنه عليه الصلاة و السلام قد منحه الله تعالى ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن فهو أحرص الناس على إيصال الخير إليهم وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله تعالى ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحا بذلك لا يطلب منهم أجرا وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلا الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه فلا يصل منهم إليه إلا الأذى فنبه تعالى شأنه بهذه الآية على سمحاته عليه الصلاة و السلام وبذل
(15/181)
ما آتاه الله تعالى وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فهي قد جاءت مبينة للباين ما بينه عليه الصلاة و السلام وبينهم من حرصه على نفعهعم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه ا ه فالارتباط بين الآية وبين مجموع الآيات السابقة من حيث أنها تشعر بحرصه على هدايتهم ولعمري إن هذا مما يأباه الذوق السليم والذهن المستقيم
ويحتمل أن يكون وجه الارتباط اشتمالها على ذمهم بالشح المفرط كما أن ما قبلها مشتمل على ذمهم بالكفر كذلك وهما صفتان سيئتان ضرر إحداهما قاصر وضرر الأخرى متعد فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بمراده ولما حكى سبحانه عن قريش ما حكى من التعنت والعناد مع رسوله سلاه تعالى جده بما جرى لموسى عليه السلام مع فرعون وما صنع سبحانه بفرعون وقومه فقال عز قائلا : ولقد ءاتينا موسى تسع ءايت بينت ظاهر السياق والنظائر يقتضيان كون المعنى تسع أدلة واضحات الدلالة على نبوة موسى عليه السلام وصحة ما جاء به من عند الله تعالى ولا ينافيه أنه قد أوتي من ذلك ما هو أكثر مما ذكر لأن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد كما حقق في الأصول وإلى هذا ذهب غير واحد إلا أنه اختلف في تعيين هذه التسع ففي بعض التفاسير هي كما في التوراة العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت البهائم ثم برد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات وحيوان ثم جراد ثم ظلمة ثم موت عم كبار الآدميين وجميع الحيوانات وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين ونقص من الثمرات وروى ذلك عن مجاهد والشعبي وقتادة وعكرمة
وتعقب هذا بأن السنين والنقص من الثمرات آية واحدة كما روي عن الحسن
ورد بأنه ليس بالحسن إذ ظاهر قوله تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات يقتضي المغايرة فيحمل الأول على الجدب في بواديهم والثاني على النقصان في مزارعهم أو على نحو ذلك وقد تقدم الكلام فيه فلا ضير في عدهما آيتين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في رواية أخرى عن الحبر أنها يده عليه السلام ولسانه وعصاه والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفي الكشاف عنه رضي الله تعالى عنه أنها العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه الله تعالى على بني إسرائيل وتعقبه في الكشف بقوله فيه : إن الحجر والطور ليسا من الآيات المذهوب بها إلى فرعون وقال تعالى : في تسع آيات إلى فرعون وقومه وذكر سبحانه في هذه السورة لقد علمت ما أنزل هؤلاء والإشارة إلى الآيات ثم قال : والجواب جاز أن يكون التسع البينات بعضا منها غير البعض من تلك التسع وليس في هذه الآية أن الكل لفرعون وقومه وأما الإشارة فإلى البعض بالضرورة لأن الكل إنما حصلت على التدريج وفلق البحر لم يكن في معرض التحدي بل عندما حق الهلاك ا ه ولا يخلو عن ارتكاب خلاف الظاهر وما روي عن ابن عباس أولا لائح الوجه ما فيه أشكال ونسبه في الكشاف إلى الحسن وهو خلاف ما وجدناه في الكتب التي يعول عليها في أمثال ذلك وروي أن عمر بن عبد العزيزعليه الرحمة سأل محمد بن كعب عن هذه الآيات فعد ما وعد وذكر فيه الطمس فقال عمر : كيف يكون الفقيه إلا هكذا ثم قال :
(15/182)
يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة هذا وظاهر بعض الأخبار يقتضي خلاف ذلك
فقد أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح لا نعرف له علة وخلق آخرون عن صفوان بن عسال أن يهوديين قال : أحدهما لصاحبه انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله فأتياه فسألاه عن قول الله تعالى ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقال عليه الصلاة و السلام : لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا بريء إلى سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف
وفي رواية أو قال لا تفروا من الزحف شك شعبة وعليكم يا يهود خاصة ألا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد إنك نبي الخبر ومن هنا قيل المراد بالآيات الأحكام وقال الشهاب الخفاجي : إنه التفسير الصحيح ووجه إطلاقها عليها بأنها علامات على السعادة لمن امتثلها والشقاوة لغيره وقيل أطلقت عليها لأنها نزلت في ضمن آيات بمعنى عبارات دالة على المعاني نحو آيات الكتاب فيكون من قبيل إطلاق الدال وإرادة المدلول وقيل لا ضير أن يراد على ذلك ب 2 الآيات العبارات الإلهية الدالة على تلك الأحكام من حيىث أنها دالة عليها وفيه وكذا في سابقه القول بإطلاق الآيات على ما أنزل على غير نبينا من العبارات الإلهية كإطلاقها على ما أنزل عليه عليه الصلاة و السلام منها واستشكل بأن الآيات في الرواية التي لا شك فيها عشرة وما في الآية المسؤل عنها تسع وأجيب بأن الأخير فيها أعني لا تعتدوا في السبت ليس من الآيات لأن المراد بها أحكام عامة ثابتة في الشرائع كلها وهو ليس كذلك ولذا غير الأسلوب فيه فهو تذييل للكلام وتتميم له بالزيادة على ما سألوه وفي الكشف أنه من الأسلوب الحكيم لأنه عليه الصلاة و السلام لما ذكر التسع العامة في كل شريعة ذكر خاصا بهم ليدل على إحاطة علمه بالكل وهو حسن وليس الأسلوب الحكيم فيه بالمعنى المشهور فإطلاق القول بأنه ليس من الأسلوب الحكيم كما فعل الخفاجي ليس في محله
وقال بعض الأجلة : إن هذه الأشياء لا تعلق لها بفرعون وإنما أوتيها بنو إسرائيل ولعل جوابه بما ذكر لما أنه المهم للسائل وقبوله لما أنه كان في التوراة مسطورا وقد علم أنه ما علمه إلا من جهة الوحي ا ه
وتعقب بأنا لا نسلم أنه يجب في الآيات المذكورة في الآية أن تكون مما له تعلق بفرعون وما بعد ليس نصا في ذلك نعم هو كالظاهر فيه ولكن كثيرا ما تترك الظواهر للأخبار الصحيحة سلمنا أنه يجب أن يكون لها تعلق لكن لا نسلم أن تلك الأحكام لا تعلق لها لجواز أن يكون كلها أو بعضها مما خوطب به فرعون وبنو إسرائيل جميعا لا بد لنفي ذلك من دليل وكأن حاصل ما أراد من قوله لعل جوابه الخ أن ذلك الجواب من الأسلوب الحكيم بأن يكون موسى عليه السلام قد أوتي تسع آيات بينات بمعنى المعجزات الواضحات وهي المراد في الآية وأوتي تسعا أخرى بمعنى الأحكام وهي غير مرادة إلا أن الجواب وقع عنها لما ذكر وهو كما ترى فتأمل
فمؤيدات كل من التفسيرين أعني تفسير الآيات بالأدلة والمعجزات وتفسيرها بالأحكام متعارضة وأقوى
(15/183)
ما يؤيد الثاني الخبر فسل بني إسرائيل وقرأ جمع فسل والظاهر أنه خطاب لنبينا والسؤال بمعناه المشهور إلا أن الجمهور على أنه خطاب لموسى عليه السلام والسؤال إما بمعنى الطلب أو بمعناه المشهور لقراءة رسول الله وأخرجها أحمد في الزهد وابن المنذر وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس فسأل على صيغة الماضي بغير همز كقال وهي لغة قريش فإنهم يبدلون الهمزة المتحركة وذلك لأن هذه القراءة دلت على أن السائل موسى عليه السلام وأنه مستعقب عن الإيتاء فلا يجوز أن يكون فاسأل خطابا للنبي لئلا تتخالف القراءتان ولا بد إذ ذاك من إضمار لئلا يختلفا خبرا وطلبا أي فقلنا له اطلبهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل أو اطلب منهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم واستفهم منهم هل هم ثابتون عليه أو اتبعوا فرعون ويتعلق بالقول المضمر قوله تعالى : إذجاءهم وهو متعلق بسال على قراءته والدليل على ذلك المضمر في اللفظ قوله تعالى : فقال له فرعون لأنه لو كان فاسأل خطابا لنبينا عليه الصلاة و السلام لانفك النظم وأيضا لا يظهر استعقابه ولا تسببه عن إيتاء موسى عليه السلام نعم جعل الذاهبون إلى الأول فاسأل اعتراضا من باب زيد فأعلم فقيه والفاء تكون للإعتراض كالواو وعلى ذلك قوله : واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا وهذا الوجه مستغن عن الإضمار و إذ جاءهم متعلق عليه بآتينا ظرفا ولا يصح تعلقه بسل إذ ليس سؤاله في وقت مجيء موسى عليه السلام قال في الكشف : والمعنى فاسأل يا محمد مؤمني أهل الكتاب عن ذلك إما لأن تظاهر الأدلة أقوى وإما من باب التهييج والإلهاب وإما للدلالة على أنه امر محقق عندهم ثابت في كتابهم وليس المقصود حقيقة السؤال بل كونهم أعني المسؤلين من أهل علمه ولهذا يؤمر بسؤالهم وهذا هو الوجه الذي يجمل به موقع الإعتراض وجوز أن يكون منصوبا باذكر مضمرا على أنه مفعول به وجاز على هذا أن لا يجعل فاسأل اعتراضا ويجعل اذكر بدلا عن اسأل لما سمعت من أن السؤال ليس على حقيقته وكذا جوز أن يكون منصوبا كذلك بيخبروك مضمرا وقع جواب الأمر أي سلهم يخبروك إذجاءهم
ولا يجوز على هذا الإعتراض نعم يجوز الإعتراض على هذا بأن أخبر يتعدى بالباء أو عن لا بنفسه فيجب أن يقدر بدل الإخبار الذكر ونحوه مما يتعدى بنفسه وأما جعله ظرفا غير صحيح إذ الإخبار غير واقع في وقت المجيء واعترض أيضا بأن السؤال عن الآيات والجواب بالإخبار عن وقت المجيء أو ذكره لا يلائمه
ويمكن الجواب بأن المراد يخبروك بذلك الواقع وقت مجيئه لهم أو يذكروا ذلك لك وهو كما ترى وبعضهم جوز تعلقه بيخبروك على أن إذ للتعليل وعلى هذا يجوز تعلقبه باذكر والمعنى على سائر احتمالات كون الخطاب لنبينا عليه الصلاة و السلام إذجاء آباءهم إذ بنوا اسرائيل حينئذالموجودون في زمانه وموسى عليه السلام ما جاءهم فالكلام إما على حذف مضاف أو على ارتكاب نوع من الاستخدام والاحتمالات علي تقدير جعل الخطاب لمن يسمع هي الاحتمالات التي سمعت على تقدير جعله لسيد السامعين عليه الصلاة و السلام
والفاء في فقال على سائر الاحتمالات والأوجه فصيحة والمعنى إذجاءهم فذهب إلى فرعون وادعى النبوة وأظهر المعجزة وكيت وكيت فقال : إني لأظنك يا موسى مسحورا 101 سحرت فاختل عقلك ولذلك اختل كلامك
(15/184)
وادعيت ما ادعيت وهو كقوله : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون
وقال الفراء والطبري : مسحورا بمعنى ساحرا على النسب أو حقيقة وهو يناسب قلب العصا ونحوه على تفسير الآيات بالمعجزات قال موسى عليه السلام ردا لقوله المذكور لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء أي الآيات التسع أو بعضها والإشارة إلى ذلك بما ذكر على حد قوله على إحدى الروايتين
والعيش بعد أولئك الأيام
وقد مر إلا رب السموات والأرض أي خالقهما ومدبرهما وحاصل الرد أن علمك بأن هاتيك الآيات من الله تعالى إذ لا يقدر عليها سواه تعالى يقتضي أني لست بمسحور ولا ساحر وأن كلامي غير مختل لكن حب الرياسة حملك على العناد في التعرض لعنوان الربوبية إيماء إلى أن إيزالها من آثار ذلك وفي البحر ما أحسن إسناد إنزالها إلى رب السموات والأرض إذ هو عليه السلام لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له : وما رب العالمين قال : رب السموات والأرض تنبيها على نقصه وأنه لا تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى مستحيل فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله تعالى ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذه أو هي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه أو العلم بعلمه ليكو ن إفادة لازم الخبر كقولك لمن حفظ التوراة حفظت التوراة
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والكسائي لقد علمت بضم التاء فيكون موسى عليه السلام قد أخبر عن نفسه أنه ليس بمسحور كما زعم عدو الله تعالى وعدوه بل هو يعلم أن ما أنزل تلك الآيات إلا خالق السموات والأرض ومدبرهما وروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال : والله ما علم عدو الله تعالى ولكن موسى عليه السلام هو الذي علم وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول وكيف يقول ذلك باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه ووجه نسبة العلم إليه ظاهر
وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور أن سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم أخرجوا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقرأ بالضم ويقول ذلك ولم يتعقبه بشيء ولعل هذا المجهول الذي ذكره أبو حيا في أسانيدهم والله تعالى أعلم
وجملة ما أنزل الخ معلق عنها سادة مسد علمت وقوله تعالى بصائر حال من هؤلاء والعامل فيه أنزل المذكور عند الحوفي وأبي البقاء وابن عطية وما قبل ألا يعمل فيما بعدها إذا كان مستثنى منه أو تابعا له وقد نص الأخفش والكسائي على جواز ما ضرب هندا إلا زيد ضاحكة ومذهب الجمهور عدم الجواز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول عندهم على إضمار فعل يدل عليه ما قبل والتقدير هنا أنزلها بصائر أي بينات مكشوفات تبصرك صدقي على أنه جمع بصيرة بمعنى مبصرة أي بينة وتطلق البصائر على الحجج بجعلها كأنها بصائر العقول أي ما أنزلها إلا حججا وأدلة على صدقي وتكون بمعنى العبرة كما ذكره الراغب هذا ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد من الآيات التسع ما اقتضاه خبر صفوان السابق يجوز أن تكون هؤلاء إشارة
(15/185)
إلى ما أظهره عليه السلام من المعجزات ويعتبر إظهار ذلك فيما يفصح عنه الفاء الفصيحة وإن أبيت إلا جعلها إشارة إلى الآيات المذكورة بذلك المعنى لتحقق جميعها من أول الأمر وثبوتها وقت المحاورة وشدة ملاءمة الإنزال لها احتجت إلى ارتكاب نوع تكلف فيما لا يخفى عليك وإني لأظنك يا فرعون مثبورا 201 أي هالكا كما روي عن الحسن ومجاهد على أنه من ثبر اللازم بمعنى هلك ومفعول فيه للنسب بناءا على أنه يأتي له من اللازم والمتعدي وفسره بعضهم بمهلكا وهو ظاهر وعن الفراء أنه قال : أي مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم : ما ثبرك عن هذا أي ما منعك وإليه يرجع ما أخرجه الطستي عن ابن عباس من تفسيره بملعونا محبوسا عن الخير
وأخرج الشيرازي في الألقاب وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه تفسيره بناقص العقل وفي معناه تفسير الضحاك بمسحور قال : رد موسى عليه السلام بمثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن مثبورا في الآية فقال : مخالفا ثم قال : الأنبياء عليهم السلام من أن يلعنوا أو يسبوا وأنت تعلم أن هذا معنى مجازي له وكذا ناقصا العقل ولا داعي إلى ارتكابه وما ذكره الإمام مالك فيه ما فيه نعم قيل : إن تفسيره بهالكا ونحوه مما فيه خشونة ينافي قوله تعالى خطابا لموسى وهرون عليهما السلام : فقولا له قولا لينا وأشار أبو حيان إلى جوابه بأن موسى عليه السلام كان أولا يتوقع من فرعون المكروه كما قال : إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى فأمر أن يقول له قولا لينا فلما قال سبحانه له : لا تخف وثق بحماية الله تعالى فصال عليه صولة المحمي وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك وفيه كلام ستطلع عليه إن شاء الله تعالى في محله وبالجملة التفسير الأول أظهر التفاسير ولا ضير فيه لا سيما مع تعبير موسى عليه السلام بالظن ثم أنه عليه السلام قد قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون إفك مبين وظن موسى عليه السلام يحوم حول اليقين
وقرأ أبي وابن كعب وإن أخالك يا فرعون مثبورا على إن المخففة واللام الفارقة وأخال بمعنى أظن بكسر الهمزة في الفصيح وقد تفتح في لغة كما في القاموس
فأراد فرعون أن يستفزهم أي موسى وقومه وأصل الاستفزاز الإزعاج وكنى به عن إخراجهم من الأرض أي أرض مصر التي هم فيها أو من جميع الأرض ويلزم إخراجهم من ذلك قتلهم واستئصالهم وهو المراد فأغرقناه ومن معه جميعا 301 أي فعكسنا عليه مكره حيث أراد ذلك لهم دونه فكان له دونهم فاستفز بالإغراق هو وقومه وهذا التعكيس أظهر من الشمس على الثاني وظاهر على الأول لأنه أراد إخراجه من مصر فأخرج هو أشد الإخراج بالإهلاك والزيادة لا تضر في التعكيس بل تؤيده
وقلنا على لسان موسى عليه السلام من بعده أي من بعد فرعون على معنى من بعد إغراقه أو الضمير للإغراق المفهوم من الفعل السابق أي من بعد إغراقه وإغراق من معه لبني إسرائيل الذين
(15/186)
أرادأراد فرعون استفزازهم اسكنوا الأرض التي أراد أن يستفزكم منها وهي أرض مصر وهذا ظاهر أن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها وأتبعهم فرعون وجنوده وأغرقوا وإن لم يثبت فالمراد من بني إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم واختار غير واحد أن المراد من الأرض الأرض المقدسة وهي أرض الشام فإذا جاءوعد الآخرة أي الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة والمراد على جميع ذلك قيام الساعة جئنا بكم لفيفا 401 أي مختلطين أنتم وهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم وأصل اللفيف الجماعة من قبائل شتى فهو اسم جمع كالجميع لا واحد له أو هو مصدر شامل للقليل والكثير لأنه يقال لف لفا ولفيفا والمراد منه ما أشير إليه وفسره ابن عباس بجميعا وكيفما كان فهو حال من الضمير المجرور في بكم ونص بعضهم على أن في بكم تغليب المخاطبين على الغائبين والمراد بهم وبكم وما ألطفه مع لفيفا وبالحق أنزلناه وبالحق نزل عود إلى شرح حال القرآن الكريم فهو مرتبط بقوله تعالى لئن اجتمعت الإنس والجن الآية وهكذا طريقة العرب في كلامها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى آخر ثم إلى آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولا والحديث شجون فضمير الغائب للقرآن وأبعد من ذهب إلى أنه لموسى عليه السلام والآية مرتبطة بما عندها والإنزال فيها كما في قوله تعالى وأنزلنا الحديد وقد حمله بعضهم على هذا المعنى فيما قبل أو للآيات التسع وذكر على المعنى أو للوعد المذكور آنفا والظاهر أن الباء في الموضعين للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير القرآن واحتمال أن يكون أولا حالا من ضميره تعالى خلاف الظاهر والمراد بالحق الأول على ما قيل الحكمة الإلهية المقتضية لإنزاله وبالثاني ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها أي ما أنزلناه إلا ملتبسا بالحق المقتضى لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه وقيل الباءالأولى للسببية متعلقة بالفعل بعد والثانية للملابسة وقيل هما للسببية فيتعلقان بالفعل وقال أبو سليمان الدمشقي : الحق الأول التوحيد والثاني الوعد والوعيد والأمر والنهي وقيل الحق في الموضعين الأمر المحفوظ الثابت والمعنى ما أنزلناه من السماءإلا محفوظا بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين وحاصله أنه محفوظ حال الإنزال وحال النزول وما بعده لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأبعد من جوز كون المراد بالحق الثاني النبي ومعنى نزوله به نزوله عليه حلوله عنده من قولهم نزل بفلان ضيف وعلى سائر الأوجه لا تخفى فائدة ذكر الجملة الثانية بعد الأولى وما يتوهم من التكرار مندفع ونحى الطبري إلى أن الجملة الثانية توكيد للأولى من حيث المعنى لأنه يقال أنزلته فنزل وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من النزول فجاءت الجملة الثانية مزيلة لهذا الاحتمال وتحاشى بعضهم من إطلاق التوكيد لما بين الإنزال والنزول من المغايرة وادعى أنه لو كانت الثانية توكيدا للأولى لما جاز العطف لكمال الاتصال وما أرسلناك إلا مبشرا للمطيع بالثواب ونذيرا 501 للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا هداية الكفرة المقترحين وإكراههم على الدين ولعل الجملة لتحقيق أحقية بعثته أثر تحقيق حقية القرآن ونصب ما بعد إلا على الحال
وقرءانا نصب بفعل مضمر يفسره قوله تعالى فرقناه فهو من باب الإشتغال ورجع النصب على
(15/187)
الرفع العطف على الجملة الفعلية ولو رفع على الابتداء في غير القرآن جاز إلا أنه لا بد له من ملاحظة مسوغ عند من لا يكتفي في صحة الابتداء بالنكرة بحصول الفائدة وعلى هذا أخرجه الحوفي
وقال ابن عطية : هو مذهب سيبويه وقال الفراء : هو منصوب بأرسلناك أي ما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة ولا يخفى أنه إعراب متكلف لا يكاد يقوله فاضل ومما يقضي منه العجب ما جوزه ابن عطية من نصبه بالعطف على الكاف في أرسلناك
وقال أبو البقاء : وهو دون الأول وفوق ما عداه إنه منصوب بفعل مضمر دل عليه آتينا السابق أو أرسلناك وجملة فرقناه في موضح الصفة له أي آتيناك قرآنا فرقناه أي أنزلناه منجما مفرقا أو فرقنا فيه بين الحق والباطل فحذف الجار وانتصب مجروره على أنه مفعول به على التوسع كما في قوله
ويوما شهدناه سليما وعامرا
وروي ذلك عن الحسن وعن ابن عباس بينا حلاله وحرامه وقال الفراء : أحكمناه وفصلناه كما في قوله تعالى فيها يفرق كل أمر حكيم وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي : وعبد الله وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمر بن قائد وزيد بن علي وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه فرقناه بشد الراء ومعناه كالمخفف أي أنزلناه مفرقا منجما بيد أن التضعيف للتكثير في الفعل وهو التفريق وقيل فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب وبالتشديد على فصل متباعد والأول أظهر ولما كان قوله تعالى الآتي على مكث يدل على كثرة نجومه كانت القراءتان بمعنى وقيل معناه فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار ومغيبات أتت وتأتي والجمهور على الأول
وقد أخرج ابن أبي الحاتم وابن الأنباري وغيرهما عن ابن عباس قال : نزل القرآن جملة واحدة من عند الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين ليلة ونجمه جبريل عليه السلام على النبي عشرين سنة وفي رواية أنه أنزل ليلة القدر في رمضان ووضع في بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل نجوما في عشرين وفي رواية في ثلاث وعشرين سنة وفي أخرى في خمس وعشرين وهذا الاختلاف على ما في البحر مبني على الاختلاف في سنه
وأخرج ابن الضريس من طريق قتادة عن الحسن كان يقول : أنزل الله القرآن على نبي الله في ثمان عشرة سنة ثمان سنين بمكة وعشر بعد ما هاجر
وتعقبه ابن عطية بأنه قول مختل لا يصح عن الحسن واعتمد جمع أن بين أوله وآخره ثلاثا وعشرين سنة وكان ينزل به جبريل عليه السلام على ما قيل خمس آيات خمس آيات فقد أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : تعلموا القرآن خمس آيات خمس إيات فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمسا خمسا
وأخرج ابن عساكر من طريق أبي مضرة قال : كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس ءايات بالغداة وخمس ءايات بالعشي ويخبر أن جبريل عليه السلام نزل به خمس ءايات خمس ءايات وكان المراد في الغالب فإنه قد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه
وقرأ أبي وعبد الله فرقناه عليك لتقرأه على الناس على مكث أي تؤدة وتأن فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم روي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل أي تطاول في المدة وتقضيها شيئا فشيئا والظاهر
(15/188)
تعلق لتقرأه بفرقناه وعلى الناس بتقرأه وعلى مكث به أيضا إلا أن فيه تعلق حرفي جر بمعنى متعلق واحد
وأجيب بأن تعلق الثاني بعد اعتبار تعلق الأول به فيختلف المتعلق وفي البحر لا يبالي بتعلق هذين الحرفين بما ذكر الاختلاف معناهما لأن الأول في موضع المفعول به والثاني في موضع الحال أي متمهلا مترسلا ولما في ذلك من القيل والقال اختار بعضهم تعلقه بفرقناه وجوز الخفاجي تعلقه بمحذوف أي تفريقا أو فرقا على مكث أو قراءة على مكث منك كمكث تنزيله وجعله أبو البقاء في موضع الحال من الضمير المنصوب في فرقناه أي متمكثا ومن العجيب قول الحوفي أنه بدل من على الناس وقد تعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأن على مكث من صفات القاريء أو من صفات المقروء وليس من صفات الناس ليكون بدلا منهم والمكث مثلث الميم وقريء بالضم والفتح ولم يقرأ بالكسر وهو لغة قليلة وزعم ابن عطية إجماع القراء على الضم
ونزلناه تنزيلا 601 على حسب الحوادث والمصالح فذكر هذا بعد قوله تعالى : فرقناه الخ مفيد وذلك لأن الأول دال على تدريجه بحسب الاقتضاء قل للذين كفروا آمنوا به أي بالقرآن أو لا تؤمنوا أي به على معنى أن إيمانكم به وعدم إيمانكم به سواء لأن إيمانكم لا يزيده كمالا وعدم إيمانكم لا يورثه نقصا
إن الذين أوتوا العلم من قبله أي العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة من قبل تنزل القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من تمييز الحق والباطل والمحق والمبطل أو رأوا نعتك ونعت ما أنزل إليك إذا يتلى أي القرآن عليهم يخرون للأذقان الخرور السقوط بسرعة والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ويطلق على ما ينبت عليه من الشعر مجازا وكذا يطلق على الوجه تعبيرا بالجزء عن الكل قيل وهو المراد وروي عن ابن عباس فكأنه قيل يسقطون بسرعة على وجوههم سجدا 801 تعظيما لأمر الله تعالى أو شكرا لإنجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك والظاهر أن هنا خرورا وسجودا على الحقيقة وقيل : لاشيء من ذلك وإنما المقصود أنهم ينقادون لما سمعوا ويخضعون له كمال الانقياد والخضوع فأخرج الكلام على سبيل الاستعارة التمثيلية وفسر الخرور للأذقان بالسقوط على الوجوه الزمخشري ثم قال : وإنما ذكر الذقن لأنه أول ما يلقي الساجد به الأرض من وجهه وقيل : فيه نظر لأن الأول هو الجبهة والأنف ثم وجه بأنه إذا ابتدأ الخرور فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض هو الذقن وكأنه أريد أول ما يقرب به من اللقاء وجوزأن تبقى الأذقان على حقيقتها والمراد المبالغة في الخشوع وهو تعفير اللحا على التراب أو أنه ربما خروا على الذقن كالمغشي عليهم لخشية الله تعالى وقيل : لعل سجودهم كان هكذا غير ما عرفناه وهو كما ترى
وقال صاحب الفرائد المراد المبالغة في التحامل على الجبهة والأنف حتى كأنهم يلصقون الأذقان بالأرض وهو وجه حسن جدا واللام على ما نص عليه الزمخشري للاختصاص وذكر أن المعنى جعلوا أذقانهم للخرور واختصوها به
ومعنى هذا الاختصاص على ما في الكشف أن الخرور لا يتعدى الأذقان إلى غيرها من الأعضاء المقابلة وحقق ذلك بما لا مزيد عليه واعترض القول بالاختصاص بأنه مخالف لما سبق من قوله : إن الذقن أول ما يلقي الساجد به الأرض وأجيب بما أجيب وتعقبه الخفاجي بأنه مبني على أن الاختصاص الذي تدل عليه اللام بمعنى
(15/189)
الحصر وليس كذلك وإنما هو بمعنى متعلق خاص ولو سلم فمعنى الاختصاص بالذقن الاختصاص بجهته ومحاذيه وهي جهة السفل ولا شك في اختصاصه به إذ هو لا يكون لغيره فمعنى يخرون للأذقان يقعون على الأرض عند التحقيق والمراد تصوير تلك الحالة كما في قوله
فخر صريعا لليدين وللفم
فتأمل
واختار بعضهم كون اللام بمعنى على وزعم بعض عود ضميري به وقبله عن النبي ويأباه السباق واللحاق وأخرج ابن المنذر وابن جرير أن ضمير يتلى لكتابهم ولا يخفى حاله والظاهر أن الجملة الإسمية داخلة في حيز قل وهي تعليل لما يفهم من قوله تعالى : ءامنوا به أو لا تؤمنوا من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد ءامن به أحسن إيمان من هو خير منكم ويجوز أن لا تكون داخلة في حيز قبل بل هي تعليل له على سبيل التسلية لرسول الله كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وأغراضهم وقد ذكر كلا الوجهين الكشاف قال في الكشف والحاصل أن المقصود التسلي والازدراء وعدم المبالاة المفيد للتوبيخ والتقريع مفرع عليه مدمج أو بالعكس والصيغة في الثاني أظهر والتعليل بقوله سبحانه إن الذين أوتوا العلم في الأول
وقال ابن عطية يتوجه في الآية معنى آخر وهو أن قوله سبحانه قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إنما جاء للوعيد والمعنى افعلوا أي الأمرين شئتم فسترون ما تجازون به ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي أن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة إذا يتلى عليهم ما أنزل عليهم خشعوا وآمنوا ا ه وهو بعيد جدا ولا يخلو عن ارتكاب مجتر
وربما يكون في الكلام عليه استخدام ويقولون أي في سجودهم أو مطلقا سبحان ربنا عن خلف وعده أو عما يفعل الكفرة من التكذيب إن كان وعد ربنا لمفعولا 801 إن مخففة من المثقلة واسمها ضمير شأن واللام فارقة أي إن الشأن هذا ويخرون للأذقان يبكون كرر الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكر لإنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا مما قبل أو مما بعد أي ساجدين وجملة يبكون حال أيضا أي باكين من خشية الله تعالى ولما كان البكاء ناشئا من الخشية الناشئة من التفكر الذي يتجدد جيء بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد وقد جاء مدح البكاء من خشيته تعالى أخبار كثيرة فقد أخرج الترمذي عن النضر بن سعد قال : قال رسول الله لو أن عبدا بكى في أمة لأنجى الله تعالى تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد وما من عمل إلا له وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفيء بحورا من النار وما أغرورقت عين بمائها من خشية الله تعالى إلا حرم الله تعالى جسدها على النار فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة وأخرج أيضا عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله يقول : عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله تعالى وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى وأخرج هو والنسائي ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم زاد النسائي في منخريه ومسلم أبدا وينبغي أن يكون ذلك حال العلماء فقد أخرج ابن جرير وابن
(15/190)
المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التيمي أنه قال : إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم أي القرآن بسماعهم خشوعا 901 لما يزيدهم علما ويقينا بأمر الله تعالى على ما حصل عندهم من الأدلة
م قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : صلى بمكة ذات يوم فدعا الله تعالى فقال في دعائه : يا الله يا رحمن فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابيء ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزلت وعن الضحاك أنه قال : قال أهل الكتاب للرسول : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله تعالى في التوراة هذا الإسم فنزلت والمراد على الأول التسوية بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحد وإن اختلف الإعتبار والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود وهو يلائم قوله تعالى فيما بعد وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وعلى الثاني التسوية في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود فإن أهل الكتاب فهموا أحسنية الرحمن لكونه أحب إليه تعالى إذ أكثر ذكره في كتابهم وكأن حكمة ذلك أن موسى عليه السلام كان غضوبا كما دلت عليه الآثار فأكثر له من ذكر الرحمن ليعامل أمته بمزيد الرحمة لأن الأنبياء عليهم السلام يتخلقون بأخلاق الله تعالى قال القاضي البيضاوي : وهذا أوجب لقوله تبارك اسمه أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى لأن توصيف الأسماء بالحسنى يفهم منه أن المقول لهم ذلك يظنون أحسنية اسم من اسم لا التغاير وقال صاحب الكشف : الغرض على الوجهين التسوية بين اللفظين في الحسن والإختلاف إنما هو بأن الإستواء في الحسن رد لمن قال : إنك لتقل إلخ بأن الاتيان بأحد الحسنين كاف أو لمن قال : ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو بأن الإختلاف بين اللفظين الدالين على كماله تعالى لا بين كاملين فالأجوبية ممنوعة انتهى
وتعقب بأن أنسبية التوصيف بالحسنى للثاني ظاهرة مما لا تكاد تنكر ووجه الطيبي الأجوبية بأن اعتراض اليهود كان تعبيرا للمسلمين على ترجيح أحد الإسمين على الآخر واعتراض المشركين كان تعبيرا على الجمع بين اللفظين وقوله تعالى : أيا ما تدعوا يطابق الرد على اليهود لأن المعنى أي اسم من الإسمين دعوتموه فهو حسن وهو لا ينطبق على اعتراضه المشركين ثم قال : هذا مسلم إذا كان أو للتخيير ويجوز أن تكون للإباحة والإنطباق حينئذ ظاهر فإن المشركين حظروا الجمع بين الإسمين فيكون ردهم بإباحة الجمع بين الأسماء المتكاثرة فضلا عن الجمع بين الإسمين على أن الجواب بالتخيير في الرد على أهل الكتاب غير مطابق لأنهم اعترضوا بالترجيح وأجيب بالتسوية لأن أو تقتضيها وكان الجواب العتيد أن يقال : إنما رجحنا الله على الرحمن في الذكر لأنه جامع لجميع صفات الكمال بخلاف الرحمن وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهذا
ومنع الأجوبية أيضا الجلبي بأن تقديم الخبر في قوله تعالى : فله الأسماء الحسنى يقتضي أجوبية الأول إذ معناه هذه الأسماء لله تعالى لا لغيره كما زعم المشركون إلا أن يقال أو للتخيير وهو غير مسلم بل يتعين كونها للإباحة لأنها كما قال الرضي وغيره يجوز الجمع فيها بين المتعاطفين والإقتصار على أحدهما وفي التخيير لا يجوز الجمع وهو هنا جائز ودفع بأن المعنى لله تعالى أسماء متفقة في الحسن لأنها لا تختلف مدلولاتها بالذات بخلاف غيره سبحانه فإن أسماءه تختلف فالقصر إذا كان بأن لم يكن التقديم لمجرد التشويق ناظر إلى الوصف لا للأسماء وهذا
(15/191)
لا يتوقف على تسليم التخيير ثم إنه لا ما نع من إرادته بل أي تقتضيه لأنها لأحد الشيئين فإذا قلت لأحد : أي الأمرين تفعل فافعل لم تأمره بفعلهما بل بفعل أحدهما وأما الدلالة على جواز الجمع فمن خارج النظم ودلالة العقل لأنهما إذا لم يتنافيا جاز الجمع بينهما ومن هنا تعلم أنه لا حاجة إلى حمل التخيير في كلام من عبر به على غير الإصلاح المشهور الذي هو إصلاح النحاة فيه إذ قوبل بالإباحة بأن يقال : مراده به التسوية بين الإسمين في الدلالة على ذات واحدة وسواء فيه الإفراد والجمع قال في التلويح : وفي التخيير قد يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة ا ه والظاهر أن الحق مع مانع الأجوبية والقائل بالإباحة فتدبر والدعاء على ما اختاره أبو حيان وجماعة بمعنى النداء وقال الزمخشري : هو بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدى إلى مفعولين تقول دعوته زيدا ثم يترك أحدهما استغناء عنه فتقول دعوت زيدا والأصل على ما قيل أن يتعدى إلى الثاني بالباء لكنه يتسع فيحذف الباء والمفعول الآخر هنا محذوف أي سموه بهذا الإسم أو بهذا الإسم وكذا يقال في الدعاء الثاني وعلل ذلك بأنه لو حمل على الحقيقة المشهورة يلزم إما الاشتراك أن تغار مدلولا الاسمين أو عطف الشيء على نفسه بأو وهو إنما يجوز بالواو إن اتحدا وبحث فيه بأنا نختار الثاني ولا يلزم ما ذكر لأنه قصد اللفظ كما تقول نادي النبي بمحمد أو بأحمد مع أن اختلاف مفهوميهما يكفي لصحته وما روي في سبب النزول أو لا ينادي على ما قيل على إرادة النداء وقيل إن كانت الآية ردا على المشركين فهو بمعنى التسمية وإن كانت ردا على اليهود فهو بمعنى النداء وجعل الطيبي لذلك تفسير الزمخشري إياه بالتسمية مؤذنا بميله إلى أنه رد على المشركين وفي ذلك تأمل و أيا اسم شرط جازم منصوب بتدعوا وجازم له فهو عامل ومعمول من جهتين والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف والتقدير أي هذين الاسمين وما حرف مزيد للتأكيد وقيل إنها اسم شرط مؤكد به وقرأ طلحة بن مصرف من بدل ما وخرج على زيادتها على مذهب الكسائي أو جعلها أداة شرط والجمع بين أداتي الشرط كالجمع بين حرفي الجر في قوله :
فأصبحن لا يسألنني عن بما به
شاذ وجملة فله الأسماء الحسنى واقعة موقع جواب الشرط وهي في الحقيقة تعليل له وكأن أصل الكلام أيا ما تدعوه به فهو حسن لأن له سبحانه الأسماء الحسنى اللاتي منها هذان وفي العدول عن حق الجواب إقامة الشيء بدليله وفيه مبالغة لا تخفى وهذا التقدير ظاهر على القول الثاني في سبب النزول ويقدر على القول الأول فيه فمدلوله واحد ونحوه ولا حاجة إلى ذلك بل يقدر على القولين فهو حسن على ما سمعت عن صاحب الكشف
وقال الطيبي وقد حمل أو على الإباحة وجعل الخطاب للمشركين : التقدير قل سموا ذاته المقدسة بالله وبالرحمن فهما سيان في استصواب التسمية بها فبأيهما سميته فأنت مصيب وإن سميته بهما جميعا فأنت أصوب لأن له الأسماء الحسنى وقد أمرنا الله سبحانه بأن ندعوه بها في قوله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها فجواب الشرط الأول قولنا فأنت مصيب ودل على الشرط الثاني وجوابه قوله تعالى : فله الأسماء الحسنى والآية على هذا فن من فنون الإيجاز الذي هو من حلية التنزيل وعلى تقدير فهو حسن حسبما سمعت أولا من باب الأطناب ا ه وهو كما ترى
ونقل في البحر أن منهم من وقف على أيا على معنى أي اللفظين تدعوه به جاز ثم استأنف فقال ما تدعوا
(15/192)
فله الأسماء الحسنى وتعقبه بأن هذا لا يصح لأن ما لا يطلق على آحاد ذوي العلم ولأن الشرط يقتضي عموما وهو لا يصح هنا وضمير فله عائد على المسمى أو المنادى المفهوم من الكلام والقرينة عقلية وهي أن الأسماء تكون للمسمى وللمنادى لا للاسم واللفظ المنادى به وسيأتي إن شاء الله تعالى عن محيي الدين قدس الله سره غير ذلك في باب الإشارة ووصف الأسماء بالحسنى لدلالتها على ما هو جامع لجميع صفات الكمال بحيث لا يشذ منها شيء وما هو من صفات الجلال والجمال والإكرام هذا واعلم أن الظاهر مما روي عن اليهود أنهم لا ينكرون حسن سائر أسمائه تعالى وإنما يزعمون أن الرحمن منها أحب أسمائه تعالى إليه وأعظمها وأشرفها لكثرة ذكره تعالى إياه في التوراة واختلاف أسمائه عزت أسماؤه في الشرف والعظم مما ذهب إليه المسلمون أيضا
ويدل على تخصيصه بعض الأسماء بأنه الإسم الأعظم فقد روي أن النبي سمع رجلا يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال عليه الصلاة و السلام : والذي نفسي بيده لقد سأل الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى وروي أنه عليه الصلاة و السلام قال : اسم الله تعالى الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وفاتحة آل عمران الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ونص حجة الإسلام الغزالي في أوائل كتابه المقصد الأسني على أن الله أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازا وسائر الأسماء قد يسمى به غيره عز و جل كالقادر والعليم والرحيم وغيرها واسمه تعالى الرحمن لا يسمى به غيره تعالى أيضا وهو من هذا الوجه قريب من اسم الله سبحانه وإن كان مشتقا من الرحمة قطعا ولذا جمع عز و جل بينهما في قوله سبحانه قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ا ه وقال في أواخره : فإن قيل ما بال تسعة وتسعين من أسمائه تعالى اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة مع أن الكل أسماء الله تعالى فنقول : ألأسامي يجوز أن تتفاوت فضيلتها لتفاوت معانيها في الجلالة والشرف فتكون تسعة وتسعون منها تجمع أنواعا من المعاني المنبئة عن الجلال لا يجمع ذلك غيرها مختص بزيادة شرف انتهى وقال الإمام الرازي في هذه الآية : تخصيص هذين الإسمين يعني الله والرحمن بالذكر يدل على أنهما أشرف من سائر الأسماء وتقديم اسم الله على الرحمن يدل على قولنا : الله أعظم الأسماء إلى غير ذلك مما ذكره غير واحد من الأجلة والآية إنما تصلح بحسب الظاهر ردا لما فهمه اليهود إذا كان المراد منها نفي التفاوت الذي زعموه وحينئذ يقع التعارض بينهما وبين ما يدل على التفاوت من الأخبار وقد يجعل هذا وجها لاختيار كون سبب النزول قول المشركين ولعل أثره أصح وما نقلناه فيما سبق عن العلامة الطيبي مؤيد لما قلناه واحتج الجبائي بالآية على أنه تعالى ليس خالق الظلم وإلا لصح اشتقاق اسم له سبحانه منه وحينئذ يبطل ما دلت عليه الآية من كون أسمائه تعالى بأسرها حسنى وأجيب بمنع الملازمة لأن الظلم ليس صفته عز و جل وكونه خالقا له لا يصحح الاشتقاق منه وإلا لصح الاشتقاق من الطول والقصر والسواد والبياض لأنه تعالى خالق لذلك بالاتفاق نعم لا ينبغي أن يقال لله تبارك وتعالى خالق القبيح للزوم الأدب معه سبحانه ويقال خالق كل شيء
(15/193)
وما هو من أسمائه جلت أسماؤه الخالق لا خالق كذا فافهم سلك الله تعالى بنا وبك الطريق الأقوم
وهذه الآية على ما قيل من آيات الحفظ بناء على ما أخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله قال في قوله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن إلى آخر الآية هو أمان من السرق وأن رجلا من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجده مردودا فوضع الكارة وفعل ذلك ثلاث مرات فضحك صاحب الدار ثم قال : إني أحصنت بيتي ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا 011 أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ابن عباس قال : نزلت ورسول الله مختف بمكة فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وابتغ بين ذلك سبيلا يقول بين الجهر والمخافتة وظاهره أن المراد بالصلاة القراءة التي هي أحد أجزائها مجازا ويجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي بقراءة صلاتك والظاهر أن المراد بالقراءة ما يعم البسملة وغيرها وبعض الأخبار يفيد ظاهره تخصيصها بالبسملة فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد قال : كان النبي يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم وكان مسيلمة قد تسمى الرحمن فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي عليه الصلاة و السلام قالوا : قد ذكر مسيلمة إله اليمامة ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير فأنزل الله تعالى هذه الآية ولا يخفى على هذه الرواية أشدية مناسبة الآية لما قبلها وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال : كان أبو بكر إذا صلى من الليل خفض صوته جدا وكان عمر إذا صلى من الليل رفع صوته جدا فقال عمر : يا أبا بكر لو رفعت من صوتك شيئا وقال أبو بكر : يا عمر لو خفضت من صوتك شيئا فأتيا رسول الله فأخبراه بأمرهما فأنزل الله تعالى للآية فأرسل عليه الصلاة و السلام إليهما فقال : يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا وقال لعمر اخفض من صوتك شيئا وفي رواية أنه قيل لأبي بكر : لم تصنع هذا فقال : أناجي ربي وقد عرف حاجتي وقيل لعمر : لم تصنع هذا قال : اطرد الشيطان وأوقظ الوسنان وأمر التجوز أو حذف المضاف على هذا مثله على الأول وكذا على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلا بالجهر في بعض كالمغرب والعشاء والمخافتة في بعض كما في عدا ذلك
وقيل الصلاة بمعنى الدعاء لما أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت : إنما نزلت هذه الآية ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها في الدعاء وأخرج نحوه ابن أبي شيبة عن مجاهد وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ابن جرير وابن المنذر وجماعة وكانوا يجهرون باللهم ارحمني وأخرجوا عن عبد الله بن شداد أن أعرابا من بني تميم كانوا إذا سلم النبي قالوا : أي جهر اللهم ارزقنا إبلا وولدا فنزلت وفي رواية أخرى عن عائشة أن الصلاة هنا التشهد وكان الأعراب كما نقل عن ابن سيرين يجهرون بتشهدهم فنزلت وقيل الصلاة على حقيقتها الشرعية فقد أخرج ابن عساكر عن الحسن أنه قال : المعنى لا تصل الصلاة رياء ولا تدعها حياء وروى نحوه ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس أيضا والأكثرون على التفسير المروي عنه أولا والمخافتة أسرار الكلام
(15/194)
بحيث لا يسمعه المتكلم ومن هنا قال ابن مسعود كما أخرجه عن ابن أبي شيبة وابن جرير : لم يخافت من أسمع أذنيه وخفت وهو من باب ضرب وخافت بمعنى يقال خفت يخفت خفتا وخفوتا وخافت مخافته إذا أسر وأخفى والتعبير عن الأمر الوسط بالسبيل باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدرون ويوصلهم إلى المطلوب وقد جاء عن عبد الله بن الشخير وأبي قلابة خير الأمور أوساطها والآية على ما يقتضيه كلام الأكثرين محكمة وقيل منسوخة بناء على ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس من أنه أمر بمكة بالتوسط بأن لا يجهر جهرا شديدا ولا يخفض حتى لا يسمع أذنيه فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك وقيل هي منسوخة بقوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية وهو كما ترى ولا يخفى عليك حكم رفع الصوت بالقراءة فوق الحاجة وحكم المخافتة بالمعنى الذي سمعته المسطوران في كتب الفقه فراجعها إن لم يكن ذلك على ذكر منك وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أبي رزين قال قرأ عبد الله ولا تخافت بصوتك ولا تعال به وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا رد على اليهود والنصارى وبني مليح حيث قالوا : عزير ابن الله والمسيح ابن الله تعالى والملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ونفى اتخاذ الولد ظاهر في نفي التبني ويعلم منه نفي أن يكون له سبحانه ولدا لصلب من باب أولى وقد نفى ذلك صريحا في قوله تعالى لم يلد ولم يكن له شريك في الملك ظاهره انه رد على الثنوية وهم المشركون في الربوبية ويجوز أن يكون كناية عن نفي الشركة في الألوهية فيكون ردا على الوثنية ولم يكن له ولي من الذل أي ناصر ومانع له سبحانه من الذل لاعتزازه تعالى بنفسه فمن صلة لولي وضمن معنى المنع والنصر أو لم يوال تعالى أحدا من أجل مذلة فالولاية بمعنى المحبة على أصلها ومن تعليلية وليس المعنى على الوجهين نفي الذل والنصر في الأول والموالاة والذل في الثاني على أسلوب لا يهتدى بمناره بل المراد أنه تعالى إذا اتخذ عبدا له وليا فذلك محض الاصطناع في شأن العبد لا أن هناك حاجة وكذلك نصر الله تعالى كمال للناصر لا أن ثمة حاجة ألا ترى إلى قوله سبحانه : إن تنصروا الله ينصركم وإلى هذا ذهب صاحب الكشف وهو حسن وجعل ذلك على الوجهين الفاضل الطيبي من ذاك الأسلوب وفي الحواشي الشهابية في بيان ثاني الوجهين أن المراد نفي أن يكون له تعالى مولى يلتجيء هو سبحانه إليه وأما الولي الذي يوصف به المؤمن فليس الولاية فيه بهذا المعنى بل بمعنى من يتولى أمره لمحبته له تفضلا منه عز و جل ورحمة فغاير بين الولايتين ولعل الحق مع صاحب الكشف ومن عجيب ما قيل إن من الذل في موضع الصفة لولي ومن فيه للتبعيض وأن الكلام على حذف مضاف أي لم يكن له ولي من أهل الذل والمراد بهم اليهود والنصارى ولعمري أنه لا ينبغي أن يلتفت إليه
وربما يتوهم أن المقام مقام التنزيه لا مقام الحمد لأنه يكون على الفعل الاختياري وبه وما ذكر من الصفات العدمية ويدفع بأنه لاق وصفه تعالى بما ذكر بكلمة التحميد لأنه يدل على نفي الامكان المقتضي للإحتياج وإثبات أنه تعالى الواجب الوجود لذاته الغني عما سواه المحتاج إليه ما عداه فهو الجواد المعطي لكل قابل ما يستحق فهو تعالى المستحق للحمد دون غيره عز و جل وهذا الذي عناه الزمخشري وقال في الكشف : لك أن تتخذ نفي هذه الصفات وهي ذرائع منع المعروف أما الولد فلأنه مبخلة وأما الشريك فلأنه مانع من التصرف كيف يشاء وأما الاحتياج إلى من يعتز به أو يذب عنه فأظهر رديفا لإثبات أضدادها على سبيل
(15/195)
الكناية وهو وجه حسن ولو حمل الكلام على ظاهره أيضا لكان له وجه وذلك لأن قول القائل الحمد لله فيه ما ينبيء أن الإلهية تقتضي الحمد فإذا قلت الحمد لله المنزه عن النقائص مثلا يكون قد قويت معنى الإلهية المفهومة من اللفظ فيكون وصفا لائقا مؤيدا لاستحقاقه تعالى الحمد من غير نظر إلى مدخلية الوصف في الحمد بالاستقلال وهذا بين مكشوف إلا أن الزمخشري حاول أن ينبه على مكان الفائدة الزائدة ا ه
وتعقب بأن ما ذكره من أن في الحمد لله ما ينبيء أن الإلهية تقتضي الحمد لا يتم على مذهب ما نعي الإشتقاق في الاسم الكريم وفيه تأمل والآية على ما قال العلامة الطيبي من التقسيم الحاصر لأن المانع من إيتاء النعم إما فوقه سبحانه وتعالى أو دونه أو مثله عز و جل فبني الكلام على الترقي وبديء من الأدون وختم بالأعلى فنفى الكل فمنه ولد الكثرة وله القل والدق والجل تعالى كبرياؤه وعظمت نعماؤه ولدلالة على ما تقدم على أنه تعالى هو الكامل وما عداه ناقص استحق التكبير ولذا عطف عليه قوله سبحانه وكبره تكبيرا 111 والتكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والاجلال وفي الأمر بذلك بعد ما تقدم مؤكدا بالمصدر المنكر من غير تعيين لما يعظم به تعالى إشارة إلى أنه مما لا تسعه العبارة ولا تفي به القوة البشرية وإن بالغ العبد في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد فلم يبق إلا الوقوف بأقدام المذلة في حضيض القصور والإعتراف بالعجز عن القيام بحقه جل وعلا وإن طالت القصور وروى غير واحد أنه كان يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح الحمد لله إلى آخر الآية سبع مرات وسماها عليه الصلاة و السلام كما أخرج أحمد والطبراني عن معاذ آية العز وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال : خرجت أنا ورسول الله ويدي في يده فأتاني على رجل رث الهيئة فقال : أي فلان ما بلغ منك ما أرى قال : السقم والضر قال : ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر توكلت على الحي الذي لا يموت الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية فأتى عليه رسول الله عليه الصلاة و السلام وقد حسنت حالته فقال : مهيم فقال : لم أزل أقول الكلمات التي علمتني
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسمعيل بن أبي فديك قال : قال رسول الله ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام فقال : يا محمد قل : توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا إلى آخر الآية وأخرج ابن السني والديلمي عن فاطمة بنت رسول الله وعليها أن النبي عليه الصلاة و السلام قال لها إذا أخذت مضجعك فقولي : الحمد لله الكافي سبحان الله الأعلى حسبي الله وكفى ما شاء الله قضى سمع الله لمن دعا ليس من الله ملجأ ولا وراء الله ملتجى توكلت على ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا إلى وكبره تكبيرا ثم قال : ما من مسلم يقرأها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فتضره هذا وما ألطف المناسبة بين ابتداء هذه السورة وهذا الختام وليس ذلك بدعا في كلام اللطيف العلام ومن باب الإشارة في الآيات وأن كادوا ليفتنونك إلى آخره تنبيه لحبيبه عن الوقوع فيما يخل بحفظ شرائط المحبة وفيه إشارة إلى إيصاله إلى مقام التمكين أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل الآية وذكر أن الصلاة على خمسة أقسام صلاة المواصلة والمناغاة في مقام الخفي وصلاة المشاهدة في مقام الروح وصلاة المناجاة في مقام السر وصلاة الحضور في مقام القلب وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام النفس فدلوك الشمس إشارة إلى زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود العبد بالفناء المحض فإنه لا صلاة في حال الاستواء إذ لا وجود
(15/196)
للعبد حينئذ ولا شعور له بنفسه وإنما تجب بالزوال وحدوث ظل وجود العبد سواء عند الاحتجاب بالخلق وهو حالة الفرق قبل الجمع أو عند البقاء وهو حالة الفرق بعد الجمع وغسق الليل إشارة إلى غسق ليل النفس وقرآن الفجر إشارة إلى قرآن فجر القلب وأدل الصلوات وألطفها صلاة المواصلة وأفضلها صلاة الشهود المشار إليها بصلاة العصر وأخفها صلاة السر المشار إليها بصلاة المغرب وأشدها تثبيتا للنفس صلاة النفس المشار إليها بصلاة العشاء وأزجرها للشيطان صلاة الحضور المشار إليها بالفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا أي تشهده ملائكة الليل والنهار وهذا إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات النفس وزوالها ومن الليل فتهجد به نافلة لك أي زيادة على الفرائض الخمس خاصة بك قيل لكونه علامة مقام النفس فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة لزيادة احتياج هذا المقام إلى الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات وقيل إنما خص بالتهجد لأن الليل وقت خلوة المحب بالحبيب وهو عليه الصلاة و السلام الحبيب الأعظم والخليل المكرم عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وهو مقام الحاق الناقص بالكامل والكامل بالأكمل وقل ربي أدخلني حضرة الوحدة في عين الجمع مدخل صدق إدخالا مرضيا بلا آفة زيغ البصر إلى الإلتفات إلى الغير أصلا وأخرجني إلى فضاء الكثرة عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود الموهوب الحقاني مخرج صدق سالما من آفة التلوين والإنحراف عن جادة الإستقامة واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا حجة ناصرة بالتثبيت والتمكين وقل إذا زالت نقطة الغين عن العين جاء الحق أي ظهر الوجود الثابت وهو الوجود الواجبي وزهق الباطل وهو الوجود الامكاني ففي الحديث الصحيح أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد
(15/197)
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
ويقال الحق العلم والباطل الجهل والحق ما بدا من الإلهام والباطل هواجس النفس ووساوس الشيطان
وقال فارس : كل ما يحملك على سلوك سبيل الحقيقة فهو حق وكل ما يحجبك ويفرق عليك وقتك فهو باطل وننزل من القرآن ما هو شفاء من أمراض الصفات الذميمة ورحمة للمؤمنين بالغيب يفيدهم الكمالات والفضائل العظيمة فالأول إشارة إلى التخلية والثاني إلى التحلية ويقال هو شفاء من داء الشك لضعفاء المؤمنين ومن داء النكرة للعارفين ومن وجع الاشتياق للمحبين ومن داء القنوط للمريدين والقاصدين وأنشدوا : وكتبك حولي لا تفارق مضجعي وفيها شفاء للذي أنا كاتم ولا يزيد الظالمين الباخسين حظوظهم من الكمال بالميل إلى الشهوات النفسانية إلا خسارا بزيادة ظهور أنفسهم بصفاتهم من إنكار ونحوه وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونآى بجانبه فاحتجب بالنعمة عن المنعم ولم يشكر وإذا مسه الشر كان يؤسا لجهله بعظيم قدرة الله تعالى ولم يصبر قل كل يعمل على شاكلته على طريقته التي تشاكل استعداده وكل إناء بالذي فيه يرشح ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي أي من عالم الابداع وهو علم الذوات المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين فلا يمكن إدراك المحجوبين لها وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وهو علم المحسوسات من يهد الله بنوره بمقتضى العناية الأزلية فهو المهتد دون غيره ومن يضلل بمنع النور عنه فلن تجد لهم أولياء من دونه تعالى يهدونه أو يحفظونه من قهره عز و جل ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم لا نجذا بهم إلى الجهة السفلية عميا وبكما وصما لأنها أحوال تناسب أحوالهم في الدنيا إن الذين أوتو
(15/0)
العلم من قبله إذايتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا لعلمهم بحقيقتهووقوفهم على ماأودع فيه من الأسرار ويخرون للأذقان يبكون لعظمته أو شوقا لمنزله وحبا للقائه قال أبو يعقوب السوسي : البكاء على أنواع بكاء من الله تعالى وهو أن يبكي خوفا مما جرى به القلم في الفاتحة ويظهر في الخاتمة وبكاء على الله عز و جل وهو أن يبكي تحسرا على ما يفوته من الحق تعالى وبكاء لله تبارك وتعالى وهو أن يبكي عند ذكره سبحانه وذكر وعده ووعيده وبكاء بالله تعالى وهو أن يبكي يلاحظ منه في بكائه وقال القاسم : البكاء على وجوه بكاء الجهال على ما جهلوا وبكاء العلماء على ما قصروا وبكاء الصالحين مخافة الفوت وبكاء الأئمة مخافة السوق وبكاء الفرسان من أرباب القلوب للهيبة والخشية ولا بكاء للموحدين وفي الآية إشارة ما إلى السماع ولا أشرف من سماع القرآن فهو الروح والريحان قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن قيل دعاء الله بالفناء في الذات ودعاء الرحمن بالفناء في الصفة وصفة الرحمانية هي أم الصفات وبها استوى سبحانه على عرشه ومن ذلك يعلم أنه ليس المراد من الايجاد إلا رحمة الموجودين أيا ما تدعو أي أيا ما طلبت من هذين المقامين فله تعالى في هذين المقامين الأسماء الحسنى لا لك إذ لست هناك بموجود إما في الفناء في الذات فظاهر وأما في الفناء في الصفة المذكورة فلأن الرحمن لا يصلح اسما لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة لغيرها ولا يخفى عليك أن ضمير له على هذا التأويل عائد على ما عاد إليه على التفسير وفي الفتوحات المكية أنه تعالى جعل الأسماء الحسنى لله كما هي للرحمن غير أن الإسم له معنى وصورة فيدعى الله بمعنى الإسم ويدعى الرحمن بصورته لأن الرحمن هو المنعوت بالنفس وبالنفس ظهرت الكلمات الإلهية في مراتب الخلاء الذي ظهر فيه العالم فلا ندعوه إلا بصورة الاسم وله صورتان صورة عندنا من أنفاسنا وتركيب حروفنا وهي التي ندعوه بها وهي أسماء الأسماء الإلهية وهي كالخلع عليها ونحن بصورة هذه الأسماء مترجمون عن الأسماء الإلهية ولها صور من نفس الرحمن من كونه قائلا ومنعوتا بالكلام وخلف تلك الصور المعاني التي هي كالأرواح للأسماء الإلهية التي يذكر الحق بها نفسه وهي من نفس الرحمن فله الأسماء الحسنى وأرواح تلك الصور هي التي لاسم الله خارجة عن حكم النفس لا تنعت بالكيفية وهي لصور الأسماء النفسية الرحمانية كالمعاني للحروف ولما علمنا هذا وأمرنا بأن ندعوه سبحانه وخيرنا بين الإسمين الجليلين فإن شئنا دعوناه بصور الأسماء النفسية الرحمانية وهي الهمم الكونية التي في أرواحنا وإن شئنا دعوناه بالأسماء التي من أنفاسنا بحكم الترجمة فإذا تلفظنا بها أحضرنا في نفوسنا أما الله فننظر المعنى وأما الرحمن فننظر صورة الاسم الالهي النفسي الرحماني كيفما شئنا فعلنا فإن دلالة الصورتين منا ومن الرحمن على المعنى واحد سواء علمنا ذلك أو لم نعلمه ا ه وهو كلام يعسر فهمه إلا على من شاء الله تعالى بيد أنه ليس فيه حمل الدعاء على ما سمعت وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا فضلا عن أن يكون له سبحانه ولد بطريق التولد ولم يكن له شريك في الملك فلا مدخل لغيره تعالى في ملكية شيء على الحقيقة وما يوجد بسبب ليس السبب إلا آلة له ولا تملك الآلة شيئا بل لا شيء إلا وهو صنعه تعالى على الحقيقة والسرير مثلا وإن أضيف إلى النجار من حيث الصنعة إلا أنه في الحقيقة آلة كالقدوم ولا يضاف العمل إلى الآلة على الحقيقة كذا قيل وللشيخ قدس سره كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن والتسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر وكذا له كلام في قوله سبحانه ولم يكن له ولي من الذل لكن يغني عنه ما قدمناه وكبره تكبيرا قال بعضهم تكبيره تعالى أن تعلم أنك لا تطيق أن تكبره إلا به وقال ابن عطاء تكبيره عز و جل بتعظيم منته وإحسانه في القلب بالعلم بالتقصير في الشكر وكيف يوفى
(15/198)
أحد شكره تعالى ونعمه جل وعلا لا تحصى وآلاؤه لا تستقصى هذا وقد تم بفضل الله
سورة الكهف
81 - ويقال سورة أصحاب الكهف كما في حديث أخرجه ابن مردويه وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا أنها تدعى في التوراة الحائلة تحول بين قارئها وبين النار إلا أنه قال : إنه منكر وهي مكية كلها في المشهور واختاره الداني وروي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة لما أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي قال : نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مكية إلا قوله تعالى واصبر نفسك الآية فمدني وروي ذلك عن قتادة وقال مقاتل : هي مكية إلا أولها إلى جرزا وقوله تعالى : إن الذين آمنوا إلى آخرها فمدني وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين ومائة وعشرة عند الكوفيين ومائة وست عند الشاميين ومائة وخمس عند الحجازيين ووجه مناسبة وضعها بعد الإسراء على ما قيل افتتاح تلك بالتسبيح وهذه بالتحميد وهما مقترنان في الميزان وسائر الكلام نحو فسبح بحمد ربك فسبحان الله وبحمده وأيضا تشابه اختتام تلك وافتتاح هذه فإن في كل منهما حمدا نعم فرق بينهما بأن الحمد الأول ظاهر الحمد الذاتي والحمد المفتتح به في هذه يدل على الإستحقاق الغير الذاتي وقال الجلال السيوطي في ذلك : إن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي عن ثلاثة أشياء عن الروح وعن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر السورة الأولى وجواب السؤالين الآخرين في هذه فناسب اتصالهما ولم تجمع الأجوبة الثلاثة في سورة لأنه لم يقع الجواب عن الأول بالبيان فناسب أن يذكر وحده في سورة واختيرت سورة الإسراء لما بين الروح وبين الإسراء من المشاركة بأن كلا منهما مما لا يكاد تصل إلى حقيقته العقول وقيل : إنما ذكر هناك لما أن الإسراء متضمن العروج إلى المحل الأرفع والروح متصفة بالهبوط من ذلك المحل ولذا قال ابن سينا فيها : هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع ثم قال : ظهر لي وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال في تلك وما أوتيتم من العلم إلا قليلا والخطاب لليهود استظهر على ذلك بقصة موسى نبي بني إسرائيل مع الخضر عليهما السلام التي كان سبب ذكر العلم والأعلم وما دلت عليه من كثرة معلومات الله تعالى التي لا تحصى فكانت هذه الصورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحكم في تلك السورة
وقد ورد في الحديث أنه لما نزل وما أوتيتم من العلم إلا قليلا قال اليهود : قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء نزل قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي الآية فتكون هذه السورة من هذه الجهة جوابا عن شبهة الخصوم فيما قرر في تلك وأيضا لما قال سبحانه هناك فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا شرح ذلك هنا وبسطه بقوله سبحانه فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء إلى قوله تعالى ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ا ه وللمناسبة أوجه أخر تظهر بأدنى تأمل وأما فضلها فمشهور
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت
(15/199)
قدمه إلى عنان السماء يضيء له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين
وروى غير واحد عن أبي سعيد الخدري من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق وكان الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كما أخرج أبو عبيد والبيهقي عن أم موسى يقرأها كل ليلة
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مغفل مرفوعا البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله الشيطان تلك الليلة وإلى سنية قراءتها يوم الجمعة وكذا ليلتها ذهب غير واحد من الأئمة وقالوا بندب تكرار قراءتها
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال وفي رواية أخرى عنه رواها أحمد ومسلم والنسائي وابن حبان أيضا قال : قال رسول الله : من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال
وأخرج الترمذي وصححه عنه مرفوعا من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم الخ وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا إن من قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله تعالى أي الليل شاء وقد جربت ذلك مرارا فليحفظ والله تعالى الموفق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده محمد الكتاب الكامل الغني عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين سائر الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به وهو إما عبارة عن جميع القرآن ففيه تغليب الموجود على المترقب وإما عبارة عن الجميع المنزل حينئذ فالأمر ظاهر وفي وصفه تعالى بموصول إشعار بعلية ما في حيز الصلة لاستحقاق الحمد الدال عليه اللام على ما صرح به ابن هشام وغيره وإيذان بعظم شأن التنزيل الجليل لا وهو الهادي إلى الكمال المنكر في جانبي العلم والعمل وفي التعبير عن الرسول بالعبد مضافا إلى ضميره تعالى من الإشارة إلى تعظيمه عليه الصلاة و السلام وكذا تعظيم المنزل عليه ما فيه وفيه أيضا إشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام وتأخير المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديم عليه ليتصل به قوله تعالى : ولم يجعل له أي للكتاب عوجا 1 أي شيئا من العوج باختلال اللفظ من جهة الإعراب ومخالفة الفصاحة وتناقض المعنى وكونه مشتملا على ما ليس بحق أو داعيا لغير الله تعالى والعوج وكذا العوج الانحراف والميل عن الإستقامة إلا أنه قيل هو بكسر العين ما يدرك بفتح العين وبفتح العين ما يدرك بفتح العين فالأول الإنحراف عن الإستقامة المعنوية التي تدرك بالبصيرة كعوج الدين والكلام والثاني الإنحراف عن الإستقامة الحسية التي تدرك بالبصر كعوج الحائط والعود وأورد عليه قوله تعالى في شأن الأرض لا ترى فيها عوجا ولا أمتا فإن الأرض محسوسة واعوجاجها وكذا استقامتها مما يدرك بالبصر فكان ينبغي على ما ذكر فتح العين وأجيب بأنه لما أريد به هنا ما خفي من الإعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المقايس الهندسية المحتاجة إلى أعمال البصيرة ألحق بما هو عقلي صرف فأطلق ذلك لذلك وتعقب بأن لا ترى ظاهر في أن المنفي ما يدرك بالبصر فيحتاج إلى أن يراد به الإدراك وعن ابن السكيت أن المكسور أعم من المفتوح
(15/200)
واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لا فرق بينهما قيما أي مستقيما كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وروي أيضا عن ابن عباس والمراد مما قيل أنه لا خلل في لفظه ولا في معناه والمراد من هذا أنه معتدل لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه حتى يحتاج إلى كتاب ءآخر كما قال سبحانه ما فرطنا في الكتاب من شيء ولذا كان ءآخر الكتب المنزل على خاتم الرسل عليه الصلاة و السلام وقيل المراد منه ما أريد مما قبله وذكره للتأكيد
وقال الفراء : المراد قيما على سائر الكتب السماوية شاهدا بصحتها وقال أبو مسلم : المراد قيما بمصالح العباد متكفلا بها وببيانها لهم لاشتماله على ما ينتظم به المعاش والمعاد وهو على هذين القولين تأسيس أيضا لا تأكيد فكأنه قيل كتابا صادقا في نفسه مصدقا لغيره أو كتابا خاليا عن النقائص حاليا بالفضائل وقيل المراد على الأخير أنه كامل في نفسه ومكمل لغيره ونصبه بمضمر أي جعله قيما على أن الجملة مستأنفة أو جعله قيما على أنها معطوفة على ما قبل إلا إنه قيل إن حذف حرف العطف مع المعطوف تكلف وكان حفص يسكت على عوجا سكتة خفيفة ثم يقول : قيما
واختار غير واحد أنه على الحال من الضمير في له أي لم يجعل له عوجا حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه خاليا عن الإفراط والتفريط وكذا على القولين الأخيرين نعم قيل : إن جعله حالا من الضمير مع تفسير المستقيم بالخالي عن العوج ركيك
وتعقبه بعضهم بأنه تندفع الركاكة بالحمل على الحالة المؤكدة كما في قوله تعالى ثم وليتم مدبرين وفيه بحث وجوز أن يكون حالا من الكتاب واعترض بأنه يلزم حينئذ العطف قبل تمام الصلة لأن الحال بمنزلة جزء منها وأجيب بأنه يجوز أن يجعل ولم يجعل الخ من تتمة الصلة الأولى على أنه عطف بياني حيث قال تعالى أنزل على عبده الكتاب الكامل في بابه عقبه بقوله سبحانه ولم يجعل له عوجا فحينئذ لا يكون الفصل قبل تمام الصلة وهو نظير قوله تعالى وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام على قول وأيضا يجوز أن يكون الواو في ولم يجعل للحال والجملة بعده حال من الكتاب كقيما واختاره الأصبهاني
وقال أبو حيان : إن ذاك على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف وكثير من أصحابنا على منعه وقال آخر : إن قياس قول الفارسي في الخبر أنه لا يتعدد مختلفا بالأفراد والجملية أن يكون الحال كذلك وأجيب بأنه غير وارد إذ ما ذكره الفارسي خلاف مذهب الجمهور مع أنه قياس مع الفارق فلا يسمع وكذا ما ذكره أبو حيان عن الكثير خلاف المعول عليه عند الأكثر نعم فرارا من القيل والقال جعل بعضهم الواو للاعتراض والجملة اعتراضية وفي الكلام تقديم وتأخير والأصل الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وروي القول بالتقديم والتأخير عن ابن عباس ومجاهد وذكر السمين أن ابن عباس حيث وقعت جملة معترضة في النظم يجعلها مقدمة من تأخير ووجه ذلك بأنها وقعت بين لفظين مرتبطين فهي في قوة الخروج من بينهما ولما كان قيما يفيد استقامة ذاتية أو ثابتة لكونه صفة مشبهة وصيغة مبالغة وما من شيء كذلك إلا وقد يتوهم فيه أدنى عوج ذكر قوله تعالى : ولم يجعل الخ للاحتراز وقدم للاهتمام كما في قوله :
(15/201)
ألا يا أسلمي يا دار مي على البلا ولا زال منها بجرعائك القطر ومن هنا يعلم أن التفسير القيم بالمستقيم بالمعنى المتبادر وأن قول الزمخشري فائدة الجمع بينه وبين نفي العوج التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح غير ذي عوج عند السبر والتصفح وأنه لا يرد قول الإمام إن قوله تعالى : لم يجعل له عوجا يدل على كونه مكملا في ذاته وقوله سبحانه : قيما يدل على كونه مكملا لغيره فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح كما ذكره الله تعالى وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير يمتنع العقل من الذهاب إليه انتهى
ولعمري أن هذا الكلام لا ينبغي من الإمام إن صح عنده أن القول المذكور مروي عن ابن عباس ومجاهد فإن الأول ترجمان القرآن وناهيك به جلالة ومعرفة بدقائق اللسان وقد قيل في الثاني إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك وقال صاحب حل العقد : يمكن أن يكون فيما بدلا من قوله تعالى : ولم يجعل له عوجا قال أبو حيان : ويكون حينئذ بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيدا أبو من هو إنه بدل جملة من مفرد وفي جواز ذلك خلاف هذا وزعم بعضهم أن ضمير له عائد على عبده وحينئذ لا يتأتى جميع التخاريج الإعرابية السابقة وقرأ أبان بن ثعلب قيما بكسر القاف وفتح الباء المخففة وفي بعض مصاحف الصحابة ولم يجعل له عوجا لكنه قيما وحمل ذلك على أنه تفسير لا قراءة لينذر متعلق بأنزل واللام للتعليل واستدل به من قال بتعليل أفعال الله تعالى بالأغراض كالسلف والماتريدية ومن يأبى ذلك يجعلها لام العاقبة وزعم الحوفي أنه متعلق بقيما وليس بقيم والفاعل ضمير الجلالة وكذا في الفعلين المعطوفين عليه وجوز أن يكون الفاعل في الكل ضمير الكتاب أو ضميره وأنذر يتعدى لمفعولين قال تعالى : أنذرناكم عذابا قريبا وحذف هنا المفعول الأول واقتصر على الثاني وهو قوله تعالى : بأسا شديدا إيذانا بأن ما سيق له الكلام هو المفعول الثاني وأن الأول ظاهر لا حاجة إلى ذكره وهو الذين كفروا بقرينة ما بعد والمراد الذين كفروا بالكتاب والظاهر أن المراد من البأس الشديد عذاب الآخرة لا غير وقيل يحتمل أن يندرج فيه عذاب الدنيا من لدنه أي صادرا من عنده تعالى نازلا من قبله بمقابلة كفرهم فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة ثانية للبأس ولدن هنا بمعنى عند كما روي عن قتادة وذكر الراغب أنه أخص منه لأنه يدل على ابتداء نهاية نحو أقمت عنده من لدن طلوع الشمس إلى غروبها وقد يوضع موضع عند
وقال بعضهم : إن لدنا أبلغ من عند وأخص وفيه لغات وقرأ أبو بكر عن عاصم بإشمام الدال بمعنى تضعيف الصوت بالحركة الفاصلة بين الحرفين فيكون إخفاء لها وبكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للاتباع ويفهم من كلام بعضهم أنه قرأ بالإسكان مع الإشمام بمعنى الإشارة إلى الحركة بضم الشفتين مع انفراج بينهما فاستشكل في الدر المصون وغيره بأن هذا الإشمام إنما يتحقق في الوقف على الآخر وكونه في الوسط كما هنا لا يتصور ولذا قيل : إنه يؤتى به هنا بعد الوقف على الهاء ودفع الإعتراض بأنه لا يدل حينئذ على حركة الدال وقد علل به بأنه متعين إذ ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته غيرها ولا يخفى ما فيه وما قدمناه حاسم لمادة الإشكال وقرأ الجمهور بضم الدال والهاء وسكون النون إلا أن ابن كثير يصل الهاء بواو وغيره
(15/202)
لا يصل ويبشر بالنصب عطف على ينذر وقريء شاذا بالرفع
وقرأ حمزة والكسائي ويبشر بالتخفيف المؤمنين أي المصدقين بالكتاب كما يشعر به وكذا بما تقدم ذكر ذلك بعد الإمتنان بإنزال الكتاب الذين يعملون الصالحات أي الأعمال الصالحة التي بينت في تضاعيفه وإيثار صيغة الإستقبال في الصلة للإشعار بتجدد العمل واستمراره وإجراء الموصول على موصوفه المذكور لما أن مدار قبول العمل الإيمان أن لهم أي بأن لهم بمقابلة إيمانهم وعملهم المذكور أجرا حسنا 2 هو كما قال السدي وغيره الجنة وفيها من النعيم المقيم والثواب العظيم ما فيها ويؤيد كون المراد به الجنة ظاهر قوله تعالى ماكثين فيه أي مقيمين في الأجر أبدا 3 من غير انتهاء لزمان مكثهم
ونصب ماكثين على الحال من الضمير المجرور في لهم والظرفان متعلقان به وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية وتكرير الإنذار بقوله تعالى وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا 4 متعلقا بفرقة خاصة ممن عمه الإنذار السابق من مستحقي البأس الشديد للإيذان بكمال فضاعة حالهم لغاية شناعة كفرهم وضلالهم كما ينبيء عنه ما بعد أي وينذر من بين هؤلاء الكفرة المتفوهين بمثل هاتيك العظيمة خاصة وهم العرب القائلون الملائكة بنات الله تعالى واليهود القائلون عزير ابن الله سبحانه والنصارى القائلون المسيح ابن الله عز و جل وترك إجراء الموصول على الموصوف كما في قوله تعالى : ويبشر المؤمنين الخ للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق صدور تلك الكلمة القبيحة عنهم فيما سبق وجعل بعضهم المفعول المحذوف فيما سلف عبارة عن هذه الطائفة وفي الآية صنعة الإحتباك حيث حذف من الأول ما ذكر فيما بعد وهو المنذر وحذف مما بعد ما ذكر في الأول وهو المنذر به وتعقب بأنه يؤدي إلى خروج سائر اصناف الكفرة عن الإنذار والوعيد
وأجيب بأنه يعلم إنذار سائر الأصناف ودخولهم في الوعيد من باب الأولى لأن القول بالتبني وإن كبر كلمة دون الإشراك وفيه نظر وقدر ابن عطية العالم وأبو البقاء العباد فيعم المؤمنين أيضا وتعقب بأن التعميم يقتضي حمل الإنذار على معنى مجرد الإخبار بالأمر الضار من غير اعتبار حلول المنذر به على المنذر كما في قوله تعالى : أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا وهو يفضي إلى خلو النظم الكريم عن الدلالة على حلول البأس الشديد على من عدا هذه الفرقة فتأمل
ما لهم به أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولدا من علم مرفوع المحل على الإبتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرف ومن مزيدة لتأكيد النفي والجملة حالية أو مستأنفة لحال بينهم في مقالهم أي ما لهم بذلك شيء من العلم أصلا لا لإخلالهم بطريق العلم مع تحقق المعلوم أو إمكانه بل لاستحالته في نفسه ومعها لا يستقيم تعلم العلم واستظهر كون ضمير به عايدا على الولد وعدم العلم وكذا حال الجملة على ما سمعت وزعم المهدوي أن الجملة على هذا صفة لولدا وليس بشيء وجوز أن يعود على القول المفهوم من قالوا أي ليس قولهم ذلك ناشئا عن علم وتذكر ونظر فيما يجوز عليه تعالى وما يمتنع وقال الطبري : هو عائد على الله تعالى على معنى ليس لهم علم بما يجوز عليه تعالى وما يمتنع ولا لآبائهم الذين قالوا مثل ذلك ناسبين التبني إليه عز و جل والتعرض لنفي العلم عنهم لأنهم
(15/203)
قدوة هؤلاء كبرت كلمة أي عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته تعالى إلى ما لا يكاد يليق بكبريائه جل وعلا وكبر وكذا كل ما كان على وزن فعل موضوعا على الضم كظرف أو محولا إليه من فعل أو فعل ذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب فالفاعل هنا ضمير يرجع إلى قوله تعالى : اتخذ الخ بتأويل المقالة و كلمة نصب على التمييز وكأنه قيل ما أكبرها كلمة وقوله تعالى تخرج من أفواههم صفة كلمة تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإن كثيرا ما يوسوس بها الشيطان وتحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر فكيف بمثل هذا المنكر وذهب الفارسي وأكثر النحاة إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فيثبت له جميع أحكامه ككون فاعله معرفا بأل أو مضافا إلى معرف بها أو ضمير مفسرا بالتمييز ومن هنا جوز أن يكون الفاعل هنا ضمير كلمة وهي أيضا تمييز والجملة صفتها ولا ضير في وصف التمييز في باب نعم وبئس وجوز أبو حيان وغيره أن تكون صفة لمحذوف هو المخصوص بالذم أي كبرت كلمة كلمة خارجة من أفواههم وظاهر كلام الأخفش تغاير المذهبين وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب والمراد به هنا تعظيم الأمر في قلوب السامعين وهذا ظاهر في أنه لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام بعض الأئمة وقيل نصبت على الحال ولا يخفى حاله وتسميت ذلك كلمة على حد تسمية القصيدة بها وقريء كبرت بسكون الباء وهي لغة تميم وجاء في نحو هذا الفعل ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير كلمة بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ وأوكد واستدل النظام على أن الكلام جسم بهذه الآية لوصفه فيها بالخروج الذي هو من خواص الأجسام
وأجيب بأن الخارج حقيقة هو الهواء الحامل له وإسناده إلى الكلام الذي هو كيفية مجاز وتعقب بأن النظام القائل بجسمية الكلام يقول هو الهواء المكيف لا الكيفية واستدلاله على ذلك مبني على أن الأصل هو الحقيقة إلا أن الخلاف لفظي لا ثمرة فيه إن يقولون إلا كذبا 5 أي ما يقولون في ذلك الشأن إلا قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا والضميران لهم ولآبائهم فلعلك باخع أي قاتل نفسك وفي معناه ما في صحيح البخاري مهلك والأول مروي عن مجاهد والسدي وابن جبير وابن عباس وأنشد لابن الأزرق إذ سأله قول لبيد بن ربيعة : لعلك يوما إن فقدت مزارها على بعده يوما لنفسك باخع وفي البحر عن الليث بخع الرجل نفسه بخعا وبخوعا قتلها من شدة الوجد وأنشد قول الفرزدق : ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته على يديه المقادر وهو من بخع الأرض بالزراعة أي جعلها ضعيفة بسبب متابعة الزراعة كما قال الكسائي وذكر الزمخشري أن البخع أن يبلغ الذبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن القفا وقد رده ابن الأثير وغيره بأنه لم يوجد في كتب اللغة والتشريح لكن الزمخشري ثقة في هذا الباب واسع الإطلاع وقريء باخع نفسك بالإضافة وهي خلاف الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل عند الزمخشري وأشار إليه سيبويه في الكتاب
وقال الكسائي : العمل والإضافة سواء وزعم أبو حيان أن الإضافة أحسن من العمل على آثارهم أي
(15/204)
من بعدهم يعني من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البختري في نفر من قريش اجتمعوا وكان رسول الله قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء به من النصيحة فأحزنه حزنا شديدا فأنزل الله تعالى : فلعلك باخع الخ ومنه يعلم أن ما ذكرنا أوفق بسبب النزول من كون المراد من بعد موتهم على الكفر
إن لم يؤمنوا بهذا البحديث الجليل الشأن وهو القرآن المعبر عنه في صدر السورة بالكتاب ووصفه بذلك لو سلم دلالته على الحدوث لا يضر الأشاعرة وأضرابهم القائلين : بأن الألفاظ حادثة وإن شرطية والجملة بعدها فعل الشرط والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه عند الجمهور وقيل الجواب فلعلك الخ المذكور وهو مقدم لفظا مؤخر معنى والفاء فيه فاء الجواب وقريء أن لم يؤمنوا بفتح همزة أن على التقدير الجار أي لأن وهو متعلق بباخع على أنه علة له وزعم غير واحد أنه لا يجوز أعماله على هذا إذ هو اسم فاعل وعمله مشروط بكونه للحال أو الاستقبال ولا يعمل وهو للمضي وإن الشرطية تقلب الماضي بواسطة لم إلى الإستقبال بخلاف أن المصدرية فإنها تدخل على الماضي الباقي على مضيه إلا إذا حمل على حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة للغرابة
وتعقبه بعض الأجلة بأنه لا يلزم من مضى ما كان علة لشيء مضيه فكم من حزن مستقبل على أمر ماض سواء استمر أو لا فإذا استمر فهو أولى لأنه أشد نكاية فلا حاجة إلى الحمل على حكاية الحال ووجه ذلك في الكشف بأنه إذا كانت البخع عدم الإيمان فإن كانت العلة قد تمت فالمعلول كذلك ضرورة تحقق المعلول عند العلة التامة وإن كانت بعد فكمثل ضرورة أنه لا يتحقق بدون تمامها وتعقب بأنه غير مسلم لأن هذه ليست علة تامة حقيقية حتى يلزم ما ذكر وإنما هي منشأة وباعث فلا يضر تقدمها وقيل أنه تفوت المبالغة حينئذ في وجده على توليهم لعدم كون البخع عقبة بل بعده بمدة بخلاف ما إذا كان للحكاية وتعقب أيضا بأنه لا وجه له بل المبالغة في هذا أقوى لأنه إذا صدر منه لأمر مضى فكيف لو استمر أو تجدد ولعل في الآية ما يترجح له البقاء على الاستقبال وتدبر وانتصاب قوله تعالى : أسفا 6 بباخع على أنه مفعول من أجله وجوز أن يكون حالا من الضمير فيه بتأويل متأسفا لأن الأصل في الحال الإشتقاق وأن ينتصب على أنه مصدر فعل مقدر أي تأسف أسفا والأسف على ما نقل عن الزجاج المبالغة في الحزن والغضب
وقال الراغب : الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الإنتقام فمتى كان على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على ما فوقه انقبض فصار حزنا ولذلك سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الحزن والغضب فقال : مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا وبهذا النظر قال الشاعر :
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب
وإلى كون الأسف أعم من الحزن والغضب وكون الحزن على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف والغضب على من هو في قبضته وملكه ذهب منذر بن سعد وفسر الآسف هنا بالحزن بخلافه في قوله تعالى : فلما آسفونا انتقمنا منهم وإذا استعمل الآسف مع الغضب يراد به الحزن على
(15/205)
ما قيل في قوله تعالى ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا وجعل كل منهما فيه بالنسبة إلى بعض من القوم وعن قتادة تفسير الأسف هنا بالغضب وفي رواية أخرى بالحزن وفي صحيح البخاري تفسيره بالندم
وعن مجاهد تفسيره بالجزع وأهل الحزن أكثر ولعل للترجي وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه وهي هنا استعارة أي وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم
وقال العسكري : هي هنا موضوعة موضع النهي كأنه قيل لا تبخع نفسك وقيل موضع الإستفهام وجعله ابن عطية إنكارا على معنى لا تكن كذلك والقول بمجيء لعل للاستفهام قول كوفي والذي يظهر أنها هنا للإشفاق الذي يقصد به التسلي والحث على ترك التحزن والتأسف ويمكن أن يكون مراد العسكري ذلك وفي الآية عند غير واحد استعارة تمثيلية وذلك أنه مثل حاله في شدة الوجد على إعراب القوم وتوليهم عن الإيمان بالقرآن وكمال الحزن عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه إثر فوت ما يحبه عند مفارقة أحبته تأسفا على مفارقتهم وتلهفا على مهاجرتهم ثم قيل ما قيل وهو أولى من اعتبار الاستعارة المفردة التبعية في الأطراف
وجوز أن تكون من باب التشبيه لذكر طرفيه وهما النبي وباخع بأن يشبه عليه الصلاة و السلام لشدة حرصه على الأمر بمن يريد قتل نفسه لفوات أمر وهو كما ترى
إنا جعلنا ما على الأرض الظاهر عموم ما جميع ما لا يعقل أي سواء كان حيوانا أو نباتا أو معدنا أي جعلنا جميع ما عليها من غير ذوي العقول زينة لها تتزين به وتتحلى وهو شامل لزينة أهلها أيضا وزينة كل شيء بحسبه بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها وقيل لا يدخل في ذلك ما فيه إيذاء من حيوان ونبات ومن قال بعموم قال : لا شيء مما على الارض إلا وفيه جهة انتفاع ولا أقل من الاستدلال به على الصانع ووحدته وقص بعضهم ما بالأشجار والأنهار وآخر بالنبات لما فيه من الأزهار المختلفة الألوان والمنافع وآخر بالحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال وآخر بالذهب والفضة والرصاص والنحاس والياقوت والزبرجد واللؤلؤ والمرجان والألماس وما يجري مجرى ذلك من نفائس الأحجار
وقالت فرقة : أريد بها الخضرة والمياه والنعم والملابس والثمار ولعمري إنه تخصيص لا يقبله الخواص على العموم وقيل إن ما هنا لمن يعقل والمراد بذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير والحسن وجاء في رواية عن ابن عباس عن الرجال وعلى ما أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس العلماء وعلى ما روى عكرمة الخلفاء والعلماء والأمراء وأنت تعلم أن جعل ما لمن يعقل مع إرادة ما ذكر بعيد جدا ولعل أولئك الأجلة أرادوا من ما العقلاء وغيرهم تغليبا للأكثر على غيره وما على الأرض بهذا المعنى ليس إلا بعض العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وأشرف ذلك المواليد وأشرفها نوع الإنسان وهو متفاوت الشرف بحسب الأصناف فيمكن أن يكون ما ذكروه من باب الاقتصار على بعض أصناف هذا الأشرف لداع لذلك أصناف وقد يقال : المراد بما عموم ما لا يعقل ومن يعقل فيدخل من توجه إليه التكليف وغيره ولا ضير في ذلك فإن للمكلف جهتين جهة يدخل بها تحت الزينة وجهة يدخل بها تحت الإبتلاء المشار إليه بقوله تعالى لنبلوهم وقد نص سبحانه على بعض المكلفين بأنهم زينة في قوله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا ومن هنا يعلم ما في قول القاضي الأولى أن لا يدخل المكلف لأن ما على الأرض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها لغرض الابتلاء فالذي له الزينة
(15/206)
يكون خارجا عن الزينة ونصب زينة على أنه مفعول ثان للجعل إن حمل على معنى التصيير أو على أنه أو مفعول له كما قال أبو البقاء وأبو حيان إن حمل على معنى الإبداع واللام الأولى إما متعلقة به أو متعلقة بمحذوف وقع صفة له أي زينة كائنة لها واللام للثانية متعلقة بجعلنا والكلام على هذا وجعل زينة مفعولا له نحو قمت إجلالا لك لتقابلني بمثل ذلك وضمير الجمع عائد على سكان الأرض من المكلفين المفهوم من السياق
وجوز أن يعود على ما علا تقدير أن تكون للعقلاء والابتلاء في الأصل الاختبار وجوز ذلك على الله سبحانه هشام بن الحكم بناء على جهله وزعمه أنه عز و جل لا يعلم الحوادث إلا بعد وجودها لئلا يلزم نفي قدرته تعالى على الفعل أو الترك ورده أهل السنة في محله وقالوا : إنه تعالى يعلم الكليات والجزئيات في الأزل وأول هذه الآية أن المراد ليعاملهم معاملة من يختبرهم أيهم أحسن عملا 7 فنجازي كلا بما يليق به وتقتضيه الحكمة وحسن العمل الزهد في زينة الدنيا وعدم الإغترار بها وصرفها على ما ينبغي والتأمل في شأنها وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها والتمتع بها حسبما أذن الشرع وأداء حقوقها والشكر على ما أوتي منها لا اتخاذها وسيلة إلى الشهوات والأغراض الفاسدة كما تفعله الكفرة وأصحاب الأهواء ومراتب الحسن متفاوتة وكلما قوى الزهد مثلا كان أحسن وسأل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما النبي عن الأحسن عملا كما أخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ فقال عليه الصلاة و السلام أحسنكم عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرعكم في طاعته سبحانه
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال : أحسنهم عملا أشدهم للدنيا تركا وأخرج نحوه عن سفيان الثوري وذكر بعضهم أن الأحسن من زهد وقنع من الدنيا بزاد المسافر ووراءه وهو من استكثر من حلالها وصرفه في وجوهه وقبيح من احتطب حلالها وحرامها وأنفقه في شهواته وكلام النبي في بيان الأحسن أحسن وما آتاكم الرسول فخذوه وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإشعار بأن الغاية الأصلية للجعل المذكور إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين وأي إما إستفهامية فهي مرفوعة بالابتداء وأحسن خبرها والجملة في محل نصب بفعل الابتلاء ولما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالسؤال والنظر ومكان الاستفهام علق عن العمل وإما موصولة بمعنى فهي مبنية على الضم محلها النصب على أنها بدل من ضمير النصب في نبلوهم وأحسن خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لها والتقدير لنبلو والذي هو أحسن عملا ويفهم من البحر أن مذهب سيبويه في أي إذا أضيفت وحذف صدر صلتها كما هنا جواز البناء لا وجوبه وتحقيق الكلام في مذهبه لا يخلو عن إشكال وأفعل التفضيل باق على الصحيح على حقيقته كما أشرنا إليه والمفضل عليه محذوف والتقدير كما قال أبو حيان لنبلوهم أيهم أحسن عملا ممن ليس أحسن عملا وإنا لجاعلون فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا ما عليها مما جعلناه زينة والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير وجوز غير واحد أن يكون هذا أعم مما جعل زينة ولذا لم يؤت بالضمير والجعل هنا بمعنى التصيير أي مصيرون ذلك صعيدا أي ترابا جرزا 8 أي لا نبات فيه قاله قتادة وقال الراغب : الصعيد وجه الأرض وقال أبو عبيدة هو المستوى من الأرض وروي ذلك
(15/207)
عن السدي وقال الزجاج : هو الطريق الذي لا نبات فيه وأخرج ابن أبي حاتم أن الجزر الخراب والظاهر أنه ليس معنى حقيقا والمعنى الحقيقي ما ذكرناه وقد ذكره غير واحد من أئمة اللغة وفي البحر يقال جزرت الأرض فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحط أو جراد وأرضون أجراز لا نبات فيها ويقال سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها وجرز الأرض الجراد والشاة والابل إذا أكلت ما عليها ورجل جروز أكول أو سريع الأكل وكذا الأنثى قال الشاعر : أن العجوز خبة جروزا تأكل كل ليلة قفيزا وفي القاموس أرض جرز وجرز وجرز لاتنبت أو أكل نباتها أو لم يصبها مطر وفي المثل لا ترضى شائنة إلا بجرزة أي بالإستئصال والمراد ما على الأرض ترابا ساذجا بعد ما كان يتعجب من بهجته النظار وتستلذ بمشاهدته الأبصار وظاهر الآية تصيير ما عليها بجميع أجزائه كذلك وذلك إنما يكون بقلب سائر عناصر المواليد إلى عنصر التراب ولا استحالة فيه لوقوع انقلاب بعض العناصر إلى بعض اليوم وقد يقال إن هذا جار على العرف فإن الناس يقولون صار فلان ترابا إذا اضمحل جسده ولم يبق منه أثر إلا التراب
وحديث انقلاب العناصر مما لا يكاد يخطر لهم ببال وكذا زعم محققي الفلاسفة بقاء صور العناصر في المواليد ويوشك أن يكون تركب المواليد من العناصر أيضا كذلك وهذا الحديث لا تكاد تسمعه عن السلف الصالح والله تعالى أعلم ووجه ربط هاتين الآيتين بما قبلهما على ما قاله بعض المحققين أن قوله تعالى إنا جعلنا الخ تعليل لما في لعل من معنى الإشفاق وقوله سبحانه إنا لجاعلون الخ تكميل للتعليل وحاصل المعنى لا تحزن بما عاينت من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياء زينة لها لنختبر أعمالهم فنجازيهم بحسبها وإنا لمفنون ذلك عن قريب ومجازون بحسب الأعمال وفي معنى ذلك ما قيل إنه تسكين له عليه الصلاة و السلام كأنه قيل : لا تحزن فإنا ننتقم لك منهم وظاهر كلام بعضهم جعل ما يفهم من أول السورة تعليلا للإشفاق حيث قال المعنى لا يعظم حزنك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذرا ومبشرا وأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه قيل ولا يضر جعل ما ذكر تعليلا لذلك أيضا لأن العلل غير حقيقية وقيل : في وجه الربط إن ما تقدم تضمن نهيه عن الحزن وهذا تضمن إرشاده إلى التخلق ببعض أخلاقه تعالى كأنه قيل إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك لا أقطع عنهم نعمي فأنت أيضا يا محمد لا تترك الإشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم والجملة الثانية لمجرد التزهيد في الميل إلى زينة الأرض ولا يخفى عليك بعد هذا الربط بل لا يكاد ينساق الذهن إليه فتأمل أم حسبت خطاب لسيد المخاطبين والمقصود غيره كما ذهب إليه غير واحد و أم منقطعة مقدرة ببل التي هي للانتقال من كلام إلى آخر لا للإبطال وهمزة الاستفهام عند الجمهور و ببل وحدها عند البعض وقيل : هي هنا بمعنى الهمزة والحق الأول أي بل أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في بقائهم على الحياة ونومهم مدة طويلة من الدهر من ءاياتنا أي من بين دلائلنا الدالة على القدرة والألوهية عجبا 9 أي آية ذات عجب وضعا له
(15/208)
موضع المضاف أو وصفا لذلك بالمصدر مبالغة وهو خبر لكانوا و من آياتنا حال منه كما هو قاعدة نعت النكرة إذا تقدم عليها وجوز أبو البقاءأن يكون عجبا ومن آياتنا خبرين وإن يكون عجبا حالا من الضمير في الجار والمجرور وليس بذاك والمعنى أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادة ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات التي من جملتها ما تقدم ومن هنا يعلم وجه الربط وفي الكشف أنه تعالى ذكر من الآيات الكلية وإن كان لتسليته وأنه لا ينبغي أن يبخع نفسه على آثارهم فالمسترشد يكفيه أدنى إشارة والزائغ لا تجدي فيه آيات النذارة والبشارة ما يشتمل على أمهات العجائب وعقبه سبحانه بقوله أم حسبت الخ يعني أن ذلك أعظم من هذا فمن لا يتعجب من ذلك لا ينبغي أن يتعجب من هذا وأريد من الخطاب غيره لأنه كان يعرف من قدرته تعالى ما لا يتعاظمه لا الأول ولا الثاني فأنكر اختلافهم في حالهم تعجبا وإضرابهم عن مثل تلك الآيات والاعتراض عليه بأن الإضراب عن الكلام الأول إنما يحسن إذا كان الثاني أغرب ليحصل الترقي وإيثار أن الهمزة للتقرير وهو قول آخر في الآية لذلك غير قادح لأن تعجبهم عن هذا دون الأول هو المنكر وهو الأغرب فافهم وبأن المنكر ينبغي أن يكون مقررا عند السامع معلوما عنده وهذا ابتداء إعلام منه تعالى على ما يعرف من سبب النزول من كذلك لأن الإنكار من تعجبهم ويكفي في ذلك معرفتها إجمالا وكانت حاصلة كيف وقد علمت أنه راجع إلى الغير أعني أصحاب الكتاب الذين أمروا قريشا بالسؤال وكانوا عالمين ثم أنه مشترك الإلزام لأن التقرير أيضا يقتضي العلم بل أولى انتهى وقال الطبري : المراد إنكار ذلك الحسبان عليه عليه الصلاة و السلام على معنى لا يعظم ذلك عندك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة فإن سائر آيات الله تعالى أعظم من قصتهم وزعم أن هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحق وفي القلب منه شيء وقيل : المراد من الاستفهام إثبات أهم عجب كأنه قيل أعلم أنهم عجب كما تقول أعلمت أن فلان فعل كذا أي قد فعل فاعلمه
والمقصود بالخطاب رسول الله أيضا وليس بشيء وزعم الطيبي أن الوجه إن يجري الكلام على التسلي والاستفهام على التنبيه ويقال : إنه عليه الصلاة و السلام لما أخذه من الكآبة والأسف من إباء القوم عن الإيمان ما أخذه قيل له ما قيل وعلل بقوله تعالى إنا جعلنا الخ على معنى إنا جعلنا ذلك لنختبرهم وحين لم تتعلق إرادتنا بإيمانهم تشاغلوا به عن آياتنا وشغلوا عن الشكر وبدلوا الإيمان بالكفران فلم نبال بهم وإنا لجاعلون أبدانهم جزرا لأسيافكم كما إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ألا ترى إلى أولئك الفتيان كيف اهتدوا وفروا إلى الله تعالى وتركوا زينة الدنيا وزخرفها فأووا إلى الكهف قائلين ربنا ءاتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا وكما تعلقت الإرادة بإرشادهم فاهتدوا تتعلق بإرشاد قومهم من أمتك يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ا ه ويكاد يكون أعجب من قصة أهل الكهف فتأمل والحسبان إما بمعنى الظن أو بمعنى العلم وقد استعمل بالمعنيين والكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يكن واسعا فهو غار وأخرج ابن أبي حاتم أنه غار الوادي وعن مجاهد أنه فرجة بين الجبلين وعن انس هو الجبل وهو غير مشهور في اللغة والرقيم إسم كلبهم على ما روي عن أنس والشعبي وجاء في رواية عن ابن جبير ويدل عليه قول أميه بن أبي الصلت : وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهمو والقوم في الكهف هجدا
(15/209)
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف وأمرهم ثم وضع على باب الكهف وقيل لوح من حجارة كتب فيه أسماؤهم وجعل في سور المدينة وروي ذلك عن السدي
وقيل لوح من رصاص كتب فيه شأنهم ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف وقيل لوح من الذهب كتب فيه ذلك وكان تحت الجدار الذي أقامه لخضر عليه السلام وروي عن ابن عباس أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام وقيل من دين قبل عيسى عليه السلام فهو لفظ عربي وفعيل بمعنى مفعول
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أنه واد دون فلسطين قريب من أيلة والكهف على ما قيل في ذلك الوادي فهو من رقمة الوادي أي جانبه وأخرجا هما وجماعة من طريق آخر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : لا أدري ما الرقيم وسألت كعبا فقال : اسم القرية التي أخرجوا منها وعلى جميع هذه الأقوال يكون أصحاب الكهف والرقيم عبارة عن طائفة واحدة وقيل إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم في الصحيحين وغيرهما
مفقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله قال : بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذا أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض : إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه فقال واحد منهم : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل على فرق من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا وأنه أتاني يطلب أجره فقلت اعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي : إنما لي عندك فرق من أرز فقلت : اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكينا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى رقدت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله تعالى عنهم فخرجوا روى نحو ذلك عن ابن عباس وأنس والنعمان بن بشير كل يرفعه إلى رسول الله والرقيم على هذا بمعنى محل في الجبل وقيل بمعنى الصخرة وقيل الجبل ويكون ذكر ذلك تلميحا إلى قصتهم وإشارة إلى أنه تعالى لا يضيع عمل أحد خيرا أو شرا فهو غير مقصود بالذات ولا يخفى أن ذلك بعيد عن السياق وليس في الأخبار الصحيحة ما يضطرنا إلى ارتكابه فتأمل إذ أوى معمول عجبا أو كانوا أو اذكر مقدرا ولا يجوز أن يكون ظرفا لحسبت لأن حسبانه لم يكن في ذلك الوقت أي حين التجأ الفتية إلى الكهف واتخذوه مأوى
(15/210)
ومكانا لهم والفتية جمع قلة لفتى وهو كما قال الراغب وغيره الطري من الشبان ويجمع أيضا على فتيان وقال ابن السراج : إنه اسم جمع وقال غير واحد إنه جمع فتى كصبي وصبية ورجح بكثرة مثله والمراد بهم أصحاب الكهف وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق ما كانوا عليه في أنفسهم من حال الفتوة فقد روي أنهم كانوا شبانا من أبناء أشراف الروم وعظمائهم مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وقيل لأن صاحبية الكهف من فروع التجائهم إلى الكهف فلا يناسب اعتبارهم معهم قبل بيانه والظاهر مع الضمير اعتبارها وليس الأمر كذلك مع هذا الظاهر وإن كانت أل فيه للعهد فقالوا ربنا آتنا من لدنك أي من عندك رحمة عظيمة أو نوعا من الرحمة فالتنوين للتعظيم أو للنوع و من للابتداء متعلق بآتنا ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من رحمة قدم عليها لكونها نكرة ولو تأخر لكان صفة لها وفسرت الرحمة بالمغفرة والرزق والأمن والأولى تفسيرها بما يتضمن ذلك وغيره وفي ذكر من لدنك إيماء إلى أن ذلك من باب التفضل لا الوجوب فكأنهم قالوا ربنا تفضل علينا برحمة وهييء لنا من أمرنا الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار المثابرة على طاعتك وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري وهيي بياءين من غير همز يعني أنهم أبدلوا الهمزة الساكنة ياء وفي كتاب ابن خالويه قرأ الأعشى عن أبي بكر عن عاصم وهي بلا همز انتهى
وهو يحتمل أن يكون قد أبدل الهمزة ياء وأن يكون حذفها والأول إبدال قياسي والثاني مختلف فيه أينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر والمضارع المجزومين أم لا وأصل التهيئة إحداث الهيئة وهي الحالة التي يكون عليها الشيء محسوسة أو معقولة ثم استعمل في إحضار الشيء وتيسيره أي يسر لنا من أمرنا رشدا 01 إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداء إليه وقرأ أبو رجاء رشدا بضم الراء وإسكان الشين والمعنى واحد إلا أن الأوفق بفواصل الآيات قراءة الجمهور وإلى اتحاد المعنى ذهب الراغب قال : الرشد بفتحتين خلاف الغي ويستعمل استعمال الهداية وكذا الرشد بضم فسكون
وقال بعضهم : الرشد أي بفتحتين كما في بعض النسخ المضبوطة أخص من الرشد لأن الرشد بالضم يقال في الأمور الدنيوية والأخروية والرشد يقال في الأمور الأخروية لا غير ا ه وفيه مخالفة لما ذكره ابن عطية فإنه قال : إن هذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه لهذه الآية فإنها كافية
ويحتمل أن يراد بالرحمة رحمة الآخرة ا ه نعم فيما قاله نظر والأولى جعل الدعاء عاما في أمر الدنيا والآخرة وإن كان تعقيبه بما بعد كونه ظاهرا في كونه خاصا في أمر الأولى واللام ومن متعلقان بهييء فإن اختلف معناهما بأن كانت الأولى للأجل والثانية ابتدائية فلا كلام وإن كانتا للأجل احتاجت صحة التعلق إلى الجواب المشهور
وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر وكذا الكلام في تقديم من لدنك على رحمة على تقدير تعلقه بآتنا وتقديم المجرور الأول على الثاني للايذان من أول الأمر بكون المسئول مرغوبا فيه لديهم وقيل الكلام على التجريد وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة كأنه بلغ إلى مرتبة من الكمال بحيث يمكن أن يؤخذ منه آخر كرأيت منك أسدا أي اجعل أمرنا كله رشدا
فضربنا على ءاذانهم أي ضربنا عليها حجابا يمنع السماع فالمفعول محذوف كما في قولهم : بنى على امرأته
(15/211)
والمراد أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات بأن يجعل الضرب على الآذان كناية عن الإنامة الثقيلة وإنما صلح كناية لأن الصوت والتنبيه طريق من طرق إزالة النوم فسد طريقه يدل على استحكامه وأما الضرب على العين وإن كان تعلقه بها أشد فلا يصلح كناية إذ ليس المبصرات من طرق إزالته حتى يكون سد الأبصار كناية ولو صلح كناية فعن ابتداء النوم لا النومة الثقيلة
واعترض القطب جعله كناية عما ذكر بما لا يخفى رده وخرج الآية على الإستعارة المكنية بأن يقال شبه الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان ثم ذكر ضربنا وأريد أنمنا وهو وجه فيها وجوز أن تكون من باب الإستعارة التمثيلية واختاره بعض المحققين
ومن الناس من حمل الضرب على الآذان على تعطيلها كما في قولهم ضرب الأمير على يد الرعية أي منعهم عن التصرف وتعقب بأنه مع عدم ملاءمته لما سيأتي إن شاء الله تعالى من البعث لا يدل على إرادة النوم مع أنه المراد قطعا وأجيب بأنه يمكن أن يكون مراد الحامل التوصل بذلك إلى إرادة الإنامة فافهم
والضرب إما من ضربت القفل على الباب أو من ضربت الخباء على ساكنه والفاء هنا مثلها في قوله تعالى فاستجبنا له بعد قوله سبحانه إذ نادى فإن الضرب المذكور وما يترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال والبعث وغير ذلك من ءاثار استجابة دعائهم السابق في الكهف ظرف لضربنا وكذا قوله عز و جل : سنين ولا ما نع من ذلك لا سيما وقد تغايدا بالمكانية والزمانية عددا 11 أي ذوات عدد على أنه مصدر وصف بالتأويل الشائع وقيل إنه صفة بمعنى معدودة وقيل إنه مصدر لفعل مقدر أي تعد عددا والعدد على ما قال الراغب وغيره قد يراد به التكثير لأن القليل لا يحتاج إلى العد غالبا وقد يذكر للتقليل في مقابلة ما لا يحصى كثرة كما يقال بغير حساب وهو هنا يحتمل الوجهين والأول هو الأنسب بإظهار كمال القدرة والثاني هو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبا من بين سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم وإن كثرت في نفسها فهي كبعض يوم عند الله عز و جل
وفي الكشف أن الكثرة تناسب نظرا إلى المخاطبين والقلة تناسب نظرا إلى المخاطب ا ه وقد خفي على العز بن عبد السلام أمر هذا الوصف وظن أنه لا يكون للتكثير وأن التقليل لا يمكن ههنا وهو غريب من جلالة قدره وله في أماليه أمثال ذلك وللعلامة ابن حجر في ذلك كلام ذكره في الفتاوى الحديثية لا أظنه شيئا
ثم بعثناهم أي أيقظناهم وأثرناهم من نومهم لنعلم أي الحزبين أي منهم وهم القائلون ولبثنا يوما أو بعض يوم والقائلون : ربكم أعلم بما لبثتم وقيل أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم والثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم وزعم ابن عطية أن هذا قول جمهور المفسرين وعن ابن عباس أن أحد الحزبين الفتية والآخر الملوك الذين تداولوا ملك المدينة واحد بعد واحد وعن مجاهد : الحزبان قوم أهل الكهف حزب منهم مؤمنون وحزب كافرون وقال الفراء : الحزبان مؤمنان كانوا في زمنهم واختلفوا في مدة لبثهم وقال السدي : الحزبان كافران والمراد بهما اليهود والنصارى الذين علموا قريشا سؤال رسول الله عن أهل الكهف وقال ابن حرب : الحزبان الله سبحانه وتعالى والخلق كقوله تعالى : أأنتم أعلم أم
(15/212)
الله هو الأول لأن اللام للعهد ولا عهد لغير من سمعت أحصى أي ضبط فهو فعل ماض وفاعله ضمير أي واختار ذلك الفارسي والزمخشري وابن عطية وما في قوله تعالى : لما لبثوا مصدرية والجار والمجرور حال مقدم عن قوله تعالى : أمدا 21 وهو مفعول أحصى والأمد على ما قال الراغب : مدة لها حد والفرق بينه وبين الزمان أن الأمد يقال : باعتبار الغاية بخلاف الزمان فإنه عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان وليس اسما للغاية حتى يكون إطلاقه على المدة مجازا كما أطلقت الغاية عليها في قولهم : ابتداء الغاية وانتهاؤها أي ليعلم أيهم أحصى مدة كائنة للبثهم والمراد من إحصائها ضبطها من حيث كميتها المنفصلة العارضة لها باعتبار قسمتها إلى السنين وبلوغها من تلك الحيثية إلى مراتب الإعداد كما يرشدك إليه كون المدة عبارة عما سبق من السنين وليس المراد ضبطها من حيث كميتها المتصلة الذاتية فإنه لا يسمى إحصاء وقيل إطلاق الأمد على المدة مجاز وحقيقته غاية المدة
ويجوز إرادة ذلك بتقدير المضاف أي لنعلم أيهم ضبط غاية لزمان لبثهم وبدونه أيضا فإن اللبث عبارة عن الكون المستمر المنطبق على الزمان المذكور فباعتبار الامتداد العارض له بسببه يكون له أمد وغاية لا محالة لكن ليس المراد ما يقع غاية ومنتهى لذلك الكون المستمر باعتبار كميته لاالمتصلة العارضة له بسبب انطباقه على الزمان الممتد بالذات وهو آن انبعاثهم من نومهم فإن معرفته من تلك الحيثية لا تخفى على أحد ولا تسمى إحصاء أيضا بل باعتبار كميته المنفصلة العارضة له بسبب عروضها لزمانه المنطبق هو عليه باعتبار انقسامه إلى السنين ووصوله إلى مرتبة معينة من مراتب العدد والفرق بين هذا وما سبق أن ما تعلق به الإحصاء في الصورة السابقة نفس المدة المنقمسة إلى السنين فهو مجموع ثلثمائة وتسع سنين وفي الصورة الأخيرة منتهى تلك المدة المنقسمة إليها أعني التاسعة بعد الثلثمائة وتعلق الإحصاء بالأمد بالمعنى الأول ظاهر وأما تعلقه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامه لما تحته من مراتب العدد واشتماله عليها انتهى
وأنت تعلم ظاهر كلام الراغب وهو هو في اللغة يقتضي أن الأمد حقيقة في المدة وأنه في الغاية مجاز وأن توجيه إرادة الغاية هنا بما ذكر تكلف لا يحتاج إليه على تقدير كون ما مصدرية نعم يحتاج إليه على تقدير جعلها موصولة حذف عائدها من الصلة أي لنعلم أيهم أحصى أمدا كائنا للذي لبثوه أي لبثو فيه من الزمان وقيل ما لبثوا في موضع المفعول له وجيء بلام التعليل لكونه غير مصدر صريح وغير مقارن أيضا وليس بذاك وقيل اللام مزيدة وما موصولة وهي المفعول به وعائدها محذوف أي أحصى الذي لبثوه والمراد الزمان الذي لبثوا فيه و أمدا على هذا تمييز للنسبة مفسر لما في نسبة المفعول من الإبهام محول عن المفعول وأصله أحصى أمد الزمان الذي لبثوا فيه وزعم أنه لا يصح أن يكون تمييزا للنسبة لأنه لابد أن يكون محولا عن الفاعل ولا يمكن ذلك هنا ليس بشيء لأن اللابدية في حيز المنع والذي تحقق في المعتبرات كشروح التسهيل وغيرها أنه يكون محولا عن المفعول كفجرنا الأرض عيونا كما يكون محولا عن الفاعل كتصبب زيد عرقا ولو جعل تمييزا لما كان تمييزا لمفرد ولم يقل أحد باشتراط التحويل فيه أصلا
وجوز في ما على هذا التقدير أن تكون مصدرية وهو بعيد وضعف القول بزيادة اللام هنا بأنها لا تزاد في مثل ذلك
(15/213)
واختار الزجاج والتبريزي كون أحصى أفعل تفضيل لأنه الموافق لما وقع في سائر الآيات الكريمة نحو أيهم أحسن عملا أيهم أقرب لكم نفعا إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونه فعلا ماضيا يشعر بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم على البعث لا بالإحصاء المتأخر عنه وليس كذلك واعترض أولا بأن بناء أفعل التفضيل من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس ما جاء منه شاذ كأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق وأجيب بأن في بناء أفعل من ذلك ثلاثة مذاهب الجواز مطلقا وهو ظاهر كلام سيبويه والمنع مطلقا وما ورد شاذ لا يقاس عليه وهو مذهب أبي علي والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يجوز لغيره كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز وهو اختيار ابن عصفور فلعلهما يريان الجواز مطلقا كسيبويه أو التفصيل كابن عصفور والهمزة في أحصى ليست للنقل وثانيا بأن أمدا حينئذ إن نصب على أنه مفعول به فإن كان بمضمر كما في قول العباس بن مرداس : فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ولا مثلنا لما التقينا فوارسا أكر وأحمي للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا لزم الوقوع فيما فرا منه حيث لم يجعلا المذكور فعلا ثم قدرا وإن كان به فليس صالحا لذلك وإن نصب يلبثوا لا يكون المعنى سديدا لأن الضبط لمدة اللبث وأمده لا للبث في الأمد ولا يقال : فليكن نظيره قولكم أيكم أضبط لصومه في الشهر أي لأيام صومه والمعنى أيهم أضبط لأيام اللبث أو ساعاته في الأمد ويراد به جميع المدة لما قيل يعضل حينئذ تنكير أمدا والإعتذار بأنهم ما كانوا عارفين بتحديده يوما أو شهرا أو سنة فنكر على أنه سؤال إما عن الساعات والأيام أو الأشهر غير سديد لأنه معلوم أنه أمد زمان اللبث فليعرف إضافة أو عهدا ويكون الاحتمال على حاله ووجه أبو حيان نصبه بأن على إسقاط حرف الجر وهو بمعنى المدة والأصل لما لبثوا من أمد ويكون من أمد تفسيرا لما أبهم في لفظ ما كقوله تعالى ما ننسخ من آية ما يفتح الله للناس من رحمة ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل وهو كما ترى وتعقب منع صلاحية أفعل لنصب المفعول به بأنه قول البصريين دون الكوفيين فلعل الإمامين سلكا مذهب الكوفيين فجعلا أحصى أفعل تفضيل و أمدا مفعولا له والحق أن الذاهب إلى كون أحصى أفعل تفضيل جعل أمدا تمييزا وهو يعمل في التمييز على الصحيح والقول بأن التمييز يجب كونه محولا عن الفاعل قد ميزت حاله وثالثا بأن توهم الإشعار بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم عليه مردود بأن صيغة الماضي باعتبار حال الحكاية ولا يكاد يتوهم من ذلك الإشعار المذكور ورابعا بأنه يلزم حينئذ أن يكون أصل الإحصاء متحققا في الحزبين إلا أن بعضهم أفضل والبعض الآخر أدنى مع أنه ليس كذلك وفي الكشف أن قول الزجاج ليس بذلك المردود إلا أن ما آثره الزمخشري أحق بالإيثار لفظا ومعنى أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأنه تعالى حكى تساؤلهم فيما بينهم وأنه عن العارف لا عن الأعرف وغيرهم أولى به انتهى فافهم وأي استفهامية مبتدأ وما بعدها خبرها وقد علقت نعلم عن العمل كما هو شأن أدوات الاستفهام في مثل هذا الوضع هذا وجاز الاحتمالين كون أحصى فعلا ماضيا وكونه أفعل تفضيل وجوز جعل أي موصولة ففي البحر إذا قلنا بأن أحصى أفعل تفضيل جاز أن تكون أي موصولا مبنيا على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه وهو كون أي مضافة حذف صدر صلتها والتقدير لنعلم الفريق الذي هو أحصى لما لبثوا أبدا من الذين لم يحصوا وإذا كان فعلا ماضيا امتنع ذلك لأنه حينئذ لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل مع فاعله
(15/214)
صلة فلا يجوز بناؤها لفوات تمام الشرط وهو حذف صدر الصلة انتهى
وقرأ الزهري ليعلم بالياء على إسناد الفعل إليه تعالى بطريق الالتفات وأياما كان فالعلم غاية للبعث وليس ذلك على ظاهره وإلا تكن الآية دليلا لهشام على ما يزعمه تعالى الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا فقيل هو غاية بجعله مجازا عن الإظهار والتمييز وقيل : المراد ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه ولا تعلقا استقباليا كما في قوله تعالى : لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب عى عقبيه واعترضه بعض الأجلة بأن بعث هؤلاء الفئة لم يترتب عليه تفرقهم إلى المحصي وغيره حتى يتعلق بهما تعلقا حاليا أو الإظهار والتمييز ويتسنى نظم شيء من ذلك في سلك الغاية كما ترتب على تحويل القبلة انقسام الناس إلى متبع ومنقلب فصح تعلق العلم الحالي والإظهار بكل من القسمين وإنما الذي ترتب على ذلك تفرقهم إلى مقدر تقديرا غير مصيب ومفوض العلم إلى الله عز و جل وليس في شيء منهما إحصاء أصلا ثم قال : إن جعل ذلك غاية بحمل النظم الكريم على التنفيذ المبني على جعل العلم عبارة عن الاختبار مجازا بإطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الإختبار صدور الفعل المختبر به عن المختبر قطعا بل قد يكون لإظهاره عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى فأت بها من المغرب وهو المراد هنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم أيهم أحصى لما لبثوا أمدا فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرف حالهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم فيزدادوا يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه ويستبصروا به من أمر البعث ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم وقد اقتصر ههنا من تلك الغايات الجليلة على مبدئها الصادر عنه سبحانه وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدي إليها وهذا أولى من تصوير التمثيل بأن يقال بعثناهم بعث من يريد أن يعلم إذ ربما يتوهم منه استلزام الإرادة لتحقق المراد فيعود المحذور فيصار إلى جعل إرادة العلم عبارة عن الاختبار فاختبر واختر انتهى
وتعقبه الخفاجي بأن ما ذكره مع تكلفه وقلة جدواه غير مستقيم لأن الاختبار الحقيقي لا يتصور ممن أحاط بكل شيء علما فحيث وقع جعلوه مجازا عن العلم أو ما يترتب عليه فلزمه بالآخرة الرجوع إلى ما أنكره واختار جعل العلم كناية عن ظهور أمرهم ليطمئن بازدياد الإيمان قلوب المؤمنين وتنقطع حجة المنكرين وعلم الله تعالى حيث تعذر إرادة حقيقته في كتابه تعالى جعل كناية عن بعض لوازمه المناسبة لموقعه والمناسب هنا ما ذكر ثم قال : وإنما علق العلم بالإختلاف في أمده أي المفهوم من أي الحزبين أحصى لما لبثوا لأنه أدعى لإظهاره وأقوى لانتشاره وفي الكشف توجيها لما في الكشاف أراد أن العلم مجاز عن التمييز والإظهار كأنه قيل لنظهر ونميز لهم العارف بأمد ما لبثوا ولينظر من هذا العرف فإنه لا يجوز أن يكون أحدا منهم لأنهم بين مفوض ومقدر غير مصيب والفرق بين ما في الكشف وما ذكره الخفاجي لا يخفى على بصير وما في الكشف أقل مؤنة منه وتصوير التمثيل بأن يقال : بعثناهم بعث من يريد أن يعلم أحسن عندي من التصوير الأول والتوهم المذكور مما لايكاد يلتفت إليه فتدبر جدا وقريء ليعلم مبنيا للفاعل من الإعلام وخرج ذلك على أن الفاعل ضميره تعالى والمفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه و أي الحزبين الخ من المبتدأ وأخبر في موضع مفعولي نعلم الثاني والثالث والتقدير ليعلم الله الناس أي الحزبين الخ وإذا جعل العلم عرفانيا كانت الجملة في موضع المفعول الثاني فقط وهو ظاهر وقريء ليعلم بالبناء للمفعول وخرج على أن نائب الفاعل محذوف أي ليعلم الناس
(15/215)
والجملة بعد إما في موضع المفعولين أو المفعول حسبما سمعت وقال بعضهم : أن الجملة هي النائب عن الفاعل وهو مذهب كوفي ففي البحر البصريون لا يجوز كون الجملة فاعلا ولا نائبا عنه وللكوفيين مذهبان أحدهما أنه يجوز الإسناد إلى الجملة مطلقا والثاني أنه لا يجوز إلا إذا كان المسند مما يصح تعليقه وتحقيق ذلك في محله
نحن نقص عليك نبأهم شروع في تفصيل ما أجمل فيما سلف أي نحن نخبرك بتفصيل خبرهم الذي له شأن وخطر بالحق إما صفة لمصدر محذوف أو حال من ضمير نقص أو من نبأهم أو صفة له على رأي من يرى جواز حذف الموصول مع بعض الصلة أي نقص قصصا ملتبسا بالحق أو نقصه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبسا به أو نبأهم الملتبس به ولعل في التقليد بالحق إشارة إلى أن في عهده من يقص نبأهم لكن لا بالحق
وفي الكشف بعد نقل شعر أمية بن أبي الصلت السابق ما نصه وهذا يدل على أن قصة أصحاب الكهف كانت من علم العرب وإن لم يكونوا عالميها على وجهها ونبؤهم حسبما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح عليه السلام متمسكين بعبادة الله تعالى وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم وعتا عتوا كبيرا دفيانوس وفي رواية دقيوس فإنه غلا غلوا شديدا فجاس خلال الديار والبلاد وأكثر فيها الفساد وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح عليه السلام فكان يتتبع الناس فيخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فمن رغب في الحياة الدنيا انقاد لأمره وامتثله ومن آثر عليها الحياة الأبدية لم يبال بأي قتلة قتله فكان يقتل أهل الإيمان ويقطع أجسادهم ويجعلها على سور المدينة وأبوابها فلما رأى الفتية ذلك وكانوا عظماء مدينتهم واسمها على ما في بعض الروايات إفسوس وفي بعضها طرسوس وقيل كانوا من خواص الملك قاموا فتضرعوا إلى الله عز و جل واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك دخل عليهم الشرط فأخذوهم وأعينهم تفيض من الدمع ووجوههم معفرة بالتراب وأحضروهم بين يدي الجبار فقالوا لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا وخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فقالوا : إن لنا إلها ملأ السموات والأرض عظمته وجبروته لن ندعو من دونه أحدا ولن نقر بما تدعون إليه أبدا فاقض ما أنت قاض وأول من قال ذلك أكبرهم مكسلمين فأمر الجبار فنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة أخرى قيل هي نينوى لبعض شأنه وأملهم إلى رجوعه وقال : ما يمنعني أن أعجل عقوبتكم إلا إني أراكم شبانا فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تتأملون فيه وترجعون إلى عقولكم فإن فعلتم فبها وإلا أهلكتكم فلما رأوا خروجه اشتوروا فيما بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدق ببعضها ويتزود بالباقي وينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة يقال له بنجلوس ففعلوا ما فعلوا وأووا إلى الكهف فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد وفوضوا أمر نفقتهم إلى فتى اسمه يمليخا فكان إذا اصبح يتنكر ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ويتجسس ما فيها من الأخبار ويعود إليهم فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار مدينتهم فتطلبهم وأحضر آباءهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم وبذروها في الأسواق وفروا إلى الجبل وكان يمليخا إذ ذاك في المدينة فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليل طعام فأخبرهم بما شاهد من الهول ففزعوا إلى الله تعالى وخروا له سجدا ثم رفعوا رؤسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فبينما هم كذلك إذ ضرب الله عز و جل على آذانهم فناموا ونفقتهم
(15/216)
عند رؤسهم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فأصابه ما أصابهم فخرج الجبار في طلبهم بخيله ورجله فوجدوهم قد دخلوا الكهف فأمر بإخراجهم فلم يطق أحد أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعا قال قائل منهم : أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم قال : بلى قال : فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعا وعطشا وليكن كهفهم قبرا لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله تعالى عز و جل
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض : أين تريدون أن تذهبون فجعل بعضهم يخفي على بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا ولا يدري هذا علام خرج هذا فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا فإن اجتمعوا على شيء وإلا كتم بعضهم بعضا فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا ربنا رب السموات والأرض إلى مرفقا ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله تعالى على آذانهم فناموا وفقدوا في أهلهم فجعلوا يطلبونهم فلم يظفروا بهم فأمرهم فقال : ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية ولا شيء يعرف فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه أسماءهم ثم طرح في خزانته ثم كان من شأنهم ما قصه الله سبحانه وتعالى
وكانوا على ما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر صيارفة وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه قال : جاء رجل من حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل على بابها صنم لا يدخل أحد إلا سجد له فكره أن يدخل فأتى حماما قريبا من المدينة وأجر نفسه من صاحبه فكان يعمل فيه فرأى صاحب الحمام البركة والرزق وجعل يسترسل إليه وعلق فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم عن خبر السماء وخبر الآخرة حتى آمنوا وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي ولا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت حتى جاء ابن الملك بامرأة يدخل بها الحمام فعيره الحواري فقال : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه المرأة التي صفتها كذا وكذا فاستحيا فذهب فرجع مرة أخرى فسبه وانتهره فلم يلتفت حتى دخل ودخلت معه فباتا في الحمام جميعا فماتا فيه فأتي الملك فقيل له : قتل ابنك صاحب الحمام فالتمس فلم يقدر عليه وهرب من كان يصحبه والتمس الفتية فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع له وهو على مثل أمرهم فذكروا له أنهم التمسوا فانطلق معهم حتى أواهم الليل إلى كهف فدخلوا فيه فقالوا نبيت ههنا الليلة ثم نصبح إن شاء الله تعالى فنرى رأينا فضرب على آذانهم فخرج الملك بأصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فكلما أراد الرجل منهم أن يدخل أرعب فلم يطق أن يدخل فقال للملك قائل : ألست إن قدرت عليه قتلتهم قال : بلى قال : فابن عليه باب الكهف ودعهم يموتوا عطشا وجوعا ففعل ثم كان ما كان وروي غير ذلك والأخبار في تفصيل شأنهم مختلفة
وفي البحر لم يأتي في الحديث الصحيح كيفية اجتماعهم وخروجهم ولا معول إلا على ما قص الله تعالى من نبئهم إنهم فتية استئناف مبني على السؤال من قبل المخاطب وتقدم الكلام آنفا في الفتية ءامنوا بربهم أي بسيدهم والناظر في مصالحهم وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة وأوثر للإشعار بعلية وصف الربوبية لإيمانهم
(15/217)
ولما صدر عنهم من المقالة حسبما سيحكى عنهم
وزدناهم هدى 31 بالتثبيت على الإيمان والتوفيق للعمل الصالح والإنقطاع إلى الله تعالى والزهد في الدنيا
وفي التحرير المراد زدناهم ثمرات هدى أو يقينا قولان وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي أو انطاق الكلب له بأنه على ما هم عليه من الإيمان وإنزال ملك عليه بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون به الدين كله لله تعالى فآمنوا به قبل بعثه ا ه ولا يلزم من القول بإنزال ملك عليهم بذلك القول بنبوتهم كما لا يخفى وفي زدناهم التفات من الغيبة إلى التكلم الذي عليه سبك النظم الكريم سباقا وسياقا وفيه من تعظيم أمر الزيادة ما فيه وربطنا على قلوبهم قويناها بالصبر فلم تزحزحها عواصف فراق الأوطان وترك الأهل والنعيم والإخوان ولم يزعجها الخوف من ملكهم الجبار ولم يرعها كثرة الكفار وأصل الربط الشد المعروف واستعماله فيما ذكر مجاز كما قال غير واحد وفي الأساس ربطت الدابة شددتها برباط والمربط الحبل ومن المجاز ربط الله تعالى على قلبه صبره ورابط الجأش
وفي الكشف لما كان الخوف والتعلق يزعج القلوب عن مقارها ألا ترى إلى قوله تعالى وبلغت القلوب الحناجر قيل في مقابله ربط قلبه إذا تمكن وثبت وهو تمثيل
وجوز بعضهم أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية وعد الفعل بعلى وهو متعد بنفسه لتنزيله منزلة اللازم كقوله : يجرح في عراقيبها نصلي إذأ قاموا متعلق بربطها والمراد بقيامهم انبعاثهم بالعزم على التوجه إلى الله تعالى ومنابذة الناس كما في قولهم : قام فلان إلى كذا إذا عزم عليه بغاية الجد وقريبا منه ما قيل المراد به انتصابهم لإظهار الدين
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم أنهم خرجوا من المدينة واجتمعوا وراءها على غير ميعاد فقال رجل منهم : هو أشبههم إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده قالوا : ما تجد قال : أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض فقالوا أيضا : نحن كذلك فقاموا جميعا فقالوا ربنا رب السموات والأرض وقد تقدم آنفا عن ابن عباس القول باجتماعهم على غير ميعاد أيضا إلا أنه قال : إن بعضهم أخفى حاله عن بعض حتى تعاهدوا فاجتمعوا على كلمة فقالوا ذلك
وقال صاحب الغنيان المراد به وقوفهم بين يدي الجبار دقيانوس وذلك أنهم قاموا بين يديه حين دعاهم إلى عبادة الأوثان فهددهم بما هددهم فبينما هم بين يديه تحركت هرة وقيل فأرة ففزع الجبار منها فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا ذلك غير مكترثين به وقيل المراد قيامهم لدعوة الناس سرا إلى الإيمان وقال عطاء : المراد قيامهم من النوم وليس بشيء ومثله ما قيل إن المراد قيامهم على الإيمان وما أحسن ما قالوا فإن ربوبيته تعالى للسموات والأرض تقتضي ربوبيته لما فيها وهم من جملته أي اقتضاء وأردفوا دعواهم تلك بالبراءة من إله غيره عز و جل فقالوا : لن ندعوا من دونه إلها وجاءوا بلن لأن النفي بها أبلغ من النفي بغيرها حتى قيل إنه يفيد استغراق الزمان فيكون المعنى لا نعبد أبدا من دونه إلها أي معبودا آخر لا استقلالا ولا اشتراكا قيل وعدلوا عن قولهم ربا إلى قولهم إلها للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون اصنامهم ألهة وللإشعار بأن مدار العبادة وصف الإلوهية وللإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الإلوهية
(15/218)
لا بطريق المالكية المجازية وقد يقال : إنهم أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الربوبية وبالجملة الثانية إلى توحيد الألوهية وهما أمران متغايران وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ويقولون بالأول ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وحكى سبحانه عنهم أنهم يقولون : إنما نعبدهم ليقربون إلى الله زلفى وصحح أنهم يقولون أيضا : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وجاؤا بالجملة الأولى مع أن ظاهر القصة كونهم بصدد ما تشير إليه الجملة الثانية من توحيد الألوهية لأن الظاهر أن قومهم إنما أشركوا فيها وهم إنما دعوا لذلك الإشراك دلالة على كمال الإيمان وابتدأوا بما يشير إلى توحيد الربوبية لأنه أول مراتب التوحيد والتوحيد الذي أقرت به الأرواح في عالم الذرويون قال لها سبحانه : ألست بربكم وفي ذكر ذلك أولا وذكر الآخر بعده تدرج في المخالفة فإن توحيد الربوبية يشير إلى توحيد الألوهية بناء على أن اختصاص الربوبية بع عز و جل علة لاختصاص الألوهية واستحقاق المعبودية به به سبحانه وتعالى وقد ألزم جل وعلا الوثنية القائلين باختصاص الربوبية بذلك في غير موضع ولكون الجملة الأولى مشيرة إلى توحيد الألوهية قيل أن في الجملة الثانية تأكيدا لها فتأمل ولا تعجل بالاعتراض
والجار والمجرور متعلق بحدوث وقع حالا من النكرة بعده ولو أخر لكان صفة أي لن ندعو إلها كائنال من دونه تعالى لقد قلنا إذا شطاطا 41 أي قولا ذا شططا أي بعد عن الحق مفرد أو قولا هو عين الشطط والبعد المفرط عن الحق على أنه وصف بالمصدر مبالغة ثم اقتصر على الوصف مبالغة على مبالغة وجوز أبو البقاء كون شططا مفعولا به لقلنا وفسره قتادة بالكذب وابن زيد بالخطأ والسدي بالجور والكل تفسير باللازم وأصل معناه ما أشرنا إليه لأنه من شط إذا أفرط في البعد وأنشدوا :
شط المراد بحزوى وانتهى الأمل
وفي الكلام قسم مقدر واللام واقعة في جوابه وإذا حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر أي لو دعونا وعبدنا من دونه إلها والله لقد قلنا إلخ واستلزم العبادة القول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود والتضرع إليه وفي القول دلالة على أن الفتية دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها وهذا أوفق بكون قيامهم بين يدي الملك هؤلاء هو مبتدأ وفي اسم الإشارة تحقير لهم قومنا عطف بيان له لا خبر لعدم إفادته ولا صفة لعدم شرطها والخبر قوله تعالى اتخذوا من دونه تعالى شأنه آلهة أي عملوها ونحتوها لهم
قال الخفاجي : فيفيد أنهم عبدوها ولا حاجة إلى تقديره كما قيل بناء على أن مجرد العمل غير كاف في المقصود وتفسير الاتخاذ بالعمل أحد احتمالين ذكرهما أبو حيان والآخر تفسيره بالتصيير فيتعدى إلى مفعولين أحدهما آلهة والثاني مقدر وجوز أن يكون آلهة هو الأول و من دونه هو الثاني وهو كما ترى وأيا ما كان فالكلام إخبار فيه معنى الإنكار لا إخبار محض بقرينة ما بعده ولأن فائدة الخبر معلومة لو لا يأتون تحضيض على وجه الإنكار والتعجيز إذ يستحيل أن يأتوا عليهم بتقدير مضاف أي على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذهم لها آلهة بسلطان بين بحجة ظاهرة الدلالة على مدعاهم فإن الدين لا يؤخذ إلا به واستدل به على
(15/219)
أن ما لا دليل عليه من أمثال ما ذكر مردود فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا 51 بنسبة الشريك إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقد مر تحقيق المراد من مثل هذا التركيب وهذه المقالة يحتمل أن يكونوا قالوها بين يدي الجبار تبكيتا له وتعجيزا وتأكيدا للتبري من عبادة ما يدعوهم إليه بأسلوب حسن ويحتمل أن يكونوا قالوها فيما بينهم لما عزموا لما عزموا عليه وخبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما السابق نص في أن هذه المقالة وما قبلها وما بعدها إلى مرفقا مقولة فيما بينهم ودعوى أنه إذا كان المراد من القيام فيما مر قيامهم بين يدي الجبار يتعين كون هذه المقالة صادرة عنهم بعد خروجهم من عنده غير مسلمة كما لا يخفى نعم ينبغي أن يكون قوله تعالى وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلى الله مقولا فيما بينهم مطلقا خاطب به بعضهم بعضا وفي مجمع البيان عن ابن عباس أن قائله يمليخا والإعتزال تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب وكلا الأمرين محتمل هنا والتعزل بمعناه ومن ذلك قوله : يا بيت عاتكة الذي أتغزل حذر العدى وبه الفؤاد موكل و ما يحتمل أن تكون موصولة أن تكون مصدرية والعطف في الاحتمالين على الضمير الموصول والظاهر أن الاستثناء فيهما متصل ويقدر على الاحتمال الثاني مضاف في جانب المستثنى ليتأتى الإتصال أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم الذين يعبدونهم إلا الله تعالى وإذا اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم إلا عبادة الله عز و جل وتقدير مستثنى منه على ذلك الاحتمال لذلك نحو عبادتهم لمعبوديهم تكلف ويحتمل أن يكون منقطعا وعلى الأول يكون القوم عابدين الله تعالى وعابدين غيره كما جاء ذلك في بعض الآثار
أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم وأبو نعيم عن عطاء الخراساني أنه قال : كان قوم الفتية يعبدون الله تعالى ويعبدون معه آلهة شتى فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى
وعلى الثاني يكونون عابدين غيره تعالى فقط قيل وهذا هو الأوفق بقوله تعالى أولا : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة فتأمل
وجوز أن تكون ما نافية والاستثناء مفرغ والجملة إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضة بين إذ وجوابه أعني قوله تعالى : فأووا أي التجؤا إلى الكهف ووجه الاعتراض على ما في الكشف أن قوله تعالى : وإذا اعتزلتموهم فأووا معناه وإذا اجتنبتم عنهم وعما يعبدون فأخلصوا له العبادة في موضع تتمكنون منه فدل الإعتراض على أنهم كانوا صادقين وأنهم قاموا بما وصى به بعضهم بعضا فهو يؤكد مضمون الجملة
وإلى كون فأووا جواب إذ ذهب الفراء وقيل إنه دليل الجواب أي وإذا اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا وإذا أردتم الإعتزال الجسماني فافعلوا ذلك واعترض كلا القولين بأن إذ بدون ما لا تكون للشرط وفي همع الهوامع أن القول بأنها تكون له قول ضعيف لبعض النحاة أو تسامح لأنها بمعناه فهي هنا تعليلية أو ظرفية وتعلقها قيل بأووا محذوفا دل عليه المذكور لا به لمكان الفاء أو بالمذكور والظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره وقال أبو البقاء : إذ ظرف لفعل محذوف أي وقال بعضهم لبعض وظاهره أنه عنى بالفعل المحذوف قال وأقول هو من أعجب العجائب وفي مصحف ابن مسعود كما أخرج ابن جريج وابن أبي حاتم عن قتادة وما يعبدون من دون الله وقال هرون : في بعض المصاحف وما يعبدون من دوننا وهذا
(15/220)
يؤيد الاعتراض وفي البحر أن المصحفين تفسير لا قراءة لمخالفته سواد الإمام وزعم أن المتواتر عن ابن مسعود ما فيه ينشر لكم يبسط لكم ويوسع عليكم ربكم مالك أمركم الذي هداكم للايمان من رحمته في الدارين ويهييء يسهل لكم من أمركم الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين والتوجه التام إلى الله تعالى مرفقا 61 ما ترفقون وتنتفعون به وهو مفعول يهييء ومفعول ينشر محذوف أي الخير ونحوه ومن أمركم على ما في بعض الحواشي متعلق بيهيء ومن الابتداء الغاية أو للتبغيض وقال ابن الأنباري : للبدل والمعنى يهييء لكم بدلا عن أمركم الصعب مرفقا كما في قوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة وقوله : فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان وجوز أن يكون حالا من مرفقا فيتعلق بمحذوف وتقديم لكم لما مر مرارا من الايذان من أول الأمر بكون المؤخر من منافعهم والتشويق إلى وروده والظاهر أنهم قالوا هذه ثقة بفضل الله تعالى وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه سبحانه ونصوع يقينهم فقد كانوا علماء بالله تعالى
مفقد أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال : ما بعث الله تعالى نبيا إلا وهو شاب ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وقرأ قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم وإذ قال موسى لفتاه وإنهم فتية آمنوا بربهم وجوز أن يكونوا قالوه عن إخبار نبي في عصره به وأن يكون بعضهم نبيا أوحى إليه ذلك فقاله ولا يخفى أن ما ذكر مجرد احتمال من غير داع
وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجمي والجعفي عنه وأبو عمرو في رواية هرون مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء ولا فرق بينه وبين ما هو بكسر الميم وفتح الفاء معنى على ما حكاه الزجاج وثعلب فإن كلا منهما يقال في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة ونقل مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء وخالفه أبو حاتم وقال : المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد وقال أبو زيد : هو مصدر جاء على مفعل كالمرجع وقيل : هما لغتان فيما يرتفق به وأما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير وعن الفراء أن أهل الحجاز يقولون : مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفعت به ويكسرون مرفق الإنسان وأما العرب فقد يكسرون الميم منها جميعا ا ه وأجاز معاذ فتح الميم والفاء هذا واستدل بالآية على حسن الهجرة لسلامة الدين وقبح المقام في دار الكفر إذا لم يمكن المقام فيها إلا بإظهار كلمة الكفر وبالله تعالى التوفيق
وترى الشمس بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف ولم يصرح سبحانه به تعويلا على ما سبق من قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف وما لحق من إضافة الكهف إليهم وكونهم في فجوة منه وجوز أن يكون إيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح لظهور جريانهم على موجب الأمر لكونه صادرا عن رأي صائب وقد حذف سبحانه وتعالى أيضا جملا أخرى لا تخفى والخطاب لرسول الله أو لكل أحد ممن يصلح له وهو للمبالغة في الظهور وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية بل الإنباء بكون الكهف لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تزاور
(15/221)
أي تتنحى وأصله تتزاور بتاءين فحذف أحدهما تخفيفا وهي قراءة الكوفيين والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وأبي عبيدة وأحمد بن جبير الأنطاكي ومحمد بن عيسى الأصبهاني وقرأ الحرميان وأبو عمرو تزاور بفتح التاء وتشديد الزاي وأصله أيضا تتزاور إلا أنه أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا وقرأ ابن إسحاق وابن عامر وقتادة وحميد ويعقوب عن العمري تزور كتحمر وهو من بناء الأفعال من غير العيوب والألوان وقد جاء ذلك نادرا وقرأ جابر والجحدري وأبو رجاء والسختياني وابن أبي عبلة ووردان عن أيوب تزوار كتحمار وهو في البناء كسابقه وقرأ ابن مسعود وأبو المتوكل تزوئر بهمزة قبل الراء المشددة كتطمئن ولعله إنما جيء بالهمزة فرارا من التقاء الساكنين وإن كان جائزا في مثل ذلك مما كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله وكلها من الزور بفتحتين مع التخفيف وهو الميل وقيده بعضهم بالخلقى والأكثرون على الاطلاق ومنه الأزور المائل بعينه إلى ناحية ويكون في غير العين قال ابن أبي ربيعة :
وجنبي خيفة القرم أزور
وقال عنترة : فأزور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم وقال بشر بن أبي حازم : تؤم بها الحداة مياه نخل وفيها عن أبانين أزورار ومنه زاره إذا مال إليه والزور أي الكذب لميله عن الواقع وعدم مطابقته وكذا الزور بمعنى الصنم في قوله
جاءوا بزوريهم وجئنا بالأصم
وقال الراغب : إن الزور بتحريك الواو ميل في الزور بتسكينها وهو أعلى الصدر والأزور المائل الزور أي الصدر وزرت فلانا تلقيته بزوري أو قصدت زوره نحو وجهته أي قصدت وجهه والمشهور ما قدمناه وحكى عن أبي الحسن أنه قال : لا معنى لتزور في الآية لأن الأزوار الانقباض وهو طعن في قراءة ابن عامر ومن معه بما يوجب تغيير الكنية وبالجملة المراد إذا طلعت تروغ وتميل عن كهفهم الذي آووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة ذات اليمين أي جهة ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرب أو جهة ذات يمين الفتية ومآله كسابقه وهو نصب على الظرفية قال المبرد : في المقتضب ذات اليمين وذات الشمال من الظروف المتصرفة كيمينا وشمالا
وإذا غربت أي تراها عند غروبها تقرضهم أي تعدل عنهم قال الكسائي : يقال قرضت المكان إذا عدلت عنه ولم تقر به ذات الشمال أي جهة ذات شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرق وقال غير واحد : هو من القرض بمعنى القطع تقول العرب : قرضت موضع كذا أي قطعته وقال ذو الرمة : إلى طعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن إيمانهن الفوارس والمراد تتجاوزهم وهم في فجوة منه أي في متسع من الكهف وهي على ما قيل من الفجا وهو تباعد ما بين الفخذين يقال رجل أفجى وامرأة فجواء وتجمع على فجاء وفجا وفجوات وحاصل الجملتين أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس أصلا فتؤذيهم وهم في وسط الكهف بحيث ينالهم روح الهواء ولا يؤذيهم
(15/222)
كرب الغار ولا حر الشمس وذلك لأن باب الكهف كما قال عبد الله بن مسلم وابن عطية كان في مقابلة بنات نعش وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عند مقابلة لجانبه الأيمن وهو الذي يلي المغرب وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جنبه وتحل عفونته وتعدل هواه ولا تقع عليهم فتؤذي أجسادهم وتبلي ثيابهم ولعل ميل الباب إلى جانب المغرب كان أكثر ولذلك وقع التزاور على كهفهم والقرض على أنفسهم وقال الزجاج : ليس ذلك لما ذكر بل لمحض صرف الله تعالى الشمس بيد قدرته عن أن تصيبهم على منهاج خرق العادة كرامة لهم وجيء بقوله تعالى : وهم في فجوة منه حالا مبينة لكون ما ذكر أمرا بديعا كأنه قيل ترى الشمس تميل عنهم يمينا وشمالا ولا تحوم حولهم مع كونهم في متسع من الكهف معرض لاصابتها لولا أن كفها عنهم كف التقدير واحتج عليه بقوله تعالى : ذلك من ءآيات الله حيث جعل ذلك إشارة إلى ما ذكر من التزوار والقرض في الطلوع والغروب يمينا وشمالا ولا يظهر كونه آية على القول السابق ظهوره على قوله فإن كونه آية دالة على كمال قدرة الله تعالى وحقية التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه على هذا أظهر من الشمس في رابعة النهار وكان ذلك قبل سد باب الكهف على ما قيل وقال أبو علي : معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئا ثم تزول سريعا وتسترد ضوءها فهو كالقرض يسترده صاحبه وحاصل الجملتين عنده أن الشمس تميل بالغدوة عن كهفهم وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة ورد بأنه لم يسمع للقرض بهذا المعنى فعل ثلاثي ليفتح حرف المضارعة واختار بعضهم كون المراد ما ذكر إلا أنه جعل تقرضهم من القرض بمعنى القطع لا بالمعنى الذي ذكره أبو علي لما سمعت وزعم أنه من باب الحذف والإيصال والأصل تقرض لهم وأن المعنى وإذا غربت تقطع لهم من ضوئها شيئا والسبب لاختياره ذلك توهمه أن الشمس لو لم تصب مكانهم أصلا لفسد هواؤه وتعفن ما فيه فيصير ذلك سببا لهلاكهم وفيه ما فيه وأكثر المفسرين على أنهم لم تصبهم الشمس أصلا وإن اختلفوا في منشأ ذلك
واختار جمع أنه لمحض حجب الله تعالى الشمس على خلاف ما جرت به العادة قالوا : والإشارة تؤيد ذلك أتم تأييد والاستعباد مما لا يلتفت إليه لا سيما فيما نحن فيه فإن شأن أصحاب الكهف كله على خلاف العادة
وبعض من ذهب إلى أن المنشأ كون باب الكهف في مقابلة بنات نعش جعل ذلك إشارة إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنه وبعض آخر جعله إشارة إلى حفظ الله تعالى إياهم في ذلك الكهف المدة الطويلة وآخر جعله إشارة إلى اطلاعه سبحانه رسوله على أخبارهم واعترض على الأخيرين بأنه لا يساعدهما إيراد ذلك في تضاعيف القصة وجعله بعضهم إشارة إلى هدايتهم إلى التوحيد ومخالفتهم قومهم وآباءهم وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم وإيوائهم إلى كهف شأنه ذلك ولا يخلو عن حسن وإليه أميل والله تعالى أعلم
وقريء يقرضهم بالياء ءاخر الحروف ولعل الضمير عائد على غروب الشمس
وقال أبو حيان : أي يقرضهم الكهف من يهد الله من يدله سبحانه دلالة موصولة إلى الحق ويوفقه لمل يحبه ويرضاه فهو المهتد الفائز بالحظ الأوفر في الدارين والمراد إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب والإخبار بتحقق ما أملوه من نشر الرحمة وتهيئة المرفق أو التنبيه على أن
(15/223)
أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المشفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها فالمراد بمن إما الفتية وأما يعمهم وغيرهم وفيه ثناء عليهم أيضا وهو كما ترى
وجعله بعضهم ثناء على الله تعالى لمناسبة قوله سبحانه وزدناهم هدى وربطنا وملاءمة قوله عز و جل ومن يضلل يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه فلن تجد له أبدا وإن بالغت في التتبع والاستقصاء وليا ناصرا مرشدا 71 يهديه إلى الحق ويخلصه من الضلال لاستحالة وجوده في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه إذ لو أريد مدحهم لاكتفى بقوله تعالى فهو المهتد وفيه أنه لا يطابق المقام والمقابلة لا تنافي المدح بل تؤكده ففيه تعريض بأنهم أهل الولاية والرشاد لأن لهم الولي المرشد ولعل في الآية صنعة الاحتباك وتحسبهم بفتح السين
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسرها أي تظنهم والخطاب فيه كما فيما سبق والظاهر أن هذا إخبار مستأنف وليس على تقدير شيء وقيل في الكلام حذف والتقدير ولو رأيتهم تحسبهم أيقاظا جمع يقض بكسر القاف كإنكاد ونكد كما في الكشف وبضمها كأعضاد وعضد كما في الدر المصون
وفي القاموس رجل يقض كندس وكتف فحكى اللغتين ضم العين وكسرها وهو اليقظان ومدار الحسبان انفتاح عيونهم على هيئة الناظر كما قال غير واحد وقال ابن عطية : يحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير وذلك لأن الغالب على النيام استرخاء وهيآت يقتضيها النوم فإذا لم تكن لنائم يحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين وإن صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في هذا الحسبان
وقال الزجاج : مداره كثرة تقلبهم واستدل عليه بذكر ذلك بعد وفيه أنه لا يلائمه وهم رقود جمع راقد أي نائم وما قيل أنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود لأن فاعلا لا يجمع على فعول مردود لأنه نص على جمعه كذلك النحاة كما صرح به في المفصل والتسهيل وهذا تقرير لما لم يذكر فيما سلف اعتمادا على ذكره السابق من الضرب على ءاذانهم ونقلبهم في رقدتهم كثيرا ذات اليمين أي جهة تلي أيمانهم وذات الشمال أي جهة تلي شمائلهم كيلا تأكل الأرض ما عليها من أبدانهم كما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن جبير واستبعد ذلك وقال الإمام : إنه عجيب فإن الله تعالى الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو عز و جل قادر على حفظ أبدانهم أيضا من غير تقليب وأجيب بأنه اقتضت حكمته تعالى أن يكون حفظ أبدانهم بما جرت به العادة وإن لم نعلم وجه تلك الحكمة ويجري نحو هذا فيما قيل في التزاور وأخيه وقيل يمكن أن يكون تقليبهم حفظا لما هو عادتهم في نومهم من التقلب يمينا وشمالا اعتناء بشأنهم
وقيل يحتمل أن يكون ذلك إظاهرا لعظيم قدرته تعالى في شأنهم حيث جمع الله تعالى شأنه فيهم الإنامة الثقيلة المدلول عليها بقوله تعالى : فضربنا على آذانهم والتقليب الكثير ومما جرت به العادة أن النوم الثقيل لا يكون فيه تقلب كثير ولا يخفى بعده واختلف في أوقات تقليبهم فأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقلبون في كل ستة أشهر مرة وأخرج غير واحد عن
(15/224)
أبي عياض نحوه وقيل يقلبون في كل سنة مرة وذلك يوم عاشوراء وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن التقليب في التسع سنين الضميمة ليس فيما سواها وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن هذا التقليب في رقدتهم الأولى يعني الثلثمائة سنة وكانوا يقلبون في كل عام مرة ولم يكن في مدة الرقدة الثانية يعني التسع
وتعقب الإمام ذلك بأن هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيها خبر صحيح انتهى فظاهر الآية يدل على الكثرة لمكان المضارع الدال على الاستمرار التجددي مع ما فيه من التثقيل والظاهر أن ونقلبهم إخبار مستأنف وجوز الطيبي بناء على ما سمعت عن الزجاج كون الجملة في موضع الحال وهو كما ترى وقريء ويقلبهم بالياء آخر الحروف مع التشديد والضمير لله تعالى وقيل للملك
وقرأ الحسن فيما حكى الأهوازي في الإقناع ويقلبهم بياء مفتوحة وقاف ساكنة ولام مخففة وقرأ فيما حكى ابن جني وتقلبهم على المصدر منصوبا ووجهه أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه وتحسبهم أي وترى أو تشاهد تقلبهم وروي عنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه رفع وهو على الابتداء كما قالأبو حاتم والخبر ما بعد أو محذوف أي آية عظيمة أو من آيات الله تعالى وحكى ابن خالويه هذه القراءة عن اليماني وذكر أن عكرمة قرأ وتقلبهم بالتاء ثالثة الحروف مضارع قلب مخففا ووجه بأنه على تقدير وأنت تقلبهم وجعل الجملة حالا من فاعل تحسبهم وفيه إشارة إلى قوة اشتباههم بالإيقاظ بحيث أنهم يحسبون أيقاظا في حال سبر أحوالهم وقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم الظاهر أنه الحيوان المعروف النباح وله أسماء كثيرة أفرد لها الجلال السيوطي رسالة قال كعب الأحبار : هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا فقال لهم : ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله تعالى فناموا وأنا أحرسكم وروي عن ابن عباس أنه كلب راع مروا به فتبع دينهم وذهب معهم وتبعهم الكلب وقال عبيد بن عمير : هو كلب صيد أحدهم وقيل : كلب غنمه ولا بأس في شريعتنا باقتناء الكلب لذلك وأما فيما عداه وما عدا ما ألحق به فمنهي عنه ففي البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية نقص كل يوم من عمله قيراطان وفي رواية قيراط واختلف في لونه فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان قال : قال لي رجل بالكوفة يقال له عبيد وكان لا يتهم بكذب رأيت كلب أصحاب الكهف أحمر كأنه كساء انبجاني وأخرج عن كثير النواء قال : كان الكلب أصفر وقيل كان أنمر وروي ذلك عن ابن عباس وقيل غير ذلك وفي اسمه فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قطمير وأخرج عن مجاهد أنه قطمورا وقيل ريان وقيل ثور وقيل غير ذلك وهو في الكبر على ما روي عن ابن عباس فوق القلطي ودون الكردي
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيد أنه قال رأيته صغيرا زينيا قال الجلال السيوطي : يعني صينيا وفي التفسير الخازني تفسير القلطي بذلك وزعم بعضهم أن المراد بالكلب هنا الأسد وهو على ما في القاموس أحد معانيه
وقد جاء أنه دعا على كافر بقوله : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه أسد وهو خلاف الظاهر وأخرج
(15/225)
ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : قلت لرجل من أهل العلم زعموا أن كلبهم كان أسدا فقال : لعمر الله ما كان أسدا ولكنه كان كلبا أحمر خرجوا به من بيوتهم يقال : له قطمورا وأبعد من هذا زعم من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم نعم حكى أبو عمرو الزاهدي غلام ثعلب أنه قريء وكالبهم بهمزة مضمومة بدل الباء وألف بعد الكاف من كلأ إذا حفظ ولا يبعد فيه أن يراد الرجل الربيئة لكن ظاهر القراءة المتواترة يقتضي إرادة الكلب المعروف منه أيضا وإطلاق ذلك عليه لحفظ ما استحفظ عليه وحراسته إياه وقيل في هذه القراءة إنها تفسير أو تحريف وقرأ جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وكالبهم بباء موحدة وزنة اسم الفاعل والمراد صاحب كلبهم كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر وجاء في شأن كلبهم أنه يدخل الجنة يوم القيامة فعن خالد بن معدان ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم ورأيت في بعض الكتب أن ناقة صالح وكبش إسماعيل أيضا في الجنة ورأيت أيضا أن سائر الحيوانات المستحسنة في الدنيا كالظباء والطواويس وما ينتفع به المؤمن كالغنم تدخل الجنة على كيفية تليق بذلك المكان وتلك النشأة وليس فيما ذكر خبر يعول عليه فيما أعلم نعم في الجنة حيوانات مخلوقة فيها وفي خبر يفهم من كلام الترمذي صحته التصريح بالخيل منها والله تعالى أعلم
وقد اشتهر القول بدخول هذا الكلب الجنة حتى أن بعض الشيعة يسمون أبناءهم بكلب علي ويؤمل من سمى بذلك النجاة بالقياس الأولوي على ما ذكر وينشد : فتية الكهف نجا كلبهم كيف لا ينجو غدا كلب علي ولعمري أن قبله علي كرم الله تعالى وجهه كلبا له نجا ولكن لا أظن يقبله لأنه عقور باسط ذراعيه مادهما والذراع من المرفق إلى رأس للأصبع الوسطى ونصب ذراعيه على أنه مفعول باسط وعمل مع أنه بمعنى الماضي واسم الفاعل لا يعمل إذا كان كذلك لأن المراد حكاية الحال الماضية وذهب الكسائي وهشام وأبو جعفر بن مضاء إلى جواز عمل اسم الفاعل كيفما كان فلا سؤال ولا جواب بالوصيد بموضع الباب ومحل العبور من الكهف وأنشدوا
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر وهو المراد بالفناء في التفسير المروي عن ابن عباس ومجاهد وعطية وقيل بالعتبة والمراد بها ما يحاذي ذلك من الأرض لا المتعارف فلا يقال إن الكهف لا باب له ولا عتبة على أنه لا ما نع من ذلك
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أن الوصيد الصعيد وليس بذاك وذكروا في حكمة كونه بالوصيد غير ثاو معهم أن الملائكة عليهم السلام لا تدخل بيتا فيه كلب وقد يقال : إن ذلك لكونه حارسا كما يشير إليه ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال : باسط ذراعيه بالوصيد يمسك عليهم باب الكهف وكان فيما قيل يكسر أذنه اليمنى وينام عليها إذا قلبوا ذات اليمين ويكسر أذنه اليسرى وينام عليها إذا قلبوا ذات الشمال والظاهر أنه نام كما ناموا لكن أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حميد المكي أنه جعل رزقه في لحس ذراعيه فإنه كالظاهر أنه لم يستغرق نومه كما استغرق نومهم لو اطلعت عليهم لو عاينتهم وشاهدتهم وأصل الاطلاع الوقوف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة وقرأ ابن وثاب والأعمش لو اطلعت بضم الواو تشبيها لها بواو
(15/226)
الضمير فإنها قد تضم إذا لقيها ساكن نحو رموا السهام وروي أن ذلك عن شيبة وأبي جعفر
لوليت منهم فرارا أي لأعرضت بوجهك عنهم وأوليتهم كشحك ونصب فرارا إما على المصدر لوليت إذ التولية والفرار من واد واحد فهو كجلست قعودا أو لفررت محذوفا وإما على الحالية بتأويله باسم الفاعل أو بجعله من باب فإنما هي إقبال وإدبار وإما على أنه مفعول لأجله أي لرجعت لأجل الفرار ولملئت منهم رعبا 81 أي خوفا يملأ الصدر ونصب على أنه مفعول ثان ويجوز أن يكون تمييزا وهو محول عن الفاعل وكون الخوف يملأ مجاز في عظمه مشهور كما يقال في الحسن إنه يملأ العيون
وفي البحر أبعد من ذهب إلى أنه تمييز محول عن المفعول كما في قوله تعالى شأنه : وفجرنا الأرض عيونا لأن الفعل لو سلط عليه ما تعدى إليه تعدي المفعول به بخلاف ما في الآية وسبب ما ذكر أن الله عز و جل ألقى عليهم من الهيبة والجلال ما ألقى وقيل سببه طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغير أطمارهم وقيل : إظلام المكان وإيحاشه
وتعقب ذلك أبو حيان بأن القولين ليسا بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا لبثنا يوما أو بعض يوم ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلا المعالم والبناء لا حال نفسه ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الايقاظ وهم في فجوة موصوفة بما مر فكيف يكون مكانهم موحشا ا ه
وأجيب بأنهم لا يبعد عدم تيقظهم لحالهم فإن القائم من النوم قد يذهل عن كثير من أموره ويدعي استمرار الغفلة في الرسول وإنكاره للمعالم لا ينافي إنكار الناس لحاله وكونه على حالة منكرة لم يتنبه لها وأيضا يجوز أنهم لم يطلعوا على حالهم ابتداء فقالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ثم تنبهوا له فقالوا : ربكم أعلم بما لبثتم وأيضا يجوز أن يكون هذا الخطاب للنبي وذلك الحال إنما حدث بعد انتباههم الذي بعثوا فيه رسولهم إلى المدينة وعلى هذا لا يضر عدم إنكار الرسول حال نفسه لأنه لم يحدث له ما ينكر بعد وإيحاش المكان يجوز أن يكون حدث بعد علي هذا أيضا وذلك بتغيره بمرور الزمان ا ه و لا يخفى على منصف ما في هذه الأجوبة فالذي ينبغي أن يعول عليه أن السبب في ذلك ما ألقى الله تعالى عليهم من الهيبة وهم في كهفهم وأن شعورهم وأظفارهم إن كانت قد طالت فهي لم تطل إلى حد ينكره من يراه واختار بعض المفسرين أن الله تعالى لم يغير حالهم وهيئتهم أصلا ليكون ذلك آية بينة والخطاب هنا كالخطاب فيما سبق وعلى احتمال أن يكون له يلزم أن يكونوا باقين على تلك الحالة التي توجب فرار المطلع عليهم ومزيد رعبه إلى ما بعد نزول الآية فمن لا يقول به لا يقول به
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذين ذكر الله تعالى في القرآن فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس : ليس ذلك لك قد منع الله تعالى ذلك من هو خير منك فقال : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا وقال : اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا فذهبوا فلما دخلوه بعث الله تعالى عليهم ريحا فأخرجتهم وقيل وكأن معاوية إنما لم يجر على مقتضى كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ظنا منه تغير حالهم عما كانوا عليه أو طلبا
(15/227)
لعلمهم مهما أمكن
وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : كان لي صاحب ماض شديد النفس فمر بجانب الكهف فقال : لا أنتهي حتى أنظر إليهم فقيل له : لا تفعل أما تقرأ لو اطلعت عليهم إلخ فأبى إلا أن ينظر فأشرف عليهم فابيضت عيناه وتغير شعره وكان يخبر الناس بأن عدتهم سبعة وربما يستأنس بمثل هذه الأخبار لوجودهم اليوم بل لبقائهم على تلك الحالة التي لا يستطاع معها الوقوف على أحوالهم وفي ذلك خلاف
فحكى السهيلي عن قوم القول به وعن ابن عباس إنكاره فقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلثمائة سنة ولا يخفى ما بين هذا الخبر والخبر السابق عنه بل والآخر أيضا من المخالفة والذي يميل القلب إليه عدم وجودهم اليوم وإنهم كانوا موجودين فليسوا على تلك الحالة التي أشار الله تعالى إليها وأن الخطاب الذي في الآية لغير معين وأن المراد منها الإخبار عن أنهم بتلك الحالة في ذلك الوقت وما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله قال : أصحاب الكهف أعوان المهدي على تقدير صحته لا يدل على وجودهم اليوم على تلك الحالة وأنه عليه الصلاة و السلام على القول بعموم الخطاب ليس من الأفراد المعينة به لأنه اطلع على ما هو أعظم منهم من ملكوت السموات والأرض ومن جعله معينا قال : المراد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا بحكم جري العادة والطبيعة البشرية وعدم ترتب الجزاء على اطلاعه على ما هو أعظم منهم أمر خارق للعادة ومنوط بقوة ملكية بل بما هو فوقها أو المراد لو اطلعت عليهم بنفسك من غير أن نطلعك عليهم لوليت منهم فرار إلخ واطلاعه عليه الصلاة و السلام على ما اطلع عليه كان باطلاع الله عز و جل إياه وفرق بين الاطلاعين
يحكى أن موسى عليه السلام وجعه بطنه فشكى إلى ربه سبحانه فقال له : اذهب إلى نبات كذا في موضع كذا فكل منه فذهب وأكل فذهب ما كان يجد ثم عاوده ذلك بعد سنوات فذهب إلى ذلك النبات فأكل منه فلم ينتفع به فقال يا رب أنت أعلم وجعني بطني في سنة كذا فأمرتني أن أذهب إلى نبات كذا فذهبت فأكلت فانتفعت ثم عاودني ما كنت أجد فذهبت إلى ذلك وأكلت فلم أنتفع فقال سبحانه : أتدري يا موسى ما سبب ذلك قال : لا يا رب قال : السبب أنك في المرة الأولى ذهبت منا إلى النبات وفي المرة الثانية ذهبت من نفسك إليه
ومما يستهجن من القول ما يحكى عن بعض المتصوفة أنه سمع قارئا يقرأ هذه الآية فقال : لو اطلعت أنا ما وليت منهم فرارا وما ملئت منهم رعبا
وما نقل عن بعضهم من الجواب بأن مراد قائله إثبات مرتبة الطفولية لنفسه فإن الطفل لا يهاب الحية مثلا إذا رآها ولا يفرق بينها وبين الحبل على تقدير تسليم أن مراده ذلك لا يدفع الاستهجان وذلك نظير قول من قال سبحانه وتعالى لا يعلم الغيب على معنى أنه لا غيب بالنسبة إليه عز و جل ليتعلق به علمه ولنعم ما قال عمر رضي الله تعالى عنه كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله
هذا وقرأ ابن عباس والحرميان وأبو حيوة وابن أبي عبلة ولملئت بتشديد اللام والهمزة وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وقلب الهمزة ياء وقرأ الزهري بالتخفيف والقلب وقرأ أبو جعفر وعيسى رعبا
(15/228)
بضم العين وكذلك بعثناهم أي كما أنمناهم هذه الانامة الطويلة وهي المفهومة مما مر أيقظناهم فالمشبه الإيقاظ والشبه به الإنامة المشار إليها ووجه الشبه كون كل منهما ءاية دالة على كمال قدرته الباهرة عز و جل
ليتساءلوا بينهم أي ليسأل بعضهم بعضا فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة وجعله علة للبعث المعلل بما سبق فيما سبق قيل من حيث أنه من أحكامه المترتبة عليه والاقتصار على ذكره لاستتباعه لسائر ءاثاره وجعل غير واحد اللام للعاقبة واستظهره الخفاجي وادعى أن من فعل ذلك لاحظ أن الغرض من فعله تعالى شأنه إظهار كمال قدرته لا ما ذكر من التساؤل فتأمل
قال استئناف لبيان تساؤلهم قائل منهم قيل هو كبيرهم مكسلمينا وقيل صاحب نفقتهم يمليخا كم لبثتم أي كم يوما أقمتم نائمين وكأنه قال ذلك لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة وقيل راعهم مافاتهم من الصلاة فقالوا : قالوا أي قال بعضهم : لبثنا يوما أو بعض يوم أو للشك كما قاله غير واحد والمراد لم نتحقق مقدار لبثنا أي لا ندري أن مدة ذلك هل هي مقدار يوم أو مقدار مدة بعض يوم منه والظاهر أنهم قالوا ذلك لأن لوثة النوم لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم فلم ينظروا إلى الأمارات وهذا مما لا غبار عليه سواء كان نومهم وانتباههم جميعا أو أحدهما في النهار أم لا والمشهور أن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار وقيل فلم يدروا أن انتباههم في اليوم الذي ناموا فيه أم في اليوم الذي بعده فقالوا ما قالوا واعترض بأن ذلك يقتضي أن يكون التردد في بعض يوم ويوم وبعض ومن هنا قيل إن أو للاضراب وذلك أنهم لما انتبهوا آخر النهار وكانوا في جوف الغار ولوثه النوم لم تفارقهم بعد قالوا قبل النظر لبثنا يوما ثم لما حققوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا : أو بعض يوم وأنت تعلم أن الظاهر أنها للشك والاعتراض مندفع بإرادة ما سمعت منه نعم هو في ذلك مجاز وحكى أبو حيان أنها للتفصيل على معنى قال بعضهم : لبثنا يوما وقال آخرون : لبثنا بعض يوم وقول كل مبني على غالب الظن على ما قيل فلا يكون كذبا ولا يخفى أن القول بأنها للتفصيل مما لا يكاد يذهب إليه الذهن ولا حاجة إلى بناء الأمر على غالب الظن لنفي أن يكون كذبا بناء على ما ذكرنا من أن المراد لم نتحقق مقداره كما ذكره أهل المعاني في قول النبي وقد سلم سهوا من صلاة رباعية فقال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله قال : كل ذلك لم يكن قالوا أي قال بعض آخر منهم استدلالا أو إلهاما ربكم أعلم بما لبثتم أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم وإنما يعلمها الله سبحانه وهذا رد منهم على الأولين على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق وقيل قائل القولين متحد لكن الحالة مختلفة
وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم فإن الاستئناف في الحكاية والخطاب في المحكي يقضي بأن الكلام جار على منهاج المحاورة والمجاوبة وإلا لقيل ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا فابعثوا أحدكم أي واحدا منكم ولم يقل واحدكم لايهامه إرادة سيدكم فكثيرا ما يقال جاء واحد القوم ويراد سيدهم بورقكم أي بدراهمكم المضروبة كما هو مشهور بين اللغويين وقيل الورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة واستدل عليه بما وقع في حديث عرفجة أنه لما قطع أنفه اتخذ أنفا من ورق فانتن فاتخذ أنفا من ذهب فإن الظاهر أنه أطلق فيه الورق
(15/229)
على غير المضروب من الفضة وقول الأصمعي كما حكى عنه القتيبي الورق في الحديث بفتح الراء والمراد به الورق الذي يكتب فيه لأن الفضة لا تنتن لا يعول عليه والمنتن الذي ذكره لا صحة له وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية وخلف وأبو عبيد وابن سعدان بورقكم بإسكان الراء وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف وكذا إسماعيل عن ابن محيصن وعنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه كسر الراء لئلا يلزم التقاء الساكنين على غير حده كما في الرواية الأخرى وبهذا اعترض عليها وأجيب بأن ذلك جائز وواقع في كلام العرب لكن على شذوذ وقد قريء نعما بسكون العين والإدغام وما قيل إنه لا يمكن التلفظ به قيل عليه إنه سهو وحكى الزجاج أنه قريء بكسر الواو وسكون الراء من غير إدغام وقرأ علي كرم الله وجهه بوارقكم على وزن فاعل جعله اسم جمع كباقر وحامل ووصف الورق بقوله تعالى : هذه يشعر بأن القائل أحضرها ليناولها بعض أصحابه وإشعاره بأنه ناولها إياه بعيد وفي حملهم دليل على التأهب لأسباب المعاش لمن خرج من منزله بحمل النفقة ونحوها لا ينافي التوكل على الله تعالى كما في الحديث اعقلها وتوكل نعم قال بعض الأجلة : إن توكل الخواص ترك الأسباب بالكلية ومن ذلك ما روي عن خالد بن الوليد من شرب السم ومشي سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر ودخول تميم في الغار التي خرجت منه نار الحرة ليردها بأمر عمر رضي الله تعالى عنه
وقد نص الإمام أحمد وإسحق وغيرهما من الأئمة على جواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبب لمن قوى يقينه وتوكله وفسر الإمام أحمد التوكل بقطع الاستشراق باليأس من المخلوقين واستدل عليه بقول إبراهيم عليه السلام حين عرض له جبريل عليه السلام يوم ألقي في النار وقال له : ألك حاجة أما إليك فلا وليس طرح الأسباب سبيل توكل الخواص عند الصوفية فقط كما يشعر به كلام بعض الفضلاء بل جاء عن غيرهم أيضا إلى المدينة المعهودة وهي المدينة التي خرجوا منها قيل وتسمى الآن طرطوس وكان اسمها يوم خرجوا منها أفسوس وبهذا يجمع بين الروايتين السابقتين وكان هذا القول صدر منهم إعراضا عن التعمق في البحث وإقبالا على ما يهمهم بحسب الحال كما ينبيء عنه الفاء وذكر بعضهم أن ذلك من باب الأسلوب الحكيم كقوله : أنت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها هم الضيف جدي في قراهم وعجلي فلينظر أيها أزكى طعاما أي أحل فإن أهل المدينة كانوا في عهدهم يذبحون للطواغيت كما روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عباس وفي رواية أخرى أنهم كانوا يذبحون الخنازير وقال الضحاك : إن أكثر أموالهم كانت مغصوبة فأزكى من الزكاة وأصلها النمو والزيادة وهي تكون معنوية أخروية وحسية دنيوية وأريد بها الأولى لما في توخي الحلال من الثواب وحسن العاقبة وقال ابن السائب ومقاتل : أي أطيب فإن كان بمعنى أحل لأنه يطلق عليه رجع إلى الأولى وإن كان بمعناه المتبادر فالزيادة قيل حسية دنيوية وقال عكرمة : أي أكثر
وقال يمان بن ريان : أي أرخص وقال قتادة : أي أجود وهو أجود وعليه وكذا على سابقيه على ما قيل تكون
(15/230)
الزيادة حسية دنيوية أيضا زعم بعضهم أنهم عنوا بالأزكى الأرز وقيل التمر وقيل الزبيب وحسن الظن بالفتية يقتضي أنهم تحروا الحلال والنظر يحتمل أن يكون من نظر القلب وأن يكون من نظر العين وأي استفهام مبتدأ و أزكى خبره والجملة معلق عنها الفعل للاستفهام
وجوز أن يكون أي موصولا مبنيا مفعولا لينظر و أزكى خبر مبتدأ محذوف هو صدر الصلة وضمير أيها إما للمدينة والكلام على تقدير مضاف أي أي أهلها وإما للمدينة مرادا بها أهلها مجازا وفي الكلام استخدام ولا حذف وأما لما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل فلينظر أي الأطعمة أو المأكل أزكى طعاما فليأتكم برزق منه أي من ذلك الأزكى طعاما فمن لابتداء الغاية أو التبعيض وقيل الضمير للورق فيكون من للبدل ثم إن الفتية إن لم يكن تحروا الحلال سابقا فليكن مرادهم بالرزق هنا الحلال وإن لم يكن مختصا به عندنا
واستدل بالآية وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه ما فيه على صحة الوكالة والنيابة قال ابن العربي : وهي أقوى ءاية في ذلك وفيها كما قال الكيا دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن تفاوتوا في الأكل نعم لا بأس للأكول أن يزيد حصته من الدراهم وليتلطف أي وليتكلف اللطف في المعاملة كيلا تقع خصومة تجر إلى معرفته أو ليتكلف اللطف في الاستخفاء دخولا وخروجا وقيل ليتكلف ذلك كي لا يغبن فيكون قوله تعالى : ولا يشعرن بكم أحدا 91 أي لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم تأسيسا على هذا وهو على الأولين تأكيد للأمر بالتلطف وتفسيره بما ذكر من باب الكناية نحو لا أرينك ههنا وفسره الإمام بلا يخبرن بكم أحدا فهو على ظاهره وقرأ الحسن وليتلطف بكسر لام الأمر وعن قتيبة الميال وليتلطف بضم الياء مبنيا للمفعول وقرأ هو وأبو صالح ويزيد بن القعقاع ولا يشعرن بكم أحد ببناء الفعل للفاعل ورفع أحد على أنه الفاعل إنهم تعليل لما سبق من الأمر والنهي والضمير للأهل المقدر في أيها أو للكفار الذي دل عليه المعنى على ما اختاره أبو حيان وجوز أن يعود على أحد لأنه عام فيجوز أن يجمع ضميره كما في قوله تعالى : فما منكم من أحد عنه حاجزين
إن يظهروا عليكم أي يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم أو يظفروا بكم وأصل معنى ظهر صار على ظهر الأرض ولما كان ما عليها يشاهد ويتمكن منه استعمل تارة في الاطلاع وتارة في الظفر والغلبةوعدى بعلى وقرأ زيد بن علي يظهروا بضم الياء مبنيا للمفعول يرجموكم إن لم تفعلوا ما يريدونه منكم وثبتم على ما أنتم عليه والظاهر أن المراد القتل بالرجم بالحجارة وكان ذلك عادة فيما سلف فيمن خالف في أمر عظيم إذ هو أشفى للقلوب وللناس فيه مشاركة وقال الحجاج : المراد الرجم بالقول أي السب وهو للنفوس الأبية أعظم من القتل أو يعيدوكم في ملتهم أي يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها مكرهين والعود في الشيء بهذا المعنى لا يقتضي التلبس به قبل وروي هذا عن ابن جبير وقيل العود على ظاهره وهو رجوع الشخص إلى ما كان عليه وقد كان الفتية على ملة قومهم أولا وإيثار كلمة في على كلمة إلى قال بعض المحققين للدلالة على الاستقرار الذي هو أشد كراهة وتقديم احتمال الرجم على احتمال الإعادة لأن الظاهر من حالهم هو الثبات على الدين المؤدي إليه وضمير الخطاب في المواضع الأربعة للمبالغة في حمل المبعوث على ما أريد منه والباقين على الاهتمام بالتوصية فإن إمحاض النصح أدخل في القبول واهتمام الانسان بشأن نفسه أكثر وأوفر
(15/231)
ولن تفلحوا إذا أبدا 02 أي إن دخلتم فيها حقيقة ولو بالكره والالجاء لن تفوزوا بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة ووجه الارتباط على هذا أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه ومما ذكر سقط ما قيل إن إظهار الكفر بالاكراه مع إبطان الإيمان معفو في جميع الأزمان فكيف رتب عليه عدم الفلاح أبدا ولا حاجة إلى القول بأن إظهار الكفر مطلقا كان غير جائز عندهم ولا إلى حمل يعيدوكم في ملتهم على يميلوكم إليها بالاكراه وغيره فتدبر ثم إن الفتية بعثوا أحدهم وكان على ما قال غير واحد يمليخا فكان ما أشار الله تعالى إليه بقوله سبحانه وكذلك أعثرنا عليهم أي كما أنمناهم وبعثناهم فالإشارة إلى الإنامة والبعث والافراد باعتبار ما ذكر ونحوه
وقال العز بن عبد السلام في أماليه : الإشارة إلى البعث المخصوص وهو البعث بعد تلك الإنامة الطويلة وأصل العثور كما قال الراغب السقوط للوجه يقال عثر عثورا وعثارا إذا سقط لوجهه وعلى ذلك قولهم في المثل الجواد لا يكاد يعثر وقولهم من سلك الجدد أمن العثار ثم تجوز في الاطلاع على أمر من غير طلبه
وقال الإمام المطرزي : لما كان كل عاثر ينظر إلى موضع عثرته ورد العثور بمعنى الاطلاع والعرفان فهو في ذلك مجاز مشهور بعلاقة السببية وإن أوهم ذكر اللغويين له أنه حقيقة في ذلك وجعله الغوري حقيقة في الطلاع على أمر كان خفيا وأمر التجوز على حاله ومفعول أعثرنا الأول محذوف لقصد العموم أي وكذلك أطلعنا الناس عليهم
وقال أبو حيان : أهل مدينتهم ليعلموا أي الذين أطلعناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة أن وعد الله حق أي وعده سبحانه وتعالى بالبعث على أن الوعد بمعناه المصدري ومتعلقه مقدر أو موعوده تعالى شأنه الذي هو البعث على أن المصدر مؤول باسم المفعول المراد موعوده المعهود ويجوز أن يراد كل وعده تعالى أو كل موعوده سبحانه ويدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا حق صادق لا خلف فيه أو ثابت متحقق سيقع ولابد قيل لأن نومهم الطويل المخالف للمعتاد وانتباههم كالموت والبعث
م وأن الساعة أي القيامة التي هي في لسان الشرع عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء لا ريب فيها أي ينبغي أن لا يرتاب الآن في إمكان وقوعها لأنه لا يبقى بيد المرتابين في ذلك بعد النظر والبحث سوى الاستناد إلى الاستبعاد وعلمهم بوقوع ذلك الأمر الغريب والحال العجيب الذي لو سمعوه ولم يتحققوا وقوعه لاستبعدوه وارتابوا فيه ارتيابهم في ذلك يكسر شوكة ذلك الاستبعاد ويهدم ذلك الاستناد فينبغي حينئذ أن لا يرتابوا
وقال بعض المحققين في توجيه ترتب العلم بما ذكر على الإطلاع : إن من شاهد أنه جل وعلا توفى نفوسهم وأمسكها ثلثمائة سنة وأكثر حافظا أبدانها من التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها لا يبقى معه شائبة شك في أن وعده تعالى حق وأنه تعالى يبعث من في القبور فيرد عليهم أرواحهم فيحاسبهم ويجازيهم بحسب أعمالهم ا ه
وأنت تعلم أن في استفادة العلم بالمحاسبة والمجازاة من الاطلاع على حال القوم نظرا واعترض بأن المطلوب في البعث إعادة الأبدان بعد تفرق أجزائها وما في القصة طول حفظ الأبدان وأين هذا من ذاك والقول بأنه
(15/232)
متى صح طول حفظ الأبدان المحتاجة إلى الطعام والشراب صح قدرته سبحانه على إعادتهما بعد تفرق أجزائها بطريق الأولى غير مسلم وأجيب بأن طول الحفظ المذكور يدل على قدرته تعالى على ما ذكر بطريق الحدس فليتدبر
ولعل الأظهر توجيه الترتب بما ذكره أولا وتوضيحه أن حال الفتية حيث ناموا في تلك المدة المديدة والسنين العديدة وحبست عن التصرف نفوسهم وتعطلت مشاعرهم وحواسهم من غير تصاعد أبخرة شراب وطعام أو نزول علل وأسقام وحفظت أبدانهم عن التحلل والتفتت وأبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب في سالف الأعوام حتى رجعت الحواس والمشاعر إلى حالها وأطلقت النفوس من عقالها وأرسلت إلى تدبير أبدانها والتصرف في خدامها وأعوانها فرأت الأمر كما كان والأعوان هم الأعوان ولم تنكر شيئا عهدته في مدينتها ولم تتذكر طول حبسها عن التصرف في سرير سلطنتها وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم وحبست نفوسهم ثم لما أطلقت وجدت ربوعا عامرة ومنازل كأنها لم تكن داثرة قائلين قبل أن يكشر عن أنيابه العنا من بعثنا من مرقدنا في الغرابة من صقع واحد ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند ووقوع الأول يزيل الارتياب في إمكان وقوع الثاني حيث كان مستندا إلى الاستبعاد في الحقيقة كما سمعت فيما قبل لبطلان أدلة النافين للحشر الجسماني نعم في ترتب العلم بأن البعث سيقع لا محالة على نفس الإطلاع على حال الفتية خفاء فإن الظاهر أن العلم المذكور إنما يترتب على إخبار الصادق بوقوعه وعلى إمكانه في نفسه لكن لما كان الإطلاع المذكور سببا للعلم بالإمكان وكان كالجزء الأخير من العلة بالنسبة للكفار الذين بلغهم خبر الصادق قيل بترتب العلم بذلك عليه وكذا في ترتب العلم بأن كل ما وعده الله تعالى حق على نفس الإطلاع خفاء ولم أر من تعرض لتوجيهه من الفضلاء فتأمل ثم لا يخفى أن ذكر قوله تعالى : وأن الساعة لا ريب فيها بعد قوله سبحانه أن وعد الله حق على التفسير الذي سمعت مما لا غبار عليه وليس ذلك من ذكر الإمكان بعد الوقوع ليغلو كما زعمه من زعمه
وقال بعضهم : إن الظاهر أن يفسر قوله تعالى أن وعد الله حق بأن كل ما وعده سبحانه متحقق ويجعل قوله تعالى وأن الساعة لا ريب فيها تخصيصا بعد تعميم على معنى لا ريب في تحققها وهو وجه في الآية إلا أن في دعوى الظهور مقالا فلا تغفل إذ يتنازعون ظرف لأعثرنا عليهم قدم عليه الغاية إظهارا لكمال العناية بذكرها وجوز أبو حيان وأبو البقاء وغيرهما كونه ظرفا ليعلموا وتعقب بأنه يدل على أن التنازع يحدث بعد الإعثار مع أنه ليس كذلك وبأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته وللمناقشة في ذلك مجال
وجوز أن يكون ظرفا لحق أو لوعد وهو كما ترى وأصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم وهو باعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء وضمير يتنازعون لما عاد عليه ضمير ليعلموا أي وكذلك أعثرنا على أصحاب الكهف الناس أو أهل مدينتهم حين يتنازعون بينهم أمرهم ويتخاصمون فيه ليرتفع الخلاف ويتبين الحق وضمير أمرهم قيل عائد
(15/233)
أيضا على مفعول أعثرنا والمراد بالأمر البعث ومعنى إضافته إليهم اهتمامهم بشأنه والوقوف على حقيقة حاله
وقد اختلفوا فيه فمن مقر به وجاحد وقائل يقول تبعث الأرواح دون الأجساد وآخر يقول ببعثهما معا كما هو المذهب الحق عند المسلمين روي أنه بعد أن ضرب الله تعالى على آذان الفتية ومضى دهر طويل لم يبق أحد من أمتهم الذين اعتزلوهم وجاء غيرهم وكان ملكهم مسلما فاختلف أهل مملكته في أمر البعث حسبما فصل فشق ذلك على الملك فانطلق فلبس المسوح وجلس على الرماد ثم دعا الله عز و جل فقال : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم فقيض الله تعالى راعي غنم أدركه المطر فلم يزل يعالج ما سد به دقيانوس باب الكهف حتى فتحه وأدخل غنمه فلما كان الغد بعثوا من نومهم فبعثوا أحدهم ليشتري لهم طعاما فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق ورأى الإيمان ظاهرا بالمدينة فانطلق وهو مستخف حتى رأى رجلا يشتري منه طعاما فلما نظر الورق أنكرها حيث كانت من ضرب دقيانوس كأنها أخفاف الربع فاتهمه بكنز وقال : لتدلني عليه أو لأرفعنك إلى الملك فقال : هي من ضرب الملك أليس ملككم فلانا فقال الرجل : لا بل ملكنا فلان وكان اسمه يندوسيس فاجتمع الناس وذهبوا به إلى الملك وهو خائف فسأله عن شأنه فقص عليه القصة وكان قد سمع أن فتية خرجوا على عهد دقيانوس فدعا مشيخة أهل مدينته وكان رجل منهم عنده أسماؤهم وأنسابهم فسأله فأخبره بذلك وسأل الفتى فقال : صدق ثم قال الملك : أيها الناس هذه آية بعثها الله تعالى لكم ثم خرج هو وأهل المدينة ومعهم الفتى فلما رأى الملك الفتية اعتنقهم وفرح بهم ورآهم جلوسا مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فتكلموا معه وأخبروه بما لقوا من دقيانوس فبينما هم بين يديه قالوا له : نستودعك الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله تعالى حفظك الله تعالى وحفظ ملكك ونعيذك بالله تعالى من شر الإنس والجن ثم رجعوا إلى مضاجعهم فتوفاهم الله تعالى فقام الملك إليهم وجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل كل منهم في تابوت من ذهب فلما كان الليل ونام أتوه في المنام فقالوا : أردت أن تجعل كلا منا في تابوت من ذهب فلا تفعل ودعنا في كهفنا فمن التراب خلقنا وإليه نعود فجعلهم في توابيت من ساج وبنى على باب الكهف مسجدا
ويروى أن الفتى لما أتي به إلى الملك قال : من أنت قال : أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية قد فقدوا في الزمان الأول وإن أسماءهم مكتوبة على لوح في الخزانة فدعا باللوح ونظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم فقال الفتى : هؤلاء أصحابي فركب القوم ومن معه فلما أتوا باب الكهف قال الفتى : دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إذا رأوكم معي رعبوا فدخل فبشرهم وقبض الله تعالى أرواحهم وعمى على الملك ومن معها أثرهم فلم يهتدوا إليهم فبنوا عليهم مسجدا وكان وقوفهم على حالهم بأخبار الفتى وقد اعتمدوا صدقهم وهذا هو المراد بالإعثار عليهم وروي غير ذلك وقيل : ضمير أمرهم للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان قبل الإعثار أي وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تذاكرهم بينهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار من الأحوال والأهوال ولعلهم قد تلقوا ذلك من الأساطير وأفواه الرجال لكنهم لم يعرفوا هل بقوا أحياء أم حل بهم الفناء والفاء في قوله تعالى فقالوا ابنوا بناء على القول الأول فصيحة بلا ريب على أدب
(15/234)
اختصارات القرآن كأنه قيل : وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تنازعهم في أمر البعث فتحققوا ذلك وعلموا أن هؤلاء آية من آياتنا فتوفاهم الله تعالى بعد أن حصل الغرض من الاعثار فقالوا ابنوا إلى آخره وكذلك على القول الثاني كأنه قيل وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تذاكرهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار ولم يكونوا عارفين بما هم عليه فوقفوا من أحوالهم على ما وقفوا واتضح لهم ما كانوا قد جهلوا فتوفاهم الله تعالى بعد أن حصل الغرض من الاعثار فقالوا ابنوا إلى آخره أي قال بعضهم ابنوا عليهم أي على باب كهفهم بنيانا نصب على أنه مفعول به وهو كما قال الراغب وأحد لا جمع له وقال أبو البقاء : هو جمع بنيانة كشعير وشعيرة وقيل : هو نصب على المصدرية وهذا القول من البعض عند بعض كان عن اعتناء بالفتية وذلك أنهم ضنوا بتربتهم فطلبوا البناء على باب كهفهم لئلا يتطرق الناس إليهم
وجوزوا في قوله تعالى : ربهم أعلم بهم بعد القول بأنه اعتراض أن يكون من كلام المتنازعين المعثرين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك فوضوا العلم إلى الله تعالى علام الغيوب وأن يكون من كلامه سبحانه ردا للخائضين في أمرهم إما من المعثرين أو ممن كان في عهده من أهل الكتاب وحينئذ يكون فيه التفات على أحد المذهبين وقيل : ضمير أمرهم للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان بعد الاعثار على أن المعنى إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم وحالهم حين توفوا كيف يفعلون بهم وبماذا يجلون قدرهم أو إذا يتنازعون بينهم أمرهم من الموت والحياة حيث خف عليه ذلك بعد الاعثار فلم يدروا هل ماتوا أو ناموا كما في أول مرة وعلى هذا تكون إذ معمولا لا ذكر مضمرا أو ظرفا لقوله تعالى قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليه مسجدا 12 ويكون قوله تعالى فقالوا معطوفا على يتنازعون وإيثار صيغة الماضي للدلالة على أن هذا القول ليس مما يستمر ويتجدد كالمتنازع وصرح بعض الأجلة أن الفاء على أول المعنيين للتعقيب وعلى ثانيهما فصيحة كأنه قيل : اذكر حين يتنازعون في أنهم ماتوا أو ناموا ثم فرغوا من التنازع في ذلك واهتموا بالجلال قدرهم وتشهير أمرهم فقالو ابنوا إلى آخره وذكر الزمخشري احتمال كون الضمير أمرهم للمعثرين وإن المراد من أمرهم أمر دينهم وهو البعث واحتمال كون الضمير للفتية والمعنى حينئذ إذ يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله تعالى من الآية فيهم أو إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا كيف يخفون مكانهم وكيف يسدون الطريق إليهم وجعل إذ في الأوجه ظرفا لأعثرنا وذكر صاحب الكشف أن الفاء على الأول فصيحة لا محال وعلى الآخرين للتعقيب أما على الثاني منها فظاهر وأمال على الأول فلأنهم لما تذاكروا قصتهم وحالهم وما أظهر الله تعالى من الآية فيهم قالوا : دعوا ذلك وابنوا عليهم بنيانا أي خذوا فبيما هو أهم إلى آخر ما قال واحتمال جعل الفاء فصيحة على هذا الأول غير بعيد وتعلق الظرف بأعثرنا على الوجهين الآخرين وكذا على ما نقلناه آنفا ليس بشيء لأن أعثارهم ليس في وقت التنازع فيما ذكر بل قبله
وجعل وقت التنازع ممتدا يقع في بعضه الإعثار وفي بعضه التنازع تعسف لا يخفى مع أنه لا مخصص لإضافته إلى التنازع وهو مؤخر في الوقوع وحكى في البحر أن ضمير ليعلموا عائد على أصحاب الكهف والمراد أعثرنا عليهم ليزدادوا علما بأن وعد الله حق إلى آخره وجعل ذلك غاية للإعثار بواسطة وقوفهم بسببه
(15/235)
على مدة لبثهم بما تحققوه من تبدل القرون وجعل إذيتنازعون على هذا ابتداء أخبار عن القوم الذين بعثوا في عهدهم وخص الأمر المتنازع فيه بأمر البناء والمسجد ويختار حينئذ تعلق الظرف باذكر ولا يخفى أن جعل ذلك الضمير للفتية وإن دعا لتأويل يعلم بما سمعت ليس ببعيد الإرادة من النظم الكريم إذا قطع النظر عن الأمور الخارجية كالآثار ولم يذهب أحد فيما أعلم إلى احتمال كون الضمائر في قوله تعالى إذ يتنازعون بينهم أمرهم عائدة على الفتية كضمير يعلموا و إذ ظرف أعثرنا والمراد بالأمر المتنازع مقدار زمن لبثهم وتنازعهم فيه قول بعضهم لبثنا يوما أو بعض يوم وقول الآخر ردا عليه ربكم أعلم بما لبثتم وحيث لم يتضح الحال ولم يحصل الاجماع على مقدار معلوم كان التنازع في حكم الباقي فكان زمانه ممتدا فصح أن يكون ظرفا للإعثار وضمير فقالوا للمعثرين والفاء فصيحة أي وكذلك أعثرنا الناس على الفتية وقت تنازعهم في مدة لبثهم ليزدادوا علما بالبعث فكان ما كان وصار لهم بين الناس شأن أي شأن فقالوا ابنوا إلى آخره وكان ذلك لما فيه من التكلف مع عدم مساعدة الآثار إياه ثم ما ذكر من احتمال كون ربهم أعلم بهم من كلامه سبحانه جيء به لرد المتنازعين من المعثرين لا يخلو عن بعد وأما الاحتمال الأخير فبعيد جدا والظاهر أنه حكاية عن المعثرين وهو شديد الملاءمة جدا لكون التنازع في أمرهم من الموت والحياة والذي يقتضيه كلام كثير من المفسرين أن غرض الطائفتين القائلين ابنوا إلى آخره والقائلين لنتخذن إلى آخره تعظيمهم وإجلالهم والمراد من الذين غلبوا على أمرهم كما أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة الولاة ويلائمه لنتخذن دون اتخذوا بصيغة الطلب المعبر بها الطائفة الأولى فإن مثل هذا الفعل تنسبه الولاة إلى أنفسها وضمير أمرهم هنا قيل للموصول المراد به الولاة ومعنى غلبتهم على أمرهم أنهم إذا أرادوا أمرا لم يتعسر عليهم ولم يحل بينه وبينهم أحد كما قيل في قوله تعالى والله غالب على أمره
وذكر بعض الأفاضل أن الضمير لأصحاب الكهف والمراد بالذين غلبوا قيل الملك المسلم وقيل أولياء أصحاب الكهف وقيل رؤساء البلد لأن من له الغلبة في هذا النزاع لابد أن يكون أحد هؤلاء والمذكور في القصة أن الملك جعل على باب الكهف مسجدا وجعل له في كل سنة عيدا عظيما وعن الزجاج أن هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث لأن المساجد إنما تكون للمؤمنين به انتهى
ويبعد الأول التعبير بما يدل على الجمع والثاني إن أريد من الأولياء الأولياء من حيث النسب كما في قولهم أولياء المقتول أنه لم يوجد في أثر لأصحاب الكهف حين بعثوا أولياء كذلك وفسر غير واحد الموصول بالملك والمسلمين ولا بعد في إطلاق الأولياء عليهم كما في قوله تعالى : المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ويدل هذا على أن الطائفة الأولى لم تكن كذلك وقد روي أنها كانت كافرة وأنها أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليها مسجدا وظاهر هذا الخبر أن المسجد مقابل البيعة وما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من أن الملك بنى عليهم بيعة فكتب في أعلاها أبناء الأراكنة أبناء الدهاقين ظاهر في عدم المقابلة ولعله الحق لأنه لا يصح أن يراد بالمسجد هنا ما يطلق عليه اليوم من مصلى المحمديين بل المراد به معبد المؤمنين من تلك الأمة وكانوا على ما سمعت أو لا نصارى وإن كان في المسئلة قول آخر ستسمعه إن شاء الله تعالى قريبا ومعبدهم يقال له بيعة وظاهر ما تقدم أن المسجد اتخذ لأن يعبد الله تعالى فيه من شاء
(15/236)
وأخرج أبو حاتم عن السدي أن الملك قال : لأتخذن عند هؤلاء القوم الصالحين مسجدا فلأعبدن الله تعالى فيه حتى أموت وعن الحسن أنه اتخذ ليصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا وهذا مبني على أنهم لم يموتوا بل ناموا كما ناموا أولا وإليه ذهب بعضهم بل قيل إنهم لا يموتون حتى يظهر المهدي ويكونوا من أنصاره ولا معول على ذلك وهو عندي أشبه شيء بالخرافات ثم لا يخفى أنه على القول بأن الطائفة الأولى الطالبة لبناء البنيان عليهم إذا كانت كافرة لم تكن غاية الإعثار متحققة في جميع المعثرين ولا يتعين كون ربهم أعلم بهم مساقا لتعظيم أمر أصحاب الكهف ولعل تلك الطائفة لم تتحقق حالهم وأنهم ناموا تلك المدة ثم بعثوا فطلبت انطماس الكهف عليهم وأحالت أمرهم إلى ربهم سبحانه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقرأ الحسن وعيسى الثقفي غلبوا بضم الغين وكسر اللام على أن الفعل مبني للمفعول ووجه بذلك بأن طائفة من المؤمنين المعثرين أرادت أن لا يبنى عليهم شيء ولا يعترض لموضعهم وطائفة أخرى منهم أرادت البناء وأن لا يطمس الكهف فلم يمكن للطائفة الأولى منعها ووجدت نفسها مغلوبة فقالت : إن كان بنيان ولا بد فلنتخذن عليهم مسجدا
هذا واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال : قال رسول الله لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ومسلم ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن ذلك وأحمد عن أسامة وهو والشيخان والنسائي عن عائشة ومسلم عن أبي هريرة لعن الله تعالى اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وأحمد والشيخان والنسائي إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة وأحمد والطبراني إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد وعبد الرزاق من شرار أمتي من يتخذ القبور مساجد وأيضا كانت بنو إسرائيل اتخذوا القبور مساجد فلعنهم الله تعالى إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة
وذكر ابن حجر في الزواجر أنه وقع في كلام بعض الشافعية عند اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر وكأنه أخذ ذلك مما ذكر من الأحاديث ووجه اتخاذ القبر مسجدا واضح لأنه عليه الصلاة و السلام لعن من فعل ذلك في قبور الأنبياء عليهم السلام وجعل من فعل ذلك بقبور الصلحاء شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة ففيه تحذير لنا واتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة عليه أو إليه وحينئذ يكون قوله والصلاة إليها مكررا إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما أشارت إليه رواية إذا كان فيهم الرجل الصالح ومن ثم قال أصحابنا : تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما فاشترطوا شيئين أن يكون قبر معظم وأن يقصد الصلاة إليها ومثل الصلاة عليه والتبرك والإعظام وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث وكأنه قاس عليه كل تعظيم للقبر كإيقاد السرج عليه تعظيما له وتبركا به والطواف به كذلك وهو أخذ غير بعيد سيما وقد صرح في بعض الأحاديث المذكورة بلعن من اتخذ على القبر سراجا فيحمل قول الأصحاب بكراهة ذلك على ما إذا يقصد به تعظيما وتبركا بذي القبر
(15/237)
وقال بعض الحنابلة : قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا به عين المحاداة لله تعالى ورسوله وإبداع دين لم يأذن به الله عز و جل للنهي عنها ثم إجماعا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله لأنه عليه الصلاة و السلام نهى عن ذلك وأمر بهدم القبور المشرفة وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر ولا يصح وقفه ولا نذره ا ه
وفي المنهاج وشرحه للعلامة المذكور ويكره تجصيص القبر والبناء عليه في حريمه وخارجه في غير المسبلة إلا إن خشي نبش أو حفر سبع أو هدم سيل ويحرم البناء في المسبلة وكذا تكره الكتابة عليه للنهي الصحيح عن الثلاثة سواء كتابة اسمه وغيره في لوح عند رأسه أو في غيره نعم بحث الأذرعي حرمة كتابة القرآن لتعريضه للامتهان بالدوس والتنجيس بصديد الموتى عند تكرر الدفن ووقوع المطر وندب كتابة اسمه لمجرد التعريف به على طول السنين لا سيما قبور الأنبياء والصالحين لأنه طريق للإعلام المستحب ولما روى الحاكم النهي قال : ليس العمل عليه الآن فإن أئمة المسلمين من المشرق والمغرب مكتوب على قبورهم فهو عمل أخذ به الخلف عن السلف ويرد بمنع هذه الكلية وبفرضها فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبلة كما هو مشاهد لا سيما بالحرمين ومصر ونحوها وقد علموا بالنهي عنه فكذا هي فإن قلت : هو إجماع فعلي فهو حجة كما صرحوا به قلت : ممنوع بل هو أكثري فقط إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه وبفرض كونه إجماعا فعليا فمحل حجيته كما هو ظاهر إنما هو عند صلاح الأزمنة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تعطل ذلك منذ أزمنة
ولو بني نفس القبر لغير حاجة مما مر كما هو ظاهر أو تحويط أو قبة عليه في مقبرة مسبلة كأرض موات اعتادوا الدفن فيها أو موقوفة لذلك بل هي أولى هدم وجوبا لحرمته كما في المجموع لما فيه من التضييق مع أن البناء يتأبد بعد انمحاق الميت فيحرم الناس تلك البقعة وهل من البناء ما اعتيد من جعل أربعة أحجار مربعة محيطة بالقبر مع لصق كل رأس منها برأس الآخر بجص محكم أولا لأنه لا يسمى بناء عرفا والذي يتجه الأول لأن العلة من التأبيد موجودة هنا وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة فيتعين الرفع للإمام أخذا من كلام ابن الرفعة في الصلح انتهى
وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي كرم الله وجهه أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته قال ابن الهمام في فتح القدير : وهو محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء الحسن العالي والأحاديث وكلام العلماء المنصفين المتبعين لما ورد عن النبي وجاء عن السلف الصالح أكثر من أن يحصى لا يقال : إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا وقد استدل بها فقد روي أنه قال : من نام عن صلاة أو نسيها الحديث ثم تلا قوله تعالى : أقم الصلاة لذكري وهو مقول لموسى عليه السلام وسياقه الاستدلال
واحتج محمد على جواز قسمة الماء بطريق المهايأة بقوله تعالى لها شرب الآية ونبئهم أن الماء قسمة بينهم
(15/238)
وأبو يوسف على جري القود بين الذكر والأنثى بآية وكتبنا عليهم والكرخي على جريه بين الحر والعبد والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل إلى غير ذلك لأنا نقول : مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان إنه يلزمنا على أن شريعتنا لكن لا مطلقا بل إن قصة الله تعالى علينا بلا إنكار وإنكار رسوله كإنكاره عز و جل وقد سمعت أنه عليه الصلاة و السلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد والآية ليس كالآيات التي ذكرنا آنفا احتجاج الأئمة بها وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم فمتى لم يثبت أن فيهم معصوما لا يدل فعلهم فضلا عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين كما روي عن قتادة وعلى القائل أن يقول : إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده وكف كف التعرض عن أصحابه فلم يقبل الأمراء منهم وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد وكان الأولين إنما لم يشيروا بالدفن مع أن الظاهر أنه هو المشروع إذ ذاك في الموتى كما أنه هو المشروع عندنا فيهم لعدم تحققهم موتهم ومنعهم من تحقيقه أنهم لم يقدروا كما أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه على الدخول عليهم لما أفيض عليهم من الهيبة ولهذا قالوا ربهم أعلم بهم وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول : إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طرز اتخاذ المساجد على القبور المنهى عنه الملعون فاعله وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريبا من كهفهم وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب ومثل هذا الاتخاذ ليس محظورا إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي هم فيه كنسبة المسجد النبوي إلى المرقد المعظم صلى الله تعالى على من فيه وسلم ويكون قولهم لنتخذن عليهم على هذا لمشاكلة قول الطائفة ابنوا عليهم وإن شئت قلت : إن ذلك الاتخاذ كان على الكهف فوق الجبل الذي هو فيه وفي خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبنى على كهفهم مسجدا وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أو لا فلا يحتاج إليه على ما قيل وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة معولا على الاستدلال بهذه الآية فإن ذلك في الغواية غاية وفي قلة النهي نهاية وقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من أشرافها وبنائه بالجص والآجر وتعليق القناديل عليها والصلاة إليها والطواف بها واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك محتجا بهذه الآية الكريمة وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيدا وجعله إياهم في توابيت من ساج ومقيسا البعض على البعض وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله وإبداع دين لم يأذن به الله عز و جل
ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله في قبره عليه الصلاة و السلام وهو أفضل قبر على وجه الأرض بل أفضل من العرش ولوقوف على أفعالهم في زيارتهم له والسلام عليه عليه الصلاة
(15/239)
والسلام فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك
ثم اعلم أنهم اختلفوا في تعيين موضع المسجد والكهف وقد مرت عليك بعض الأقوال وفي البحر أن في الشام كهفا فيه موتى ويزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف وقال ابن عطية دخلت عليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلا حصن غرناطة مما يلي القبة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب انتهى وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم وأن معهم كلبا ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم وأما ما ذكره من المدينة القديمة فقد مررت عليها مرارا لا تحصى وشاهدت فيها حجارة كبارا ويترجح كون ذلك بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى لأنها هي بلاد مملكتهم العظمى ولأن الأخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرف إلا بوحي من الله تعالى انتهى
وما تقدم من خبر ابن عباس ومعاوية يضعف ما ادعى ترجحه لأن معاوية لم يدخل الأندلس وتسمية الأندلسيين نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم كما في البحر أيضا لا يجدي نفعا وقد عول الكثير على أن ذلك في طرطوس والله تعالى أعلم سيقولون الضمير فيه وفي الفعلين بعد كما اختاره ابن عطية وبعض المحققين لليهود المعاصرين له الخائضين في قصة أصحاب الكهف وأيد بذلك قول الحسن وغيره : أنهم كانوا قبل بعث موسى عليه السلام لدلالته أن لهم علما في الجملة بأحوالهم وهو يستلزم أن يكون لهم ذكر في التوراة وفيه ما فيه
والظاهر أن هذا إخبار بما لم يكن واقعا بعد كأنه قيل سيقولون إذا قصصت قصة أصحاب الكهف أو إذا سئلوا عن عهدتهم ثلثة أي ثلاثلا أشخاص رابعهم أي جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم كلبهم فثلاثة خبر مبتدأ محذوف و رابعهم كلبهم مبتدأ وخبر ولا عمل لاسم الفاعل لأنه ماض والجملة في موضع النعت لثلاثة والضمير أن لها لا للمبتدأ ومن ثم استغنى عنه بالحذف وإلا كان الظاهر أن يقال : هم ثلاثة وكلب لكن بما أريد اختصاصها بحكم بديع الشأن عدل إلى ما ذكر لينبه بالنعت الدال على التفضلة والتمييز على أن أول أولئك الفتية ليسوا مثل كل ثلاثة اصطحبوا ومن ثم قرن الله تعالى في كتابه العزيز أخس الحيوانات ببركة صحبتهم مع زمرة المتبتلين إليه المعتكفين في جواره سبحانه وكذا يقال فيما بعد وإلى هذا الإعراب ذهب أبو البقاء واختاره العلامة الطيبي وهو الذي أشار إلى ما أشير إليه من النكتة ونظم في سلكها مع الآية حديث ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما فأوجب ذلك أن شنع بعض أجلة الأفاضل عليه حتى أوصله إلى الكفر ونسبه إليه ولعمري لقد ظلمه وخفي عليه مراده فلم يفهمه ولم يجوز ابن الحاجب كون الجملة في موضع النعت كما لم يجوز هو ولا غيره كأبي البقاء جعلها حالا وجعلها خبرا بعد خبر للمبتدأ المحذوف وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك
(15/240)
وتقدير تمييز العدد أشخاص أولى من تقديره رجال لأنه تصير الثلاثة الرجال أربعة بكلبهم لاختلاف الجنسين وعدم اشتراط اتحاد الجنس في مثل ذلك يأباه الاستعمال الشائع مع كونه خلاف ما ذكره النحاة
والقول بأن الكلب بشرف صحبتهم ألحق بالعقلاء تخيل شعري وقرأ ابن محيصن ثلاثة بإدغام الثاء في التاء تقول أبعث تلك وحسن ذلك لقرب مخرجها وكونهما مهموسين ويقولون خمسة سادسهم كلبهم عطف على سيقولون والمضارع وإن كان مشتركا بين الحال والاستقبال إلا أن المراد منه هنا الثاني بقرينة ما قبله فلذا اكتفي عن السين فيه وإذا عطفته على مدخول السين دخل معه في حكمها واختص بالاستقبال بواسطتها لكن قيل إن العطف على ذلك تكلف وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير خمسة بفتح الميم وهو كالسكون لغة فيها نظير الفتح والسكون في العشرة وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين وعنه أيضا إدغام التنوين في السين بغير غنة رجما بالغيب أي رميا بالخبر الغائب الخفي عنهم الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانا به أو ظنا بذلك وعلى الأول استعير الرجم وهو الرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضا ومرمى للمتكلم من غير علم وملاحظة بعد تشبيهه به وفي الكشف أنه جعل الكلام الغائب عنهم علمه بمنزلة الرجام المرمى به لا يقصد به مخاطب معين ولو قصد لأخطأ لعدم بنائه على اليقين كما أن الرجام قلما يصيب المرجوم على السداد بخلاف السهم ونحوه ولهذا قالوا : قذفا بالغيب ورجما به ولم يقولوا رميا به وأما الرمي في السب ونحوه فالنظر إلى تأثيره في عرض المرمى تأثير السهم في الرمية انتهى
وعلى الثاني شبه ذكر أمر من غير علم يقيني واطمئنان قلب بقذف في الحجر الذي لا فائدة في قذفه ولا يصيب مرماه ثم استعير له ووضع الرجم موضع الظن حتى صار حقيقة عرفية فيه وفي الكشف أيضا أنه لما كثر استعمال قولهم : رجما بالظن فهموا من المصدر معناه دون النظر إلى المتعلق فقالوا رجما بالغيب أي ظنا به وعلى ذلك جاء قول زهير : وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا وما هو عنها بالحديث المرجم حيث أراد المظنون وانتصاب رجما هنا على الوجهين إما على الحالية من الضمير في الفعلين أي راجمين أو على المصدرية منها فإن الرجم والقول واحد
وفي البحر أنه ضمن القول معنى الرجم أو من محذوف مستأنف أو واقع موقع الحال من ضمير الفعلين معا أي يرجمون رجما وجوز أبو حيان كونه منصوبا على أنه مفعول من أجله أي يقولون ذلك لرميهم بالغيب أو لظنهم بذلك أي الحامل لهم على القول هو الرجم بالغيب وهو كما ترى
ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم المراد الاستقبال أيضا والكلام في عطفه كالكلام في عطف سابقه والجملة الواقعة بعد العدد في موضع الصفة له كالجملتين السابقتين على ما نص عليه الزمخشري ولم يجعل الواو مانعة عن ذلك بل ذكر أنها الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في قولك : جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف ومنه قوله عز و جل وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن إتصافه بها أمر ثابت مستقر وهي التي أذنت هنا بأن قائلي ما ذكر قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما رجم
(15/241)
غيرهم فهو الحق دون القولين الأولين والدليل على ذلك أنه سبحانه وتعالى أتبعهما قوله تبارك اسمه رجما بالغيب وأتبع هذا قوله عز و جل قل ربي أعلم بعدتهم أي أقوى وأقدم في العلم بها ما يعلمهم أي ما يعلم عدتهم على ما ينساق إلى الذهن نظرا إلى المقام إلا قليل وعلى إيذان لواو وبما ذكر يدل كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد روي أنه قال : حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات
وقد نص عطاء على أن هذا القليل من أهل الكتاب وقيل من البشر مطلقا هو الذي يقتضيه ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال : أنا من أولئك القليل وأخرجه عنه غير واحد من طرق شتى وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود
وزعم بعضهم أن المراد إلا قليل من الملائكة عليهم السلام لا يرتضيه أحد من البشر والمثبت في هذا الاستثناء هو العالمية وذلك لا يضر في كون الأعلمية له عز و جل هذا وإلى كون الواو كما ذكر الزمخشري ذهب ابن المنير وقال بعد نقله : وهو الصواب لا كالقول بأنها واو الثمانية فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم ورد ما ذكروه من ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه التنبيه عليه
وقال أبو البقاء : الجملة إذا وقعت صفة للنكرة جاز أن يدخلها الواو وهذا هو الصحيح في إدخال الواو في ثامنهم واعترض على ذلك غير واحد فقال أبو حيان : كون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة وأما إذا لم تختلف فلا يجوز العطف هذا في الأسماء المفردة وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها
وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه : وأما ما جاء بالمعنى وليس باسم ولا فعل إلى أن وليس باسم إلخ صفة لمعنى وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب وليس من كلامهم مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة وأما قوله تعالى إلا ولها كتاب معلوم فالجملة فيه حالية ويكفي ردا لقول الزمخشري أنا لا نعلم أحدا من علماء النحو ذهب إليه ا ه
وقال صاحب الفرائد : دخول الواو بين الصفة والموصوف غير مستقيم لاتحاد الصفة والموصوف ذاتا وحكما وتأكيد اللصوق يقتضي الأثنينية مع أنا نقول : لا نسلم أن الواو تفيد التأكيد وشدة اللصوق غاية ما في الباب أنها تفيد الجمع والجمع ينبيء عن الأثنينية واجتماع الصفة والموصوف ينبيء عن الاتحاد بالنظر إلى الذات وقد ذكر صاحب المفتاح أن قول من قال : إن الواو في قوله تعالى ولها كتاب معلوم داخلة بين الصفة والموصوف سهو منه وإنما هي واو الحال وذو الحال قرية وهي موصوفة أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا ولها إلخ وأما جاءني رجل ومعه آخر ففيه وجهان أحدهما أن يكون جملتين متعاطفتين وثانيهما أن يكون آخر معطوفا على رجل أي جاءني رجل ورجل آخر معه وعدل عن جاءني رجلان ليفهم أنهما جاءا مصاحبين وأما الواو في مررت بزيد وفي يده سيف فإنما جاز دخولها بين الحال وذيها لكون الحال في حكم جملة بخلاف
(15/242)
الصفة بالنسبة إلى الموصوف فإن جاء زيد راكبا في حكم جاء وهو راكب بخلاف جاء زيد الراكب فافهمه
سلمنا أنها داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق لكن الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر غير مسلم به وأين الدليل عليه وكون الواو هي التي آذنت بأن القول المذكور عن ثبات علم وطمأنينة نفس في غاية البعد والقول بأن الاتباع يدل على ذلك إن أريد منه أنه يدل على إيذان الواو بما ذكر فبطلانه ظاهر وإن أريد منه أنه يدل على صدق قائلي القول الأخير وعدم صدق قائلي القولين الأولين فمسلم أن اتباع القولين الأولين برجما بالغيب يدل على عدم الصدق دلالة لاشبهة فيها لكن لا نسلم أن عدم اتباع القول الأخير به واتباعه بما اتبع يدل على ذلك وإن سلمنا فهو يدل دلالة ضعيفة ولا نسلم أيضا دلالة كلام ابن عباس على ما ذكر والظاهر أنه علم أن القول الأخير صادق من الصادق المصدوق وأن مراده من قوله حين وقعت الواو وانقطعت العدة أن الذي هو صدق ما وقعت الواو فيه وانقطعت العدة به فالحق أن الواو واو عطف والجملة بعده معطوفة على الجملة قبله وانتصر العلامة الطيبي للزمخشري وأجاب عما اعترض به عليه فقال : اعلم أنه لا بد قبل الشروع في الجواب من تبيين المقصود تحريرا للبحث فالواو هنا ليست على الحقيقة و لايعتبر في المجاز النقل الخصوصي بل المعتبر فيه اعتبار نوع العلاقة وذكروا أن المجاز في عرف البلاغة أولى من الحقيقة وأبلغ وأن مدار علم البيان الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم ولا يتوقف على التوقيف وليس ذلك معلم النحو والمجاز لا يختص بالاسم والفعل بل يقع في الحروف
وقد نقل شارح اللباب عن سيبويه أن الواو في قولهم : بعت الشاة ودرهما بمعنى الباء وتحقيقه أن الواو للجمع والباء للإلصاق وهما من واد واحد فسلك به طريق الاستعارة وكم وكم وإذا علم ذلك فليعلم أن معنى قوله : فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف أن للصفة نوع اتصال بالموصوف فإذا أريد توكيد اللصوق وسط بينهما الواو ليؤذن أن هذه الصفة غير منفكة عن الموصوف وإليه الإشارة فيما بعد من كلامه وأن الحال في الحقيقة صفة لا فرق إلا بالاعتبار ألا ترى أن صفة النكرة إذا تقدمت عليها وهي بعينها تصير حالا ولو لم يكونا متحدين لم يصح ذلك ثم إن قولك : جاءني رجل ومعه آخر وقولك : مررت بزيد ومعه آخر لما كانا سواء في الصورة اللهم إلا في اعتبار المعرفة والنكرة كأن حكمهما سواء في الواو وهو مراد الزمخشري من إيراد المثالين لا كما فهم بعضهم وأما قول الفرايدي في تعليل امتناع دخول الواو بين الصفة والموصوف لاتحادهما ذاتا وحكما وهو مناف لما يقتضيه دخول الواو من المغايرة فمبني على أن الواو عاطفة لأنها هي التي تقتضي المغايرة كما قال السكاكي وقد بين وجه مجازه لمجرد الربط
موأما قوله في جاءني رجل ومعه آخر أنه جملتان فهو كما تراه وأما قوله : إن جاء زيد راكبا في حكم جاء زيد وهو راكب فمن المعكوس فإن الأصل في الحال الإفراد كما يدل عليه كلام ابن الحاجب وغيره من الأعيان وأما تسليمه الدخول لتأكيد اللصوق ومنه الدلالة على أن الاتصاف أمر ثابت مستقر فمن العجائب فكيف يسلم التأكيد ولا يسلم فائدته ويدفع الاعتراضات الباقية أن ما استند إليه الزمخشري ليس من باب الأدلة اليقينية بل هي من باب الإمارات وتكفي في هذه المقامات وقال ابن الحاجب : لا يجوز أن يكون رابعهم كلبهم وسادسهم كلبهم صفة لما قبل ولا حالا لعدم العامل مع عدم الواو ويجوز أن يكون كل منهما خبرا بعد خبر للمبتدأ
(15/243)
المحذوف والإخبار إذا تعددت جاز في الثاني منها الاقتران بالواو وعدمه وهذا إن سلم أن المعنى في الجمل واحد أما إذا قيل إن قوله تعالى وثامنهم كلبهم استئناف منه سبحانه لا حكاية عنهم فيفهم القائلين سبعة أصابوا ولا يلزم أن يكون خبرا بعد خبر ويقويه ذكر رجما بالغيب قبل الثالثة فدل على أنها مخالفة لما قبلها في الرجم بالغيب فتكون صدقا البتة إلا أن هذا الوجه يضعف من حيث أن الله تعالى قال ما يعلمهم إلا قليل فلو جعل وثامنهم كلبهم تصديقا منه تعالى لمن قال سبعة لوجب أن يكون العالم بذلك كثيرا فإن أخبار الله تعالى صدق فدل على أنه لم يصدق منهم أحد وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة كلها متساوية في المعنى وقد تعذر أن تكون الأخيرة وصفا فوجب أن يكون الجميع كذلك انتهى ويفهم أن الواو هي المانعة من الوصفية والداء هو الداء فالدواء هو الدواء
وقوله : وإذا كان كذلك وجب إلخ كلام بمراحل عن مقتضى البلاغة لأن في كل اختلاف فوائد والبليغ من ينظر إلى تلك الفوائد لا من يرده إلى التطويل والحشو في الكلام وأيضا لابد من قول صادق من الأقوال الثلاثة لينطبق قوله تعالى ما يعلمهم إلا قليل مع قوله سبحانه رجما بالغيب لأنه قد اندفع به القولان الأولان فيكون الصادق هذا
وتعقيبه به أمارة على صدقه وذلك مفقود على ما ذهب إليه السائل ومع هذا أين طلاوة الكلام وأين اللطف الذي تستلذه الأفهام وما ذكره من لزوم كون العالم بذلك كثيرا على تقدير كون وثامنهم كلبهم استئنافا منه تعالى لأن أخبار الله تعالى صدق لا يخلو عن بحث لأن المصدق حينئذ هم المسلمون وهم قليل بالنسبة إلى غيرهم ولا اختصاص للقليل بما دون العشرة وإن أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال : كل قليل في القرآن فهو دون العشرة فإن ذلك في حيز المنع ودون إثباته التعب الكثير على أنه يمكن أن يقال : المراد قلة العالمين بذلك قبل تصديقه تعالى ولا يبعد أن يكونوا قليلين في حد أنفسهم من المسلمين كانوا أو من أهل الكتاب أو منهما نعم القول بالاستئناف مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وإن ذهب إليه بعض المفسرين هذا ووافق في الانتصار جماعة منهم سيد المحققين وسند المدققين فقال : الظاهر أن قوله تعالى وثامنهم كلبهم صفة لسبعة كما يشهد به أخواه وأيضا ليس سبعة في حكم الموصوفة كما قيل في قرية في قوله تعالى وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم حتى يصح الحمل على الحال اتفاقا ولا شك أن معنى الجمع يناسب معنى اللصوق وباب المجاز مفتوح فتحمل هذه الواو عليه تأكيد اللصوق الصفة بالموصوف فتكون هذه أيضا فرعا للعاطفة كالتي بمعنى مع والحالية والاعتراضية
وأيد ذلك أيضا بما روي عن ابن عباس وأورد على تعليل منعه للحالية بعدم كون النكرة في حكم الموصوفة أنه لا ينحصر مسوغ مجيء الحال من النكرة في كونها موصوفة أو في حكم الموصوفة كما في الآية التي ذكرها فقد ذكر في المغني أن من المسوغات اقتران الجملة الحالية بالواو فليحفظ
وقد وافق ابن مالك الرادين له فقال في شرح التسهيل : ما ذهب إليه صاحب الكشاف من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد من خمسة أوجه أحدها أنه قاس في ذلك الصفة على الحال وبينهما فروق كثيرة لجواز تقدم الحال على صاحبها وجواز تخالفهما في الإعراب والتعريف والتنكير وجواز إغناء الواو عن الضمير في الجملة الحالية
(15/244)
وامتناع ذلك في الواقعة نعتا فكما ثبت مخالفة الحال الصفة في هذه الأشياء ثبتت مخالفتها إياها بمقارنة الواو والجملة الحالية وامتناع ذلك في الجملة النعتية الثاني أنه مذهبه في هذه المسألة لا يعرف بين البصريين والكوفيين فوجب أن لا يفلت إليه والثالث أنه معلل بما لا يناسب وذلك أن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها وذلك مستلزم لتغايرهما وهو ضد لما يراد من التوكيد فلا يصح أن يقال لعاطف مؤكد الرابع أن الواو فصلت الأول من الثاني ولولاها لتلاصقا فكيف يقال إنها أكدت لصوقها الخامس أن الواو لو صلحت لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعا لا يصلح للحال بخلاف جملة تصلح في موضعها الحال ا ه ويعلم ما فيه بالتأمل الصادق فيما تقدم
والعجب مما ذكره في الوجه الرابع فهو توهم يستغرب من الأطفال فضلا عن فحول الرجال فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك
وقال بعضهم : إن ضمائر الأفعال الثلاث للخائضين في قصة أصحاب الكهف في عهد النبي من أهل الكتاب والمسلمين لا على وجه إسناد كل من الأفعال إلى كلهم بل إلى بعضهم فالقول الأول لليهود على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي وقيل لسيد من سادات نصارى العرب النجرانيين وكان يعقوبيا وكان قد وفد مع جماعة منهم إلى رسول الله فجرى ذكر أصحاب أهل الكهف فذكر من عدتهم ما قصه الله تعالى شأنه ولعل التعبير بضمير الجمع لموافقة من معه إياه في ذلك والقول الثاني على ما روي عن السدي أيضا النصارى ولم يقيدهم وقيل العاقب ومن معه من نصارى نجران وكانوا وافدين أيضا وكان نسطوريا والقول الثالث لبعض المسلمين وكان عز اسمه لما حكى الأقوال قبل أن تقال على ذلك لقنهم الحق وأرشدهم إليه بعدم نظم ذلك القول في سلك الرجم بالغيب كما فعل بأخويه وتغيير سبكه بإقحام الواو وتعقيبه بما عقبه به على ما سمعت من كون ذلك إمارة على الحقيقة والمراد بالقليل على هذا من وفقه الله تعالى للاسترشاد بهذه الأمارات كابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد مر غير بعيد أنه عد من ذلك وذكر ما ظاهره الاستشهاد بالواو
وقيل إنهم علموا تلك العدة من وحي غير ما ذكر بأن يكون قد أخبرهم بذلك عن إعلام الله تعالى إياه به وتعقبه بأنه لو كان كذلك لما خفي على الحبر ولما احتاج إلى الاستشهاد ولكان المسلمون أسوة له في العلم بذلك وأجيب بأنه لا مانع من وقوف الحبر على الخبر مع جماعة قليلة من المسلمين و لا يلزم من إخباره بشيء وقوف جميع الصحابة عليه فكم من خبر تضمن حكما شرعيا تفرد بروايته عنه عليه الصلاة و السلام واحد منهم رضي الله تعالى عنهم فما ظنك بما هو من باب القصص التي لم تتضمن ذلك واستشهاده رضي الله تعالى عنه نصا لا ينافي الوقوف بل قد يجامعه بناء على ما وقفت عليه آنفا فهو ليس نصا في عدم الوقوف
وقد أورد على القول بأن منشأ العلم التلقن من هذا الوحي لما تضمن من الأمارات أنه يلزم من ذلك كون الصحابة السامعين للآية أسوة لابن عباس في العلم نحو ما ذكره المتعقب بل لأنهم العرب الذين أرضعوا ثدى البلاغة في مهد الفصاحة وأشرقت على آفاق قلوبهم وصفحات أذهانهم من مطالع إيمانهم الاستوائية أنوار النبوة المفاضة من شمس الحضرة الأحدية وقلما تنزل آية ولا تلقى عصاها في رباع أسماعهم لوفور رغبتهم في
(15/245)
الاستماع ومزيد حرصه على أسماعهم ومتى فهم الزمخشري وأضرابه من هذه الآية ما فهموا فلم يفهم أصحابه عليه الصلاة و السلام ذلك وهم هم أيخطر ببال من له أدنى عقل أن الأعجام شعروا وأكثر أولئك العرب لم يشعروا أم كيف يتصور تجلي أسرار بلاغة القرآن لمن لا يعرف إعجازه إلا بعد المشقة وتحجب عمن يعرف ذلك بمجرد السليقة ولا يكاد يدفع هذا الايراد إلا بالتزام أن السامعين لهذه الآية قليلون لأنها نزلت في مكة وفي المسلمين هناك قلة مع عدم تيسر الاجتماع لهم برسول الله وكذا اجتماع بعضهم مع بعض نحو تيسر ذلك في المدينة أو بالتزام القول بأن الملتفتين إلى ما فيها من الشواهد كانوا قليلين وهذا كما ترى
وقيل إن الضمائر لنصارى نجران تناظروا مع رسول الله في عدد أصحاب الكهف فقالت الملكانية الجملة الأولى واليعقوبية الجملة الثانية والنسطورية الجملة الثالثة ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو أولى من القول السابق المحكي عن بعضهم
وقال الماوردي واستظهره أبو حيان : إن الضمائر للمتنازعين في حديثهم قبل ظهورهم عليهم فيكون قد أخبر سبحانه نبيه بما كان من اختلاف قومهم في عددهم ولا يخفى أنه يبعد هذا القول من حكاية تلك الأقوال بصيغة الاستقبال مع تعقيبها بقوله تعالى قل ربي أعلم بعدتهم وقد تقدم رواية أن القوم حين أتوا باب الكهف مع المبعوث لاشتراء الطعام قال : دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم فدخل وعمى على القوم أثرهم وفي رواية أنهم كلما أراد أن يدخل عليهم أحد منهم رعبوا فتركوا وبني عليهم مسجد فلو قيل على هذا : إن الضمائر للمعثرين اختلفوا في عددهم لعدم تمكنهم من رؤيتهم والاجتماع معهم فقالت كل طائفة منهم ما قالت ولعل الطائفة الأخيرة استخبرت الفتى فأخبرها بتلك العدة فصدقته وأخذت كلامه بالقبول وتأيد بما عندهم من أخبار أسلافهم فقالت ذلك عن يقين ورجمت الطائفتان المتقدمتان لعدم ثبوت ما يفيد العلم عندهما ولعلهما كانتا كافرتين لم يبعد بعد ما نقل عن الماوردي فتدبر ومن غريب ما قيل : إن الضمير في يقولون سبعة لله عز و جل والجمع للتعظيم أسماؤهم على ما صح عن ابن عباس مكسلمينا ويمليخا ومرطولس وثبيونس ودردونس وكفاشيطيطوس ومنطنواسيس وهو الراعي والكلب اسمه قطمير وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أسمائهم يمليخا ومكشلينيا ومثلينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش وهؤلاء أصحاب يساره وكان يستشير الستة والسابع الراعي ولم يذكر في هذه الرواية اسمه وذكر فيها أن اسم كلبهم قطمير وفي صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله تعالى وجهه مقال وذكر العلامة السيوطي في حواشي البيضاوي أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الأوسط بإسناد صحيح
والذي في الدر المنثور رواية الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن ابن عباس والله تعالى أعلم
وقد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء وذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن في النطق بأسمائهم اختلافا كثيرا ولا يقع الوثوق من ضبطها وفي البحر أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط والسند في معرفتها ضعيف وذكروا لها خواصا فقال النيسابوري عن ابن عباس : إن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد وللحرث تكتب على القرطاس ويرفع على خشب منصوب وسط الزرع
(15/246)
وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ولعسر الولادة تشد على الفخذ الأيسر ولحفظ المال والركوب في البحر والنجاة من القتل انتهى ولا يصح ذلك عن ابن عباس ولا عن غيره من السلف الصالح ولعله شيء افتراه المتزيون بزي المشايخ لأخذ الدراهم من النساء وسخفة العقول وأنا أعد هذا من خواص أسمائهم فإنه صحيح مجرب وقريء وثامنهم كالبهم أي صاحب كلبهم
واستدل بعضهم بهذه القراءة على أنهم ثمانية رجال وأول القراءة المتواترة بأنها على حذف مضاف أي وصاحب كلبهم وهو كما ترى فلا تمار الفاء لتفريع النهي على ما قبله والمماراة على ما قال الراغب المحاجة فيما فيه مرية أي تردد وأصل ذلك من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب وفسرها غير واحد بالمجادلة وهي المحاجة مطلقا أي إذا قد وقفت على أن في الخائضين مخطئا ومصيبا فلا تجادلهم فيهم أي في شأن الفتية إلا مراء ظاهرا غير متعمق فيه وذلك بالاقتصار على ما تعرض له الوحي المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مصيبا وإن قل ولا تفضيح وتعنيف للجاهل منهم فإن ذلك مما يخل بمكارم الأخلاق التي بعثت لإتمامها
وقال ابن زيد : المراء الظاهر القول لهم ليس كما تعلمون
وحكى الماوردي أن المراء الظاهر ما كان بحجة ظاهرة وقال ابن الأنباري : هو جدال العالم المتيقن بحقيقة الخبر وقال ابن بحر : هو ما يشهده الناس وقال التبريزي : المراد من الظاهر الذاهب بحجة الخصم يقال ظهر إذا ذهب وأنشد
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
أي ذاهب ولا تستفت ولا تطلب الفتيا فيهم في شأنهم منهم من الخائضين أحدا 22 فإن فيما أفتيناك غني عن الاستفتاء فيحمل على التفتي المنافي لمكارم الأخلاق إذ الحال لا تقتضي تطيب الخواطر أو نحو ذلك وقيل : المعنى لا ترجع إليهم في شأن الفتية ولا تصدق القول الثالث من حيث صدوره منهم بل من حيث التلقي من الوحي وقيل : المعنى إذ قد عرفت جهل أصحاب القولين فلا تجادلهم في شأنهم إلا جدالا ظاهرا قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم بالرجم بالغيب ولا تستفت فيهم من أولئك الطائفتين أحدا لاستغنائك بما أوتيت مع أنهم لا علم لهم بذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى ولا تقولن لشايء أي لأجل شيء تعزم عليه إني فاعل ذلك الشيء غدا 32 أي فيما يستقبل من الزمان مطلقا وهو تأكيد لما يدل عليه اسم الفاعل بناء على أنه حقيقة في الاستقبال ويدخل فيه الغد بمعنى اليوم الذي يلي يومك وهو المتبادر دخولا أوليا فإن الآية نزلت حين سألت قريش النبي عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فقال عليه الصلاة و السلام : غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي خمسة عشر يوما على ما روي عن ابن إسحق وقيل : ثلاثة أيام وقيل : أربعين يوما فشق ذلك عليه عليه الصلاة و السلام وكذبته قريش وحاشاه
وجوز غير واحد أن يبقى على المعنى المتبادر وما بعده بذلك المعنى يعلم بطريق دلالة النص
وتعقب بأن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي وهو احتمال المانع فإن الزمان إذا اتسع قد ترتفع فيه الموانع أو تخف وليس بشيء لأن المانع شامل للموت واحتمال في الزمان الواسع أقوى
إلا أن يشاء الله استثناء متعلق بالنهي على ما اختاره جمع من المحققين وقول ابن عطية اغترارا برد
(15/247)
الطبري أنه من الفساد بحيث كان الواجب أن لا يحكى خروج عن الإنصاف وهو مفرغ من أعم الأحوال
وفي الكلام تقدير باء للملابسة داخلة على أن والجار والمجرور في موضع الحال أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئة الله عز و جل بأن تذكر قال في الكشف : إن التباس القول بحقيقة المشيئة محال فبقي أن يكون بذكرها وهو إن شاء الله تعالى ونحوه ما يدل على تعليقه الأمور بمشيئة الله تعالى
ورد بما يصلح أن يكون تأييدا لا ردا وجوز أن يكون المستثنى من أعم الأوقات أي لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله تعالى ذلك القول منك وفسرت المشيئة على هذا بالإذن لأن وقت المشيئة لا يعلم إلا بإعلامه تعالى به وإذنه فيه فيكون مآل المعنى لا تقولن إلا بعد أن يؤذن لك بالقول وجوز أيضا أن يكون الاستثناء منقطعا والمقصود منه التأييد أي ولا تقولن ذلك أبدا ووجه ذلك في الكشف بأنه نهي عن القول إلا وقت مشيئة الله تعالى وهي مجهولة فيجب الانتهاء أبدا وأشار إلى أنه هو مراد الزمخشري لا ما يتوهم من جعله مثل قوله تعالى : وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله من أن التأييد لعدم مشيئته تعالى فعل ذلك غدا لقبحه كالعود في ملة الكفر لأن القبح فيما نحن فيه على إطلاقه غير مسلم والتخصيص بما يتعلق بالوحي على معنى لا تقولن فيما يتعلق بالوحي إني أخبركم به إلا أن يشاء الله تعالى والله تعالى لم يشأ أن تقوله من عندك فإذا لا تقولنه أبدا يأباه النكرة في سياق النهي المتضمن للنفي والتقييد بالمستقبل وأن قوله : فاعل ذلك غدا أي مخبر عن أمر يتعلق بالوحي غدا غير مؤذن بأن قوله في الغد يكون من عنده لا عن وحي فالتشبيه في أن الاستثناء بالمشيئة استعمل في معرض التأييد وإن كان وجه الدلالة مختلفا أخذا من متعلق المشيئة تارة ومن الجهل بها أخرى ولا يخفى أن الظاهر في الآية الوجه الأول وأن أمته وهو في الخطاب الذي تضمنته سواء مخصوصا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يجوز أن يكون الاستثناء متعلقا بقوله تعالى : إني فاعل بأن يكون استثناء مفرغا مما في حيزه من أعم الأحوال أو الأوقات لأنه حينئذ إما أن تعتبر تعلق المشيئة بالفعل فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو قت مشيئة الله تعالى الفعل وهو غير سديد أو يعتبر تعلقها بعدمه فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله تعالى عدم الفعل ولا شبهة في عدم مناسبته للنهي بل هو أمر مطلوب
وقال الخفاجي : إذا كان الاستثناء متعلقا بأني فاعل والمشيئة متعلقة بالعدم صار المعنى إني فاعل في كل حال إلا إذا شاء الله تعالى عدم فعلي وهذا لا يصح النهي عنه أما على مذهب أهل السنة فظاهر وأما على مذهب المعتزلة فلأنهم لا يشكون في أن مشيئة الله تعالى لعدم فعل العبد الاختياري إذا عرضت دونه بإيجاد ما يعوق عنه من الموت ونحوه منعت عنه وإن لم تتعلق عندهم بإيجاده وإعدامه وكذا لا يصح النهي إذا كانت المشيئة متعلقة بالفعل في المذهبين فما قيل : إن تعلق الاستثناء بما ذكر صحيح والمعنى عليه النهي عن أن يذهب مذهب الاعتزال في خلق الأعمال فيضيفها لنفسه قائلا إن لم تقترن مشيئة الله تعالى بالفعل فأنا فاعله استقلالا فإن اقترنت فلا لا يخفى ما فيه على نبيه فتأمل وقد شاع الاعتراض على المعتزلة في زعمهم أن المعاصي واقعة من غير إرادة الله تعالى ومشيئته وأنه تعالى لا يشاء إلا الطاعات بأنه لو كان كذلك لوجب فيما إذا قال : الذي عليه دين لغيره قد طالبه به والله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله تعالى أن يكون حانثا إذا لم يفعل لأن الله تعالى قد شاء ذلك لكونه طاعة وإن لم يقع فتلزمه الكفارة عن يمينه ولم ينفعه الاستثناء
(15/248)
كما قال : والله لأعطينك إن قام زيد فقام ولم يفعل وفي التزام الحنث في ذلك خروج عن الاجماع وقد أجاب عنه المرتضى بأن للاستثناء الداخل في الكلام وجوها مختلفة فقد يدخل في الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار وهذا يقتضي التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ويصير به الكلام كأنه لا حكم له ويصح في هذا الوجه الاستثناء في الماضي فيقال : قد دخلت الدار إن شاء الله تعالى ليخرج بذلك من أن يكون خبرا قاطعا أو يلزم به حكم ولا يصح في المعاصي لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصلح ذلك فيها قال : وهذا الوجه أحد محتملات الآية وقد يدخل في الكلام ويراد به التسهيل والأقدار والتخلية والبقاء على ما هو عليه من الأحوال وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات وهو ممكن في الآية وقد يدخل لمجرد غرض الانقطاع إلى الله تعالى ويكون على هذا غير معتمد به في كون الكلام صادقا أو كاذبا وهو أيضا ممكن في الآية وقد يدخل ويراد به اللطف والتسهيل وهذا يختص بالطاعات ولا يصح أن تحمل الآية عليه لأنها تتناول كل ما لم يكن قبيحا
وقول المديون السابق إن قصد به هذا المعنى لا يلزم منه الحنث إذا لم يفعل ويدين المديون وغيره إن ادعى قصد ما لا يلزمه فيه شيء فلا ورود لما اعترضوا به والانصاف أن الاعتراض ليس بشيء والرد عليهم غني عن مثل ذلك هذا ثم اعلم أن إطلاق الاستثناء على التقييد بأن شاء الله تعالى بل على التقييد بالشرط مطلقا ثابت في اللغة والاستعمال كما نص عليه السيرافي في شرح الكتاب
وقال الراغب : الاستثناء دفع ما يوجبه عموم سابق كما في قوله تعالى : قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الخ أو دفع ما يوجبه اللفظ كقوله : امرأته طالق إن شاء الله تعالى انتهى
وفي الحديث من حلف على شيء فقال : إن شاء الله تعالى فقد استثنى فما قيل : إن كلمة إن شاء الله تعالى تسمى استثناء لأنه عبر عنها بقوله سبحانه : إلا أن يشاء الله ليس بسديد فكذا ما قيل : إنها أشبهت الاستثناء في التخصيص فأطلق عليها اسمه كذا قال الخفاجي ولا يخفى أن في الحديث نوع إباء لدعوى أن إطلاق الاستثناء على التقييد بأن شاء الله تعالى لغوي لأنه لم يبعث لا فائدة المدلولات اللغوية بل لتبليغ الأحكام الشرعية فتذكر
واذكر ربك تعالى أي مشيئة ربك فالكلام على حذف مضاف وذكر مشيئته تعالى على ما يدل عليه ما قبل أن يقال إن شاء الله تعالى وقد قال ذلك رسول الله حين نزلت إذا نسيت أي إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته فإنه مادام ناسيا لا يؤمر بالذكر وهو أمر بالتدارك عن التذكر سواء قصر الفصل أم طال وقد أخرج ابن جرير والطبراني وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ويقرأ الآية وروى ذلك عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وهو رواية عن الإمام أحمد عليه الرحمة وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسي أن يستثني قال : له ثنياه إلى شهر وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء أنه قال : من حلف على يمين فله الثنيا حلب ناقة قال : وكان طاوس يقول ما دام في مجلسه وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن إبراهيم قال : يستثنى
(15/249)
ما دام في كلامه وعامة الفقهاء على اشتراط اتصال الاستثناء في عدم الحنث ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام لا سيما إلى الغاية المروية عن ابن عباس لما تقرر إقرار و لا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب
ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه خالف ابن عباس في هذه المسألة فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة : هذا يرجع إليك إنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه
ومن غريب ما يحكى أن رجلا من علماء المغرب أحب أن يرى علماء بغداد ويتحقق مبلغ علمهم فشد الرحل للإجتماع معهم فدخل بغداد من باب الكرخ فصادف رجلين يمشيان أمامه يبيعان البقل في أطباق على رؤسهما فسمع أحدهما يقول لصاحبه : يا فلان أني لأعجب من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف جوز فصل الاستثناء وقال بعدم تأثيره في الأحكام ولو كان الأمر كما يقول لأمر الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام بالاستثناء لئلا يحنث فإنه أقل مؤنة مما أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى فخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وليس بين حلفه وأمره بما ذكره أكثر من سنة فرجع ذلك الرجل إلى بلده واكتفى بما سمع ورأى فسئل كيف وجدت علماء بغداد فقال : رأيت من يبيع على رأسه في الطرقات من أهلها بلغ مبلغا من العلم يعترض به على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فما ظنك بأهل المدارس المنقطعين لخدمة العلم والانصاف أن هذا الاعتراض على علامة يستكثر ممن يبيع البقل والله تعالى أعلم بصحة النقل لا يقال : إن ظاهر الآية على ما سمعت يطابق ما ذهب إليه الحبر وإلا لم يكن للتدارك معنى وكذا ما جاء في الخبر لما قالوا : إن التدارك فيما يرجع إلى تفويض العبد يحصل بذكره بعد التنبه أما في التأثير في الحكم حتى يخرجه عن الجزم فليست الآية مسوقة له ولا دالة عليه بوجه
وقال بعضهم : إن ذلك من خصائصه فله عليه الصلاة و السلام أن يستثني ولو بعد حين بخلاف غيره
فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني في الكبير بسند متصل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت ثم قال : هي خاصة لرسول الله وليس لأحدنا أن يستثني إلا في صلة يمين وقيل ليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك من القول السابق بل من مقدر مدلول به عليه والتقدير في الآية كلما نسيت ذكر الله تعالى اذكره حين التذكر إن شاء الله تعالى وفي الحديث لا أنسى المشيئة بعد اليوم ولا أتركها إن شاء الله تعالى أو أقول إن شاء الله تعالى إذا قلت إني فاعل أمرا فيما بعد ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا
وجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء والمراد من ذلك المبالغة في الحث عليه بإيهام أن تركه من الذنوب التي يجب لها التوبة والاستغفار وقيل المعنى واذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارك وحمل النسيان على الترك مجاز لعلاقة السببية والمسببية أو اذكر ربك إذا عرض لك نسيان ليذكرك المنسي و نيست على هذا منزل منزلة اللازم ولا يخفى بعد ارتباط الآية على هذين المعنيين بما سبق
وحمل قتادة الآية على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها فإذا أراد أن المراد من الآية واقض الصلاة المنسية إذ ذكرتها فهو كما ترى وأمر الارتباط كما في سابقه وإن أراد أنها تدل على الأمر بقضاء الصلاة المنسية عند
(15/250)
ذكرها لما أنها دلت على الأمر بذكر الاستثناء المنسي وأمر الصلاة أشد والاهتمام بها أعظم فالأمر أسهل ولكن ظاهر كلامهم أنه أراد الأول
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عكرمة أنه قال في الآية : أي اذكر ربك إذا غضبت ووجه تفسير النسيان بالغضب أنه سبب للنسيان وأمر هذا القول نظير ما مر
وقل عسى أن يهدين ربي أي يوفقني لأقرب من هذا أي لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي رشدا 42 إرشادا للناس ودلالة على ذلك
وإلى هذا ذهب الزجاج وقد فعل ذلك عز و جل حيث آتاه من الآيات البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء عليهم السلام المتباعدة أيامهم والحوادث النازلة في الإعصار المستقبلة إلى قيام الساعة وكأنه تهوين منه عز و جل لأمر قصة أصحاب الكهف كما هونه جل وعلا أولا بقوله سبحانه أم حسبت الخ وهو متعلق بمجموع القصة وعطفه بعض الأفاضل على العامل في قوله تعالى إذ أوى الفتية إلى الكهف كأنه قيل اذكر إذ أوى الفتية الخ وقل عسى أن يهديني ربي لما هو أظهر من ذلك دلالة على نبوتي
وقال الجبائي : هو متعلق بقوله تعالى واذكر ربك إلى آخره والمعنى عنده ادع ربك سبحانه وتعالى إذا نسيت شيئا أن يذكره إياه وقل إن لم يذكرك سبحانه عسى أن يهديني لشيء أقرب من المنسي خيرا ومنفعة فهذا إشارة إلى المنسي والرشد الخير والمنفعة و أقرب على معناه الحقيقي ولا يخفى أن هذا أقرب من جهة المتعلق وأبعد من جهات وقيل : إنه متعلق بالمتعاطفات قبله و هذا إشارة إلى ما تضمنته من الخير أمرا ونهيا كأنه قيل افعل كذا ولا تفعل كذا واطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدت إليه في ضمن ما سمعت من الأمر والنهي خيرا ومنفعة وقد هدى في ضمن ما أنزل عليه عليه الصلاة و السلام بعد ذلك من الأوامر والنواهي إلى ما هو أقرب من ذلك منفعة ولا يكاد يحصى وهو كما ترى ولعله على علاته أقرب مما نقل عن الجبائي وقال ابن الأنباري : معنى الآية عسى أن يعرفني ربي جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد ولا يكاد يستفاد هذا المعنى من الآية وعلى فرض الاستفادة تكون نظير استفادة المعاني المرادة من المعميات ويجل كتاب الله تعالى الكريم عن ذلك وأخرج البيهقي من طريق المعتمر بن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن رجل من أهل الكوفة أنه كان يقول : إذا نسي الانسان الاستثناء فتوبته أن يقول عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا وحكاه أبو حيان عن محمد الكوفي المفسر والظاهر أنه الرجل الذي ذكره المعتمر وهو قول لا دليل عليه ولبثوا في كهفهم أحياء مضروبا على آذانهم ثلث مائة سنين وازدادوا تسعا 52 وهي جملة مستأنفة مبينة كما قال مجاهد لما أجمل في قوله تعالى فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا واختار ذلك غير واحد قال في الكشف : فعلى هذا قوله تعالى قل الله أعلموا بما لبثوا تقرير لكون المدة المضروب فيها على آذانهم هي هذه المدة كأنه قيل قل الله أعلم بما لبثوا وقد أعلم فهو الحق الصحيح الذي لا يحوم حوله شك قط وفائدة تأخير البيان التنبيه على أنهم تنازعوا في ذلك أيضا لذكره عقيب اختلافهم في عدة أشخاصهم وليكون التذييل بقل الله أعلم محاكيا للتذييل بقوله سبحانه قل ربي أعلم بعدتهم وللدلالة على أنه من الغيب الذي أخبر به عليه الصلاة و السلام ليكون معجزا له
(15/251)
ولو قيل : فضربنا على آذانهم سنين عددا وأتى به مبينا أولا لم يكن فيه هذه الدلالة البتة فهذه عدة فوائد والأصل الأخير انتهى ويحتاج على هذا إلى بيان وجه العدول عن المتبادر وهو ثلثمائة وتسع سنين مع أنه أخضر وأظهر فقيل هو الإشارة إلى أنها ثلثمائة بحساب أهل الكتاب واعتبار السنة الشمسية وثلثمائة وتسع بحساب العرب واعتبار السنة القمرية فالتسع مقدار التفاوت وقد نقله بعضهم عن علي كرم الله وجهه
واعترض على أن دلالة اللفظ على ما ذكر غير ظاهرة مع أنه لا يوافق ما عليه الحساب والمنجمون كما قاله الامام لأن السنة الشمسية ثلثمائة وخمس وستون يوما وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة على مقتضى الرصد الايلخاني والسنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما وثمان ساعات وثمان وأربعون دقيقة فيكون التفاوت بينهما عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة ودقيقة واحدة وإذا كان هذا تفاوت سنة كان تفاوت مائة ألف يوم وسبعة وثمانين يوما وثلاثة عشرة ساعة وأربع دقائق وهي ثلاثة سنين وأربعة وعشرون يوما وإحدى عشرة ساعة وست عشرة دقيقة فيكون تفاوت ثلثمائة سنة تسع سنين وثلاثا وسبعين يوما وتسع ساعات وثمانيا وأربعين دقيقة ولذا قيل إن روايته عن علي كرم الله تعالى وجهه لم تثبت وبحث فيه الخفاجي بأن وجه الدلالة فيه ظاهر لأن المعنى لبثوا ثلثمائة سنة على حساب أهل الكتاب الذين علموا قومك السؤال عن شأنهم وتسعا زائدة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك والعدول عن الظاهر يشعر به ودعوى أن التفاوت تسع سنين مبنية على التقريب لأن الزائد لم يبلغ نصف سنة بل ولا فصلا من فصولها فلم يعبأ به وكون التفاوت تسعا تقريبا جار على سائر الأقوال في مقدار السنة الشمسية والسنة القمرية إذ التفاوت في سائرها لا يكاد يبلغ ربعا فضلا عن نصف وقال الطيبي في توجيه العدول : إنه يمكن أن يقال : لعلهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قربوا من الانتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم نائمين تسع سنين وتعقب بأن هذا يقتضي أن يكون المراد وازدادوا نوما أي قوى نومهم في تسع سنين ولا يخفى ما فيه
وقال أيضا : يجوز أن يكون أهل الكتاب قد اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فجاء قوله تعالى : ولبثوا الخ رافعا للاختلاف مبينا للحق ويكون وازدادوا تسعا تقريرا ودفعا للاحتمال نظير الاستثناء في قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى ولا يخلو عن حسن
وقيل إنهم انتبهوا قليلا ثم ردوا إلى حالتهم الأولى فلذا ذكر الازدياد وهو الذي يقتضيه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة المار في قوله تعالى ونقلبهم الخ وهو فيما أرى أقرب مما تقدم من حيث السنين الشمسية والقمرية وقال جمع : إن الجملة من كلام أهل الكتاب فهي مقول سيقولون السابق وما بينهما اعتراض ونسب ذلك إلى ابن عباس فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوى أبعد ما بين السماء والأرض ثم تلا ولبثوا في كهفهم الآية ثم قال : كم لبث القوم قالوا : ثلثمائة وتسع سنين فقال : لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله تعالى قل الله أعلموا بما لبثوا ولكنه سبحانه حكى مقالة القوم فقال تعالى سيقولون ثلاثة إلى قوله تعالى رجما بالغيب فأخبر أنهم لا يعلمون وقال : سيقولون لبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا ولعل هذا لا يصح عن الحبر رضي الله تعالى عنه فقد صح عنه القول بأن عدة
(15/252)
أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم مع أنه تعالى عقب القول بذلك بقوله سبحانه قل ربي أعلم بعدتهم ولا فرق بينه وبين قوله تعالى قل الله أعلم بما لبثوا فلم دل هذا على الرد ولم يدل ذاك
نعم قرأ ابن مسعود قالوا لبثوا كهفهم وهو يقتضي أن يكون من كلام الخائضين في شأنهم إلا أن التعقيب بقوله تعالى قل الله أعلم بما لبثوا كتعقيب القول الثالث في العدة بما سمعت في عدم الدلالة على الرد
والظاهر أن ضمير وازدادوا على هذا القول لأصحاب الكهف كما أنه كذلك على القول السابق وقال الخفاجي : إن ضمير عليه لأهل الكتاب بخلافه على الأول ويظهر فيه وجه العدول عن ثلثمائة وتسع سنين لأن بعضهم قال : لبثوا ثلثمائة وبعضهم قال : إنه أزيد بتسعة ا ه ولا يخفى ما فيه وعلى القولين الظاهر أن بما لبثوا إشارة إلى المدة السابق ذكرها وزعم بعضهم أنه إشارة إلى المدة التي بعد لاطلاع عليهم إلى زمن الرسول وهو كما ترى وقيل إنه تعالى ما قال وازدادوا تسعا كانت التسع مبهمة لا يدري أنها سنون أم شهور أم أيام أم ساعات واختلف في ذلك بنو إسرائيل فأمر برد العلم إليه عز و جل في التسع فقط ا ه وليس بشيء فإنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق فعندي مائة درهم وعشرة ظاهر في وعشرة دراهم وليس بمجمل كما لا يخفى
هذا ونصب تسعا على أنه مفعول ازدادوا وهو مما يتعدى إلى واحد وقال أبو البقاء : إن زاد يتعدى إلى اثنين وإذا بني على افتعل تعدى إلى واحد وظاهر كلام الراغب وغيره أن زاد قد تتعدى إلى واحد يقال : زدته كذا فزاد هو وازداد كذا ووجه ذلك ظاهر فلا تغفل والجمهور على أن سنين في القراءة بتنوين مائة منصوب لكن اختلفوا في توجيه ذلك فقال أبو البقاء وابن الحاجب : هو منصوب على البدلية من ثلثمائة وقال الزمخشري : على أنه عطف بيان لثلثمائة وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز على مذهب البصريين
وادعى بعضهم أنه أولى من البدلية لأنها تستلزم أن لا يكون العدد مقصودا ويؤيده ما أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : لما نزلت هذه الآية ولبثوا في كهفهم ثلثمائة قيل يا رسول الله أياما أم أشهرا أم سنين فأنزل الله تعالى سنين
وجوز ابن عطية الوجهين وقيل : على التمييز وتعقب بأنه يلزم عليه الشذوذ من وجهين وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى وبما نقل في المفصل عن الزجاج أنه يلزم أن يكونوا لبثوا تسعمائة سنة قال ابن الحاجب : ووجهه أنه فهم من لغتهم أن مميز المائة واحد من مائة كما إذا قلت مائة رجل فرجل واحد من المائة فلو كان سنين تمييزا لكان واحدا من ثلثمائة وأقل السنين ثلاثة فكان كأنه قيل ثلثمائة ثلاث سنين فيكون تسعمائة سنة ويرد بأن ما ذكر مخصوص بما إذا كان التمييز مفردا وأما إذا كان جمعا فالقصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعا في نحو ثلاثة أثواب مع أن الأصل في الجميع الجمع وإنما عدلوا إلى المفرد لعلة كما بين في محله فإذا استعمل التمييز جمعا استعمل على الأصل وما قال إنما يلزم لو كان ما استعمل جمعا استعمل كما استعمل المفرد فأما إذا استعمل الجمع على أصله في ما وضع له العدد فلا انتهى
وقد صرح الخفاجي أن ذلك كتقابل الجمع بالجمع وجوز الزجاج كون سنين مجرورا على أنه نعت مائة وهو راجع في المعنى إلى جملة العدد كما في قول عنترة :
(15/253)
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سودا كخافية الغراب الأسحم حيث جعل سودا نعتا لحلوبة وهي في المعنى نعت لجملة العدد وقال أبو علي : لا يمتنع أن يكون الشاعر اعتبر حلوبة جمعا وجعل سودا وصفا لها وإذا كان المراد به الجمع فلا يمتنع أن يقع تفسيرا لهذا الضرب من العدد من حيث كان على لفظ الآحاد كما يقال عشرون نفرا وثلاثون قبيلا وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ثلثمائة سنين بإضافة مائة إلى سنين وما نقل عن الزجاج يرد هنا أيضا ويرد بما رد به هناك ولا وجه لتخصيص الايراد بنصب سنين على التمييز فإن منشأ اللزوم على فرض تسليمه كونه تمييزا وهو متحقق إذا جر تمييز المائة بالإضافة أحد الأمرين المشهورين فيه استعمالا وثانيهما كونه مفردا ولكون الأفراد مشهورا في الاستعمال أطلق عليه الأصل فهو أصل بحسب الاستعمال ولا ينافي هذا قول ابن الحاجب : إن الأصل في التمييز مطلقا الجمع كما سمعت آنفا لأنه أراد أنه الأصل المرفوض قياسا نظرا إلى أن المائة جمع كثلاثة وأربعة ونحوهما كذا في الكشف وقد يخرج عن الاستعمال المشهور فيأتي مفردا منصوبا كما في قوله : إذا عاش الفتى مائتين عاما
فقد ذهل اللذاذة والفتاء موقد يأتي جمعا مجرورا بالإضافة كما في الآية على قراءة الكسائي وحمزة ومن معهما لكن قالوا : إن الجمع المذكور فيها قد أجرى مجرى العاري عن علامة الجمع لما أن العلامة فيه ليست متمحضة للجمعية لأنها كالعوض عن لام مفرده المحذوفة حتى أن قوما لا يعربونه بالحروف بل يجرونه مجرى حين ولم أجد فيهما عندي من كتب العربية شاهدا من كلام العرب لإضافة المائة إلى جمع وأكثر النحويين يريدون الآية على قراءة حمزة والكسائي شاهدا لذلك وكفى بكلام الله تعالى شاهدا وقرأ أبي ثلثمائة سنة بالإضافة والإفراد كما هو الاستعمال الشائع وكذا في مصحف ابن مسعود وقرأ الضحاك ثلثمائة سنون بالتنوين ورفع سنون على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي سنون وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه تسعا بفتح التاء وهو لغة فيه فاعلم والله تعالى أعلم له غيب السموات والأرض أي جميع ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلها فالغيب مصدر بمعنى الغائب والخفي جعل عينه للمبالغة واللام للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علما ويلزم منه ثبوت علمه سبحانه بسائر المخلوقات لأنه من علم الخفى علم غيره بالطريق الأولى
أبصر به وأسمع صيغتا تعجب والهاء ضميره تعالى والكلام مندرج تحت القول فليس التعجب منه سبحانه ليقال ليس المراد منه حقيقته لاستحالته عليه تعالى بل المراد أن ذلك أمر عظيم من شأنه أن يتعجب منه كما قيل ولا يمتنع صدور التعجب من بعض صفاته سبحانه وأفعاله عز و جل حقيقة من غيره تعالى
وفي الحديث ما أحلمك عمن عصاك وأقربك ممن دعاك وأعطفك على من سألك ولهم في هذه المسألة كلام طويل فليرجع إليه من أراده ولابن هشام رسالة في ذلك وأياما كان فيه إشارة إلى أن شأن بصره تعالى وسمعه عز و جل وهما صفتان غير راجعتين إلى صفة العلم خارج عما عليه بصر المبصرين وسمع السامعين فإن اللطيف والكثيف والصغير والكبير والجلي والخفي والسر والعلن على حد سواء في عدم الاحتجاب عن بصره وسمعه وتعالى بل من الناس من قال : إن المعدوم والموجود في ذلك سواء وهو مبني على شيئية المعدوم
(15/254)
والخلاف في ذلك معلوم ولعل تقديم ما يدل على عظم شأن بصره عز و جل لما أن ما نحن بصدده من قبيل المبصرات والأصل أبصر وأسمع والهمزة للصيرورة لا للتعدية أي صار ذا بصر وصار ذا سمع ولا يقتضي ذلك عدم تحققهما له تعالى تعالى عن ذلك علوا كبيرا وفيهما ضمير مستتر عائد عليه سبحانه ثم حولا إلى صيغة الأمر وبرز الضمير الفاعل لعدم لياقة صيغة الأمر لتحمل ضمير الغائب وجر بالباء الزائدة فكان له محلان الجر لمكان الباء والرفع لمكان كونه فاعلا ولكونه صار فضلة صورة وأعطى حكمها فصح حذفه من الجملة الثانية مع كونه فاعلا والفاعل لا يجوز حذفه عندهم ولا تكاد تحذف هذه الباء في هذا الموضع إلا إذا كان المتعجب منه إن وصلتها نحو أحسن أن تقول وهذا الفعل لكونه ماضيا معنى قيل إنه مبني على فتح مقدر منع من ظهوره مجيئه على صورة الأمر وهذا مذهب س في هذا التركيب قال الرضي : وضعف ذلك بأن الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد بل جاء الماضي بمعنى الأمر كما في حديث اتقى الله أمرؤ فعل خيرا يثب عليه وبأن صار ذا كذا قليل ولو كان ما ذكر منه لجاز ألحم بزيد وأشحم بزيد وبأن زيادة الباء في الفاعل قليل والمطرد زيادتها في المفعول
وتعقب بأن كون الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد غير مسلم ألا ترى أن كفى به بمعنى أكتف به عند الزجاج وقصد بهذا النقل الدلالة على أنه قصد به معنى انشائي وهو التعجب ولم يقصد ذلك من الماضي لأن الإنشاء أنسب بصيغة الأمر منه لأنه خبر في الأكثر وبأن كثره أفعل بمعنى صار ذا كذا لا تخفى على المتتبع وجواز ألحم بزيد على معنى التعجب لازم ولا محذور فيه وعلى معنى آخر غير لازم نعم ما ذكر من قلة زيادة الباء في الفاعل مما لا كلام فيه والإنصاف أن مذهب س في هذه المسئلة لا يخلو عن تعسف ومذهب الأخفش وعزاه الرضي إلى الفراء أن أفعل في نحو هذا التركيب أمر لفظا ومعنى فإذا قلت أحسن بزيد فقد أمرت كل واحد بأن يجعل زيدا حسنا ومعنى جعله كذلك وصفه به فكأنك قلت صفه بالحسن كيف شئت فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخض كما قال الشاعر : لقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل وهذا المعنى مناسب للتعجب بخلاف تقدير س وأيضا همزة الجعل أكثر من همزة صار ذا كذا وإن لم يكن شيء منهما على ما قال الرضي قياسا مطردا واعتبر الفاعل ضميرا لمأمور وهو كل أحد لأن المراد أنه لظهور الأمر يؤمر كل أحد لا على التعيين بوصفه بما ذكر ولم يتصرف في أفعل على هذا المذهب فيسند إلى مثنى أو مجموع أو مؤنث لما ذكروا من علة كون فعل التعجب غير متصرف وهي مشابهته الحروف في الإنشاء وكون كل لفظ من ألفاظه صار علما لمعنى من المعاني وإن كان هناك جملة فالقياس أن لا يتصرف فيه احتياطا لتحصيل الفهم كأسماء الأعلام فلذا لم يتصرف في نعم وبئس في الأمثال وسهل ذلك هنا انمحاء معنى الأمر فيه كمن محى معنى الجعل وصار لمحض إنشاء التعجب ولم يبق فيه معنى الخطاب والباء زائدة في المفعول وأجاز الزجاج أن تكون الهمزة للصيرورة فتكون الباء للتعدية أي صيره ذا حسن ثم أنه اعتذر لبقاء أحسن في الأحوال على صورة واحدة لكون الخطاب لمصدر الفعل أي يا حسن أحسن بزيد وفيه تكلف وسماجة
(15/255)
وأيضا نحن نقول أحسن بزيد ياعمرو ولا يخاطب شيئان في حالة إلا أن يقول : معنى خطاب الحسن قد انمحى وثمرة الخلاف بين س وغيره تظهر فيما إذا اضطر إلى حذف الباء فعلى مذهب س يلزم رفع مجروره وعلى غيره يلزم نصبه هذا وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى الآية : أبصر بدين الله تعالى وأسمع به أي بصر بهدى الله تعالى وسمع به فترجع الهاء إما على الهدى وإما على الاسم الجليل ونقل ذلك عن ابن الأنباري وليس بشيء وقرأ عيسى أبصر به وأسمع بصيغة الماضي فيهما وخرج ذلك أبو حيان على أن المراد الإخبار لا التعجب والضمير المجرور لله تعالى أي أبصر عباده بمعرفته سبحانه وأسمعه وجوز أن يكون أبصر أفعل تفضيل وكذا أسمع وهو منصوب على الحالية من ضمير له وضمير به عائد على الغيب وليس المراد حقيقة التفضيل بل عظم شأن بصره تعالى وسمعه عز و جل ولعل هذا أقرب مما ذكره أبو حيان وحاصل المعنى عليه أنه جل شأنه يعلم غيب السموات والأرض بصيرا به وسميعا على أتم وجه وأعظمه ما لهم أي لأهل السموات والأرض المدلول عليه بذكرهما من دونه تعالى من ولي من يتولى أمورهم ولا يشرك في حكمه في قضائه تعالى أحدا 62 كائنا من كان ولا يجعل له فيه مدخلا وقيل يحتمل أن يعود الضمير لأصحاب الكهف وإضافة حكم للعهد على معنى ما لهم من يتولى أمرهم ويحفظهم غيره سبحانه ولا يشرك في حكمه الذي ظهر فيهم أحدا من الخلق
وجوز ابن عطية أن يعود على معاصري رسول الله من الكفار المشاقين له عليه الصلاة و السلام وجعل الآية اعتراضا بتهديد وقيل : يحتمل أن يعود على معنى مؤمني أهل السموات والأرض والمراد أنهم لن يتخذوا من دونه تعالى وليا وقيل : يعود على المختلفين في مدة لبث أصحاب الكهف أي لا يتولى أمرهم غير الله تعالى فهم لا يقدرون بغير اقداره سبحانه فكيف يعلمون بغير إعلامه عز و جل والكل كما ترى ثم لا يخفى عليك أن ما في النظم الكريم أبلغ في نفي الشريك من أن يقال من ولي ولا شريك
وقرأ مجاهد ولا يشرك بالياء آخر الحروف والجزم قال يعقوب : لا أعرف وجه ذلك ووجهه بعضهم بأنه سكن بنية الوقف وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد بن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر ولا تشرك بالتاء ثالث الحروف والجزم على أنه نهي لكل أحد عن الشرك لا نهي له ولو جعل له عليه الصلاة و السلام لجعل تعريضا بغيرة كقوله :
إياك أعني واسمعي ياجارة
فيكون مآله إلى ذلك وجوز أن يكون الخطاب له ويجعل معطوفا على لا تقولن والمعنى لا تسأل أحدا عما لاتعرفه من قصة أصحاب الكهف ولبثهم واقتصر على ما يأتيك في ذلك من الوحي أو لا تسأل أحدا عما أخبرك الله تعالى به من نبأ مدة لبثهم واقتصر على بيانه سبحانه ولا يخفى ما فيه من كثرة مخالفة الظاهر وإن كان أشد مناسبة لقوله تعالى : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ووجه الربط على القراءة المشهورة حسبما تقدم من تفسيرهما أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الكهف وكانت من المغيبات بالإضافة إليه ودل اشتمال القرآن عليها على
(15/256)
أنه وحي معجز من حيثية الاشتمال وإن كانت جهة إعجازه غير منحصرة في ذلك أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه بقوله سبحانه واتل الخ وهو أمر من التلاوة بمعنى القراءة أي لازم تلاوة ذلك على أصحابك أو مطلقا ولا تكترث بقول من يقول لك ائت بقرآن غير هذا أو ابدله وجوز أن يكون أتل أمرا من التلو بمعنى الاتباع أي اتبع ما أوحي إليك وألزم العمل به وقيل وجه الربط أنه سبحانه لما نهاه عن المراء المتعمق فيه وعن الاستفتاء أمره سبحانه بأن يتلو ما أوحي إليه من أمرهم فكأنه قيل اقرأ ما أوحي إليك من أمرهم واستغن به ولا تتعرض لأكثر من ذلك واتبع ذلك وخذ به ولا تتعمق في جدالهم ولا تستفت أحدا منهم فالكلام متعلق بما تقدم من النواهي والمراد بما أوحي الخ هو الآيات المتضمنة شرح قصة أصحاب الكهف وقيل : متعلق بقوله تعالى : قل الله أعلم بما لبثوا أي قل لهم ذلك واتل عليهم أخباره عن مدة لبثهم فالمراد بما أوحي الخ ما تضمن هذا الإخبار وهذا دون ما قبله بكثير بل لا ينبغي أن يلتفت إليه والمعول عليه أن المراد بما أوحي ما هو أعم مما تضمن القصة وغيره من كتابه تعالى
لا مبدل لكلماته لا يقدر أحد علد تبديلها وتغييرها غيره وأما هو سبحانه فقدرته شاملة لكل شيء يمحو ما يشاء ويثبت ويعلم ما ذكر اندفاع ما قيل : إن التبديل واقع لقوله تعالى : وإذا بدلنا آية الآية والظاهر عموم الكلمات الإخبار وغيرها ومن هنا قال الطبرسي المعنى لا مغير لما أخبر به تعالى ولا لما أمر والكلام على حذف مضاف أي لا مبدل لحكم كلماته انتهى لكن أنت تعلم أن الخبر لا يقبل التبديل أي النسخ فلا تتعلق به الإرادة حتى تتعلق به القدرة لئلا يلزم الكذب المستحيل عليه عز شأنه ومنهم من خص الكلمات بالإخبار لأن المقام للإخبار عن قصة أصحاب الكهف وعليه لا يحتاج إلى تخصيص النكرة المنفية لما سمعت من حال الخبر وقول الإمام : إن النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلا توهم لا يقتدى به
ومن الناس من خص الكلمات بمواعيده تعالى لعباده الموحدين فكأنه قيل اتل ما أوحي إليك ولا تبال بالكفرة المعاندين فإنه قد تضمن من وعد الموحدين ما تضمن ولا مبدل لذلك الوعد ومآله اتل ولا تبال فإن الله تعالى ناصرك وناصر أصحابك وهو كما ترى وإن كان أشد مناسبة لما بعد والضمير على ما يظهر من مجمع البيان للكتاب ويجوز أن يكون للرب تعالى كما هوالظاهر في الضمير في قوله سبحانه : ولن تجد من دونه ملتحدا 72 أي ملجأ تعدل إليه عند إلمام ملمة وقال الإمام في البيان والإرشاد : وأصله من الالتحاد بمعنى الميل وجوز الراغب فيه أنه يكون اسم مكان وأن يكون مصدرا وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هنا بالمدخل في الأرض وأنشد عليه حين سأله نافع بن الأزرق قول خصيب الضمري : يالهف نفسي ولهف غير مجدبة عني وما عن قضاء الله ملتحد ولا داعى فيه لتفسيره بالمدخل في الأرض ليلتجأ إليه ثم إذا كان المعنى بالخطاب سيد المخاطبين فالكلام مبني على الفرض والتقدير إذ هو عليه الصلاة و السلام بل خلص أمته لا تحدثهم أنفسهم بطلب ملجأ غيره تعالى نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن التجأ إليه وعول في جميع أموره فكفاه جل وعلا ما أهمه وكشف عنه غياهب كل غمه
(15/257)
هذا ومن باب الإشارة في الآيات الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قد تقدم أن مقام العبودية لا يشابهه مقام ولا يدانيه ونبينا في أعلى مراقيه وقد ذكر أن العبد الحقيقي من كان حرا عن الكونين وليس ذاك إلا سيدهما ولم يجعل له عوجا قيما قى تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على الكتاب وجعله بعض أهل التأويل عائدا على عبده أي لم يجعل له عليه الصلاة و السلام انحرافا عن جنابه وميلا إلى ما سواه وجعله مستقيما في عبوديته سبحانه وجعل الأمر في قوله تعالى فاستقم كما أمرت أمر تكوين لينذر بأسا شديدا من لدنه وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب وذلك أشد العذاب كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات وهي الأعمال التي أريد بها وجه الله تعالى لا غير وقيل العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق أن لهم أجرا حسنا وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا فيه إشارة إلى مزيد شفقته واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين إنا جعلنا ما على الأرض من الأنهار الأشجار والمعادن والحيوانات زينة لها أي لأهلها لنبلوهم أيهم أحسن عملا فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز و جل وقال ابن عطاء : حسن العمل الاعتراض عن الكل وقال الجنيد : حسن العمل اتخاذ ذلك وعدم الاشتغال به
وقال بعضهم : أهل المعرفة بالله تعالى والمحبة له هم زينة الأرض وحسن العمل النظر إليهم بالحرمة
وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا كناية عن ظهور فناء ذلك بظهور الوجود الحقاني والقيامة الكبرى أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا قال الجنيد قدس الله سره : أي لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم حيث أسري بك ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وبلغ بك سدرة المنتهى وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى ثم ردك قبل انقضاء الليل إلى مضجعك
إذ أوى الفتية إلى الكهف قيل هم فتيان المعرفة الذين جبلوا على سجية الفتوى وفتوتهم إعرتضهم عن غير الله تعالى فأووا إلى الكهف الخلوة به سبحانه فقالوا حين استقاموا في منازل الإنس ومشاهد القدس وهيجهم ما ذاقوا إلى طلب الزيادة والترقي في مراقي السعادة ربنا آتنا من لدنك رحمة معرفة كاملة وتوحيدا عزيزا وهيء لنا من أمرنا رشدا بالوصول إليك والفناء فيك فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا كناية عن جعلهم مستغرقين فيه سبحانه فانين به تعالى عما سواه ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا إشارة إلى ردهم إلى الصحو بعد السكر والبقاء بعد الفناء ويقال أيضا : هو إشارة إلى الجلوة بعد الخلوة وهما قولان متقاربان نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم الإيمان العلمي وزدناهم هدى بأن أحضرناهم وكاشفناهم وربطنا على قلوبهم سكناها عن التزلزل بما أسكنا فيها من اليقين فلم يسمح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين ويقال أيضا : رفعناها من حضيض التلوين إلى أوج التمكين
إذ قاموا بنا لنا فقالوا ربنا رب السموات والأرض مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده لن ندعو من دونه إلها إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصح لأن يدعي لقد قلنا إذا شططا كلاما بعيدا عن الحق مفرطا في الظلم واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتلحقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين قال ابن الغرس : وهو استدلال
(15/258)
ضعيف لا يقوم به المدعي على ساق
وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجيء في شريعة نبينا بل لعمري أن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله أي وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوى فأووا إلى الكهف فاخلوا بمحبوبكم ينشر لكم ربكم من رحمته بطوي معرفته ويهيء لكم من أمركم مرفقا ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته قال بعض العارفين : العزلة عن غير الله تعالى توجب الوصلة بالله عز و جل بل لا تحصل الوصلة إلا بعد العزلة ألا ترى كيف كان رسول الله يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الفكر وجمع الحواس ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكانا قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة
وفي أسرار القرآن أن في الآية إشارة إلى أن الله تعالى حفظهم عن الاحتراق في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها
وفي الحديث حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره وقيل : في تأويله إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقب وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى
وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء من يهد الله فهو المهتد الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد وتحسبهم أيقاظا وهم رقود إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم وقال ابن عطاء : هم مقيمون في الحضرة كالنومى لا علم لهم بزمان ولا مكان أحياء موتى صرعى مفييقون نومى منتبهون ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال أي ننقلهم من عالم إلى عالم وقال ابن عطاء : نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق وقال آخر : نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والاستتار وقيل في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد قال أبو بكر الوراق : مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس ألا ترى كيف ذكر الله سبحانه أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم
وقيل أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال وقيل يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم لو اطلعت عليه أي لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبية وسطوات عظمة لوليت منهم أي من رؤية ما عليهم من هيبة وعظمة فرارا
(15/259)
ولملئت منهم رعبا كما فر موسى كليمى من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوبا من عظمتي وهيبتي وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه
وكذلك بعثناهم رددناهم إلى الصحو بعد السكر ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس وقيل : إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة ويقال : مقام المحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضي من الحبيب وطر وإن فنى الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل : أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهرا لا أعد الليالي ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريق وذلك قوله تعالى فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتطلف والإشارة فيه أولا إلى أن اللائق بطالبي الله تعالى ترك السؤال ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال وثانيا إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم بورقكم هذه فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروى فيهم الراعي ولعله لم يكن ورق وثالثا إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأحل ولذلك قال ذو النون : العارف من لا يطفيء نور معرفته نور ورعه والعجب أن رجلا من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعا بحرمتها فقيل له في ذلك فقال : نعم هي جمرات ولكن تطفيء حرارة جوع السالكين ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به حول من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور ورابعا إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم وليتلطف بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه
وقال بعض أهل التأويل : إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم وقيل : أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول : إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئا من الطعام فليكن لطيفا وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كلما تجد
لأنهم بعد في تذليل أنفسهم وقال بعضهم : طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المأكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعما ويأكل لطيفا وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمرا اتفاقيا وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثر عن النبي وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه والله تعالى أعلم ولا يشعرن بكم أحدا أي من
(15/260)
الأغبار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم بأحجار الإنكار أو يعيدوكم في ملتهم التي اجتمعوا عليها ولم ينزل الله تعالى بها من سلطان ولن تفلحوا إذا أبدا لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر لإبليسي ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله إرشاد إلى محض التجريد والتفريد ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال : أفعله إن شاء الله تعالى فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه : يا مجنون فإذا من أنت والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضا ما فيه وقيل الآية تنهى عن أن يخبر عن الحق دون إذن الحق سبحانه ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الأذن ولهم أمارات للأذن يعرفونها
واذكر ربك إذا نسيت قيل أي إذا نسيت الكون بأسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ وقيل إذا نسيت الذكر ومن هنا قال الجنيد قدس سره : حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر وقال قدس سره في قوله تعالى وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تشديد النعوت بذكره سبحانه لك قبل أن تذكره جل وعلا ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة واعتبر السنة التي في الآية شهرا وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي بن سينا ذكر في الباب الزمان من الشفاء أن أرسطو ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال أبو علي : ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف
وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المزيد الذي يربيه الله سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات وقد يتم في أيام معدودات وأنا أقول لا حجر على الله سبحانه وقد أوصل جل وعلا كثيرا من عباده بلا واسطة في سويعات له تعالى شأنه غيب السموات عالم العلو والأرض عالم السفل ولا يخفى أن عنوان الغيبية إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين وإلا فلا غيب بالنسبة إليه جل جلاله ومن هنا قال بعضهم : إنه سبحانه لا يعلم الغيب بمعنى أنه لا غيب بالنسبة إليه تعالى ليتعلق به العلم لكن أنت تعلم أنه لا يجوز التكلم بمثل هذا الكلام وإن أول بما أول لما فيه ظاهرا من مصادمة الآيات
وإلى الله تعالى نشكو أقواما ألغزوا الحق وفتنوا بذلك الخلق أبصر به وأسمع أي ما أبصره تعالى وما أسمعه لأن صفاته عين ذاته وما لهم من دونه من ولي إد لا فعل لأحد سواه تعالى ولا يشرك في حكمه أحدا لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عن شأنه هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل
واصبر نفسك أي احبسها وثبتها يقال صبرت زيدا أي حبسته وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي واستعمال ذلك في الثبات على الأمر وتحمله توسع ومنه الصبر بمعناه المعروف ولم يجعل هذا منه لتعدي هذا ولزومه مع الذين أي مصاحبة مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي أي يعبدونه دائما وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام وهي نظير قولهم : ضرب زيد الظهر والبطن يريدون
(15/261)
به ضرب جميع بدنه وأبقى غير واحد الغداة والعشي على ظاهر هما ولم يرد عموم الأوقات أي يعبدونه في طرفي النهار وخصا بالذكر لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور والمراد بتلك العبادة قيل ذكر الله تعالى وروي ذلك من طريق مغيرة عن إبراهيم وقيل : قراءة القرآن وروي ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن جبير أن المراد بها المفاوضة والحلال والحرام
وعن ابن عمر ومجاهد هي شهود الصلوات الخمس وعن قتادة شهود صلاة الصبح والعصر وفيما تقدم ما يؤيد ظاهره أولها فتدبر جدا والمراد بالموصول فقراء الصحابة عمار وصهيب وسلمان وابن مسعود وبلال وأضرابهم قال كفار قريش كأمية بن خلف وغيره من صناديد أهل مكة لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك فإن ريح جبابهم تؤذينا فنزلت الآية وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فقالوا : يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف جالسناك أو حدثناك وأخذنا عنك فأنزل الله تعالى واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك إلى قوله سبحانه أعتدنا للظالمين نارا يتهددهم بالنار وروى أبو الشيخ عن سلمان أنها لما نزلت قام رسول الله عليه الصلاة و السلام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معكم الحياة والممات
والآية على هذا مدنية وعلى الأول مكية قال أبو حيان : وهو أصح لأن السورة مكية وأقول : أكثر الروايات تؤيد الثاني وعليه تكون الآيات مستثناة من حكم السورة وكم مثل ذلك وقد أخرج ما يؤيد الأول ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولعل الآيات بعد تؤيده أيضا والتعبير عن أولئك بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز الصلة من الخصلة الداعية إلى إدامة الصحبة وقرأ ابن عامر بالغدوة وخرج ذلك على ما ذكره سيبويه والخليل من أن بعض العرب ينكر غدوة فيقول : جاء زيد غدوة بالتنوين على أن الرضى قال : إنه يجوز استعمالها نكرة اتفاقا والمشهور أن الأكثر استعمالها علم الجنس ممنوعا من الصرف فلا تدخل عليها لأنه لا يجتمع في كلمة تعريفان ومتى أريد إدخالها عليها قصد تنكيرها فأدخلت كما قصد تنكير العلم الشخصي في قوله : وقد كان منهم صاحب وابن عمه أبو جندل والزيد زيد المعارك والقراءة المذكورة مخرجه على ذلك واختار بعض المحققين التخريج الأول وقال : إنه أحسن دراية ورواية لأن التنكير في العلم الشخصي ظاهر وأما في الجنسي ففيه خفاء لأنه شائع في إفراده قبل تنكيره فتنكير إنما يتصور بترك حضوره والذهن الفارق بينه وبين النكرة وهو خفي ولذا أنكره الفناري في حواشيه على التلويح في تنكير رجب علم الشهر انتهى وللبحث فيه محال
وهذه الآية كما في البحر أبلغ من التي في الأنعام وهي قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون بذلك الدعاء وجهه أي رضاه سبحانه وتعالى دون الرياء والسمعة بناء على ما قاله الإمام السهيلي من أن الوجه إذا أضيف إليه تعالى يراد به الرضا والطاعة المرضية مجاز لأن من رضى
(15/262)
على شخص يقبل عليه ومن غضب يعرض عنه وقيل : المراد بالوجه الذات والكلام على حذف مضاف وقيل : هو بمعنى التوجه والمعنى يريدون التوجه إليه تعالى والزلفى لديه سبحانه والأول أولى والجملة في موضع الحال من فاعل يدعون أي يدعون مريدين ذلك
ولا تعد عيناك عنهم أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا والمراد النهي عن احتقارهم وصرف النظر عنهم لرثاثة حالهم إلى غيرهم فعدا بمعنى صرف المعتدي إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بعن قال في القاموس يقال : عداه عن الأمر عدوا وعدوانا صرفه واختار هذا أبو حيان وهو الذي قدر المفعول كما سمعت وقد تتعدى عدا إلى مفعول واحد بعن كما تتعدى إليه بنفسها فتكون بمعنى جاوز وترك قال في القاموس : يقال عدا الأمر وعنه جاوزه وتركه وجوز أن يكون معنى الآية على ذلك كأنه قيل لا تتركهم عيناك وقيل : إن عدا حقيقة معناه تجاوز كما صرح به الراغب والتجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو كما صرحوا به أيضا وهو هنا غير مراد فلا بد من تضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك : نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ثم قال : لم يقل ولا تعدهم عيناك أو ولا تعل عيناك عنهم وارتكب التضمين ليعطى الكلام مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولا تقحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم وتعقبه أبو حيان بأن التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى واعترض أيضا ما قيل : بأنه لا يلزم من اتحاد الفعلين في المعنى اتحادهما في التعدية فلا يلزم من كون عدا بمعنى تجاوز أن يتعدى كما يتعدى ليقال : إن التجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو وهو غير مراد فلا بد من تضمين عدا معنى فعل متعد بعن ويكفي كلام القاموس مستندا لمن خالف الزمخشري فتدبر ولا تغفل
وقرأ الحسن ولا تعد عينيك بضم التاء وسكون العين وكسر الدال المخففة من أعداه ونصب العينين وعنه وعن عيسى والأعمش أنهم قرؤا ولا تعد عينيك بضم التاء وفتح العين وتشديد الدال المكسورة من عداه يعديه ونصب العينين أيضا وجعل الزمخشري وصاحب اللوامح الهمزة والتضعيف للتعدية
وتعقب ذلك في البحر بأنه ليس بجيد بل الهمزة والتضعيف في هذه الكلمة لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد وذلك لأنه قد أقر الزمخشري بأنها قبل ذينك الأمرين متعدية بنفسها إلى واحد وعديت بعن للتضمين فمتى كان الأمران للتعدية لزم أن تتعدى إلى إثنين مع أنها لم تتعد في القراءتين المذكورتين إليهما
تريد زينة الحياة الدنيا أي تطلب مجالسة من لم يكن مثلهم من الأغنياء وأصحاب الدنيا والجملة على القراءة المتواترة حال من كاف عيناك وجازت الحال منه لأنه جزء المضاف إليه والعامل على ما قيل معنى الإضافة وليس بشيء
وقال في الكشف : العامل الفعل السابق كما تقرر في قوله تعالى بل ملة إبراهيم حنيفا ولك أن تقول : ههنا خاصة العين مقحمة للتأكيد ولا يبعد أن يجعل حالا من الفاعل وتوحيد الضمير إما لاتحاد الاحساس أو للتنبيه على مكان الإقحام أو للإكتفاء بأحدهما على الآخر أو لأنهما عضو واحد في الحقيقة واستبشاع إسناد الإرادة إلى العين مندفع بأن إرادتها كناية عن إرادة صاحبها ألا ترى إلى ما شاع من نحو قولهم :
(15/263)
يستلذه العين أو السمع وإنما المستلذ الشخص على أن الإرادة يمكن جعلها مجازا عن النظر للهو لا للعبر ا ه
ولا يخفى أن نية عدو لا عن الظاهر من غير داع وقول بعضهم : إنه لا يجوز مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذا الموضع لاختلاف العامل في الحال وذيها لا يصلح داعيا لظهور ضعفه ثم الظاهر أنه لا فرق في جواز كون الجملة حالا من المضاف إليه على تقدير أن يفسر تعد بتجاوز وتقدير أن تفسر بتصرف
وخص بعضهم كونها حالا من المضاف إليه على التقدير الأول وكونها حالا من المضاف على التقدير الثاني ولعله أمر استحساني وذلك لأن في أول الكلام على التقدير الثاني إسناد ما هو من الأفعال الاختيارية ليس إلا وهو الصرف إلى العين فناسب إسناد الارادة إليها في آخره ليكون أول الكلام وآخره على طرز واحد مع رعاية ما هو الأكثر في أحوال الأحوال من مجيئها من المضاف دون المضاف إليه وتضمن ذلك عدم مواجهة الحبيب بإسناد إرادة الحياة الدنيا إليه صريحا وإن كانت مصب النهي وليس في أول الكلام ذلك على التقدير الأول إذ الظاهر أن التجاوز ليس من الأفعال الاختيارية لا غير بل يتصف به المختار وغيره مع أن في جعل الجملة حالا من الفاعل على هذا التقدير مع قول بعض المحققين إن المتجاوز في الحقيقة هو النظر احتياجا إلى اعتبار الشيء وتركه كلام واحد وليس لك أن تجعله استخداما بأن تريد من العينين أولا النظر مجازا وتريد عند عود ضمير تريد منها الحقيقة لأن التثنية تأبى ذلك وإن اعتبر ذلك أولا وآخرا ولم يترك احتيج إلى مؤن لا تخفى على المتأمل فتأمل وتدبر وهي على القراءتين الشاذتين حال من فاعل الفعل المستتر أي لا تعد أولا تعد عينيك عنهم مريدا ذلك ولا تطع في تنحية الفقراء عن مجلسك من أغفلنا قلبه أي جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا لبطلان استعداده للذكر بالمرة كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه أولئك الفقراء من الدعاء في الغداة والعشي وفيه تنبيه على أن الباعث لهم إلى استدعاء الطرد غفلة قلوبهم عن جناب الله تعالى شأنه وملاحظة المعقولات وانهماكه في الحسيات حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد ومعنى الذكر ظاهر وفسره المفضل بالقرآن
والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة وأولها المعتزلة فقيل المراد أغفلنا قلبه بالخذلان وهذا هو التأويل المشهور عندهم في أمثال ذلك وحاله معلوم عندك وقيل : المراد صادفناه غافلا كما في قولهم : سألناكم فما أفحمناكم وقاتلناكم فما أجبناكم وتعقب بأنه لا ينبغي أن يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله تعالى إليه بالمصادفة التي تفهم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم وقيل : المراد نسبناه إلى الغفلة كما في قول الكميت : وطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب وهو كما ترى وقال الرماني : المراد لم نسم قلبه بالذكر ولم نجعله من القلوب التي كتبنا في الايمان كقلوب المؤمنين من قولهم : أغفل فلان إبله إذا تركها غفلا من غير سمة وعلامة بكى ونحوه ومنه إغفال الخط لعدم إعجامه فالاغفال المذكور استعارة لجعل ذكر الله تعالى الدال على الإيمان به كالسمة لأنه علامة للسعادة كما
(15/264)
جعل ثبوت الإيمان في القلب بمنزلة الكتابة وهو تأويل رقيق الحاشية لطيف المعنى وإن كان خلاف الظاهر فهو مما لا بأس به لمن لم يكن غرضه منه الهرب من مذهب أهل السنة واحتج بعضهم على أنه ليس المراد ظاهر الآية بقوله سبحانه : واتبع هويه في طلب الشهوات حيث أسند اتباع الهوى إلى العبد فيدل على أنه فعله لا فعل الله تعالى ولو كان ذلك فعل الله سبحانه والاسناد مجازي لقيل فاتبع بالفاء السببية لتفرعه عليه
وأجيب بأن فعل العبد لكونه بكسبه وقدرته وخلق الله تعالى يجوز إسناده إليه بالاعتبار الأول وإلى الله تعالى بالثاني والتنصيص على التفريع ليس بلازم فقد يترك لنكتة كالقصد إلى الاخبار به استقلالا لأنه أدخل في الذم وتفويضا إلى السامع في فهمه وقرأ عمر بن فائد وموسى الأسواري وعمرو بن عبيد أغفلنا بفتح الفاء واللام قلبه بالرفع على أنه فاعل لأغفلنا وهو على هذه القراءة من أغفله إذا وجده غافلا والمراد ظننا وحسبنا غافلين عن ذكرنا له ولصنيعه بالمؤاخذة بجعل ذكر الله تعالى له كناية عن مجازاته سبحانه واستشكل النهي عن إطاعة أولئك الغافلين في طرد أولئك المؤمنين بأنه ورد أنهم أرادوا طردهم ليؤمنوا فكان ينبغي تحصيل إيمانهم بذلك وغاية ما يلزم ترتب نفع كثير وهو إيمان أولئك الكفرة على ضرر قليل وهو سقوط حرمة أولئك البررة وفي عدم طردهم لزم ترتب ضرر عظيم وهو بقاء أولئك الكفرة على كفرهم على نفع قليل
ومن قواعد الشرع المقررة تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى وأجيب بأنه سبحانه علم أن أولئك الكفرة لا يؤمنون إيمانا حقيقيا بل إن يؤمنوا إيمانا ظاهريا ومثله لايرتكب له إسقاط حرمة أولئك الفقراء الأبرار فلذا جاء النهي عن الإطاعة
وقد يقال : يحتمل أن يكون الله تعالى قد علم أن طرد أولئك الفقراء السابقين إلى الإيمان المنقطعين لعبادة الرحمن وكسر قلوبهم وإسقاط حرمتهم لجلب الأغنياء وتطهير خواطرهم يوجب نفرة القلوب وإساءة الظن برسوله فربما يرتد من هو قريب عهد بإسلام ويقل الداخلون في دينه بعد ذلك عليه الصلاة و السلام وذلك ضرر عظيم فوق ضرر بقاء شرذمة من الكفار على الكفر فلذا نهى جل وعلى عن إطاعة من أغفل قلبه واتبع هواه وكان أمره في اتباع الهوى وترك الإيمان فرطا 82 أي ضياعا وهلاكان قاله مجاهد أو متقدما على الحق والصواب نابذا له وراء ظهره من قولهم : فرس فرط أي متقدم للخيل وهو في معنى ما قاله ابن زيد مخالفا للحق وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون الفرط بمعنى التفريط والتضييع أي كان أمره وهواه الذي يجب أن يلزم ويهتم به من الدين تفريطا ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي كان أمره وهواه الذي هو سبيله إفراطا وإسرافا وبالإسراف فسره مقاتل والتعبير عن صناديد قريش المستدعين طرد فقراء المؤمنين بالموصول للإيذان بعلية ما فيه حيز الصلة للنهي عن الإطاعة وقل للأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر واتبعوا هواهم الحق من ربكم خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي أوحى إلى الحق و من ربكم حال مؤكدة أو خبر بعد خبر والأول أولى والظاهر أن قوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شآ فليكفر من تمام القول المأمور به فالفاء
(15/265)
لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد أي عقيب تحقيق أن ذلك حق لا ريب فيه لازم الاتباع من شاء أن يؤمن به ويتبعه فليفعل كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فليفعل وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم التي وعدوها في طرد المؤمنين وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم وجودا وعدما مالا يخفى
وجوز أن يكون الحق مبتدأ خبره من ربكم واختار الزمخشري هنا الأول قال في الكشف : ووجه إيثار الحذف أن المعنى عليه أتم التئاما لأنه لما أمره سبحانه بالمداومة على تلاوة هذا الكتاب العظيم الشأن في جملة التالين له حق التلاوة المريدن وجهه تبارك وتعالى غير ملتفت إلى زخارف الدنيا فمن أوتي هذه النعمة العظمى فله بشكرها اشتغال عن كل شاغل ذيله لإزاحة الأعذار والعلم بقوله سبحانه وقل الخ أي هذا الذي أوحي هو الحق فمن شاء فليدخل في سلك الفائزين في هذه السعاده ومن شاء فليكن في الهالكين انهماكا في الضلالة أما لو جعل مبتدأ فالتعريف إن كان للعهد رجع إلى الأول مع فوات المبالغة وإن كان للجنس على معنى جميع الحق من ربكم لا من غيره ويشتمل الكتاب شمولا أوليا لم يطبق المفصل إذ ليس ما سيق له الكلام كونه منه تعالى لا غير بل كونه حقا لازم لاتباع لا غير ا ه
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ويشعر ظاهره بحمل الدعاء على ثاني الأقوال فيه وكون المشار اليه الكتاب مطلقا لا المتضمن الأمر بصبر النفس مع المؤمنين وترك الطاعة للغافلين كما جوزه ابن عطية وعلى تقدير أن يكون الحق مبتدأ قيل المراد أنه القرآن كما كان المراد من المشار إليه على تقدير كونه خبرا وهو المروي عن مقاتل وقال الضحاك : هو التوحيد وقال الكرماني : الإسلام والقرآن
وقال مكي : المراد به التوفيق والخذلان أي قل التوفيق والخذلان من عند الله تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إلى من ذلك شيء وليس بشيء كما لا يخفى
وجوز أن يكون قوله سبحانه فمن شاء فليؤمن الخ تهديدا من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر أي قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء فليكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير وهو ظاهر وذكر الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخليه بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة ووجه الشبه في عدم المبالاة والاعتناء هذا كقول كثير : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد مستقل في افعاله موجد لها لأنه علق فيها تحقق الإيمان والكفر على محض مشيئته لأن المتبادر من الشرط أنه علة تامة للجزاء فدل على أنه مستقل في إيجادهما ولا فرق بين فعل وفعل فهو الموجد لكل أفعاله وأجيب بأنا لو فرضنا أن مشيئة العبد مؤثرة وموجدة للأفعال لا يتم المقصود لأن العقل والنقل يدلان على توقفها على مشيئة الله تعالى وإرادته أما الأول فلأنهم قالوا : لو لم تتوقف على ذلك لزم الدور أو التسلسل وأما الثاني فلأنه سبحانه يقول وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ومع هذا التوقف لا يتم أمر الاستقلال ويثبت أن العبد مضطر في صورة مختار وهو مذهب الأشاعرة وفي الإحياء لحجة الإسلام فإن قلت : إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا إني إن شئت الفعل قدرت عليه وإن شئت الترك قدرت عليه فالفعل والترك بي لا بغيري قلت : هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك
(15/266)
أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار فحصول المشيئة في القلب أمر لازم ترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى انتهى وبعضهم يكتفي في اثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام وستذكر إن شاء الله تعالى طرفا لائقا منه في الموضع اللائق به وقال السدي : هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل وحكى ابن عطية عن فرقة أن فاعل شاء في الشرطيتين ضميره تعالى واحتج له بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : من شاء الله تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر
والحق أن الفاعل ضمير من والرواية عن الحبر أخرجها ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان أن من شاء الإيمان هو من شاء الله تعالى له الإيمان ومن شاء الكفر هو من شاء الله سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين والله تعالى أعلم وقرأ أبو السمال قعنب وقل الحق بفتح اللام حيث وقع وقال أبو حاتم : وذلك رديء في العربية وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف وقرأ أيضا الحق بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير قل القول الحق و من ربكم قيل حال أي كائنا من ربكم وقيل : صفة أي الكائن من ربكم وفيه بحث
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي فليؤمن وليكفر بكسر لام الأمر فيهما إنا أعتدنا للظالمين للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي وجعلها من جعل فمن شاء الخ تهديدا من قبله تعالى تأكيدا للتهديد وتعليلا لما يفيده من الزجر عن الكفر وجوز كونها تعليلا لما يفهم من ظاهر التخيير من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم و أعتدنا من العتاد وهو في الأصل ادخال الشيء قبل الحاجة إليه وقيل : أصله أعددنا فأبدل من احدى الدالين تاء والمعنى واحد أي هيأنا لهم نارا عظيمة عجيبة أحاط بهم سرادقها أي فسطاطها شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة والإضافة قرينة والإحاطة ترشيح وقيل : السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضا مجاز كإطلاقه على اللهب وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة والمروي عن قتادة تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه حائط من نار وحكى الكلبي أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار وحكى القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة نارا ويحيط بهم واحتج له بما أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ وابن أبي حاتم وصححه والبيهقي في البعث وآخرون عن يلعي بن أمية أن رسول الله قال : إن البحر هو من جهنم ثم تلا نارا أحاط بهم سرادقها والسرادق قال الراغب :
(15/267)
فارسي معرب وليس من كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان انتهى وقد أصاب في دعوى التعريب فإن عامة اللغويين على ذلك وأما قوله : وليس من كلامهم الخ فيكذبه ورود علابط وقرامص وجنادف وحلاحل وكلها بزنة سرادق ومثل ذلك كثير والغفلة من تلك الكثرة من هذا الفاضل بعيدة فلينظر ما مراده ثم أنه معرب سرايرده أي ستر الديوان وقيل : سراطاق أي طاق الديوان وهو أقرب لفظا إلا أن الطلق معرب أيضا وأصله تالوتاك وقال أبو حيان وغيره : معرب سرداد وهو الدهليز ووقع في بيت الفرزدق : تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم تركت لهم قبل الضراب السرادقا ويجمع كما قال سيبويه بالألف والتاء وإن كان مذكرا فيقال سرادقات وفسره في النهاية بكل ما أحاط بموضع من حائط أو مضرب أو خباء وأمر إطلاقه على اللهب أو الدخان أو غيرهما مما ذكر على هذا ظاهر
وإن يستغيثوا من العطش بقرينة قوله تعالى يغاثوا بماء كالمهل وقيل : مما حل بهم من أنواع العذاب والمهل على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن جبير ماء غليظ كدردي الزيت وفيه حديث مرفوع فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وآخرون عن أبي سعيد الخدري عن النبي في قوله تعالى كالمهل قال : كعكر الزيت فإذا قربت إليه سقطت فروة وجهه فيه وقال غير واحد : هو ما أذيب من جواهر الأرض وقيل : ما أذيب من النحاس وأخرج الطبراني وابن المنذر وابن جرير عن ابن مسعود أنه سئل عنه فدعا بذهب وفضة فإذا به فلما ذاب قال : هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار ولونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حرا من هذا
وأخرج ابن أبي حاتم وغير عن مجاهد أنه القيح والدم الأسود وقيل : هو ضرب من القطران وقوله سبحانه : يغاثوا الخ خارج مخرج التهكم بهم كقول بشر بن أبي حازم : غضبت تميم أن تقتل عامرا يوم النسار فاعتبوا بالصليم يشوي الوجوه ينضجها إذا قدم ليشرب من فرط حرارته حتى أنه يسقط جلودها كما سمعت في الحديث فالوجوه جمع وجه وهو العضو المعروف والظاهر أنه المراد لا غير وقيل : عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم والجملة صفة ثانية لماء والأولى كالمهل أو حال منه كما في البحر لأنه قد وصف أو حال من المهل كما قال أبو البقاء
وظاهر كلام بعضهم جواز كونها في موضع الحال من الضمير المستتر في الكاف لأنها اسم بمعنى مشابه فيستتر الضمير فيها كما يستتر فيه وفيه ما لا يخفى من التكلف لأنها ليست صفة مشتقة حتى يستتر فيها ولم يعهد مشتق على حرف واحد قاله الخفاجي
وذكر أن أبا علي الفارسي منع في شرح الشواهد جعل دؤابتي في قول الشاعر :
رأتني كأفحوص القطاة ذؤابتي
مرفوعا بالكاف لكونها بمنزلة مثل وقال : إن ذلك ليس بالسهل لأن الكاف ليست على ألفاظ الصفات
وجوز أن تكون في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وقيل : يجوز أن يكون مراد ذلك البعض إلا أنه تسامح بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به وسآءت النار مرتفقا 92 أي متكأ كما قال أبو عبيدة وروى عن السدي وأصل الإرتفاق كما قيل الاتكاء على
(15/268)
مرفق اليد قال في الصحاح يقال : بات فلان مرتفقا أي متكئا على مرفق يده وقيل : نصب المرفق تحت الخد فمرتفقا اسم مكان ونصبه على التمييز قال الزمخشري : وهذه لمشاكلة قوله تعالى : وحسنت مرتفقا وإلا فلا إرتفاق لأهل النار ولا إتكاء إلا أن يكون من قوله : إني أرقت فبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح أي فحينئذ لا يكون من المشاكلة ويكون الكلام على حقيقته بأن يكون لأهل النار إرتفاق فيها أي إتكاء على مرافق أيديهم كما يفعله المتحزن المتحسر وقد ذكر في الكشف أن الاتكاء على الحقيقة كما يكون للتنعم يكون للتحزن
وتعقب بأن ذلك وإن أمكن عقلا إلا أن الظاهر أن العذاب أشغلهم عنه فلا يتأتى منهم حتى يكون الكلام جقيقة لا مشاكلة وجوز أن يكون ذلك تهكما أو كناية عن عدم استراحتهم وروي عن ابن عباس أن المرتفق المنزل وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة وفي معناه قول ابن عطاء : المقر وقول العتبي : المجلس وقيل موضع الترافق أي ساءت موضعا للترافق والتصاحب وكأنه مراد مجاهد في تفسيره بالمجتمع فإنكار الطبري أن يكون له معنى مكابرة
وقال ابن الأنباري : المعنى ساءت مطلبا للرفق لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه وجوز بعضهم أن يكون المرتفق مصدرا ميما بمعنى الارتفاق والاتكاء إن الذين ءآمنوا في محل التعليل للحث على الإيمان المنفهم من التخيير كأنه قيل وللذين آمنوا ولعل تغيير السبك للإيذان بكمال تنافي حالي الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك وعملوا الصالحات حسبما بين في تضاعيفه
إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا 03 وقرأ عيسى الثقفي لا نضيع بالتضعيف وعلى القراءتين الجملة خبر إن الثانية وخبر إن الأولى الثانية بما في حيزها والرابط ضمير محذوف تقديره من أحسن عملا منهم ولا يرد أن يقتضي أن منهم من أحسن ومنهم من لم يحسن لأن ذلك على تقدير كون من تبعيضية وليس بمتعين لجواز كونها بيانية ولو سلم فلا بأس به فإن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه لكن يبقى على هذا حكم من لم يحسن بهذا المعنى منهم والرابط الاسم الظاهر الذي هو المبتدأ في المعنى على ما ذهب إليه الأخفش من جعله رابطا فإن من أحسن عملا في الحقيقة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات واعترض بأنه يأباه تنكير عملا لأنه للتقليل وأجيب بأنه غير متعين لذلك إذ النكرة قد تعم في الإثبات ومقام المدح شاهد صدق أو الرابط عموم من بناء على أن العموم قد يكون رابطا كما في زيد نعم الرجل على قول وفيه مناقشة ظاهرة
ولعل الأولى كون الخبر جملة قوله تعالى أولئك لهم جنات عدن وجملة إنا الخ معترضة ونحو هذا من الاعتراض كما قال ابن عطية وغيره قوله : إن الخليفة أن الله ألبسه سربال ملك به ترجى الخواتيم وأنت تعلم أن الاعتراض فيه غير متعين أيضا وعلى الاحتمال السابق يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة لبيان الأجر ويحتمل أن تكون خبرا بعد خبر على مذهب من لا يشترط في تعدد الأخبار كونها في معنى خبر واحد
(15/269)
وهو الحق أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم جنات إقامة على أن العدن بمعنى الإقامة والاستقرار يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه واستقر ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه
وعن ابن مسعود عدن جنة من الجنان وهي بطنانها ووجه إضافة الجنان إليها بأنها لسعتها كأن كل ناحية منها جنة تجري من تحتهم الأنهار وهم في الغرفات آمنون يحلون فيها من أساور من ذهب من الأولى للابتداء والثانية للبيان والجار والمجرور في موضع صفة لأساور وهذا ما اختاره الزمخشري وغيره وجوز أبو البقاء في الأولى أن تكون زائدة في المفعول على قول الأخفش ويدل عليه قوله تعالى وحلوا أساور وأن تكون بيانية أي شيئا أو حليا من أساور
وجوز غيره فيها أن تكون تبعيضية واقعة موقع المفعول كما جوز هو وغيره ذلك وجوز فيها أيضا أن تتعلق بيحلون وهو كما ترى والأساور جمع أسورة جمع سوار بالكسر والضم وهو ما في الذراع من الحلي وهو عربي وقال الراغب : معرب دستواره وقيل جمع أسوار جمع سوار وأصله أساوير فخفف بحذف يائه فهو على القولين جمع الجمع ولم يجعلوه من أول الأمر جمع سوار لما رأوا أن فعالا لا يجمع على أفاعل في القياس وعن عمرو بن العلاء أن الواحد أسوار وأنشد ابن الأنباري : والله لولا صبية صغار كأنما وجوههم أقمار تضمهم من العتيد دار أخاف أن يصيبهم أقتار أو لاطم ليس له أسوار لما رآني ملك جبار ببابه ما وضح النهار وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار والجمع أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور وهو موافق لما نقل عن ابن العلاء
ونقل ذلك أيضا عن قطرب وأبي عبيدة ونكرت لتعظيم حسنها من الإحاطة وقد أخرج ابن مردويه عن سعد عن النبي قال : لو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدت أساوره لطمس ضوؤه ضوء الشمس كما تطمس ضوء النجوم وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في البعث عن أبي هريرة أن النبي قال لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : إن أهل الجنة يحلون أسورة من ذهب ولؤلؤ وفضة هي أخف عليهم من كل شيء إنما هي نور وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي قالتبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء وأخرج أبو الشيخ وغيره عن كعب الأحبار قال إن لله تعالى ملكا وفي رواية في الجنة ملك لو شئت أن أسميه أسميته يصوغ حلى أهل الجنة من يوم خلق إلى أن تقوم الساعة ولو أن حليا منها أخرج لرد إشعاع الشمس والسؤال بأن لبس الرجال الأساور عيب في الدنيا فكيف يحلونها في الآخرة مندفع بأن كونه عيبا إنما هو بين قوم لم يعتادوه لا مطلقا ولا أظنك في مرية من أن الشيء قد يكون عيبا بين قوم ولا يكون عيبا بين آخرين وليس فيما نحن فيه أمر عقلي يحكم بكونه عيبا في كل وقت وفي كل مكان وبين كل قوم وإن التزمت إن فيه ذلك فقد حليت
(15/270)
نفسك بحلية الجهل وخرجت من ربقة العقل هذا وقرأ أبان عن عاصم من أسورة بحذف ألف وزيادة هاء وهو أحد الجموع لسوار كما سمعت ويلبسون ثيابا خضرا لأن الخضرة أحسن الألوان والنفس تنبسط بها أكثر من غيرها وروي في أثر أنها تزيد في ضوء البصر وقيل : ثلاثة مذهبة للحزن
الماء والخضرة والوجه الحسن
والظاهر أن لباسهم غير منحصر فيما ذكر إذ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأخرج ابن أبي حاتم عن سليم بن عامر أن الرجل يكسى في الساعة الواحدة سبعين ثوبا وأن أدناها مثل شقيق النعمان وقيل يحتمل الإنحصار ولهم فيها ما تشتهي الأنفس لا يأباه لجواز أنهم لا يشتهون ولا تلذ أعينهم سوى ذلك من الألوان والتنكير لتعريف أنها لا يكاد يوصف حسنها
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال : لو أن ثوبا من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم
وقرأ أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر ويلبسون بكسر الباء من سندس قال الجواليقي : هو رقيق الديباج بالفارسية فهو معرب وفي القاموس هو ضرب من البزيون أو ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف وقال الليث : لم يختلف أهل الجنة والمفسرون في أنه معرب وأنت تعلم أن فيه خلاف الشافعي عليه الرحمة والقول بأنه ليس من أهل اللغة والمفسرين في النفس منه شيء وقال شيدله : هو رقيق الديباج بالهندية وواحدة على ما نقل عن ثعلب سندسة
وزعم بعضهم أن أصله سندس وكان هذا النوع من الديباج يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما فعل في سادي فقيل سادس وهو كلام لا يروج إلا على سندي أو هندي ويحكى أن جماعة من أهل الهند من بلد يقال له بروج بالجيم الفارسية وكانوا يتكلمون بلغة تسمى سنسكريت جاءوا إلى الاسكندر الثاني بهدية من جملتها هذا الديباج ولم يكن رآه فقال : ما هذا فقالوا : سندون بالنون في آخره فغيرته الروم إلى سندوس ثم العرب إلى سندس فهو معرب قطعا من ذلك اللفظ الذي أطلقته أولئك الجماعة عليه لكن لا جزم في أنه اسم له في الأصل بلغتهم أو اسم للبلدة المجلوب هو منها أطلق عليه كما في أسماء كثير من الأمتعة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
وإستبرق أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة وعكرمة أنه غليظ الديباج وقال ابن بحر : هو ديباج منسوخ بذهب وفي القاموس هو الديباج الغليظ أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج أو قدة حمراء كأنها قطع الأوتار ا ه والذي عليه الأكثرون من المفسرين واللغويين الأول وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك معرب استبره وهي كلمة عجمية ومعناها الغليظ والمشهور أنه يقال للغليظ بالفارسية استبر بلا هاء وقال ابن قتيبة هو رومي عرب وأصله استبره فأبدلوا الهاء قافا ووقع في شعر المرقش قال : تراهن يلبسن المشاعر مرة واستبرق الديباج طورا لباسها وقال ابن دريد : هو سرياني عرب وذكر من أصله ما ذكروا وقيل : أصله استفره بحرف بعد التاء بين الفاء والباء الموحدة وادعى بعضهم أن استبرق الديباج الغليظ الحسن في اللغة العربية والفارسية ففيه توافق اللغتين ونقل عن الأزهري أنه استصوب هذا ويجمع على أباريق ويصغر كما في القاموس وغيره على أبيرق وقرأ ابن محيصن واستبرق بوصل الهمزة وفتح القاف حيث وقع جعله كما يقتضيه ظاهر كلام ابن
(15/271)
ابن خالويه فعلا ماضيا على وزن استفعل من البريق إلا أن استفعل فيه موافق للمجرد الذي هو برق وظاهر كلام الأهوازي في الاقناع أنه وحده قرأ كذلك وجعله اسما ممنوعا من الصرف ولم يجعله فعلا ماضيا
وقال صاحب اللوامح : قرأ ابن محيصن واستبرق بوصل الهمزة في جميع القرآن مع التنوين فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس ويجوز أنه جعله كلمة عربية من برق الثوب يبرق بريقا إذا تلألأ بجدته ونضارته فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما سمي به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ومعاملة المتمكن من الأسماء في الصرف والتنوين وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب انتهى ولا يخفى أنه مخالف للنقلين السابقين ويمكن أن يقال : ان لابن محيصن قراءتين فيه الصرف والمنع منه فنقل بعض قراءة وبعض آخر أخرى لكن ذكر ابن جني أن قراءة فتح القاف سهو أو كالسهو قال أبو حيان : وإنما قال ذلك لأن جعله اسما ومنعه من الصرف لا يجوز أنه غير علم فتكون سهوا وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون سهوا انتهى
وفي الجمع بين السندس والإستبرق إشعار ما بأن لأولئك القوم في الجنة ما يشتهون ونكرا لتعظيم شأنهما كيف لا وهما وراء ما يشاهد من سندس الدنيا واستبرقها بل وما يتخيل من ذلك وقد أخرج البيهقي عن أبي الخير مرفد بن عبدالله قال : في الجنة شجرة تنبت السندس منه تكون ثياب أهل الجنة
وأخرج الطيالسي والبخاري في التاريخ والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال : قال رجل يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلقا تخلق أم نسجا تنسج فقال : بل يتشقق عنها ثمر الجنة وظاهره أنها من سندس كانت أو من استبرق كذلك وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب وفي القيمة أغلى وفي العين أحلى وبنى فعله للمفعول إشعارا بأنهم لا يتعاطون ذلك بأنفسهم وإنما يفعله الخدم كما قال الشاعر : غرائز في كن غصون ونعمة يحليها ياقوتا وشذرا مفقرا وكذلك سائر الملوك في الدنيا يلبسهم التيجان ونحوها من العلامات المرصعة بالجواهر خدمهم وأسند اللبس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا إذا كان فيه ستر العورة وقيل : بني الاول للمفعول والثاني للفاعل إشارة إلى أن التحلية تفضل من الله تعالى واللبس استحقاقهم وتعقب بأن فيه نزغة اعتزالية ويدفع بالعناية متكئين فيها على الأرآئك جمع أريكة كما قال غير واحد وهو السرير في الحجلة فإن لم يكن فيها فلا يسمى أريكة
وأخرج ذلك البيهقي عن ابن عباس وقال الراغب : الأريكة حجلة على سرير وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أراك بالمكان أروكا وأصل الأرواك الإقامة على رعي الإراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات وروى تفسيرها بذلك عن عكرمة
وقال الزجاج : الأرائك الفرش في الحجال والظاهر أنها على سائر الأقوال عربية وحكى أبو الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشية وأيا ما كان فالكلام على ما قاله بعض المحققين كناية عن تنعمهم وترفههم فإن الاتكاء على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين والآثار ناطقة بأنهم يتكؤن ويتنعمون فقد أخرج
(15/272)
ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أن رسول الله قال إن الرجل ليتكيء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أن على الأرائك فرشا منضودة في السماء مقدار فرسخ
وقرأ ابن محيصن علرائك بنقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على فيها فيحذف ألف على لتوهم سكون لام التعريف ومثله قول الشاعر :
فما أصبحت علرض نفسي برية
يريد على الأرض
نعم الثواب ذلك الذي وعدوا به من الجنة ونعيمها وحسنت أي الأرائك أو الجنات مرتفقا 13 متكئا وقد تقدم آنفا الكلام فيه واضرب لهم للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي والكفرة الذين طلبوا طردهم مثلا رجلين مفعولان لا ضرب ثانيهما أولهما لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان قاله بعضهم وقد مر تحقيق هذا المقام فتذكر والمراد بالرجلين إما رجلان مقدران على ما قيل وضرب المثل لا يقتضي وجودهما وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه فقيل هما أخوان من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه فرطوس وقيل اسمه قطفير والآخر مؤمن اسمه يهوذا في قول ابن عباس
وقال مقاتل : اسمه يمليخا وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله تعالى وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالا وروي أنهما ورثا من أبيهما ثماني آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن : اللهم أنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا فقال : اللهم إني أشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال : اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور فتصدق به ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال : اللهم إني أشتري منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقيل هما أخوان من بني مخزوم كافر هو الأسود بن الأسد والمؤمن هو أبو سلمة عبدالله بن عبد الأسد والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا من أن المؤمنين في الآخرة كذا وللكافرين فيها كذا بل من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر أي اضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة والطاعة مع الفقر حال رجلين جعلنا لأحدهما وهو الكافر جنتين بستانين لم يتعين سبحانه مكانهما إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة
وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه عجائب البلاد أن بحيرة تينس كانت هاتين الجنتين فجرى ما جرى ففرقهما الله تعالى في ليلة واحدة وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه قول آخر والجملة بتمامها تفسير للمثل فلا موضع لها من الإعراب ويجوز أن تكون في موضع الصفة لرجلين فموضعها النصب من أعناب من كروم متنوعة فالكلام على ما قيل إما على تقدير مضاف وأما الأعناب فيه مجاز عن الكروم وهي أشجار العنب والمفهوم من ظاهر كلام الراغب أن العنب مشترك بين الثمرة والكرم فعليه يراد الكروم من غير حاجة إلى
(15/273)
التقدير وارتكاب المجاز والداعي إلى إرادة ذلك أن الجنة لا تكون من ثمر بل من شجر وحففناهما بنخل أي جعلنا النخل محيطة بهما مطيفة بحافيهما أي جانبيهما مؤزرا بها كرومهما يقال حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم إذا جعلتم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا آخر كقولك غشيته به وجعلنا بينهما وسطهما زرعا 23 لتكونا جامعتين للأقوات والفواكه متواصلتي العمارة على الهيئة الرائقة والوضع الأنيق
كلتا الجنتين آتت أكلها ثمرها وبلغ مبلغا صالحا للأكل و كلتا اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين وهو المذهب المشهور ومثنى لفظا ومعنى عند البغداديين وتاؤه منقلبة عن واو عند سيبويه فاصلة كلوى فالألف فيه للتأنيث ويشكل على هذا إعرابه بالحروف بشرطه ويجاب بما أجيب به عن الأشكال في الأسماء الخمسة وعند الجرمي الألف لام منقلبة عن أصلها والتاء زائدة للتأنيث ويرد عليه أنه لا يعرف فعتل وأن التاء لا تقع حشوا و لا بعد ساكن صحيح وعلى المشهور يجوز في ضميره مراعاة لفظه ومراعاة معناه وقد روعي الأول هنا والثاني فيما بعد وفي مصحف عبد الله كلا الجنتين آتى بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ثم قرأ آتت فأنث لأنه ضمير مؤنث ولا فرق بين حقيقيه ومجازيه فالتركيب نظير قولك : طلع الشمس وأشرقت وقال : إن عبد الله قرأ كل الجنتين آتى أكله فذكر وأعاد الضمير على كل
ولم تظلم منه أي لم تنقص من أكلها شيئا من النقص على خلاف ما يعهد في سائر البساتين فإن الثمار غالبا تكثر في عام وتقل في عام وكذا بعض الأشجار تأتي بالثمار في بعض الأعوام دون بعض وجوز أن يكون تظلم متعديا و شيئا مفعوله والمآل واحد وفجرنا خلالهما أي فيما بين كلتا الجنتين نهرا 33 ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما قال يحيى بن أبي عمرو الشيباني : وهذا النهر هو المسمى بنهر أبي فرطس وهو على ما قال ابن أبي حاتم نهر مشهور في الرملة وقيل المعنى فجرنا فيما بين كل من الجنتين نهرا على حدة فيكون هناك نهران على هذا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وتشديد فجر قيل للمبالغة في سعة التفجير وقال الفراء : لأن النهر ممتد فكأنه أنهار
وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر فجرنا بالتخفيف على الأصل وقرأ أبو السمال والعياض بن غزوان وطلحة بن سليمان نهرا بسكون الهاء وهو لغة جارية فيه وفي نظائره ولعل تأخير ذكر التفجير عن ذكر الايتاء مع أن الترتيب الخارجي على العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ولو عكس لأنفهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مترتب على بعض فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقف على السقي كقوله تعالى : يكاد زيتها يضيء قاله شيخ الإسلام وكان له أي للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين ثمر أنواع المال كما في القاموس وغيره يقال : ثمر إذا تمول وحمله على حمل الشجر كما فعل أبو حيان وغيره غير مناسب للنظم
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وقراء المدينة ثمر بضم الثاء والميم وكذا في بثمره الآتي وهو جمع ثمار بكسر الثاء جمع ثمر بفتحتين فهو جمع الجمع ومعناه
(15/274)
على نحو ما تقدم أي أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغيرها وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما وقال مجاهد يراد به الذهب والفضة خاصة وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم تخفيفا هنا وفيما بعد والمعنى على ما سمعت وقرأ أبو رجاء في رواية ثمر بالفتح والسكون
وفي مصحف أبي وحمل على التفسير وآتيناه ثمرا كثيرا فقال لصاحبه المؤمن والمراد بالصاحب المعنى اللغوي فلا ينافي هذا العنوان القول بأنهما كانا أخوين خلافا لمن وهم وهو أي القائل يحاوره أي يحاور صاحبه فالجملة في موضع الحال من القائل والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث وإشراكه بالله تعالى وجوز أن تكون الجملة حالا من صاحبه فضمير هو عائد عليه وضمير صاحبه عائد على القائل أي والصاحب المؤمن يراجع بالوعظ والدعوة إلى الله عز و جل ذلك الكافر القائل له أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا 43 حشما وأعوانا وقيل : أولادا ذكورا وروي ذلك عن قتادة ومقاتل وأيد بمقابلته بأقل منك مالا وولدا وتخصيص الذكور لأنهم الذين ينفرون معه لمصالحه ومعاونته وقيل : عشيرة ومن شأنهم أنهم ينفرون مع من هو منهم واستدل بذلك على أنه لم يكن أخاه لأن العشيرة مشتركة بينهما وملتزم الأخوة لا يفسر بذلك ونصب مالا ونفرا على التمييز وهو على ما قيل محول عن المبتدأ والظاهر أن المراد من أفعل التفضيل معناه الحقيقي وحينئذ يرد بذلك ما في بعض الروايات من أن الأخ المؤمن بقي بعد التصدق بماله فقيرا محتاجا فسأل أخاه الكافر ولم يعطه ووبخه على التصدق ودخل جنته أي كل ما هو جنة له يتمتع بها بناءا على أن الإضافة للإستغراق والعموم فتفيد ما أفادته التثنية مع زيادة وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير ذلك ولا حظ له في الجنة التي وعد المتقون وإلى هذا ذهب الزمخشري وهو معنى لطيف دق تصوره على أبي حيان فتعقبه بما تعقبه واختار أن الأفراد لأن الدخول لا يمكن أن يكون في الجنتين معا في وقت واحد وإنما يكون في واحدة واحدة وهو خال عما أشير إليه من النكتة
وكذا ما قيل إن الأفراد لاتصال أحدهما بالأخرى وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في قوله تعالى جعلنا لأحدهما جنتين الخ الجنة البستان فكان له بستان واحد وجدار واحد وكان بينهما نهر فلذلك كان جنتين وسماه سبحانه جنة من قبل الجدار المحيط به وهو كما ترى والذي يدل عليه السياق والمحاورة أن المراد ودخل جنته مع صاحبه وهو ظالم لنفسه جملة حالية أي وهو ضار لنفسه بكفره حيث عرضها للهلاك وعرض نعمتها للزوال أو واضع الشيء في غير موضعه حيث كان اللائق به الشكر والتواضع لا ما حكى عنه
قال استئناف مبني على سؤال نشأ من ذكر دخول جنته حال ظلمه لنفسه كأنه قيل فماذا قال إذ ذاك فقيل له : ما أظن أن تبيد أي تهلك وتفنى ويقال بادبيد بيدا ويبودا وبيدودة إذا هلك هذه أي الجنة أبدا 53 أي طول الحياة فالمراد بالتأييد طول المكث لا معناه المتبادر وقيل يجوز أن يكون أراد ذلك لأنه لجهله وإنكاره قيام الساعة ظن عدم فناء نوعها وإن فنى كل شخص من أشجارها نحو ما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم في الحركات الفلكية وليس بشيء وقيل ما قصد إلا أن هذه الجنة المشاهدة
(15/275)
بشخصها لا تفنى على ما يقوله الفلاسفة على المشهور في الأفلاك أنفسها وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك وإلا فهو مما لا يقوله عاقل وهو مما لا يرتضيه فاضل وقيل هذه إشارة إلى الأجرام العلوية والأجسام السفلية من السموات والأرض وأنواع المخلوقات أو إشارة إلى الدنيا والمآل واحد والظاهر ما تقدم وأيا ما كان فلعل هذا القول كان منه بمقابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنتيه ونهيه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الصالحات الباقيات ولعله خوفه أيضا بالساعة فقال له : وما أظن الساعة قائمة أي كائنة فيما سيأتي فالقيام الذي هو من صفات الأجسام مجاز عن الكون والتحقق لكنه جار في العرف مجرى الحقيقة ولئن رددت إلى ربي بالبعث عند قيامها كما زعمت لأجدن حينئذ خيرا منها أي من هذه الجنة
وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن منذر ونافع وابن كثير وابن عامر منهما بضمير التثنية وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام أي من الجنتين منقلبا 63 أي مرجعا وعاقبة لفناء الأولى وبقاء الأخرى على زعمك وهو تمييز محول من المبتدأ على ما نص عليه أبو حيان ومقدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه وهذا كقوله تعالى حكاية ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ولم يدر أن ذلك استدراج وكأنه لسبق ما يشق عليه فراقه وهي الجنة التي ظن أنها لا تبيد جاء هنا رددت ولعدمه فيما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى من آية حم المذكورة جاء رجعت فليتأمل
قال له صاحبه استئناف كما سبق وهو يحاوره جملة حالية كالسابقة وفائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوها كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة
وقرأ أبي وحمل ذلك على التفسير وهو يخاصمه أكفرت بالذي خلقك من تراب أي في ضمن خلق أصلك منه وهو آدم عليه السلام لما أن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس إنطواء إجماليا مستتبعا لجريان ءاثارها على الكل فإسناد الخلق من تراب إلى ذلك الكافر حقيقة باعتبار أنه مادة أصله وكون ذلك مبنيا على صحة قياس المساواة خيال واه وقيل خلقك منه لأنه أصل مادتك إذ ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب فالإسناد مجاز من إسناد ما لسبب إلى المسبب فتدبر
ثم من نطفة هي مادتك القريبة فالمخلوق واحد والمبدأ متعدد ونقل أنه ما من نطفة قدر الله تعالى أن يخلق منها بشرا إلا وملك موكل يلقى فيها قليلا من تراب ثم يخلق الله تعالى منها ما شاء من ذكر أو أنثى
وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى ثبوت صحته وأنا أقول : غالب ظني أني وقفت على تصحيحه لكن في تخريج الآية عليه كلام لا يخفى ثم سواك رجلا 73 عدلك وكملك إنسانا ذكرا وأصل معنى التسوية جعل الشيء سواء أي مستويا كما فيما تسوى بهم الأرض ثم إنه يستعمل تارة بمعنى الخلق والإيجاد كما في قوله تعالى ونفس وما سواها فإذا قرن بالخلق والإيجاد كما هنا فالمراد به الخلق على أتم حال وأعدله حسبما تقتضيه
(15/276)
الحكمة بدون إفراط ولا تفريط ونصب رجلا على ما قال أبو حيان على الحال وهو محوج إلى التأويل
وقال الحوفي : نصب على أنه مفعول ثان لسوى والمراد ثم جعلك رجلا وفيه على ما قيل تذكير بنعمة الرجولية أي جعلك ذكرا ولم يجعلك أنثى
والظاهر أن نسبية الكفر بالله تعالى إليه لشكه في البعث وقوله ما أظن الساعة قائمة والشاك في البعث كما في الكشف كافر من أوجه الشك في قدرته تعالى وفي إخباره سبحانه الصدق وفي حكمته ألا ترى إلى قوله عز و جل أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون وهذا هو الذي يقتضيه السياق لأن قوله أكفرت الخ وقع ردا لقوله ما أظن الساعة قائمة ولذلك رتب الإنكار بخلقه من تراب ثم من نطفة الملوح بدليل البعث وعليه أكثر المفسرين ونوقشوا فيه
وقال بعضهم : الظاهر إنه كان مشركا كما يدل عليه قول صاحبه تعريضا به ولا أشرك بربي أحدا وليس في قوله إني رددت إلى ربي ما ينافيه لأنه على زعم صاحبه كما مر مع أن الإقرار بالربوبية لا ينافي الإشراك فعبدت الأصنام مقرون بها وهم مشركون فالمراد بقوله أكفرت أأشركت ا ه وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ما يتعلق به
وقرأ ثابت البناني وحمل ذلك على التفسير كنظائره المتقدمة ويلك أكفرت لكنا هو الله ربي أصله لكن أنا وقد قرأ به أبي والحسن وحكى ابن عطية ذلك عن ابن مسعود فنقل حركة همزة أنا إلى نون لكن فحذفت الهمزة ثم حذفت الحركة ثم أدغمت النون في النون وقيل حذفت الهمزة مع حركتها ثم أدغم أحد المثلين في الآخر وهو أقرب مسافة إلا أن الحذف المذكور على خلاف القياس وقد جاء الحذف والإدغام في قوله : وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلى فإنه أراد لكن أنا لا أقليك وهو أولى من جعلهم التقدير لكنه إياك على حذف ضمير الشأن وأبعد منه جعل الأصل لكنني إياك على حذف اسم لكن كما في قوله : فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر أي لكنك مع نون الوقاية وبإثبات الألف آخرا بالوقف حذفها في الوصل كما هو في الأصل في أنا وقفا ووصلا قرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون وأبدلها هاء في الوقف أبو عمرو في رواية فقال لكنه ذكره ابن خالويه وقال ابن عطية : روى هرون عن أبي عمر و لكنه هو الله ربي بضمير لحق لكن
وقرأ ابن عامر وزيد بن علي والحسن والزهري بإثبات الألف وقفا ووصلا وهو رواية عن نافع ويعقوب وأبي عمرو وورش وأبي جعفر وأبي بحرية وجاء ذلك على لغة بني تميم فإنهم يثبتون ألف أنا في الأصل اختيارا وأما غيرهم فيثبتها فيه اضطرارا وقال بعضهم : إن إثباتها في الوصل غير فصيح لكنه حسن هنا لمشابهة أنا بعد حذف همزته لضميرنا المتصل ولأن الألف جعل عوضا عن الهمزة المحذوفة فيه
وقيل أثبتت إجراء للوصل مجرى الوقف وفي إثباتها دفع اللبس بلكن المشددة ومن اثباتها وصلا قول الشاعر :
(15/277)
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما وفي رواية الهاشمي عن أبي جعفر حذفها وصلا ووقفا وروي ذلك أيضا عن أبي عبلة وأبي حيوة وأبي بحرية وقرأ لكننا بحذف الهمزة وتخفيف النونين و لكن في جميع هذه القراءات حرف استدراك لاعمل له وأنا مبتدأ أول و هو ضمير الشأن مبتدأ ثان و الله ربي مبتدأ وخبر والجملة خبر ضمير الشأن وهي غنية عن الرابط وجملة ضمير الشأن وخبره خبر المبتدأ الأول والرابط ضمير المتكلم المضاف إليه والتركيب نظير قولك : هند هو زيد ضاربها وجوز أن يكون هو مبتدأ ثانيا والاسم الجليل بدلا منه و ربي خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الياء أيضا وفي البحر أن هو ضمير الشأن وثم قول محذوف أي لكن أنا أقول هو الله ربي ويجوز أن يعود على الذي خلقك أي لكن أنا أقول الذي خلقك الله ربي فخبره الإسم الجليل و ربي نعت أو عطف بيان أو بدل انتهى ثم جوز عدم تقدير القول واقتصر على جعل هو و ضمير الشأن حينئذ حسبما سمعت ولا يخفى أن احتمال تقدير القول بعيد في هذه القراءة ولعل احتمال كون الاسم الجليل بدلا أقرب معنى من كونه خبرا وعود الضمير على الذي خلقك وجوز أبو علي كون نا ضمير الجماعة كالتي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين إلا أنه أريد بها ضمير المعظم نفسه فوحد ربي على المعنى ولو اتبع اللفظ لقيل ربنا ولا يخفى ما فيه من البعد وقال ابن عطية في الآية : يجوز أن تكون لكن هي العاملة من أخوات إن واسمها محذوف وحذفه فصيح إذ دل عليه الكلام والتقدير لكن قولي والله ربي لكن ذلك إنما يتم لو قريء بحذف الألف وقفا ووصلا وأنا لا أعرف أحدا قرأ بذلك انتهى وأنت قد عرفت من قرأ به وقد ذكر غيرهم قرؤا أيضا أبو القاسم يوسف بن علي الهدلي في كتابه الكامل في القراءات لكن لا أظنك تستحسن التخريج على ذلك وقرأ عيسى الثقفي لكن هو الله بسكون نون لكن وحكاه ابن خالويه عن ابن مسعود والأهوازي عن الحسن وإعرابه ظاهرا جدا
م وقريء لكن أنا هو الله لا إله إلا هو ربي ويعلم إعرابه مما مر وخرج أبو حيان قراءة أبي عمرو على رواية هرون على أن يكون هو تأكيدا لضمير النصب في لكنه وجعله عائدا على الذي خلقك والاسم الجليل خبره و ربي نعتا أو عطف بيان أو بدل والجملة خبر ضمير الشأن المنصوب بلكن أو يكون هو مبتدأ والاسم الجليل بدلا منه و ربي خبرا والجملة خبر الضمير
هذا وقوله ولا أشرك بربي أحدا 83 عطف على إحدى الجملتين والاستدراك على أكفرت وملخص المعنى لمكان الاستفهام الذي هو للتقرير على سبيل الإنكار أنت كافر بالله تعالى لكني مؤمن موحد
وللتغاير الظاهر بين الجملتين وقعت لكن موقعها فقد قالوا : إنها تقع بين كلامين متغايرين نحو زيد حاضر لكن عمرو غائب وإلى كون المعنى ما ذكر ذهب الزمخشري وغيره وذكر في الكشف أن فيه إشارة إلى أن الكفر بالله تعالى يقابله الإيمان والتوحيد فجاز أن يستدرك بكل منهما وبهما معا أي كما هنا فإن الإيمان مفاد أنا هو الله ربي والتوحيد مفاد لا أشرك بربي أحدا وأنت تعلم أيضا أن الشرك كثيرا ما يطلق على مطلق الكفر
(15/278)
وجعلوا منه قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به وأنه يمكن أن يكون الغرض من مجموع الكلام إثبات الإيمان على الوجه الأكيد ولعل شرك صاحبه الذي عرض به في الجملة الثانية كما صرح به غير واحد لهذا المعنى
وقيل الشرك فيه بالمعنى المتبادر وإثباته لصاحبه تعريضا باعتبار أنه لما أنكر البعث فقد عجز الباري جل جلاله ومن عجزه سبحانه وتعالى فقد سواه بخلقه تعالى في العجز وهو شرك وقيل باعتبار أنه لما اغتر بدنياه وزعم الاستحقاق الذاتي وأضاف ما أضاف لنفسه كان كأنه أشرك فعرض به المؤمن بما عرض فكأنه قال : لكن أنا مؤمن ولا أرى الغنى والفقر إلا من الله تعالى يفقر من يشاء ويغني من يشاء ولا أرى الإستحقاق الذاتي على خلاف ما أنت عليه والإنصاف أن كلا من القولين تكلف وقيل في الكلام تعريض بشرف صاحبه ولا يلزم أن يكون مدلولا عليه لكلامه السابق بل يكفيه ثبوت كونه مشركا في نفس الأمر وفيما بعد ما هو ظاهر فيه فتأمل ثم اعلم أنما تضمنته الأية ذكر جليل وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت : علمني رسول الله كلمات أقولهن عند الكرب الله ربي ولا أشرك به شيئا
ولولاإذ دخلت جنتك قلت حض على القول وتوبيخ على تركه وتقديم الظرف على المحضض عليه للإيذان بتحتم القول في آن الدخول من غير ريث للقصر وجاء تقديمه لذلك وجعله فاصلا بين لولا وفعلها لتوسعهم في الظروف أي هلا قلت عندما دخلتها ما شاء الله أي الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله تعالى كائن على أن ما موصولة مرفوعة المحل إما على أنها خبر مبتدأ محذوف أو على أنها مبتدأ محذوف الخبر
ويجوز أن تكون شرطية في محل نصب بشاء والجواب محذوف أي أي شيء شاء الله تعالى كان وأيا ما كان فالمراد تحضيضه على الإعتراف بأن جنته وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها ودلالة الجملة على العموم الداخل فيه ما ذكر دخولا أوليا على التقدير الأول لأن تعريف الأمر بالاستغراق والجملة على هذا تفيد الحصر وأما على غيره فقيل بأن ما شرطية أو موصولة وهي في معنى الشرط والشرط وما في معناه يفيد توقف وجود الجزاء على ما في حيزه فيفيد عدمه عند عدمه فيكون المعنى ما شاء كان وإن لم يشأ لمن يكن ولا غبار على ذلك عند من يقول بمفهوم الشرط وقدر بعضهم في الثاني من احتمالي الموصولة ما شاء الله هو الكائن حتى تفيد الجملة ما ذكر وليس بشيء كما لا يخفى
وزعم القفال من المعتزلة أن التقتير هذا ما شاء الله تعالى والإشارة إلى ما في الجنة من الثمار ونحوها وهذا كقول الإنسان إذا نظر إلى كتاب مثلا : هذا خط زيد ومراده نفي دلالة الآية على العموم ليسلم له مذهب الاعتزال وكذلك فعل الكعبي والجبائي حيث قالا : الآية خاصة فيما تولى الله تعالى فعله ولا تشمل ما هو من فعل العباد ولا يمتنع أن يحصل في سلطانه سبحانه ما لا يريد كما يحصل فيه ما ينهى عنه ولا يخفى على من له ذوق سليم وذهن مستقيم أن المنساق إلى الفهم العموم وكم للمعتزلة عدول عن ذلك لا قوة إلا بالله من مقول القول أيضا أي هلا قلت ذلك اعترافا بعجزك وإقرارا بأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره جل جلاله وقد تضمنت هذه الآية ذكرا جليلا أيضا فقد أخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال لي نبي الله ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش قلت : نعم قال : أن تقول لا قوة إلا بالله
(15/279)
قال عمرو بن ميمون : قلت لأبي هريرة : لا حول ولا قوة إلا بالله فقال : لا إنها في سورة الكهف ولولا إذ دخلت الآية
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال : إن من أفضل الدعاء قول الرجل ما شاء الله وأخرج أبو يعلي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا دفع الله تعالى عنه كل آفة حتى تأتيه منيته وقرأ ولولا دخلت جنتك الخ
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أنس قال : من رأى شيئا من ماله فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يصب ذلك المال ءافة أبدا وقرأ الآية وأخرجه البيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا
وأخرج ابن أبي حاتم عن مطرف قال : كان مالك إذا دخل بيته يقول : ما شاء الله قلت لمالك : لم تقول هذا قال : ألا تسمع الله تعالى يقول ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله ونقل عن ابن العربي أن مالكا يستدل بالآية على استحباب ما تضمنته من الذكر من دخل منزله
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عروة أنه كان إذا رأى من ماله شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ويتأول قول الله تعالى ولولا إذ دخلت الآية ويفهم من بعض الروايات استحباب قول ذلك عند رؤية ما يعجب مطلقا سواء كان له أو لغيره وأنه إذا قال ذلك لم تصبه عين الإعجاب إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا 93 الخ أنا توكيد للضمير المنصوب على المفعولية في ترني وقد أقيم ضمير الرفع مقام ضمير النصب والرؤية إن كانت علمية فأقل مفعول ثان وإن كانت بصرية فهو حال من المفعول ويجوز أن يكون أنا فصلا وحينئذ يتعين أن تكون الرؤية علمية لأن الفصل إنما يقع بين مبتدأ وخبر في الحال أو في الأصل
وقرأ عيسى بن عمر أقل بالرفع فيكون أنا مبتدأ و أقل خبره والجملة في موضع المفعول الثاني على الأول من احتمالي الرؤية أو الحال على الثاني منهما و مالا وولدا تمييز على القراءتين وما فيهما من الاحتمال وقوله : فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك قائم مقام جواب الشرط أي إن ترن كذلك فلا بأس عسى ربي الخ وقال كثير : هو جواب الشرط والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنيع الله تعالى أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزقني لايماني جنة خيرا من جنتك ويسلبك بكفرك نعمه ويخرب جنتك وقيد بعضهم هذا الايتاء بقوله : في الآخرة وقال ءاخر : في الدنيا أو في الآخرة وظاهر ما ذكر في الدنيا كالإرسال في قوله ويرسل عليها حسبانا من السماء أي عذابا كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس
وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى حسبانا فقال : نارا وأنشد له قول حسان : بقية معشر صبت عليهم شآبيب من الحسبان شهب وأخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا وقال الزمخشري : هو مصدر كالبطلان والغفران بمعنى الحساب والمراد به المحسوب والمقدر أي مقدرا قدره الله تعالى وحسبه وهو الحكم بتخريبها والظاهر أن إطلاقه على الحكم المذكور مجاز والزجاج جعل الحسبان بمعنى الحساب أيضا إلا أنه قدر مضافا
(15/280)
أي عذاب حساب وهو حساب ما كسبت يداه ولا يخفى أنه يجوز أن يراد من الحسبان بهذا المعنى العذاب مجازا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف
وظاهر عبارة القاموس وكذا ما روي أولا عن ابن عباس أن إطلاق الحسبان على العذاب حقيقة ويمكن على ما قيل أن يكون إطلاقه على النار باعتبار أنها من العذاب أو من المقدر ونقل الزمخشري أن حسبانا جمع حسبانة وهي المرماة أي ما يرمى به كالسهم والصاعقة وأريد بها هنا الصواعق وقيل أعم من ذلك أي يرسل عليها مرامي من عذابه إما بردا وإما حجارة وإما غيرهما مما يشاء فتصبح لذلك صعيدا أي أرضا زلقا 04 ليس فيها نبات قاله الحسن وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي وقيل وأصل معنى الزلق الزلل في المشي لوحل ونحوه لكن لما كان ذلك فيما لا يكون فيه نبت ونحوه مما يمنع منه تجوز به أو كني عنه وعبر بالمصدر عن المزلقة مبالغة وقيل الزلق من زلق رأسه بمعنى حلق حلقه والكلام على التشبيه أي فتصبح أرضا ملساء ليس فيها شجر ولا نبات كالرأس الذي حلق وفيه بعد وقيل المراد بالزلق المزلقة بالمعنى الحقيقي الظاهر والمعنى فتصبح أرضا لا نبات فيها ولا يثبت فيها قدم وحاصله فتصبح مسلوبة المنافع حتى منفعة المشي عليها فتكون وحلا لا تنبت ولا يثبت عليها قدم وظاهر صنيع أبي حيان اختياره وقال مجاهد : أي فتصبح رملا هائلا أو يصبح ماؤها غورا أي غائرا في الأرض والتعبير بالمصدر للمبالغة نظير ما مر
فلن تستطيع له أي للماء الغائر طلبا 14 تحركا وعملا في رده وإخراجه والمراد نفي استطاعة الوصول إليه فعبر عنه بنفي الطلب إشارة إلى أنه غير ممكن والعاقل لا يطلب مثله وقيل ضمير له للماء مطلقا لا للماء المخصوص أي فلن تستطيع لماء لها بدل ذلك الماء الغائر طلبا وهو الذي يقتضيه كلام الماوردي إلا أنه خلاف الظاهر
والظاهر أنه يصبح عطف على تصبح وحينئذ لابد أن يراد بالحسبان ما يصلح ترتب الأمرين عليه عادة كالحكم الإلهي بالتخريب إذ ليس كل آفة سماوية يترتب عليها إصباح الجنة صعيدا زلقا يترتب عليها إصباح مائها غورا وجوز أن يكون العطف على يرسل وحينئذ يجوز أن يراد بالحسبان أي معنى كان من المعاني السابقة وعلى هذا يكون المؤمن قد ترجى هلاك جنة صاحبه الكافر إما بآفة سماوية أو بآفة أرضية وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع لكنه لم يصرح بما يترتب على الغور من الضرر والخراب ولعل ذلك لظهوره والاكتفاء بالإشارة إليه بقوله فلن الخ وتعقب بأنه لا يخفى أنه لا فساد في هذا العطف لا لفظا ولا معنى إلا أنه كان الظاهر أن يقال : أو يجعل ماءها غورا أو نحو ذلك مما فيه إسناد الفعل إلى الله تعالى ولا يظهر للعدول إلى ما في النظم الكريم وجه فتأمل ثم أن أكثر العلماء على أن قوله إن ترن الخ في مقابلة قول الكافر أنا أكثر منك مالا الخ وكأنهم عنوا المقابلة في الجملة لا المقابلة التامة أما إذا لم يتحد المراد بالنفر والولد فظاهر وأما إذا اتحد بأن فسر النفر بالولد فلأن هناك أمرين أكثرية وأعزية ولم يذكر هنا إلا مقابل أحدهما وهو الأقلية المنسوبة في المعنى إلى المال والولد نعم قيل : إن أقلية
(15/281)
الولد قد تستلزم الأذلية والأكثرية قد تستلزم الأعزية كما يشاهد في عرب البادية هذا وكان الظاهر أن يتعرض في الجزاء لأمر الولد كما تعرض لأمر المال بأن يقال وعسى أن يؤتيني خيرا من ولدك ويصيبهم ببلاء فيصبحوا هلكى أو نحو ذلك وأجيب بأنه إنما لم يتعرض لذلك إشارة إلى استيلاء حب المال على قلب ذلك الكافر وأنه يكفي في نكايته وإغاظته تلف جنته وإعطاء صاحبه المؤمن خيرا منها
وقيل : إنما لم يتعرض لذلك لما فيه من ترجي هلاك من لم يصدر منه مكالمة ومحاورة ولم ينقل عنه مقاومة ومفاخرة لمجرد إغاظة كافر حاور وكاثر وفاخر وتركه أفضل للتكامل وأكمل للفاضل والدعاء على الكفرة وذراريهم الصادر من بعض الأنبياء عليهم السلام ليس من قبيل هذا الترجي كما لا يخفى على المتأمل وحيث أرادك ترك هذا الترجي ترك ترجي الولد لنفسه تبعا له أو لكونه غير مهم له وقيل : إنه ترجاه في قوله : خيرا من جنتك لأن المراد شيئا خيرا من جنتك والنكرة قد تعم بمعونة المقام فيندرج الولد وليس بشيء
وقيل : أراد ما هو الظاهر أي جنة خيرا من جنتك إلا أن الخيرية لا تتم من دون الولد إذ لا تكمل لذة بالمال لمن لا ولد له فترجي الجنة خير من تلك الجنة متضمن لترجي ولد خير من أولئك الولد ولم يترج هلاك ولده ليكون بقاؤه بعد هلاك جنته حملا عليه ولا يخفى أنه لا يتبادر إلى الذهن من خيرية الجنة إلا خيريتها فيما يعود إلى كونها جنة من كثرة الأشجار وزيادة الثمار وغزارة مياه الأنهار ونحو ذلك وفي قوله : ليكون الخ منع ظاهر وقيل : لم يترج الولد اكتفاءا بما عنده منهم فإن كثرة الأولاد ليس مما يرغب فيه الكاملون وفيه نظر وقيل : إنه لم يقرن ترجي إيتاء الولد مع ترجي إيتاء الجنة لأن ذلك الإيتاء المترجي في الآخرة وهي ليست محلا لإيتاء الولد لانقطاع التولد هناك ولا يخفى أن هذا بعد تسليم أنه لا يؤتى الولد لمن شاءه في الآخرة ليس بشيء وقيل : يمكن أن يكون ترجي الولد في قوله : خيرا من جنتك بناءا على أنه أراد من جنته جميع ما متع به من الدنيا وتكون الضمائر بعدها عائدة عليها بمعنى البستان على سبيل الاستخدام وهو كما ترى فتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وأخبر
وقرأت فرقة غؤورا بضم الغين وهمزة بعدها و واو بعدهما وأحيط بثمره أهلك أمواله المعهودة من جنتيه وما فيهما وهو مأخوذ من إحاطة العدو وهي استدارته به من جميع جوانبه استعملت في الاستيلاء والغلبة ثم استعملت في كل هلاك وذكر الخفاجي أن في الكلام استعارة تمثيلية شبه إهلاك جنتيه بما فيهما بإهلاك قوم حاط بهم عدو وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم ويحتمل أن تكون الاستعارة تبعية وبعض يجوز كونها تمثيلية تبعية انتهى وجعل ذلك من باب الكناية أظهر والعطف على مقدر كأنه قيل : فوقع بعض ما ترجى وأحيط الخ وحذف لدلالة السباق والسياق عليه واستظهر أن الإهلاك كان ليلا لقوله تعلى فأصبح يقلب كفيه ويحتمل أن تكون أصبح بمعنى صار فلا تدل على تقييد الخبر بالصباح ويجري هذان الأمران في تصبح ويصبح السابقين ومعنى تقليب الكفين على ما استظهره أبو حيان أن يبدي بطن كل منهما ثم يعوج يده حتى يبدو ظهر كل يفعل ذلك مرارا وقال غير واحد : هو أن يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى ثم يعكس الأمر ويكرر ذلك وأيا ما كان فهو كناية عن الندم والتحسر وليس ذلك من قوله : قلبت الأمر ظهرا لبطن كما في قول عمرو بن ربيعة :
(15/282)
وضربنا الحديث ظهرا لبطن وآتينا من أمرنا ما اشتهينا فإن ذلك مجاز عن الانتقال من بعض الأحاديث إلى بعض ولكونه كناية عن الندم عد بعلى بقوله تعالى على ما أنفق فيها فالجار والمجرور ظرف له متعلق بيقلب كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق ومنه يعلم أنه يجوز في الكناية أن تعدي بصلة لمعنى الحقيقي كما في قولهم : بنى عليها وبصلة المعنى الكنائي كما هن فيجوز بنى بها ويكون القول بأنه غلط غلط
ويجوز أن يكون الجار والمجرور ظرفا مستقرا متعلقه خاص وهو حال من ضمير يقلب أي متحسرا على ما أنفق وهو نظرا إلى المعنى الكنائي حال مؤكدة على ما قيل لأن التحسر والندم بمعنى وقال بعضهم : إن التحسر الحزن وهو أخص من الندم فليراجع وأيا ما كان فلا تضميم في الآية كما توهم وقريء تقلب كفاه أي تتقلب ولا يخفى عليك أمر الجار والمجرور على هذا وما إما مصدرية أي على إنفاقه في عمارتها وإما موصولة أي على الذي أنفقه في عمارتها من المال ويقدر على هذا مضاف إلى الموصول من الأفعال الاختيارية إذا كان متعلق الجار يقلب مرادا منه يندم لأن الندم إنما يكون على الأفعال الاختيارية ويعلم من هذا وجه تخصيص الندم على ما أنفق بالذكر دون هلاك الجنة وقيل : لعل التخصيص لذلك ولأن ما أنفق في عمارتها كان ما يمكن صيانته عن طوارق الحدثان وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أن يتمتع بها أكثر مما يتمتع به وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردى ولذلك قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع بناء على الزعم الفاسد من إنفاق ما يمكن ادخاره في مثل هذا الشيء السريع الزوال انتهى والظاهر أن إهلاكها واستئصال نباتها وأشجارها كان دفعيا بآفة سماوية ولم يكن تدريجيا بإذهاب ما به النماء وهو الماء فقد قال الخفاجي : إن الآية تدل على وقوع اتئصال نباتها وأشجارها عاجلا بآفة سماوية صريحا لقوله تعالى فأصبح بالفاء التعقيدية والتحسر إنما بكون لما وقع بغتة فتأمل وهي أي الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل خاوية أي ساقطة وأصل الخواء كما قيل الخلاء يقال خوى بطنه من الطعام يخوي خوي وخواء إذا دخل وفي القاموس خوت الدار تهدمت وخوت وخويت خيا وخويا وخواء وخواية خلت من أهلها : وأريد السقوط هنا لتعلق قوله تعالى على عروشها بذلك والعروش جمع عرش وهو هنا ما يصنع من الأعمدة لتوضع عليه الكروم وسقوط الجنة على العروش لسقوطها قبلها ولعل ذلك لأنه قد أصاب الجنة من العذاب ما جعلها صعيدا زلقا لا يثبت فيها قائم ولعل تخصيص حال الكروم بالذكر دون النخل والزرع إما لأنها العمدة وهما من متمماتها وإما لأن الذكر هلاكها على ما قيل مغن عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مسندة بعروشها فهلاك ما عداها بالطريق الأولى وإما لأن الإنفاق في عمارتها أكثر ثم هذه الجملة تبعد ما روي من أن الله تعالى أرسل عليها نارا فأحرقتها وغار ماؤها إلا أن يراد منها مطلق الخراب وحينئذ يجوز أن يراد من هي الجنة بجميع ما اشتملت عليه ويقول عطف على يقلب وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا من الضمير المستتر فيه بتقدير وهو يقول لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو الحالية إلا شذوذا
يا ليتني لم أشرك بربي أحدا 24 كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتى من قبل شركه فتمنى لو لم
(15/283)
يكن مشركا فلم يصبه ما أصابه وقيل ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندما عليه فيكون تجديدا للايمان لأن ندمه على شركه فيما مضى يشعر بأنه آمن في الحال فكأنه قال : آمنت بالله تعالى الآن وليت ذلك كان أولا لكن لا يخفى أن مجرد الندم على الكفر لا يكون إيمانا وإن كان الندم على المعصية قد يكون توبة إذا عزم على أن لا يعود وكان الندم عليها من حيث كونها معصية كما صرح به في المواقف وعلى فرض صحة قياسه بها لم يتحقق هنا من الكافر ندم عليه من حيث هو كفر بل بسبب هلاك جنتيه والآية فيما بعد ظاهرة أيضا في أنه لم يتب عما كفر به وهو إنكار البعث والقول بأنه إنما لم تقبل توبته عن ذلك لأنها كانت عند مشاهدة البأس والإيمان إذ ذاك غير مقبول غير مقبول إذ غاية ما في الباب أنه إيمان بعد مشاهدة أهلاك ماله وليس في ذلك سلب الإختيار الذي هو مناط التكليف لا سيما إذا كان ذلك الإهلاك للأنذار نعم إذا قيل إن هذا حكاية لما يقوله الكافر يوم القيامة كما ذهب إليه بعض المفسرين كان وجه عدم القبول ظاهرا إذ لا ينفع تجديد الإيمان هناك بالإتفاق ولم تكن له وقرأ الأخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيدة وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير يكن بالياء التحتية لأن المرفوع به أعني قوله تعالى فئة غير حقيقي التأنيث والفعل مقدم عليه وقد فصل بينهما بالمنصوب وقد روعي في قوله سبحانه ينصرونه المعنى فأتى المعنى بضمير الجمع
وقرأ ابن أبي عبلة ولم تكن له فئة تنصره مراعاة للفظ فقط والمراد من النصرة لازمها وهو القدرة عليها أي لم تكن له فئة تقدر على نصره إما بدفع الهلاك قبل وقوعه أو برد المهلك بعينه على القول بجواز إعادة المعدوم بعينه أو برد مثله على القول بعدم جواز ذلك من دون الله فإنه سبحانه وتعالى القادر على نصره وحده وارتكب المجاز لأنه لو أبقى ذلك على ظاهره لاقتضى نصرة الله تعالى إياه لأنه إذا قيل لا ينصر زيدا أحد دون بكر فهم منه نصرة بكر له في العرف وليس ذلك بمراد بل المراد ما سمعت وحاصله لا يقدرون على نصره إلا الله تعالى القدير وما كان في نفسه منتصرا 43 ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى منه هنالك أي في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك الولاية لله الحق أي النصرة لله تعالى وحده لا يقدر عليها أحد فالجملة تقرير وتأكيد لقوله تعالى ولم تكن له فئة ينصرونه الخ أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر سبحانه بما فعل بالكافر أخاه المؤمن فالولاية بمعنى النصرة على الوجهين إلا أنها على الأول مطلقة أو مقيدة بالمضطر ومن وقع به الهلاك وعلى هذا مقيدة بغير المضطر وهم المؤمنين ويعضد أن المراد نصرتهم قوله تعالى هو خير ثوابا وخير عقبا 44 أي عاقبة لاوليائه ووجه ذلك أن الآية ختمت بحال الأولياء فيناسب أن يكون ابتداؤها كذلك
وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير الولاية بكسر الواو وهي والولاية بالفتح بمعنى واحد عند بعض أهل اللغة كالوكالة والوكالة والوصاية وقال الزمخشري هي بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك أي هنالك السلطان له عز و جل لا يغلب ولا يمتنع منه ولا يعبد غيره كقوله تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله
(15/284)
مخلصين له الدين فتكون الجملة تنبيها على أن قوله يا ليتني لم أشرك الخ كان عن اضطرار وجزع عمادها ولم يكن عن ندم وتوبة وحكى عن أبي عمرو والأصمعي أنهما قالا إن كسر الواو لحن هنا لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة ومعنى متقلدا كالكتابة والإمارة والخلافة وليس هنا تولي أمر إنما هي الولاية بالفتح بمعنى الدين بالكسر ولا يعول على ذلك
واستظهر أبو حيان كون هنالك إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله الحق ويناسب قوله تعالى هو خير ثوابا وخير عقبا ويكون كقوله تعالى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار والظاهر على جميع ذلك أن الوقف على منتصرا وقوله تعالى هنالك الخ ابتداء كلام وحينئذ فالولاية مبتدأ و لله الخبر والظرف معمول الإستقرار والجملة مفيدة للحصر لتعريف المسند إليه واقتران الخبر بلام الإختصاص كما قرر في الحمد لله رب العالمين وقال أبو البقاء يجوز أن يكون هنالك خبر الولاية أو الولاية مرفوعة به و لله يتعلق بالظرف أو بالعامل فيه أو بالولاية ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منها
وقال بعضهم إن الظرف متعلق بمنتصرا والإشارة إلى الدار الآخرة والمراد الإخبار بنفي أن ينتصر في الآخرة بعد نفي أن تكون له فئة تنصره في الدنيا والزجاج جعله متعلقا بمنتصرا أيضا إلا أنه قال ما كان منتصرا في تلك الحالة و الحق نعت للإسم الجليل
وقرأ الاخوان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدى وابن عيسى الاصبهاني الحق بالرفع علىأنه صفة الولاية وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو الحق وأن يكون مبتدأ وهو خبره وقرأ أبي هنالك الولاية الحق لله بتقديم الحق ورفعه وهو يرجح كون الحق نعتا للولاية في القراءة السابقة
وقرأ أبو حيوة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو الحق بالنصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة والناصب له عامل مقدر كما في قولك هذا عبدالله حقا ويحتمل أنه نعت مقطوع
وقرأ الحسن والأعمش وحمزة وعاصم وخلف عقبا بسكون القاف والتنوين وعن عاصم عقبى بألف التأنيث المقصور على وزن رجعي والجمهور بضم القاف والتنوين والمعنى في الكل ما تقدم واضرب لهم مثل الحياة الدنيا أي اذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يغتروا بها ولا يضربوا عن الآخرة صفحا بالمرة أو اذكر لهم صفتها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثل وبينها لهم كماء استئناف لبيان المثل أي هي كماء أنزلناه من السماء وجوزوا أن يكون مفعولا ثانيا لا ضرب على أنه بمعنى صير وتعقب بأن الكاف تنبو عنه إلا أن تكون مقحمة ورد بأنه مما لا وجه لأن المعنى صير المثل هذا اللفظ فالمثل بمعنى الكلام الواقع فيه التمثيل وقال الحوفي الكاف متعلقة بمحذوف صفة لمصدر محذوف اي ضربا كماء وليس بشيء
فاختلط به نبات الأرض أي فاشتبك وخالط بعضه بعضا لكثرته وتكاثفه بسبب كثرة سقي الماء إياه أو المراد فدخل الماء في النبات حتى روي ورف وكان الظاهر في هذا المعنى فاختلط بنبات الأرض لأن
(15/285)
المعروف في عرف اللغة والإستعمال في عرف اللغة والإستعمال دخول الباء على الكثير الغير الطاريء وإن صدق بحسب الوضع على كل من المتداخلين أنه مختلط ومختلط به إلا أنه اختير ما في النظم الكريم للمبالغة في كثرة الماء حتى كأنه الاصل الكثير ففي الكلام قلب مقبول فأصبح ذلك النبات الملتف إثر بهجته ونضارته هشيما أي يابسا متفتتا وهو فعيل بمعنى مفعول وقيل جمع هشيمه وأصبح بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح كما في قوله ... أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا ...
وقيل هي على ظاهرها مفيدة لتقييد الخبر بذلك لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلا وتعقب بأنه ليس في الآية ما يدل على أن اتصافه بكونه هشيما لآفة سماوية بل المراد بيان ما يؤول إليه بعد النضارة من اليبس والتفت كقوله تعالى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى تذروه الرياح أي تفرقه كما قال أبو عبيدة وقال الأخفش ترفعه وقال ابن كيسان تجيء به وتذهب وقرأ ابن مسعود تذريه من اذرى رباعيا وهو لغة في ذرى وقرأ زيد بن علي والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن ابي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير تذروه الريح بالإفراد وليس المشبه به نفس الماء بل هو الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر مهتزا ثم يصير يابسا تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن وعبر بالفاء في الآية للإشعار بسرعة زواله وصيرورته بتلك الصفة فليست فصيحية وقيل هي فصيحية والتقدير فزها ومكث مدة فأصبح هشيما وكان الله على كل شيء من الأشياء التي من جملتها الإنشاء والإفناء مقتدرا45 كامل القدرة المال والبنون زينة الحياة الدنيا بيان لشأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الحياة الدنيا كما افتخر الأخ الكافر بما افتخر به من ذلك إثر بيان شأن نفسها بما مر من المثل وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والامداد وغير ذلك
وعمومه بالنسبة إلى الإفراد والأوقات فإنه زينة وممد لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين وأما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ الأبوة ولان المال مناط لبقاء النفس والبنون لبقاء النوع ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بلا مال فهو في اضيق حال ونكال كذا في إرشاد العقل السليم والزينة مصدر وأطلق على ما يتزين به للمبالغة ولذلك أخبر به عن أمرين وإضافتها إلى الحياة الدنيا اختصاصه وجوز أن تكون على معنى في والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة الدنيا وقد علم شأنها في سرعة الزوال وقرب الإضمحلال فما الظن بما هو من أوصافها التي شأنها أن تزول قبل زوالها وذكر أن هذا إشارة إلى ما يرد افتخارهم بالمال والبنين كأنه قيل المال والبنون وزينة الحياة الدنيا وكل ما كان زينة الحياة الدنيا فهو سريع الزوال ينتج المال والبنون سريعا الزوال أما الصغرى فبديهية واما الكبرى فدليلها يعلم مما مر من بيان شأن نفس الحياة الدنيا ثم يقال المال والبنون سريعا الزوال وكل ما كان سريع الزوال
(15/286)
يقبح بالعاقل أن يفتخر به ينتج المال والبنون يقبح بالعاقل أن يفتخر بهما وكلتا المتقدمين لا خفاء فيها والباقيات الصالحات أخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هي يا رسول الله قال التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله وأخرج الطبراني وابن شاهين في الترغيب وابن مردويه عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها وهن من كنوز الجنة وجاء تفسيرها بما ذكر في غير ذلك من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن المنذر وابن أبي شيبة عن ابن عباس تفسيرها بما ذكر أيضا لكن بدون الذكر الأخير
وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر في رواية أخرى عنه تفسيرها بالصلوات الخمس وأخرج ابن مردويه وابن المنذر وابن أبي حاتم في رواية أخرى عنه أيضا تفسيرها بجميع أعمال الحسنات وفي معناه ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قتادة أنها كل ما أريد به وجه الله تعالى وعن الحسن وابن عطاء أنها النيات الصالحة واختار الطبري وغيره ما في الرواية الأخيرة عن ابن عباس ويندرج فيها ما جاء في ما ذكر من الروايات وغيرها
وادعى الخفاجي أن كل ما ذكر في تفسيرها غير العام ذكر على طريق التمثيل ويبعد ذلك قوله صلى الله عليه و سلم وهن الباقيات المفيد للحصر بعد التنصيص على ما لا عموم فيه فتأمل وأيا ما كان فالباقيات صفة لمقدر كالكلمات أو الأعمال وإسناد الباقيات إلى ذلك مجاز أي الباقي ثمرتها وثوابها بقرينة ما بعد فهي صفة جرت على غير ما هي له بحسب الأصل أو هناك مقدر مرفوع بالوصف مضاف إلى ضمير الموصوف استتر الضمير المجرور وارتفع بعد حذفه وكذا تدخل أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولا أوليا فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر والكلام متضمن للتنويه بشأنهم وحط قدر شانئهم فكأنه قيل ما افتخر به أولئك الكفرة من المال والبنين سريع الزوال لا ينبغي أن يفتخر به وما جاء به أولئك المؤمنين خير من ذلك عند ربك أي في الآخرة وهو بيان لما يظهر فيه آثار خيريتها بمنزلة إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا لا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركة الكل في الأصل إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة وقيل معنى عند ربك في حكمه سبحانه وتعالى ثوابا جزاء وأجرا وقيل نفعا وخير أملا 46 حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما يؤمله بها في الدنيا وأما المال والبنون فليس لصاحبهما ذلك وتكرير خير لمبالغة وقيل لها وللإشعار باختلاف جهتي الخيرية ويوم نسير الجبال منصوب باذكر مضمرا أي اذكر يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيرها في الجو كالسحاب كما ينبيء عنه قوله تعالى وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب وقيل نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منبثا والكلام على هذا على حذف مضاف وجوز أن يكون التسيير مجازا عن الإذهاب والإفناء بذكر السبب وإرادة المسبب أي واذكر يوم نذهب بها وننسفها نسفا فيكون كقوله تعالى وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا واعترض
(15/287)
كلا الأمرين بأن صيرورة الجبال هباء منبثا وإذهابها بعد تسييرها فقد ذكر بعض المحققين أخذا من الآيات أنه أولا تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا ثم هباء منبثا والظاهر هنا أول أحوال الجبال ولا مقتضى للصرف عن الظاهر ثم المراد بذكر ذلك تحذير المشركين ما فيه من الدواهي التي هي أعظم من ثالثة الأثافي وجوز أبو حيان وغيره كون يوم ظرفا للفعل المضمر عند قوله تعالى لقد جئتمونا الخ أي قلنا يوم كذا لقد جئتمونا وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى هناك وغير واحد كونه معطوفا على ما قبله من قوله تعالى عند ربك فهو معمول خير أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة وحينئذ يتعين أن يكون المراد من عند ربك في حكمه تعالى كما قيل به وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب تسير الجبال برفع الجبال وبناء تسير بالتاء ثالثة الحروف للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالإستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه وعن الحسن أنه قرأ كذلك إلا أنه جاء بالياء آخر الحروف بدل التاء وقرأ أبي سيرت الجبال بالماضي المبني للمفعول ورفع الجبال وقرأ ابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو تسير الجبال بالمضارع المفتتح بالتاء المثناة من فوق المبني للفاعل ورفع الجبال وترى الأرض خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية أي وترى جميع جوانب الأرض بارزة بادية ظاهرة أما ظهور ما كان منها تحت الجبال فظاهر وأما ما عداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك أو تراها بارزة لذهاب جميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والأشجار وإنما اقتصر على زوال الجبال لأنه يعلم منه زوال ذلك بطريق الأولى وقيل إسناد البروز إلى الأرض مجاز والمراد ترى أهل الأرض بارزين من بطنها وهو خلاف الظاهر
وقرأ عيسى وترى الأرض ببناء الفعل للمفعول ورفع الأرض وحشرناهم أي جمعناهم إلى الموقف من كل أواب بعد أن أقمناهم من قبورهم ولم يذكر لظهور إرادته وعلى ما قبل يكون ذلك مذكورا وإيثار الماضي يعد نسير وترى للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث والذي ينكره المنكرون وعليه يدور أمر الجزاء وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيا وموجبا وقال الزمخشري هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك اه واعترض بأن في بعض الآيات مع الأخبار ما يدل على أن التسيير والبروز عند النفخة الأولى وفساد نظام العالم والحشر وما عطف عليه عند النفخة الثانية فلا ينبغي حمل الآية على معنى وحشرناهم قبل ذلك لئلا تخالف غيرها فليتأمل ثم لا يخفى أن التعبير بالماضي على الأول مجاز وعلى هذا حقيقة لأن المضي والإستقبال بالنظر إلى الحكم المقارن له لا بالنسبة لزمان التكلم والجملة عليه كما في الكشف وغيره تحتمل العطف والحالية من فاعل نسير
وقال أبو حيان الأولى جعلها حالا على هذا القول وأوجبه بعضهم وعلله بأنها لو كانت معطوفة لم يكن مضي بالنسبة إلى التسيير والبروز بل إلى زمان التكلم فيحتاج إلى التأويل الأول ثم قال وتحقيقه أن صيغ الأفعال موضوعة لأزمنة التكلم إذا كانت مطلقة فإذا جلعت قيودا لما يدل على زمان كان مضيها وغيره بالنسبة إلى زمانه اه وليس بشيء والحق عدم الوجوب وتحقيق ذلك أن الجمل التي ظاهرا التعاطف يجوز فيها
(15/288)
التوافق والتخالف في الزمان فإذا كان في الواقع كذلك فلا خفاء فيه وإن لم يكن فلا بد للعدول من وجه فإن كان أحدهما قيدا للآخر وهو ماض بالنسبة إليه فهو حقيقة ووجهه ما ذكر ولا تكون الجملة معطوفة حينئذ فإن عطفت وجعل المضي بالنسبة لأحد المتعاطفين فلا مانع منه وهل هو حقيقة أو مجاز محل تردد والذي يحكم به الإنصاف اختيار قول أبي حيان من أولوية الحالية على ذلك والقول بأنه لا وجه وحينئذ يقدر قد عند الأكثرين أي وقد حشرناهم فلم نعاذر منهم أحدا 47 أي لم نترك يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء والغدير الذي هو ماء يتركه السيل في الأرض وقريء يغادر بالياء التحتية على أن الضمير لله تعالى على طريق الإلتفات
وقرأ قتادة تغادر بالتاء الفوقية على أن الضمير للأرض كما في قوله تعالى وألقت ما فيها وتخلت وجوز أبو حيان كونه للقدرة وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنيا للمفعول ورفع أحد على النيابة عن الفاعل وقرأ الضحاك نغدر بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال وعرضوا على ربك أحضروا محل حكمه وقضائه عز و جل فيهم صفا مصطفين أو مصفوفين
فقد أخرج ابن منذر في التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الله تعالى ينادي يوم القيامة يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسؤولون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب وفي الحديث الصحيح يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر الحديث بطوله وقيل تقام كل أمة وزمرة صفا
وفي بعض الأخبار أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون وقيل لا عرض بالمعنى المعروف ولا اصطفاف والكلام خارج مخرج الإستعارة التمثيلية شبهت حالهم في حشرهم بحال جند عرضوا على السلطان ليأمر فيهم بما يأمر وقيل إن فيه استعارة تبعية بتشبيه حشرهم بعرض هؤلاء ومعنى صفا سواء كان داخلا في الإستعارة التمثيلية أو كان ترشيحا غير متفرقين ولا مختلطين فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده
ولا حاجة إلى أن يقال إنه مفرد أريد به الجمع لكونه مصدرا أي صفوفا أو يقال إن الأصل صفا صفا على أن هذا مع بعده يرد عليه أن ما يدل على التعدد بالتكرار كبابا بابا وصفا صفا لا يجوز حذفه هذا والحق أن إنكار الإصطفاف مما لا وجه له بعد إمكانه وصحة الأخبار فيه ولعل ما فسرنا به الآية مما لا غبار عليه وفي الإلتفات إلى الغيبة وبناء الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه و سلم من تربية المهابة والجري على سنن الكبرياء وإظهار اللطف به عليه الصلاة و السلام ما لا يخفى وقيل في قوله تعالى على ربك إشارة إلى غضب الله تعالى عليهم وطردهم عن ديوان القبول بعدم جريهم على معرفتهم لربوبيته عز و جل لقد جئتمونا خطاب للكفار المنكرين للبعث على إضمار القول ويكون حالا مما تقدم فيقدر قائلين أو نقول إن كان حالا من فاعل حشرنا أو قائلا أو يقول إن كان من ربك أو مقولا لهم أو يقال لهم إن كان من ضمير عرضوا
(15/289)
وقد يقدر فعلا كقلنا أو نقول لا محل لجملته وجوز تعلق يوم السابق به على هذا التقدير دون تقدير الحالية
قال الخفاجي لأنه يصير كغلام زيد ضاربا على أن ضاربا حال من زيدنا صبا لغلام ومثله تعقيد غير جائز لا لأن ذلك قبل الحشر وهذا بعده ولا لأن معمول الحال لا يتقدم عليها كما يتوهم ثم قال وأما ما أورد على تعلقه بالفعل في التقدير الثاني من أنه يلزم منه أن هذا القول هو المقصود أصالة فتخيل أغني عن الرد أنه لا محذور فيه اه والحق أن تعلقه بالقول المقدر حالا أو غيره مما لا يرتضيه الطبع السليم والذهن المستقيم ولا يكاد يجوز مثل هذا التركيب على تقدير الحالية وإن قلنا بجواز تقدم معمول الحال عليها فتدبر والمراد من مجيئهم إليه تعالى مجيئهم إلى حيث لا حكم لأحد غيره سبحانه من المعبودات الباطلة التي تزعم فيها عبدتها النفع والضر وغير ذلك نظير ما قالوا في قوله تعالى ملك يوم الدين كما خلقناكم نعت لمصدر محذوف أي مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا لكم أول مرة أو حال من الضمير المرفوع في جئتمونا أي كائنين كما خلقناكم أول مرة حفاة عراة غرلا أو ما معكم شيء مما تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم
وجوز أن يكون المراد أحياء كخلقتكم الاولى والكلام عليه إعرابا كما تقدم لكن يخالفه في وجه التشبيه وذاك كما قيل أوفق بما قبل وهذا بقوله تعالى بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا 48 وهو إضراب وانتقال من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ والتقريع والموعد اسم زمان وأن مخففة من المثقلة فصل بينها وبين خبرها بحرف النفي لكونه جملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء في ذلك يجب الفصل بأحد الفواصل المعلومة إلا فيما شذ والجعل إما بمعنى التصيير فالجار والمجرور مفعلوه الثاني و موعدا مفعلوه الأول وإما بمعنى الخلق والإيجاد فالجار والمجرور في موضع الحال من مفعوله وهو موعدا أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعل لكم وقتا ينجز فيه ما وعدنا من البعث وما يتبعه
ووضع الكتاب عطف على عرضوا داخل تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكر وقتها تحذير المشركين كما مر وإيراد صيغة الماضي للدلالة على التقرر والمراد من الكتاب كتب الأعمال فأل فيه للإستغراق ومن وضعه إما جعل كل كتاب في يد صاحبه اليمين أو الشمال وإما جعل كل في الميزان وجوز أن يكون المراد جعل الملائكة تلك الكتب في البين ليحاسبوا المكلفين بما فيها وعلى هذا يجوز أن يكون المراد بالكتاب كتابا واحدا بأن تجمع الملائكة عليهم السلام صحائف الأعمال كلها في كتاب وتضعه في البين للمحاسبة لكن لم أجد في ذلك أثرا نعم قال اللقاني في شرح قوله في جوهرة التوحيد ... وواجب أخذ العباد الصحفا ... كما من القرآن نصا عرفا ...
جزم الغزالي بما قيل إن صحف العباد ينسخ ما في جميعها في صحيفة واحدة انتهى والظاهر أن جزم الغزالي وأضرابه بذلك لا يكون إلا عن أثر لأن مثله لا يقال من قبل الرأي كما هو الظاهر وقيل وضع الكتاب كناية عن إبراز محاسبة الخلق وسؤالهم فإنه إذا أريد محاسبة العمال جيء بالدفاتر ووضعت بين أيديهم ثم
(15/290)
حوسبوا فأطلق الملزوم وأريد لازمه ولا يخفى أنه لا داعي إلى ذلك عندنا وربما يدعو إليه إنكار وزن الأعمال
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ووضع الكتاب ببناء وضع للفاعل وإسناده إلى ضميره تعالى على طريق الإلتفات ونصب الكتاب على المفعولية أي ووضع الله الكتاب فترى المجرمين قاطبة فيدخل فيهم الكفرة المنكرون للبعث دخولا أوليا والخطاب نظير ما مر مشفقين خائفين مما فيه أي الكتاب من الجرائم والذنوب لتحققهم ما يترتب عليها من العذاب ويقولون عند وقوفهم على ما في تضاعيفه نقيرا وقطميرا يا ويلتنا نداء لهلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات فإن الويلة كالويل الهلاك ونداؤها على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل يا هلاك أقبل فهذا أو إنك ففيه استعارة مكنية تخييلية وفيه تقريع لهم وإشارة إلى أنه لا صاحب لهم غير الهلاك وقد طلبوه ليهلكوا ولا يروا العذاب الأليم
وقيل المراد نداء من بحضرتهم كأنه قيل يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا وفيه تقدير يفوت به تلك النكتة مال لهذا الكتاب أي أي شي له والإستفهام مجاز عن التعجب من شأن الكتاب ولام الجر رسمت في الإمام مفصولة وزعم الطبرسي أنه لا وجه لذلك وقال البقاعي إن في رسمها كذلك إشارة إلى أن المجرمين لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة وفي لطائف الإشارات وقف على ما أبو عمرو والكسائي ويعقوب والباقون على اللام والاصح الوقف على ما لأنها كلمة مستقلة وأكثرهم لا يذكر فيها شيئا اه وأنت تعلم أن الرسم العثماني متبع ولا يقاس عليه ولا يكاد يعرف وجهه وفي حسن الوقف على ما أو اللام توقف عندي وقوله تعالى لا يغادر أي لا يترك صغيرة أي هنة صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها أي عدها وهو كناية عن الإحاطة جملة حالية محققة لما في الجملة الإستفهامية من التعجب أو استئنافية مبنية على سؤال نشأ من التعجب كأنه قيل ما شأن هذا الكتاب حتى يتعجب منه فقيل لا يغادر صغيرة الخ
وعن ابن جبير تفسير الصغيرة بالمسيس والكبيرة بالزنا وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية الصغيرة التبسم بالإستهزاء بالمؤمنين والكبيرة القهقهة بذلك وعلى هذا يحمل إطلاق ابن مردويه في الرواية عنه رضي الله تعالى عنه تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك ويندفع استشكال بعض الفضلاء ذلك ويعلم منه أن الضحك على الناس من الذنوب
وعن عبدالله بن زمعة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يخطب ويعظهم في ضحكهم من الريح الخارج بصوت وقال علام يضحك أحدكم مما يفعل بل ذكر بعض علمائنا أن من الضحك ما يكفر به الضاحك كالضحك على كلمة كفر وقيده بعضهم بما إذا قدر على أن يملك نفسه وإلا فلا يكفر وتمام الكلام في ذلك في محله وكان الظاهر لا يغادر كبيرة ولا صغيرة بناء على ما قالوا من أن الترقي في الإثبات يكون من الأدنى إلى الأعلى وفي النفي على عكس ذلك إذ لا يلزم من فعل الأدنى فعل الأعلى بخلاف النفي لكن قال المحققون هذا إذا كان على ظاهره فإن كان كناية عن العموم كما هنا وقولك ما أعطاني قليلا ولا كثيرا جاز تقديم الأدنى على الأعلى في النفي كما فصله ابن الأثير في المثل السائر وفي البحر قدمت الصغيرة اهتماما بها وروى عن الفضيل أنه كان إذا قرأ الآية قال ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة
(15/291)
أنه قال في الآية : اشتكى القوم كما تسمعون الاحصاء ولم يشتك أحد ظلما والمحقرات من الذنوب فإنها تجمع على صاحبها حتى تهلكه
ووجدوا ما عملوا في الدنيا من السيئات أو جزاء ذلك حاضرا مسطورا في كتاب كل منهم أو عتيدا بين أيديهم نقدا غير مؤجل واختير المعنى الأخير وإن كان في ارتكاب خلاف الظاهر لأن الكلام عليه تأسيس محض ولا يظلم ربك أحدا 94 بما لم يعمله أي منهم أو منهم ومن غيرهم والمراد أنه عز و جل لا يتجاوز الحد الذي حده في الثواب والعقاب وإن لم يجب ذلك عليه تعالى عقلا وتحقيقه أنه تعالى وعد بإثابة المطيع والزيادة لثوابه وبتعذيب العاصي بمقدار جرمه من غير زيادة وأنه قد يغفر له ما سوى الكفر وأنه لا يعذب بغير جناية فهو سبحانه وتعالى لا يجاوز الحد الذي حده ولا يخالف ما جرت عليه سنته الإلهية فلا يعذب أحدا بما لم يعمله ولا ينقص ثواب مما عمله مما أمر به وارتضاه ولا يزيد في عقابه الملائم لعمله الذي نهى عنه ولم يرتضه وهذا مما أجمع عليه المسلمون وإن اختلفوا في أن امتناع وقوع ما نفي هل هو سمعي أو عقلي فذهب إلى الأول أهل السنة وإلى الثاني المعتزلة وهل تسمية تلك المجاوزة ظلما حقيقة أم لا قال الخفاجي : الظاهر أنها حقيقة وعليه لا حاجة إلى أن يقال : المراد بالآية أنه سبحانه لا يفعل بأحد ما يكون ظلما لو صدر من العباد كالتعذيب بلا ذنب فإنه لو صدر من العباد يكون ظلما ولو صدر منه سبحانه لا يكون كذلك لأنه جل شأنه مالك الملك متصرف في ملكه كيف يشاء فلا يتصور في شأنه تعالى شأنه ظلم أصلا بوجه من الوجوه عند أهل السنة وأنت تعلم أن هذا هو المشهور لدى الجمهور لا ما اقتضاه التحقيق فتأمل والله تعالى ولي التوفيق واستدل بعموم الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهو القول المنصور وقد أسلفنا ولله تعالى الحمد ما يؤيده من الأخبار وإذ قلنا أي اذكر وقت قولنا للملائكة كلهم كما هو الظاهر واستثنى بعض الصوفية الملائكة المهيمين وبعض آخر ملائكة السماء مطلقا وزعم أن المقول له ملائكة الأرض
اسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام أو اسجدوا لجهته على معنى اتخذوه قبله لسجودكم لله تعالى وقد مر تمام الكلام في ذلك فسجدوا كلهم أجمعون امتثالا للأمر إلا إبليس لم يكن من الساجدين بل أبى واستكبر وقوله تعالى كان من الجن كلام مستأنف سيق مساق التعليل لما يفيده استثناء اللعين من الساجدين وقيل : حال من المستثنى وقد مقدرة والرابط الضمير وهو اختيار أبي البقاء والأول ألصق بالقلب وكأنه قيل ماله لم يسجد فقيل كان أصله جنيا وهذا ظاهر في أنه ليس من الملائكة نعم كان معهم ومعدودا في عدادهم فقد أخرج ابن جرير عن سعد بن مسعود قال : كانت الملائكة تقاتل الجن فسبى إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة فتعبد بالسجود معهم وأخرج نحوه عن شهر بن حوشب وهو قول كثير من العلماء حتى قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم قاتل الله تعالى أقواما زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول كان من الجن وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وإنه لأصل الجن كما إن آدم عليه السلام
(15/292)
أصل الإنس وفيه دلالة على أنه لم يكن قبله جن كما لم يكن قبل آدم عليه السلام إنس وفي القلب من صحته ما فيه وأقرب منه إلى الصحة ما قاله جماعة من أنه كان قبله جن إلا أنهم هلكوا ولم يكن لهم عقب سواه فالجن والشياطين اليوم كلهم من ذريته فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس على ما هو المشهور وقيل : كان من الملائكة والجن قبيلة منهم وقد أخرج هذا ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنهما أن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وكان له مجمع البحرين بحر الروم وبحر فارس وسلطان الأرض فرأى أن له بذلك عظمة وشرفا على أهل السماء فوقع بنفسه كبر لم يعلم به أحد إلا الله تعالى فلما أمر بالسجود ظهر كبره الذي في نفسه فلعنه الله تعالى إلى يوم القيامة وكان على ما رواه عنه قتادة يقول : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود وأجيب عن هذا بما أشرنا إليه وبغيره مما لا يخفى وإلى ذلك ذهب ابن جبير وقد روى عنه جماعة أنه قال : الجن في الآية حي من الملائكة لم يزالوا يصوغون حلي أهل الجنة حتى تقوم الساعة وفي رواية أخرى عنه أن معنى كان من الجن كان من خزنة الجنان وهو تأويل عجيب ومثله ما أخرجه أبو الشيخ في العظمة عن قتادة أن معنى كونه من الجن أنه أجن عن طاعة الله تعالى أي ستر ومنع ورواية الكثير عنه أنه قائل بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : هو من الملائكة ومعنى كان من الجن صار منهم بالمسخ وقيل : معنى ذلك أنه عد منهم لموافقته إياهم في المعصية حيث أنهم كانوا من قبل عاصين فبعثت طائفة من الملائكة عليهم السلام لقتالهم وأنت تعلم أنه يشق الجواب على من ادعى أن ابليس من الملائكة مع دعواه عصمتهم ولا بد أن يرتكب خلاف الظاهر في هذه الآية نعم مسئلة عصمتهم عليهم السلام خلافية ولا قاطع في العصمة كما قال العلامة التفتازاني وقد ذكر القاضي عياض أن طائفة ذهبوا إلى عصمة الرسل منهم والمقربين عليهم السلام ولم يقولوا بعصمة غيرهم وإذا ذهب مدعي كون إبليس من الملائكة إلى هذا لم يتخلص من الاعتراض إلا بزعم أنه لم يكن من المقربين ولا تساعده الآثار على ذلك ويبقى عليه أيضا أن الآية تأبى مدعاه وكذا لو ذهب إلى ما نقل عن بعض الصوفية من أن ملائكة الأرض لم يكونوا معصومين وكان إبليس عليه اللعنة منهم ففسق عن أمر ربه أي فخرج عن طاعته سبحانه كما قال الفراء وأصله من فسق الرطب إذا خرج عن قشره وسموا الفأرة فاسقة لخروجها من جحرها من البابين ولهذا عدى بعن كما في قول رؤبة : يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا والظاهر أن الفسق بهذا المعنى مما تكلمت به العرب من قبل وقال أبو عبيدة : لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن ووافقه المبرد على ذلك فقال : الأمر على ما ذكره أبو عبيدة وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب وكأنما ذكره الفراء بيان لحاصل المعنى إذ ليس الأمر بمعنى الطاعة أصلا بل هو إما بمعنى المأمور به وهو السجود وخروجه عنه بمعنى عدم اتصافه به وإما قوله تعالى : أسجدوا وخروجه عنه مخالفته له وكون حاصل لمعنى ذلك على المعنيين ظاهر وقيل : عن للسببية كما في قولهم كسوته عن عرى وأطعمته عن جوع أي فصار فاسقا كافرا بسبب أمر الله تعالى الملائكة المعدود
(15/293)
هو في عدادهم إذ لولا ذلك الأمر ما تحقق إباء وإلى ذلك ذهب قطرب إلا أنه قال : أي ففسق عن رده أمر ربه ويحتمل أن يكون تقدير معنى وأن يكون تدير إعراب وجوز على تقدير السببية أن يراد بالأمر المشيئة أي ففسق بسبب مشيئة الله تعالى فسقه ولولا ذلك لأطاع والأظهر ما ذكر أولا والفاء سببية عطفت ما بعدها على قوله تعالى كان من الجن وأفادت تسبب فسقه عن كونه من الجن إذ شأنهم التمرد لكدورة مادتهم وخباثة ذاتهم والذي خبث لا يخرج إلا نكدا وإن كان منهم من أطاع وآمن وجوز أن يكون العطف على ما يفهم من الاستثناء كأنه قيل : فسجدوا إلا إبليس أبى عن السجود ففسق وتفيد حينئذ تسبب فسقه عن إبائه وتركه السجود وقيل : إنها هنا غير عاطفة إذ لا يصح تعليل ترك السجود وإبائه عنه بفسقه عن أمر ربه تعالى قال الرضي : والفاء التي لغير العطف وهي التي تسمى فاء السببية لا تخلو أيضا من معنى الترتيب وتختص بالجمل وتدخل على ما هو جزاء مع تقدم كلمة الشرط وبدونها انتهى وليس بشيء لأنه يكفي لصحة ترتب الثاني تسببه كما في فوكزه موسى فقضى عليه كما صرح به في التسهيل وهنا كذلك والتعرض لعنوان الربوبية المنافية للفسق لبيان قبح ما فعله والمراد من الأمر بذكر وقت القصة ذكر القصة نفسها لما فيها من تشديد التنكير على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالهم المستنكفين عن الإنتظام في سلك فقراء المؤمنين ببيان أن ذلك من ضليع إبليس وأنهم في ذلك تابعون لتسويله كما ينبيء عنه ما يأتي إن شاء الله تعالى ومنه يعلم وجه الربط وجوز أن يكون وجهه أنه تعالى لما بين حال المغرور بالدنيا والعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان زهدهم سبحانه أول بزخارف الدنيا باتها عرض الزوال وشيكة الانتقال والباقيات الصالحات خير ثوابا وأحسن أملا من أنفسها وأعلاها ثم نفرهم عن الشيطان لتذكير ما بينهم من العداوة القديمة واختار أبو حيان في وجهه أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المجرمين مما سطر في كتبهم وكان إبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي واتخاذ الشركاء ناسب ذكر إبليس وتنفير عنه تبعيدا عن المعاصي وعن امتثال ما يوسوس به ويدعو إليه وأياما كان فلا يعد ذكر هذه القصة عنا مع ذكرها قبل تكرارا لأن ذكرها هنا لفائد غير الفائدة التي ذكرت لها فيها قبل وهكذا ذكرها في كل موضع ذكرت فيه من الكتاب الجليل ومثل هذا يقال في كل ما هو تكرار بحسب الظاهر فيه
ولا يخفى أن أكثر المكررات ظاهر أمختلفة الأساليب متفاوتة الألفاظ والعبارات وفي ذلك من الأسرار الإلهية ما فيه فلا يستزلنك الشيطان
أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني الهمزة للإنكار والتعجب والفاء للتعقيب والمراد إما إنكار أن يعقب اتخاذه وذريته أولياء العلم بصدور ما أصدر منه مع التعجب من ذلك وأما تعقيب إنكار الاتخاذ المذكور والتعجيب منه أعلام الله تعالى بقبح صنيع اللعين فتأمل والظاهر أن المراد من الذرية الأولاد فتكون الآية دالة على أن له أولادا وبذلك قال جماعة وقد روي عن ابن زيد أن الله تعالى قال لإبليس : أنا لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها فليس يولد لآدم ولد إلا ولد معه شيطان يقرن به وعن قتادة أنه قال : إنه ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم وذكر في البحر أن من القائلين بذلك أيضا الضحاك والأعمش والشعبي
ونقل عن الشعبي أنه قال : لا تكون ذرية إلا من زوجة فيكون قائلا بالزوجة والذي في الدر المنثور برواية
(15/294)
ابن المنذر عنه انه سأل عن إبليس هل له زوجة قال : إن ذلك لعرس ما سمعت به وأخرج ابن أبي الدنيا في المكائد وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : ولد إبليس خمسة ثبر وهو صاحب المثائب والأعور وداسم لا أدري ما يعملان ومسوط هو صاحب الصخب وزلينور وهو الذي يفرق بين الناس ويبصر الرجل عيوب أهله
وفى روايه أخرى عنه أن الأعور صاحب الزنا ومسوط صاحب أخبار الكذب يلقيها على أفواه الناس ولا يجدون لها أصلا ورأسم صاحب البيوت إذ دخل الرجل بيته ولم يسم دخل معه وإذ أكل ولم يسم أكل معه وزلبنور صاحب الأسواق وكان هؤلاء الخمسة من خمس بيضات باضها اللعين وقيل إنه عليه اللعنة يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن جميع ذريته من خمس بيضات باضها قال : وبلغني أنه يجتمع على مؤمن واحد أكثر من ربيعة ومضر والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار وقال بعضهم : لا ولد له والمراد من الذرية الاتباع من الشياطين وعبر عنه بذلك مجازا تشبيها لهم بالأولاد وقيل ولعله الحق إن له أولادا أو أتباعا ويجوز أن يراد من الذرية مجموعهما معا على التغليب أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يراه المجاز أو عموم المجاز
وقد جاء في بعض الأخبار أن ممن ينسب إليه بالولاد من آمن بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا وهو هامة رضي الله تعالى عنه وسبحان من يخرج الحي من الميت ولا يلزمنا أن نعلم كيفية ولادته فكثير من الأشياء مجهول الكيفية عندنا ونقول به فليكن من هذا القبيل إذا صح الخبر فيه
واستدل نافي ملكيته بظاهر الآية حيث أفادت أنه له ذرية والملائكة ليس لهم ذلك ولمدعيها أن يقول : بعد تسليم حمل الذرية على الأولاد إنه بعد أن عصى مسخ وخرج عن الملكية فصار له أولاد ولم تفد الآية أن له أولادا قبل العصيان والاستدلال بها لا يتم إلا بذلك وقوله تعالى من دوني في موضع الحال أي أفتتخذونهم أولياء مجاوزين عني إليهم وتستبد لونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي وهم أي والحال أن إبليس وذريته لكم عدو أي أعداء كما في قوله تعالى فإنهم عدو لي إلا رب العالمين وقوله تعالى هم العدو وإنما فعل به ذلك تشبيها بالمصادر نحو القبول والولوع وتقييد الاتخاذ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكار وتشديده فإن مضمونها مانع من وقوع الاتخاذ ومناف له قطعا : ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد بئس للظالمين الواضعين للشيء في غير موضغه بدلا 05 أي من الله سبحان وهو نصب على التمييز وفاعل بئس ضمير مستتر يفسره وهو المخصوص بالذم محذوف أي بئس البدل من الله تعالى للظالمين إبليس وذريته وفي الالتفات إلى الغيبة مع وضع الظالمين موضع ضمير المخاطبين من الإيذان بكمال السخط والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ما لا يخفى
ما أشهدتهم إستئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للإتخاذ المذكور في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خباثة الأصل والفسق والعداوة أي ما أحضرت إبليس وذريته
خلق السموات والأرض حيث خلقتهما قبل خلقهم ولا خلق أنفسهم أي ولا أشهدت بعضهم
(15/295)
خلق بعض كقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم فكلا ضميري الجمع المنصوب والمجرور عائد على إبليس وذريته وهم المراد بالمضلين في قوله تعالى وما كنت متخذ المضلين عضدا 15 وإنما وضع ذلك موضع ضميرهم ذم لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال وتأكيدا لما سبق من إنكار إتخاذهم أولياء والعضد في الأصل ما بين المرفق إلى الكتف ويستعار للمعين كاليد وهو المراد هنا ولكونه نكرة في سياق النفي عم وفسر بالجمع والأفراد لرؤوس الآي وقيل إنما لم يجمع لأن الجميع في حكم الواحد في عدم الصلاحية للإعتضاض أي وما كنت متخذهم أعوانا في شأن الخلق أو في شأن من شؤني حتى يتوهم شركهم في التولي فضلا عن الاستبدال الذي لزم فعلهم بناء عن الشركة في بعض أحكام الربيوبية وإرجاع ضمير أنفسهم إلى إبليس وذريته قد قال به كل من ذهب إلى إرجاع ضمير أشهدتهم إليهم وعلل ذلك العلامة شيخ الإسلام بقوله حذرا من تفكيك الضمير ومحافظة على ظاهر لفظ الأنف ثم قال : ولك أن ترجع الضمير الثاني إلى الظالمين ويلتزم التفكيك بناء على عود المعنى إليه فإن نفي إشهاد الشياطين الذين يتولونهم هو الذي يدور عليه إنكار اتخاذهم أولياء بناء على أن أدنى ما يصحح التولي حضور الولي خلق المتولى وحيث لا حصول لا مصحح للتولي قطعا وأما إشهاد بعض الشياطين خلق بعضهم منهم فليس من مداراته الإنكار المذكور في شيء على أن إشهار بعضهم خلق بعض إن كان مصححا لتولي الشاهد بناء على دلالته على كماله باعتبار أن له مدخلا في خلق المشهود في الجملة فهو مخل بتولي المشهود بناء على قصوره عمن شهد خلقه فلا يكون نفي الإشهاد المذكور متمحضا في نفي الكمال المصحح للتولي عن الكل وهو المناط للإنكار المذكور
وفي الآية تهكم بالأفكار وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على البله والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به وإيثار نفي الإشهاد على نفي شهودهم ونفي إتخاذهم وإنما قصارى ما يتوهم فيهم أن يبلغوا ذلك المبلغ بأمر الله جل جلاله ولم يكد ذلك يكون ا ه
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق لكن قيل عليه يجوز أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلها
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق لكن قيل عليه يجوز أن يراد من السماوات والأرض ما يشمل أهلها وكثيرا ما يراد منهما ذلك فيدخل فيه الكفار فتفيد الآية نفيد الآية نفي إشهاد الشياطين خلقهم الذي من مداراته الانكار المذكور من غير حاجة إلى التزام التفكيك الذي هو خلاف المتبادر وظاهر كلامه وكذا كلام كثير حمل الاشهاد المنفي على حقيقته
وجوز أن يراد به المشاورة مجازا وهو الذي يقتضيه ظاهر ما في البحر ولا مانع على هذا أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلهما فكأنه قيل ما شاورتهم في خلق أحد لا الكفار ولا غيرهم فما بال هؤلاء الكفار يتولونهم وأدنى ما يصحح التولي كون الولي ممن يشاور في أمر المتولي أو أمر غيره ويكون نفي اتخاذهم أعوانا مطلقا في شيء من الأشياء بعد نفي مشاورتهم في الخلق ليؤدي الكلام ظاهرا عموم نفي مدخليتهم بوجه من الوجوه رأيا وإيجادا وغير ذلك في شيء من الأشياء ولعل الآية حينئذ نظير قوله تعالى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من وجه وقيل قد يراد من نفي الاشهاد في جانب المعطوف نفي المشاورة ومنه نفي أن يكونوا خلقوا حسب مشيئتهم ومنه نفي أن يكونوا خلقوا كاملين فانه يقال خلق
(15/296)
كما شاء بمعنى خلق كاملا قال الشاعر ... خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء ...
وعلى هذا يكون في الخلق من أشهد خلق نفسه بمعنى أنه خلق كاملا ولا يخفى ما فيه وقد يكتفى بدلالة ذلك على أن نفي الكمال بأقل من هذه المؤنة فافهم وزعم أن الكاملين شهدوا حقيقة خلق أنفسهم بمعنى أنهم رأوا وهم أعيان ثابتة خلقهم أي إفاضة الوجود الخارجي الذي لا يتصف به المعدوم عليهم لا أرى أن كاملا يقدم عليه أو يصغي إليه وقال الامام بعد حكاية القول برجوع الضميرين إلى الشياطين الاقرب عندي عودهما على الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه و سلم ان لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فانك تقول له لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وهو في الآية أولئك الكفار لأنهم المراد بالظالمين في قوله تعالى بئس للظالمين بدلا انتهى
وقيل المعنى على تقدير عود الضميرين على أولئك الكفرة إن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله تعالى وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء وقيل المعنى عليه ما أشهدتهم خلق ذلك وما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بخصائص لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعمون فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فانه لا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين ويعضده قراءة أبي جعفر والجحدري والحسن وشيبة وما كنت بفتح التاء خطابا له صلى الله عليه و سلم والمعنى ما صح لك الاعتضاد بهم ولعل وصف أولئك الظالمين بالاضلال لما أن قصدهم بطرد الفقراء تنفير الناس عنه صلى الله عليه و سلم وهو اضلال ظاهر وقيل كل ضال مضل لأن الاضلال إما بلسان القال أو بلسان الحال والثاني لا يخلو عنه ضال وقيل الضمير ان للملائكة والمعنى ما أشهدتهم ذلك ولا استعنت بهم في شيء بل خلقتهم ليعبدوني فكيف يعبدون ويرده وما كنت متخذ المضلين عضدا إلا أن يقال هو نفي لاتخاذ الشياطين أعوانا فيستفاد من الجملتين نفي صحة عبادة الفريقين وقال ابن عطية الضميران عائدان على الكفار وعلى الناس بالجملة فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والأطباء ومن سواهم ممن يخوض خوضهم وإلى هذا ذهب عبد الحق الصقلي وذكره بعض الأصوليين انتهى ويقال عليه في الجملة الأخيرة نحو ما قيل فيها آنفا
واستدل بها على أنه لا ينبغي الاستعانة بالكافر وهو في أمور الدين كجهاد الكفار وقتال أهل البغي مما ذهب اليه بعض الأئمة ولبعضهم في ذلك تفصيل وأما الاستعانة بهم في أمور الدنيا فالذي يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت في أمر ممتهن كنزح الكنائف أو في غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها ولعل افرض اليهودي
(15/297)
أو الكلب قد مات في كلام الفاروق رضي الله تعالى عنه لعدما استخدم فيه من الامور الدينية أو هو مبني على اختيار تفصيل في الأمور الدنيوية أيضا
وقد حكى الشيعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قال حين صمم على عزل معاوية وأشار عليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بابقائه على عمله إلى أن يستفحل أمر الخلافة يمنعنى من ذلك قوله تعالى وما كنت متخذ المضلين عضدا فلا اتخذ معاوية عضدا أبدا وهو كذب لا يعتقده إلا ضال مضل
وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي وابن مقسم ما أشهدناهم بنون العظمة وقرأ علي كرم الله وجهه متخذا المضلين على أعمال اسم الفاعل وقرأ الحسن وعكرمة عضدا بسكون الضاد ونقل حركتها إلى العين وقرأ عيسى عضدا بسكون الضاد للتخفيف كما قالوا في رجل وسبع رجل وسبع بالسكون وهي لغة عن تميم وعنه أيضا أنه قرأ بفتحتين
وقرأ شيبة وأبو عمرو في رواية هرون وخارجة والخفاف وأبي زيد عضدا بضمتين وروى ذلك عن الحسن أيضا وكذا روي عنه أيضا أنه قرأ بفتحتين وهو على هذا إما لغة في العضد كما في البحر ولم يذكره في القاموس وأما جمع عاضد كخدم جمع خادم من عضده بمعنى قواه وأعانه فحينئذ لا استعارة وقرأ الضحاك عضدا بكسر العين وفتح الضاد ولم نجد ذلك من لغاته نعم في القاموس عد عضد ككتف منها وهو عكس هذه القراءة ويوم يقول أي الله تعالى للكفار توبيخا وتعجيزا بواسطة أو بدونها وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم نقول بنون العظمة والكلام على معنى اذكر أيضا أي واذكر يوم يقول نادوا للشفاعة لكم شركائي الذين زعمتم أي زعمتموهم شفعاء والاضافة باعتبار ما كانوا يزعمون أيضا فإنهم كانوا يزعمون أنهم شركاء كما يزعمون أنهم شفعاء وقد جوز غير واحد هنا أن يكون الكلام بتقدير زعمتموهم شركاء والمراد بهم إبليس وذريته وجعلهم بدلا فيما تقدم مبني على ما لزم من فعل عبدتهم المطيعين لهم فيما وسوسوا به أو كل ما عبد من دون الله تعالى
وقرأ ابن كثير شركاي مقصورا مضافا إلى الياء فدعوهم أي نادوهم للإغاثة وفيه بيان بكمال اعتنائهم باغاثتهم على طريق الشفاعة إذ معلوم أن لا طريق إلى المدافعة فلم يستجيبوا لهم فلم يغيثوهم إذ لا امكان لذلك قيل وفي إيراده مع ظهوره تهكم بهم وايذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به وجعلنا بينهم أي بين الداعين والمدعوين موبقا اسم مكان من وبق وبوقا كوثب وثوبا أو وبق وبقا كفرح فرحا اذا هلك أي مهلكا يشتركون فيه وهو النار وجاء عن ابن عمر وأنس ومجاهد أنه واد في جهنم يجري بدم وصديد وعن عكرمة أنه نهر في النار يسيل نارا على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم فاذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها وتفسير الموبق بالمهلك مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن مجاهد وغيرهما وعن الحسن تفسيره بالعداوة فهو مصدر أطلق على سبب الهلاك وهو العداوة كما أطلق التلف على البغض المؤدي إليه في قول عمر رضي الله تعالى عنه لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا
وعن الربيع بن أنس تفسيره بالمحبس ومعنى كون الموبق على سائر تفاسيره بينهم شموله لهم وكونهم مشتركين فيه كما يقال جعلت المال بين زيد وعمرو فكأنه ضمن جعلنا معنى قسمنا وحينئذ لا يمكن ادخال عيسى
(15/298)
وعزير والملائكة عليهم السلام ونحوهم في الشركاء على القول الثاني
وقال بعضهم معنى كون الموبق أي المهلك أو المحبس بينهم أنه حاجز واقع في البين وجعل ذلك بينهم حسما لاطماع الكفرة في أن يصل إليهم ممن دعوه للشفاعة وجاء عن بعض من فسره بالوادي أنه يفرق الله تعالى به بين أهل الهدى وأهل الضلالة وعلى هذا لا مانع من شمول المعنى الثاني للشركاء لأولئك الأجلة
وقال الثعالبي في فقه اللغة الموبق بمعنى البرزخ البعيد على أن وبق بمعنى هلك أيضا أي جعلنا بينهم أمدا بعيدا يهلك فيه الأشواط لفرط بعده وعليه أيضا يجوز الشمول المذكور لأن أولئك الكرام عليهم السلام في أعلى الجنان وهؤلاء اللئام في قعر النيران ولا يخفى على من له أدنى تأمل الحال فيما إذا أريد بالموبق العداوة و بينهم على جميع ما ذكر ظرف وهو مفعول ثان لجعل إن جعل بمعنى صير و موبقا مفعوله الأول وإن جعل بمعنى خلق كان الظرف متعلقا به أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله قدم عليه لرعاية الفواصل فتحول حالا وقال الفراء والسيرافي البين هنا بمعنى الوصل فانه يكون بمعناه كما يكون بمعنى الفراق وهو مفعول أول لجعلنا و موبقا بمعنى هلاكه مفعوله الثاني والمعنى جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة
ورأى المجرمون النار وضع المظهر في مقام المضمر تصريحا باجرامهم وذما لهم بذلك والرؤية بصرية وجاء عن أبي سعيد الخدري كما أخرجه عنه أحمد وابن جرير والحاكم وصححه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الكافر ليرى جهنم من مسير أربعين سنة فظنوا أي علموا كما أخرجه عبد الرزاق وجماعة عن قتادة وهو الظاهر من حالهم بعد قول الله تعالى ذلك واستغاثتهم بشركائهم وعدم استجابتهم لهم وجعل الموبق بينهم وقيل الظن على ظاهره وهم لم يتيقنوا أنهم مواقعوها أي مخالطوها واقعون فيها لعدم يأسهم من رحمة الله تعالى قبل دخولهم فيها وقيل إنهم لما رأوها من بعيد كما سمعت في الحديث ظنوا أنهم تخطفهم في الحال فان اسم الفاعل موضوع للحال فالمتيقن أصل الدخول والمظنون الدخول حالا وفي مصحف عبد الله ملاقوها وكذلك قرأ الأعمش وابن غزوان عن طلحة واختير جعلها تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف وعن علقمة أنه قرأ ملافوها بالفاء مشددة من لف الشيء ولم يجدوا عنها مصرفا53 أي مكانا ينصرفون إليه قال أبو كبير الهذلي ... أزهير هل عن شيبة بن مصرف ... أم لا خلود لباذل متكلف ...
فهو اسم مكان وجوز أن يكون اسم زمان وكذا جوز أبو البقاء وتبعه غيره أن يكون مصدرا أي انصرافا وفي الدر المصور أنه سهو فانه جعل مفعل بكسر العين مصدرا من صحيح مضارعه يفعل بالكسر وقد نصوا على أن مصدره مفتوح العين لا غير واسم زمانه ومكانه مكسورها نعم أن القول بأنه مصدر مقبول في قراءة زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما مصرفا بفتح الراء ولقد صرفنا كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظم في هذا القرءان الجليل الشأن للناس لمصلحتهم ومنفعتهم من كل مثل أي كل مثل على أن من سيف خطيب على رأي الأخفش والمجرور مفعول صرفنا أو مثلا من كل مثل على أن من أصلية والمفعول موصوف الجار والمجرور المحذوف وقيل المفعول مضمون من كل مثل أي بعض كل
(15/299)
جنس مثل وأيا ما كان فالمراد من المثل إما معناه المشهور أو الصفة الغريبة التي هي في الحسن واستجلاب النفس كالمثل والمراد أنه تعالى نوع ضرب الأمثال وذكر الصفات الغريبة وذكر من كل جنس محتاج إليه داع إلى الايمان نافع لهم مثلا لا أنه سبحانه ذكر جميع الامثال وكأن في الآية حذفا أو هي على معنى ولقد فعلنا ذلك ليقبلوا فلم يفعلوا
وكان الانسان بحسب جبلته أكثر شيء جدلا أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل وهو كما قال الراغب وغيره المنازعة بمفاوضة القول والأليق بالمقام أن يراد به هنا الخصومة بالباطل والمماراة وهو الأكثر في الاستعمال وذكر غير واحد أنه مأخوذ من الجدل وهو الفتل والمجادلة والملاواة لأن كلا من المتجادلين يلتوي على صاحبه وانتصابه على التمييز والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل وعلل بسعة مضطربة فإنه بين أوج الملكية وحضيض البهيمية فليس له في جانبي التصاعد والتسفل مقام معلوم
والظاهر أنه ليس المراد إنسانا معينا وقيل المراد به النضر بن الحرث وقيل ابن الزبعري وقال ابن السائب أبي بن خلف وكان جداله في البعث حين أتى بعظم قد رم فقال أيقدر الله تعالى على إعادة هذا وفته بيده ؟ والأول أولى ويؤيده ما أخرجه الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم طرقه وفاطمة ليلا فقال ألا تصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله تعالى إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلى شيئا ثم سمعته يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا فانه ظاهر في حمل الإنسان عبى العموم ولا شبهة في صحة الحديث إلا أن فيه إشكالا يعرف بالتأمل ولا يدفعه ما ذكره النووي حيث قال المختار في معناه أنه صلى الله عليه و سلم تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الإعتذار بهذا ولهذا ضرب فخذه وقيل قال صلى الله عليه و سلم ذلك تسليما لعذرهما وأن لا عتب فتأمل وما منع الناس قال ابن عطية وغيره المراد بهم كفار قريش الذين حكيت أباطيلهم وما نافية
وزعم بعضهم وهو من الغرابة بمكان أنها استفهامية أي أي شيء منعهم أن يؤمنوا أي من إيمانهم بالله تعالى وترك ما هم فيه من الإشراك إذ جاءهم الهدى أي القرآن العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبة له أو الرسول صلى الله عليه و سلم وإطلاق الهدى على كل للمبالغة ويستغفروا ربهم بالتوبة عما فرط منهم من أنواع الذنوب التي من جملتها مجادلتهم الحق بالباطل وفائدة ذكر هذا بعد الإيمان التعميم على ما قيل . واستدل به من زعم أن الإيمان إذا لم ينضم إليه الإستغفار لا يجب ما قبله وهو خلاف ما اقتضته الظواهر
وقال بعضهم لا شك أن الإيمان مع الإستغفار أكمل من الإيمان وحده فذكر معه لتفيد الآية ما منعهم من الإتصاف بأكمل ما يراد منهم ولا يخفى أنه ليس بشيء وقيل ذكر الإستغفار بعد الإيمان لتأكيد أن المراد منه الإيمان الذي لا يشوبه نفاق فكأنه قيل ما منعهم أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا إلا أن تأتيهم سنة الأولين وهم من أهلك من الأمم السابقة وإضافة السنة إليهم قيل لكونها جارية عليهم وهي في الحقيقة سنة الله تعالى فيهم والمراد بها الإهلاك بعذاب الإستئصال وإذا فسرت السنة بالهلاك لم تحتج لما ذكر وأن وما بعدها تأويل المصدر وهو فاعل منع والكلام بتقدير مضاف أي
(15/300)
ما منعهم من ذلك إلا طلب الهلاك في الدنيا قاله الزجاج وجوز صاحب الفينان تقدير انتظار أي ما منعهم إلا انتظار الهلاك وقدر الواحدي تقدير أي ما منعهم إلا تقدير الله تعالى اتيان الهلاك عليهم وقال إن الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين ويأباه بحسب الظاهر كون السورة مكية إلا ما استثنى والداعي لتقدير المضاف أنه لو كان المانع من إيمانهم واستغفارهم نفس اتيان الهلاك كانوا معذورين وأن عذاب الآخرة المعد للكفار المراد من قوله تعالى أو يأتيهم العذاب قبلا منتظر قطعا وقيل لأن زمان اتيان العذاب متأخر عن الزمان الذي اعتبر لايمانهم واستغفارهم فلا يتأتى ما نعيته منهما
واعترض تقدير الطلب بأن طلبهم سنة الأولين لعدم إيمانهم وهو لمنعهم عن الإيمان فلو كان منعهم للطلب لزوم الدور ودفع بأن المراد بالطلب سببه وهو تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم طالبين للعذاب بمثل قولهم اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الخ وتعقب بأن فيهم من ينكر حقية الإسلام كما أن فيهم المعاند ولا يظهر وجه كون الطلب ناشئا عن إنكار الحقية وكذا لا يظهر كونه ناشئا عن العناد واعترض أيضا بأن عدم الإيمان متقدم على الطلب مستمر فلا يكون الطلب مانعا
وأجيب بأن المتقدم على الطلب هو عدم الإيمان السابق وليس الطلب بمانع منه بل هو مانع مما تحقق بعد وهو كما ترى وقيل المراد من الطلب الطلب الصوري اللساني لا الحقيقي القلبي فإن من له أدنى عقل لا يطلب الهلاك والعذاب طلبا حقيقيا قلبيا ومن الطلب الصوري منشؤه وما هو دليل عليه وهو تكذيب النبي صلى الله عليه و سلم بما أوعد به من العذاب والهلاك من لم يؤمن بالله عز و جل فكأنه قيل ما منعهم من الإيمان بالله تعالى الذي أمر به النبي عليه الصلاة و السلام إلا تكذيبهم إياه بما أوعد على تركه ولا يخلو عن دغدغة
وقيل الحق أن الآية على تقدير الطلب من قولك لمن يعصيك أنت تريد أن أضربك وهو على تنزيل الاستحقاق منزلة الطلب فكأنه قيل ما منعهم من ذلك إلا استحقاق الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي وتعقب بأن عدم الإيمان والاتصاف بالكفر سبب للاستحقاق المذكور فيكون متقدما عليه ومتى كان الاستحقاق مانعا منه انعكس أمر التقدم والتأخر فيلزم اتصاف الواحد بالشخص بالتقدم والتأخر وأنه باطل وأجيب بمنع كون عدم الإيمان سببا للاستحقاق في الحقيقة وإنما هو سبب صوري والسبب الحقيقي سوء استعداداتهم وخباثة ماهياتهم في نفس الأمر وهذا كما أنه سبب للاستحقاق كذلك هو سبب للاتصاف بالكفر وإن شئت فقل هو مانع من الإيمان ومن هنا قيل إن المراد من الطلب الطلب بلسان الاستعداد وأن مآل الآية ما منعهم من ذلك إلا استعداداتهم وطلب ماهياتهم لضده وذلك لأن طلب استعداداتهم للهلاك أو العذاب المترتب على الضد استعداد للضد وطلب له وربما يقال بناء على هذا أن المفهوم من الآيات أن الكفار لو لم يأتهم رسول ينبههم من سنة الغفلة يحتجون لو عذبوا بعدم إتيانه فيقولون منعنا من الإيمان أنه لم يأتنا رسول ومآله منعنا من ذلك الغفلة ولا يجدون حجة أبلغ من ذلك وأنفع في الخلاص وأما سوء الاستعداد وخباثة الذات فبمراحل من أن يحتجوا به ويجعلوه مانعا فلا بعد في أن يقدر الطلب ويراد منه ظاهره وتكون الآية من قبيل قوله :
(15/301)
ولا عيب فيهم البيت والمراد نفي أن يكون لهم مانع من الإيمان والاستغفار بعد مجيء الرسول صلى الله عليه و سلم يصلح أن يكون حجة لهم أصلا كأنه قيل لا مانع لهم من أن يؤمنوا أو يستغفروا ربهم ولا حجة بعد مجيء الرسول الذي بلغ ما بلغ من الهدى إلا طلب ما أوعدوا به من إتيان الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي وحيث أن ذلك على فرض تحققه منهم لا يصلح للمانعية والحجية لم يبق مانع وحجة عندهم أصلا انتهى
ولا يخفى أنه بعد الإغضاء عما يرد عليه بعيد وإنكار ذلك مكابرة والأولى تقدير التقدير وهو مانع بلا شبهة إلا أن القائلين بالاستعداد حسبما تعلم يجعلون منشأه الاستعداد وفي معناه تقدير الإرادة أي إرادته تعالى وعليه اقتصر العز بن عبد السلام ودفع التنافي بين الحصر المستفاد من هذه الآية والحصر المستفاد من قوله تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا بأن الحصر الأول في المانع الحقيقي فإن إرادة الله تعالى هي المانعة على الحقيقة والثاني في المانع العادي وهو استغراب بعث بشر رسول لأن المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب ذلك وقد تقدم في الإسراء ما ينفعك في الجمع بين الحصرين فتذكر فما في العهد من قدم وادعى الإمام تعدد الموانع وأن المراد من الآية فقدان نوع منها فقال قال الأصحاب إن العلم بعدم إيمانهم مضاد لوجود إيمانهم فإذا كان ذلك العلم قائما كان المانع قائما وأيضا حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما حصل لأن حصول الفعل الإختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان فلا بد أن يقال المراد فقدان الموانع المحسوسة انتهى فليتأمل فيه
والقبل بضمتين جمع قبيل وهو النوع أي أو يأتيهم العذاب أنواعا وألوانا أو هو بمعنى قبلا بكسر القاف وفتح الباء كما قرأ به غير واحد أي عيانا فإن أبا عبيدة حكاهما معا بهذا المعنى وأصله بمعنى المقابلة فإذا دل على المعاينة ونصبه على الحال فإن كان حالا من الضمير المفعول فمعناه معاينين بكسر الياء أو بفتحها أو معاينين للناس ليفتضحوا وأن كان من العذاب فمعناه معاينا لهم أو للناس وقرأت طائفة قبلا بكسر القاف وسكون الباء وهو كما في البحر تخفيف قبل على لغة تميم وذكر ابن قتيبة والزمخشري أنه قريء قبلا بفتحتين أي مستقبلا وقرأ أبي بن كعب وابن غزوان عن طلحة قبيلا بقاف مفتوحة وباء مكسورة بعدها ياء ساكنة أي عيانا ومقابلة وما نرسل المرسلين إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال إلا حال كونهم مبشرين للمؤمنين بالثواب ومنذرين للكفرة والعصاة بالعقاب ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد ظهور المعجزات ويعاملوا بما لا يليق بشأنهم ويجادل الذين كفروا بالباطل باقتراح ذلك والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتا وقولهم لهم ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو شاء الله لأنزل ملائكة إلى غير ذلك وتقييد الجدال بالباطل لبيان المذموم منه فإنه كما مر غير بعيد عام لغة لا خاص بالباطل ليحمل ما ذكر على التجريد والمراد به هنا معناه اللغوي وما يطلق عليه اصطلاحا مما يصدق عليه ذلك ليدحضوا أي ليزيلوا ويبطلوا به أي الجدال الحق الذي جاءت به الرسل عليهم السلام وأصل الادحاض الازلاق والدحض الطين الذي يزلق فيه قال الشاعر :
(15/302)
وردت ونجى اليشكري حذاره وحاد كما حاد البعير عن الدحض وقال آخر : أبا منذر رمت الوفاء وهبته وحدت كما حاد البعير المدحض مواستعماله في إزالة الحق قيل من استعمال ما وضع للمحسوس في المعقول وقيل لك أن تقول فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره كقول الخفاجي : أتانا بوحل لأفكاره ليزلق أقدام هدى الحجج واتخذوا آياتي التي أيدت بها الرسل سواء كانت قولا أو فعلا وما أنذروا أي والذي أنذروه من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم هزوا 65 أي استهزاء وسخرية
وقرأ حمزة هزأ بالسكون مهموزا وقرأ غيره وغير حفص من السبعة بضمتين مهموزا وهو مصدر وصف به للمبالغة وقد يؤول بما يستهزأ به ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه الأكثرون على أن المراد بها القرآن العظيم لمكان أن يفقهوه فالإضافة للعهد
وجوزأن يراد بها جنس الآيات ويدخل القرآن العظيم دخولا أوليا والاستنكار إنكاري في قوة النفي وحقق غير واحد أن المراد نفي أن يساوي أحد في الظلم من وعظ بآيات الله تعالى فأعرض عنها فلم يتدبرها ولم يتعظ بها ودلالة ما ذكر على هذا بطريق الكناية وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض للإشعار بأن ظلم من يجادل في الآيات ويتخذها هزوا خارج عن الحد ونسي ما قدمت يداه أي عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق ونسيان ذلك كناية عن عدم التفكر في عواقبه والمراد ممن عند الأكثرين مشركوا مكة
وجوز أن يكون المراد منه المتصف بما في حيز الصلة كائنا من كان ويدخل فيه مشركو مكة دخولا أوليا والضمير في قوله تعالى إنا جعلنا على قلوبهم لهم على الوجهين ووجه الجمع ظاهر والجملة استئناف بياني كأنه قيل ما علة الإعراض والنسيان فقيل علته أنا جعلنا على قلوبهم أكنة أي أغطية جمع كنان والتنوين على ما يشير إليه كلام البعض للتكثير أن يفقهوه الضمير المنصوب عند الأكثرين للآيات وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى المراد منها وهو القرآن
وجوز أن يكون للقرآن لا باعتبار أنه المراد من الآيات وفي الكلام حذف والتقدير كراهة أن يفقهوه وقيل لئلا يفقهوه أي فقها نافعا وفي ءاذانهم أي وجعلنا فيه وقرا ثقلا أن يسمعوه سماعا كذلك وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذن أبدا 75 أي مدة التكليف كلها و إذن جزاء وجواب كما حقق المراد منه في موضعه فتدل على نفي اهتدائهم لدعوة الرسول بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه وعلى أنه جواب للرسول عليه الصلاة و السلام على تقدير قوله مالي لا أدعوهم حرصا على اهتدائهم وإن ذكر له من أمرهم ما ذكر رجاء أن تنكشف تلك الأكنة وتمزق بيد الدعوة فقيل
(15/303)
وإن تدعهم الخ قاله الزمخشري وفي الكشف في بيان ذلك أما الدلالة فصريح تخلل إذن يدل على ذلك لأن المعنى إذن لو دعوت وهو من التعكيس بلا تعسف وأما إنه جواب على الوجه المذكور فمعناه أنه نزل منزلة السائل مبالغة في عدم الاهتداء المرتب على كونهم مطبوعا على قلوبهم فلا ينافي ما آثروه من أنه على تقدير سؤال لم لم يهتدوا فإن السؤال على هذا الوجه أوقع ا ه وهو كلام نفيس به ينكشف الغطا ويؤمن من تقليد الخطأ ويستغني به المتأمل عما قيل : إن تقدير مالي لا أدعوهم يقتضي المنع من دعوتهم فكأنه أخذ من مثل قوله تعالى فأعرض عمن تولى عن ذكرنا وقيل أخذ من قوله تعالى على قلوبهم أكنة وقيل من قوله سبحانه إن تدعهم هذا ولا يخفى عليك المراد من الهدى وقد يراد منه القرآن في الهدى السابق والله تعالى أعلم والآية في أناس علم الله تعالى موافاتهم على الكفر من مشركي مكة حين نزولها فلا ينافي الإخبار بالطبع وأنهم لا يؤمنون تحقيقيا ولا تقليدا إيمان بعض المشركين بعد النزول واحتمال أن المراد جميع المشركين على معنى وإن تدعهم إلى الهدى جميعا فإن يهتدوا جميعا وإنما يهتدي بعضهم كما ترى واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم والقدرية بالآية التي قبلها قال الإمام : وقل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين
وربك الغفور مبتدأ وخبر وقوله تعالى ذو الرحمة أي صاحبها والموصوف بها خبر بعد الخبر قال الإمام : وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الأضرار والرحمة إيصال النفع وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول لأنه ترك مضار لا نهاية لها ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال
وتعقبه النيسابوري بأنه فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله تعالى ذو الرحمة لا يخلو عن مبالغة وفي القرآن غفور رحيم بالمبالغة في الجانبين كثيرا وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي نظر لأن مقدراته تعالى متناهية لا فرق بين المتروك وغيره ا ه وقيل عليه إنهم فسروا الغفار بمريد إزالة العقوبة عن مستحقها والرحيم بمريد الأنعام على الخلق وقصد المبالغة من جهة في مقام لا ينافي تركها في آخر لعدم اقتضائه وقد صرحوا بأن مقدوراته تعالى غير متناهية وما دخل منها في الوجود متناه ببرهان التطبيق ا ه وهو كلام حسن اندفع به ما أورد به على الإمام وزعمت الفلاسفة أن ما دخل في الوجود من المقدورات غير متناه أيضا ولا يجري فيه برهان التطبيق عندهم لاشتراطهم الاجتماع والترتب ولعمري لقد قف شعري من ظاهر قول النيسابوري أن مقدوراته تعالى متناهية فإن ظاهره التعجيز تعالى الله سبحانه عما يقوله الظالمون علوا كبيرا ولكن يدفع بالعناية فتدبر ثم إن تحرير نكتة التفرقة بين الخبرين ههنا على ما قاله الخفاجي أن المذكور بعد عدم مؤاخذتهم بما كسبوا من الجرم العظيم وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالى سابقة على غضبه لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم وبلوغها الغاية إذ لو أراد جل شأنه ذلك لهداهم وسلمهم من العذاب رأسا وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي الذي ذكره الإمام وإن كان صحيحا في نفسه كما قيل والاعتراض عليه بأنه يقتضي عدم تناهي المتعلقات في كل ما نسب إليه تعالى بصيغ المبالغة وليس بلازم إذ يمكن أن تعتبر المبالغة في المتناهي بزيادة الكمية وقوة الكيفية ولو سلم ماذكر لزم عدم صحة صيغ المبالغة في
(15/304)
في الأمور الثبوتية كرحيم ورحمن ولا وجه له مدفوع بأن ما ذكره نكتة لوقوع التفرقة بين الأمرين هنا بأنه اعتبرت المبالغة في جانب الترك دون مقابله لأن الترك عدمي يجوز فيه عدم التناهي بخلاف الآخر ألا ترى أن ترك عذابهم دال على ترك جميع أنواع العقوبات في العاجل وإن كانت غير متناهية كذا قيل وفيه نظر
وربما يقال في توجيه ما قاله النيسابوري من أن ذو الرحمة لا يخلو عن المبالغة : إن ذلك إما لاقتران الرحمة بأل فتفيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء وإما لذو فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه ولا يكاد يدل سبحانه على اتصافه تعالى بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مرادة على الوجه الأبلغ وإلا فما الفائدة في العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف كالراحم مثلا إلى ذلك ولا يعكر على هذا أن المبالغة لو كانت مرادة فلم عدل عن الأخصر أيضا المفيد لها كالرحيم أو الرحمن إلى ما ذكر لجواز أن يقال : إنه أريد أن لا تقيد الرحمة المبالغ فيها لكونها في الدنيا أو في الآخرة وهذان الاسمان يفيدان التقييد على المشهور ولذا عدل عنهما إلى ذو الرحمة وإذا قلت هما مثله في عدم التقييد قيل إن دلالته على المبالغة أقوى من دلالتهما عليها بأن يدعى أن تلك الدلالة بواسطة أمرين لا يعدلهما في قوة الدلالة ما يتوسط في دلالة الاسمين الجليلين عليها وعلى هذا يكون ذو الرحمة أبلغ من كل واحد من الرحمن والرحيم وإن كانا معا ابلغ منه ولذا جيء بهما في البسملة دونه ومن أنصف لم يشك في أن قولك فلان ذو العلم أبلغ من قولك فلان عليم بل ومن قولك فلان العليم من حيث أن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني ووجه ذلك ظاهر فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفى والنكتة فيه ههنا مزيد إيناسه صلى الله عليه و سلم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم وآيسه من اهتدائهم مع علمه جل شأنه بمزيد حرصه عليه الصلاة و السلام على ذلك وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافا إلى ضميره صلى الله عليه و سلم انتهى
وهو كلام واقف في اعراف الرد والقبول في النظر الجليل ومن دقق علم ما فيه من الأمرين وإنما قدم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال والمقام إذ المقام على ما قاله المحققون مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله تعالى لو يؤاخذهم أي لو يريد مؤاخذتهم بما كسبوا أي فعلوا وكسب الاشعري لا تفهمه العرب وما إما مصدرية أي بكسبهم واما موصولة أي بالذي كسبوه من المعاصي التي من جملتها ما حكى عنهم من مجادلتهم بالباطل واعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات لعجل لهم العذاب لاستيجاب أعمالهم لذلك قيل وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الاخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للايذان بأن النفي المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبئ عنه تاليها وإيثار صيغة الاستقبال وان كان المعنى على المضي لافادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم ارادة المؤاخذة فان المضارع الواقع موقع الماضي يفيد استمرار الفعل فيما مضى بل لهم موعد وهو يوم بدر أو يوم القيامة على أن الموعد اسم زمان وجوز أن يكون اسم مكان والمراد منه جهنم والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا مؤاخذين
(15/305)
بغتة بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا قال الفراء أي منجا يقال وألت نفس فلان نجت وعليه قوله الاعشى ... . وقد أخالس رب الدار غفلته ... وقد يحاذر مني ثم ما يئل ...
وقال ابن قتيبة هو الملجأ يقال وأل فلان إلى كذا يئل وألا ووؤولا إذا لجأ والمعنى واحد والفرق إنما هو بالتعدي بالى وعدمه وتفسيره بالملجأ مروي عن ابن عباس وفسره مجاهد بالمحرز والضحاك بالمخلص والأمر في ذلك سهل وهو على ما قاله أبو البقاء يحتمل أن يكون اسم زمان وأن يكون اسم مكان والضمير المجرور عائد على الموعد كما هو الظاهر وقيل على العذاب وفيه من المبالغة ما فيه لدلالته على أنهم لا خلاص لهم أصلا فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص والنجاة
وأنت تعلم أن أمر المبالغة موجود في الظاهر أيضا وقيل يعود على الله تعالى وهو مخالف للظاهر مع الخلو عن المبالغة وقرأ الزهري مولا بتشديد الواو من غير همز ولا ياء وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه مولا بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء أيضا وتلك القرى أي قرى عاد وثمود وقوم لوط وأشباههم والكلام على تقدير مضاف أي أهل القرى لقوله تعالى أهلكناهم والاشارة لتنزيلهم لعلمهم بهم منزلة المحسوس وقدر المضاف في البحر قبل تلك وكلا الأمرين جائز وتلك يشار بها للمؤنث من العقلاء وغيرهم وجوز أن تكون القرى عبارة عن أهلها مجازا وأيا ما كان فاسم الاشارة مبتدأ والقرى صفته والوصف بالجامد في باب الاشارة مشهور والخبر جملة أهلكناهم واختار أبو حيان كون القرى هو الخبر والجملة حالية كقوله تعالى فتلك بيوتهم خاوية وجوز أن تكون تلك منصوبا باضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم لما ظلموا أي حين ظلمهم كما فعل مشركو مكة ما حكي عنهم من القبائح وترك المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلة اللازم أي لما فعلوا الظلم ولما عند الجمهور ظرف كما أشير إليه وليس المراد به الحين المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمان ممتد من ابتداء الظلم إلى آخره
وقال أبو الحسن بن عصفور هي حرف ومما استدل به على حرفيتها هذه الآية حيث قال إنها تدل على أن علة الاهلاك الظلم والظرف لا دلالة له على العلية واعترض بأن قولك أهلكته وقت الظلم يشعر بعلية الظلم وإن لم يدل الظرف نفسه على العلية وقيل لا مانع من ان يكون ظرفا استعمل للتعليل
وجعلنا لمهلكهم لهلاكهم موعدا وقتا معينا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فمفعل الاول مصدر والثاني اسم زمان والتعيين من جهة أن الموعد لا يكون إلا معينا وإلا فاسم الزمان مبهم والعكس ركيك وزعم بعضهم أن المهلك على هذه القراءة وهي قراءة حفص في الرواية المشهورة عنه أعني القراءة بفتح الميم وكسر اللام من المصادر الشاذة كالمرجع والمحيض وعلل ذلك بأن المضارع يهلك بكسر اللام وقد صرحوا بأن مجيء المصدر الميمي مكسورا فيما عين مضارعه مكسورة شاذ وتعقب بأنه قد صرح في القاموس بأن هلك جاء من باب ضرب ومنع وعلم فكيف يتحقق الشذوذ فالحق أنه مصدر غير شاذ وهو مضاف للفاعل ولذا فسر بما سمعت وقيل إن هلك يكون لازما ومتعديا فعن تميم هلكني فلان فعلى تعديته يكون
(15/306)
مضافا للمفعول وأنشد أبو علي في ذلك ... ومهمه هالك من تعرجا ...
أي مهلكه وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتعين ذلك في البيت بل قد ذهب بعض النحويين إلى إن هالكا فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة والأصل هالك من تعرجا بجعل من فاعلا لهالك ثم أضمر في هالك ضمير مهمه وانتصب من على التشبيه بالمفعول ثم أضيف من نصب والصحيح جواز استعمال الموصول في باب الصفة المشبهة وقد ثبت في أشعار العرب قال عمرو بن أبي ربيعة ... . أسيلات أبدان دقاق خصورها ... وثيرات ما التفت عليها الملاحف ...
وقرأ حفص وهرون وحماد ويحيى عن أبي بكر بفتح الميم واللام وقراءة الجمهور بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر أيضا وجعله اسم مفعول على معنى وجعلنا لمن أهلكناه منهم في الدنيا موعدا ننتقم فيه منه أشد انتقام وهو يوم القيامة أو جهنم لا يخفى ما فيه والظاهر أن الآية استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليعتبروا ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم وهي ترجح حمل الموعد فيما سبق على يوم بدر فتدبر والله تعالى أعلم وأخبر
ومن باب الاشارة في الآيات واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي أمر بصحبة الفقراء الذين انقطعوا لخدمة مولاهم وفائدتها منه عليه الصلاة و السلام تعود عليهم وذلك لأنهم عشاق الحضرة وهو صلى الله عليه و سلم مرآتها وعرش تجليها ومعدن أسرارها ومشرق أنوارها فمتى رأوه صلى الله عليه و سلم عاشوا ومتى غاب عنهم كئبوا وطاشوا وأما صحبة الفقراء بالنسبة إلى غيره صلى الله تعالى عليه وسلم ففائدتها تعود إلى من صحبهم فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم وقال عمرو المكي صحبة الصالحين والفقراء الصادقين عيش أهل الجنة يتقلب معهم جليسهم من الرضا إلى اليقين ومن اليقين إلى الرضا ولأبي مدين من قصيدته المشهورة التي خمسها الشيخ محيي الدين قدس سره ... . ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا ... هم السلاطين والسادات والأمرا ... فاصحبهم وتأدب في مجالسهم ... وخل حظك مهما قدموك ورا ... واستغنم الوقت واحضر دائما معهم ... واعلم بأن الرضا يختص من حضرا ... ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل ... لا علم عندي وكن بالجهل مستترا ...
إلى أن قال : ... وإن بدا منك عيب فاعترف وأقم ... وجه اعتذارك عما فيك منك جرا ... وقل عبيدكم أولى بصفحكم ... فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا ... هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم ... فلا تخف دركا منهم ولا ضررا ...
وعني بهؤلاء السادة الصوفية وقد شاع إطلاق الفقراء عليهم لأن الغالب عليهم الفقر بالمعنى المعروف وفقرهم مقارن للصلاح وبذلك يمدح الفقر وأما إذا اقترن بالفساد فالعياذ بالله تعالى منه فمتى سمعت الترغيب في مجالسة الفقير فاعلم أن المراد منه الفقير الصالح والآثار متظافرة في الترغيب في ذلك فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفا تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عبيد الله تعالى وتخرجوا من الكبر وفي الجامع الجلوس مع الفقراء من التواضع وهو من أفضل الجهاد وفي رواية أحبوا الفقراء وجالسوهم ومن فوائد مجالستهم إن العبد يرى نعمة الله تعالى عليه ويقنع باليسير من الدنيا ويأمن في مجالستهم من المداهنة والتملق
(15/307)
وتحمل المن وغيره ذلك نعم إن مجالستهم خلاف ما جبلت عليه النفس ولذا عظم فضلها وقيل إن في قوله تعالى واصبر نفسك مع الذين إلخ دون ودم مع الذين إلخ إشارة إلى ذلك ولكن ذلك بالنسبة إلى غيره صلى الله عليه و سلم فان نفسه الشريفة فطرت على أحسن فطرة وطبعت على أحسن طبيعة
وقال بعض أهل الأسرار إنما قيل واصبر نفسك دون واصبر قلبك لأن قلبه الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم كان مع الحق فأمر صلى الله تعالى عليه وسلم بصحبة الفقراء جهرا بجهر واستخلص سبحانه قلبه له سرا بسر تريد زينة الحياة الدنيا أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي مذمومة مع الميل إليهم والتواضع لغناهم وقد جاء في الحديث من تذلل لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه فليتق الله تعالى في الثلث الآخر ومضار مجالستهم كثيرة ولا تخفى على من علم فوائد مجالسة الفقراء وأدناها ضررا تحمل منهم فانه قلما يسلم الغني من المن على جليسه الفقير ولو بمجرد المجالسة وهو حمل لا يطاق ومن نوابغ الزمخشري طعم الآلاء أحلى من المن وهي أمر من الآلاء عند المن وقال بعض الشعراء ... . لنا صاحب ما زال يتبع بره ... بمن وبذل المن بالبر لا يسوى ... تركناه لا بغضا ولا عن ملالة ... ولكن لأجل المن يستعمل السلوى ...
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا نهى عن إطاعة المحجوبين الغافلين وكانوا في القصة يريدون طرد الفقراء وعدم مجالسة النبي صلى الله عليه و سلم لهم لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يطاع عند أهل الإشارة الغافل المحجوب في كل شيء فيه هوى النفس وعدوا من إطاعته التواضع له فان يطلبه حالا وإن لم يفصح به مقالا وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر قالوا فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين واعراض الجاهلين وعد من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيار ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم فإن لذة العشق بذلك أتم ألا ترى قول القائل ... . ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر ... وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر ...
ولا يخفى أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فانهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه وهو ... . إني لأكتم من علمي جواهره ... كيلا يرى الحق ذو الجهل فيفتتنا ... وقد تقدم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين ووصى قبله الحسنا ... فرب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ... ولاستحل رجال مسلمون دمى ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا ...
نعم المغلوب وكذا المأمور معذور وعند الضرورة يباح المحظور وما أحسن قول الشهاب القتيل ... . وارحمتا للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح ... بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح
(15/308)
وإذا هم كتموا يحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السحاح ...
وما ذكر أولا يكون مستمسكا في الذب عن الشيخ الأكبر قدس سره وأضرابه فانهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سببا لضلال كثير من الناس وداعيا للانكار عليهم وقد استدل بعض بالآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاؤا به ليس من جهته سبحانه لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قدسية وأنوار إلهية فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجاجهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم واعترض بأنه لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الالهية فيه كثيرون والحرص على إظهار الحق أكثر وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لاظهار ما أظهر من الحقائق وفيه نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء الله تعالى ما عسى أن ينفعك هنا وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وأضرابه قدس الله تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لا سيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر ولذا ترى كثيرا من الناس ينكرون عليه ويكرون وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد اكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمسا في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله ... ينكر المرء منه أمرا فينها ... ه نهاه فينكر الانكارا ... تنثني عنه ثم تثنى عليه ... ألسن تشبه الصحاة سكارى ...
يحلون فيها من أساور من ذهب قيل هي إشارة إلى أنهم يحلون حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الاحدية ويلبسون ثيابا خضرا إشارة إلى أنهم متصفون بصفات بهيجة حسنة نضرة موجبة للسرور من سندس الاحوال والمواهب وعبر عنها بالسندس لكونها ألطف واستبرق الاخلاق والمكاسب وعبر عنها بالاستبرق لكونها أكثف متكئين فيها على الأرائك قيل أي أرائك الاسماء الالهية واضرب لهم مثلا رجلين الخ فيه من تسلية الفقراء المتوكلين على الله تعالى وتنبيه الاغنياء المغرورين ما فيه وقال النيسابوري الرجلان هما النفس الكافرة والقلب المؤمن جعلنا لأحدهما وهو النفس جنتين هما الهوى والدنيا من أعناب الشهوات وحففناها بنخل حب الرياسة وجعلنا بينهما زرعا من التمتعات البهيمية فجرنا خلالهما نهرا من القوى البشرية والحواس وكان له ثمر من أنواع الشهوات وهو يحاوره أي يجاذب النفس أنا أكثر منك مالا أي ميلا وأعز نفرا من الأوصاف المذمومة وهو ظالم نفسه في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهدى لأجدن خيرا منها قال ذلك غرورا بالله تعالى وكرمه فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها من العمر وحسن الاستعداد انتهى
وقد التزم هذا النمط في أكثر الآيات ولا بدع فهو شأن كثير من المؤولين هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا قال ابن عطاء للطالبين له سبحانه لا للجنة وخير عقبا للمريدين والباقيات الصالحات قيل هي المحبة الدائمة والمعرفة الكاملة والأنس بالله تعالى والاخلاص في توحيده سبحانه والانفراد به جل وعلا عن غيره فهي باقية للمتصف بها وصالحة لا اعوجاج فيها وهي خير المنازل وقد تفسر بما يعمها وغيرها
(15/309)
من الأعمال الخالصة والنيات الصادقة ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة قال ابن عطاء دل سبحانه بهذا على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته ليتأهب العبد لذلك الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وجوابه وعرضوا على ربك صفا اخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه بل زعمتم الخ بعضهم ذكر أنه يعرض كل صنف صفا وقيل الانبياء عليهم السلام صف والأولياء صف وسائر المؤمنين صف والمنافقون والكافرون صف وهم آخر الصفوف فيقال لهم لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه ووضع الكتاب أي الكتب فيوضع كتاب الطاعات للزهاد والعباد وكتاب الطاعات والمعاصي للعموم وكتاب المحبة والشوق والعشق للخصوص ولبعضهم ... . وأودعت الفؤاد كتاب شوق ... سينشر طيه يوم الحساب ...
ووجدوا ما عملوا حاضرا قال أبو حفص أشد آية في القرآن على قلبي هذه الآية ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم قيل أي ما أشهدتهم أسرار ذلك والدقائق المودعة فيه وإنما أشهد سبحانه ذلك أحباءه وأولياءه وكان الإنسان أكثر شيء جدلا لأنه مظهر الأسماء المختلفة والعالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر هذا والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وإذ قال موسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام على الصحيح فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وجماعة من طريق سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل فقال كذب عدو الله ثم ذكر حديثا طويلا فيه الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بما هو نص في أنه موسى بني إسرائيل وإلى إنكار ذلك ذهب أيضا أهل الكتاب وتبعهم من تبعهم من المحدثين والمؤرخين وزعموا أن موسى هنا هو موسى بن ميشا بالمعجمة ابن يوسف بن يعقوب وقيل موسى بن افراثيم بن يوسف وهو موسى الأول قيل وإنما أنكره أهل الكتاب لإنكارهم تعلم النبي من غيره وأجيب بالتزام أن التعلم من نبي ولا غضاضة في تعلم نبي من نبي وتعقب بأنه ولو التزموا ذلك وسلموا نبوة الخضر عليه السلام لا يسلمون أنه موسى بن عمران لأنهم لا تسمح أنفسهم بالقول بتعلم نبيهم الافضل ممن ليس مثله في الفضل فان الخضر عليه السلام على القول بنبوته بل القول برسالته لم يبلغ درجة موسى عليه السلام وقال بعض المحققين ليس إنكارهم لمجرد ذلك بل لذلك ولقولهم إن موسى عليه السلام بعد الخروج من مصر حصل هو وقومه في التيه وتوفي فيه ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته والقصة تقتضي خروجه عليه السلام من التيه لأنها لم تكن وهو في مصر بالاجماع وتقتضي أيضا الغيبة أياما ولو وقعت لعلمها كثير من بني إسرائيل الذين كانوا معه ولو علمت لنقلت لتضمنها أمرا غريبا تتوفر الدواعي على نقله فحيث لم يكن لم تكن وأجيب بأن عدم سماح نفوسهم
(15/310)
بالقول بتعلم نبيهم عليه السلام ممن ليس مثله في الفضل أمر لا يساعده العقل وليس هو الا كالحمية الجاهلية إذ لا يبعد عقلا تعلم الافضل الا علم شيئا ليس عنده ممن هو دونه في الفضل والعلم ومن الامثال المشهورة قد يوجد في الاسقاط ما لا يوجد في الاسفاط وقالوا قد يوجد في المفضول مالا يوجد في الفاضل وقال بعضهم لا مانع من أن يكون قد أخفى الله سبحانه وتعالى علم المسائل التي تضمنتها القصة عن موسى عليه السلام على مزيد علمه وفضله لحكمة ولا يقدح ذلك في كونه أفضل وأعلم من الخضر عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى وبأنه سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا القول بأن القصة كانت بعد أن ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني اسرائيل واستقر بعد هلاك القبط فلا اجماع على أنها لم تكن بمصر نعم اليهود لا يقولون باستقرارهم في مصر بعد هلاك القبط وعليه كثير منا وحينئذ يقال إن عدم خروج موسى عليه السلام من التيه غير مسلم وكذلك اقتضاء ذلك الغيبة أياما لجواز أن يكون على وجه خارق للعادة كالتيه الذي وقعوا فيه وكنتق الجبل عليهم وغير ذلك من الخوارق التي وقعت فيهم وقد يقال يجوز أن يكون عليه السلام خرج وغاب أياما لكن لم يعلموا أنه عليه السلام ذهب لهذا الأمر وظنوا أنه ذهب يناجي ويتعبد ولم يوقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع لعلمه بقصور فهمهم فخاف من حط قدره عندهم فهم القائلون اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وأرنا الله جهرة وأوصى فتاه بكتم ذلك عنهم أيضا ويجوز أن يكون غاب عليه السلام وعلموا حقيقة غيبته لكن لم يتناقلوها جيلا بعد جيل لتوهم أن فيها شيئا مما يحط من قدره الشريف عليه السلام فلا زالت نقلتها تقل حتى هلكوا في وقت بختنصر كما هلك أكثر حملة التوراة ويجوز أن يكون قد بقي منهم أقل قليل إلى زمن نبينا صلى الله عليه و سلم فتواصوا على كتمها وإنكارها ليوقعوا الشك في قلوب ضعفاء المسلمين ثم هلك ذلك القليل ولم تنقل عنه ولا يخفى أن باب الاحتمال واسع وبالجملة لا يبالي بإنكارهم بعد جواز الوقوع عقلا واخبار الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه و سلم فإن الآية ظاهرة في ذلك وبقرب من هذا الإنكار انكار النصارى تكلم عيسى عليه السلام في المهد وقد قدمنا أنه لا يلتفت إليه بعد اخبار الله تعالى به فعليك بكتاب الله تعالى ودع عنك الوساوس
و إذ نصب على المفعولية باذكر محذوفا والمراد قل قال موسى لفتيه يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف عليه السلام فانه كان يخدمه ويتعلم منه ولذا أضيف إليه والعرب تسمي الخادم فتى لأن الخدم أكثر ما يكونون في سن الفتوة وكان فيما يقال ابن أخت موسى عليه السلام وقيل هو أخو يوشع عليه السلام وأنكر اليهود أن يكون له أخ وقيل لعبده فالاضافة للملك وأطلق على العبد فتى لما في الحديث الصحيح ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي وهو من آداب الشريعة وليس اطلاق ذلك بمكروه خلافا لبعض بل خلاف الاولى وهذا القول مخالف للمشهور وحكم النووي بانه قول باطل وفي حل تملك النفس في بني إسرائيل كلام ومثله في البطلان القول الثاني لمنافاة كل الاخبار الصحيحة لا أبرح من برح الناقص كزال يزال أي لا أزال أسير فحذف الخبر اعتمادا على قرينة الحال إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالا على ما يعقبه من قوله حتى أبلغ إذ الغاية لا بد لها من مغيا والمناسب لها هنا المسير وفيما بعد أيضا ما يدل على ذلك وحذف الخبر فيها قليلا كما ذكره الرضي ومنه قول الفرزدق ... . فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ... ببطحاء ذي قار عياب اللطائم
(15/311)
وقال أبو حيان نص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل الدليل على حذفه إلا ما جاء في الشعر من قوله ... . لهفي عليك كلهفة من خائف ... يبغي جوارك حين ليس مجير ...
أي حين ليس في الدنيا وجوز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون الأصل لا يبرح سيري حتى أبلغ فالخبر متعلق حتى مع مجرورها فحذف المضاف إليه وهو سير فانقلب الضمير من البروز والجر إلى الرفع والاستتار وانقلب الفعل من الغيبة إلى التكلم قيل وكذا الفعل الواقع في الخبر وهو أبلغ كأن أصله يبلغ ليحصل الربط والاسناد مجازي وإلا يخل الخبر من الرابط إلا أن يقدر حتى أبلغ به أو يقال إن الضمير المستتر في كائن يكفي للربط أو أن وجود الربط بعد التغيير صورة يكفي فيه وإن كان المقدر في قوة المذكور وعندي لا لطف في هذا الوجه وإن استلطفه الزمخشري
وجوز أيضا أن يكون أبرح من برح التام كزال يزول فلا يحتاج إلى خبر نعم قيل لا بد من تقدير مفعول ليتم المعنى أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ مجمع البحرين وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى صحة نقل والمجمع الملتقى وهو اسم مكان وقيل مصدر وليس بذاك والبحران بحر فارس والروم كما روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما وملتقاهما مما يلي المشرق ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما وإلا فهما لا يلتقيان إلا في البحر والمحيط وهما شعبتان منه
وذكر أبو حيان أن مجمع البحرين على ما يقتضيه كلام ابن عطية مما يلي بر الشام وقالت فرقة منهم محمد بن كعب القرظي هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا وعن أبي أنه بافريقية وقيل البحران الكر والرس بأرمينية وروى ذلك عن السدي وقيل بحر القلزم وبحر الأزرق وقيل هما بحر ملح وبحر عذب وملتقاهما في الجزيرة الخضراء في جهة المغرب وقيل هما مجاز عن موسى والخضر عليهما السلام لأنهما بحرا علم والمراد بملتقاهما مكان يتفق فيه اجتماعهما وهو تأويل صوفي والسياق ينبو عنه وكذا قوله تعالى حتى أبلغ إذ الظاهر عليه أن يقال حتى يجتمع البحران مثلا
وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار مجمع بكسر الميم الثانية والنضر عن ابن مسلم مجمع بالكسر لكلا الحرفين وهو شاذ على القراءتين لأن قياس اسم المكان والزمان من فعل يفعل بفتح العين فيهما الفتح كما في قراءة الجمهور أو أمضى حقبا عطف على أبلغ وأو لأحد الشيئين والمعنى حتى يقع أما بلوغي المجمع أو مضى حقبا أي سيري زمانا طويلا
وجوز أن تكون أو بمعنى إلا والفعل منصوب بعدها بأن مقدرة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا زلت أسير في كل حال حتى أبلغ إلا أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات المجمع ونقل أبو حيان جواز أن تكون بمعنى إلى وليس بشيء لأنه يقتضي جزمه ببلوغ المجمع بعد سيره حقبا وليس بمراد والحقب بضمتين ويقال بضم فسكون وبذلك قرأ الضحاك اسم مفرد وجمعه كما في القاموس أحقب وأحقاب وفي الصحاح أن الحقب بالضم يجمع على حقاب مثل قف وقفاف وهو على ما روي عن ابن عباس وجماعة من اللغويين الدهر
(15/312)
وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنه ثمانون سنة وعن الحسن أنه سبعون وقال الفراء إنه سنة بلغة قريش وقال أبو حيان الحقب السنون واحدها حقبة قال الشاعر ... . فان تنأ عنها حقبة لا تلاقها ... فإنك مما أحدثت بالمجرب ...
وما ذكره من أن الحقب السنون ذكره غير واحد من اللغويين لكن قوله واحدها حقبة فيه نظر لأن ظاهر كلامهم أنه اسم مفرد وقد نص على ذلك الخفاجي ولأن الحقبة جمع حقب بكسر ففتح قال في القاموس الحقبة بالكسر من الدهر مدة لا وقت لها والسنة وجمعه كعنب وحقوب كحبوب واقتصر الراغب والجوهري على الأول وكان منشأ عزيمة موسى عليه السلام على ما ذكر ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه سبحانه فأوحى الله تعالى إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك الحديث وفي رواية أخرى عنه عن أبي أيضا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال أي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه فقال نعم في عبادي من هو أعلم منك ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب وابن عساكر من طريق هرون عن أبيه عن ابن عباس قال سأل موسى عليه السلام ربه سبحانه فقال أي رب أي عبادك أحب إليك قال الذي يذكرني ولا ينساني قال فأي عبادك أقضى قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال وكان حدث موسى نفسه أنه ليس أحد أعلم منه فلما أن قيل له الذي يبتغي علم الناس إلى علمه قال يا رب فهل في الأرض أحد أعلم مني قال نعم قال فأين هو قيل له عند الصخرة التي عندها العين فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله تعالى
ثم إن هذه الأخبار لا دلالة فيها على وقوع القصة في مصر أو في غيرها نعم جاء في بعض الروايات التصريح بكونها في مصر فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال لما ظهر موسى عليه السلام وقومه على مصر أنزل قومه بمصر فلما استقرت بهم البلد أنزل الله تعالى ان ذكرهم بأيام الله تعالى فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله تعالى من الخير والنعم وذكرهم إذ أنجاهم الله تعالى من آل فرعون وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله سبحانه في الأرض وقال كلم الله تعالى نبيكم تكليما واصطفاني لنفسه وأنزل علي محبة منه وآتاكم من كل شيء ما سألتموه فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرؤن التوراة فلم يترك نعمة أنعمها الله تعالى عليهم إلا عرفهم إياها فقال له رجل من بني إسرائيل فهل على الأرض أعلم منك يا نبي الله قال لا فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى موسى عليه السلام فقال إن الله تعالى يقول وما يدريك أين أضع علمي بلى إن على ساحل البحر رجلا أعلم منك ثم كان ما قص الله سبحانه وأنكر ذلك ابن عطية فقال ما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام وما أراه يصح بل المتظافر أن موسى عليه السلام توفي في أرض التيه قبل فتح ديار الجبارين أه وما ذكره من عدم إنزال موسى عليه السلام قومه بمصر هو الأقرب إلى القبول عندي وإن تعقب الخفاجي كلامه بعد نقله بقوله فيه نظر ثم أن الأخبار المذكورة ظاهرة في أن العبد الذي أرشد إليه موسى عليه السلام كان أعلم منه وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك فلما بلغا القاء
(15/313)
فصيحة أي فذهبا يمشيان إلى مجمع البحرين فلما بلغا مجمع بينهما أي البحرين والأصل في بين النصب على الظرفية
وأخرج عن ذلك بجره بالاضافة اتساعا والمراد مجمعهما وقيل مجمعا في وسطهما فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين وذكر أن هذا يناسب تفسير المجمع بطنجة أو إفريقية إذ يراد بالمجمع متشعب بحر فارس والروم من المحيط وهو هناك وقيل بين اسم بمعنى الوصل وتعقب بأن فيه ركاكة إذ لا حسن في قولك مجمع وصلهما وقيل إن فيه مزيد تأكيد كقولهم جد جده وجوز أن يكون بمعنى الافتراق أي موضع اجتماع افتراق البحرين أي البحرين المفترقين والظاهر أن ضمير التثنية على الاحتمالين للبحرين
وقال الخفاجي يحتمل على احتمال أن يكون بمعنى الافتراق عوده لموسى والخضر عليهما السلام أي وصلا إلى موضع وعد اجتماع شملهما فيه وكذا إذا كان بمعنى الوصل انتهى وفيه ما لا يخفى ومجمع على سائر الاحتمالات اسم مكان واحتمال المصدرية هنا مثله فيما تقدم نسيا حوتهما الذي جعل فقدنانه أمارة وجدان المطلوب فقد صح أن الله تعالى حين قال لموسى عليه السلام إن لي بمجمع البحرين من هو أعلم قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فاخذ حوتا وجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه حتى إذا أتيا صخرة وكانت عند مجمع البحرين وضعا رؤسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر والظاهر نسبة النسيان اليهما جميعا وإليه ذهب الجمهور والكلام على تقدير مضاف أي نسيا حال حوتهما إلا أن الحال الذي نسيه كل منهما مختلف فالحال الذي نسيه موسى عليه السلام كونه باقيا في المكتل أو مفقودا والحال الذي نسيه يوشع عليه السلام ما رأى من حياته ووقوعه في البحر وهذا قول بأن يوشع شاهد حياته وفيه خبر صحيح ففي حديث رواه الشيخان وغيرهما أن الله تعالى قال لموسى خذ نونا ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح فأخذ ذلك فجعله في مكتل فقال لفتاه لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال ما كلفت كثيرا فبينما هما في ظل صخرة إذا اضطرب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره
وفي حديث رواه مسلم وغيره أن الله تعالى قال له آية ذلك أن تزود حوتا مالحا فهو حيث تفقده ففعل حتى إذا انتهيا إلى الصخرة انطلق موسى يطلب ووضع فتاه الحوت على الصخرة فاضطرب ودخل البحر فقال فتاه إذا جاء نبي الله تعالى حدثته فأنساه الشيطان وزعم بعض أن الناسي هو الفتى لا غير نسي أن يخبر موسى عليه السلام بأمر الحوت ووجه نسبة النسيان إليهما بأن الشيء قد ينسب إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحدا منهم وما ذكر هنا نظير نسي القوم زادهم إذا نسي متعهد أمرهم وقيل الكلام على حذف مضاف أي نسي أحدهما والمراد به الفتى وهو كما ترى وسبب حياة هذا الحوت على ما في بعض الروايات عن ابن عباس أنه كان عند الصخرة ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقاربه ميت إلا حي فأصاب شيء منه الحوت فحيي وروي أن يوشع عليه السلام توضأ من ذلك الماء فانتضح شيء منه على الحوت فعاش وقيل إنه لم يصبه سوى روح الماء وبرده فعاش باذن الله تعالى وذكر هذا الماء وأنه ما أصاب منه شيء إلا حي
(15/314)
وأن الحوت أصاب منه جاء في صحيح البخاري فيما يتعلق بسورة الكهف أيضا لكن ليس فيه أنه من شرب منه خلد كما في بعض الروايات السابقة ويشكل على هذا البعض أنه روي أن يوشع شرب منه أيضا مع أنه لم يخلد اللهم إلا أن يقال إن هذا لا يصح والله تعالى أعلم ثم إن هذا الحوت كان على ما سمعت فيما مر مالحا وفي رواية مشويا وفي بعض أنه كان في جملة ما تزوداه وكانا يصيبان منه عند العشاء والغداء فاحياه الله تعالى وقد أكلا نصفه فاتخذ سبيله في البحر سربا مسلكا كالسرب وهو النفق فقد صح من حديث الشيخين والترمذي والنسائي وغيرهم أن الله تعالى أمسك عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق والمراد به البناء المقوس كالقنطرة
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن الحبر جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة وهذا وكذا ما سبق من الأمور الخارقة للعادة التي يظهرها سبحانه على من شاء من أنبيائه وأوليائه ونقل الدميري بقاء أثر الخارق الأول قال قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي تزوده موسى وفتاه عليهما السلام وأكلا منه وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر واحد جنبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها ولها عين واحدة ورأسها نصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها وحسب أنها مأكولة ميتة ونصفها الآخر صحيح والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة انتهى
وقال أبو شجاع في كتاب الطبري أتيت به فرأيته فاذا هو شق حوت وليس له إلا عين واحدة وقال ابن عطية وأنا رأيته أيضا وعلى شقه قشرة رقيقة ليس تحتها شوكة وفيه مخالفة لما في كلام أبي حامد وأنا سألت كثيرا من راكبي البحار ومتتبعي عجائب الآثار فلم يذكروا أنهم رأوا ذلك ولا أهدي اليهم في مملكة من الممالك فلعل أمره إن صح كل من الاثبات والنفي صار اليوم كالعنقاء كانت فعدمت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
والفاء على ما يقتضيه كلامهم فصيحة أي فحي وسقط في البحر فاتخذ وقدر بعضهم المعطوف عليه الذي تفصح عنه الفاء بالواو على خلاف المألوف ليدفع به الاعتراض على كون الحال الذي نسيه يوشع ما رأى من حياته ووقوعه في البحر بأن الفاء تؤذن بأن نسيانه عليه السلام كان قبل حياته ووقوعه في البحر واتخاذه سربا فلا يصح اعتبار ذلك في الحال المنسي وأجيب بأن المعتبر في الحال هو الحياة والوقوع في البحر أنفسهما من غير اعتبار أمر آخر والواقع بعدهما من حيث ترتب عليهما الاتخاذ المذكور فهما من حيث أنفسهما متقدمان على النسيان ومن حيث ترتب الاتخاذ متأخران وهما من هذه الحيثية معطوفان على نسيا بالفاء التعقيبية ولا يخفى أنه سيأتي في الجواب إن شاء الله تعالى ما يأبى هذا الجواب إلا أن يلتزم فيه خلاف المشهور بين الأصحاب فتدبر وانتصاب سربا على أنه مفعول ثان لاتخذ وفي البحر حال منه ولو تأخر كان صفة أو من السبيل ويجوز أن يتعلق باتخذ و في في جميع ذلك ظرفية
وربما يتوهم من كلام ابن زيد حيث قال إنما اتخذ سبيله في البر حتى وصل إلى البحر فعام على العادة أنها تعليلية مثلها في أن امرأة دخلت النار في هرة فكأنه قيل فاتخذ سبيله في البر سربا لأجل وصوله إلى البحر ووافقه في كون اتخاذ السرب في البر قوم وزعموا أنه صادف في طريقه في البر حجرا فنقبه ولا يخفى
(15/315)
أن القول بذلك خلاف ما ورد في الصحيح مما سمعت والآية لا تكاد تساعده وجوز أن يكون مفعولا اتخذ سبيله وفي البحر وسربا حال من السبيل وليس بذاك وقيل حال من فاعل اتخذ وهو بمعنى التصرف والجولان من قولهم فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء ومنه قوله تعالى وسارب بالنهار وهو في تأويل الوصف أي اتخذ ذلك في البحر متصرفا ولا يخفى أنه نظير سابقه
فلما جاوزوا أي ما فيه المقصد من مجمع البحرين صح أنهما انطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد وارتفع النهار أحس موسى عليه السلام بالجوع فعند ذلك قال لفتيه ءاتنا غداءنا وهو الطعام الذي يؤكل أول النهار والمراد به الحوت على ما ينبيء عنه ظاهر الجواب وقيل سارا ليلتهما إلى الغد فقال ذلك
لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا 26 أي تعبا وإعياء و هذا إشارة إلى سفرهم الذي هم ملتبسون به ولكن باعتبار بعض أجزائه فقد صح أنه قال : لم يجد موسى شيئا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به وذكر أنه يفهم من الفحوى والتخصيص بالذكر أنه لم ينصب في سائر أسفاره والحكمة في حصول الجوع والتعب له حين جاوز أن يطلب الغداء فيذكر الحوت فيرجع إلى حيث يجتمع بمراده وعن أبي بكر غالب بن عطية والدأبي عبد الحق المفسر قال : سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه : مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام ولما مشي إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم والجملة في محل التعليل للأمربإيتاء الغداء إما باعتبار أن النصب إنما يعتري بسبب الضعف الناشيء عن الجوع وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير نصبا بضمتين قال صاحب اللوامح : وهي إحدى اللغات الأربع في هذه الكلمة قال أي فتاه والاستئناف بياني كأنه قيل فما صنع الفتى حين قال له موسى عليه السلام ما قال فقيل قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة أي التجأنا إليها وأقمنا عندها وجاء في بعض الروايات الصحيحة أن موسى عليه السلام حين قال لفتاه : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال : قد قطع الله عنك النصب وعلى هذا فيحتمل أنه بعد أن قال ذلك قال أرأيت إلخ قال شيخ الإسلام : وذكروا الإواء إلى الصخرة مع أن المذكور فيما سبق بلوغ مجمع البحرين لزيادة تعيين محل الحادثة فإن المجمع محل متسع لا يمكن تحقيق المراد بنسبة الحادثة إليه ولتمهيد العذر فإن الإواء إليه والنوم عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة انتهى
وهذا الأخير إنما يتم على بعض الروايات من أنهما ناما عند الصخرة وذكر أن هذه الصخرة قريبة من نهر الزيت وهو نهر معين عنده كثير من شجر الزيتون و أرأيت قيل بمعنى أخبرني وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت كذلك فلا بد لها من أمرين كون الإسم المستخبر عنه معها ولزوم الجملة التي بعدها وهما مفقودان هنا ونقل هو وناظر الجيش في شرح التسهيل عن أبي الحسن الأخفش أنه يرى أن أرأيت إذا لم يرى بعدها منصوب ولا استفهام بل جملة مصدرة بالفاء كما هنا مخرجة عن بابها ومضمنة المعنى أو تنبه فالفاء جوابها لا جواب إذ لأنها لا تجازي إلا مقرونة بما لا خلاف فالمعنى إما أو تنبه إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وقال شيخ الإسلام : الرؤية مستعارة للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملة ومراده بالاستفهام مجيب موسى عليه السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى وقد
(15/316)
جعل فقدانه علامة لوجدان المطلوب وهذا أسلوب معتاد بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب : أرأيت ما نابني يريد بذلك تهويله وتعجيب صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعه لا استخباره عن ذلك كما قيل والمفعول محذوف اعتمادا على ما يدل عليه من قوله فإني الخ وفيه تأكيد للتعجيب وتربية لاستعظام المنسي ا ه وفيه من القصور ما فيه والزمخشري جعله استخبارا فقال : إن يوشع عليه السلام لما طلب منه موسى عليه السلام الغداء ذكر ما رأى من الحوت وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل عن سبب ذلك كأنه قال : أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فحذف ذلك ا ه وفيه إشارة إلى أن مفعول أرأيت محذوف وهو إما الجملة الاستفهامية إن كانت ما في دهاني للاستفهام وإما نفس ما إن كانت موصولة وإلى أن إذ ظرف متعلق بدهاني وهو سبب لما بعد الفاء في فإني وهي سببية ونظير ذلك قوله تعالى وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم فإن التقدير وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون الخ وهو قول بأن أرأيت بمعنى أخبرني وقد سمعت ما قيل عليه وفي تقديره أيضا على الاحتمال الثاني ما في حذف الموصول مع جزء الصلة بناء على أن فإني نسيت من تتمتها وعلى العلات ليس المراد من الاستخبار حقيقته بل تهويل الأمر أيضا ثم لا يخفى إن رأى إن كانت بصرية أو بمعنى عرف احتاجت إلى مفعول واحد والتقدير عند بعض المحققين أأبصرت أو أعرفت حالي إذ أوينا وفيه تقليل للحذف ولا يخفى حسنه وإن كانت علمية احتاجت إلى مفعولين وعلى هذا قال أبو حيان : يمكن أن تكون مما حذف منه المفعولان اختصارا والتقدير أرأيت أمرنا إذ أوينا ما عاقبته وإيقاع النسيان على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بايتائه قيل للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نسيان زاده في المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوال المتعلقة بالغداء من حيث هو غداء وطعام بل من حيث هو حوت كسائر الحيتان مع زيادة وقيل للتصريح بما في فقده إدخال السرور على موسى عليه السلام مع حصول الجواب فقد تقدم رواية أنه قال له : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ثم الظاهر أن النسيان على حقيقته وهو ليس متعلقا بذات الحوت بل بذكره
وجوز أن يكون مجازا عن الفقد فيكون متعلقا بنفس الحوت والأكثرون على الأول أي نسيت أن أذكر لك أمر الحوت ما شاهدت من عجيب أمره وما أنسانيه إلا الشيطان لعله شغله بوساوس في الأهل ومفارقة الوطن فكان ذلك سببا للنسيان بتقدير العزيز العليم وإلا فتلك الحال مما لا تنسى وقال بعضهم : إن يوشع كان قد شاهد من موسى عليه السلام المعجزات القاهرات كثيرا فلم يبق لهذه المعجزة وقع عظيم لا يؤثر معه الوسوسة فنسي وقال الإمام : إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله تعالى عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيها لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله تعالى وحفظه على القلب والخاطر وأنت تعلم أنه لو جعل الله تعالى المشاهد الناسي هو موسى عليه السلام كان أتم في التنبيه وقد يقال : إنه أنسى تأديبا له بناء على ما تقدم من أن موسى عليه السلام لما قال له : لا أكلفك الخ قال له ما كلفت كثيرا حيث استسهل الأمر ولم يظهر الالتجاء فيه إلى الله تعالى بأن يقول : أخبرك إن شاء الله تعالى وفيه عتاب لموسى عليه السلام حيث اعتمد عليه في العلم لذهاب الحوت فلم يحصل له حتى نصب ثم أن هذه الوسوسة لا تضر بمقام يوشع عليه السلام وإن قلنا أنه كان نبيا وقت وقوع هذه القصة
(15/317)
وقال بعض المحققين : لعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما اعتراه من مشاهدة الآيات الباهرة وإنما نسبه إلى الشيطان مع أن فاعله الحقيقي هو الله تعالى والمجازي هو الاستغراق لمذكور هضما لنفسه بجعل ذلك الاستغراق والانجذاب لشغله عن التيقظ للموعد الذي ضربه الله تعالى بمنزلة لوساوس ففيه تجوز باستعارة الشيطان لمطلق الشاغل وفي الحديث إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بإحداهما عن الآخر يعد من نقصان صاحبها وتركه المجاهدات والتصفية فيكون قد تجوز بذلك عن النقصان لكونه سببه وضم حفص الهاء في أنسانيه وهو قيل في مثل هذا التركيب قلة النسيان في مثل هذه الواقعة والجمهور على الكسر وأمال الكسائي فتحة السين
وقوله تعالى أن أذكره بدل اشتمال الهاء أي ما أنساني ذكره لك إلا الشيطان قيل وفي تعليق الفعل بضمير الحوت أو لا وبذكره له ثانيا على طريق الإبدال المنبيء عن تنحيته المبدل منه إشارة إلى أن متعلق النسيان ليس نفس الحوت بل ذكر أمره
وفي مصحف عبد الله وقراءته أن أذكركه وفي إيثار أن والفعل على المصدر نوع مبالغة لا تخفى
واتخذ سبيله في البحر عجبا 36 الظاهر الذي عليه أكثر المفسرين أن مجموعة كلام يوشع وهو تتمة لقوله فإني نسيت الحوت وفيه أنباء عن طرف آخر من أمره وما بينهما اعتراض قدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه قيل حي واضطراب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا فسبيله مفعول أول لاتخذ و في البحر حال منه و عجبا مفعول ثان وفي ذكر السبيل ثم إضافته إلى ضمير الحوت ثم جعل الظرف حالا من المضاف تنبيه إجمالي على أن المفعول الثاني من جنس الأمور الغريبة وفي تشويق المفعول الثاني وتكرير مفيد للتأكيد المناسب للمقام فهذا التركيب في إفادة المراد أو في لحق البلاغة من أن يقال واتخذ في البحر سبيلا عجبا وجوز أن يكون في البحر حالا من عجبا وأن يكون متعلقا باتخذ وأن يكون المفعول الثاني له و عجبا صفة مصدر محذوف أي اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه كالطاق والسرب وجوز أيضا على اهتمال كون الظرف مفعولا ثانيا أن ينصب عجبا بفعل منه مضمر أي أعجب عجبا وهو من كلام يوشع عليه السلام أيضا تعجب من أمر الحوت بعد أن أخبر عنه وقيل إن كلام يوشع عليه السلام قد تم عند البحر وقول أعجب عجبا كلام موسى عليه السلام كأنه قيل : وقال موسى : أعجب عجبا من تلك الحال التي أخبرت بها وأنت تعلم أنه لو كان كذلك لجيء بالجملة الآتية بالواو العاطفة على هذا المقدر وقيل : يحتمل أن يكون المجموع من كلامه عز و جل وحينئذ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون إخبارا منه تعالى عن الحوت بأنه اتخذ سبيله في البحر عجبا للناس وثانيهما أن يكون إخبارا منه سبحانه عن موسى عليه السلام بأنه اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا يتعجب منه و عجبا على هذا مفعول ثان ولا ركاكة في تأخير قال الآتي عنه على هذا لأنه استئناف لبيان ما صدر منه عليه السلام بعد ويؤيد كونه من كلام يوشع عليه السلام قراءة أبي حيوة واتخاذ بالنصب على أنه معطوف على المنصوب في أذكره قال أي موسى عليه السلام ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت ما كنا نبغ أي الذي كنا نطلبه من حيث أنه أمارة للفوز
(15/318)
بما هو المطلوب بالذات وقريء نبغ بغير ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع وأما الوقف فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لرسم المصحف وأثبتها في الحالين ابن كثير فارتدا أي رجعا على ءاثارهما الأولى والمراد طريقهما الذي جاءا منه قصصا 46 أي يقصانه قصصا أي يتبعانها اتباعا فهو من قص أثره إذا اتبعه كما هو الظاهر ونصبه على أنه مفعول لفعل مقدر من لفظه وجوز أن يكون حالا مؤولا بالوصف أي مقتصين حتى آتيا الصخرة التي فقد الحوت عندها
فوجدا عبدا من عبادنا الجمهور على أنه الخضر بفتح الخاء وقد تكسر وكسر الضاد وقد تسكن وقيل اليسع وقيل إلياس وقيل ملك من الملائكة وهو قول غريب باطل كما في شرح مسلم والحق الذي تشهد له الأخبار الصحيحة هو الأول والخضر لقبه ولقب به كما أخرج البخاري وغيره عن رسول الله لأنه جلس على فروة بيضاءفإذا هي تهتز من خلفه خضراء
وأخرج ابن عساكر وغيره عن مجاهد أنه لقب بذلك لأنه إذا صلى اخضر ما حوله وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أن ذلك لأنه كان إذا جلس في مكان اخضر ما حوله وكانت ثيابه خضرا وأخرج عن السدي أنه إذا قام بمكان نبت العشب تحت رجليه حتى يغطي قدميه وقيل لإشرافه وحسنه والصواب كما قال النووي الأول وكنيته أبو العباس واسمه بليا بموحدة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتية وفي آخره ألف قيل ممدودة وقيل إبليا بزيادة همزة في أوله وقيل عامر وقيل أحمد ووهاه ابن دحية بأنه لم يسم قبل نبينا أحد من الأمم السالفة بأحمد وزعم بعضهم أن اسم الخضر اليسع وأنه إنما سمي بذلك لأن علمه وسع ست سموات وست أرضين ووهاه ابن الجوزي وأنت تعلم أنه باطل لا واه ومثله القول بأن اسمه إلياس واختلفوا في أبيه فأخرج الدارقطني في الأفراد وابن عساكر من طريق مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه ابن آدم لصلبه وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أن أمه رومية وأباه فارسي ولم يذكر اسمه وذكر أن إلياس أخوه من هذه الأم وهذا الأب وأخرج أيضا عن أسباط عن السدي أنه ابن ملك من الملوك وكان منقطعا في عبادة الله تعالى وأحب أبوه أن يزوجه فأبى ثم أجاب فزوجه بامرأة بكر فلم يقربها سنة ثم بثيب فلم يقربها ثم فر فطلبه فلم يقدر عليه ثم تزوجت امرأته الأولى وكانت قد آمنت وهي ماشطة امرأة فرعون ولم يذكر أيضا اسم أبيه وقيل أنه ابن فرعون على ما قيل أنه أبوه وسبحان من يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وأخرج أبو الشيخ في العظمة وأبو نعيم في الحلية عن كعب الأحبار أنه ابن عاميل وأنه ركب في نفر من أصحابه حتى بلغ بحر الهند وهو بحر الصين فقال : يا أصحابي دلوني فدلوه في البحر أياما وليالي ثم صعد فقال : استقبلني ملك فقال لي أيها الآدمي الخطاءإلى أين ومن أين فقلت : أردت أن أنظر عمق هذا البحر فقال لي : كيف وقد أهوى رجل من زمان داود عليه السلام ولم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة وذلك ثلثمائة سنة وأظنك لا تشك بكذب هذا الخبر وإن قيل حدث عن البحر ولا حرج وقيل هو ابن العيص وقيل هو ابن كليان بكاف مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتية بعدها ألف ونون وقال ابن قتيبة في المعارف : قال وهب بن منبه أنه ابن ملكان بفتح الميم وإسكان اللام ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن ارفخشذ
(15/319)
ابن سام بن نوح عليه السلام ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال بيد أن صنيع النووي عليه الرحمة في شرح مسلم يشعر باختيار أنه بليا بن ملكا وهو الذي عليه الجمهور والله تعالى أعلم
وصح من حديث البخاري وغيره أنهما رجعا إلى الصخرة وإذا رجل مسجي بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه الآخر تحت رأسه وفي صحيح مسلم فأتيا جزيرة فوجدا الخضر قائما يصلي على طنفسة خضراء على كبد البحر وقال الثعلبي : انتهيا إليه وهو نائم طنفسة خضراء على وجه الماء وهو مسجى بثوب أخضر وقيل إن سبيل الحوت عاد حجرا فلما جاء إليه مشيا عليه حتى وصلا جزيرة فيها الخضر وصح أنهما لما انتهيا إليه سلم موسى فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام فقال : أنا موسى فقال : موسى بن إسرائيل قال : نعم وروي أنه لما سلم عليه وهو مسجى عرفه أنه موسى فرفع رأسه فاستوى جالسا وقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال موسى : وما أدراك بي ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل فقال : الذي أدراك بي ودلك علي ثم قال : يا موسى أما يكفيك أن التوراة بيدك وأن الوحي يأتيك قال موسى : إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك والتنوين في عبدا للتفخيم والإضافة في عبادنا للتشريف والاختصاص أي عبدا جليل الشأن ممن اختص بنا وشرف بالإضافة إلينا
ءاتيناه رحمة من عندنا قيل المراد بها الرزق الحلال والعيش الرغد وقيل العزلة عن الناس وعدم الاحتياج إليهم وقيل طول الحياة مع سلامة البنية والجمهور على أنها الوحي والنبوة وقد أطلقت على ذلك في مواضع من القرآن وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس وهذا قول من يقول بنبوته عليه السلام وفيه أقوال ثلاثة فالجمهور على أنه عليه السلام نبي وليس برسول وقيل هو رسول وقيل هو ولي وعليه القشيري وجماعة والمنصور ما عليه الجمهور وشواهده من الآيات والأخبار كثيرة وبمجموعها يكاد يحصل اليقين وكما وقع الخلاف في نبوته وقع الخلاف في حياته اليوم فذهب جمع إلى أنه ليس بحي اليوم وسئل البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام هل هما حيان فقال : كيف يكون هذا وقد قال النبي أي قبل وفاته بقليل لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد والذي في صحيح مسلم عن جابر قال : قال رسول الله قبل موته ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية وهذا أبعد عن التأويل وسئل عن ذلك غيره من الأئمة فقرأ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد وسئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال : لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي ويجاهد بين يديه ويتعلم منه وقد قال النبي يوم بدر اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فكانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين كان الخضر حينئذ
وسئل إبراهيم الحربي عن بقائه فقال : من أحال على غائب لم يتصف منه وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان
ونقل في البحر عن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي القول بموته أيضا ونقله ابن الجوزي عن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما أيضا وكذا عن إبراهيم بن إسحق الحربي وقال أيضا : كان أبو الحسين بن المنادي يقبح قول من يقول إنه حي
وحكى القاضي أبو يعلي موته عن بعض أصحاب محمد وكيف يعقل وجود الخضر ولا يصلي مع رسول الله الجمعة والجماعة ولا يشهد معه الجهاد مع قوله عليه الصلاة و السلام والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني وقوله عز و جل وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول
(15/320)
مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين وثبوت أن عيسى عليه السلام إذ نزل إلى الأرض يصلي خلف إمام هذه الأمة ولا يتقدم عليه في مبدأ الأمر وما أبعد فهم من يثبت وجود الخضر عليه السلام وينسى ما في طي إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة ثم قال : وعندنا من المعقول وجوه على عدم حياته أحدها أن النبي قال بحياته قال : إنه ابن آدم عليه السلام لصلبه وهذا فاسد لوجهين الأول أنه يلزم أن يكون عمره اليوم ستة آلاف سنة أو أكثر ومثل هذا بعيد في العادات في حق البشر والثاني أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من أولاده كما زعموا أنه وزير ذي القرنين لكان مهول الخلقة مفرط الطول والعرض ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن رسول الله أنه قال : خلق آدم طوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده وما ذكر أحد ممن يزعم رؤية الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة وهو من أقدم الناس والوجه الثاني أنه لو كان الخضر قبل نوح عليه السلام لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد
الثالث أن العلماء اتفقوا على أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة مات ومن معه ولم يبق غير نسله ودليل ذلك قوله سبحانه وجعلنا ذريته هم الباقين الرابع أنه لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لكان ذلك من أعظم الآيات والعجائب وكان خبره في القرآن مذكورا في مواضع لأنه من آيات الربوبية وقد ذكر سبحانه عز و جل من استحياه ألف سنة إلا خمسين عاما وجعله آية فكيف لا يذكر جل وعلا من استحياه أضعاف ذلك الخامس أن القول بحياة الخضر قول على الله تعالى بغير علم وهو حرام بنص القرآن أما المقدمة الثانية فظاهرة وأما الأولى فلأن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهذا كتاب الله تعالى فأين فيه حياة الخضر وهذه سنة رسوله فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه وهؤلاء علماء الأمة فمتى أجمعوا على حياته السادس إن غاية ما يتمسك به في حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر فيالله تعالى العجب هل للخضر علامة يعرفه بها من رآه وكثير من زاعمي رؤيته يغتر بقوله أنا الخضر ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله تعالى فمن أين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب السابع أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه وقال هذا فراق بيني وبينك فكيف يرضى لنفسه بمفارقة مثل موسى عليه السلام ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم وكل منهم يقول : قال لي الخضر جاءني الخضر أوصاني الخضر فياعجبا له يفارق الكليم ويدور على صحبة جاهل لا يصحبه إلا شيطان رجيم سبحانك هذا بهتان عظيم
الثامن أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر لو قال : سمعت رسول الله يقول : كذا وكذا لم يلتفت إلى قوله ولم يحتج به في الدين ولا مخلص للقائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول : إنه لم يأت إلى الرسول عليه الصلاة و السلام ولا بايعه أو يقول : إنه لم يرسل إليه وفي هذا من الكفر ما فيه التاسع أنه لو كان حيا لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل الله تعالى ومقامه في الصف ساعة وحضوره الجمعة والجماعة وإرشاد جهلة الأمة أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات إلى غير ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى ما له وما عليه وشاع الاستدلال بخبر لو كان الخضر حيا لزارني وهو كما قال الحفاظ خبر موضوع لا أصل له ولو صح لأغنى عن القيل والقال ولانقطع به الخصال والجدال وذهب جمهور العلماءإلى أنه حي
(15/321)
موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية قدست أسرارهم قاله النووي ونقل عن الثعلبي المفسر أن الخضر نبي معمر على جميع الأقوال محجوب عن أبصار أكثر الرجال وقال ابن الصلاح : هو حي اليوم عند جماهير العلماء والعامة معهم في ذلك وإنما ذهب إلى إنكار حياته بعض المحدثين واستدلوا على ذلك بأخبار كثيرة منها ما أخرجه الدارقطني في الأفراد وابن عساكر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال ومثله لا يقال من قبل الرأي ومنها ما أخرجه ابن عساكر عن ابن إسحق قال : حدثنا أصحابنا أن آدم عليه السلام لما حضره الموت جمع بنيه فقال : يا بني إن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذابا فليكن جسدي معكم في المغارة حتى إذا هبطتم فابعثوا بي وادفنوني بأرض الشام فكان جسده معهم فلما بعث الله تعالى نوحا ضم ذلك الجسد وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض فغرقت زمانا فجاء نوح حتى نزل بابل وأوصى بنيه الثلاثة أن يذهبوا بجسده إلى المغار الذي أمرهم أن يدفنوه به فقالوا : الأرض وحشة لا أنيس بها ولا نهتدي الطريق ولكن كف حتى يأمن الناس ويكثروا فقال لهم نوح : إن آدم قد دعا الله تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه فأنجز الله تعالى له ما وعده فهو يحيا إلى ما شاء الله تعالى له أن يحيا وفي هذا سبب طول بقائه وكأنه سبب بعيد وإلا فالمشهور فيه أنه شرب من عين الحياة حين دخل الظلمة مع ذي القرنين وكان على مقدمته ومنها ما أخرجه الخطيب وابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه قال : بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل متعلق بأستار الكعبة يقول : يا من لا يشغله سمع عن سمع ويا من لا تغلطه المسائل ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك قلت : يا عبد الله أعد الكلام قال : أسمعته قلت : نعم قال : والذي نفس الخضر بيده وكان هو الخضر لا يقولن عبد دبر الصلاة المكتوبة إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج وعدد المطر وورق الشجر
ومنها ما نقله الثعلبي عن ابن عباس قال : قال علي كرم الله تعالى وجهه وإن رسول الله لما توفي وأخذنا في جهازه خرج الناس وخلا الموضع فلما وضعته على المغتسل إذا بهاتف يهتف من زاوية البيت بأعلى صوته لا تغسلوا محمدا فإنه طاهر طهر فوقع في قلبي شيء من ذلك وقلت ويلك من أنت فإن النبي بهذا أمرنا وهذه سنته وإذا بهاتف آخر يتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته غسلوا محمدا فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون حسد محمدا أن يدخل قبره مغسولا فقلت : جزاك الله تعالى خيرا قد أخبرتني بأن ذلك إبليس فمن أنت قال : أنا الخضر حضرت جنازة محمد ومنها ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن جابر قال : لما توفي رسول الله واجتمع الصحابة دخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى الصحابة فقال : إن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت وخلفا من كل هالك فإلى الله تعالى فأنيبوا وإليه تعالى فارغبوا ونظره سبحانه إليكم في البلاء فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر فقال أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما : هذا الخضر عليه السلام ومنها ما أخرجه ابن عساكر أن إلياس والخضر يصومان شهر رمضان في بيت المقدس ويحجان في كل سنة ويشربان من زمزم شربا تكفيهما إلى مثلها من قابل ومنها ما أخرجه ابن عساكر أيضا والعقيلي والدارقطني في الأفراد عن ابن عباس عن النبي قال : يلتقي الخضر وإلياس كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هذه الكلمات باسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله
(15/322)
ومنها ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن المنكدر قال : بينما عمر بن الخطاب يصلي على جنازة إذا بهاتف يهتف من خلفه لا تسبقنا بالصلاة يرحمك الله تعالى فانتظره حتى حق بالصف الأول فكبر عمر وكبر الناس معه فقال الهاتف : إن تعذبه فكثيرا عصاك وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك فنظر عمر إلى الرجل فلما دفن الميت وسوي عليه التراب قال : طوبى لك يا صاحب القبر إن لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا فقال عمر : خذوا لي الرجل نسأله عن صلاته وكلامه هذا عمن هو فتوارى عنهم فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع فقال عمر : هذا والله الذي حدثنا عنه النبي والاستدلال بهذا مبني على أنه عنى بالمحدث عنه الخضر عليه السلام إلى غير ذلك وكثير مما ذكرنا وإن لم يدل على أنه حي اليوم بل يدل على أنه كان حيا في زمنه ولا يلزم من حياته إذ ذاك حياته اليوم إلا أنه يكفي في رد الخصم إذ هو ينفي حياته إذ ذاك كما ينفي حياته اليوم نعم إذا كان عندنا من يثبتها إذذاك وينفيها الآن لم ينفع ما ذكر معه لكن ليس عندنا من هو كذلك وحكايات الصالحين من التابعين والصوفية في الاجتماع به والأخذ عنه في سائر الأعصار أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر نعم أجمع المحدثون والقائلون بحياته عليه السلام على أنه ليس له رواية عن النبي كما صرح به العراقي في تخريج أحاديث الأحياء وهذا خلاف ما عند الصوفية فقد ادعى الشيخ علاء الدين استفادة الأحاديث النبوية عنه بلا واسطة
وذكر السهروردي في السر المكتوم أن الخضر عليه السلام حدثنا بثلثمائة حديث سمعه من النبي شفاها واستدل بعض الذاهبين إلى حياته الآن بالاستصحاب فإنه قد تحققت من قبل بالدليل فتبقى على ذلك إلى أن يقوم الدليل على خلافها ولم يقم وأجابوا عما استدل به الخصم مما تقدم فأجابوا عما ذكره البخاري من الحديث الذي لا يوجب نفي حياته في زمانه وإنما يوجب لظاهره نفيها بعد مائة سنة من زمان القول بأنه لم يكن حينئذ على ظهر الأرض بل كان على وجه الماء وبأن الحديث عام فيما يشاهده الناس بدليل استثناء الملائكة عليهم السلام وإخراج الشيطان وحاصله انخرام القرن الأول نعم هو نص في الرد على مدعي التعمير كرتن بن عبد الله الهندي التبريزي الذي ظهر في القرن السابع وادعى الصحبة وروى الأحاديث وفيه أن الظاهر ممن على ظهر الأرض من هو من أهل الأرض ومتوطن فيها عرفا ولا شك أن هذا شامل لمن كان في البحر ولو لم يعد من في البحر ممن هو على ظهر الأرض لم يكن الحديث نصا في الرد على رتن وإضرابه لجواز أن يكونوا حين القول في البحر بل متى قبل هذا التأويل خرج كثير من الناس من عموم الحديث وضعف العموم في قوله تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة ولينظر في قول من قال : يحتمل أنه كان وقت القول في الهواء ففيه أيضا مالا يخفى على الناظر ويرد على الجواب الثاني أن الخضر لو كان موجودا لكان ممن يشاهده الناس كما هو الأمر المعتاد في البشر وكونه عليه السلام خارجا عن ذلك لا يثبت إلا بدليل وأنى هو فتأمل وأجابوا عما قاله الشيخ ابن تيمية بأن وجود الأتيان ممنوع فكم من مؤمن به في زمانه لم يأته عليه الصلاة و السلام فهذا خير التابعين أويس القرني رضي الله تعالى عنه لم يتيسر له الإتيان والمرافقة في الجهاد ولا التعلم من غير واسطة وكذا النجاشي رضي الله تعالى عنه على أن نقول : إن الخضر عليه السلام كان يأتيه ويتعلم منه لكن على وجه الخفاء لعدم كونه مأمورا بإتيان العلانية لحكمة
(15/323)
إلهية اقتضت ذلك وأما الحضور في الجهاد مفقد روى ابن بشكوال في كتاب المستغيثين بالله تعالى عن عبد الله بن المبارك أنه قال : كنت في غزوة فوقع فرسي ميتا فرأيت رجلا حسن الوجه طيب الرائحة قال : أتحب أن تركب فرسك قلت : نعم فوضع يده على جهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره وقال : أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله وبعظمة عظمة الله وبجلال جلال الله وبقدرة قدرة الله وبسلطان سلطان الله وبلا إله إلا الله وبما جرى به القلم من عند الله وبلا حول ولا قوة إلا بالله إلا انصرفت فوثب الفرس قائما بإذن الله تعالى وأخذ الرجل بركابي وقال : اركب فركبت ولحقت بأصحابي فلما كان من غداة غد وظهرنا على العدو فإذا هو بين أيدينا فقلت : ألست صاحبي بالأمس قال : بلا فقلت : سألتك بالله تعالى من أنت فوثب قائما فاهتزت الأرض تحته خضراء فقال : أنا الخضر فهذا صريح في أنه قد يحضر بعض المعارك وأما قوله اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فمعناه لا تعبد على وجه الظهور والغلبة وقوة الأمة وإلا فكم من مؤمن كان بالمدينة وغيرها ولم يحضر بدرا ولا يخفى أن نظم الخضر عليه السلام في سلك أويس القرني والنجاشي وأضرابهما ممن لم يمكنه الإتيان إليه بعيد عن الإنصاف وإن لم نقل بوجوب الاتيان عليه عليه السلام وكيف يقول منصف بإمامته لجميع الأنبياء واقتداء جميعهم به ليلة المعراج ولا يرى لزوم الاتيان على الخضر عليه السلام والاجتماع معه مع أنه لا مانع له من ذلك بحسب الظاهر ومتى زعم أحد أن نسبته إلى نبينا كنسبته إلى موسى عليه السلام فليجدد إسلامه ودعوى إسلامه أنه كان يأتي ويتعلم خفية لعدم أمره بذلك علانية لحكمة إلهية مما لم يقم عليها الدليل على أنه لو كان كذلك لذكره ولو مرة وأين الدليل على الذكر وأيضا لا تظهر الحكمة في منعه عن الاتيان مرة أو مرتين على نحو إتيان جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلب رضي الله عنه وإن قيل إن هذه الدعوة مجرد احتمال قيل لا يلتفت إلى مثله إلا عند الضرورة ولا تتحقق إلا بعد تحقق وجوده إذ ذاك بالدليل ووجوده كوجوده عندنا وأما ما روي عن ابن المبارك فلا نسلم ثبوته عنه وأنت إذا أمعنت النظر في ألفاظ القصة استبعدت صحتها ومن أنصف يعلم أن حبره عليه السلام يوم قال النبي لسعد رضي الله تعالى عنه : إرم فداك أبي وأمي كان أهم من حضوره مع ابن المبارك واحتمال أنه حضر ولم يره أحد شبه شيء بالسفسطة وأما ما ذكروه في معنى الحديث فبقائل أن يقول : إنه بعيد فمن الظاهر منه نفي أن يعبد سبحانه إن أهلك تلك العصابة مطلقا على معنى أنهم إن أهلكوا والإسلام غض ارتد الباقون ولم يكد يؤمن أحد بعد فلا يعبده سبحانه أحد من البشر في الأرض حينئذ وقد لا يوسط حديث الارتداد بأن يكون المعنى اللهم إن تهلك هذه العصابة الذين هم تاج رأس الإسلام استولى الكفار على سائر المسلمين بعدهم فأهلكوهم فلا يعبدك أحد من البشر وأيا ما كان فالاستدلال بالحديث على عدم وجود الخضر عليه السلام له وجه فإن أجابوا عنه بأن المراد نفي أن يشاهده من يعبده تعالى بعد والخضر عليه السلام لا يشاهد ورد عليه ما تقدم وأجابوا عن الاستدلال بقوله تعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد بأن المراد من الخلد الدوام الأبدي والقائلون بوجوده اليوم لا يقولون بتأبيده بل منهم من يقول : إنه يقاتل الدجال ويموت ومنهم من يقول : إنه يموت زمان رفع القرآن ومنهم من يقول : إنه يموت في آخر الزمان ومراده أحد هذين الأمرين أو ما يقاربهما
وتعقب بأن الخلد بمعنى الخلود وهو على ما يقتضيه ظاهر قوله تعالى خالدين فيها أبدا حقيقة في
(15/324)
طول المكث لا في دوام البقاء فإن الظاهر التأسيس لا التأكيد وقد قال الراغب : كل ما يتباطأ عنه التغير والفساد تصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوامها وبقائها انتهى
وأنت تعلم قوة الجواب لأن المكث الطويل ثبت لبعض البشر كنوح عليه السلام وأجابوا عما نقل عن ابن الجوزي من الوجوه العقلية أما عن الأول من وجهي فساد القول بأنه ابن آدم عليه السلام بعد تسليم صحة الرواية فبأن البعد العادي لا يضر القائل بتعميره هذه المدة المديدة لأن ذلك عنده من خرق العادات وأما على الثاني فبأن ما ذكر من عظم خلقة المتقدمين خارج مخرج الغالب وإلا فمأجوج ومأجوج من صلب يافث بن نوح وفيهم من طوله قدر شبر كما روي في الآثار على أنه لا بدع في أن يكون الخضر عليه السلام قد أعطى قوة التشكل والتصور بأي صورة شاء كجبريل عليه السلام وقد أثبت الصوفية قدست أسرارهم هذه القوة للأولياء ولهم في ذلك حكايات مشهورة وأنت تعلم أن ما ذكر عن يأجوج ومأجوج من أن فيهم من طوله قدر شبر بعد تسليمه لقائل أن يقول فيه : إن ذلك حين يفتح السد وهو في آخر الزمان ولا يتم الاستناد بحالهم إلا إذا ثبت أن فيهم من هو كذلك في الزمن القديم وما ذكر من إعطائه من قوة التشكل احتمال بعيد وفي ثبوته للأولياء خلاف كثير من المحدثين وقال بعض الناس : لو أعطي أحد من البشر هذه القوة لأعطيها يوم الهجرة فاستغنى بها عن الغار وجعلها حجابا له عن الكفار وللبحث في هذا مجال وعن الثاني من الوجوه بأنه لا يلزم من عدم نقل كونه في السفينة إن قلنا بأنه عليه السلام كان قبل نوح عليه السلام عدم وجوده لجواز أنه كان ولم ينقل مع أنه يحتمل أن يكون قد ركب ولم يشاهد وهذا كما نرى وقال بعض الناس : إذا كان احتمال إعطاء قوة التشكل قائما عند القائلين بالتعمير فليقولوا : يحتمل أنه عليه السلام قد تشكل فصار في غاية من الطول بحيث خاض في الماء ولم يحتج إلى الركوب في السفينة على نحو ما يزعمه أهل الخرافات في عوج بن عوق وأيضا هم يقولون : له قدرة الكون في الهواء فما منعهم من أن يقولوا بأنه يحتمل أنه لم يركب وتحفظ عن الماء بالهواء كما قالوا أنه كان في الهواء في الجواب عن حديث البخاري وأيضا ذكر بعضهم عن العلامي في تفسيره أن الخضر يدور في البحار يهدي من ضل فيها وإلياس يدور في الجبال يهدي من ضل فيها هذا دأبهما في النهار وفي الليل يجتمعان عند سد يأجوج ومأجوج يحفظانه فلما لم يقولوا : إنه عليه السلام بقي في البحر حين ركب غيره السفينة ولعلهم إنما لم يقولوا ذلك لأن ما ذكر قد روي قريبا منه الحرث بن أبي أسامة في مسنده عن أنس مرفوعا ولفظه إن الخضر في البحر وإلياس في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين الخبر وقد قالوا : إن سنده واه أو لأنهم لا يثبتون له هذه الخدمة الإلهية في ذلك الوقت ويوشك أن يقولوا في إعطائه قوة التشكل والكون في الهواء كذلك وعن الثالث بأنه لا نسلم الاتفاق على أنه مات كل أهل السفينة ولم يبق بعد الخروج منها غير نسل نوح عليه السلام والخضر في الآية إضافي بالنسبة إلى المكذبين بنوح عليه السلام وأيضا المراد أنه مات كل من كان ظاهرا مشاهدا غير نسله عليه السلام بدليل أن الشيطان كان أيضا في السفينة وأيضا المراد من الآية بقاء ذريته عليه السلام على وجه التناسل وهو لاينفي بقاء من عداهم من غير تناسل ونحن ندعو ذلك في الخضر على أن القول بأنه كان قبل نوح عليهما السلام قول ضعيف والمعتمد كونه بعد ذلك ولا يخفى ما في بعض ما ذكر من الكلام
(15/325)
وعن الرابع بأنه لا يلزم من كون تعميره من أعظم الآيات أن يذكر في القرآن العظيم كرات وإنما ذكر سبحانه نوحا عليه السلام تسلية لنبينا بما لاقى من قومه في هذه المدة مع إبقائهم مصرين على الكفر حتى أغرقوا ولا توجد هذه الفائدة في ذكر عمر الخضر عليه السلام لو ذكر على أنه قد يقال : من ذكر طول عمر نوح عليه السلام تصريحا يفهم تجويز عمر أطول من ذلك تلويحا
وتعقب بأن لنا أن نعود فنقول : لا أقل من أن يذكر هذا الأمر العظيم في القرآن العظيم مرة لأنه من آيات الربوبية في النوع الانساني وليس المراد أنه يلزم عقلا من كونه كذلك ذكره بل ندعي أن ذكر ذلك أمر استحساني لا سيما وقد ذكر تعمير عدو الله تعالى إبليس عليه اللعنة فإذا ذكر يكون القرآن مشتملا على ذكر معمر من الجن مبعد وذكر معمر من الإنس مقرب ولا يخفى حسنه وربما يقال : إن فيه أيضا ادخال السرور على النبي وبأن التجويز المذكور في حيز العلاوة مما لا كلام فيه إنما الكلام في الوقوع ودون إثباته الظفر بماء الحياة وأجاب بعضهم بأن في قوله تعالى : آتيناه رحمة من عندنا إشارة إلى طول عمره عليه السلام على ما سمعت عن بعض في تفسيره ورد بأن تفسيره بذلك مبني على القول بالتعمير فإن قيل قبل وإلا فلا وعن الخامس بأنا نختار أنه ثابت بالسنة وقد تقدم لك طرف منها
وتعقب بما نقله عن القاريء عن ابن القيم الجوزية أنه قال : إن الأحاديث التي يذكر فيها الخضر عليه السلام وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد ومن ادعى الصحة فعليه البيان وقيل : يكفي في ثبوته إجماع المشايخ العظام وجماهير العلماء الأعلام وقد نقل هذا الإجماع ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الإجلة الفخام وتعقب بأن إجماع المشايخ غير مسلم فقد نقل الشيخ صدر الدين إسحق القونوي في تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي أن وجود الخضر عليه السلام في عالم المثال
وذهب عبد الرزاق الكاشي إلى أن الخضر عبارة عن البسط وإلياس عن القبض وذهب بعضهم إلى أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر الذي كان في زمان موسى عليهما السلام ومع وجود هذه الأقوال لا يتم الإجماع وكونها غير مقبولة عند المحققين منهم لا يتممه أيضا وإجماع جماهير العلماء على ما نقل ابن الصلاح والنووي مسلم لكنه ليس الإجماع الذي هو أحد الأدلة الشرعية والخصم لا يقنع إلا به وهو الذي نفاه فإني بإثباته ولعل الخصم لا يعتبر أيضا إجماع المشايخ قدست أسرارهم إجماعا هو أحد الأدلة وعن السادس بأن له علامات عند أهله ككون الأرض تخضر عند قدمه وأن طول قدمه ذراع وربما يظهر منه بعض خوارق العادات بما يشهد بصدقه على أن المؤمن يصدق بقوله بناء على حسن الظن به وقد شاع بين زاعمي رؤيته عليه السلام أن من علاماته أن إبهام يده اليمنى لا عظم فيه وأن بؤبؤ إحدى عينيه يتحرك كالزئبق وتعقب بأنه بأي دليل ثبت أن هذه علاماته قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
والذي ثبت في الحديث الصحيح أنه إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء وأين فيه ثبوت ذلك له دائما وكون طول قدمه ذراعا إنما جاء في خبر محمد بن المنكدر السابق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا نسلم صحته على أن زاعمي رؤيته يزعمون أنهم يرونه في صور مختلفة ولا يكاد يستقر له عليه السلام قدم على صورة واحدة وظهور الخوارق مشترك بينه وبين غيره من أولياء الأمة فيمكن أن يظهر ولي خارقا ويقول : أنا الخضر مجازا لأنه على قدمه أو لاعتبار آخر ويدعوه لذلك
(15/326)
داع شرعي وقد صح في حديث الهجرة أنه لما قيل له ممن القوم قال : من ما فظن السائل أن ما اسم قبيلة ولم يعن إلا أنهم خلقوا من ماء دافق وقد يقال للصوفي : إن أنا الخضر مع ظهور الخوارق لا تيقن منه أن القائل هو الخضر بالمعنى المتبادر في نفس الأمر لجواز أن يكون ذلك القائل ممن هو فإن فيه لاتحاد المشرب وكثيرا ما يقول الثاني في شيخه أنا فلان ويذكر اسم شيخه وأيضا متى وقع من بعضهم قول : أنا الحق وما في الجبة إلا الله لم يبعد أن يقع أنا الخضر وقد ثبت عن كثير منهم نظما ونثرا قول : أنا آدم أنا نوح أنا إبراهيم أنا موسى أنا عيسى أنا محمد إلى غير ذلك مما لا يخفى عليك وذكروا له محملا صحيحا عندهم فليكن قول : أنا الخضر ممن ليس بالخضر على هذا الطرز ومع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل اليقين وحسن الظن لا يحصل منه ذلك
وعن السابع بأنا لا نسلم اجتماعه بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة ولا يلتفت إلى قولهم فالكاذبون الدجالون يكذبون على الله تعالى وعلى رسوله فلا يبعد أن يكذبوا على الخضر عليه السلام ويقولوا قال وجاء إنما القول باجتماعه بأكابر الصوفية والعباد المحافظين على الحدود الشرعيه فإنه قد شاع اجتماعه بهم حتى أن منهم من طلب الخضر مرافقته فأبى وروي ذلك عن علي الخواص رحمة الله تعالى عليه في سفر حجه وسئل عن سبب إبائه فقال : خفت من النقص في توكلي حيث اعتمد على وجوده معي
وتعقب بأن اجتماعه بهم واجتماعهم به يحتمل أن يكون من قبيل ما يذكرونه من اجتماعهم بالنبي واجتماعه عليه الصلاة و السلام بهم وذلك أن الأرواح المقدسة قد تظهر متشكلة ويجتمع بها الكاملون من العباد وقد صح أنه رأى موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره ورآه في السماء ورآه يطوف بالبيت
وادعى الشيخ الأكبر قدس سره الاجتماع مع أكثر الأنبياء عليهم السلام لا سيما مع إدريس عليه السلام فقد ذكر أنه اجتمع به مرارا وأخذ منه علما كثيرا بل قد يجتمع بمن لم يولد بعد كالمهدي وقد ذكر الشيخ الأكبر أيضا اجتماعه معه وهذا ظاهر عند من يقول : إن الأزل والأبد نقطة واحدة والفرق بينهما بالاعتبار عند المتجردين عن جلابيب أبدانهم ولعل كثرة هذا الظهور والتشكل من خصوصيات الخضر عليه السلام ومع قيام هذا الاحتمال لا يحصل اليقين أيضا بأن الخضر المرئي في الخارج كوجود سائر الناس فيه كما لا يخفى
ومما يبني على اجتماعه عليه السلام بالكاملين من أهل الله تعالى بعض طرق إجازتنا بالصلاة البشيشية فإني أرويها من بعض الطرق عن شيخي علاء الدين علي أفندي الموصلي عن شيخه ووالده صلاح الدين يوسف أفندي الموصلي عن شيخه خاتمة المرشدين السيد على البندينجي عن نبي الله تعالى الخضر عليه السلام عن الوالي الكامل الشيخ عبد السلام بن بشيش قدس سره وعن الثامن بأنا لا نسلم أن القول بعدم إرساله إليه عليه السلام كفر وبفرض أنه ليس بكفر هو قول باطل إجماعا ونختار أنه أتى وبايع لكن باطنا حيث لا يشعر به أحد وقد عده جماعة من أرباب الأصول في الصحابة ولعل عدم قبول روايته لعدم القطع في وجوده وشهوده في حال رؤيته وهو كما ترى وعن التاسع بأنه مجازفة في الكلام فإنه من أين يعلم نفي ما ذكره من حضور الجهاد وغيره عن الخضر عليه السلام مع أن العالم بالعلم اللدني لا يكون مشتغلا إلا بما علمه الله تعالى في كل مكان وزمان بحسب ما يقتضي الأمر والشأن وتعقب بأن النفي مستند إلى عدم الدليل فنحن نقول به
(15/327)
إلى أن يقوم الدليل ولعله لا يقوم حتى يقوم الناس لرب العالمين وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في العلم اللدني والعالم به وبالجملة قد ظهر لك حال معظم أدلة الفريقين وبقي ما استدل به البعض من الاستصحاب
وأنت تعلم أنه حجة عند الشافعي والمزني وأبي بكر الصيرفي في كل شيء نفيا وإثباتا ثبت تحققه بدليل ثم وقع الشك في بقائه إن لم يقع ظن بعدمه وأما عندنا وكذا عند المتكلمين فهو من الحجج القاصرة التي لا تصلح للإثبالت وإنما تصلح للدفع بمعنى أن لا يثبت حكم وعدم الحكم مستند إلى عدم دليله والأصل في العدم الاستمرار حتى يظهر دليل الوجود فالمفقود يرث عنده لا عندنا لأن الإرث من باب الإثبات فلا يثبت به ولا يورث لأن عدم الإرث من باب الدفع فيثبت به ويتفرع على هذا الخلاف فروع أخر ليس هذا محل ذكرها وإذا كان حكم الاستصحاب عندنا ما ذكر فاستدلال الحنفي به على إثبات حياة الخضر عليه السلام اليوم وأنها متيقنة لا يخلو عن شيء بل استدلال الشافعي به على ذلك أيضا كذلك بناء على أن صحة الاستدلال به مشروط بعدم وقوع ظن بالعدم فإن العادة قاضية بعدم بقاء الآدمي تلك المدة المديدة والأحقاب العديدة وقد قيل : إن العادة دليل معتبر ولولا ذلك لم يؤثر خرق العادة بالمعجزة في وجوب الاعتقاد والاتباع فإن لم تفد يقينا بالعدم فيما نحن فيه أفادت الظن به فلا يتحقق شرط صحة الاستدلال وعلى هذا فالمعول عليه الخالص من شوب الكدر الاستدلال بأحد الأدلة الأربعة وقد علمت حال استدلالهم بالكتاب والسنة وما سموه إجماعا وأما الاستدلال بالقياس هنا فمما لا يقدم عليه عاقل فضلا عن فاضل ثم اعلم بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته عليه السلام أي مساعدة وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة ولا مقتضى للعدول عن ظواهر تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية والله تعالى أعلم بصحتها عن بعض الصالحين الأخيار وحسن الظن ببعض السادة الصوفية فإنهم قالوا بوجوده إلى آخر الزمان على وجه لا يقبل التأويل السابق ففي الباب الثالث والسبعين من الفتوحات المكية أعلم أن لله تعالى في كل نوع من المخلوقات خصائص وصفوة وأعلى الخواص فيه من العباد الرسل عليهم السلام ولهم مقام الرسالة والنبوة والولاية والإيمان فهم أركان بيت هذا النوع والرسول أفضلهم مقاما وأعلاهم حالا بمعنى أن المقام الذي أرسل منه أعلى منزلة عند الله تعالى من سائر المقامات وهم الأقطاب والأئمة والأوتاد الذين يحفظ الله تعالى بهم العالم ويصون بهم بيت الدين القائم بالأركان الأربعة الرسالة والنبوة والولاية والإيمان والرسالة هي الركن الجامع وهي المقصودة من هذا النوع فلا يخلو من أن يكون فيه رسول كما لايزال دين الله تعالى وذلك الرسول هو القطب الذي هو موضع نظر الحق وبه يبقى النوع في هذه الدار ولو كفر الجميع ولا يصح هذا الاسم على إنسان إلا أن يكون ذا جسم طبيعي وروح ويكون موجودا في هذا النوع في هذه الدار بجسده وروحه يتغذى وهو مجلى الحق من آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ولما توفي رسول الله بعد ما قرر الدين الذي لا ينسخ والشرع الذي لا يبدل ودخل الرسل كلهم عليهم السلام في ذلك الدين وكانت الأرض لا تخلو من رسول حسي بجسمه لأنه قطب العالم الإنساني وإن تعدد الرسل كان واحد منهم هو المقصود أبقى الله تعالى بعد وفاته عليه الصلاة و السلام من الرسل الأحياء بأجسادهم في هذه الدار أربعة إدريس وإلياس وعيسى والخضر عليهم السلام والثلاثة الأول متفق عليهم والأخير مختلف فيه عند غيرنا لا عندنا فأسكن
(15/328)
سبحانه إدريس في السماء الرابعة وهي وسائر السموات السبع من الدار الدنيا لأنها تتبدل في الدار الآخرة كما تتبدل هذه النشأة الترابية منا بنشأة أخرى وأبقى الآخرين في الأرض فهم كلهم باقون بأجسامهم في الدار الدنيا وكلهم الأوتاد وإثنان منهم الأمامان وواحد منهم القطب الذي هو موضع نظر الحق من العالم وهو ركن الحجر الأسود من أركان بيت الدين فما زال المرسلون ولا يزالون في هذه الدار إلى يوم القيامة وإن كانوا على شرع نبينا ولكن أكثر الناس لا يعلمون وبالواحد منهم يحفظ الله تعالى الإيمان وبالثاني الولاية وبالثالث النبوة وبالرابع الرسالة وبالمجموع الدين الحنيفي والقطب من هؤلاء لا يموت أبدا أي لا يصعق
وهذه المعرفة لا يعرفها من أهل طريقنا إلا الأفراد الأمناء ولكل واحد منهم هذه الأمة في كل زمان شخص على قلبه مع وجودهم ويقال لهم النواب وأكثر الأولياء من عامة أصحابنا لا يعرفون إلا أولئك النواب ولا يعرفون أولئك المرسلين ولذا يتطاول كل واحد من الأمة بنيل مقام القطبية والإمامية والوتدية فإذا خصوا بها عرفوا أنهم نواب عن أولئك المرسلين عليهم السلام ومن كرامة نبينا أن جعل من أمته وأتباعه رسلا وإن لم يرسلوا فهم من أهل هذا المقام الذي منه يرسلون وقد كانوا أرسلوا فلهذا صلى ليلة الإسراء بالأنبياء عليهم السلام لتصح له الإمامة على الجميع حيا بجسمانيته وجسمه فلما انتقل عليه الصلاة و السلام بقي الأمر محفوظا بهؤلاء الرسل عليهم السلام فثبت الدين قائما بحمد الله تعالى وإن ظهر الفساد في العالم إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها وهذه نكتة فاعرف قدرها فإنك لا تراها في كلام أحد غيرنا ولولا ما ألقي عندي من أظهارها ما أظهرتها لسر يعلمه الله تعالى ما أعلمنا به ولا يعرف ما ذكرناه إلا نوابهم دون غيرهم من الأولياء فاحمدوا الله تعالى يا إخواننا حيث جعلكم الله تعالى ممن قرع سمعه أسرار الله تعالى المخبوءة في خلقه التي اختص بها من شاء من عباده فكونوا لها قابلين وبها مؤمنين ولا تحرموا التصديق بها فتحرموا خيرها انتهى
وعلم منه القول برسالة الخضر عليه السلام وهو قول مرجوح عند جمهور العلماء والقول بحياته وبقائه إلى يوم القيامة وكذا بقاء عيسى عليه السلام والمشهور أنه بعد نزوله إلى الأرض يتزوج ويولد له ويتوفى ويدفن في الحجرة الشريفة مع رسول الله ولينظر ما وجه قوله قدس سره بإبقاء عيسى عليه السلام في الأرض وهو اليوم في السماء كإدريس عليه السلام ثم إنك اعتبرت مثل هذه الأقوال وتلقيتها بالقبول لمجرد جلالة قائلها وحسن الظن فيه فقل بحياة الخضر عليه السلام إلى يوم القيامة وإن لم تعتبر ذلك وجعلت الدليل وجودا وعدما مدارا للقبول والرد ولم تغرك جلالة القائل إذ كل أحد يؤخذ من قوله ويرد ما عدا رسول الله وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : لا تنظر إلى من قال وانظر ما قال فاستفت قلبك بعد الوقوف على أدلة الطرفين وما لها وما عليها ثم اعمل بما يفتيك
وأنا أرى كثيرا من الناس اليوم بل في كثير من الأعصار يسمون من يخالف الصوفية في أي أمر ذهبوا إليه منكرا ويعدونه سيء العقيدة ويعتقدون بمن يوافقهم ويؤمن بقولهم الخير وفي كلام الصوفية أيضا نحو هذا فقد نقل الشيخ الأكبر قدس سره في الباب السابق عن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال لأبي موسى الدبيلي : يا أبا موسى إذا رأيت من يؤمن بكلام أهل هذه الطريقة فقل له يدعو لك فإنه مجاب الدعوة وذكر أيضا أنه سمع
(15/329)
أبا عمران موسى بن عمران الأشبيلي يقول لأبي القاسم بن عفير الخطيب وقد أنكر ما يذكر أهل الطريقة يا أبا القاسم لا تفعل فإنك إن فعلت هذا جمعنا بين حرمانين لا ندري ذلك من نفوسنا ولا نؤمن به من غيرنا وما ثم دليل يرده ولا قادح يقدح فيه شرعا أو عقلا انتهى
ويفهم منه أن ما يرده الدليل الشرعي أو العقلي لا يقبل وهو الذي أذهب وبه أقول وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياك لكل ما هو مرضي لديه سبحانه ومقبول والتنوين في قوله تعالى : رحمة للتفخيم وكذا في قوله سبحانه : وعلمناه من لدنا علما 56 أي علما لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره وهو علم الغيوب وأسرار العلوم الخفية وذكر لدنا قيل لأن العلم من أخص صفاته تعالى الذاتية وقد قالوا : إن القدرة لا تتعلق بشيء ما لم تتعلق الإرادة وهي لا تتعلق ما لم يتعلق العلم فالشيء يعلم أو لا فيراد فتتعلق به القدرة فيوجد
وذكر أنه يفهم من فحوى من لدنا أو من تقديمه على علما اختصاص ذلك بالله تعالى كأنه قيل علما يختصر بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا وفي اختيار علمناه على آتيناه من الإشارة إلى تعظيم أمر هذا العلم ما فيه وهذا التعليم يحتمل أن يكون بواسطة الوحي المسموع بلسان الملك وهو القسم الأول من أقسام الوحي الظاهري كما وقع لنبينا في أخباره عن الغيب الذي أوحاه الله تعالى إليه في القرآن الكريم وأن يكون بواسطة الوحي الحاصل بإشارة الملك من غير بيان بالكلام وهو القسم الثاني من ذلك ويسمى بالنفث كما في حديث إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله تعالى وأجملوا في الطلب والإلهام على ما يشير إليه بعض عبارات القوم من هذا النوع ويثبتون له ملكا يسمونه ملك الإلهام ويكون للأنبياء عليهم السلام ولغيرهم بالإجماع ولهم في الوقوف على المغيبات طرق تتشعب من تزكية الباطن
والآية عندهم أصل في إثبات العلم اللدني وشاع إطلاق علم الحقيقة والعلم الباطن عليه ولم يرتضي بعضهم هذا الإطلاق وقال العارف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة في كتابه المسمى بالدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما لفظه : وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بمن علم تكلم بما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخي فلان يدق على فهمه : فقال : لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بالعلم الباطن وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من العلم الظاهر لأنه ظهر للخلق فأعلم ذلك انتهى
والحق أن إطلاق العلم الباطن اصطلاحا على ما وقفوا عليه صحيح لا مشاحة في الاصطلاح ووجهه أنه غير ظاهر على أكثر الناس ويتوقف حصوله على القوة القدسية دون المقدمات الفكرية وإن كان كل علم يتصف بكونه باطنا وكونه ظاهرا بالنسبة للجاهل به والعالم به وهذا كإطلاق العلم الغريب على علم الأوفاق والطلسمات والجفر وذلك لقلق وجوده والعارفين به فاعرف ذلك وزعم بعضهم أن أحكام العلم الباطن وعلم الحقيقة مخالفة لأحكام الظاهر وعلم الشريعة وهو زعم باطل عاطل وخيال فاسد كاسد وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل نصوص القوم فيما يرده وإنه لا مستند لهم في قصة موسى والخضر عليهما السلام
(15/330)
وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو لدنا بتخفيف النون وهي إحدى اللغات في لدن قال له موسى استئناف مبني على سؤال نشأ من السياق كأنه قيل فما جرى بينهما من الكلام فقيل : قال له موسى عليه السلام هل أتبعك على أن تعلمن استئذان منه عليه السلام في اتباعه له بشرط التعليم ويفهم ذلك من على فقد قال الأصوليون إن على قد تستعمل في معنى يفهم منه كون ما بعدها شرطا لما قبلها كقوله تعالى يبايعنك على أن لا يشركن أي بشرط عدم الاشراك وكونها للشرط بمنزلة الحقيقة عند الفقهاء كما في التلويح لأنها في أصل الوضع للإلزام وجزاء لازم للشرط ويلوح بهذا أيضا كلام الفناري في بدائع الأصول وهو ظاهر في أنها ليست حقيقة في الشرط وذكر السرخسي أنه معنى حقيقي لها لكن النحاة لم يتعرضوا له وقد تردد السبكي في وروده في كلام العرب والحق أنه استعمال صحيح يشهد به كتاب حقيقة كان أو مجازا ولا ينافي إنفهام الشرطية تعلق الحرف بالفعل الذي قبله كما قالوا فيما ذكرنا من الآية كما أنه لا ينافيه تعلقه بمحذوف يقع حالا كما قيل به هنا فيكون المعنى هل أتبعك باذلا تعليمك إياي مما علمت رشدا 66 أي علما ذا رشد وهو إصابة الخير وقرأ أبو عمرو والحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي رشدا بفتحتين وأكثروا السبعة بالضم والسكون وهما لغتان كالبخل والبخل ونصبه في الأصل على أنه صفة للمفعول الثاني لتعلمني ووصف به للمبالغة لكن أقيم مقامه بعد حذفه والمفعول الثاني لعلمت الضمير العائد على ما الموصولة أي من الذي علمته والفعلان مأخوذان من علم المتعدي إلى مفعول واحد وجوز أن يكون مما علمت هو المفعول الثاني لتعلمني و رشدا بدل منه وهو خلاف الظاهر وأن يكون رشدا مفعولا له لأتبعك أي هل أتبعك لأصل إصابة الخير فيتعين أن يكون المفعول الثاني لتعلمني مما علمت لتأويله ببعض ما علمت أو علما مما علمت وأن يكون مصدرا بإضمار فعله أي أرشد رشدا والجملة استئنافية والمفعول الثاني مما علمت أيضا واستشكل طلبه عليه السلام التعليم بأنه رسول من أولي العزم فكيف يتعلم من غيره والرسول لابد أن يكون أعلم أهل زمانه ومن هنا قال نوف وأضرابه : إن موسى هذا ليس هو ابن عمران وإن كان ظاهر إطلاقه يقتضي أن يكون إياه وأجيب بأن اللازم في الرسول أن يكون أعلم في العقائد ما يتعلق بشريعته لامطلقا ولذا قال نبينا أنتم أعلم بأمور دنياكم فلا يضر في منصبه أن يتعلم علوم غيبية وأسرارا خفية لا تعلق لها بذلك من غيره لاسيما إذا كان ذلك الغير نبيا أو رسولا أيضا كما قيل في الخضر عليه السلام ونضير ما ذكر من وجه تعلم عالم مجتهد كأبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما علم الجفر مثلا ممن دونه فإنه لا يخل بمقامه وإنكار ذلك مكابرا
ولا يرد على هذا أن علم الغيب ليس علمنا ذا رشد أي إصابة خير وموسى عليه السلام كان بصدد تعلم علم يصيب به خيرا لقوله تعالى قل لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء وقال بعضهم : اللازم كون الرسول أعلم من أمته والخضر عليه السلام نبي لم يرسل إليه ولا هو مأمور باتباع شريعته فلا ينكر تفرده بما لم يعلمه غيره ولا يخفى أنه على هذا ليس الخضر عليه السلام من بني إسرائيل لأن الظاهر إرسال موسى عليه السلام إليهم جميعا كذا قيل ثم إن الذي أميل إليه أن لموسى عليه السلام علما بعلم الحقيقة المسمى بالعلم الباطن والعلم اللدني إلا أن الخضر أعلم به منه وللخضر عليه السلام سواء كان نبيا أو رسولا
(15/331)
علما بعلم الشريعة المسمى بعلم الظاهر إلا أن موسى عليه السلام أعلم به منه فكل منهما أعلم من صاحبه من وجه ونعت الخضر عليه السلام في الأحاديث السابقة بأنه أعلم من موسى عليه السلام ليس على معنى أنه أعلم منه من كل وجه بل على معنى أنه من بعض الوجوه وفي بعض العلوم لكن لما كان الكلام خارجا مخرج العتب والتأديب أخرج على وجه ظاهره العموم ونضير هذا آيات الوعيد على ما قيل أنها من أنها مقيدة بالمشيئة لكنها لم تذكر لمزيد الإرهاب وأفعل التفضيل وإن كان للزيادة في حقيقة الفعل إلا أن ذلك على وجه يعم الزيادة في فرد منه ويدل على ذلك صحة التقييد بقسم الخاص كما تقول زيد أعلم من عمرو في الطب وعمرو أعلم منه في الفلاحة ولو كان معناه الزيادة في مطلق العلم كان قولك زيد أعلم من عمرو مستلزما لأن لا يكون عمرو أعلم منه في شيء من العلوم فلا يصح تفضيل عمرو عليه في علم الفلاحة وإنكار صدق الأعلم المطلق مع صدق المقيد التزام لصدق المقيد بدون المطلق وقد جاء إطلاق افعل التفضيل والمراد منه التفضيل من وجه على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب في أمالي القرآن ضمن عداد الأوجه في حل الإشكال المشهور في قوله تعالى : وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها من أن المراد إلا هي أكبر من أختها من وجه ثم قال : وقد يكون الشيئان كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه وقد أشبع الكلام في هذا المقام مولانا جلال الدين الدواني فيما كتبه على الشرح الجديد للتجريد وحققه بما لا مزيد عليه ومما يدل على أن لموسى عليه السلام علما ليس عند الخضر عليه السلام ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وةالنسائي من حديث ابن عباس مرفوعا أن الخضر عليه السلام قال يا موسى إني على علم من علم الله تعالى علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله تعالى علمك الله سبحانه لا أعلمه وأنت تعلم أنه لو لم يكن قوله تعالى لموسى عليه السلام المذكور في الأحاديث السابقة إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك على معنى أعلم في بعض العلوم بل كان على معنى أعلم في كل العلوم أشكل الجمع بينه وبين ما ذكرنا من كلام الخضر عليه السلام ثم على ما ذكرنا ينبغي أن يراد من العلم الذي ذكر الخضر أن يعلمه هو ولا يعلمه موسى عليهما السلام بعض علم الحقيقة ومن العلم الذي ذكر أنه يعلمه موسى ولا يعلمه هو عليهما السلام بعض علم الشريعة فلكل من موسى والخضر عليهما السلام علم بالشريعة والحقيقة إلا أن موسى عليه السلام أزيد بعلم الشريعة والخضر عليه السلام أزيد بعلم الحقيقة ولكن نظرا للحالة الحاضرة كما ستعلم وجهه إن شاء الله تعالى وعدم علم كل ببعض ما عند صاحبه لا يضر بمقامه وينبغي أن يحمل قول من قال كالجلال السيوطي ما جمعت الحقيقة والشريعة إلا لنبينا ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما على معنى أنها ما جمعت على الوجه الأكمل إلا له ولم يكن للأنبياء عليهم السلام على ذلك الوجه إلا أحدهما والحمل على أنهما لن يجمعا على وجه الأمر بالتبليغ إلا لنبينا فإنه عليه الصلاة و السلام مأمور بتبليغ الحقيقة كما هو مأمور بتبليغ الشريعة لكن للمستعدين لذلك لا يخلو عن شيء ويفهم من كلام بعض الأكابر أن علم الحقيقة من علوم الولاية وحينئذ لا بد أن يكون لكل نبي حظ منه ولا يلزم التساوي في علومها
ففي الجواهر والدرر قلت للخواص عليه الرحمة : هل يتفاضل الرسل في العلم فقال : العلم تابع للرسالة فإنه ليس عند كل رسول من العلم إلا بقدر ما تحتاج إليه أمته فقط فقلت له : هذا من حيث كونهم رسلا فهل حالهم من حيث كونهم أولياء كذلك فقال : لا قد يكون لأحدهم من علوم الولاية ما هو أكثر من علوم ولاية أولي العزم من الرسل الذين هم أعلى منهم انتهى وأنا أرى أن ما يحصل لهم من علم الحقيقة بناء على القول بأنه من علوم الولاية أكثر مما يحصل للأولياء الذين ليسوا بأنبياء ولا تراني أفضل وليا ليس بنبي في علم الحقيقة على ولي
(15/332)
هو نبي ولا أقول بولاية الخضر عليه السلام دون نبوته وقائلو ذلك يلزمهم ظاهرا القول بأن ما عنده من علم الحقيقة مع كونه وليا أكثر مما عند موسى عليه السلام منه إن أثبتوا له عليه السلام شيئا من ذلك مع كونه نبيا ولكنهم لا يرون في ذلك حطا لقدر موسى عليه السلام وظاهر كلام بعضهم أنه عليه السلام لم يؤت شيئا من علم الحقيقة أصلا ومع هذا لا ينحط قدره عن قدر الخضر عليهما السلام إذ له جهات فضل أخر وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يقوله الذاهبون إلى ولايته عليه السلام
ثم ما أراه أنا ولله تعالى الحمد أبعد عن القول بما نقل عن بعض الصوفية من أن الولاية مطلقا أفضل من النبوة وإن كان الولي لا يبلغ درجة النبي وهو مردود عند المحققين بلا تردد نعم قد يقع تردد في نبوة النبي وولايته أيهما أفضل فمن قائل بأن نبوته أفضل من ولايته ومن قائل بأن ولايته أفضل
واختار هذا بعض العرفاء معللا له بأن نبوة التشريع متعلقة بمصلحة الوقت والولاية لا تعلق لها بوقت دون وقت وهي في النبي على غاية الكمال والمختار عندي الأول وقد ضل الكرامية في هذا المقام فزعموا أن الولي قد يبلغ درجة النبي بل أعلى ورده ظاهر والاستدلال له بما في هذه القصة بناء على القول بولاية الخضر عليه السلام ليس بشيء كما لا يخفى
هذا ولا يخفى على من له أدنى ذوق بأساليب الكلام ما راعاه موسى عليه السلام في سوق كلامه على علو مقامه من غاية التواضع مع الخضر عليه السلام ونهاية الأدب واللطف وقد عد الإمام من ذلك أنوعا كثيرة أوصلها إلى اثنى عشر نوعا إن أردتها فارجع إلى تفسيره وسيأتي إن شاء الله عز و جل ما تدل عليه هذه الآية في سرد ما تدل عليه آيات القصة بأسرها مما ذكر في كتب الحديث وغيرها
قال أي الخضر لموسى عليهما السلام إنك لن تستطيع معي صبرا 76 نفي لأن يصبر معه على أبلغ وجه حيث جيء بأن المفيدة للتأكيد وبلن ونفيها آكد من نفي غيرها وعدل عن لن تصبر إلى لن تستطيع المفيد لنفي الصبر بطريق برهاني لأن الاستطاعة مما يتوقف عليه الفعل فيلزم من نفيه من نفيه ونكر صبرا في سياق النفي وذلك يفيد العموم اي لا تصبر معي أصلا شيئا من الصبر وعلل ذلك بقوله : وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا 86 إيذانا بأنه عليه السلام يتولى أمورا خفية المراد منكرة الظواهر والرجل الصالح لا سيما صاحب الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وكأنه علم مع ذلك حدة موسى عليه السلام ومزيد غيرته التي أوصلته إلى أن أخذ برأس أخيه يجره ونصب خبرا على التمييز المحول عن الفاعل والأصل ما لم يحط به خبرك وهو من خبر الثلاثي من باب نصر وعلم ومعناه عرف وجوز أن يكون مصدرا وناصبه تحط لأنه يلاقيه في المعنى لأن الإحاطة تطلق إطلاقا شائعا على المعرفة فكأنه قيل لم تخبره خبرا وقرأ الحسن وابن هرمز خبرا بضم الباء واستدلوا بالآية كما قال الإمام وغيره على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل قالوا : لو كانت الاستطاعة حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل حصول الصبر فيكون نفيها كذبا وهو باطل فتعين أن لا تكون قبل الفعل وأجاب الجبائي بأن المراد من هذا القول أنه يثقل عليك الصبر كما يقال في العرف إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك وتعقبه الإمام بأنه عدول عن الظاهر وأيد الاستدلال بما أيد والإنصاف
(15/333)
أن الاستدلال بها على ما ذكر غير ظاهر لأن المراد ليس إلا نفي الصبر بنفي ما يتوقف هو عليه أعني الاستطاعة وهذا حاصل سواء كانت حاصلة قبل أو مقارنة ثم أن القول بأن الاستطاعة قبل الفعل ليس خاصا بالمعتزلة بل المفهوم من كلام الشيخ ابراهيم الكوراني أنه مذهب السلف أيضا وتحقيق ذلك في محله قال موسى عليه السلام ستجدني إن شاء الله صابرا معك غير معترض عليك ولا أعصي لك أمرا 96 عطف على صابرا والفعل يعطف على المفرد المشتق كما في قوله تعالى صافات ويقبضن بتأويل أحدهما بالآخر والأولى فيما نحن فيه التأويل في جانب المعطوف أي ستجدني صابرا وغير عاص وفي وعد هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان أو على ستجدني والجملة على الأول في محل نصب لأنها معطوفة على المفعول الثاني للوجدان وعلى الثاني لا محل لها من الإعراب على ما في الكشاف واستشكل بأن الظاهر أن محلها النصب أيضا لتقدم القول وأجيب بأن مقول القول هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه فلايكون لأجزائه محل باعتبار الأصل وقيل : مراد الزمخشري بيان حال العطف في القول المحكي عن موسى عليه السلام وقيل : مراده أنه ليس مؤولا بمفرد كما في الأول وقيل : إنه مبني على أن مقول القول محذوف وهذه الجملة مفسرة له والظاهر الجواب الأول وأول الوجهين في العطف هو الأولى لما عرفت ولظهور تعلق المعطوف بالاستثناء عليه وذكر المشيئة إن كان للتعليق فلا إشكال في عدم تحقق ما وعد به
ولا يقال : إنه عليه السلام أخلف وعده وإن كان للتيمن فإن قلنا : إن الوعد كالوعيد إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب أو أن مقيد بقيد يعلم بقرينة المقام كأن أردت أو إن لم يمنع ما نع شرعي أو غيره فكذلك لا إشكال وإن قلنا : إنه خبر وإنه ليس على نية التقييد جاء الاشكال ظاهرا فإن الخلف حينئذ كذب وهو غير لائق بمقام النبوة لمنافاته العصمة وأجيب بأن ما صدر منه عليه السلام في المرتين الأخيرتين كانا نسيانا كما في المرة الأولى ولا يضر مثل هذا الخلف بمقام النبوة لأن النسيان عذر وتعقب بأنه لا نسلم النسيان في المرتين الأخيرتين ففي البخاري وشرحه لابن حجر وكانت الأولى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا وفي رواية والثانية عمدا والثالثة فراقا وقال بعضهم : لك أن تقول : لم يقع منه عليه السلام ما يخل بمقامه لأن الخلف في المرة الأولى معفو عنه وحيث وقع لم تكن الأخيرتان خلفا وفيه تأمل وقال القشيري : إن موسى عليه السلام وعد من نفسه بشيئين بالصبر وقرنه بالمشيئة فصبر فيما كان من الخضر عليه السلام من الفعل وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالمشيئة فعصاه حيث قال : فلا تسألني فكان يسأله فما قرنه بالاستثناء لم يخلف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى وهو مبني على أن العطف على ستجدني وقد علمت أنه خلاف الأولى وأيضا المراد بالصبر الثبات والاقرار على الفعل وعدم الاعتراض كما ينبيء عنه المحاورة الآتية وهو لم يتحقق منه عليه السلام وأيضا يبقى الكلام في الخلف كما لا يخفى وأنت تعلم أنه يبعد من حال موسى عليه السلام القطع بالصبر وعدم عصيان الأمر بعد أن أشار له الخضر عليه السلام أنه سيصدر منه أمور منكرة مخالفة لقضية شريعته فلا يبعد منه اعتبار التعليق في الجملتين ولم يأت به بعدهما بل وسطه بين مفعولي الوجدان من الجملة الأولى لمزيد الاعتناء بشأنه وبه يرتفع الإشكال من غير احتياج إلى القيل والقال وفيه دليل على أن أفعال العبد بمشيئته تعالى لأنه إذا صدر بعض الأفعال الاختيارية بمشيئته سبحانه لزم صدور الكل بها إذ لا قائل بالفرقوالمعتزلة
(15/334)
اختاروا أن ذكر المشيئة للتيمن وهو لا يدل على ما ذكر وقال بعض المحققين : إن الإستدلال جاز أيضا على احتمال التيمن لأنه لا وجه للتيمن بما لا حقيقة له وقد أشار إلى ذلك الإمام أيضا فافهم وقد استدل بالآية على أن الأمر للوجوب وفيه نظر ثم إن الظاهر أنه لم يرد بالأمر مقابل النهي أريد مطلقا لطلب وحاصل الآية نفي أن يعصيه في كل ما يطلبه قال الخضر عليه السلام فإن اتبعتني أذن له عليه السلام في الاتباع بعد اللتيا والتي والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من وعد موسى عليه السلام بالصبر والطاعة : فلا تسألني عن شيء تشاهده من أفعالي فضلا عن المناقشة والإعراض حتى أحدث لك منه ذكرا 07 أي حتى ابتدئك بيانه والغاية على ما قيل مضروبه لما يفهم منه الكلام كأنه قيل أنكر بقلبك على ما أفعل حتى أبينه لك أو هي لتأبيد ترك السؤال فإنه لا ينبغي السؤال بعد البيان بالطريق الأولى وعلى الوجهين فيها إيذان بأن كل ما يصدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة وقيل : حتى للتعليل وليس بشيء
وقرأ نافع وابن عامر فلا تسئلني بالنون المثقلة مع الهمز وعن أبي جعفر فلا تسلني بفتح السين واللام والنون المثقلة من غير همز وكل القراء كما قال أبو بكر بياء في آخره وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حذف الياء خلاف غريب فانطلقا أي موسى والخضر عليهما السلام ولم يضم يوشع عليه السلام لأنه في حكم التبع وقيل رده موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول وفي رواية أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن أهل السفينة ظنوا أنهم لصوص لأن المكان كان مخوفا فأبوا أن يحملوهم فقال كبيرهم : إني أرى رجالا على وجوههم النور لأحملنهم حتى إذا ركبا في السفينة أل فيها لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة وكانت على ما في بعض الروايات سفينة جديدة وثيقة لم يمر بها من السفن سفينة أحسن منها ولا أجمل ولا أوثق وكانت أيضا على ما يدل عليه بعض الروايات الصحيحة من سفن صغيرة يحمل بها أهل هذا الساحل إلى الساحل الآخر وفي رواية أبي حاتم أنها كانت ذاهبة إلى أيلة وصح أنهما حين ركبا جاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر وهو جار مجرى التمثيل واستعمال الركوب في أمثال هذه المواقع في مع تجريده عنها في مثل قوله تعالى لتركبوها وزينة على ما يقتضيه تعديته بنفسه قد مرت الإشارة إلى وجهه في قوله تعالى وقال اركبوا فيها وقيل إن ذلك لإرادة معنى الدخول كأنه قيل حتى إذا دخلا في السفينة خرقها صح أنهما لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواحها بالقدوم فقال له موسى عليه السلام : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها وصح أيضا أنه عليه السلام خرقها ووتد فيها وتدا وقيل قلع لوحين مما يلي الماء وفي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا أنهما لما ركبا واطمئنا فيها ولججت بهما مع أهلها أخرج مثقابا له ومطرقة ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ثم جلس عليها يرقعها وهذه الرواية ظاهرة في أن خرقه
(15/335)
إياها كان حين وصولها إلى لج البحر وهو معظم مائه وفي الرواية عن الربيع أن أهل السفينة حملوا فساروا حتى إذا شارفوا على الأرض خرقها ويمكن الجمع بأن أول العزم كان وهي في اللج وتمام الفعل كان وقد شارفت على الأرض وظاهر الأخبار يقتضي أنه عليه السلام خرقها وأهلها فيها وهو ظاهر قوله تعالى قال موسى أخرقتها لتغرق أهلها سواء كانت اللام للعاقبة بناء على أن موسى عليه السلام حسن الظن بالخضر أو للتعليل بناء على أنه الأنسب بمقام الإنكار وبعضهم لم يجوز هذا توهما منه أن فيه سوء أدب وليس كذلك بل يوشك أن يتعين كونها للتعليل لأن الظاهر بناء الجواب عليه كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى وفي حديث أخرجه عبد بن حميد ومسلم وابن مردويه قال : فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة فخرج من كان فيها وتخلف ليخرقها فقال موسى : تخرقها لتغرق أهلها فقال له الخضر ما قص الله تعالى
وهذا ظاهر في أنه عزم على الحرق فاعترض عليه موسى عليه السلام وهو خلاف ما تقتضيه الآية فإن أول بأنه بتقدير وتخلف ليخرقها فخرقها وأن تعبير موسى عليه السلام بالمضارع استحضارا للصورة أو قيل بأنه وقع من الخضر عليه السلام أولا تصميم على الخرق وتهيئة لأسبابه وثانيا خرق بالفعل ووقع من موسى عليه السلام اعتراض على الأول أولا وعلى الثاني ثانيا فنقل في الحديث أول ما وقع من كل في هذه المادة وفي الآية ثاني ما وقع من كل فيها بقي بين ظاهر الحديث وظاهر الآية مخالفة أيضا على ما قيل من حيث أن الأول يقتضي أن أهل السفينة لم يكونوا فيها إذ خرقت والثاني يقتضي أنهم كانوا فيها حينئذ وأجيب بأنه ليس في الحديث أكثر من أنهم خرجوا منها وتخلف للخرق وليس فيه أنهم خرجوا فخرقها فيمكن أن يكون عليه السلام تخلف للخرق إذ خرجوا لكنه لم يفعله إلا بعد رجوعهم إليها وحصولهم فيها وأنت تعلم أنه ينافي هذا ما قيل في وجه الجمع بين الرواية عن سعيد والرواية عن الربيع وبالجملة بين الأخبار الثلاثة وبينها وبين الآية صعب وقال بعضهم في ذلك : إنه يحتمل أن السفينة لما لججت بهم صادفوا جزيرة في اللج فخرجوا لبعض حوائجهم وتخلف الخضر عازما على الخرق ومعه موسى عليه السلام فأحس منه ذلك فعجل بالإعتراض ثم رجع أهلها وركبوا فيها والعزم هو العزم فأخذ عليه السلام في مباشرة ما عزم عليه ولم يشعر موسى عليه السلام حتى تم وقد شارفت على الأرض ولا يخفى ما في ذلك من البعد وذكر بعضهم أن ظاهر الآية يقتضي أن خرقه إياها وقع عقب الركوب لأن الجزاء يعقب الشرط وأجيب بأن ذلك ليس بلازم وإنما اللازم تسبب الجزاء عن الشرط ووقوعه بعده ألا تراك تقول : إذا خرج زيد عن السلطان قتله وإذا أعطيت السلطان قصيدة أعطاك جائزة مع أنه كثيرا ما لا يعقب القتل الخروج والإعطاء الإعطاء وقد صرح ابن الحاجب بأنه لا يلزم وقوع الشرط والجزاء في زمان واحد فيقال : إذا جئتني اليوم أكرمك غدا وعلى ذلك قوله تعالى : أئذا ما مت لسوف أخرج حيا ومن التزم ذلك كالرضى جعل الزمان المدلول عليه بإذا ممتدا وقدر في الآية المذكورة أئذا ما مت وصرت رميما وعليه أيضا لا يلزم التعقيب نعم قال بعضهم : إن خبر لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواحها يدل على تغقيب الخرق للركوب وأيضا جعل غاية انطلاقهما مضمون الجملة الشرطية يقتضي ذلك إذ لو كان الخرق متراخيا على الركوب لم يكن غاية الانطلاق مضمون الجملة لعدم انتهائه به وأجيب بأن المبادرة التي دل عليها الخبر عرفته بمعنى أنه لم تمض أيام ونحوه وبأنه لا مانع
(15/336)
من كون الغاية أمرا ممتدا ويكون انتهاء المغيابا بابتدائه كقولك : ملك فلان حتى كانت سنة كذا ملكه فتأمل
ثم إن في القلب من صحة رواية الربيع شيئا والله تعالى أعلم بصحتها والظاهر أن أهل السفينة لم يروه لما باشر خرقها وإلا لما مكنوه وقد نص على ذلك القاري وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية من طريق حماد بن زيد عن شعيب بن الحبحاب أنه قال : كان الخضر عبدا لا تراه إلا عين من أراد الله تعالى أن يريه إياه فلم يره من القوم إلا موسى عليه السلام ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وكذا بينه وبين قتل الغلام وليس هذا بالمرفوع والله تعالى أعلم بصحته نعم سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا عن الربيع أيضا أنهم علموا بعد ذلك أنه الفاعل والظاهر أيضا أن موسى عليه السلام لم يرد إدراج نفسه الشريفة في قوله لتغرق أهلها وإن كان صالحا لئن يدرج فيه بناء على أن المراد من أهلها الراكبين فيها
وقرأ الحسن وأبو رجاء لتغرق بالتشديد لتكثير المفعول وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني ليغرق أهلها على اسناد الفعل إلى الأهل وكون اللام على هذه القراءة للعاقبة ظاهر جدا لقد جئت أتيت وفعلت شيئا إمرا 17 أي داهيا منكرا من أمر الأمر بمعنى كثر قاله الكسائي فأصله كثير والعرب كما قال ابن جني في سر الصناعة تصف الدواهي بالكثرة وهو عند بعضهم في الأصل على وزن كبد فخفف قيل ولم يقل أمرا إمرا مع ما فيه من التجنيس لأنه تكلف لا يلتفت إلى مثله في الكلام البليغ كما صرح به الإمام المرزوقي في شرح قول السموأل : يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول ردا لاختيار بعضهم رواية يقصر حب الموت وأيد ذلك بقول أبي ذؤيب الهذلي
وشيك الفصول بعيد القفول
حيث أمكن له أن يقول بطيء القفول ولم يقل وربما يقال هنا إنه لم يقل ذلك لما ذكر مع إيهامه خلاف المراد وقصوره عن درجة ما في النظم الجليل من زيادة التفضيع وفي الرواية عن الربيع أن موسى عليه السلام لما رأى من الخضر ما رأى امتلأ غضبا وشد عليه ثيابه وأراد أن يقذف الخضر عليه السلام في البحر فقال أردت هلاكهم فستعلم أنك أول هالك وجعل كلما ازداد غضبا استعر البحر وكلما سكن كان البحر كالدهن وأن يوشع بن نون قال له : ألا تذكر العهد والميثاق الذي جعلت على نفسك وأن الخضر عليه السلام أقبل عليه يذكره ما قاله من قبل قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا 27 وهو متضمن للإنكار على عدم وقوع الصبر منه عليه السلام فأدركه عند ذلك الحلم قال لا تؤاخذني بما نسيت اعتذار بنسيان الوصية على أبلغ وجه وكأن نسيانه أمر محقق عند الخضر عليه السلام لا يحتاج أن يفيده استقلالا وأينما يلتمس منه ترك المؤاخذة به فما مصدرية والباء صلة المؤاخذة أي لا تؤاخذ بنسيان وصيتك في ترك السؤال عن شيء حتى تحدث لي منه ذكرا والتمس ترك المؤاخذة بالنسيان لأن الكامل قد يؤاخذ به وهي مؤاخذة بقلة التحفظ التي أدت كما وقعت لأول ناس وهو أول الناس وإلا فالمؤاخذة به نفسه لا تصح لأنه غير مقدور وقيل : الباء للسببية وهي متعلقة بالفعل والنسيان وإن لم يكن سببيا قريبا للمواخذة بل السبب القريب لها هو ترك العمل بالوصية لكنه سبب بعيد لأنه لولاه لم يكن الترك وجوز أن تكون متعلقة بمعنى
(15/337)
النهي كما قيل في بنعمة ربك من قوله تعالى ما أنت بنعمة ربك بمجنون إنه متعلق بمعنى النفي يكون النسيان سببا للنهي عن المؤاخذه بترك العمل بالوصية وزعم بعضهم تعين كونها للملابسة ويجوز في ما أن تكون موصولة وأن تكون موصوفة أي لا تؤاخذني بالذي أو بشيء نسيته وهو الوصية لكن يحتاج هذا ظاهر إلى تقدير مضاف أي بترك ما نسيته لأن المواخذة بترك الوصية أي ترك العمل بها لا بنفس الوصية وقيل قد يحتاج إلى تقدير المضاف فإن الوصية سبب للمؤاخذة إذ لولاها لم يكن ترك العمل ولا المؤاخذة ونظير ذلك ما قيل في قوله تعالى ففسق عن أمر ربه ثم كون ما ذكر اعتذارا بنسيان الوصية هو الظاهر وقد صح في البخاري أن المرة الأولى كانت نسيانا
وزعم بعضهم أنه يحتمل أنه عليه السلام لم ينس الوصية وإنما نهى عن مؤاخذته بالنسيان موهما أن ما صدر منه كان عن نسيانها مع أنه إنما عنى نسيان شيء آخر وهذا من معاريض الكلام التي يتقى بها الكذب مع التوسل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السلام هذه أختي وإني سقيم وروى هذا ابن جرير عن أبي بن كعب وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وجوز أن يكون النسيان مجازا عن الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة ولا ترهقني لا تغشني ولا تحملني من أمرى وهو اتباعه إياه عسرا أي صعوبة وهو مفعول ثان لترهقني والمراد لا تعسر على متابعتك ويسرها على بالاغضاء وترك المناقشة وقرأ أبو جعفر عسرا بضمتين فانطلقا الفاء فصيحة أي فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان على الساحل كما في الصحيح وفي رواية أنهما مرا بقرية حتى إذا لقيا غلاما يزعمون كما قال البخاري أن اسمه جيسور بالجيم وروي بالحاء وقيل اسمه جنبتور وقيل غير ذلك وصح أنه كان يلعب مع الغلمان وكانوا على ما قيل عشرة وأنه لم يكن فيهم أحسن ولا أنظف منه فأخذه فقتله أخرج البخاري في رواية أنه عليه السلام أخذ برأسه من أعلاه فاقتلعه بيده وفي رواية أخرى أنه أخذه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين وقيل ضرب رأسه بالجدار حتى قتله وقيل رضه بحجر وقيل ضربه برجله فقتله وقيل أدخل أصبعه في سرته فاقتلعها فمات وجمع بين الروايات الثلاثة الأول بأنه ضرب رأسه بالجدار أولا ثم أضجعه وذبحه ثم اقتلع رأسه وربما يجمع بين الكل وفي كلا الجمعين بعد والظاهر أن الغلام لم يكن بالغا لأنه حقيقة الغلام بالشائعة في الاستعمال وإلى ذلك ذهب الجمهور وقيل كان بالغا شابا وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبدالعزيز أنه كان ابن عشرين سنة والعرب تبقى على الشاب اسم الغلام ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج ... شفاها من الداء الذي قد أصابها ... غلام إذا هز القناة سقاها ...
وقوله ... تلى ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر ...
وقيل هو حقيقة في البالغ لأن أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون فيمن بلغ الحلم واطلاقه على الصبي الصغير تجوز من باب تسمية الشيء باسم ما يؤل إليه ويؤيد قول الأولين قوله تعالى قال أي موسى عليه السلام أقتلت نفسا زكية أي طاهرة من الذنوب فإن البالغ قلما يزكو من الذنوب
(15/338)
وقد جاء في حديث عن ابن جبير عن ابن عباس مرفوعا تفسير زكية بصغيرة وهو تفسير باللازم ومن قال كان بالغا قال وصفه عليه السلام بذلك لأنه لم يره أذنب فهو وصف ناشىء من حسن الظن واستدل على كونه بالغا بقوله تعالى بغير نفس أي بغير حق قصاص لك عليها فإن الصبي لا قصاص عليه وأجاب النووى والكرماني بأن المراد التنبيه على أنه قتله بغير حق إلا أنه خص حق القصاص بالنفي لأنه الأنسب بمقام القتل أو أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي وقد نقل المحدثون كالبيهقي في كتاب المعرفة أنه كان في شرعنا كذلك قبل الهجرة
وقال السبكي قبل أحد ثم نسخ والجار والمجرور قال أبو البقاء متعلق بقتلت كأنه قيل أي قتلت نفسا بلا حق وجوز أن يتعلق بمحذوف أي قتلا بغير نفس وأن يكون في موضع الحال أي قتلتها ظالما لها أو مظلومة وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وابن بكير عن يعقوب ورويس عنه أيضا وأبو عبيد وابن جبير الانطاكي وابن كثير وأبو عمرو زاكية بتخفيف الياء وألف بعد الزاي و زكيه بالتشديد من غير ألف كما قرأ زيد ابن علي والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون أبلغ من ذلك لأنه صفة مشبهة دالة على الثبوت مع كون فعيل المحول من فاعل كما قال أبو حيان يدل على المبالغة وفرق أبو عمرو بين زاكية وزكية بأن زاكية بالألف هي التي لم تذنب قط وزكية بدون الألف هي التي أذنبت ثم غفرت
وتعقب بأنه فرق غير ظاهر لأن أصل معنى الزكاة النمو والزيادة فلذا وردت للزيادة المعنوية وأطلقت على الطهارة من الآثام ولو بحسب الخلقة والابتداء كما في قوله تعالى لأهب لك غلاما زكيا فمن أين جاءت هذه الدلالة ثم وجه ذلك بأنه يحتمل أن تكون لكون زاكية بالألف من زكى اللازم وهو يقتضي أنه ليس بفعل آخر وأنه ثابت له في نفسه وزكية بمعنى مزكاة فإن فعيلا قد يكون من غير الثلاثي كرضيع بمعنى مراضع وتطهير غيره له من الذنوب إنما يكون بالمغفرة وقد فهمه من كلام العرب فإنه إمام العربية واللغة فتكون بهذا الاعتبار زاكية بالألف أبلغ وانسب بالمقام بناء على أنه يرى أن الغلام لم يبلغ الحلم ولذا اختار القراءة بذلك وإن كان كل من القراءتين متواتر عنه صلى الله عليه و سلم وهذا على ما قيل لا ينافى كون زكية بلا ألف أبلغ باعتبار أنه تدل على الرفع وهو أقوى من الدفع فافهم وأياما كان فوصف النفس بذلك لزيادة تفظيع ما فعل
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي كعب أن الخضر عليه السلام لما قتل الغلام ذعر موسى عليه السلام ذعرة منكرة وقال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا74 منكرا جدا قال الإمام المنكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس وهو أبلغ في تقبيح الشيء من الأمر وقيل بالعكس وقال الراغب المنكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف ولهذه الأبلغية قال بعضهم المراد شيئا أنكر من الأول واختار الطيبي أنه دون الأمر وقال إن الذي يقتضيه النظم أنه ذكر الأغلظ ثم تنزل إلى الأهون فقتل النفس أهون من الخرق لما فيه من اهلاك جماعة وأغلظ من إقامة الجدار بلا أجرة وقال في الكشف الظاهر أبلغية النكر أما بحسب اللفظ فظاهر ألا ترى كيف فسر الشاعر أي في قوله
(15/339)
لقد لقى الأقران مني نكرا ... داهية دهياء إدا إمرا ...
النكر بداهية من صفتها كيت وكيت وجعل الأمر بعض أوصافها وأما بحسب الحقيقة فلأن خرق السفينة تسبب إلى الهلاك وهذا مباشرة على أن ذلك لم يكن سببا مفضيا وقول من قال إنه تنزل استدلالا بأن إقامة الجدار أهون من القتل ليس بشيء لأنه حكى على ترتيب الوجود لا تنزل فيه ولا ترقى وإنما يلاحظ ذلك بالنسبة إلى ما ذيل انتهى وروي القول بالابلغية عن قتادة ومما يؤيد ذلك ما حكاه القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السلام حين قال للخضر عليه السلام ما قال غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الايسر وقشر اللحم عنه وإذا مكتوب فيه كافر لا يؤمن بالله تعالى أبدا وبنى وجه تغيير النظم الجليل على أقبحية القتل فقيل إنما غير النظم إلى ما ترى لأن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل وأحق فكان الاعتراض جدير بأن يجعل عمدة الكلام وهو مبنى على أن الحكم في الكلام الشرطي هو الجزاء والشرط قيد له بمنزلة الحال عند أهل العربية وتحقيق ذلك في المطول وحواشيه
وكان العطف بالفاء التعقيبية ليفيد أن القتل وقع عقيب اللقاء من غير ريث كما يشعر به الاعتراض إذ لو مضى زمان بين اللقاء والقتل أمكن نظرا للامور المعادية إطلاع الخضر فيه من حاله على ما لم يطلع عليه موسى عليه السلام فلا يعترض عليه هذا الاعتراض ولا يضر في هذا ادعاء أن الخرق أيضا كذلك لأن المقصود توجيه اختيار الفاء دون الواو أو ثم بعد توجيه اختيار أصل العطف بأن ذلك يتأتى جعل الاعتراض عمدة والحاصل أنه لما كان الاعتراض في القصة الثانية معتنى بشأنه وأهم جعل جزاء لإذا الشرطية وبعد أن تعين للجزائية لذلك لم يكن بد من جعل القتل من جملة الشرط بالعطف واختيرت الفاء من بين حروفه وليفاد التعقيب ولما لم يكن الاعتراض في القصة الأولى مثله فلي الثانية جعل مستأنفا وجعل الخرق جزاء
وزعم التاشكندي جواز كون الاعتراضين في القصتين مستأنفين والجزاء فيهما فعل الخضر عليه السلام إلا أنه لا بد من تقدير قد في الجزاء الثاني لأن الماضي المثبت الغير المقترن بها لفظا أو تقدير الا يصلح للجزائية
واعتبر هذا في الثانية ولم يعتبر مثله في الأول لأن القتل أقبح فهو جدير بأن يؤكد ولا كذلك الخرق
وتعقبه بعض الفضلاء بأن الفاء الجزائية لا يجوز أن تدخل على الماضي المثبت إلا بتقدير قد لتحقق تأثير حرف الشرط فيه بأن يقلب معناه إلى الاستقبال فلا حاجة إلى الرابطة في كونه جوابا وأما بتقدير قد فتدخل الفاء لعدم تأثير حرف الشرط فيه فهو محتاج إلى الرابطة فقوله تعالى خرقها وكذلك قوله سبحانه فقتله لكونهما مستقبلين بالنسبة إلى ما قبلها يقعان جزاء بلا حاجة إلى ربط الفاء الجزائية فلا مجال في الثاني لجعل الفاء جزائية وكذا لا مجال في الأول لفرض تقدير قد لاصطلاح إدخال الفاء عليه فتدبر فإنه لا يخلو عن شيء
وقال ميربادشاه في الرد على ذلك إن الذوق السليم يأبى عن تقدير قد لو جعل القتل جزاء لعدم اقتضاء المقام إياها كيف وقد سبق الخرق جزاء بدونها وقد علم أنه يصدر عن الخضر عليه السلام ما لا يستطيع المتشرع أن يصبر عليه وما المحتاج إلى التحقيق إلا اعتراض موسى عليه السلام ثانيا بعدما سلف منه من الكلام وكونه عليه السلام مرسلا منه تعالى للتعلم وفيه إعراض عن بيان النكتة في التحقيق وعدم التفات إليها وغفلة على ما قال بعض الفضلاء عن موضع الفاء الجزائية وتقدير قد ولعل الحق أن يقال وإن جاز
(15/340)
خلاف الظاهر جدا وزعم أيضا أنه يمكن أن يقال في بيان إخراج القصتين على ما أخرجنا عليه أن لقاء الغلام سبب للشفقة والرفق لا القتل فلذا لم يحسن جعله جزاء وجعل جزاء الشرط وركوب السفينة قد يكون سببا لخرقها فلذا جعل جزاء وفيه أن للخصم أن يمنع الفرق ويقول كما أن لقاء الغلام سبب للرفق لا القتل كذلك ركوب السفينة سبب لحفظها وصيانتها لا الخرق كيف وسلامتها سبب لسلامة الخضر عليه السلام ظاهرا ومن الأمثال العامية لا ترم في البئر التي تشرب منها حجرا وإذا سلم له أن يقول ان لقاء الغلام سبب للرفق لا للقتل فالقتل أغرب والاعتراض عليه أدخل فالاعتراض جدير بأن يجعل فيؤل الأمر في بيان النكتة إلى نحو ما تقدم والأمر في هذا سهل كما لا يخفى
وقال شيخ الاسلام في وجه التغيير أن صدور الخوارق عن الخضر عليه السلام خرج بوقوعه مرة مخرج العادة واستأنست النفس به كاستئناسها بالأمور العادية فانصرفت عن ترقب سماعه إلى ترقب سماع حال موسى عليه السلام هل يحافظ على مراعاة شرطه بموجب وعده عند مشاهدة خارق آخر أو يسارع إلى المناقشة كما في المرة الأولى فكان المقصود إفادة ما صدر عنه عليه السلام فجعل الجزاء اعتراضه دون ما صدر عن الخضر عليهما السلام ولله تعالى در شأن التنزيل وأما ما قيل من أن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام فليس من رفع الشبهة في شيء بل هو مؤيد لها فإن كون القتل أقبح من مبادىء قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الاسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فضلا عن النبي وذلك لا يقتضي جعله كذلك انتهى وتعقب بأن ما ذكره من النكتة على تقدير تسليمه لا يضر من بينها بما تقدم إذ لا تزاحم في النكات وأما اعتراضه عليه مما يستدعي جعله مقصودا ان أراد أنه مقصود في نفسه بصحيح وان أراد أنه مقصود بأن يعترض عليه ويمنع منه فهذا يقتضي جعل الاعتراض جزاء كما مر وأما كونه من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فمقتضى للاهتمام بالاعتراض عليه
وأنت تعلم أن الشيء كلما ندر كان الاخبار به وإفادته السامع أوقع في النفس وأن الاخبار الغربية يهتم بافادته ما لايهتم بافاده غير الغربية إذ العالم بالغريب قليل بخلاف العالم بغيره وإنكار ذلك مكابرة فمراد الشيخ أن كون القتل أقبح من مبادىء قلة صدوره عن المؤمن العاقر وندرة وصول خبره إلى الاسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا بالافادة كما هو شأن الأمور القليلة الصدور النادرة الوقوع وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة الصدور وذلك لا يقتضي أن يعامل كذلك وعلى هذا لا غبار على ما ذكره عند المصنف ثم ان ما ذكره من النكتة يتأتى على القول بأن القتل أقبح من الخرق وعلى القول بالعكس أيضا وهذا بخلاف ما تقدم فإنه كان مبنيا على أقبحية القتل فمن لا يقول بها يحتاج في بيان النكتة إلى غير ذلك وقد رجح بذلك على ما تقدم واستأنس له أيضا بأن مسلق الكلام من أوله لشرح حال موسى عليه السلام فجعل اعتراضه عمدة الكلام أوفق بالمساق إلا أنه عدل عن ذلك في قصة الخرق وجعل ما صدر عن الخضر عليه السلام عمدة دون اعتراضه لأن النفس لما سمعت وصف الخضر ظمأت لسماع ما يصدر منه فبل غليلها وجعل ما صدر عنه مقصودا بالافادة لأنه مطلوب للنفس وهي منتظرة أياه ثم بعد أن سمعت ذلك وسكن اوامها سلك بالكلام مسلكه الأول وقصد بالإفادة حال من سيق الكلام من أوله لشرح حاله ولا يخفى أن هذا قول بأن الأصل نظرا إلى السوق
(15/341)
أن تكون القصة الأولى على طرز القصة الثانية إلا أنه عدل عن ذلك لما ذكر والخروج عن الأصل يتقدر بقدر الحاجة ومن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وهو مخالف لما يفهم من كلام الشيخ في الجملة فافهم والله تعالى أعلم وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حات نكرا بضمتين حيث كان منصوبا
تم الجزء الخامس عشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس عشر وأوله قال ألم أقل لك 16
(15/342)
بسم الله الرحمن الرحيم قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا 57 زيادة لك لزيادة المكافحة على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في التنكير في المرة الثانية
قال أي موسى عليه السلام إن سألتك عن شيء تفعله من الأعاجيب بعدها أي بعد هذه المرة أو بعد هذه المسألة فلا تصاحبني وقرأ عيسى ويعقوب فلا تصحبني بفتح التاء من صحبة أي فلا تكن صاحبي وعن عيسى أيضا فلا تصحبني بضم التاء وكسر الحاء من أصحبه ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك وقدر بعضهم المفعول الثاني علمك وليس بذاك
وقرأ الأعرج فلا تصحبني بفتح التاء والباء وشد النون والمراد المبالغة في النهي أي فلا تكن صاحبي البتة وهذا يؤيد كون المراد من النهي فيما لا تأكيد فيه التحريم والمراد به الحزم بالترك والمفارقة لا الترخيص على معنى إن سألتك بعد فأنت مرخص في ترك صحبتي قد بلغت من لدني عذرا 67 أي وجدت عذرا من قبلي وقال النووي : معناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فراقي حيث خالفتك مرة بعد مرة
وصح عن النبي قال : رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب لكن أخذته من صاحبه ذمامة فقال ذلك وقرأ نافع وعاصم من لدنى بتخفيف النون وهي حجة على س في منعه ذلك والأكثرون على أنه حذف نون الوقاية وأبقى النون الأصلية المكسورة على ما هو القياس في الأسماء المضافة من أنها لا تلحقها نون الوقاية كوطني ومقامي وقيل : إنه يحتمل أن يكون المذكور نون الوقاية والمضاف إنما هو لد بلا نون لغة في لدن فلا حذف أصلا وتعقب بأن نون الوقاية إنما هي في المبني على السكون لتقيه الكسر و لد بلا نون مضموم ورد بأنه لا مانع من أن يقال : إنها وقته من زوال الضم وأشم شعبة الضم في الدال وروي عن عاصم أنه سكنها وقال مجاهد : سوء غلط ولعله أراد رواية وإلا فقد ذكروا أن لد بالفتح والسكون لغة في لدن وقرأ عيسى عذرا بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي عذرى بالإضافة إلى ياء المتكلم
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية الجمهور على أنها أنطاكية وحكاه الثعلبي عن ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة عنه أنها برقة وهي كما في القاموس اسم لمواضع وفي المواهب أنها قرية بأرض الروم والله تعالى أعلم وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن السدي أنها باجروان وهي أيضا اسم لمتعدد إلا أنه ذكر بعضهم أن المراد بها قرية بنواحي أرمينية وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنها الأبلة بهمزة وباء موحدة ولام مشددة وقيل : قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة وإليها تنسب النصارى قال في مجمع البيان وهو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وقيل : قرية في الجزيرة الخضراء من أرض
(16/2)
الأندلس قال ابن حجر : والخلاف هنا كالخلاف في مجمع البحرين ولا يوثق بشيء منه وفي الحديث أتيا أهل قرية لئاما استطعما أهلها في محل الجر على أنه صفة لقرية وجواب إذا قال الآتي إن شاء الله تعالى وسلك بذلك نحو ما سلك في القصة الثانية من جعل الإعتراض عمدة الكلام للنكتة التي ذكرها هناك شيخ الإسلام وذهب أبو البقاء وغيره إلى أنه هو الجواب والآتي مستأنف نظير ما في القصة الأولى والوصفية مختار المحققين كما ستعلمه إن شاء الله تعالى وههنا سؤال مشهور وقد نظمه الصلاح الصفدي ورفعه إلى الإمام تقي الدين السبكي فقال : أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا بدا وجهه استحيى له القمران ومن كفه يوم الندى ويراعه على طرسه بحران يلتقيان ومن إن دجت في المشكلات مسائل جلاها بفكر دائم اللمعان رأيت كتاب الله أعظم معجز لأفضل من يهدي به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاره بإيجاز ألفاظ وبسط معاني ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الفكر في طول الزمان عناني وما هي إلا استطعما أهلها فقد نرى استطعماهم مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير إن ذاك لشان فأرشد على عادات فضلك حيرتي فما لي إلى هذا الكلام بدان فأجاب السبكي بأن جملة استطعما محتملة لأن تكون في محل جر صفة لقرية وأن تكون في محل نصب صفلة لأهل وأن تكون جواب إذا ولا احتمال لغير ذلك ومن تأمل علم أن الأول متعين معنى وأن الثاني والثالث وأن احتملتهما الآية بعيدان عن مغزاها أما الثالث فلأنه يلزم عليه كون المقصود الإخبار بالإستطعام عند الإتيان وأن ذلك تمام معنى الكلام ويلزمه أن يكون معظم قصدهما أو هو طلب الطعام مع أن القصد هو ما أراد ربك مما قص بعد وإظهار الأمر العجيب لموسى عليه السلام وأما الثاني فلأنه يلزم عليه أن تكون العناية بشرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر في ذلك ونحن نجد بقية الكلام مشيرا إليها نفسها فيتعين الأول ويجب فيه استطعما أهلها ولا يجوز استطعماهم أصلا لخلو الجملة عن ضمير الموصوف
وعلى هذا يفهم من مجموع الآيات أن الخضر عليه السلام فعل ما فعل في قرية مذموم أهلها وقد تقدم منهم سوء صنيع من الإباء على حق الضيف مع طلبه وللبقاع تأثير في الطباع ولم يهم فيها مع أنها حرية بالإفساد والإضاعة بل باشر الإصلاح لمجرد الطاعة ولم يعبأ عليه السلام بفعل أهلها اللئام وينضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثاني يحتمل أن يكونوا هم الأولون أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولا على البعض ثم قد يستقر بهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدر الله تعالى لهما استقراء الجميع على التدريج ليتبين به كمال رحمته سبحانه وعدم مؤاخذته تعالى بسوء صنيع بعض عباده ولو قيل استطعماهم تعين إرادة الأولين فأتى بالظاهر إشعارا بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبى ومع ذلك قوبلوا بأحسن الجزاء فانظر إلى هذه الأسرار كيف احتجبت عن
(16/3)
كثير من المفسرين تحت الأستار حتى أن بعضهم لم يتعرض لشيء وبعضهم ادعى أن ذلك تأكيد وآخر زعم ما لا يعول عليه حتى سمعت عن شخص أنه قال : إن العدول عن استطعماهم لأن اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل وهو قول يحكى ليرد فإن القرآن والكلام الفصيح مملوء من ذلك ومنه يأتي في الآية ومن تمام الكلام فيما ذكر أن استطعما أن جعل جوابا فهو متأخر عن الاتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون الإتيان قد اتفق قبل هذه المرة وذكر تعريفا وتنبيها على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير فهذا ما فتح الله تعالى علي والشعر يضيق عن الجواب وقد قلت : لأسرار آيات الكتاب معاني تدق فلا تبدو لكل معاني وفيها لمرتاض لبيب عجائب سنا برقها يعنو له القمران إذا بارق منها لقلبي قد بدا هممت قرير العين بالطيران سرورا وإبهاجا وصولا على العلا كأني علا فوق السماك مكاني فما الملك والأكوان ما البيض ما التقنا وعندي وجوه أسفرت بتهاني وهاتيك منها قد أبحتك سرها فشكرا لمن أولاك حسن بياتي أرى استطعما وصفا على قرية جرى وليس لها والنحو كالميزان صناعته تقضى بأن استتار ما يعود عليه ليس في الإمكان وليس جوابا لا ولا صف أهلها فلا وجه للإضمار والكتمان وهذي ثلاث ما سواها بممكن تعين منها واحد فسباني ورضت بها فكري إلى أن تمحضت به زبدة الأحقاب منذ زمان وإن حياتي في تموج أبحر من العلم في قلبي يمد لساني إلى آخر ما تحمس به وفيه من المناقشة ما فيه وقد اعترض بعضهم بأنه على تقدير كون الجملة صفة للقرية يمكن أن يؤتى بتركيب أخصر مما ذكر بأن يقال : فلما أتيا قرية استطعما أهلها فما الداعي إلى ذكر الأهل أولا على هذا التقدير وأجيب بأنه جيء بالأهل للإشارة إلى أنهم قصدوا بالإتيان في قريتهم وسألوا فمنعوا ولا شك أن هذا أبلغ من اللؤم وأبعد عن صدور جميل في حق أحد منهم فيكون صدور ما صدر من الخضر عليه السلام غريبا جدا ولا يقال : ليكن التركيب كذلك وليكن على الإرادة الأهل تقديرا أو تجوزا كما في قوله تعالى واسئل القرية لأنا نقول : إن الإتيان ينسب إلى للمكان كأتيت عرفات ولمن فيه كأتيت أهل بغداد فلو لم يذكر كان فيه تفويتا للمقصود وليس ذلك نظير ما ذكر من الآية لامتناع سؤال نفس القرية عادة واختار الشيخ عز الدين الموصلي في جواب الصفدي أن تكرار الأهل والعدول عن استطعماهم إلى استطعما أهلها للتحقير وهو أحد نكات إقامة الظاهر مقام الضمير وبسط الكلام في ذلك نثرا وقال نظما : سألت لماذا استطعما أهلها أتى عن استطعماهم إن ذاك لشان وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف على سبب الرجحان منذ زمان فهاك جوابا رافعا لنقابه يصير به المعنى كرأي عيان
(16/4)
إذا ما استوى الحالان في الحكم رجح الضمير وأما حين يختلفان بأن كان في التصريح إظهار حكمة كرفعة شان أو حقارة جاني كمثل أمير المؤمنين يقول ذا وما نحن فيه صرحوا بأمان وهذا على الإيجاز والبسط جاء في جوابي منثورا بحسن بيان وذكر في النثر وجها آخر للعدول وهو ما نقله السبكي ورده وقد ذكر أيضا النيسابوري وهو لعمري كما قال السبكي ويؤل إلى ما ذكر من أن الإظهار للتحقير قول بعض المحققين : إنه للتأكيد المقصود منه زيادة التشنيع وهو وجه وجيه عند كل نبيه ومن ذلك قوله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا الآية ومثله كثير في الفصيح وقال بعضهم : إن الأهلين متغايران فلذا جيء بهما معا وقولهم : إذا أعيد المذكور أولا معرفة كان الثاني عين الأول غير مطرد وذلك لأن المراد بالأهل الأول البعض إذ في ابتداء دخول القرية لا يتأتى عادة إتيان جميع أهلها لا سيما على ما روي من أن دخولهما كان قبل غروب الشمس وبالأهل الثاني الجميع على لما ورد أنهما عليهما السلام كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم فلو جيء بالضمير لفهم أنهما استطعما البعض وعكس بعضهم الأمر فقال : المراد بالأهل الأول الجميع ومعنى إتيانهم الوصول إليهم والحلول فيما بينهم وهو نظير إتيان البلد وهو ظاهر في الوصول إلى بعض منه والحلول فيه وبالأهل الثاني البعض إذ سؤال فرد فرد من كبار أهل القرية وصغارهم وذكورهم وإناثهم وأغنيائهم وفقرائهم مستبعد جدا والخبر لا يدل عليه ولعله ظاهر في أنهما استطعما الرجال وقد روي عن أبي هريرة والله تعالى أعلم بصحة الخبر أنه قال : أطعمتها امرأة من بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم فلذا جيء بالظاهر دون الضمير ونقل مثله عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة وأورد عليهما أن فيهما مخالفة لما هو الغالب في إعادة الأول لأن فائدة المغابرة المذكورة فيه زيادة التشنيع على أهل القرية كما لا يخفى
واختار بعضهم على القول بالتأكيد أن المراد بالأهل في الموضعين الذين يتوقع من ظاهر حالهم حصول العرض منهم ويحصل اليأس من غيرهم باليأس منهم من المقيمين المتوطنين في القرية ومن لم يحكم العادة يقول : إنهما عليهما السلام أتوا الجميع وسألوهم لما أنهما على ما قيل قد مستهما الحاجة فأبوا أن يضيفوهما بالتشديد وقرأ الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وأبو محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفا وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفا وحقيقة ضاف مال من ضاف السهم عن الهدف يضيف ويقال أضافت الشمس للغروب وتضيف إذا مالت ونظيره زاره من الأزورار ولا يخفى ما في التعبير بالإباء من الإشارة إلى مزيد لؤم القوم لأنه كما قال الراغب شدة الامتناع ولهذا لم يقل : فلم يضيفوهما مع أنه أخضر فإنه دون ما في النظم الجليل في الدلالة على ذمهم ولعل ذلك الإستطعام كان طلبا للطعام على وجه الضيافة بأن يكونا قد قالا : إنا غريبان فضيفونا أو نحو ذلك كما يشير إليه التعبير بقوله تعالى فأبوا أن يضيفوهما دون فأبوا أن يطعموهما مع اقتضاء ظاهر استطعما أهلها إياه وإنما عبر باستطعما دون استضافا للإشارة إلى أن جل قصدهما الطعام دون الميل بهما إلى منزل وإيوائهما إلى محل وذكر بعضهم أن في أبوا أن يضيفوهما من التشنيع ما ليس في
(16/5)
أبو أن يطعموهما لأن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب كما إذا رد غريبا استضافه بل لا يكاد يرد الضيف إلا لئيم ومن أعظم هجاء العرب فلان يطرد الضيف وعن قتادة شر القرى التي لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه
وقال زين الدين الموصلي إنما خص سبحانه الإستطعام بموسى والخضر عليهما السلام والضيافة بالأهل لأن الإستطعام وظيفة السائل والضيافة وظيفة المسئول لأن العرف يقضي بذلك فيدعو المقيم القادم إلى منزله يسأله ويحمله إليه انتهى وهو كما ترى و مما يضحك من العقلاء ما نقله النيسابوري وغيره أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وأتوا إلى رسول الله يحمل من ذهب فقالوا : يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء من أبوا تاء فأبى عليه الصلاة و السلام وبعضهم يحكي وقوع هذه القصة في زمن علي كرم الله تعالى وجهه ولا أصل لشيء من ذلك وعلى فرض الصحة يعلم منه قلة عقول أهل القرية في الإسلام كما علم لؤمهم من القرآن والسنة من قبل فوجدا عطف كما قال السبكي على أتيا فيها جدار روي أنهما التجآ إليه حيث لم يجدا مأوى وكانت ليلتهما ليلة باردة وكان على شارع الطريق يريد أن ينقض أي يسقط وماضيه انقض على وزن انفعل نحو انجر والنون زائدة لأنه من قضضته بمعنى كسرته لكن لما كان المنكسر يتساقط قيل الأنقضاض السقوط والمشهور أنه السقوط بسرعة كانقضاض الكوكب والطير قال صاحب اللوامح : هو من الفضة وهي الحصى الصغار ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى فعلى هذا المعنى يريد أن يتفتت فيصير حصى انتهى
وذكر أبو علي في الإيضاح أن وزنه أفعل من النقض كأحمر وقال السهيلي في الروض هو غلط وتحقيق ذلك في محله
والنون على هذا أصلية والمراد من إرادة السقوط قربه من ذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة تسبب إرادة السقوط لقربه أو على سبيل الاستعارة بأن يشبه قرب السقوط بالإرادة لما فيهما من الميل ويجوز أن يعتبر في الكلام استعارة مكنية وتخييلية وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم ومن ذلك قوله : يريد الرمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل وقول حسان رضي الله تعالى عنه : إن دهرا يلف شملي بحمل لزمان يهم بالإحسان وقول الآخر : أبت الروادف والثدى لقمصها مس البطون وإن تمس ظهورا وقول أبي نؤاس : فاستنطق العود قد طال السكوت به لا ينطق اللهو حتى ينطق العود إلى ما لا يحصى كثرة حتى قيل : إن من له أدنى اطلاع على كلام العرب لا يحتاج إلى شاهد على هذا المطلب
ونقل بعض أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني أنه ينكر وقوع المجاز في القرآن فيؤول الآية بأن الضمير في يريد للخضر أو لموسى عليهما السلام وجوز أن يكون الفاعل لجدار وأن الله تعالى خلق فيه حياة وإرادة والكل تكلف وتعسف تغسل به بلاغة الكلام
وقال أبو حيان : لعل النقل لا يصح عن الرجل وكيف يقول ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجدين في النظم والنثر وقرأ أبي ينقض بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنيا للمفعول وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش
(16/6)
يريد لينقض كذلك إلا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعكرمة وخليد بن سعد ويحيى بن يعمر ينقاص بالصاد المهملة مع الألف ووزنه ينفعل اللازم من قصته فانقاص إذا كسرته فانكسر وقال ابن خالويه : تقول العرب : إنقاصت السن إذا انشقت طولا قال ذو الرمةيصف ثور وحش : يغشى الكناس بروقيه ويهدمه
من هائل الرمل منقاص ومنكثب وفي الصحاح قيص السن سقوطها من أصلها وأنشد قول أبي ذؤيب : فراق كقيص السن فالصبر أنه لكل أناس عثرة وحبور وقال الأموي : انقاصت البر انهارت وقال الأصمعي : المنقاص المنقعر والمنقاص بالضاد المعجمة المنشق طولا وقال أبو عمرو : وهما بمعنى واحد وقرأ الزهري ينقاض بألف وضاد معجمة والمشهور تفسيره بينهدم
وذكر أبو علي أن المشهور عن الزهري أنه ينقاص بالمهملة فأقامه مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس وابن جبير وقال القرطبي : إنه هو الصحيح وهو أشبه بأحوال الأنبياء عليهم السلام واعترض بأنه غير ملائم لما بعد إذ لا يستحق بمثله الأجر ورد بأن عدم استحقاق الأجر مع حصول الغرض غير مسلم ولا يضره سهولته على الفاعل وقيل : أقامته بعمود عمده به وقال مقاتل : سواه بالشيد وقيل هدمه وقعد يبنيه
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي بن كعب عن رسول الله أنه قرأ فوجد فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه وكان طول هذا الجدار إلى السماء على ما نقل النووي عن وهب بن منبه مائة ذراع ونقل السفيري عن الثعلبي أنه كان سمكه مائتي ذراع بذراع تلك القرية وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع وكان عرضه خمسين ذراعا وكان الناس يمرون تحته على خوف منه قال موسى عليه السلام لو شئت لاتخذت عليه أجرا 77 تحريضا للخضر عليه السلام وحثا على أخذ الجعل والأجرة على فعله ليحصل لهما بذلك الانتعاش والتقوى بالمعاش فهو سؤال له لم لم يأخذ الإجرة واعتراض على ترك الأخذ فالمراد لازم فائدة الخبر إذ لا فائدة في الإخبار بفعله وقيل : لم يقل ذلك حثا وإنما قاله تعريضا بأن فعله ذلك فضول وتبرع بما لم يطلب منه من غير فائدة ولا استحقاق لمن فعل له مع كمال الاحتياج إلى خلافه وكان الكليم عليه السلام لما رأى الحرمان ومساس الحاجة والاشتغال بما لا يعني لم يتمالك الصبر فاعترض واتخذ افتعل فالتاء الأولى أصلية والثانية تاء الافتعال أدغمت فيها الأولى ومادته تخذ لا أخذ وإن كان بمعناه لأن فاء الكلمة لا تبدل إذا كانت همزة أو ياء مبدلة منها ولذا قيل إن ايتزر خطأ أو شاذ وهذا شائع في فصيح الكلام وأيضا إبدالها في الإفتعال لو سلم لم يكن لقولهم تخذ وجه وهذا مذهب البصريين وقال غيرهم : إنه الاتخاذ افتعال من الأخذ ولا يسلم ما تقدم ويقول : المدة العارضة تبدل تاء أيضا ولكثرة استعماله هنا أجروه مجرى الأصلي وقالوا اتخذ ثلاثيا جريا عليه وهذا كما قالوا : تقي من اتقى
وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وأبو بحرية وابن محيصن وحميد واليزيدي ويعقوب وأبو حاتم وابن كثير وأبو عمرو لتخذت بتاء مفتوحة وخاء مكسورة أي لأخذت وأظهر ابن كثير ويعقوب وحفص الذال وأدغمها باقي السبعة قال الخضر عليه السلام هذا فراق بيني وبينك على إضافة
(16/7)
المصدر إلى الظرف اتساعا وابن الحاجب يجعل الإضافة في مثله على معنى في وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر
وقرأ ابن أبي عبلة فراق بيني بالتنوين ونصب بين على الظرفية وأعيد بين وإن كان لا يضاف إلى لمتعدد لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وقال أبو حيان : والعدول عن بيننا لمعنى التأكيد والإشارة إلى الفراق المدلول عليه بقوله قبل لا تصاحبني والحمل مفيد لأن المخبر عنه الفراق باعتبار كونه في الذهن والخبر الفراق باعتبار أنه في الخارج كما قيل أو إلى الوقت الحاضر أي هذا الوقت وقت فراقنا أو إلى الاعتراض الثالث أي هذا الاعتراض سبب فراقنا حسبما طلبت فوجه تخصيص الفراق بالثالث ظاهر
وقال العلامة الأول : إنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين لأن ظاهرهما منكر فكان معذورا بخلاف هذا فإنه لا ينكر الإحسان للمسيء بل يحمد وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في وجهه أن قول موسى عليه السلام في السفينة والغلام كان لله تعالى وفي هذا لنفسه لطلب الدنيا فكان سبب الفراق وحكى القشيري نحوه عن بعضهم ورد ذلك في الكشف بأنه لا يليق بجلالتهما ولعل الخبر عن الحبر غير صحيح ونقل في البحر عن أرباب المعاني أن هذه الأمور التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى عليه السلام وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم ولما أنكر قتل الغلام قيل له أين إنكارك هذا ووكزك القبطي والقضاء عليه ولما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنتي شعيب عليه السلام بدون أجرة ورأيت أنا في بعض الكتب أن الخضر عليه السلام قال : يا موسى اعترضت علي بخرق السفينة وأنت ألقيت ألواح التوراة فتكسرت واعترضت علي بقتل الغلام وأنت وكزت القبطي فقضي عليه واعترضت علي بإقامة الجدار بلا أجر وأنت سقيت لبنتي شعيب أغنامهما بلا أجر فمن فعل نحو ما فعلت لن يعترض علي والظاهر أن شيئا من ذلك لا يصح والفرق ظاهر بين ما صدر من موسى عليه السلام وما صدر من الخضر وهو أجل من أن يحتج على صاحب التوراة بمثل ذلك كما لا يخفى
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن أبي عبد الله وأظنه الملطي قال : لما أراد الخضر أن يفارق موسى قال له : أوصني قال : كن نفاعا ولا تكن ضرارا كن بشاشيا ولا تكن غضبانا ارجع عن اللجاجة ولا تمش من غير حاجة ولا تعير امرأ بخطيئته وابك على خطيئتك يا ابن عمران وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال بلغني : أن الخضر قال لموسى لما أراد أن يفارقه : يا موسى تعلم العلم لتعمل به ولا تعلمه لتحدث به وبلغني أن موسى قال للخضر : ادع لي فقال الخضر : يسر الله تعالى عليك طاعته والله تعالى أعلم بصحة ذلك أيضا
سأنبئك وقرأ ابن أبي وثاب سانبيك بإخلاص الياء من غير همز والسين للتأكيد لعدم تراخي الأنباء أي أخبرك البتة بتأويل ما لمتستطع عليه صبرا 87 والظاهر أن هذا لم يكن عن طلب من موسى عليه السلام وقيل : إنه لما عزم الخضر على فراقه أخذ بثيابه وقال : لا أفارقك حتى تخبرني بما أباح لك فعل ما فعلت ودعاك إليه فقال سأنبئك والتأويل رد الشيء إلى مآله والمراد به هنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل بالمعنى المذكور وما عبارة عن الأفعال الصادرة من الخضر عليه السلام وهي خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز
(16/8)
بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمن للكنز وفي جعل الموصول عدم استطاعة موسى عليه السلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلت أو بتأويل ما رأيت ونحوهما نوع تعريض به عليه السلام وعتاب ويجوز أن يقال : إن ذلك لاستشارة مزيد توجهه وإقباله لتلقي ما يلقى إليه و صبرا مفعول تستطع وعليه متعلق به وقدم رعاية للفاصلة
أما السفينة التي خرقها فكانت لمساكين لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة جمع مسكين بكسر الميم وفتحها ويجمع مساكين ومسكينون وهو الضعيف العاجز ويشمل هذا ما إذا كان العجز لأمر في النفس أو البدن ومن هنا قيل سموا مساكين لزمانتهم وقد كانوا عشرة خمسة منهم زمنى وإطلاق مساكين عليهم على هذا من باب التغليب وهذا المعنى للمسكين غير ما اختلف الفقهاء في الفرق بينه وبين الفقير وعليه لا تكون الآية حجة لمن يقول : إن المسكين من يملك شيئا ولا يكفيه لأن هذا المعنى مقطوع فيه النظر عن المال وعدمه
وقد يفسر بالمحتاج وحينئذ تكون الآية ظاهرة فيما يدعيه القائل المذكور وادعى من يقول : إن المسكين من لا شيء له أصلا وهو الفقير عند الأول أن السفينة لم تكن ملكا لهم بل كانوا أجراء فيها وقيل : كانت معهم عارية واللام للإختصاص لا للملك ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ولا يقبل بلا دليل وقيل : إنهم نزلوا منزلة من لا شيء له أصلا وأطلق عليهم المساكين ترحما وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه لمساكين بتشديد السين جمع تصحيح لمساك فقيل : المعنى لملاحين وقيل : المساك من يمسك رجل السفينة وكانوا يتناوبون ذلك وقيل : المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ولعل إرادة الملاحين أظهر يعملون في البحر أي يعملون بها فيه ويتعيشون بما يحصل لهم وإسناد العمل إلى الكل على القول بأن منهم زمني على التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين فأردت أن أعيبها أي أجعلها ذات عيب بالخرق ولم أرد إغراق من بها كما حسبت ولارادة هذا المعنى جيء بالإرادة ولم يقل فأعبتها وهذا ظاهر في أن اللام في الاعتراض للتعليل ويحتاج حملها على العاقبة إلى ارتكاب خلاف الظاهر هنا كما لا يخفى على المتأمل وكان وراءهم ملك أي أمامهم وبذلك قرأ ابن عباس وابن جبير وهو قول قتادة وأبي عبيد وابن السكيت والزجاج وعلى ذلك جاء قول لبيد : أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع وقول سوار بن المضرب السعدي : أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا وقول الآخر : أليس ورائي أن أدب على العصا فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي وفي القرآن كثير أيضا ولا خلاف عند أهل اللغة في مجيء وراء بمعنى أمام وإنما الخلاف في غير ذلك وأكثرهم على أنه معنى حقيقي يصح إرادته منها في أي موضع كان وقالوا : هي من الأضداد وظاهر كلام البعض أن لها معنى واحدا يشمل الضدين فقال ابن الكمال نقلا عن الزمخشري : إنها اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام وقال البيضاوي ما حاصله : إنه في الأصل مصدر ورا يرئي كقضا يقضي وذا أضيف إلى
(16/9)
الفاعل يراد به المفعول أعني المستور وهو ما كان خلفا وإذا أضيف إلى المفعول يراد به الفاعل أعني الساتر وهو ما كان قداما ورد عليه بقوله تعالى ارجعوا وراءكم فإن وراء أضيفت فيه إلى المفعول والمراد بها الخلف
وقال الفراء : لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك وكذا في سائر الأجسام وإنما يجوز ذلك في المواقيت والليالي والأيام وقال أبو علي : إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ويجوز ذلك في الإجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر وقيل : أي خلفهم كما هو المشهور في معنى وراء
واعترض بأنه إذا كان خلفهم فقد سلموا منه وأجيب بأن المراد أنه خلفهم مدرك لهم ومار بهم أو بأن رجوعهم عليه واسمه على ما يزعمون هدد بن بدد وكان كافرا وقيل : جلندي بن كر كر ملك غسان وقيل مفواد بن الجلند بن سعيد الأزدي وكان بجزيرة الأندلس يأخذ كل سفينة أي صالحة وقد قرأ كذلك أبي بن كعب ولو أبقى العموم على ظاهره لم يكن للتعييب فائدة غصبا 97 من أصحابها وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ والظاهر أنه كان يغصب السفن من أصحابها ثم لا يردها عليهم وقيل كان يسخرها ثم يردها والفاء في فأردت للتفريع فيفيد أن سبب إرادة التعييب كونها لقوم مساكين عجزة لكن لما كانت مناسبة هذا السبب للمسبب خفية بين ذلك بذكر عادة الملك في غصب السفن ومآل المعنى أما السفينة فكانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافونه ويعجزون عن دفعه من غصب ملك وراءهم عادته غصب السفن الصالحة وذكر بعضهم أن السبب مجموع الأمرين المسكنة والغصب إلا أنه وسط التفريع بين الأمرين وكان الظاهر تأخيره عنهما للغاية به من حيث أن ذلك الفعل كان هو المنكر المحتاج إلى بيان تأويله وللإيذان بأن الأقوى في السببية هو الأمر الأول ولذلك لم يبال بتخليص سفن سائر الناس مع تحقق الجزء الأخير من السبب ولأن في تأخيره فصلا بين السفينة وضميرها مع توهم رجوعه إلى الأقرب فليفهم وظاهر الآية أن موسى عليه السلام ما علم تأويل هذا الفعل قبل ويشكل عليه ما جاء عن الربيع أن الخضر عليه السلام بعد أن خرق السفينة وسلمت من الملك الظالم أقبل على أصحابها فقال : إنما أردت الذي هو خير لكم فحمدوا رأيه وأصلحها لهم كما كانت فإنه ظاهر في أنه عليه السلام أوقفهم على حقيقة الأمر والظاهر أن موسى عليه السلام كان حاضرا يسمع ذلك وقد يقال : إن هذا الخبر لا يعول عليه واحتمال صحته مع عدم سماع موسى عليه السلان مما لا يلتفت إليه وأما الغلام الذي قتله فكان أبواه أي أبوه وأمه ففيه تغليب واسم الأب على ما في الإتقان كأزير والأم سهوا وفي مصحف أبي وقراءة ابن عباس وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين والمعنى على ذلك في قراءة السبعة إلا أنه ترك التصريح بكفره إشعارا بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره واستدل بتلك القراءة من قال : إن الغلام كان بالغا لأن الصغير لا يوصف بكفر وإيمان حقيقيين وأجاب النووي عن ذلك بوجهين الأول أن القراءة شاذة لا حجة فيها الثاني أنه سماه بما يؤل إليه لو عاش وفي صحيح مسلم أن الغلام طبع يوم طبع كافرا وأول بنحو هذا وكذا ما مر من خبر صاحب العرس والعرائس لكن في صحته توقف عندي لأنه ربما يقتضي بظاهره علم موسى عليه السلام بتأويل القتل قبل الفراق وعلى ما سمعت من التأويل لا يرد شيء مما ذكر على القول المنصور في الأطفال وهو أنهم مطلقا في
(16/10)
الجنة على أنه قيل الكلام في غير من أخبر الصادق بأنه كافر وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري فكان أبواه مؤمنان وخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن والجملة في موضع الخبر لها وأجاز أبو الفضل أن يكون مؤمنان على لغة بني الحرث بن كعب فيكون منصوبا وأجاز أيضا أن يكون في كان ضمير الغلام والجملة في موضع الخبر
فخشينا أن يرهقهما فخفنا خوفا شديدا أن يغشى الوالدين المؤمنين لو بقي حيا طغيانا مجاوزة للحدود الإلهية وكفرا 08 بالله تعالى وذلك بأن يحملهما حبه على متابعته كما روى عن ابن جبير ولعل عطف الكفر على الطغيان لتفظيع أمره ولعل ذكر الطغيان مع أن ظاهر السياق الاقتصار على الكفر ليتأتى هذا التفظيع أو ليكون المعنى فخشينا أن يدنس إيمانهما أولا ويزيله آخرا ويلتزم على هذا القول بأن ذلك أشنع وأقبح من إزالته بدون سابقية تدنيس وفسر بعض شراح البخاري الخشية بالعلم فقال : أي علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه وقيل : المعنى خشينا أن يغشيهما طغيانا عليهما وكفرا لنعمتهما عليه من تربيتهما إياه وكونهما سببا لوجوده بسبب عقوقه وسوء صنيعه فيلحقهما شر وبلاء وقيل : المعنى خشينا أن يغشيهما ويقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر وفي بعض الآثار أن الغلام كان يفسد وفي رواية يقطع الطريق ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه واستدل بذلك من قال : إنه كان بالغا والذاهب إلى صغره يقول إن ذلك لا يصح ولعل الحق معه والظاهر أن هذا من كلام الخضر عليه السلام أجاب به موسى عليه السلام من جهته وجوز الزمخشري أن يكون ذلك حكاية لقول الله عز و جل والمراد فكرهنا بجعل الخشية مجازا مرسلا عن لازمها وهو الكراهة على ما قيل قال في الكشف : وذلك لاتحاد مقام المخاطبة كان سؤال موسى عليه السلام منه تعالى والخضر عليه السلام بإذن الله تعالى يجيب عنه وفي ذلك لطف ولكن الظاهر هو الأول انتهى وقيل : هو على هذا الاحتمال بتقدير فقال الله : خشينا والفاء من الحكاية وهو أيضا بعيد ولا يكاد يلائم هذا الاحتمال الآية بعد إلا أن يجعل التعبير بالظاهر فيها التفاتا وفي مصحف عبد الله وقراءة أبي فخاف ربك والتأويل ما سمعت
وقال ابن عطية : إن الخوف والخشية كالترجي بلعل ونحوها الواقع في كلامه تعالى مصروف إلى المخاطبين وإلا فالله جل جلاله منزه عن كل ذلك فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه بأن يرزقهما بدله ولدا خيرا منه زكوة قال ابن عباس : أي دينا وهو تفسير باللازم والكثير قالوا : أي طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على إرادة وصول الخير إليهما وأقرب رحما 18 أي رحمة قال رؤبة بن العجاج : يا منزل الرحم على إدريسا ومنزل اللعن على إبليسا وهما مصدران كالكثر والكثرة والمراد أقرب رحمة عليهما وبرا بهما واستظهر ذلك أبو حيان ولعل وجهه كثرة استعمال المصدر مبنيا للفاعل مع ما في ذلك هنا من موافقة المصدر قبله وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية أن المعنى هما به أرحم منهما بالغلام ولعل المراد على هذا أنه أحب
(16/11)
اليهما من ذلك الغلام إما الزيادة حسن خلقه أو خلقه أو الاثنين معا وهذا المعنى أقرب للتأسيس من المعنى الأول على تفسير المعطوف عليه بما سمعت إلا أنه يؤيد ذلك التفسير ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهما أبدلا جارية ولدت نبيا وقال الثعلبي : إنها أدركت يونس بن متى فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيا هدى الله على يده أمة من الأمم وفي رواية ابن المنذر عن يوسف بن عمر أنها ولدت نبيين وفي رواية أخرى عن ابن عباس وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أنها ولدت سبعين نبيا واستبعد هذا ابن عطية وقال : لا يعرف كثرة الأنبياء عليهم السلام إلا في بني إسرائيل ولم تكن هذه المرأة منهم وفيه نظر ظاهر ووجه التأييد أن الجارية بحسب العادة تحب أبويها وترحمهما وتعطف عليهما وتبر بهما أكثر من الغلام قيل : أبدلهما غلاما مؤمنا مثلهما وانتصاب المصدرين على التمييز والعامل ما قبل كل من أفعل التفضيل ولا يخفى ما في الإبهام أولا ثم البيان ثانيا من اللطف ولذا لم يقل : فأردنا أن يبدلهما ربهما أزكى منه وأرحم على أن خبر زكاة من المدح ما ليس في أزكى كما يظهر بالتأمل الصادق
وذكر أبو حيان أن أفعل ليس للتفضيل هنا لأنه لا زكاة في ذلك الغلام ولا رحمة وتعقب بأنه كان زاكيا ظاهرا من الذنوب بالفعل إن كان صغيرا وبحسب الظاهر إن كان بالغا فلذا قال موسى عليه السلام نفسا زكية وهذا في مقابلته فخير من زكاة من هو زكى في الحال والمآل بحسب الظاهر والباطن ولو سلم فالاشتراك التقديري يكفي في صحة التفضيل وأن قوله : ولا رحمة قول بلا دليل انتهى
وقال الخفاجي : إن الجواب الصحيح هنا أن يكتفى بالاشتراك التقديري لأن الخضر عليه السلام كان عالما بالباطن فهو يعلم أنه لا زكاة فيه ولا رحمة فقوله : إنه لا دليل عليه لا وجه له وأنت تعلم أن الرحمة على التفسير الثاني مما لا يصح نفيها لأنها مدارالخشية فافهم والظاهر أن الفاء للتفريع فيفيد سببية الخشية للإرادة المذكورة ويفهم من تفريع القتل ولم يفرعه نفسه مع أنه المقصود تأويله اعتمادا على ظهور انفهامه من هذه الجملة على ألطف وجه وفيها إشارة إلى رد ما يلوح به كلام موسى عليه السلام من أن قتله ظلم وفساد في الأرض
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير يبدلهما بالتشديد
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم رحما بضم الحاء وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رحما بفتح الراء وكسر الحاء وأما الجدار المعهود فكان لغلامين قيل : إنهما أصرم وصريم يتيمين صغيرين مات أبوهما وهذا هو الظاهر لأن يتم بني آدم بموت الأب وفي الحديث لا يتم بعد بلوغ وقال ابن عطية : يحتمل أنهما كانا بالغين والتعبير عنهما بما ذكر باعتبار ما كان على معنى الشفقة عليهما ولا يخفى أنه بعيد جدا في المدينة هي القرية المذكورة فيما سبق ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا لإظهار نوع اعتداد بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح ولما كان سوق الكلام السابق على غير هذا المساق عبر بالقرية فيه وكان تحته كنز لهما مال مدفون من ذهب وفضة كما أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكمن وصححه من حديث أبي الدرداء وبدلك قال عكرمة وقتادة وهو في الأصل مصدر ثم أريد به اسم المفعول
(16/12)
قال الراغب : الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت التمر في الوعاء واستشكل تفسير الكنز بما ذكر بأن الظاهر أن الكانز له أبوهما لاقتضاء لهما له إذا لا يكون لهما إلا إذا كان إرثا أو كانا قد استخرجاه والثاني منتف فتعين الأول وقد وصف بالصلاح ويعارض ذلك ما جاء في ذم الكانز وأجيب بأن المذموم ما لم تؤد منه الحقوق بل لا يقال لما أديت منه كنز شرعا كما يدل عليه عند القائلين بالمفهوم حديث كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز فإن النبي بصدد بيان الأحكام الشرعية لا المفاهيم اللغوية لأنها معلومة للمخاطبين ولا يعتبر في مفهومه اللغوي المراد هنا شيء من الإخراج وعدمه والوصف بالصلاح قرينة على أنه لم يكن من الكنز المذموم ومن قال : إن الكنز حرام مطلقا ادعى أنه لم يكن كذلك في شرع من قبلنا واحتج عليه بما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء في هذه الآية قال : أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز
موأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحو ذلك وفيه فلا يعجبن الرجل فيقول ما شأن الكنز حل لمن قبلنا وحرم علينا فإن الله تعالى يحل من أمره ما يشاء ويحرم ما يشاء وهي السنن والفرائض تحل لأمة وتحرم على أخرى وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال : ما كان ذهبا ولا فضة ولكن كان صحف علم وروي ذلك أيضا عن ابن جبير وأخرج ابن مردويه من حديث علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا والبزار عن أبي ذر كذلك والخرائطي عن ابن عباس موقوفا أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله
وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنه مكتوب في أحد شقيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت إلخ في الشق الآخر أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه وجمع بعضهم بأن المراد بالكنز ما يشمل جميع ذلك بناء على أنه المال المدفون مطلقا وكل من المذكورات مال كان مدفونا إلا أنه اقتصر في كل الروايات على واحد منها وفيه أنه على بعده يأباه ظاهر قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما كان ذهبا ولا فضة وكان أبوهما صالحا الظاهر أنه الأب الأقرب الذي ولدهما وذكر أن اسمه كاشح وأن اسم أمهما دهنا وقيل : كان الأب العاشر وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه كان الأب السابع وأيا ما كان ففي الآية دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بالأبناء وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن خيثمة قال : قال عيسى عليه السلام طوبى لذرية المؤمن ثم طوبى لهم كيف يحفظون من بعده وتلا خيثمة هذه الآية
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب قال : إن الله تعالى ليحفظ بالعبد الصالح القبيل من الناس وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله تعالى مال الغلامين قال : بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه فقال الخارجي أنبأنا الله تعالى : إنكم قوم خصمون وذكر من صلاح هذا الرجل أن الناس كانوا يضعون عنده الودائع فيردها إليهم كما وضعوها ويروى أنه كان سياحا فأراد ربك مالكك ومدبر أمورك ففي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السلام دون
(16/13)
ضميرهما تنبيه له على تحتم كمال الانقياد والاستسلام لإرادته سبحانه ووجوب الإحتراز عن المناقشة فيما وقع بحسبهما التي يشم منها طلب ما يحصل به تربية البدن وتدبيره أن يبلغا أشدهما قيل أي الحلم وكمال الرأي وفي الصحاح القوة وهو ما بين ثماني عشر إلى ثلاثين وهو واحد جاء على بناء الجمع مثل آنك ولا نظير لهما ويقال : هو جمع لا واحد له من لفظه مثل آسال وأبابيل وعباديد ومذاكير وكان سيبويه يقول : واحده شده وهو حسن في المعنى لأنه يقال بلغ الغلام شدته ولكن لا يجمع فعله على أفعل وأما أنعم فإنما هو جمع نعم من قولهم يوم بؤس ويوم نعم وأما قول من قال : واحده شد مثل كلب وأكلب أو شد مثل ذئب أذؤب فإنما هو قياس كما يقولون في واحد الأبابيل أبول قياسا على عجول وليس هو شيء يسمع من العرب
ويستخرج كنزهما من تحت الجدار ولولا أني أقمته لانقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه والإنتفاع به وذكروا أن اليتيمين كانا غير عالمين بالكنز ولهما وصي يعلم به لكنه كان غائبا والجدار قد شارف فلو سقط لضاع فلذا أقامه رحمة من ربك مفعول له لأراد وأقيم الظاهر مقام الضمير وليس مفعولا له ليستخرجا لاختلاف الفاعل وبعضهم أجاز ذلك لعدم اشتراطه الاتحاد أو جعل المصدر من المبني للمفعول وأجاز أن يكون النصب على الحال وهو من ضمير يستخرجا بتأويل مرحومين والزمخشري النصب على أنه مفعول مطلق لأراد فإن إرادة ذلك رحمة منه تعالى
واعترض بأنه إذا كان أراد ربك بمعنى رحم كانت الرحمة من الرب لا محالة فأي فائدة في ذكر قوله تعالى من ربك وكذا إذا كان مفعولا له وقيل : في الكلام حذف والتقدير فعلت ما فعلت رحمة من ربك فهو حينئذ مفعول له بتقدير إرادة أو رجاء رحمة ربك أو منصوب بنزع الخافض والرحمة بمعنى الوحي أي برحمة ربك ووحيه فيكون قوله وما فعلته عن أمري أي عن رأيي واجتهادي تأكيدا لذلك ذلك إشارة إلى ما ذكر من العواقب المنظومة في سلك البيان وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في الفخامة تأويل ما لم تسطع أي تستطع وهو مضارع اسطاع بهمز الوصل وأصله استطاع على وزن استفعل ثم حذف تاء الإفتعال تخفيفا وبقيت الطاء التي هي أصل وزعم بعضهم أن السين عوض قلب الواو ألفا والأصل أطاع ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل ثم دعوى أنهم أبدلوا من تاء الافتعال طاء لوقوعها بعد السين ويقال تستتيع بإبدال الطاء تاء وتستيع بحذف تاء الإفتعال فاللغات أربع كما قال ابن السكيت : ما ألطف حذف أحد المتقارين وبقاء الآخر في آخر هذا الكلام الذي وقع عنده ذهاب الخضر عن موسى عليهما السلام
وقال بعض المحققين : إنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير وتعقب بأن ذلك مكرر أيضا وذاك أخف منه فلم لم يؤت به وفيه أن الفرق ظاهر بين هذا وذلك وقيل : إنما خص بالتخفيف للإشارة إلى أنه خف على موسى عليه السلام ما لقيه ببيان سببه وتعقب بأنه يبعده أنه في الحكاية لا المحكي وأنت تعلم هذا وكذا ما ذكرناه زهرة لا تتحمل الفرك والتأويل بالمعنى السابق الذي ذكر أنه المراد أي ذلك مآل وعاقبة الذي لم تستطع عليه صبرا 28 من الأمور التي رأيت فيكون إنجاز اللتنبئة الموعودة وجوز أن تكون الإشارة إلى البيان نفسه فيكون التأويل بمعناه المشهور وعلى كل حال فهو فذلكة لما تقدم وفي جعل
(16/14)
الصلة غير ما مر تكرير للتنكير وتشديد للعتاب قيل : ولعل إسناد الإرادة أولا إلى ضمير المتكلم وحده أنه الفاعل المباشر للتعييب وثانيا إلى ضمير المتكلم ومعه غيره لأن إهلاك الغلام بمباشرته وفعله وتبديل غيره موقوف عليه وهو بمحض فعل الله تعالى وقدرته فضمير نا مشترك بين الله تعالىى والخضر عليه السلام وثالثا إلى الله تعالى وحده لأنه لا مدخل له عليه السلام في بلوغ الغلامين واعترض توجيه ضمير الجمع بأن اجتماع المخلوق مع الله تعالى في ضمير واحد لاسيما المتكلم فيه من ترك الأدب ما فيه ويدل على ذلك ما جاء من أن ثابت بن قيس بن شماس كان يخطب في مجلسه إذا وردت وفود العرب فاتفق أن قدم وفد تميم فقام خطيبهم وذكر مفاخرهم ومآثرهم فلما أتم خطبته قام ثابت وخطب خطبة قال فيها من يطع الله عز و جل ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له النبي : بئس خطيب القوم أنت وصرح الخطابي أنه عليه الصلاة و السلام كره منه ما فيه من التسوية وأجيب بأنه قد وقع نحو ذلك في الآيات والأحاديث فمن ذلك قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي فإن الظاهر أن ضمير يصلون على راجع إلى الله تعالى وإلى الملائكة وقوله في حديث الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليهما مما سواهما ولعل ما كرهه من ثابت أنه وقف على قوله يعصهما : لا التسوية في الضمير وظاهر هذا أنه لا كراهة مطلقا في هذه التسوية وهو أحد الأقوال في المسئلة وثانيها ما ذهب إليه الخطابي أنها تكره تنزيها وثالثها ما يفهمه كلام الغزالي أنها تكره تحريما وعلى القول بالكراهة التنزيهية استظهر بعضهم أنها غير مطردة فقد تكره في مقام دون مقام وبني الجواب عما نحن فيه على ذلك فقال : لما كان المقام الذي قام به خطابة وأطناب وهو بحضرة قوم مشركين والإسلام غض طري كره التسوية منه فيه وأما مثل هذا المقام الذي القائل فيه والمخاطب من عرفت وقصد فيه نكتة فيه نكتة وهو عدم استقلاله فلا كراهة للتسوية فيه وخص بعض الكراهة بغير النبي وحينئذ يقوى الجواب عما ذكر لأنه إذا جازت للنبي فهو في كلام الله تعالى وما حكاه سبحانه بالطريق الأولى
وخلاصة ما قرر في المسئلة أن الحق أنه لا كراهة في ذلك في كلام الله تعالى ورسوله كما أشير إليه في شروح البخاري وأما في حق البشر فلعل المختار أنه مكروه تنزيها في مقام دون مقام هذا وأنا لا أقول باشتراك هذا الضمير بين الله تعالى والخضر عليه السلام لا لأن فيه ترك الأدب بل لأن الظاهر أنه كضمير خشينا والظاهر في ذاك عدم الإشتراك لأنه محوج لارتكاب المجاز على أن النكتة التي ذكروها في اختيار التشريك في ضمير أردنا لا تظهر في اختياره في ضمير فخشينا لأنه لم يتضمن الكلام الأول فعلين على نحو ما تضمنهما الكلام الثاني فتدبر وقيل في وجه تغاير الأسلوب : أن الأول شر فلا يليق إسناده إليه سبحانه وأن كان هو الفاعل جل وعلا والثالث خير فأفرد إسناده إلى الله عز و جل والثاني ممتزج خبره وهو تبديله بخير منه وشره وهو القتل فأسند إلى الله تعالى وإلى نفسه نظرا لهما وفيه أن هذا الإسناد في فخشينا أيضا وأين امتزاج الخير والشر فيه وجعل النكتة في التعبير ينافيه مجرد الموافقة لتاليه ليس بشيء كما لا يخفى وقيل : الظاهر أنه أسند الإرادة في الأولين إلى نفسه لكنه تفنن في التعبير فعبر عنها بضمير المتكلم مع الغير بعد ما عبر بضمير المتكلم الواحد لأن مرتبة الانضمام مؤخرة عن مرتبة الانفراد مع أن فيه تنبيها على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية بخلاف التعييب وأسند فعل الإبدال إلى الله
(16/15)
تعالى إشارة إلى استقلاله سبحانه بالفعل وأن الحاصل للعبد مجرد مقارنة إرادة الفعل دون تأثير فيه كما هو المذهب الحق انتهى وأنت تعلم أن الإبدال نفسه مما ليس لإرادة العبد مقارنة له أصلا وإنما لها مقارنة للقتل الموقوف هو عليه على أن في هذا التوجيه بعد ما فيه وفي الانتصاف لعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى لأن المراد ثم عيب فتأدب عليه السلام بأن نسب الإعابة إلى نفسه وأما إسناد الثاني إلى نا فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك أمرنا بكذا ودبرنا كذا وإنما يعنون أمر الملك العظيم ودبر ويدل على ذلك قوله في الثالث فأراد ربك أن يبلغا أشدهما وهو كما ترى وقيل : اختلاف الأسلوب لاختلاف حال العارف بالله سبحانه فإنه في ابتداء أمره يرى نفسه مؤثرة فلذا أسند الارادة أولا إلى نفسه ثم ينتبه إلى أنه لا يستقل بالفعل دون الله تعالى فلذا أسند إلى ذلك الضمير ثم يرى أنه لا دخل له وأن المؤثر والمريد إنما هو الله تعالى فلذا أسنده إليه سبحانه فقط وهذا مقام الفناء ومقام كان الله ولا شيء معه وهو الآن كما كان وتعقب بأنه إن أريد أن هذه الأحوال مرت على الخضر عليه السلام واتصف بكل منها أثناء المحاورة فهو باطل وكيف يليق أن يكون إذ ذاك ممن يتصف بالمرتبة الثانية فضلا عن المرتبة الأولى وهو الذي أوتي من قبل العلم اللدني وإن أريد أنه عبر تعبير من اتصف بكل مرتبة من تلك المراتب وإن كان هو عليه والسلام في أعلاها فإن كان ذلك تعليما لموسى عليه السلام فموسى عليه السلام أجل من أن يعلمه الخضر عليه السلام مسئلة خلق الأعمال وإن كان تعليما لغيره عليه السلام فليس المقام ذلك المقام على تقدير أن يكون هناك غير يسمع منه هذا الكلام وإن أريد أنه عبر في المواضع الثلاثة بأسلوب مخصوص من هاتيك الأساليب إلا أنه سبحانه عبر في كل موضع بأسلوب فتعددت الأساليب في حكايته تعالى القصة لنا تعليما وإشارة إلى هاتيك المراتب وإن لم يكن كلام الخضر عليه السلام كذلك فالله تعالى أجل وأعظم من أن ينقل عن أحد كلاما لم يقله أو لم يقل ما بمعناه فالقول بذلك نوع افتراء عليه سبحانه والذي يخطر ببال العبد الفقير أنه روعي في الجواب حال الاعتراض وما تضمنه وأشار إليه فلما كان الاعتراض الأول بناء على أن لام لتغرق للتعليل متضمنا إسناد إرادة الإغراق إلى الخضر عليه السلام وكان الإنكار فيه دون الإنكار فيما يليه بناء على ما اختاره المحققون من أن نكرا أبلغ من أمرا ناسب أن يشرح بإسناد إرادة التعييب إلى نفسه المشير إلى نفي إرادة الإغراق عنها التي يشير كلام موسى عليه السلام إليها وأن لا يأتي بما يدل على التعظيم أو ضم أحد معه في الإرادة لعدم تعظيم أمر الإنكار المحوج لأن يقابل بما يدل على تعظيم إرادة خلاف ما حسبه عليه السلام وأنكره
ولما كان الإعتراض الثاني في غاية المبالغة والإنكار هناك في نهاية الإنكار ناسب إن يشير إلى أن ما اعترض عليه وبولغ في إنكاره قد أريد به أمر عظيم ولو لم يقع لم يؤمن من وقوع خطب جسيم فلذا أسند الخشية والإرادة إلى ضمير المعظم نفسه أو المتكلم ومعه غيره فإن في إسناد الارادة إلى ذلك تعظيما لأمرها وفي تعظيمه تعظيم أمر المراد وكذا في إسناد الخشية إلى ذلك تعظيم أمرها وفي تعظيمه تعظيم أمر المخشي وربما يقال بناء على إرادة الضم منا : إن في ذلك الإسناد إشارة إلى أن ما يخشى وما يراد قد بلغ في العظم إلى أن يشارك موسى عليه السلام في الخشية منه وفي إرادته الخضر لا أن يستقل بإنكار
(16/16)
ما هو من مبادي ذلك المراد وبه ينقطع عن الأصلين عرق الفساد ولما كان الإعتراض الثالث هينا جدا حيث كان بلفظ لا تصلب فيه ولا إزعاج في ظاهره وخافيه ومع هذا لم يكن على نفس الفعل بل على عدم أخذ الأجرة عليه ليستعان بها على إقامة جدران البدن وإزالة ما أصابه من الوهن فناسب أن يلين في جوابه المقام ولا ينسب لنفسه استقلالا أو مشاركة شيئا ما من الأفعال فلذا أسند الإرادة إلى الرب سبحانه وتعالى ولم يكتف بذلك حتى أضافه إلى ضميره عليه السلام ولا ينافي ذلك تكرير النكير والعتاب لأنه متعلق بمجموع ما ن أولا من ذلك الجناب هذا والله تعالى أعلم بحقيقة أسرار الكتاب وهو سبحانه الموفق للصواب واستدل بقوله وما فعلته عن أمري القائلون بنبوته عليه السلام وهو ظاهر في ذلك واحتمال أن يكون هناك نبي أمره بذلك عن وحي كما زعمه القائلون بولايته احتمال بعيد على أنه ليس في وصفه بقوله تعالى آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما على هذا كثير فائدة بل قد يقال : أي فائدة في هذا العالم اللدني إذا احتاج في إظهار العجائب لموسى عليه السلام إلى توسيط نبي مثله وقال بعضهم : كان ذلك عن إلهام ويلزمه القول بأن الإلهام كان حجة في بعض الشرائع وأن الخضر من المكلفين بتلك الشريعة وإلا فالظاهر أن حجيته ليست في شريعة موسى عليه السلام وكذا هو ليس بحجة في شريعتنا على الصحيح ومن شذ وقال بحجيته اشترط لذلك أن لا يعارضه نص شرعي فلو أطلع الله تعالى بالإلهام بعض عباده على نحو ما اطلع عليه الخضر عليه السلام من حال الغلام لم يحل له قتله وما أخرجه الإمام أحمد عن عطاء أنه قال : كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم إنما قصد به ابن عباس كما قال السبكي المحاجة والإحالة على ما لم يكن قطعا لطعمه في الاحتجاج بقصة الخضر وليس مقصوده رضي الله تعالى عنه أنه إن حصل ذلك يجوز القتل فما قاله اليافعي في روضه من أنه لو أذن الله تعالى لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا وعلم الأذن يقينا فلبسه لم يكن منتهكا للشرع وحصول اليقين له من حيث حصوله للخضر بقتله للغلام إذ هو ولي لا نبي على الصحيح انتهى عثرة يكاد أن لا يقال لصاحبها لعالان مظنة حصول اليقين اليوم الإلهام وهو ليس بحجة عند الأئمة ومن شذ اشترط ما اشترط وحصوله بخبر عيسى عليه السلام إذا نزل متعذر لأنه عليه السلام ينزل بشريعة نبينا ومن شريعته تحريم لبس الحرير على الرجال إلا للتداوي وما ذكره من نفي نبوة الخضر لا يعول عليه ولا يلتفت إليه وممن صرح بأن الإلهام ليس بحجة من الصوفية الإمام الشعراني وقال : قد زل في هذا الباب خلق كثير فضلوا وأضلوا ولنا في ذلك مؤلف سميته حد الحسام في عنق من أطلق إيجاب العمل بالإلهام وهو مجلد لطيف انتهى وقال أيضا في كتابه المسمى بالجواهر والدرر : قد رأيت من كلام الشيخ محيي الدين قدس سره ما نصه اعلم أنا لا نعني بملك الإلهام حيث أطلقناه إلا الدقائق الممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة فإن الملك لا ينزل بوحي على غير قلب نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي جملة واحدة فإن الشريعة قد استقرت وتبين الفرض والواجب وغيرهما فانقطع الأمر الإلهي بانقطاع النبوة والرسالة وما بقي أحد يأمره الله تعالى بأمر يكون شرعا مستقلا يتعبد به أبدا لأنه إن أمره بفرض كان الشارع قد أمر به وإن أمره بمباح فلا يخلو إما أن يكون ذلك المباح المأمور به صار واجبا أو مندوبا في حقه فهذا عين نسخ الشرع الذي هو عليه حيث صير المباح الشرعي واجبا أو مندوبا وإن أبقاه مباحا كما كان
(16/17)
فأي فائدة للأمر الذي جاء به ملك الإلهام لهذا المدعي فإن قال : لم يجئني ملك الإلهام بذلك وإنما أمرني الله تعالى بلا واسطة قلنا : لا يصدق في مثل ذلك وهو تلبيس من النفس فإن ادعى أن الله سبحانه كلمه كما كلم موسى عليه السلام فلا قائل به ثم إنه تعالى لو كلمه ما كان يلقى إليه في كلامه إلا علوما وأخبارا لا أحكاما وشرعا و لايأمره أصلا انتهى
وقد صرح الإمام الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره العزيز في المكتوبات في مواضع عديدة بأن الإلهام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ويعلم من ذلك أنه لا مخالفة بين الشريعة والحقيقة والظاهر والباطن وكلامه قدس سره في المكتوبات طافح بذلك ففي المكتوب الثالث والأربعين من الجلد الأول أن قوما مالوا إلى الإلحاد والزندقة يتخيلون أن المقصود الأصلي وراء الشريعة حاشا وكلا ثم حاشا وكلا نعوذ بالله سبحانه من هذا الإعتقاد السوء فكل من الطريقة والشريعة عين الآخر لا مخالفة بينهما بقدر رأس الشعيرة وكل ما خالف الشريعة مردود وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة وقال في أثناء المكتوب الحادي والأربعين من الجلد الأول أيضا في مبحث الشريعة والطريقة والحقيقة : مثلا عدم نطق اللسان بالكذب شريعة ونفي خاطر الكذب عن القلب إن كان بالتكلف والتعمل فهو طريقة وإن تيسر بلا تكلف فهو حقيقة ففي الجملة الباطن الذي هو الطريقة والحقيقة مكمل الظاهر الذي هو الشريعة فالسالكون سبيل الطريقة والحقيقة إن ظهر منهم في أثناء الطريق أمور ظاهرها مخالف للشريعة ومناف لها فهو من سكر الوقت وغلبة الحال فإذا تجاوزوا ذلك المقام ورجعوا إلى الصحو ارتفعت تلك المنافاة بالكلية وصارت تلك العلوم المضادة بتمامها هباء منثورا
وقال نفعنا الله تعالى بعلومه في أثناء المكتوب السادس والثلاثين من الجلد الأول أيضا : للشريعة ثلاثة أجزاء علم وعمل وإخلاص فما لم تتحقق هذه الأجزاء لم تتحقق الشريعة وإذا تحققت الشريعة حصل رضا الحق سبحانه وتعالى وهو فوق جميع السعادات الدنيوية والأخروية ورضوان من الله أكبر فالشريعة متكفلة بجمع السعادات ولم يبق مطلب وراء الشريعة فالطريقة والحقيقة اللتان امتاز بهما الصوفية كلتاهما خادمتان للشريعة في تكميل الجزء الثالث الذي هو الإخلاص فالمقصود منها تكميل الشريعة لا أمر آخر وراء ذلك إلى آخر ما قال وقال عليه الرحمة في أثناء المكتوب التاسع والعشرين من الجلد المذكور بعد تحقيق كثير : فتقرر أن طريق الوصول إلى درجات القرب الإلهي جل شأنه سواء كان قرب النبوة أو قرب الولاية منحصر في طريق الشريعة التي دعا إليها رسول الله وصار مأمورا بها في آية قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وآية قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله تدل على ذلك أيضا وكل طريق سوى هذا الطريق ضلال ومنحرف عن المطلوب الحقيقي وكل طريقة ردتها الشريعة فهي زندقة وشاهد ذلك آية وأن هذا صراطي مستقيما وآية فماذا بعد الحق إلا الضلال وآية ومن يبتغ غير الإسلام دينا وحديث خط لنا النبي الخبر وحديث كل بدعة ضلالة وأحاديث أخر إلى آخر ما قال عليه رحمة الملك المتعال وقال قدس سره في معارف الصوفية : اعلم أن معارف الصوفية وعلومهم في نهاية سيرهم وسلوكهم إنما هي علوم الشريعة لا أنها علوم أخر غير علوم الشريعة نعم يظهر في أثناء الطريق علوم ومعارف كثيرة ولكن لا بد من العبور عنها ففي نهاية النهايات علومهم علوم العلماء وهي علوم الشريعة والفرق
(16/18)
بينهم وبين العلماء أن تلك العلوم بالنسبة إلى العلماء نظرية واستدلالية وبالنسبة إليهم تصير كشفية وضرورية
وقال أيضا : اعلم أن الشريعة والحقيقة متحدان في الحقيقة ولا فرق بينهما إلا بالإجمال والتفصيل وبالاستدلال والكشف بالغيب والشهادة وبالتعمل وعدم التعمل وللشريعة من ذلك الأول وللحقيقة الثاني وعلامة الوصول إلى حقيقة حق اليقين مطابقة علومه ومعارفه لعلوم الشريعة ومعارفها وما دامت المخالفة موجودة ولو أدنى شعرة فذلك دليل على عدم الوصول وما وقع في عبارة بعض المشايخ من أن الشريعة قشر والحقيقة لب فهو وإن كان مشعرا بعدم استقامة قائله ولكن يمكن أن يكون مراده أن المجمل بالنسبة إلى المفصل حكمه حكم القشر بالنسبة إلى اللب وإن الاستدلال بالنسبة إلى الكشف كذلك والأكابر المستقيمة أحوالهم لا يجوزون الإتيان بمثل هذه العبارات الموهمة إلى غير ذلك من عباراته الشريفة التي لا تكاد تحصى
وقال سيدي القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره : جميع الأولياء لا يستمدون إلا من كلام الله تعالى ورسوله ولا يعملون إلا بظاهرهما وقال سيد الطائفة الجنيد قدس سره : الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة و السلام وقال أيضا : من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا العلم لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة وقال السري السقطي : التصوف اسم لثلاثة معان وهو لا يطفيء نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بسر باطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله وقال أيضا قدس سره : من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط
وقال أبو الحسين النوري : من رأيته يدعي مع الله تعالى حالة تخرجه عن جد العلم الشرعي فلا تقربه ومن رأيته يدعي حالة لا يشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه وقال أبو سعيد الخراز : كل فيض باطن يخالفه ظاهر فهو باطل
وقالأبو العباس أحمد الدينوري : لسان الظاهر لا يغير حكم الباطن وفي التحفة لابن حجر قال الغزالي : من زعم أن له مع الله تعالى حالا أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم شرب الخمر وجب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر لأن ضرره أكثر انتهى ولا نظر في خلوده لأنه مرتد لاستحلاله ما علمت حرمته أو نفيه وجوب ما علم وجوبه ضرورة فيهما ومن ثم جزم في الأنوار بخلوده انتهى
وقال في الإحياء : من قال إن الباطل يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان إلى غير ذلك وفي رسالة القشيري طرف منه والذي ينبغي أن يعلم أن كلام العارفين المحققين وإن دل على أنه لا مخالفة بين الشريعة والطريقة والحقيقة لكنه يدل أيضا على أن في الحقيقة كشوفا وعلوما غيبية ولذا تراهم يقولون : علم الحقيقة هو العلم اللدني وعلم المكاشفة وعلم الموهبة وعلم الأسرار والعلم المكنون وعلم الوراثة إلا أن هذا لا يدل على المخالفة فإن الكشوف والعلوم الغيبية ثمرة الإخلاص الذي هو الجزء الثالث من أجزاء الشريعة فهي الحقيقة مترتبة على الشريعة ونتيجة لها ومع هذا لا تغير تلك الكشوف والعلوم الغيبية حكما شرعيا ولا تقيد مطلقا ولا تطلق مقيدا خلافا لما توهمه ساجقلي زاده حيث قال في شرح عبارة الإحياء السابقة آنفا : يريد الغزالي من الباطن ما ينكشف لعلماء الباطن من حل بعض الأشياء لهم مع أن الشارع حرمه على عباده مطلقا فيجب أن يقال : إنما انكشف حله لهم لما انكشف لهم من سبب خفي يحلله لهم وتحريم الشارع تعالى ذلك على عباده مقيد بانتفاء انكشاف السبب المحلل لهم فمن انكشف له ذلك السبب حل له ومن لا فلا لكن الشارع سبحانه حرمه على عاده على الإطلاق وترك ذلك القيد لندرة وقوعه إذ من ينكشف
(16/19)
له قليل جدا مثاله انكشاف محلل خرق السفينة وقتل الغلام للخضر عليه السلام فحل له بذلك الإنكشاف الخرق والقتل وحلهما له مخالف لإطلاق نهي النبي أمته عن الضرر وعن قتل الصبي لكنهما مقيدان فالأول مقيد بما إذا يعلم هناك غاصب مثلا والثاني إذا لم يعلم أن الصبي سيصير ضالا مضلا لكن الشارع ترك القيدين لندرة وقوعهما واعتمادا على فهم الراسخين في العلم إياهما إلى آخر ما قال فإن النصوص السابقة تنادي بخلافه كما سمعت ثم إن تلك الغيوب والمكاشفات بل سائر ما يحصل للصوفية من التجليات ليست من المقاصد بالذات ولا يقف عندها الكامل ولا يلتفت إليها وقد ذكر الإمام الرباني قدس سره في المكتوب السادس والثلاثين المتقدم نقل بعضه أنها تربي بها أطفال الطريق وأنه ينبغي مجاوزتها والوصول إلى مقام الرضا الذي هو نهاية مقامات السلوك والجذبة وهو عزيز لا يصل إليه واحد من ألوف ثم قال : إن الذين هم قليلو النظر يعدون الأحوال والمواجيد من المقامات والمشاهدات والتجليات من المطالب فلا جرم بقوا في قيد الوهم والخيال وصاروا محرومين من كمالات الشريعة كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب انتهى ويعلم منه أن الكاملين في الشريعة يعبرون على ذلك ولا يلتفتون إليه ولا يعدونه مقصدا وجل مقصدهم تحصيل مقام الرضا وعلى هذا يخرج بيت المثنوي حيث يقول : زان طرف كه عشق من افزوددرد بو حنيفة شافعي درسي نكرد وقد يحجب الكامل عن جميع ذلك ويلحق من هذه الحيثية بعوام الناس ويعلم مما ذكر أن موسى عليه السلام أكمل من الخضر وأعلمية الخضر عليه السلام بعلم الحقيقة كانت بالنسبة إلى الحالة الحاضرة فإن موسى عليه السلام عبر على ذلك ولم يقف عنده لأنه في مقام التشريع ولعل طلبه التعليم كان بالأمر ابتلاء له بسبب تلك الفلتة وقد ذكروا أن الكامل كلما كان صعوده أعلا كان هبوطه أنزل وكلما كان هبوطه أنزل كان في الإرشاد أكمل في الإضافة أتم لمزيد المناسبة حينئذ بين المرشد والمسترشد ولهذا قالوا فيما يحكى : إن الحسن البصري وقف على شط نهر ينتظر سفينة فجاء حبيب العجمي فقال له : ما تنتظر فقال : سفينة فقال : أي حاجة إلى السفينة أمالك يقين فقال الحسن : أمالك علم ثم عبر حبيب على الماء بلا سفينة ووقف الحسن أن الفضل للحسن فإنه كان جامعا بين علم اليقين وعين اليقين وعرف الأشياء كما هي وفي نفس الأمر جعلت القدرة مستورة خلف الحكمة والحكمة في الأسباب وحبيب صاحب سكر لم ير الأسباب فعومل برفعها ومن هنا يظهر سر قلة الخوارق في الصحابة مع قول الإمام الرباني : إن نهاية أويس سيد التابعين بداية وحشي قاتل حمزة يوم أسلم فما الظن بغير أو يس مع غير وحشي وأنا أقول : إن الكامل وإن كان من علمت إلا أنه فوقه الأكمل وهو من لم يزل صاعدا في نزوله ونازلا في صعوده وليس ذلك إلا رسول الله ولولا ذلك ما أمد العالم العلوي والسفلي وهذا مرجع الحقيقة والشريعة له عليه الصلاة و السلام على الوجه الأتم كما أشرنا إليه سابقا والحمد لله تعالى على أن جعلنا من أمته وذريته ولا يعكر على ما ذكرنا ما قالة الإمام الغزالي في الإحياء وهو أن علم الآخرة قسمان علم مكاشفة وعلم معاملة أما علم المكاشفة فهو علم الباطن وهو غاية العلوم وهو علم الصديقين والمقربين وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من الصفات المذمومة وينكشف بذلك ما كان يسمع من قبل أسمائها ويتوهم لها معان مجملة غير متضحة فتتضح
(16/20)
إذ ذاك حتى تحصل المعرفة بذات الله تعالى وبصفاته التامات وبأفعاله وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة انتهى
لأن المراد أن ذلك من علم الباطن الذي هو علم الحقيقة وهذا البعض لا يمكن أن يخلو منه نبي كيف ورتبة الصديقين دون رتبة الأنبياء عليهم السلام كما قرروه في آية أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومما ذكرنا من عدم المخالفة بين الشريعة والحقيقة يعلم ما في كلام البلقيني في دفع ما استشكله من قول الخضر لموسى عليهما السلام : إني على علم الحديث السابق حيث زعم أنه يدل بظاهره على امتناع تعليم العلمين معا مع أنه لا يمتنع وأجاب بأن علم الكشوف والحقائق ينافي علم الظاهر الذي ليس مكلفا به وينافي ما عنده من الحقيقة ولعمري لقد أخطأ فيما قال وبالحق تعرف الرجال وكأنه لم يعتمد عليه فأردفه وبجواب آخر هو خلاف الظاهر
وأنت علم أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك والاستشكال من ضعف النظر ثم إن قصة الخضر عليه السلام لا تصلح حجة لمن يزعم المخالفة بين العلمين فإن أعظم ما يشكل فيها قتل الغلام لكونه طبع كافرا وخشي من بقائه حيا ارتداد أبويه وذلك أيضا شريعة لكنها مخصوصة به عليه السلام لأنه كما قال العلامة السبكي : أوحي إليه أن يعمل بالباطن وخلاف الظاهر الموافق للحكمة فلا إشكال فيه وإن علم من شريعتنا أنه لا يجوز لأحد كائنا من كان قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين وكيف يجوز قتله بسبب لم يحصل والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي واتفاق الشرائع في الأحكام مما لم يذهب إليه أحد من الأنام فضلا عن العلماء الأعلام وهذا ظاهر على القول بنبوته وأما على القول بولايته فيقال : إن عمل الولي بالإلهام كان إذ ذاك شرعا أو كما قيل إنه أمر بذلك على يد نبي غير موسى عليه السلام وأما إقامة الجدار بلا أجر فلا إشكال فيها لأنها إحسان وغاية ما يتخيل أنه للمسيء فليكن كذلك ولا ضير فإنه من مكارم الأخلاق وأما خرق السفينة لتسلم من غصب الظالم فقد قالوا : إنه مما لا بأس به حتى قال العز بن عبد السلام : إنه إذا كان تحت يد الإنسان مال اليتيم أو سفيه أو مجنون وخاف عليه أن يأخذه ظالم يجب عليه تعييبه لأجل حفظه وكان القول قول من عيب مال اليتيم ونحوه إذا نازعه اليتيم ونحوه بعد الرشد ونحوه في أنه فعله لحفظه على الأوجه كما قاله القاضي زكريا في شرح الروض قبيل باب الوديعة
ونظير ذلك ما لو كان تحت يده مال اليتيم مثلا وعلم أنه لو لم يبذل منه شيئا لقاض سوء لانتزعه منه وسلمه لبعض الخونة وأدى ذلك إلى ذهابه فإنه يجب عليه أن يدفع إليه شيئا ويتحرى في أقل ما يمكن إرضاؤه به ويكون القول قوله أيضا وقال بعضهم : قصارى ما تدل عليه القصة ثبوت العلم الباطن وهو مسلم لكن إطلاق الباطن عليه إضافي كما تقدم وكان في قوله إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء بالله تعالى فإذا قالوه لا ينكره إلا أهل الغرة باله تعالى إشارة إلى ذلك والمراد بأهل الغرة علماء الظاهر الذين لم يؤتوا ذلك وبعض مثبتيه يستدلون بقول أبي هريرة : حفظت من رسول الله وعاءين من العلم فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم واستدل به أيضا على المخالفة بين العلمين
وأنت تعلم أنه يحتمل أن يكون أراد بالآخر الذي لو بثه لقتل علم الفتن وما وقع من بني أمية وذم النبي لأناس معينين منهم ولا شك أن بث ذلك في تلك العصار يجر إلى القتل وعلى تسليم أنه أراد به العلم الباطن المسمى بعلم الحقيقة لا نسلم أن قطع البلعوم منه على بثه لمخالفته للعلم الظاهر في نفس الأمر بل لتوهم
(16/21)
من بيده الحل والعقد والأمر والنهي من أمراء ذلك الزمان المخالفة فافهم واستدل العلماء بما في القصة حسبما ذكره شراح الحديث وغيرهم من استحباب الرحلة للعلم وفضل طلبه واستحباب استعمال الأدب مع العالم واحترام المشايخ وترك الاعتراض عليهم وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم والوفاء بعهودهم والاعتذار عند مخالفتهم وعلى جواز اتخاذ الخادم في السفر وحمل الزاد فيه وأنه لا ينافي التوكل ونسبة النسيان ونحوه من الأمور المكروهة إلى الشيطان مجازا وتأدبا عن نسبتها إلى الله تعالى واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه وتقديم المشيئة في الأمر واشتراط المتبوع على التابع وعلى أن النسيان غير مؤاخذ به وأن للثلاث اعتبارا في التكرار ونحوه وعلى جواز ركوب السفينة وفيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى عليه السلام وعلى جواز أن يطلب الإنسان الطعام عند احتياجه إليه وعلى أن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام وجواز أخذ الأجر على الأعمال وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة بملك آلة يكتسب بها أو بشيء لا يكفيه وأن الغصب حرام وأنه يجوز دفن المال في الأرض وفيه إثبات كرامات الأولياء على قول من يقول : الخضر ولي إلى غير ذلك مما يظهر للمتتبع أو للمتأمل وبالجملة قد تضمنت هذه القصة فوائد كثيرة ومطالب عالية خطيرة فأمعن النظر في ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك
ومن باب الإشارة في الآيات على ما ذكره بعض أهل الإشارة فوجدا عبدا من عبادنا فيه إشارة إلى أن لله تعالى خواص أضافهم سبحانه إليه وقطعهم عن غيره وأخص خواصه عز و جل من أضافه إلى الإسم الجليل وهو اسم الذات الجامع لجميع الصفات أو إلى ضمير الغيبة الراجع إليه تعالى وليس ذاك إلا حبيبه الأكرم آتيناه رحمة من عندنا وهي مرتبة القرب منه عز و جل وعلمناه من لدنا علما وهو العلم الخاص الذي لا يعلم إلا من جهته تعالى وقال ذو النون : العلم اللدني هو الذي يحكم على الخلق بمواقع التوفيق والخذلان
وقال الجنيد قدس سره : هو الإطلاع على الأسرار من غير ظن فيه ولا خلاف واقع لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات ويحصل للعبد إذا حفظ جوارحه عن جميع المخالفات وأفنى حركاته عن كل الارادات وكان شبحا بين يدي الحق بلا تمني ولا مراد وقيل : هو علم يعرف به الحق سبحانه أولياءه ما فيه صلاح عباده وقال بعضهم : هو علم غيبي يتعلق بعالم الأفعال وأخص منه الوقوف على بعض سر القدر قبل وقوع واقعته وأخص من ذلك علم الأسماء والنعوت الخاصة وأخص منه علم الذات
وذكر بعض العارفين أن من العلوم ما لا يعلمه إلا النبي واستدل بقوله في حديث المعراج كما ذكره القسطلاني في مواهبه وغيره سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى فعلم أخذ على كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري وعلم خيرني فيه وعلمني القرآن فكان جبريل عليه السلام يذكرني به وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي انتهى ولله تعالى علم استأثر به عز و جل لم يطلع عليه أحدا من خلقه قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قاله عن ابتلاء إلهي كما قدمنا وقال فارس كما في أسرار القرآن : إن موسى عليه السلام كان أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله تعالى والخضر كان أعلم من موسى فيما وقع إلى موسى عليه السلام وقال أيضا : إن موسى كان باقيا بالحق والخضر كان فانيا بالحق قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على
(16/22)
ما لم تحط به خبرا قيل : علم الخضر أن موسى عليه السلام أكرم الخلق على الله تعالى في زمانه وأنه ذو حدة عظيمة ففزع من صحبته لئلا يقع منه معه ما لا يليق بشأنه
وقال بعضهم : آيسه من نفسه لئلا يشغله صحبته عن صحبة الحق قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال بعضهم : لو قال كما قال الذبيح عليه السلام : ستجدني إن شاء الله من الصابرين لوفق للصبر كما وفق للذبيح والفرق أن كلام الذبيح أظهر في الالتجاء وكسر النفس حيث علق بمشيئة الله تعالى وجدانه واحدا من جماعة متصفين بالصبر ولا كذلك كلام موسى عليه السلام فانطلقا حتى أتيا أهل قرية استطعما أهلها سلكا طريق السؤال الذي يتعلق بذل النفس في الطريقة وهو لا ينافي التوكل وكذا الكسب قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا كأنه عليه السلام أراد دفع ما أحوجهما من السؤال من أولئك اللئام وفيه نظر إلى الأسباب وهو من أحوال الكاملين كما مر في حكاية الحسن البصري وحبيب ففي هذا إشارة إلى أنه أكمل من الخضر عليهما السلام قال هذا فراق بيني وبينك أي حسبما أردت وقال النصر أبادي : لما علم الخضر بلوغ موسى إلى منتهى التأديب وقصور علمه عن علمه قال ذلك لئلا يسأله موسى بعد عن علم أو حال فيفتضح
وقيل : خاف أن يسأله عن أسرار العلوم الربانية الصفاتية الذاتية فيعجز عن جوابه فقال ما قال وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا قيل : كان حسن الوجه جدا وكان محبوبا في الغاية لوالديه فخشى فتنتهما به والآية من المشكل ظاهرا لأنه إن كان قد قدر الله تعالى عليهما الكفر فلا ينفعهما قتل الولد وإن لم يكن قدر سبحانه ذلك فلا يضرهما بقاؤه وأجيب بأن المقدر بقاؤهما على الإيمان إن قتل وقتله ليبقيا على ذلك
موقيل إن المقدر قد يغير ولا يلزم من ذلك سوى التغير في تعلق صفته تعالى لا في الصفة نفسها ليلزم التغير فيه عز و جل وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب
واستشكل أيضا بأن المحذور يزول بتوفيقه للإيمان فما الحاجة إلى القتل وأجيب بأن الظاهر أنه غير مستعد لذلك فهو مناف للحكمة وكأن الخضر عليه السلام رأى فيما قال نوع مناقشة فتخلص من ذلك بقوله وما فعلته عن أمري أي بل فعلته بأمر الله عز و جل ولا يسئل سبحانه عما أمر وفعل ولعل قوله لموسى عليه السلام ما قال حين نقر العصفور في البحر سد لباب المناقشة فيما أمر الله تعالى شأنه ولعل علم مثل هذه المسائل من العلم الذي استأثر الله سبحانه به ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وأول بعضهم مجمع البحرين بمجمع ولاية الشيخ وولاية المريد والصخرة بالنفس والحوت بالقلب المملح بملح حب الدنيا وزينتها والسفينة بالشريعة وخرقها بهدم الناموس في الظاهر مع الصلاح في الباطن وإغراق أهلها بإيقاعهم في بحار الضلال والغلام بالنفس الأمارة وقتله بذبحه بسيف الرياضة والقرية بالجسد وأهلها بالقوى الإنسانية من الحواس واستطعامهم بطلب أفاعيلها التي تختص بها وإباء الضيافة بمنعها إعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها والجدار بالتعلق الحائل بين النفس الناطقة وعالم المجردات وإرادة الانقضاض بمشارفة قطع العلائق وإقامته بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس ومشيئة اتخاذ الأجر بمشيئة الصبر على شدة الرياضة لنيل الكشوف وإضافة الأنوار والمساكين بالعوام والبحر الذي يعلمون فيه ببحر الدنيا والملك بالشيطان والسفن التي يغصبها العبادات الخالية عن الإنكسار والذل والخشوع والأبوين المؤمنين بالقلب والروح والبدل الخير بالنفس المطمئنة والملهمة والكنز
(16/23)
بالكمالات النظرية والعلمية والأب الصالح بالعقل المفارق الذي كمالاته بالفعل وبلوغ الأشد يوصولهما بتربية الشيخ وإرشاده إلى المرتبة الكاملة وهذا ما اختاره النيسابوري واختار غيره تأويلا آخر هو أدهى منه هذا والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب ويسألونك عن ذي القرنين كان السؤال على وجه الامتحان والسائلون في المشهور قريش بتلقين اليهود وقيل : اليهود أنفسهم وروي ذلك عن السدي وأكثر الآثار تدل على أن الآية نزلت بعد سؤالهم فالتعبير بصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة الماضية لما أن في سؤالهم على ذلك الوجه مع مشاهدتهم من أمره ما شاهدوا نوع غرابة وقيل : للدلالة على استمرارهم على السؤال إلى وردود الجواب وبعض الآثار يدل على أن الآية نزلت قبل فعن عقبة بن عامر قال : إن نفرا من أهل الكتاب جاؤا بالصحف أو الكتب فقالو لي : استأذن لنا على رسول الله لندخل عليه فانصرفت إليه عليه الصلاة و السلام فأخبرته بمكانهم فقال : ما لي ولهم يسألونني عما لا أعلم إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي ثم قال : ائتني بوضوء أتوضأ به فأتيته فتوضأ ثم قام إلى مسجد في بيته فركع ركعتين فانصرف حتى بدا السرور في وجهه ثم قال : اذهب فأدخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي فأدخلهم فلما رآهم النبي قال : إن شئتم أخبرتكم بما سألتموني عنه وإن شئتم غير ذلك فافعلوا والجمهور على الأول ولم تثبت صحة هذا الخبر
واختلف في ذي القرنين فقيل : هو ملك أهبطه الله تعالى إلى الأرض وآتاه من كل شيء سببا وروى ذلك عن جبير بن نفير واستدل على ذلك بما أخرجه ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال له عمر : ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما لكم وأسماء الملائكة وهذا قول غريب بل لا يكاد يصح والخبر على فرض صحته ليس نصا في ذلك إذ يحتمل ولو على بعد أن يكون المراد أن هذا الاسم من أسماء الملائكة عليهم السلام فلا تسموا به أنتم وأن تسمى به بعض من قبلكم من الناس
وقيل : هو عبد صالح ملكه الله تعالى الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة ولا نعرف من هو وذكر في تسميته بذي القرنين وجوه الأول أنه دعا إلى طاعة الله تعالى فضرب على قرنه الأيمن فمات ثم بعثه الله تعالى فدعا فضرب على قرنه الأيسر فمات ثم بعثه الله تعالى فسمي ذا القرنين وملك ما ملك وروي هذا عن علي كرم الله تعالى وجهه والثاني أنه انقرض في وقته قرنان من الناس الثالث أنه كانت صفحتا رأسه من نحاس وروي ذلك عن وهب بن منبه الرابع أنه كان في رأسه قرنان كالظلفين وهو أول من لبس العمامة ليسترهما وروي ذلك عن عن عبيد بن يعلي الخامس أنه كان لتاجه قرنان السادس أنه طاف في الدنيا أي شرقها وغربها وروي ذلك مرفوعا السابع أنه كان له غديرتان وروي ذلك عن قتادة ويونس بن عبيد الثامن أنه سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمتد الظلمة من ورائه والتاسع أنه دخل النور والظلمة العاشر أنه رأى في منامه كأنه صعد إلى الشمس وأخذ بقرنيها
الحادي عشر أنه يجوز أن يكون قد لقب بذلك لشجاعته كأنه ينطح أقرانه كما لقب أزدشير بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد ولا يخفى أنه يبعد عدم معرفة رجل مكر له ما مكن في الأرض وبلغ من الشهرة ما بلغ في طولها والعرض وأما الوجوه المذكورة في وجه تسميته ففيها ما لا يكاد يصح ولعله غير خفي عليك
(16/24)
وقيل : هو فريدون بن اثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية وكان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى
وفي كتاب صورالأقاليم لأبي زيد البلخي أنه كان مؤيدا بالوحي وفي عامة التاريخ أنه ملك الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة ايرج وسلم وتور فأعطى ايرج العراق والهندوالحجاز وجعله صاحب التاج وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب وأعطى تور الصين والترك والمشرق ووضع لكل قانونا تحكم به وسميت القوانين الثلاثة سياسة فهي معربة سيي ايسا أي ثلاثة قوانين ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة أو أعظم شجاعته وقهره الملوك ورد بأنه قد أجمع أهل التاريخ على أنه لم يسافر لا شرقا ولا غربا وإنما دوخ له البلاد كاوه الأصفهاني الحداد الذي مزق الله تعالى على يده ملك الضحاك وبقي رئيس العساكر إلى أن مات ويلزم على هذا القول أيضا أن يكون الخضر عليه السلام على مقدمته بناء على ما اشتهر أنه عليه السلام كان على مقدمة ذي القرنين ولم يذكر ذلك أحد من المؤرخين وأجيب بأن من يقول : إنه الاسكندر يثبت جميع ما ثبت للإسكندر في الآيات والأخبار ولا يبالي بعدم ذكر المؤرخين لذلك وهو كما ترى وقيل : هو اسكندر اليوناني ابن فليقوس وقيل : قلفيص وقيل : قليص
وقال ابن كثير : هو ابن فيليس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نونه بن شرخون بن تونط بن يوفيل بن رومي بن الأصغر بن العزير بن إسحق بن إبراهيم الخليل عليه السلام وكان سرير ملكه مقدونيا وهي بلدة من بلاد الروم غربي دار السلطنة السنية قسطنطينية المحمية بينهما من المسافة قدر خمسة عشر يوما أو نحو ذك عند مدينة شيروز وقوا ابن زيدون : إنها مصروهم وهو الذي غلب دارا الأصغر واستولى على ملك الفرس وكان مولده في السنة الثالثة عشر من ملك دارا الأكبر وزعم بعضهم أنه أبوه وذلك أنه تزوج بنت فيلقوس فلما قربها وجد منها رائحة منكرة فأرسلها إلى أبيها وقد حملت بالإسكندر فلما وضعته في كفالة أبيها فنسب إليه وقيل : إن دارا الأكبر تزوج بنت ملك الزنج هلابي فاستخبث ريحها فأمر أن يحتال لذلك فكانت تغتسل بماء السندروس فأذهب كثيرا من ذفرها ثم عافها وردها إلى أهلها فولدت الإسكندر وكان يسمى الإسكندروس ويدل على أنه ولده أنه لما أدرك دارا الأصغر بن دارا الأكبر وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال له : يا أخي أخبرني عمن فعل هذا بك لأنتقم منه وهو زعم باطل وقوله : يا أخي من باب الإكرام ومخاطبة الأمثال وإنما سمي ذا القرنين لملكه طرفي الأرض أو لشجاعته واستدل لهذا القول بأن القرآن دل على أن الرجل بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق وجهة الشمال وذلك تمام المعمور من الأرض وسئل هذا الملك يجب أن يبقى ذكره مخلدا والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا هذا الإسكندر وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم وانتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر واستولى على دارا وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الشهيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها وقيل مات برومية المدائن ووضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية وعاش اثنين وثلاثين سنة ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة وقيل
(16/25)
عاش ستا وثلاثين ومدة ملكه ست عشرة سنة وقيل : غير ذلك فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة وثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر كذا ذكره الإمام ثم قال : وهذا القول هو الأظهر للدليل المذكور إلا أن فيه إشكالا قويا وهو أنه كان تلميذ أرسطو الحكيم المقيم بمدينة أنينة أسلمه إليه أبوه فأقام عنده خمس سنين وتعلم منه الفلسفة وبرع فيها وكان على مذهبه فتعظيم الله تعالى إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وذلك مما لاسبيل إليه وأجيب بأنا لا نسلم أنه كان على مذهبه في جميع ما ذهب إليه والتلمذة على شخص لا توجب الموافقة في جميع مقالات ذلك الشخص ألا ترى كثرة مخالفة الإمامين لشيخهما الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيحتمل أن يكون مخالفا له فيما يوجب الكفر وفي ذبحه في مذبح بيت المقدس دليل على أنه لم يكن يرى جميع ما يراه الحكماء ولا يخفى أنه احتمال بعيد والمشهور أنه كان قائلا بما يقوله الحكماء والذبح المذكور غير متحقق والاستدلال به ضعيف وقيل : إن قوله بذلك وتمذهبه بمذهب أرسطو لا يوجب كفره إذ ذاك فإنه كان مقرا بالصانع تعالى شأنه معظما له غير عابد سواه من صنم أو غيره كما يدل عليه ما نقله الشهرستاني أن الحكماء تشاوروا في أن يسجدوا له إجلالا وتعظيما فقال : لا يجوز السجود لغير باديء الكل ولم يكن مبعوثا إليه رسول فإنه كان قبل مبعث عيسى عليه السلام بنحو ثلثمائة سنة وكان الأنبياء عليهم السلام إذ ذاك من بني إسرائيل ومبعوثين إليهم ولم يكن هو منهم فكان حكم أهل الفترة وتعقب بأنه على تسليم ذلك لا يحسم مادة الإشكال لأن الله تعالى لا يكاد يعظم من حكمه حكم أهل الفترة مثل هذا التعظيم الذي دلت عليه الآيات والأخبار وأيضا الثالث في التواريخ أن الإسكندر المذكور كان أرسطو بمنزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه ولم يذكر فيها أنه اجتمع مع الخضر عليه السلام فضلا عن اتخاذه إياه وزيرا كما هو المشهور في ذي القرنين
واعترض أيضا بأن اسكندر المذكور لم يتحقق له سفر نحو المغرب في كتب التواريخ المعتبرة وقد نبه على ذلك كاتب جلبي عليه الرحمة وقيل : هو الاسكندر الرومي وهو متقدم على اليوناني بكثير ويقال له : ذو القرنين الأكبر واسمه قيل : مرزبان بن مردبة من ولد يافث بن نوح عليه السلام وكان أسود وقيل : اسمه عبد الله بن الضحاك وقيل : مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن زيد بن كهلان بن سبا بن يعرب بن قحطان وجعل بعضهم هذا الخلاف في اسم ذي القرنين اليوناني بعد أن نقل القول بأن اسمه الإسكندر بن فيلقوس وذكر في اسم الرومي ونسبه ما نقل سابقا عن ابن كثير
وذهب بعض المحققين إلى أن الإسكندر اليوناني والإسكندر الرومي كلاهما يطلقان على غالب دارا الأصغر والتاريخ المشهور بالتاريخ الرومي ويسمى أيضا السرياني والعجمي ينسب إليه في المشهور وأوله شروق يوم الإثنين من أول سنة من سني ولايته عند ابن البناء ومن أول السنة السابعة وهي سنة خروجه لتملك البلاد كما في زيج الصوفي أو من أول السنة التي مات فيها كما في المبادي والغايات وبعض المحققين ينسبه إلى سولونس بن الطبوخوس الذي أمر ببناء أنطاكية وهو الذي صححه ابن أبي الشكر وتوقف بعضهم كالغ بك على نسبته إلى أحدهما لتعارض الأدلة ونفى بعضهم أن يكون في الزمن المتقدم بين الملوك اسكندران
(16/26)
وزعم أنه ليس هناك إلا الإسكندر الذي غلب دارا واستولى على ملك فارس وقال : إن ذا القرنين المذكور في القرآن العظيم يحتمل أن يكون هو ويحتمل أن يكون غيره والذي عليه الكثير أن المسمى بالإسكندر بين الملوك السالفة اثنان بينهما نحو ألفي سنة وأن أولهما هو المراد بذي القرنين ويسميه بعضهم الرومي وبعضهم اليوناني وهو الذي عمر دهرا طويلا فقيل : عمر ألفا وستمائة سنة وقيل : ألفي سنة وقيل : ثلاثة آلاف سنة ولا يصح في ذلك شيء وذكر أبو الريحان البيروني المنجم في كتابه المسنى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أن ذا القرنين هو أبو كرب سمي بن عمير بن أفريقيس الحميري وهو الذي افتخر به تبع اليماني حيث قال : قد كان ذو القرنين جدي مسلما ملكا علا في الأرض غير مفند بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب ملك من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد ثم قال : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأدواء كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي رعين وذي يزن وذي جدن واختار هذا القول كاتب جلبي وذكر أنه كان في عصر إبراهيم عليه السلام وأنه اجتمع معه في مكة المكرمة وتعانقا وأن شهرة بلوغ ملك الإسكندر اليوناني تلميذ أرسطو الغاية القصوى في كتب التواريخ كما ذكر الإمام دون هذا إنما هي لقرب زمان اليوناني بالنسبة إليه فإن بينهما نحو ألفي سنة وتواريخ هاتيك الأعصار قد أصابها إعصار ولم يبق ما يعول عليه ويرجع في حل المشكلات إليه وربما يقال : إن عدم شهرة من ذكر تقوى كونه المسئول عنه إذ غرض اليهود من السؤال الامتحان وذلك إنما يحسن فيما خفي أمره ولم يشهر إذ الشهرة لا سيما إذا كانت تامة مظنة العلم وإلى كون ذي القرنين في زمان إبراهيم عليه السلام ذهب غير واحد وقد ذكر الأزرقي أنه أسلم على يده عليه السلام وطاف معه بالكعبة وكان ثالثهما إسماعيل عليه السلام وروي أنه حج ماشيا فلما سمع إبراهيم عليه السلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا وقيل : أتي بفرس ليركب فقال : لا أركب في بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبشره إبراهيم عليه السلام بذلك فكانت السحابة تحمله وعساكره وجميع آلتهم إذا أرادوا غزو قوم وهؤلاء لم يصرحوا بأن ذا القرنين هذا هو الحميري الذي ذكر لكن مقتضى كلام كاتب جلبي إنه هو
وذكر أنه يمكن أن يكون اسكندر لقبا لمن ذكر معربا عن الكسندر ومعناه في اللغة اليونانية آدمي جيد وربما يقال : إن من قال : اسم الإسكندر مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور إلى آخر النسب السابق المنتهي إلى قحطان عني هذا الرجل الحميري لا الرومي ولا اليوناني لكن وهم الناقل لأنه لم يقل أحد بأن الروم من أبناء قحطان وكذا اليونان نعم ذكر يعقوب بن إسحق الكندي أن يونان أخو قحطان ورد عليه أبو العباس الناشي في قصيدته حيث قال : أبا يوسف إني نظرت فلم أجد على الفحص رأيا أصح منك ولا عقدا وصرت حكيما عند قوم إذا امرؤ بلاهم جميعا لم يجد عندهم عهدا أتقرن إلحادا بدين محمد لقد جئت شيئا يا أخا كندة إدا وتخلط يونانا بقحطان ضلة لعمري لقد باعدت بينهما جدا
(16/27)
والمذكور في كتب التواريخ أن ملوك اليمن إلى أن غلبت الحبشة عليها من أبناء قحطان وأورد على هذا القول في ذي القرنين أنه لم يوجد في كتب التواريخ المعتبرة سمي ابن عمير بن أفريقيس في عداد ملوك اليمن والمذكور إنما هو شمر بصيغة فعل الماضي من التشمير بن أفريقيس ولم يذكروا بينه وبين أفريقيس عميرا وقد ذكر بعضهم فيه أنه ذو القرنين وقالوا : إنه يقال له شمر يرعش لارتعاش كان فيه فلعل سمي محرف عن شمر وابن عمير محرف من يرعش وقد ذكروا في أبيه أفريقيس أنه غزا نحو المغرب في أرض البربر حتى أتي طنجة ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم وأنه هو الذي بنى أفريقية وبه سميت وكان ملكه مائة وأربعا وستين سنة وفيه أنه خرج نحو العراق وتوجه نحو الصين وأنه قلع المدينة التي تسمى اليوم سمرقند وقالوا : إنها معرب شمر كند وإلى ذلك يشير دعبل الخزاعي بقوله يفتخر بملوك اليمن : هموا كتبوا الكتاب بباب مرو وباب الشاش كانوا الكاتبينا وهم سموا بشمر سمرقندا وهم غرسوا هناك النابتينا وأنه لما لقب بذي القرنين لذؤابتين كانتا له وكان ملكه على ما قال ابن قتيبة مائة وسبعا وثلاثين سنة على ما قال المسعودي ثلاثا وخمسين سنة وعلى ما قال غيرهما سبعا وثمانين سنة ثم إن هذا لم يكن بأبي كرب وإنما المكنى به على ما رأيناه في بعض التواريخ أسعد بن كليكرب ويقال له تبع الأوسط ويذكر أنه آمن بنبينا قبل مبعثه وفي ذلك يقول : شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيرا له وابن عم وذكروا أنه كان شديدة الوطأة كثير الغزو فمله قومه فأغروا ابنه حسان على قتله فقتله ولا يخفى أن كلا هذين الشخصين لا يصح أن يكون المراد بذي القرنين الذي ذكر أنه لقي إبراهيم عليه السلام أما الأول فلأنهم ذكروا أنه ملك بعد ياسر ينعم ابن عمرو وملك ياسر بعد بلقيس زوجة سليمان عليه السلام وكان عمها فكيف يتصور أن يكون هذا ذاك مع بعد زمان ما بين إبراهيم وسليمان عليهما السلام وأما الثاني فلأنه بعد هذا بكثير مع أنه لم يطلق عليه أحد ذا القرنين ولا نسب إليه غزوا في مشارق الأرض ومغاربها ورأيت في بعض الكتب أن في زمن منو جهر بن ايرج بن أفريدون بعث موسى عليه السلام وكان ملك اليمن في زمانه شمر أبا الملوك وكان في طاعته انتهى وعليه أيضا لا يمكن أن يكون شمر هذا هو ذا القرنين السابق وهو ظاهر وذا أسقطت جميع هذه الأقوال عن الإعتبار بناء على ما قيل إن أخبار ملوك اليمن مضطربة لا يكاد يوقف على روايتين متفقتين فيها واعتبرت القول بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام ملك منهم هو ذو القرنين بناء على حسن الظن بقائل ذلك أشكل الأمر من وجه آخر وهو أن كتب التواريخ قاطبة ناطقة بأن فريدون كان في زمان إبراهيم عليه السلام وأنه قسم المعمورة بين بنيه الثلاثة حسبما تقدم فكيف يتسنى مع هذا القول بأن ذي القرنين رجل من ملوك اليمن كان في ذلك الزمان أيضا ويجيء نحو هذا الإشكال إذا قلنا إن ذا القرنين هو أحد الإسكندرين اليوناني والرومي وقلنا بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام أيضا والحاصل أن القول بأن فريدون كان في ذلك الزمان وكان مالكا المعمورة كما في عامة تواريخ الفرس يمنع القول بأن ذا القرنين في ذلك الزمان غيره بل القول بوجود أحد الثلاثة من فريدون وذي القرنين التبعي وأحد الإسكندرين
(16/28)
في ذلك الزمان وملكه المعمورة يمنع من القول بوجود غيره منهم في ذلك الزمان وملكه المعمورة أيضا واستشكل كون ذي القرنين أيا كان من هؤلاء الثلاثة في زمان إبراهيم عليه السلام بأن نمرود كان في زمانه أيضا وقد جاء ملك الدنيا مؤمنان وكافران أما المؤمنان فسليمان عليه السلام وذو القرنين وأما الكافران فنمرود وبختنصر ولا مخلص من ذلك على تقدير صحة الخبر إلا بأن يقال كان زمان إبراهيم عليه السلام ممتدا ووقع ملكهما الدنيا متعاقبا وهو كما ترى
ورأيت في بعض الكتب القول بأن ذا القرنين ملك بعد نمرود وينحل به الإشكال وقال بعضهم : الذي تقتضيه كتب التواريخ عدم صحة الخبر أو تأويله إذ ليس في شيء منها عموم ملك سليمان عليه السلام أو ملك نمرود أو بختنصر والظاهر عدم الصحة واستشكل أيضا كونه في ذلك الزمان بأنه لم يذكر في التوراة كما يدعيه اليهود اليوم كافة ويبعد ذلك غاية البعد على تقدير وجوده فالظاهر من عدم ذكره عدم كونه موجودا وأجيب بأنا لا نسلم عدم ذكره فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن اليهود قالوا للنبي : يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين لأنك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله تعالى في التوراة إلا في مكان واحد قال : ومن هو قالوا : ذو القرنين الخبر بل الظاهر من سؤالهم أن له ذكرا في كتابهم وإنكارهم اليوم ذلك لا يلتفت إليه على أن ما ذكر من الاستشكال مجرد استبعاد ولا يخفى أنه ليس مانعا قويا هذا وبالجملة لا يكاد يسلم في أمر ذي القرنين شيء من الأقوال عن قيل وقال وكأني بك بعد الإطلاع على الأقوال وما لها وما عليها تختار أنه الإسكندر بن فليقوس غالب دارا وتدعي أنه يقال له اليوناني كما يقال له الرومي وأنه كان مؤمنا بالله تعالى لم يرتكب مكفرا من عقد أو قول أو فعل وتقول إن تلمذته على أرسطو لا تمنع من ذلك : فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل وقد تتلمذ الأشعري على المعتزلة ورئيس المعتزلة على الحسن وقد خالف أرسطو أفلاطون في أكثر المسائل وكان تلميذه والقول بأن أرسطو كان بمنزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه لا يدل على اتباعه له في سائر اعتقاداته فإن ذلك على تقدير ثبوته إنما هو في الأمور الملكية لا المسائل الإعتقادية على أن الملا صدر الدين الشيرازي ذكر أن أرسطو كان حكيما عابدا موحدا قائلا بحدوث العالم ودثوره المشار إليه بقوله تعالى يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب وما شاع عنه في أمر العالم توهم ناشيء من عدم فهم كلامه ومثله في ذلك سائر أساطين الحكماء ولا نسلم عدم سفره نحو المغرب ولا ثبوت أن الخضر كان وزير ذي القرنين وإن اشتهر ليقدح عدم كونه وزيرا عنده في كونه ذا القرنين وقيل أنه : كان وزيرا عند ملك يقال له ذو القرنين أيضا لكنه غير هذا ووقع الإشتباه في ذلك وقيل : يمكن أن يكون عليه السلام في جملة الحكماء الذين معه وكان كالوزير عنده لا يقدح في ذلك استشارة غيره في بعض الأمور وكان مشتهرا إذ ذاك بالحكمة دون النبوة وفي الأعصار القديمة كانوا يسمون النبي حكيما ولعله كان مشتهرا أيضا باسم آخر وعدم تعرض المؤرخين لشيء من ذلك لا يدل على العدم وقيل لا نسلم عدم التعرض بل قولهم إن الخضر كان وزير ذي القرنين قول بأنه كان وزير الإسكندر المذكور عند القائل بأنه ذو القرنين و لايمنع من ذلك كون الخضر على الأصح نبيا والاسكندر ليس كذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا عن الجمهور لأن المراد من وزارته له تدبير أموره ونصرته ولا ضرر في نصرة نبي وتدبيره أمور ملك صالح غير نبي وهو واقع في بني إسرائيل وإن لم تختر ما ذكر فإن اخترت أنه من ملوك اليمن أو اسكندر
(16/29)
آخر يلزمك إما القول بأنه لم يكن في زمن إبراهيم عليه السلام وإما القول بأنه كان في زمنه بعد نمرود أو معه إلا أنه تحت إمرته ولم يكن فريدون إذ ذاك ويلزمك طي الكشح عن كتب التواريخ كما يلزمك على أتم وجه لو اخترت أنه فريدون
والأقرب عندي لإلزام أهل الملل والنحل الضالين الذين يشق عليهم نبذ كتب التواريخ وعدم الالتفات إلى ما فيها بالكلية مع كثرتها وانتشارها في مشارق الأرض ومغاربها وتباين أديان مؤلفيها واختلاف أعصارهم اختيار أنه الإسكندر بن فليقوس غالب دارا : وما علي إذا ما قلت معتقدي دع الجهول يظن الجهل عدوانا واليهود قاطبة على هذا لكنهم لعنهم الله تعالى وقعوا في الإسكندر ونسبوه أقبح نسبة مع أنهم يذكرون أنه أكرمهم حين جاء إلى بيت المقدس وعظم أحبارهم والله تعالى أعلم ثم إن السؤال ليس عن ذات ذي القرنين بل عن شأنه فكأنه قيل ويسألونك عن شأن ذي القرنين قل لهم في الجواب سأتلوا عليكم منه ذكرا 38 الخطاب للسائلين والهاء لذي القرنين ومن تبعيضية والمراد من أنبائه وقصصه والجار والمجرور صفة ذكرا قدم عليه فصار حالا والمراد بالتلاوة الذكر وعبر عنه بذلك لكونه حكاية عن جهة الله عز و جل أي سأذكر لكم نبأ مذكورا من أنبائه ويجوز أن يكون الضمير له تعالى ومن إبتدائية ولا حذف والتلاوة على ظاهرها أي سأتلو عليكم من جهته سبحانه وتعالى في شأنه ذكرا أي قرآنا والسين للتأكيد والدلالة على التحقق المناسب لتقدم تأييده وتصديقه بإنجازه وعده أي لا أترك التلاوة البتة كما في قوله : سأشكر عمرا إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآية ما نزلت بانفرادها قبل الوحي بتمام القصة بل موصولة بما بعدها ريثما سألوه عليه الصلاة و السلام وقوله تعالى إنا مكنا له في الأرض شروع في تلاوة الذكر المعهود حسبما هو الموعود والتمكين ههنا الاقدار وتمهيد الأسباب يقال مكنه ومكن له كنصحته ونصحت له وشكرته وشكرت له وفرق بينهما بأن معنى الأول جعله قادرا ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة لتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يستعمل كل منهما في محل الآخر وهكذا إذا كان التمكين مأخوذا من المكان بناء على توهم ميمه أصلية والمعنى إنا جعلنا له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار وقيل : تمكينه في الأرض من حيث أنه سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء وفي ذلك أثر ولا أراه يصح وقيل : تمكينه بالنبوة وإجراء المعجزات وروى القول بنبوته أبو السيخ في العظمة عن أبي الورقاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وإلى ذلك ذهب مقاتل ووافقه الضحاك ويعارضه ما أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن أبي عاصم في السنة وابن مردويه من طريق أبي الفضل أن ابن الكواء سأل عليا كرم الله تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا قال : لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا أحب الله تعالى فأحبه ونصح الله تعالى فنصحه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : ذو القرنين بلغ السدين وكان نذيرا ولم أسمع بحق أنه كان نبيا وإلى أنه ليس بنبي ذهب الجمهور وتوقف بعضهم لما أخرجه
(16/30)
عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ما أدري أتبع كان لعينا أم لا وما أدري أذو القرنين كان نبيا أم لا وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا وأنت تعلم أن هذا النفي لم يكن ليستمر لرسول الله فيمكن أن يكون دري عليه الصلاة و السلام فيما بعد أنه لم يكن نبيا كما يدل عليه ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه فإنه لم يكن يقول ذلك إلا عن سماع ويشهد لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال سئل علي كرم الله تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبي هو فقال : سمعت نبيكم يقول هو عبد ناصح الله تعالى فنصحه وءاتيناه من كل شيء أراده من مهمات ملكه ومقاصده المعلقة بسلطانه سببا 48 أي طريقا يوصله إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة لا العلم فقط وإن وقع الاقتصار عليه في بعض الآثار ومن بيانية والمبين سببا وفي الكلام مضاف مقدر أي من أسباب لا سبب وسببان ليس بشيء وجوز أن يكون من تعليلة فلا تقدير واختاره بعضهم فتأمل واستدل بعض من قال بنبوته بالآية على ذلك وليس بشيء كما لا يخفى فأتبع بالقطع والفاء فصيحة والتقدير فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببا 58 يوصله إليه ولعل قصد بلوغ المغرب ابتداء لأنه أقرب إليه وقيل : لمراعاة الحركة الشمسية وليس ذلك لكون جهة المغرب أفضل من جهة المشرق كما زعمه بعض المغاربة فإنه كما قال الجلال السيوطي لا قطع بتفضيل إحدى الجهتين على الأخرى لتعارض الأدلة
وقرأ نافع وابن كثير فأتبع بهمزة الوصل وتشديد التاء وكذا فيما يأتي واستظهر بعضهم أنهما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد وقيل : إن أتبع بالقطع يتعدى لإثنين والتقدير هنا فأتبع سببا سببا آخر أو فأتبع أمره سببا كقوله تعالى : وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة وقال أبو عبيد اتبع بالوصل في السير وأتبع بالقطع معناه اللحاق كقوله تعال : فأتبعه شهاب ثاقب وقال يونس : أتبع بالقطع للمجد المسرع الحثيث الطلب وأتبع بالوصل إنما يتضمن مجرد الانتقال والاقتفاء حتى إذا بلغ مغرب الشمس أي منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ووقف كما هو الظاهر على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس وفيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هي مبدأ الأطوال على أحد الأقوال وجدها أي الشمس تغرب في عين حمئة أي ذات حمأة وهي الطين الأسود من حمئت البئر تحمأ حمأ إذا كثرت حمأتها
وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاص وابنه عبد الله وابن عمر ومعاوية والحسن وزيد بن علي وابن عامر وحمزة والكسائي حامية بالياء أي حارة وأنكر هذه القراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أول ما سمعها فقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية قرأ في عين حامية فقال له : ما نقرؤها إلا حمئة فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرأها فقال : كما قرأتها فقلت : في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له : أين تجد الشمس تغرب في التوراة فقال كعب : سل أهل العزيمة فإنهم أعلم بها وأما أنا فإني لم أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب وقال ابن أبي حاضر : لو أني
(16/31)
عندكما أيدتك بكلام تزاد به بصيرة في حمئة قال ابن عباس : وما هو قلت : قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه قد كان ذو القرنين إلى آخر الأبيات الثلاثة السابقة ومحل الشاهد قوله : فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد فقال ابن عباس : ما الخلب قال : ابن أبي حاضر الطين بكلامهم فقال : فما الثأط قال : الحمأة فقال : فما الحرمد قال : الأسود فدعا ابن عباس غلاما فقال : اكتب ما يقول هذا الرجل ولا يخفى أنه ليس بين القراءتين منافاة قطعية لجواز كون العين جامعة بين الوصفين بأن تكون ذات طين أسود وماؤها حار ولجواز كون القراءة بالياء أصلها من المهموز قلبت همزته ياء لانكسار ما قبلها وإن كان ذلك إنما يطرد إذا كانت الهمزة ساكنة كذا قيل وتعقب بأنه يأباه ما جرى بين ابن عباس ومعاوية
وأجيب بأنه إذا سلم صحته فمبناه السماع والتحكيم لترجيح إحدى القراءتين وظاهر ما سمعت ترجيح قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكأن رجوع معاوية لقراءة ابن عباس على ما ذكره القرطبي كان لذلك
نعم ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن أب ذر قال : كنت ردف رسول الله وهو على حمار فرأى الشمس حين غربيت فقال : أتدري حيث تغرب قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها تغرب في عين حامية غير مهموزة يوافق قراءة معاوية ويدل على أن في عين متعلق بتغرب كما هو الظاهر وقول بعض المتعسفين بأنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل وجدها مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وكأن الذي دعاه إلى القول بذلك لزوم إشكال على الظاهر فإن جرم الشمس أكبر من جسم الأرض بأضعاف مضاعفة فكيف يمكن دخولها في عين ماء في الأرض وهو مدفوع بأن المراد وجدها في نظر العين كذلك إذ لم ير هناك إلا الماء لا أنها كذلك حقيقة وهذا كما أن راكب البحر يراها كأنها تطلع من البحر وتغيب فيه إذا لم ير هناك إلا الماء لا أنها كذلك حقيقة وهذا كما أن راكب البحر يراها كأنها تطلع من البحر وتغيب فيه إذا لم ير الشط والذي في أرض ملساء واسعة يراها أيضا كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها ولا يرد على هذا أنه عبر بوجد والوجدان يدل على الوجود لما أن وجد يكون بمعنى رأى كما ذكره الراغب فليكن هنا بهذا المعنى ثم المراد بالعين الحمئة إما عين في البحر أو البحر نفسه وتسميته عينا مما لا بأس به خصوصا وهو بالنسبة لعظمة الله تعالى كقطرة وإن عظم عندنا
وزعم بعض البغداديين أن في بمعنى عند أي تغرب عند عين ومن الناس من زعم أن الآية على ظاهرها ولا يعجز الله تعالى شيء ونحن نقر بعظم قدرة الله عز و جل ولا نلتفت إلى هذا القول ومثله ما نقله الطرطوشي من أنها يبلعها حوت بل هذا كلام لا يقبله إلا الصبيان ونحوهم فإنها قد تبقى طالعة في بعض الآفاق ستة أشهر وغاربة كذلك كما في أفق عرض تسعين وقد تغيب مقدار ساعة ويظهر نورها من قبل المشرق في بعض العروض كما في بلغار في بعض أيام الشنة فالشمس على ما هو الحق لم تزل سائرة طالعة على قوم غاربة على آخرين بحسب آفاقهم بل قال إمام الحرمين : لا خلاف في ذلك ويدل على ما ذكر ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من شرقها وكذلك القمر وكذا ما أخرجه ابن عساكر عن الزهري أن خزيمة بن حكيم السلمي سأل رسول الله عن سخونة الماء في الشتاء وبرده في الصيف فقال : إن الشمس إذا سقطت تحت الأرض سارت حتى تطلع من مكانها فإذا طال الليل كثر لبثها في الأرض فيسخن
(16/32)
الماء لذلك فإذا كان الصيف مرت مسرعة لا تلبث تحت الأرض لقصر الليل فثبت الماء على حاله باردا ولا يخفى أن هذا السير تحت الأرض تختلف فيه الشمس من حيث المسامتة بحسب الآفاق والأوقات فتسامت الأقدام تارة ولا تسامتها أخرى فما أخرجه أبو الشيخ عن الحسن قال : إذا غربت الشمس دارت في فلك السماء مما يلي دبر القبلة حتى ترجع إلى المشرق الذي تطلع منه وتجري منه في السماء من شرقها إلى غربها ثم ترجع إلى الأفق مما يلي دبر القبلة إلى شرقها كذلك هي مسخرة في فلكها وكذلك القمر لا يكاد يصح ويشكل على ما ذكر ما أخرجه البخاري عن أبي ذر قال : كنت مع النبي في المسجد عند غروب الشمس فقال : يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها
وأجيب بأن المراد أنها تذهب تحت الأرض حتى تصل إلى غاية الانحطاط وهي عند وصولها دائرة نصف النهار في سمت القدم بالنسبة إلى أفق القوم الذين غربت عنهم وذلك الوصول أشبه شيء بالسجود بل لا ما نع أن تسجد هناك سجودا حقيقيا لائقا بها فالمراد من تحت العرش مكانا مخصوصا مسامتا لبعض أجزاء العرش وإلا فهي في كل وقت تحت العرش وفي جوفه وهذا مبني على أنه جسم كري محيط بسائر الأفلاك والفلكيات وبه تحدد الجهات وهذا قول الفلاسفة وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه ما يتعلق بذلك وعلى ما ذكر فالمراد بمستقرها محل انتهاء انحطاطها فهي تجري عند كل قوم لذلك المحل ثم تشرع في الارتفاع وقال الخطابي : يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش إنها تستقر تحته استقرارا لا نحيط به نحن وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق عن دورانها في سيرها انتهى وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك في سورة يس وبالجملة لا يلزم على هذا التأويل خروج الشمس عن فلكها الممثل بل ولا عن خارج المركز وإن اختلف قربها وبعدها من العرش بالنسبة إلى حركتها في ذلك الخارج
نعم ورد في بعض الآثار ما يدل على خروجها عن حيزها فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشمس إذا غربت رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أن يؤمر بالطلوع ثم ينطلق بها ما بين السماء السابعة وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر حيال المشرق من سماء إلى سماء فإذا وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء فذلك حين تطلع الشمس وهو وإن لم تأباه قواعدنا من شمول قدرة الله تعالى سائر الممكنات وعدم امتناع الخرق والالتئام على الفلك مطلقا إلا أنه لا يتسنى مع تحقق غروبها عند قوم وطلوعها عند آخرين وبقائها طالعة نحو ستة أشهر في بعض العروض إلى غير ذلك مما لا يخفى فلعل الخبر غير صحيح
وقد نص الجلال السيوطي على أن أبا الشيخ رواه بسند واه ثم إن الظاهر على رواية البخاري ورواية ابن أبي شيبة ومن معه أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه سئل مرتين إلا أنه رد العلم في الثانية إلى الله تعالى ورسوله طلبا لزيادة الفائدة ومبالغة في الأدب مع الرسول عليه الصلاة و السلام والله أعلم
ووجد عندها أي عند تلك العين على ساحل البحر قوما لباسهم على ما قيل : جلود السباع وطعامهم ما لفظه البحر قال وهب بن منبه : هم قوم يقال لهم : ناسك لا يحصيهم كثرة إلا الله تعالى
وقال أبو زيد السهيلي : هم قوم من نسل ثمود كانوا يسكنون جابرسا وهي مدينة عظيمة لها اثنا عشر بابا
(16/33)
ويقال لها بالسريانية جرجيسا وروى نحو ذلك عن ابن جريج وزعم ابن السائب أنه كان فيهم مؤمنون وكافرون والذي عليه الجمهور أنهم كانوا كفارا فخيره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل أو يدعوهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى : قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب بالقتل من أول الأمر وإما أن تتخذ فيهم حسنا 68 أي أمرا ذا حسن على حذف المضاف أو على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة وذلك بالدعوة إلى الحق والإرشاد إلى ما فيه الفوز بالدرجات ومحل إن مع صلته إما الرفع على الابتداء أو على الخبر وإما النصب على المفعولية أما تعذيبك واقع أو إما أمرك تعذيبك أو إما تفعل أو توقع تعذيبك وهكذا الحال في الاتخاذ وقدم التعذيب لأنه الذي يستحقونه في الحال لكفرهم وفي التعبير بإما أن تتخذ فيهم حسنا دون إما أن تدعوهم مثلا إيماء إلى ترجيح الشق الثاني واستدل بالآية من قال بنبوته والقول عند بعضهم بواسطة ملك وعند آخرين كفاحا ومن لم يقل بنبوته قال : كان الخطاب بواسطة نبي في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاما لا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبي وتعقب هذا بأن مثل هذا التخيير المتضمن لإزهاق النفوس لا يجوز أن يكون بالإلهام دون الإعلام وإن وافق شريعة ونقض ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه بالرؤيا وهي دون الإلهام وفيه أن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وإلهاماتهم وحي كما بين في محله والكلام هنا على تقدير عدم النبوة وهو ظاهر
موقال علي بن عيسى : المعنى قلنا يا محمد قالوا أي جنده الذين كانوا معه ياذا القرنين فحذف القول اعتمادا على ظهور أنه ليس بنبي وهو من التكلف بمكان وقريب من دعوى أن القائل العلماء الذين معه قالوه عن اجتهاد ومشاورة له بذلك ونسبه الله تعالى إليه مجازا والحق أن الآية ظاهرة الدلالة في نبوته ولعلها أظهر في ذلك من دلالة قوله تعالى : وما فعلته عن أمري على نبوة الخضر عليه السلام وكأن الداعي إلى صرفها عن الظاهر الأخبار الدالة على خلافها ولعل الأولى في تأويلها أن يقال : كان القول بواسطة نبي
قال ذو القرنين لذلك النبي أو لمن عنده من خواصه بعد أن تلقى أمره تعالى مختارا للشق الأخير من شقي التخيير حسبما أرشد إليه أما من ظلم نفسه ولم يقبل دعوتي وأصر على ما كان عليه من الظلم العظيم الذي هو الشرك فسوف نعذبه بالقتل والظاهر أنه كان بالسيف وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كان عذابه أن يجعلهم في بقر من صفر ثم يوقد تحتهم النار حتى يتقطعوا فيها وهو بعيد عن الصحة وأتى بنون العظمة على عادة الملوك وإسناد التعذيب إليه لأنه السبب الآمر ودعوى صدور ذلك منه بالذات في غاية البعد وقيل : أراد من الضمير الله تعالى ونفسه والإسناد باعتبار الخلق والكسب وهو أيضا بعيد مع ما فيه من تشريك الله تعالى مع غيره في الضمير وفيه من الخلاف ما علمت ثم يرد إلى ربه في الآخرة فيعذبه فيها عذابا نكرا 78 أي منكرا فظيعا وهو العذاب في نار جهنم ونصب عذابا على أنه مصدر يعذبه وقيل : تنازع فيه هو ونعذبه والمراد بالعذاب النكر نظرا إلى الأول ما روي عن السدي وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وفي قوله إلى ربه دون إليك دلالة على أن الخطاب السابق لم يكن بطريق الوحي إليه وأن مقاولته كانت مع النبي أو مع خواصه وأما من ءامن بموجب دعوتي وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان فله في الدارين جزاء الحسنى أي فله المثوبة الحسنى أو الفعلة الحسنى أو
(16/34)
الجنة جزاء على أن جزاء مصدر مؤكد لمضمون الجملة قدم على المبتدأ اعتناء به أو منصوب بمضمر أي يجزي بها جزاء والجملة حالية أو معترضة بين المبتدأ والخبر المتقدم عليه أو هو حال أي مجزيا بها وتعقب ذلك أبو الحسن بأنه لا تكاد العرب تتكلم بالحال مقدما إلا في الشعر وقال الفراء : هو نصب على التمييز
وقرأ ابن عباس ومسروق جزاء منصوبا غير منون وخرج ذلك المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين وخرجه غيره على أنه حذف للإضافة والمبتدأ محذوف لدلالة المعنى عليه أي فله الجزاء جزاء الحسنى
وقرأ عبد الله بن أبي إسحق بالرفع والتنوين على أنه للمبتدأ و الحسنى بدله والخبر الجار والمجرور
وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع بلا تنوين وخرج على أنه مبتدأ مضاف قال أبو علي : والمراد على الإضافة جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو المراد بالحسنى الجنة والإضافة كما في دار الآخرة
وسنقول له من أمرنا أي مما نأمر به يسرا 88 أي سهلا ميسرا غير شاق وتقديره ذا يسر وأطلق عليه المصدر مبالغة وقرأ أبو جعفر يسرا بضمتين حيث وقع هذا وقال الطبري : المراد من اتخاذ الحسن الأسر فيكون قد خير بين القتل والأسر والمعنى إما أن تعذب بالقتل وإما أن تحسن إليهم بإبقاء الروح والأسر وما حكي من الجواب على هذا الوجه قيل من الأسلوب الحكيم لأن الظاهر أنه تعالى خيره في قتلهم وأسرهم وهم كفار فقال أما الكافر فيراعي فيه قوة الإسلام وأما المؤمن فلا يتعرض له إلا بما يجب
وفي الكشف أنه روعي فيه على الوجهين نكتة بتقديم ما من الله تعالى في جانب الرحمة دلالة على أن ما منه تابع وتتميم وما منه في جانب العذاب رعاية لترتيب الوجود مع الترقي ليكون أغيظ وكأنه حمل فله الخ على معنى فله من الله تعالى الخ وهو الظاهر وجوز حمل إما أن تعذب وإما أن تتخذ على التوزيع دون التخيير والمعنى على ما قيل : ليكن شأنك معهن إما التعذيب وإما الإحسان فالأول لمن بقي على حاله والثاني لمن تاب فتأمل
ثم أتبع سببا 98 أي طريقا راجعا من مغرب الشمس موصلا إلى مشرقها حتى إذا بلغ مطلع الشمس يعني الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمورة الأرض أي غاية الأرض المعمورة من جهة المشرق
وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن مطلع بفتح اللام ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو عند المحققين مصدر ميمي والكلام على تقدير مضاف أي مكان طلوع الشمس والمراد مكانا تطلع عليه وقال الجوهري : إنه اسم مكان كمكسور اللام فالقراءتان متفقتان من غير تقدير مضاف وقد صرح بعض أئمة التصريف أن المطلع جاء في المكان والزمان فتحا وكسرا وما آثره المحققون مبني على أنه لم يرد في كلام الفصحاء بالفتح إلا مصدرا ولا حاجة إلى تخريج القرآن على الشاذ لأنه قد يخل بالفصاحة وقال أبو حيان : إن الكسر سماع في أحرف معدودة وهو مخالف للقياس فإنه يقتضي أن يكون مضارعه تطلع بكسر اللام وكان الكسائي يقول : هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي مطلع بكسرها في اسم الزمان والمكان على ذلك القياس انتهى فافهم ثم أن الظاهر من حال ذي القرنين وكونه قد أوتي من كل شيء سببا أنه بلغ مطلع الشمس في مدة قليلة وقيل : بلغه في اثنتى عشرة سنة وهو خلاف الظاهر إلا أن يكون أقام في أثناء سيره فإن طول المعمورة يقطعه بأقل من هذه المدة بكثير السائر على الاستقامة كما لا يخفى
(16/35)
على العارف بالمساحة وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا 09 أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن جريج قال : حدثت عن الحسن عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله في الآية لم نجعل لهم من دونها سترا بناء لم يبن فيها بناء قط كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس وأخرج جماعة عن الحسن وذكر أنه حديث سمرة أن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه فإذا غابت خرجوا يتراعون كما تراعى البهائم وقيل : المراد لا شيء لهم يسترهم من اللباس والبناء وهم على ما قيل قوم من الزنج وقيل : من الهنود وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من أهل الأرض وعن بعضهم خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقالوا بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلبس الأخرى ومعي صاحب يعرف لسانهم فقالوا له جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم انتهى
وأنت تعلم أن مثل هذه الحكايات لا ينبغي أن يلتفت إليها ويعول عليها وما هي إلا أخبار عن هيان بن بيان يحكيها العجائز وأمثالهن الصغار الصبيان وعن وهب بن منبه أنه يقال لهؤلاء القوم منسك وظاهر الآية لوقوع النكرة فيها في سياق النفي يقتضي أنهم ليس لهم ما يسترهم أصلا وذلك ينافي أن يكون لهم سرب ونحوه وأجيب بأن ألفاظ العموم لا تتناول الصور النادرة فالمراد نفي الساتر المتعارف والسرب ونحوه ليس منه وأنت تعلم أن عدم التناول أحد قولين في المسئلة وقال ابن عطية : الظاهر أن نفي جعل ساتر لهم من الشمس عبارة عن قربها إليهم وتأثيرها بقدرة الله تعالى فيهم ونيلها منهم ولو كانت لهم أسراب لكان لهم ستر كثيف انتهى وحينئذ فالنكرة على عمومها وأنا أختار ذلك إلى أن تثبت صحة أحد الأخبار السابقة
كذلك خبر مبتدأ محذوف أي أمر ذي القرنين ذلك والمشار إليه ما وصف به قبل من بلوغ المغرب والمشرق وما فعله وفائدة ذلك تعظيمه وتعظيم أمره أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لوجد أي وجدها تطلع وجدانا كوجدانها تغرب في عين حمئة أو صفة مصدر محذوف لنجعل أي لم نجعل لهم سترا جعلا كائنا كالجعل الذي لكم فيما تفضلنا به عليكم من الألبسة الفاخرة والأبنية العالية فيه أنه لا يتبادر إلى الفهم أو صفة سترا والمعنى عليه كسابقه وفيه ما فيه أو صفة قوم أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليه الشمس في الكفر والحكم أو معمول بلغ أي بلغ مغربها كما بلغ مطلعها
وقد أحطنا بما لديه من الجنود والآلات وأسباب الملك خبرا 19 علما تعلق بظواهره وخفاياه ويفيد هذا على الأول زيادة تعظيم الأمر وأنه وراء ما وصف بكثير مما لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير وهو على الأخير تأويل لما قاسى في السير إلى أن بلغ فيكون المعنى وقد أحطنا بما لاقاه وحصل له في أثناء سيره خبرا أو تعظيم للسبب الموصل إليه في قوله تعالى فأتبع سببا حتى إذا بلغ أي أحطنا بما لديه من الأسباب الموصلة إلى هذا الموضع الشاسع مما لم تؤت غيره وهذا كما في الكشف أظهر من التهويل وعلى الثاني تتميم يفيد حسن اختياره أي أحطنا بما لديه من حسن التلقي وجودة العمل خبرا وعلى الثالث لبيان أنه كذلك في رأي العين وحقيقة لا يحيط بعلمها
(16/36)
غير الله تعالى وعلى الرابع والخامس تذييل للقصة أو بالقصتين فلا يأباهما كما توهم وعلى السادس تتميم يؤكد أنه سن بهم سنته فيمن وجدهم في مغرب الشمس ثم أتبع سببا 29 طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من مطلع الشمس إلى الشمال حتى إذا بلغ بين السدين أي الجبلين قال في القاموس : السد الجبل والحاجز وإطلاق السد عليه لأنه سد فجا من الأرض وقيل : إطلاق ذلك عليه هنا لعلاقة المجاورة وليس بذاك وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب بضم السين والمعنى على ما قال الكسائي واحد وقال الخليل وس : السد بالضم الاسم وبالفتح المصدر وقال ابن أبي إسحق : الأول ما رأته عيناك والثاني ما لا تريانه وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة : الأول ما كان من خلق الله تعالى لا دخل لصنع البشر فيه والثاني ما كان لصنع البشر دخل فيه ووجه دلالة المضموم على ذلك أنه بمعنى مفعول ولكونه لم يذكر فاعله فيه دلالة على تعينه وعدم ذهاب الوهم إلى غيره فيقتضي أنه هو الله تعالى وأما دلالة المفتوح على أنه من عمل العباد فللاعتبار بدلاله الحدوث وتصوير أنه ها هو ذا يفعله فليشاهد وهذا يناسب ما فيه مدخل العباد على أنه يكفي فيه فوات ذلك التفخيم وأنت تعلم أن القراءة بهما ظاهرة في توافقهما وعدم ذكر الفاعل والحدوث أمران مشتركان وعكس بعضهم فقال : المفتوح ما كان خلقه الله تعالى إذ المصدر لم يذكر فاعله والمضموم ما كان بعمل العباد لأنه بمعنى مفعول والمتبادر منه ما فعله العباد وضعفه ظاهر وانتصاب بين على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف المتصرفة ما لم يركب مع آخر مثله وقيل : إنه ظرف والمفعول به محذوف وهو ما أراده أو نحوه وهذان السدان فيما يقرب من عرض تسعين من جهة الشمال وهو المراد بآخر الجربياء في كتاب حزقيال عليه السلام وقد ذكر بعض أحبار اليهود أن يأجوج ومأجوج في منتهى الشمال حيث لا يستطيع أحد غيرهم السكنى فيه وهم في زاوية من ذلك لكنهم لم يتحقق عندهم أنهم فيما يلي المشرق من الشمال أو فيما يلي المغرب منه وهذا موافق لما ذكرناه في موضع السدين وهو الذي مال إليه كاتب جلبي وقيل : هما جبلا أرمينية وأذربيجان ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإليه يميل صنيع البيضاوي
وتعقب بأنه توهم ولعل النسبة إلى الحبر غير صحيحة وكان من يزعم ذلك يزعم أن سد ذي القرنين هو السد المشهور في باب الأبواب وهو مع استلزامه أن يكون مأجوج ومأجوج الخزر والترك خلاف ما عليه المؤرخون فإن باني ذلك السد عندهم كسرى أنو شروان وقيل : اسفنديار وهو أيضا لم يبق إلى الآن بل خرب من قبل هذا بكثير وزعم أن السد ويأجوج ومأجوج هناك وأن الكل قد تلطف بحيث لا يرى كما يراه عصرينا رئيس الطائفة المسماة بالكشفية السيد كاظم الرشتي ضرب من الهذيان وإحدى علامات الخذلان
وقال ابن سعيد : إن ذلك الموضع حيث الطول مائة وثلاثة وستون درجة والعرض أربعون درجة وفيه أن في هذا الطول والعرض بلاد الخنا والجين وليس هناك يأجوج ومأجوج نعم هناك سد عظيم يقرب من مائتين وخمسين ساعة طولا لكنه ليس بين السدين ولا بانيه ذو القرنين ولا يكاد يصدق عليه ما جاء في وصف سده ويمنع من القول بذلك أيضا ما لا يخفى وقيل : هما بموضع من الأرض لا نعلمه وكم فيها من أرض مجهولة ولعله قد حال بيننا وبين ذلك الموضع مياه عظيمة ودعوى استقراء سائر البراري والبحار غير مسلمة ويجوز العقل أن يكون في البحر أرض نحو أمريقا لم يظفر بها إلى الآن وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود
(16/37)
وبعد إخبار الصادق بوجود هذين السدين وما يتبعهما يلزمنا الإيمان بذلك كسائر ما أخبر به من الممكنات والالتفات إلى كلام المنكرين ناشيء من قلة الدين وجد من دونهما أي السدين قوما أمة من الناس قيل هم الترك وزعم بعضهم أن القوم كانوا من الجان وهو زعم باطل لا بعيد كما قال أبو حيان
لا يكادون يفقهون قولا 39 من أقوال اتباع ذي القرنين أو من أقوال من عداهم لغرابة لغتهم وبعدها عن لغات غيرهم وعدم مناسبتها لها مع قلة فطنتهم إذ لو تقاربت فهموها ولو كثرت فطنتهم فهموا ما يراد من القول بالقرائن فتعلموه والظاهر إبقاء القول على معناه المتبادر
وزعم بعضهم أن الزمخشري جعله مجازا على الفهم مطلقا أو عما من شأنه أن يقال ليشمل الإشارة ونحوها حيث قال : أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة مع إشارة ونحوها وفيه نظر والظاهر أنه فهم من نفي يكاد إثبات الفهم لهم لكن يعسر وهو بناء على قول بعضهم : إن نفيها إثبات وإثباتها نفي وليس بالمختار
وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي يفقهون من الأفعال أي لا يكادون يفهمون الناس لتلعثمهم وعدم تبيينهم الحروف قالوا أي بواسطة مترجمهم فإسناد القول إليهم مجاز ولعل هذا المترجم كان من قوم بقرب بلادهم ويؤيد في ذلك ما وقع في مصحف ابن مسعود قال : الذين من دونهم أو بالذات على أن يكون فهم ذي القرنين كلامهم وإفهامه إياهم من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب وقال بعضهم : لا يبعد أن يقال القائلون قوم غير الذين لا يفهمون قولا ولم يقولوا ذلك على طريق الترجمة لهم وأيد بما في مصحف ابن مسعود وأيا ما كان فلا منافاة بين لا يكادون يفقهون قولا
وقالو ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج قبيلتان من ولد يافث بن نوح عليه السلام وبه جزم وهب بن منبه وغيره واعتمده كثير من المتأخرين وقال الكسائي في العرائس : إن يافث سار إلى المشرق فولد له هناك خمسة أولاد جومر وبنرش وأشار وأسقويل ومياشح فمن جومر جميع الصقالية والروم وأجناسهم ومن مياشح جميع أصناف العجم ومن أشار يأجوج ومأجوج وأجناسهم ومن أسقويل جميع الترك ومن بنرش الفقجق واليونان وقيل : كلاهما من الترك وروي ذلك عن الضحاك وفي كلام بعضهم أن الترك منهم لما أخرجه ابن جرير وابن مردويه من طريق السدي من أثر قوى الترك سرية من سرايا يأجوج ومأجوج خرجت فجاء ذو القرنين فبنى السد فبقوا خارجين عنه وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة أن يأجوج ومأجوج ثنتان وعشرون قبيلة بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين وكانت واحدة واحدة منهم خارجة للغزو فبقيت خارجة وسميت الترك لذلك وقيل : يأجوج من الترك ومأجوج من الديلم وقيل من الجيل وعن كعب الأحبار أن يأجوج ومأجوج من ولد آدم عليه السلام من غير حواء وذلك أنه عليه السلام نام فاحتلم فامتزجت نطفته في التراب فخلق منها يأجوج ومأجوج ونقل النووي في فتاواه القول بأنهم أولاد آدم عليه السلام من غير حواء عن جماهير العلماء
وتعقب دعوى الاحتلام بأن الأنبياء عليهم السلام لا يحتلمون وأجيب بأن المنفي الاحتلام بمن لا تحل لهم فيجوز أن يحتلموا بنسائهم فلعل احتلام آدم عليه السلام من القسم الجائر ويحتمل أيضا أن يكون منه
(16/38)
عليه السلام إنزال من غير أن يرى نفسه أنه يجامع كما يقع كثيرا لأبنائه واعترض أيضا بأنه يلزم على هذا أنهم كانوا قبل الطوفان ولم يهلكوا به وأجيب بأن عموم الطوفان غير مجمع عليه فلعل القائل بذلك ممن لا يقول بعمومه وأنا أرى هذا القول حديث خرافة وقال الحافظ ابن حجر : لم يرد ذلك على أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار ويرده الحديث المرفوع أنهم من ذرية نوح عليه السلام ونوح من ذرية حواء قطعا وكأنه عني بالحديث غير ما روي عن أبي هريرة مرفوعا ولد لنوح سام وحام ويافث فولد لسام العرب وفارس والروم وولد لحام القبط والبربر والسودان وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالية فإنه صرح بأنه ضعيف وفي التوراة في السفر الأول في الفصل العاشر التصريح بأن يأجوج من أبناء يافث وزعم بعض اليهود أن مأجوج اسم للأرض التي كان يسكنها يأجوج وليس اسما لقبيلة وهو باطل بالنص والظاهر أنهما اسمان أعجميان فمنع صرفهما للعلمية والعجمة وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية وهي لغة بني أسد ووزنهما مفعول وبناء مفعول من ذلك مع أنه لازم لتعديه بحرف الجر
وقيل إن كان ما ذكر منقولا فللتعدي وإن كان مرتجلا فظاهر وقال الأخفش : إن جعلنا ألفهما أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فيأجوج من يججت ومأجوج من مججت وقال قطرب : في غير الهمز مأجوج فاعول من المج ويأجوج فاعول من من اليج وقال أبو الحسن علي بن عبد الصمد السخاوي : الظاهر أنه عربي وأصله الهمز وتركه على التخفيف وهو إما من الأجة وهو الاختلاف كما قال تعالى وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض أو من الأج وهو سرعة العدو قال تعالى وهم من كل حدب ينسلون أو من الأجه وهي شدة الحر أو من أج الماء يأج أجوجا إذا كان ملحا مرا انتهى وعلة منع الصرف على القول بعربيتهما العلمية والتأنيث باعتبار القبيلة
وقرأ العجاج ورؤية ابنه آجوج بهمزة بدل الياء وربما يقال جوج بلا همزة ولا ياء في غير القرآن وجاء بهذا اللفظ في كتاب حزقيال عليه السلام مفسدون في الأرض أي في أرضنا بالقتل والتخريب وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر وقيل بأخذ الأقوات وأكلها روي أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب الأوصافي أنه قال : كان فسادهم أنهم يأكلون الناس واستدل بإسناد مفسدون إلى يأجوج ومأجوج على أن أقل الجمع اثنان وليس بشيء أصلا فهل نجعل لك خرجا أي جعلا من أموالنا والفاء لتفريع العرض على إفسادهم في الأرض وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وحمزة والكسائي خراجا بألف بعد الراء وكلاهما بمعنى واحد كالنول والنوال وقيل الخرج المصدر أطلق على الخراج والخراج الاسم لما يخرج وقال ابن الأعرابي : الخرج على الرؤس يقال : أد خراج أرضك وقال ثعلب : الخرج أخص من الخراج وقيل الخرج المال يخرج مرة والخراج الخرج المتكرر وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه على أن تجعل بيننا وبينهم سدا 49 حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر سدا بضم السين
قال ما مكني بالإدغام وقرأ ابن كثير وحميد بالفك أي الذي مكنني فيه ربي وجعلني فيه
(16/39)
سبحانه مكينا قادرا من الملك والمال وسائر الأسباب خير أي مما تريدون أن تبذلوه إلي من الخرج فلا حاجة بي إليه فأعينوني بقوة أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات كزبر الحديد أو من الناس أو الأعم منهما والفاء لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكنه الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قبول خرجهم أجعل جواب الأمر بينكم وبينهم تقديم إضافة الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج ولإظهار كمال العناية بمصالحهم كما راعوه في قولهم بيننا وبينهم ردما 59 أي حاجزا حصينا وحجابا متينا وهو أكبر من السد وأوثق يقال : ثوب مردم أي فيه رقاع فوق رقاع ويقال : سحاب مردم أي متكاثف بعضه فوق بعض وذكر أن أصل معناه سد الثلمة بالحجارة ونحوها وقيل : سد الخلل مطلقا ومنه قول عنترة :
هل غادر الشعراء من متردم
ثم أطلق على ما ذكر وقيل : هو السد بمعنى ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : هو كأشد الحجاب وعليه يكون قد وعدهم بالإسعاف بمرامهم فوق ما يرجونه وهو اللائق بشأن الملوك ءاتوني زبر الحديد جمع زبرة كغرف في غرفة وهي القطعة العظيمة وأصل الزبر الاجتماع ومنه زبرت الكتاب جمعت حروفه وزبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن زبر الحديد فقال : قطعة وأنشد قول كعب بن مالك : تلظى عليهم حين شد حميها بزبر الحديد والحجارة شاجر وطلب إيتاء الزبر لا ينافي أنه لم يقبل منهم شيئا لأن المراد من الإيتاء المأمور به الإيتاء بالثمن أو مجرد لمناولة والإيصال وإن كان ما آتوه لا إعطاء ما هو لهم فهو معونة مطلوبة وعلى تسليم كون الإيتاء بمعنى الإعطاء لا المناولة يقال : إن إعطاء الآلة للعمل لا يلزمه تملكها ولو تملكها لا يعد ذلك جعلا فإنه إعطاء المال لا إعطاء مثل هذا وينبيء عن أن المراد ليس إلا عطاء قراءة أبي بكر عن عاصم ردما ائتوني بكسر التنوين ووصل الهمزة من أتاه بكذا إذ جاء به له وعلى هذه القراءة نصب زبرا بنزع الخافض أي جيئوني بزبر الحديد وتخصيص زبر الحديد بالذكر دون الصخور والحطب ونحوهما لما أن الحاجة إليها أمس إذ هي الركن القوي في السد ووجودها أعز
وقرأ الحسن زبر بضم الباء كالزاي حتى إذا ساوى بين الصدفين في الكلام حذف أي فأتوه إياها فأخذ يبني شئيا فشيئا حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا لهما في العلو فبين مفعول ساوى وفاعله ضمير ذي القرنين وقيل : الفاعل ضمير السد المفهوم من الكلام أي فأتوه إياها فأخذ يسد بها حتى إذا ساوى السد الفضاء الذي بين الصدفين ويفهم من ذلك مساواة السد في العلو للجبلين والصدف كما أشرنا إليه جانب الجبل وأصله على ما قيل : الميل ونقل في الكشف أنه لا يقال للمنفرد صدف حتى يصادفه الآخر ثم قال : فهو من الأسماء المتضايفة كالزوج وأمثاله وقال أبو عبيدة : هو كل بناء عظيم مرتفع ولا يخفى أنه ليس بالمراد هنا وزعم بعضهم أن المراد به هنا الجبل وهو خلاف ما عليه الجمهور وقرأ قتادة سوى من التسوية
وقرأ ابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم سووى بالبناء للمجهول وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن الصدفين بضم الصاد والدال وهي لغة حمير كما أن فتحهما في قراءة
(16/40)
الأكثرين لغة تميم وقرأ أبو بكر وابن محصين وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن الصدفين بضم فسكون
وقرأ ابن جندب بفتح فسكون وروى ذلك عن قتادة وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ بضم ففتح وهي قراءة أبان عن عاصم وقرأ الماجشون بفتح فضم
قال للعملة انفخوا أي بالكيران في زبر الحديد الموضوعة بين الصدفين ففعلوا حتى إذا جعله أي جعل المنفوخ فيه نارا أي كالنار في الحرارة والهيئة فهو من التشبيه البليغ وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعل الفعلة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلة قال الذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها وقيل لأولئك النافخين قال لهم بعد أن نفخوا في ذلك حتى صار كالنار وتم ما أراده منهم أولا ءاتوني من الذين يتولون أمر النحاس أفرغ عليه قطرا 69 أي آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وبه تمسك البصريون على أن إعمال الثاني في باب التنازع أولى إذ لو كان قطرا مفعول آتوني لأضمر مفعول أفرغ وحذفه وإن جاز لكونه فضلة إلا أنه يوقع في لبس
والقطر كما أشرنا إليه النحاس المذاب وهو قول الأكثرين وقيل : الرصاص المذاب وقيل : الحديد المذاب وليس بذاك وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه ائتوني بهمزة الوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإغاثة باليد عند الإفراغ وإسناد الإفراغ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفا وكذا الكلام في قوله اجعل وقوله ساوى على أحد القولين فما اسطاعوا بحذف تاء الإفتعال تخفيفا وحذرا عن تلاقي المتقاربين في المخرج وهما الطاء والتاء
وقرأ حمزة وطلحة بإدغام التاء في الطاء وفيه جمع بين الساكنين على غير حده ولم يجوزه أبو علي وجوزه جماعة وقرأ الأعشى عن أبي بكر فما اصطاعوا بقلب السين صادا لمجاورة الطاء وقرأ الأعمش فما استطاعوا بالتاء من غير حذف والفاء فصيحة أي ففعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر أو الاتيان فأفرغ عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض فصار جبلا صلدا فجاء يأجوج ومأجوج وقصدوا أن يعلوه وينقبوه فما اسطاعوا أن يظهروه أي يعلوه ويرقوا فيه لارتفاعه وملاسته قيل : كان ارتفاعه مائتي ذراع وقيل : ألف وثمانمائة ذراع وما استطاعوا له نقبا 79 لصلابته وثخانته قيل : وكان عرضه خمسين ذراعا وكان أساسه قد بلغ الماء وقد جعل فيه الصخر والنحاس المذاب وكانت زبر الحديد للبناء فوق الأرض ولا يخفى أن إفراغ القطر عليها بعد أن أثرت فيها حرارة النار حتى صارت كالنار مع ما ذكروا من امتداد السد في الأرض مائة فرسخ لا يتم إلا بأمر إلهي خارج عن العادة كصرف تأثير حرارة النار العظيمة عن أبدان المباشرين الأعمال وإلا فمثل تلك الحرارة عادة مما لا يقدر حيوان على أن يحوم حولها ومثل ذلك النفخ في هاتيك الزبر العظيمة الكثيرة حتى تكون نارا ويجوز أن يكون كل من الأمرين بواسطة آلات غريبة أو أعمال أوتيها هو أو أحد ممن معه لا يكاد أحد يعرفها اليوم وللحكماء المتقدمين بل والمتأخرين أعمال عجيبة يتوصلون
(16/41)
إليها بآلات غريبة تكاد تخرج عن طور العقل وهذا مما لاشبهة فيه فليكن ما وقع لذي القرنين من ذلك القبيل وقيل : كان بناؤه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فجوة أصلا
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي بكرة الشفي أن رجلا قال : يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال : انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال : قد رأيته والظاهر أن الرؤية بصرية لا منامية وهو أمر غريب إن صح الخبر وأما ما ذكره بعضهم من أن الواثق بالله العباسي أرسل سلاما الترجمان للكشف عن هذا السد فذهب جهة الشمال في قصة تطول حتى رآه ثم عاد وذكر له من أمره ما ذكر فثقات المؤرخين على تضعيفه وعندي أنه كذب لما فيه مما تأبى عنه الآية كما لا يخفى على الواقف عليه تفصيلا
ولا يخفى لطف الاتيان بالتاء في استطاعوا هنا قال أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبة المنال رحمة أي أثر رحمة عظيمة وعبر عنه بها للمبالغة من ربي على كافة العباد لا سيما على مجاوريه وكون السد رحمة على ظاهر وإذا جعلت الإشارة إلى التمكن فكونه رحمة عليهم باعتبار أنه سبب لذلك وربما يرجع المتقدم أيضا باحتياج المتأخر إلى هذا التأويل وإن كان الأمر فيه سهلا وفي الأخبار عنه بما ذكر إيذان على ما قيل بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بالمباشرة وفي التعرض لوصف الربوبية تربية معنى الرحمة وقرأ ابن أبي عبلة هذه رحمة بتأنيث اسم الإشارة وخرج على أنه رعاية للخبر أو جعل المشار إليه القدرة والقوة على ذلك فإذا جاء وعد ربي أي وقت وعده تعالى فالكلام على حذف مضاف والإسناد إلى الوعد مجاز وهو لوقته حقيقة ويجوز أن يكون الوعد بمعنى الموعود وهو وقته أو وقوعه فلا حذف ولا مجاز في الإسناد بل هناك مجاز في الطرف والمراد من وقت ذلك يوم القيامة وقيل : وقت خروج يأجوج ومأجوج وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئه ومجيء مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام ونحو ذلك لا دنو وقوعه فقط كما قال الزمخشري وغيره فإن بعض الأمور التي ستحكى تقع بعد مجيئه حتما جعله أي السد المشار إليه مع متانته ورصانته دكاء بألف التأنيث الممدودة والموصوف مؤنث مقدر أي أرضا مستوية وقال بعضهم : الكلام على تقدير مضاف أي مثل دكاء وهي ناقة لا سنام لها ولا بد من التقدير لأن السد مذكر لا يوصف بمؤنث وقرأ غير الكوفيين دكا على أنه مصدر دككته وهو بمعنى المفعول أي مدكوكا مسوى بالأرض أو على ظاهره والوصف به للمبالغة والنصب على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير وزعم ابن عطية أنها بمعنى خلق وليس بشيء
وهذا الجعل وقت مجيء الوعد بمجيء بعض مباديه وفيه بيان لعظم قدرته تعالى شأنه بعد بيان سعة رحمته عز و جل وكان علمه بهذا الجعل على ما قيل من توابع علمه بمجيء الساعة إذ من مباديها دك الجبال الشامخة الراسخة ضرورة أنه لا يتم بدونها واستفادته العلم بمجيئها ممن كان في عصره من الأنبياء عليهم السلام ويجوز أن يكون
(16/42)
العلم بجميع ذلك بالسماع من النبي وكذا العلم بمجيء وقت خروجهم على تقدير أن يكون ذلك مرادا من الوعد يجوز أن يكون على اجتهاد ويجوز أن يكون عن سماع
وفي كتاب حزقيال عليه السلام الأخبار بمجيئهم في آخر الزمان من آخر الجربياء في أمم كثيرة لا يحصيهم إلا الله تعالى وإفسادهم في الأرض وقصدهم بيت المقدس وهلاكهم عن آخرهم في بريته بأنواع من العذاب وهو عليه السلام قبل إسكندر غالب دارا فإذا كان هو ذا القرنين فيمكن أن يكون وقف على ذلك فأفاده علما بما ذكر والله تعالى أعلم ثم أن في الكلام حذفا أي وهو يستمر إلى آخر الزمان فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا أي وعده سبحانه المعهود أو كل ما وعد عز و جل به فيدخل فيه ذلك دخولا أوليا حقا 89 ثابتا لا محالة واقعا البتة وهذه الجملة تذييل من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطية وتأكيد لمضمونها وهو آخر ما حكي من قصته وقوله عز و جل وتركنا بعضهم كلام مسوق من جنابه سبحانه وتعالى وضمير الجمع المجرور عند بعض المحققين للخلائق والترك بمعنى الجعل وهو من الأضداد والعطف على قوله تعالى : جعله دكا وفيه تحقيق لمضمونه ولايضر في ذلك كونه محكيا عن ذي القرنين أي جعلنا بعض الخلائق يومئذ أي يوم إذ جاء الوعد بمجيء بعض مباديه يموج في بعض آخر منهم والموج مجاز عن الإضطراب أي يضطربون اضطراب البحر يختلط إنسهم وجنهم من شدة الهول وروي هذا عن ابن عباس ولعل ذلك لعظائم تقع قبل النفخة الأولى وقيل : الضمير للناس والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ جاء الوعد بخروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر لفزعهم منهم وفرارهم وفيه بعد وقيل الضمير للناس أيضا والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ تم السد يموج في بعضهم للنظر إليه والتعجيب منه ولا يخفى أن هذا يتعجب منه
وقال أبو حيان : الأظهر كون الضمير ليأجوج ومأجوج أي وتركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم حين يخرجون من السد مزدحمين في البلاد وذلك بعد نزول عيسى عليه السلام ففي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان بعد ذكر الدجال وهلاكه بباب لد على يده عليه السلام ثم يأتي عيسى عليه السلام قوما قد عصمهم الله تعالى من الدجال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هم كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس فينفشون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم ويضمون إليهم مواشيهم فيشربون مياه الأرض حتى أن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسا حتى أن من يمر من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان ههنا ماء مرة ويحصر عيسى نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور ورأس الحمار لأحدهم خيرا من مائة دينار وفي رواية مسلم وغيره فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض هلم نقتل من في السماء فيرمون نشابهم إلى السماء فيردها الله تعالى عليهم مخضوبة دما للبلاء والفتنة فيرغب نبي الله وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى وفي رواية داود كالنغف في أعناقهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة لا يسمع لهم حس فيقول المسلمون الا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو فيتجرد رجل منهم محتسبا نفسه قد وطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى
(16/43)
بعضهم على بعض فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز و جل قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مداينهم وحصونهم فيسرحون مواشيهم فما يكون لها مرعى إلا لحومهم فتشكر أحسن ما شكرت عن شيء ويهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون فيها موضع شبر إلا ملاه زهمهم ونتنهم فيستغيثون بالله تعالى فيبعث الله سبحانه ريحا يمانية غبراء فتصير على الناس غما ودخانا يقع عليهم الزكمة ويكشف ما بهم بعد ثلاثة أيام وقد قذفت الأرض جيفهم في البحر وفي رواية فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله عز و جل فيرسل طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى وفي رواية فترميهم في البحر وفي أخرى في النار ولا منافاة كما يظهر بأدنى تأمل ثم يرسل الله عز و جل مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض : انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الأبل لتكفي الفئام من الناس ويوقد المسلمون من قسى يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين ولعل الله تعالى يحفظ ذلك في الأودية ومواضع السيول زيادة في سرور المسلمين أو يحفظها حيث هلكوا ولا يلقيها معهم حيث شاء ولا يعجز الله شيء والحديث يدل على كثرتهم جدا ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا أن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم من صلبه ألفا من الذرية وحمله بعضهم على طول العمر
وفي البحر أنه قد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء وأعجب ما روي في ذلك قول مكحول الأرض مسيرة مائة عام ثمانون منها يأجوج ومأجوج وهي أمتان كل أمة أربعمائة ألف لا تشبه أمة الأخرى وهو قول باطل ومثله ما روي عن أبي الشيخ عن أبي أمامة الدنيا سبعة أقاليم فليأجوج ومأجوج ستة وللباقي أقليم واحد وهو كلام من لا يعرف الأرض ولا الأقاليم نعم أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق البكالي عن ابن عمر أن الله تعالى جزأ الإنس عشرة أجزاء فتسعة منهم يأجوج ومأجوج وجزء سائر الناس إلا أني لم أقف على تصحيحه لغير الحاكم وحكم تصحيحه مشهور ويعلم مما تقدم ومما سيأتي إن شاء الله تعالى بطلان ما يزعمه بعض الناس من أنهم التاتار الذين أكثروا الفساد في البلاد وقتلوا الأخيار والأشرار ولعمري أن ذلك الزعم من الضلالة بمكان وإن كان بين يأجوج ومأجوج وأولئك الكفرة مشابهة تامة لا تخفى على الواقفين على أخبار ما يكون وما كان إبطال ما يزعمه بعض الناس من أنهم التاتار ونفخ في الصور الظاهر أن المراد النفخة الثانية لأنه المناسب لما بعد ولعل عدم التعرض لذكر النفخة الأولى لأنها داهية عامة ليس فيها حالة مختصة بالكفار وقيل : لئلا يقع الفصل بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوال وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة
والصور قرن جاء في الآثار من وصفه ما يدهش العقول وقد صح عن أبي سعيد الخدري أنه قال : قال رسول الله كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنا جبينه وأصغى سمعه ينتظر أن يومر فينفخ
وزعم أبو عبيدة أنه جمع صورة وأيد بقراءة الحسن الصور بفتح الواو فيكون لسورة وسور ورد ذلك أظهر من أن يخفى ولذلك قال أبو الهيثم على ما نقل عنه الإمام القرطبي : من أنكر أن يكون الصور قرنا
(16/44)
فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات وذكر أن الأمم مجمعة على أن النافخ فيه إسرافيل عليه السلام فجمعناهم أي الخلائق بعد ما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء جمعا 99 أي جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه وعرضنا جهنم أظهرناها وأبرزناها يومئذ أي يوم إذ جمعنا الخلائق كافة للكافرين منهم حيث جعلناها بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا عرضا 001 أي عرضا فظيعا هائلا لا يقادر قدره وتخصيص العرض بهم مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة لأن ذلك لأجلهم خاصة الذين كانت أعينهم وهم في الدنيا في غطاء كثيف وغشاوة غليظة محاطة بذلك من جميع الجوانب عن ذكري عن الآيات المؤدية لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكري بالتوحيد والتمجيد فالذكر مجاز عن الآيات المذكورة من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب وفيه أن من لم ينظر نظرا يؤدي به إلى ذكر التعظيم كأنه لا نظر له البتة وهذا فائدة التجوز
موقيل : الكلام على حذف مضاف أي عن آيات ذكري وليس بذاك ويجوز أن يكون المراد بالأعين البصائر القلبية والمعنى كانت بصائرهم في غطاء عن أن يذكروني على وجه يليق بشأني أو عن ذكري الذي أنزلته على الأنبياء عليهم السلام ويجوز أن يخص بالقرآن الكريم وكانوا مع ذلك لا يستطيعون سمعا 101 نفي لسماعهم على أتم وجه ولذا عدل عن وكانوا صما الاخصر إليه والمراد أنهم مع ذلك كفاقدي حاسة السمع بالكلية وهو مبالغة في تصوير إعراضهم عن سماع ما يرشدهم إلى ما ينفعهم بعد تصوير تعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار فلا حاجة إلى تقدير لذكري المراد منه القرآن أو مطلق الشرائع الإلهية فإنه بعد تخصيص الذكر المذكور في النظم الكريم أولا بالآيات المشاهدة لا يصير قرينة على هذا الحذف قال ابن هشام في المغنى : إن الدليل اللفظي لا بد من مطابقته للمحذوف معنى فلا يصح زيد ضارب وعمرو أي ضارب على أن الأول بمعناه المعروف والثاني بمعنى مسافر وتقدير ذلك وإرادة معنى الآيات منه مجازا لتحقق الآيات في ضمن الكلام المعجز لا يخفى حاله وحال إرادة الآيات ثم إرادة الكلام المعجز منه مجازا بعد المجاز أظهر وقال بعض المحققين : إن تقدير ذلك إنما هو بقرينة قوله تعالى سمعا وأن الكافرين هذا حالهم لا بقرينة ذكر الذكر قبل ليجيء كلام ابن هشام ولا يخفى أنه كلام في تقدير الذكر بمعنى القرآن أو الشرائع الإلهية إذا أريد من الذكر المذكور ذلك والموصول نعت الكافرين أو بدل منه أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم أفحسب الذين كفروا أي كفروا بي كما يعرب عنه قوله تعالى عبادي والحسبان بمعنى الظن وقد قرأ عبد الله أفظن والهمزة للإنكار والتوبيخ على معنى إنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يفصح عنه الصلة على توجيه الإنكار والتوبيخ وإلى المعطوفين جميعا ما اختاره شيخ الإسلام والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسبوا أن يتخذوا عبادي من الملائكة وعيسى ونحوهم عليهم السلام من المقربين كما تشعر به الإضافة فإن الأكثر أن تكون مثل هذا اللفظ لتشريف المضاف واقتصر قتادة في المراد من ذلك على الملائكة والظاهر إرادة ما يعمهم وغيرهم ممن ذكرنا واختاره أبو حيان
(16/45)
وغيره وروي عن ابن عباس أن المراد منه الشياطين وفيه بعد ولعل الرواية لا تصح وعن مقاتل أن المراد الأصنام وهو كما ترى وجوز بعض المحققين أن يراد ما يعم المذكورين والأصنام وسائر المعبودات الباطلة من الكواكب وغيرها تغليبا ولعل المقام يقتضي أن لا تكون الإضافة فيه للتشريف أي أفظنوا أن يتخذوا عبادي الذين هم تحت ملكي وسلطاني من دوني أي مجاوزين لي أولياء أي معبودين أو أنصارا لهم من بأسي وما في حيز صلة أن قيل ساد مسد مفعولي حسب أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياء وكان مصب الإنكار أنهم يتخذونهم كذلك إلا أنه أقحم الحسبان للمبالغة وقيل : المراد ما ذكر على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لما أنه إنما يكون من الجانبين والمتخذون بمعزل عن ولايتهم لقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم وقيل : أن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أول لحسب والمفعول الثاني محذوف أي أفحسبوا اتخاذهم نافعهم أو سببا لرفع العذاب عنهم أو نحو ذلك وهو مبني على تجويز حذف أحد المفعولين في باب علم وهو مذهب بعض النحاة وتعقب بأن فيه تسليما لنفس الاتخاذ واعتدادا به في الجملة والأولى ما خلا عن ذلك
هذا وفي الكشف أن التحقيق أن قوله تعالى فحسب معطوف على كانت وكانوا دلالة على أن الحسبان ناشيء عن التعامي والتصام وأدخل عليه همزة الإنكار ذما على ذم وقطعا له عن المعطوف عليهما لفظا لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكد للذم كأنه قيل لا يزيلون ما بهم من مرضى الغشاوة والصمم ويزيدون عليهما الحسبان المترتب عليهما وقوله تعالى الذين كفروا من وضع الظاهر مقام المضمر زيادة للذم انتهى وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر إلى قوله كأنه قيل إلخ أنه يأبى ذلك ترك الإضمار والتعرض لوصف آخر غير التعامي والتصام على أنهما أخرجا مخرج الأحوال الجبلية لهم ولم يذكرا من حيث أنهما من أفعالهم الإختيارية الحادثة كحسبانهم ليحسن تفريعه عليهما وأيضا فإنه دين قديم لهم لا يمكن جعله ناشئا عن تصامهم عن كلام الله عز و جل وتخصيص الإنكار بحسبانهم المتأخر عن ذلك تعسف لا يخفى انتهى ولا يخلو عن بحث فتأمل
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم والشافعي عليه الرحمة ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة ومسعود بن صالح وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما أفحسب بإسكان السين وضم الباء مضافا إلى الذين وخرج عن ذلك على أن حسب مبتدأ وهو بمعنى محسب أي كافي وأن يتخذوا خبره أي أفكا فيهم اتخاذهم عبادي من دوني أولياء وفيه دلالة على غاية الذم لأنه جعل ذلك مجموع عدتهم يوم الحساب وما يكتفون به عن سائر العقائد والفضائل التي لا بد منها للفائز في ذلك اليوم وجعل الزمخشري المصدر المتحصل من أن والفعل فاعلا لحسب لأنه اعتمد على الهمزة واسم الفاعل إذا اعتمد ساوى الفعل في العمل واعترض عليه أبو حيان بأن حسب مؤول باسم الفاعل وما ذكر مخصوص بالوصف الصريح ثم أشار إلى جوابه بأن سيبويه أجاز في مررت برجل خير منه أبوه وبرجل سواء عليه الخير والشر وبرجل أب له صاحبه وبرجل إنما رجل هو وبرجل حسبك من رجل الرفع بالصفات المؤولة وذكر أنهم أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه وارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة وحينئذ فلا كلام فيما ذكر الزمخشري إنا أعتدنا جهنم أي هيأناها وهو ظاهر في أنها مخلوقة اليوم للكفرين المعهودين عدل عن الإضمار ذما لهم وإشعارا بأن ذلك الاعتداد
(16/46)
بسبب كفرهم المتضمن لحسبانهم الباطل نزلا 201 أي شيئا يتمتعون به عند ورودهم وهو ما يقام به للنزيل أي الضيف مما حضر من الطعام واختار هذا جماعة من المفسرين وفي ذلك على ما قيل تخطئة لهم في حسبانهم وتهكم به حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء من قبيل اعتاد العتاد وإعدادا لزاد ليوم المعاد فكأنه قيل إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذخر جهنم عدة وفي إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هي أنموذج له ولا يأبى ذلك قوله تعالى جزاؤهم جهنم لأن المراد هناك أنها جزاؤهم بما فيها فافهم وقال الزجاج : النزل موضع النزول وروي ذلك عن ابن عباس وقيل : هو جمع نازل ونصبه على الحال
وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه نزلا بسكون الزاي قل يا محمد هل ننبئكم خطاب للكفرة وإذا حمل الإستفهام على الاستئذان كان فيه من التهكم ما فيه والجمع في صيغة المتكلم قيل لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضا بالأخسرين أعمالا 301 نصب على التمييز وجمع مع أن الأصل في التمييز الافراد والمصدر شامل للقليل والكثير كما ذكر ذلك النحاة إنما هو إذا كان المصدر باقيا على مصدريته أما إذا كان مؤولا بإسم فاعل فإنه يعامل معاملته وهنا عمل بمعنى عامل فجمع على أعمال والمراد عاملين والصفة تقع تمييزا نحو لله دره فارسا وزعم بعضهم أن أعمالا جمع عامل وتعقب بأن جمع فاعل على أفعال نادر وقد أنكره بعض النحاة في غير ألفاظ مخصوصة كإشهاد جمع شاهد وقيل : جمع عمل ككتف بمعنى ذو عمل كما في القاموس وهو كما ترى وزعم بعض المتأخرين أنه إذا اعتبر أعمالا بمعنى عاملين كان الأخسرين بمعنى الخاسرين لأن التمييز إذا كان صفة كان عبارة عن المنتصب عنه متحدا معه بالذات محمولا عليه بالمواطأة حتى أن النحاة صرحوا بأنه تجعل الحال أيضا وهو خبر عن ذي الحال معنى ومن البين أن أفعل التفضيل يمتنع لإن يتحد مع اسم الفاعل لمكان الزيادة فحيث وقع اسم الفاعل تمييزا وانتصب بأفعل وجب أن يكون بمعنى فاعل ليتحدا وتعقبه بعضهم بأن أفعل لا يكون مع اللام مجردا عن معنى التفضيل كما أنه لا يكون مجردا عنه مع الإضافة وإنما يكون ذلك إذا كان مع من كما صرح به ابن مالك في التسهيل وذكره الرضي ولا يخفى عليك ما في جميع ذلك من النظر والحق أن الجمعية ليست إلا لما ذكر أولا نعم ذكر أبو البقاء أنه جمع لكونه منصوبا على أسماء الفاعلين وأول ذلك بانه أراد باسم الفاعل المعنى اللغوي وأراد أنه جمع ليفيد التوزيع على أنه لا يخلو عن شيء ثم أن هذا على ما في إرشاد العقل السليم بيان لحال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة في أنفسها وفي حسبانهم أيضا حيث كانوا معجبين بها واثقين بنيل ثوابها ومشاهدة آثارها غب بيان أحوالهم باعتبار أعمالهم السيئة في أنفسها مع كونها حسنة في حسبانهم الذين ضل أي ضاع وبطل بالكلية عند الله عز و جل سعيهم في إقامة تلك الأعمال في الحياة الدنيا متعلق بسعي لا بضل لأن بطلان سعيهم غير مختص بالدنيا
قيل : المراد بهم أهل الكتابين وروي ذلك عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص ومجاهد ويدخل في الأعمال حينئذ ما عملوه من الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات وقيل : الرهبان الذين يحسبون أنفسهم في الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة وقيل الصابئة وسأل ابن الكواء عليا كرم الله تعالى وجهه عنهم
(16/47)
فقال : منهم أهل حروراء يعني الخوارج واستشكل بأن قوله تعالى أولئك الذين كفروا إلخ يأباه لأنهم لا ينكرون البعث وهم غير كفرة وأجيب بأن من اتصالية فلا يلزم أن يكونوا متصلين بهم من كل الوجوه بل يكفي كونهم على الضلال مع أنه يجوز أن يكون كرم الله تعالى وجهه معتقدا لكفرهم واستحسن أنه تعريض بهم على سبيل التغليظ لا تفسير للآية والمذكور في مجمع البيان أن العياشي روى بسنده أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه عن أهل هذه الآية فقال : أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم وابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم وما أهل النهر منهم ببعيد وهذا يؤيد الجواب الأول وأخبر أن المراد ما يعمم سائر الكفرة ومحل الموصول الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأنه جواب للسؤال كأنه قيل من هم فقيل الذين الخ وجوز أن يكون في محل جر عطف بيان على الأخسرين وجوز أن يكون نعتا أو بدلا وأن يكون منصوبا على الذم على أن الجواب ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه أولئك الذين إلخ
وتعقب بأنه يأبى ذلك أن صدره ليس منبئا عن خسران الأعمال وضلال السعي كما يستدعيه مقام الجواب والتفريع الأول وإن دل على هبوطها لكنه ساكت عن أنباء بما هو العمدة في تحقيق معنى الخسران مع الوثوق بترتب الربح واعتقاد النفع فيما صنعوا على أن التفريع الثاني مما يقطع ذلك الاحتمال رأسا إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمر بقضية نون العظمة والجواب على ذلك لا يتم إلا بتكلف فتأمل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا 401 الاحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي أي يعتقدون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها والجملة حال من فاعل ضل أي ضل سعيهم المذكور والحال أنهم يحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه في سعيهم لكونه في محل الرفع أي بطل سعيهم والحال أنهم إلخ والفرق بين الوجهين أن المقارن لحال حسبانهم المذكور في الأول ضلال سعيهم وفي الثاني نفس سعيهم قيل والأول أدخل في بيان خطئهم ولا يخفى ما بين يحسبون ويحسنون من تجنيس التصحيف ومثل ذلك قول البحتري : ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ليعجز والمعتز بالله طالبه أولئك كلام مستأنف من جنابه تعالى مسوق لتكميل تعريف الأخسرين وتبيين خسرانهم وضلال سعيهم وتعيينهم بحيث ينطبق التعريف على المخاطبين غير داخل تحت الأمر كما قيل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي والحسبان المذكور الذين كفروا بآيات ربهم بدلائله سبحانه الداعية إلى التوحيد الشاملة للسمعية والعقلية وقيل : بالقرآن والأول أولى والتعرض لعنوان الربوبية لزيادة تقبيح حالهم في الكفر المكذكور ولقائه هو حقيقة في مقابلة الشيء ومصادفته وليس بمراد والأكثرون على أنه كناية عن البعث والحشر وما يتبع ذلك من أمور الآخرة أي لم يؤمنوا بذلك على ما هو عليه وقيل : الكلام على حذف مضاف أي لقاء عذابه تعالى وليس بذاك فحبطت بكسر الباء وقرأ ابن عباس وأبو السمال بفتحها والفاء للتفريع أي فحبطت لذلك أعمالهم المعهودة حبوطا كليا فلا نقيم لهم أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال يوم القيامة وزنا 501 أي فنزدري بهم ونحتقرهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا لأن مدار الاعتبار
(16/48)
والاعتناء الأعمال الصالحة وقد حبطت بالمرة وحيث كان هذا الإزدراء والاحتقار من عواقب حبوط الأعمال عطف عليه بطريق التفريع وأما ما هو من أجزية الكفر فسيجيء إن شاء الله تعالى بعد ذلك وزعم بعضهم أن حقه على هذا أن يعطف بالواو عطف أحد المتفرعين على الآخر لأن منشأ ازدرائهم الكفر لا الحبوط وبه اعترض على ذلك وهو ناشيء من فرط الذهول كما لا يخفى أو لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانا لأنها قد حبطت وصارت هباء منثورا ونفي هذا بعد الإخبار بحبوطها من قبيل التأكيد بخلاف النفي على المعنى الأول ولذلك رجح عليه وليس من الاعتزال في شيء وقرأ مجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله تعالى بآيات ربهم وعند عبيد أيضا فلا يقيم بفتح ياء المضارعة كأنه جعل قام متعديا وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن على أن يقوم مضارع قام اللازم و وزن فاعله
ذلك بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك وقوله عز و جل جزاؤهم جهنم جملة مفسرة له فلا محل لها من الإعراب وجوز أن يكون ذلك مبتدأ و جزاؤهم بدل منه بدل اشتمال أو بدل كل من كل إن كانت الإشارة إلى الجزاء الذي في الذهن و جهنم خبره والتذكير وإن كان الخبر مؤنثا لأن المشار إليه الجزاء ولأن الخبر في الحقيقة للبدل وأن يكون ذلك مبتدأ و جزاؤهم خبره و جهنم عطف بيان للخبر والإشارة إلى جهنم الحاضرة في الذهن وأن يكون مبتدأ و جزاؤهم جهنم مبتدأ وخبر خبر له والعائد محذوف والإشارة إلى كفرهم وأعمالهم والتذكير باعتبار ما ذكر أي ذلك جزاؤهم به جهنم وتعقب بأن العائد المجرور إنما يكثر حذفه في مثل ذلك إذا جر بحرف بتبعيض أو ظرفية أو جر عائد قبله بمثل ما جر به كقوله
فالذي تدعي به أنت مفلح
أي به وجوز أبو البقاء أن يكون ذلك مبتدأ و جزاؤهم بدل أو عطف بيان و جهنم بدل من جزاء أو خبر مبتدأ محذوف أي هو جهنم وقوله تعالى : بما كفروا خبر ذلك وقال بعد أن ذكر من وجوه الإعراب ما ذكر : إنه لا يجوز أن يتعلق الجار بجزاؤهم للفصل بينهما بجهنم وقيل : الظاهر تعلقه به ولا يضر الفصل في مثل ذلك وهو تصريح بأن ما ذكر جزاء لكفرهم المتضمن لسائر القبائح التي أنبأ عنها قوله تعالى المعطوف على كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا 601 أي مهزوأ بهما فإنهم لم يقنعوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل عليهم السلام بل ارتكبوا مثل تلك العظيمة أيضا
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر والمراد من الآيات قيل المعجزات الظاهرة على أيدي الرسل عليهم السلام والصحف الإلهية المنزلة عليهم عليهم الصلاة والسلام إن الذين آمنوا بيان بطريق الوعد لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرة إثر بيان ما لهم بطريق الوعيد أي إن الذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه سبحانه وعملوا الصالحت من الأعمال كانت لهم فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده فالمضى باعتبار ما ذكر وفيه على ما قال شيخ الإسلام إيماء إلى أن أثر الرحمة يصل إليهم بمقتضى الرأفة الأزلية بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلا فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم وقيل : يجوز أن يكون ما وعدوا به لتحققه نزل منزلة الماضي فجيء بكان إشارة إلى ذلك ولم يقل أعتدنا لهم كما قيل فيما مر للإشارة إلى أن أمر الجنات لا يكاد يتم بل لا يزال ما فيها يزداد فإن اعتاد الشيء وتهيئته يقتضي تمامية
(16/49)
أمره وكماله وقد جاء في الآثار أنه يغرس للمؤمن بكل تسبيحة شجرة في الجنة وقيل : التعبير بما ذكر أظهر في تحقق الأمر من التعبير بالاعتاد ألا ترى أنه قد تهيأ دار لشخص ولا يسكنها ولا يخلو عن لطف فافهم
جنات الفردوس أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن الفردوس هو البستان بالرومية وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسا وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن عبد الله بن الحرث أن ابن عباس سأل كعبا عن الفردوس فقال : جنة الأعناب بالسريانية وقال عكرمة : هي الجنة بالحبشية وقال القفال : هي الجنة الملتفة بالأشجار وحكى الزجاج أنها الأودية التي تنبت ضروبا من النبات وقال المبرد : هي فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب ونص الفراء على أنه عربي أيضا ومعناه البستان الذي فيه كرم وهو مما يذكر ويؤنث وزعم بعضهم أنها لم تسمع في كلام العرب إلا في قول حسان : وإن ثواب الله كل موحد جنان من الفردوس فيها يخلد وهو لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت : كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس ثم الفوم والبصل وجاء في شعر جرير في أبيات يمدح بها خالد بن عبد الله القسري حيث قال : وإنا لنرجوا أن نرافق رفقة يكونون في الفردوس أول وارد ومما سمعه أهل مكة قبل إسلام سعد قول هاتف : أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله في الفردوس منية عارف والحق أن ذكرها في شعر الإسلاميين كثير وفي شعر الجاهليين قليل وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنها تفجر أنهار الجنة وعن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض والفردوس أعلى الجنة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس وروي عن كعب أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وصح أن أهل الفردوس ليسمعون أطيط العرش
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري مرفوعا الفردوس مقصورة الرحمن وكل ذلك لا ينافي كون الفردوس في اللغة البستان كما توهم إذ لا مانع من أن يكون أعلى الجنة بستانا لكنه لكونه في غاية السعة أطلق على كل قطعة منه جنة فقيل جنات الفردوس كذا قيل واستشكل بأن الآية حينئذ تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس المشتمل على جنات وهذا لايصح على القول بأن الفردوس أعلى الدرجات إذ لا شبهة في تفاوت مراتبهم وكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات طائفة مخصوصة من مطلق المؤمنين مع كونه في مقابلة الكافرين ليس بشيء وقال أبو حيان : الظاهر أن معنى جنات الفردوس بساتين حول الفردوس ولذا أضيفت الجنات إلى الفردوس وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لما أن الآية حينئذ تفيد أن جميع المؤمنين في جنات حول الفردوس ومن المعلوم أن منهم من هو في الفردوس وقيل : الأمر كما ذكر أبو حيان
(16/50)
إلا أنه يلتزم الاستخدام في الآية بأن يراد مطلق الجنات فيما بعد وفيه مع كونه خلاف الظاهر ما لا يخفى
وقيل المراد من جنات الفردوس جميع الجنات والإضافة إلى الفردوس التي هي أعلاها باعتبار اشتمالها عليها ويكفي في الإضافة هذه الملابسة ولعلك تختار أن الفردوس في الآثار بمعنى وفي الآية بمعنى آخر وتختار من معانيه ما تكلف في الإضافة فيه كالشجر الملتف ونحوه وظاهر بيت حسان وبيت أمية شاهد على أن للفردوس معنى غير ما جاء في الآثار فليتدبر واعلم أنه استشكل أيضا ما جاء من أمر السائل بسؤال الفردوس لنفسه مع كونه أعلى الجنة بخبر أحمد عن أبي هريرة مرفوعا إذا صليتم علي فاسألوا الله تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو وأجيب بأنه لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها أعلى من بعض وتكون الوسيلة عبارة عن أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنان ونظير ذلك ما قيل في حد الإعجاز فتذكر وقيل المراد من الدرجة في حديث الوسيلة درجة المكانة لا المكان بخلافها فما تقدم فلا إشكال والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه حال من قوله تعالى نزلا 701 أو على أنه بيان كما في سعيا لك وخبر كان في الوجهين نزلا أو على أنه الخبر و نزلا حال من جنات فإن جعل بمعنى ما يهيأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس نزلا أو جعلت نفس الجنات نزلا مبالغة في الإكرام وفيه إيذان بأنها عندما أعد الله تعالى لهم على لسان النبوة من قوله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خظر على قلب بشر بمنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة وإن جعلت بمعنى المنزل فالمعنى ظاهر خالدين فيها نصب على الحالية وهي مقدرة عند البعض وحقق أنها حال مقارنة والمعتبر في المقارنة زمان الحكم وهو كونهم في الجنة وهم بعد حصولهم فيها مقارنون له إذ لا آخر له فتأمل ولا تغفل لا يبغون عنها حولا 801 هو كما قال ابن عيسى وغيره مصدر كالعوج والصغر والعود في قوله : عادني حبها عودا
أي لا يطلبون عنها تحولا إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم وأرفع منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم وتطمح عنه أبصارهم وإن تفاوتت درجاتهم والحاصل أن المراد من عدم الطلب التحول عنها كونها أطيب المنازل وأعلاها وقال ابن عطية : كأنه اسم جمع وكأن واحده حوالة ولا يخفى بعده وقال الزجاج عن قوم : هو بمعنى الحيلة في التنقل وهو ضعيف متكلف وجوز أن يراد نفي التحول والانتقال على أن يكون تأكيدا للخلود لأن عدم طلب الانتقال مستلزم للخلود فيؤكده أو لأن الكلام على حد
ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا يتحولون عنها فيبغوه وقيل في وجه التأكيد : إنهم إذا لم يريدوا الانتقال لا ينتقلون لعدم الإكراه فيها وعدم إرادة النقلة عنها فلم يبق إلا الخلود إذ لا واسطة بينهما كما قيل والجملة حال من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فتكون حالا متداخلة وفيها إيذان بأن الخلود لا يورثهم مللا قل لو كان البحر أي جنس البحر مدادا هو في الأصل اسم لكل ما يمد به الشيء واختص في العرف لما تمد به الدواة من الحبر لكلمات ربي أي معدا لكتابة كلماته تعالى والمراد بها كما روي عن قتادة معلوماته سبحانه وحكمته عز و جل لنفد البحر مع كثرته ولم يبق منه شيء لتناهيه قبل أن تنفد كلمات ربي لعدم تناهيها ولو جئنا بمثله مددا 901 عونا وزيادة لأن مجموع
(16/51)
المتناهين متناه بل جميع ما يدخل في الوجود على التعاقب أو الاجتماع متناه ببرهان التطبيق وغيره من البراهين وهذا كلام من جهته تعالى شأنه غير داخل في الكلام الملقن جيء به لتحقيق مضمونه وتصديق مدلوله على أتم وجه والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة المذكور عليها دلالة واضحة أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته تعالى لو لم نجيء بمثله مددا ولو جئنا بمثله مددا والكلام في جواب لو مشهور وليس قوله تعالى قبل أن تنفد للدلالة على أن ثم نفادا في الجملة محققا أو مقدرا لأن المراد منه لنفد البحر وهي باقية إلا أنه عدل إلى المنزل لفائدة المزاوجة وإن ما لا ينفد عند العقول العامية ينفد دون نفادها وكلما فرضت من المد فكذلك والمثل للجنس شائع على أمثال كثيرة تفرض كل منها مددا وهذا كما في الكشف أبلغ من وجه من قوله تعالى والبحر يمده من بعده سبعة أبحر
وذلك أبلغ من وجه آخر وهو ما في تخصيص هذا العدد من النكتة ولم يرد تخصيص العدة ثم فيه زيادة تصوير لما استقر في عقائد العامة من أنها سبعة حتى إذا بالغوا فيما يتعذر الوصول إليه قالوا هو خلف سبعة أبحر وفي إضافة الكلمات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره في الموضعين من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى وإظهار البحر والكلمات في موضع الإضمار لزيادة التقرير ونصب مددا على التمييز كما في قوله
فإن الهوى يكفيكه مثله صبرا
وجوز أبو الفضل الرازي نصبه على المصدر على معنى ولو أمدددنا بمثله إمدادا وناب المدد عن الإمداد على حد ما قيل في قوله تعالى والله أنبتكم من الأرض نباتا وفيه تكلف
وقرأ حمزة والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى قبل أن ينفد بالياء آخر الحروف وقرأ السلمي أن تنفد بالتشديد على تفعل على المضي وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع نفد مشددا نحو كسرته فتكسر
وقرأ الأعرج بمثله مددا بكسر الميم على أنه جمع مدة وهو ما يستمده الكاتب فيكتب به وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن محيصن وحميد والحسن في رواية وأبو عمرو وكذلك وحفص كذلك أيضا مدادا بألف بين الدالين وكسر الميم وسبب النزول أن حي بن أخطب كما رواه الترمذي عن ابن عباس قال : في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ثم تقرؤن وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ومراده الاعتراض بأنه وقع في كتابكم تناقض بناء على أن الحكمة هي العلم وأن الخير الكثير هو عين الحكمة لا آثارها وما يترتب عليها لأن الشيء الواحد لا يكون قليلا وكثيرا في حالة واحدة فالآية جواب على ذلك بالإرشاد إلى أن القلة والكثرة من الأمور الإضافية فيجوز أن يكون الشيء كثيرا في نفسه وهو قليل بالنسبة إلى شيء آخر فإن البحر من عظمته وكثرته خصوصا إذا ضم إليه أمثاله قليل بالنسبة إلى كلماته عز و جل وقيل سبب ذلك أن اليهود قالوا للرسول : كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها وأنك أعطيت من العلم ما يحتاجه الناس وقد سئلت عن الروح فلم تجب فيه ومرادهم الاعتراض بالتناقض بين دعواه عليه الصلاة و السلام وحاله في زعمهم بناء على أن العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس وأنه لم يفده عبارة ولا إشارة والجواب عن هذا منع كون العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس في أمر دينهم المبعوث له الأنبياء عليهم السلام والقائل أنتم أعلم بأمور دنياكم لا يدعي علم ما يحتاجه الناس مطلقا وأنت تعلم أن الآية لا تكون جوابا عما ذكر على تقدير صحة كون ذلك سبب
(16/52)
النزول إلا بضم الآية الآتية إليها ومع هذا يحتاج ذلك إلى نوع تكلف قل بعد أن بينت شأن كلماته عز شأنه إنما أنا بشر مثلكم لا أدعي الإحاطة بكلماته جل وعلا يوحى إلي من تلك الكلمات أنما إلهكم إله واحد وإنما تميزت عنكم بذلك وأن المفتوحة وإن كفت بما في تأويل المصدر القائم مقام فاعل يوحى والاقتصار على ما ذكر لأنه ملاك الأمر والقصر في الموضعين بناء على القول بإفادة إنما بالكسر وإنما بالفتح الحصر من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب والمقصور عليه في الأول أنا والمقصور البشرية مثل المخاطبين وهو على ما قيل مبني على تنزيلهم لاقتراحهم عليه عليه الصلاة و السلام ما لا يكون من بشر مثلهم منزلة من يعتقد خلافه أو على تنزيلهم منزلة من ذكر لزعمهم أن الرسالة التي يدعيها مبرهنة بالبراهين الساطعة تنافي ذلك وقيل إن المقصود بأن يقتصر عليه الإيحاء إليه على معنى أنه مقصور على إيحاء ذلك إليه لا يتجاوزه إلى عدم الإيحاء كما يزعمون والمقصور الثاني إلهكم أي معبودكم الحق والمقصور على الوحدانية المعبر عنها بإله واحد لا يتجاوز معبودكم بالحق تلك الصفة التي هي الوحدانية أي الوحدة في الألوهية إلى صفة أخرى كالتعدد فيها الذي تعتقدونه أيها المشركون
وزعم بعضهم أن القصر في الثاني من قصر الصفة على الموصوف قصر أفراد وأن المقصور الألوهية مصدر إلهكم والمقصور عليه هو الله تعالى المعبر عنه بإله واحد ولا يخفى ما فيه من التكلف والعدول عما هو الأليق
ومما يوضح ما ذكرنا أنه لو قيل إنما إلهكم واحد لم يكن إلا من قصر الموصوف على الصفة فزيادة إله للتوطئة للوصف بواحد والإشارة إلى أن المراد الوحدة في الألوهية لا تغير ذلك وأما جعله من قصر الصفة على الموصوف قصر إفراد على أن الله تعالى هو المقصور عليه والوحدانية هي المقصور فباطل قطعا لأن قصر الصفة على الموصوف كذلك إنما يخاطب به من يعتقد إشتراك الصفة بين موصوفين كما تقرر في محله وهذا الاعتقاد لا يتصور هنا من عاقل لبداهة استحالة اشتراك موصوفين كما تقرر في محله وهذا الاعتقاد لا يتصور هنا من عاقل لبداهة استحالة اشتراك موصوفين في الوحدانية أي الوحدة في الألوهية وما يوهم إرادة هذا القصر من كلام الزمخشري في نظير هذه الآية مؤول كما لا يخفى على المتصف وجوز أن يكون من قصر التعيين وليس بذاك فتأمل جميع ذلك والله تعالى يتولى هداك فمن كان يرجوا لقاء ربه الرجاء طمع حصول ما فيه مسرة في المستقبل ويستعمل بمعنى الخوف وأنشدوا
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عوامل ولقاء الرب سبحانه هنا قيل مثل للوصول إلى العاقبة من تلقي ملك الموت والبعث والحساب والجزاء مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله أو بضد ذلك لما سخطه منها فالمعنى على هذا وحمل الرجاء على المعنى الأول من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من ربه تعالى والبشرى فليعمل لتحصيل ذلك والفوز به عملا صالحا وقيل هو كناية عن البعث وما يتبعه والكلام على حذف مضاف أي من كان يؤمل حسن البعث فليعمل إلخ وقيل لا حذف والمراد من توقع البعث فليعمل صالحا أي أن ذلك العمل مطلوب ممن يتوقع البعث فكيف من يتحققه وقيل : اللقاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف
(16/53)
أيضا أي من كان يؤمل لقاء ثواب ربه فليعمل إلخ وقيل المراد منه رؤيته سبحانه أي من كان يؤمل رؤيته تعالى يوم القيامة وهو راض عنه فليعمل إلخ وجوز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف على معنى من خاف سوء لقاء ربه أو خاف لقاء جزائه تعالى فليعمل إلخ وتفسير الرجاء بالطمع أولى وكذا كون المرجو الكرامة والبشرى وعلى هذا فإدخال الماضي على المستقبل للدلالة على أن اللائق بحال العبد الاستمرار والاستدامة على رجاء الكرامة من ربه فكأنه قيل فمن استمر علم رجاء كرامته تعالى فليعمل عملا صالحا في نفسه لائقا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يشرك بعبادة ربه أحدا 011 إشراكا جليا كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهل الرياء ومن يطلب بعمله دنيا واقتصر ابن جبير على تفسير الشرك بالرياء وروي نحوه عن الحسن وصح في الحديث تسميته بالشرك الأصغر ويؤيد إرادة ذلك تقديم الأمر بالعمل الصالح على هذا النهي فإن وجهه حينئذ ظاهر إذ يكون الكلام في قوه قولك من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا في نفسه ولا يراء بعمله أحدا فيفسده وكذا ما روي من أن جندب بن زهير قال لرسول الله : إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرني فقال لي : إن الله تعالى لا يقبل ما شورك فيه فنزلت الآية تصديقا له نعم لا يأبى ذلك إرادة العموم كما لا يخفى وقد تظافرت الأخبار أن كل عمل عمل لغرض دنيوي لا يقبل فقد أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي يرويه عن ربه تعالى أنه قال : أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك
وأخرج البزار والبيهقي عن أنس قال : قال رسول الله تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز و جل يوم القيامة في صحف مختمة فيقول الله تعالى ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلا خيرا فيقول سبحانه إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن يحيى بن الوليد بن عبادة أن النبي قال : من غزا وهو لا ينوي في غزاته إلا عقالا فله ما نوى وأخرج أبو داود والنسائي والطبراني بسند جيد عن أبي أمامة قال : جاء رجل إلى النبي فقال : أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له فقال رسول الله : لا شيء له فأعادها ثلاث مرار يقول رسول الله عليه الصلاة و السلام لا شيء له ثم قال : إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغى بها وجهه إلى غير ذلك من الأخبار
واستشكل كون السرور بالعمل إشراكا فيه محبطا له مع أن الاتيان به ابتداء كان بإخلاص النية كما يدل عليه إني أعمل العمل لله تعالى
وأجيب بما أشار إليه في الإحياء من أن العمل لا يخلو إذا عمل من أن ينعقد من أوله إلى آخره على الإخلاص من غير شائبة رياء وهو الذهب المصفى أو ينعقد من أوله إلى آخره على الرياء وهو عمل محبط لا نفع فيه أو ينعقد من أول أمره على الإخلاص ثم يطرأ عليه الرياء وحينئذ لا يخلو طروه عليه من أن يكون بعد تمامه أو قبله والأول غير محبط لا سيما إذا لم يتكلف إظهاره إلا أنه إذا ظهرت رغبة وسرور تام بظهوره يخشى عليه لكن الظاهر أنه مثاب عليه والثاني وهو المراد هنا فإن كان باعثا له على العمل ومؤثرا فيه فسد ما قارنه وأحبطه ثم سرى إلى ما قبله
(16/54)
وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة وغيرهما من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس وفيه نزل قوله تعالى : فمن كان يرجوا الآية ولا شك أن العمل الذي يقارن ذلك محبط
وذكر بعضهم قد يثاب الرجل على الإعجاب إذا اطلع على عمله فقد روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال : يا رسول الله إني أعمل العمل فيطلع عليه فيعجبني فقال عليه الصلاة و السلام لك أجران أجر السر وأجر العلانية وهذا محمول على ما إذا كان ظهور عمله لأحد باعثا على عمل مثله والاقتداء به فيه ونحو ذلك ولم يكن إعجابه بعمله ولا بظهوره بما يترتب عليه من الخير ومثله دفع سوء الظن ولذا قيل ينبغي لمن يقتدى به أن يظهر أعماله الحسنة والظاهر أن النبي علم حال كل من هذا الرجل وجندب بن زهير فأجاب كلا على حسب حاله وما ألطف جوابه عليه الصلاة و السلام لجندب كما لا يخفى على الفطن
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : أنزلت الآية في المشركين الذين عبدوا مع الله تعالى إلها غيره وليست في المؤمنين وهو ظاهر في أنه حمل الشرك على الجلي وأنت تعلم أنه لا يظهر حينئذ وجه تقديم الأمر بالعمل الصالح على النهي عن الشرك المذكور إلا بتكلف فلعل العموم أولى وإن كان الشرك أكثر شيوعا في الشرك الجلي
ويدخل في العموم قراءة القرآن للموتى بالإجرة فلا ثواب فيها للميت ولا للقاريء أصلا وقد عمت البلوى بذلك والناس عنه غافلون وإذا نبهوا لا ينتبهون فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد بالغ في العموم من جعل الاستعانة في الطاعات كالوضوء شركا منهيا عنه فقد قال الراغب في المحاضرات : إن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما كان عند المأمون فلما حضر وقت الصلاة رأى الخدم يأتونه بالماء والطست فقال الرضا رضي الله تعالى عنه : لو توليت هذا بنفسك فإن الله تعالى يقول : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ولعل المراد بالنهي هذا مطلق طلب الترك ليعم الحرام والمكروه والظاهر أن الفاء للتفريع على قصر الوحدانية عليه تعالى ووجه ذلك على أن كون الإله الحق واحدا يقتضي أن يكون في غاية العظمة والكمال واقتضاء ذلك عمل الطامع في كرامته عملا صالحا وعدم الإشراك بعبادته مما لا شبهة فيه كذا قيل وقيل الأمر بالعمل الصالح متفرع على كونه تعالى إلها والنهي عن الشرك متفرع على كون الإله واحدا وجعل هذا وجها لتقديم الأمر على النهي على ما روي عن ابن عباس وهو كما ترى وقيل : التفريع على مجموع ما تقدم فليفهم ووضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبية لزيادة التقرير وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي ووجوب الإمتثال فعلا وتركا
وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ولا تشرك بالتاء الفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ويكون قوله تعالى : بربه التفاتا أيضا من الخطاب إلى الغيبة هذا وعن معاوية بن أبي سفيان أن هذه الآية فمن كان يرجو إلخ آخر آية نزلت وفيه كلام الحق خلافه والله تعالى أعلم
من باب الإشارة في الآيات : قيل ذو القرنين إشارة إلى القلب وقيل : إلى الشيخ الكامل ويأجوج ومأجوج إشارة إلى الدواعي والهواجس الوهمية والوساوس والنوازع الخيالية وقيل : إشارة إلى القوى
(16/55)
والطبائع والأرض إشارة إلى البدن وهكذا فعلوا في باقي ألفاظ القصة وراموا التطبيق بين ما في الآفاق وما في الأنفس ولعمري لقد تكلفوا غاية التكلف ولم يأتوا بشرح الخاطر ويسر الناظر ولعل الأولى أن يقال : الإشارة في القصة إلى إرشاد الملوك لاستكشاف أحوال رعاياهم وتأديب مسيئهم والاحسان إلى محسنهم وإعانة ضعفائهم ودفع الضرر عنهم وعدم الطمع بما في أيديهم وإن سمحت به أنفسهم لمصلحتهم وقد يقال : فيها إشارة إلى اعتبار الأسباب
وقال الأشاعرة : الأسباب في الحقيقة ملغاة وعلى هذا قول شيخهم يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة أندلس ومذهب السلف أنها معتبرة وإن لم يتوقف عليها فعل الله تعالى عقلا وتحقيق هذا المطلب في محله وقوله تعالى : الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا إشارة إلى المرائين على ما في أسرار القرآن ومنهم الذين يجلسون في الخانقاه لأجل نظر الخلق وصرف وجوه الناس إليهم واصطياد أهل الدنيا بشباك حيلهم وذكر من خسرانهم في الدنيا وافتضاحهم فيها وإظهار الله تعالى حقيقة حالهم للناس
ومهماتكن عندامريء مسلم من خليقةوإن خالها تخفي على الناس تعلم وأما خسرانهم في الآخرة فالطرد عن الحضرة والعذاب الأليم وقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد إشارة إلى جهة مشاركته للناس وجهة امتيازه ولولا تلك المشاركة ما حصلت الإفاضة ولولا ذلك الإمتياز ما حصلت الاستفاضة وقد أشار مولانا جلال الدين القونوي قدس سره إلى ذلك بقوله : كفت بيغمبر كه أصحابي نجوم ره روانرا شمع وشيطان رارجوم هر كسي را كر نظر بوداي زدور كو كرفتي زافتاب جرخ نور كي ستاره حاجتي بوادي ذليل كي بدى برنور خورشيدا ودليل ماه ميكويد بابر وخاك في من بشر من مثلكم يوحى إلي جون شما تاريك بودم درنهاد وحي خورشيد دم جنين نوري بداد ظلمتي دارم به نسبت باشموس نور دارم بهر ظلمات نفوس زان ضعيفم تاتو بابي أورى كه ني مردى أفتاب انورى هذا ونسأل الله تعالى بحرمة نبيه المكرم المعظم أن يوفقنا لما يرضيه ويوفقنا على أسرار كتابه الكريم ومعانيه
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة مريم
91 - المشهور تسميتها بذلك ورويت عن رسول الله فقد أخرج الطبراني وأبو نعيم والديلمي من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده قال : أتيت رسول الله عليه الصلاة و السلام فقلت : ولدت لي الليلة جارية فقال : والليلة أنزلت علي سورة مريم وجاء فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تسميتها بسورة كهيعص وهي مكية كما روي عن عائشة وابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وقال مقاتل : هي كذلك إلا آية السجدة فإنها مدنية نزلت بعد مهاجرة
(16/56)
المؤمنين إلى الحبشة وفي الإتقان استثناء قوله تعالى وإن منكم إلا واردها أيضا وهي عند العراقيين والشاميين ثمان وتسعون آية وعند المكيين تسع وتسعوت وللمدنيين قولان ووجه مناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من الأعاجيب كقصة ولادة يحيى وقصة ولادة عيسى عليه السلام ولهذا ذكرت بعدها وقيل إن أصحاب الكهف يبعثون قبل الساعة ويحجون مع عيسى عليه السلام حين ينزل ففي ذكر هذه السورة بعد تلك مع ذلك إن ثبت ما لا يخفى من المناسبة ويقوي ذلك ما قيل أنهم من قومه عليه السلام وقيل غير ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص 1 أخرج ابن مردويه عن الكلبي أنه سئل عن ذلك فحدث عن أبي صالح عن أم هانيء عن رسول الله قال كاف هاد عالم صادق واختلفت الروايات عن ابن عباس ففي رواية أنه قال : كاف من كريم وها من هاد ويا من حكيم وعين من عليم وصاد من صادق وفي رواية أنه قال : كبير هاد أمين عزيز صادق وفي أخرى أنه قال : هو قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسماء الله تعالى وفي أخرى أنه كان يقول : كهيعص وحم ويس وأشباه هذا هو اسم الله تعالى الأعظم ويستأنس له بما أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي وابن ماجة وابن جرير عن فاطمة بنت علي قالت : كان علي كرم الله تعالى وجهه : يقول يا كهيعص اغفر لي وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا كهيعص هو الهجاء المقطع الكاف من الملك والهاء من الله والياء والعين من العزيز والصاد من المصور وأخرج أيضا عن محمد بن كعب نحو ذلك إلا أنه لم يذكر الياء وقال الصاد من الصمد
وأخرج أيضا عن الربيع بن أنس أنه قال في ذلك : يا من يجير ولا يجار عليه وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة أنه اسم من أسماء القرآن وقيل : إنه اسم للسورة وعليه جماعة وقيل حروف مسرودة على نمط التعديد ونسب إلى جمع من أهل التحقيق وفوض البعض علم حقيقة ذلك إلى حضرة علام الغيوب
وقد تقدم تمام الكلام في ذلك وأمثاله في أول سورة البقرة فتذكر وقرأ الجمهور كاف بإسكان الفاء وروي عن الحسن ضمها وأمال نافع هاويا بين اللفظين وأظهر دال صاد ولم يدغمها في الذال بعد وعليه الأكثرون
وقرأ الحسن بضم الهاء وعنه أيضا ضم الياء وكسر الهاء وعن عاصم ضم الياء وعنه أيضا كسرهما وعن حمزة فتح الهاء وكسر الياء قال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن المقري الرازي في كتاب اللوامح : إن الضم في هذه الأحرف ليس على حقيقته وإلا لوجب قلب ما بعدهن من الألفات واوات بل المراد أن ينحى هذه الألفات نحو الواو على لغة أهل الحجاز وهي التي تسمى ألف التفخيم ضد الإمالة وهذه الترجمة كما ترجموا عن الفتحة الممالة المقربة من الكسر بالكسر لتقريب الألف بعدها من الياء انتهى ووجه الإمالة والتفخيم أن هذه الألفات لما لم يكن لها أصل حملوها على المنقلبة عن الواو تارة وعن الياء أخرى فجوز الأمران دفعا للتحكم
وقرأ أبو جعفر بتقطيع هذه الحروف وتخليص بعضها من بعض واقتضى ذلك إسكان ءاخرهن والتقاء الساكنين مغتفر في باب الوقف وأدغم أبو عمرو دال صاد في الذال بعد وقرأ حفص عن عاصم وفرقة بإظهار النون من عين والجمهور على إخفائها واختلف في إعرابه فقيل على القول بأن كل حرف من اسم
(16/57)
من أسمائه تعالى لا محل لشيء من ذلك ولا للمجموع من الإعراب وقيل : إن كل حرف على نية الإتمام خبر لمبتدأ محذوف أي هو كاف هو هاد وهكذا أو الأول على نية الإتمام كذلك والبواقي خبر بعد خبر وعلى ما روي عن الربيع قيل : هو منادى وهو اسم من أسمائه تعالى معناه الذي يجير ولا يجار عليه وقيل لا محل له من الإعراب أيضا وهو كلمة تقال في موضع نداء الله تعالى بذلك العنوان مثل ما يقال مهيم في مقام الاستفسار عن الحال وهو كما ترى وعلى القول بأنه حروف مسرودة على نمط التعديد قالوا : لا محل له من الإعراب وقوله تعالى ذكر رحمت ربك على هذه الأقوال خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو ذكر إلخ ويقال عن الأخير المؤلف من جنس هذه الحروف المبسوطة مرادا به السورة ذكر إلخ وقيل مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليك ذكر إلخ وعلى القول بأنه اسم للسورة قيل محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا كهيعص أي مسمى به وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر صار في حكم الحاضر المشاهد كما قيل في قولهم هذا ما اشترى فلان
وفي ذكر وجهان كونه خبرا لمبتدأ محذوف وكونه مبتدأ خبره محذوف وقيل محله الرفع على أنه مبتدأ و ذكر إلخ خبره أي المسمى به ذكر إلخ فإن ذكر ذلك لما كان مطلع السورة الكريمة ومعظم ما انطوت هي عليه جعلت كأنها نفس ذكره أو الاسناد باعتبار الإشتمال أو هو بتقدير مضاف أي ذو ذكر إلخ أو بتأويل مذكور فيه رحمة ربك وعلى القول بأنه اسم للقرآن قيل المراد بالقرآن ما يصدق على البعض ويراد به السورة والإعراب هو الإعراب وحينئذ لا تقابل بين القولين وقيل المراد ما هو الظاهر وهو مبتدأ خبره ذكر إلخ والإسناد باعتبار الإشتمال أو التقدير أو التأويل وقوله تعالى عبده مفعول لرحمة ربك على أنها مفعول لما أضيف إليه وهي مصدر مضاف لفاعله موضوع هكذا بالتاء لاأنها للوحدة حتى تمنع من العمل لأن صيغة الوحدة ليست الصيغة التي اشتق منها الفعل ولا الفعل دال على الوحدة فلا يعمل المصدر لذلك عمل الفعل إلا شذوذا كما نص عليه النحاة وقيل مفعول للذكر على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الإتساع ومعنى ذكر رحمة ربك بلوغها وإصابتها كما يقال ذكرني معروفك أي بلغني وقوله عز و جل زكريا 2 بدل منه بدل كل من كل أو عطف بيان له أو نصب بإضمار أعني وقوله تعالى شأنه إذ نادى ربه ظرف لرحمة ربك وقيل لذكر على أنه مضاف لفاعله لا على الوجه الأول لفساد المعنى وقيل : هو بدل اشتمال من زكريا كما قوله تعالى واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا
وقرأ الحسن وابن يعمر كما حكاه أبو الفتح ذكر فعلا ماضيا مشددا و رحمة بالنصب على أنه كما في البحر مفعول ثان لذكر والمفعول الأول محذوف و عبده مفعول لرحمة وفاعل ذكر ضمير القرآن المعلوم من السياق أي ذكر القرآن الناس أن رحم سبحانه عبده ويجوز أن يكون فاعل ذكر ضمير كهيعص بناء على أن المراد منه القرآن ويكون مبتدأ والجملة خبره وأن يكون الفاعل ضميره عز و جل أي ذكر الله تعالى الناس ذلك وجوز أن يكون رحمة ربك مفعولا ثانيا والمفعول الأول هو عبده والفاعل ضميره سبحانه أي ذكر الله تعالى عبده رحمته أي جعل العبد يذكر رحمته وإعراب زكريا كما مر وجوز أن
(16/58)
يكون مفعولا لرحمة والمراد بعبده الجنس كأنه قيل ذكر عباده رحمته زكريا وهو كما ترى ويجوز على هذا أن يكون الفاعل ضمير القرآن وقيل يجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى والرحمة مفعولا أولا و عبده مفعولا ثانيا ويرتكب المجاز أي جعل الله تعالى الرحمة ذاكرة عبده وقيل رحمة نصب بنزع الخافض أي ذكر برحمة وذكر الداني عن أبي يعمر أنه قرأ ذكر على الأمر والتشديد و رحمة بالنصب أي ذكر الناس رحمة أو برحمة ربك عبده زكريا
وقرأ الكلبي ذكر فعلا ماضيا خفيفا و رحمة ربك بالنصب على المفعولية لذكر و عبده بالرفع على الفاعلية له وزكريا عليه السلام من ولد سليمان بن داود عليهما السلام وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه آخر أنبياء بني إسرائيل وهو ابن آزر بن مسلم من ذرية يعقوب وأخرج ابن إسحق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه ابن دان وكان من أبناء الأنبياء الذين يكتبون الوحي في بيت المقدس وأخرج أحمد وأبو يعلي والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا أنه عليه السلام كان نجارا
وجاء في اسمه خمس لغات تولها المد وثانيها القصر وقريء بهما في السبع وثالثها زكري بتشديد الياء ورابعها زكري بتخفيفها وخامسها زكر كقلم وهو اسم أعجمي والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره وقد يقال لمجرد الصوت بل لكل ما يدل على شيء وإن لم يكن صوتا على ما حققه الراغب والمراد هما إذ دعا ربه نداء أي دعاء خفيا 3 مستورا عن الناس لم يسمعه أحد منهم حيث لم يكونوا حاضريه وكان ذلك على ما قيل في جوف الليل وإنما أخفى دعاءه عليه السلام لأنه أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص عن لائمة الناس على طلب الولد لتوقفه على مبادي لا يليق به تعاطيها في أوان الكبر والشيخوخة وعن غائلة مواليه وعلى ما ذكرنا لا منافاة بين النداء وكونه خفيا لا منافاة بينهما أيضا إذا فسر النداء برفع الصوت لأن الخفاء غير الخفوت ومن رفع صوته في مكان ليس بمرأى ولا مسمع من الناس فقد أخفاه وقيل : هو مجاز عن عدم الرياء أي الإخلاص ولم ينافه النداء بمعنى رفع الصوت لهذا
وفي الكشف أن الأشبه أنه كناية مع إرادة الحقيقة لأن الخفاء في نفسه مطلوب أيضا لكن المقصود بالذات الإخلاص وقيل مستورا عن الناس بالمخافتة ولا منافاة بناء على ارتكاب المجاز أو بناء على أن النداء لا يلزمه رفع الصوت ولذا قيل :
يا من ينادي بالضمير فيسمع
وكتم نداؤه عليه السلام كذلك لما مر آنفا أو لضعف صوته بسبب كبره كما قيل الشيخ صوته خفات وسمعه تارات وقيل : كان سنه حينئذ ستين سنة وقيل خمسا وستين وقيل سبعين وقيل خمسا وسبعين وقيل ثمانين وقيل خمسا وثمانين وقيل اثنتين وتسعين وقيل تسعا وتسعين وقيل مائة وعشرين وهو أوفق بالتعليل المذكور
وزعم بعضهم أنه أشير إلى كون النداء خفيا ليس فيه رفع بحذف حرفه في قوله تعالى قال رب والجملة تفسير للنداء وبيان لكيفيته فلا محل لها من الإعراب إني وهن العظم مني أي ضعف وإسناد ذلك إلى العظم لما أنه عماد البدن ودعام الجسد فإذا أصابه الضعف والرخاوة تداعى ما وراءه وتساقطت قوته ففي الكلام كناية مبنية على تشبيه مضمر في النفس أو لأنه أشد أجزائه صلابة وقواما وأقلها تأثرا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ففي الكلام كناية بلا تشبيه وأفرد على ما قاله العلامة الزمخشري وارتضاه
(16/59)
كثير من المحققين لأن المفرد هو الدال على معنى الجنسية والقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان القصد إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها حتى كأنه وقع من سامع شك في المشمول والإحاطة لأن القيد في الكلام ناظر إلى نفي ما يقابله وهذا غير مناسب للمقام وقال السكاكي : إنه ترك جمع العظم إلى الإفراد لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا ولو جمع لم يتعين ذلك لصحة وهنت العظام عند حصول الوهم لبعض منها دون كل فرد وهو مسلك آخر مرجوح عند الكثير وتحقيق ذلك في موضعه وعن قتادة أنه عليه السلام اشتكى سقوط الأضراس ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى خبر يدل عليه فإن انفهامه من الآية مما لا يكاد يسلم و مني متعلق بمحذوف وهو حال من العظم ولم يقل عظمي مع أنه أخضر لما في ذلك من التفصيل بعد الإجمال ولأنه أصرح في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها
وقرأ الأعمش وهن بكسر الهاء وقريء بضمها أيضا واشتعل الرأس شيبا شبه الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر ونشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتغالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة ففي الكلام استعارتان تصريحية تبعية في اشتغل ومكنية في الشيب وانفكاكها عن التخييلية مما عليه المحققون من أهل المعاني على أنه يمكن على بعد القول بوجود التخييلية هنا أيضا وتكلف بعضهم لزعمه عدم جواز الإنفكاك وعدم ظهور وجود التخييلية إخراج ما في الآية مخرج الإستعارة التمثيلية وليس وأسند الإشتغال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول فإن إسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيا أو مكانيا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف التخاطب فقولك : اشتغل بيته نارا يفيد احتراق جميع ما فيه دون اشتعل نار بيته
وزعم بعضهم أن شيبا نصب على المصدرية لأن المعنى اشتعل الرأس شاب وقيل هو حال أي شائبا وكلا القولين لا يرتضيهما كامل كما لا يخفى واكتفي باللام عن الإضافة لأن تعريف العهد المقصود يفيد ما تفيده ولما كان تعريف العظم السابق للجنس كما علمت لم يكتف به وزاد قوله مني وبالجملة ما أفصح هذه الجملة وأبلغها ومنها أخذ ابن دريد قوله : واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل النساء وعن أبي عمرو أنه أدغم السين في الشين ولم أكن بدعائك رب شقيا 4 أي لم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي والجملة معطوفة على ما قبلها وقيل حال من ياء المتكلم إذ المعنى واشتعل رأسي وهو غريب وهذا توسل منه عليه السلام بما سلف منه تعالى من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعد ما عود عبده الإجابة دهرا طويلا لا يكاد يخيبه أبدا لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره وفي هذا التوسل من الإشارة إلى عظم كرم الله عز و جل ما فيه
وقد حكى حاتما الطائي وقيل معن بن زائدة أتاه محتاج فسأله وقال : أنا الذي أحسنت إليه وقت كذا فقال : مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته وقيل المعنى ولم أكن بدعائك إياي إلى الطاعة شقيا بل
(16/60)
كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصا فالكاف على هذا فاعل والأول أظهر وأولى وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إضافة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لا سيما توسيطه بين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع
وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا قال في دعائه : يا رب قال الله تعالى له : لبيك عبدي وروي أن موسى عليه السلام قال يوما في دعائه : يا رب فقال الله سبحانه وتعالى له : لبيك يا موسى فقال موسى : أهذا لي خاصة فقال الله تبارك وتعالى : لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية وقيل : إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته عز و جل وإني خفت الموالي هم عصبة الرجل على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وعن الأصم أنهم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب وقيل : من يلي أمره من ذوي قرابته مطلقا وكانوا على سائر الأقوال شرار بني إسرائيل فخاف عليه السلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته والجملة عطف على قوله إني وهن العظم مني مترتب مضمونها على مضمونه فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادي خوفه عليه السلام من يلي أمره بعد موته حسبما يدل عليه قوله من ورائي فإن المراد منه بإجماع من علمنا من المفسرين من بعد موتي والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أي خفت فعل الموالي من ورائي أو جور المولى وقد قريء كما في إرشاد العقل السليم كذلك وجوز تعلقه بالموالي ويكفي في ذلك وجود معنى الفعل فيه في الجملة فقد قالوا : يكفي في تعلق الظرف رائحة الفعل ولا يشترط فيه أن يكون دالا على الحدوث كإسم الفاعل والمفعول حتى يتكلف له ويقال : إن اللام في الموالي على هذا موصول والظرف متعلق بصلته وإن مولى مخفف مولى كما قيل في معنى أنه مخفف معنى فإنه تعسف لا حاجه إليه نعم قالوا في حاصل المعنى على هذا : خفت الذين يلون الأمر من ورائي ولم يجوز الزمخشري تعلقه بخفت لفساد المعنى وبين ذلك في الكشف بأن الجار ليس صلة الفعل لتعديه إلى المحذور بلا واسطة فتعين أن يكون للظرفية على نحو خفت الأسد قبلك أو من قبلك وحينئذ يلزم أن يكون الخوف ثابتا بعد موته وفساد ظاهره وبعضهم رأى جواز التعلق بناء على أن كون المفعول في ظرف مصحح لتعلق ذلك الظرف بفعله كقولك : رميت الصيد في الحرم إذا كان الصيد فيه دون رميك والظاهر عدم الجواز فافهم وقال ابن جني : هو حال مقدرة من الموالي وعن ابن كثير أنه قرأ ومن وراي بالقصر وفتح الياي كعصاي
وقرأ الزهري الموالي بسكون الياء وقرأ عثمان بن عفان وابن عباس وزيد بن ثابت وعلي بن الحسين وولداه محمد وزيد وسعيد بن العاص وابن جبير وأبو يعمر وشبيل بن عزرة والوليد بن مسلم لابن عامر خفت بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث الموالي بسكون الياء على أن خفت من الخفة ضد الثقل ومعنى من ورائي كما تقدم : والمراد وإني قل الموالي وعجزوا عن القيام بأمور الدين من بعدي أو من الخفوف بمعنى السير السريع ومعنى من ورائي من قدامي وقبلي والمراد وإني مات الموالي القادرون على إقامة مراسيم الملة ومصالح الأمة وذهبوا قدامي ولم يبق منهم من به تقو واعتضاد فيكون محتاجا إلى العقب لعجز مواليه عن القيام بعده بما هو قائم به أو لأنهم ماتوا قبله فبقي محتاجا إلى من
(16/61)
يتعضد به وتعلق الجار والمجرور على الوجه الثاني بالفعل ظاهر وأما على الوجه الأول فإن لوحظ أن عجزهم وقلتهم سيقع بعده لا أنه واقع وقت دعائه صح تعلقه بالفعل أيضا وإن لم يكن كذلك تعلق بغير ذلك
وكانت امرأتي عاقرا أي لا تلد من حين شبابها إلى شيبها فالعقر بالفتح والضم العقم ويقال عاقر للذكر والأنثى فهب لي من لدنك كلا الجارين متعلق بهب واللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا وتقديم الأول لكون مدلوله أهم عنده وجوز تعلق الثاني بمحذوف وقع حالا من المفعول الآتي وتقدم الكلام في لدن والمراد أعطني من محض فضلك الواسع وقدرتك الباهرة بطريق الاختراع لا بواسطة الأسباب العادية وقيل المراد أعطني من فضلك كيف شئت وليا 55 أي ولدا من صلبي وهو الظاهر ويؤيده قوله تعالى في سورة ءال عمران حكاية عنه عليه السلام قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة وقيل إنه عليه السلام طلب من يقوم مقامه ويرثه ولدا كان أو غيره وقيل : إنه عليه السلام أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس وكلا القولين لا يعول عليه وزعم الزمخشري أن من لدنك تأكيد لكونه وليا مرضيا ولا يخفي ما فيه وتأخير المفعول على الجارين لإظهار كمال الاعتناء بكون الهبة له على ذلك الوجه البديع مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما بعده من الوصف فتأخيرهما عن الكل وتوسيطهما بين الموصوف والصفة مما لا يليق بجزالة النظم الكريم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما ذكره عليه السلام من كبر السن وضعف القوى وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عليه السلام عن حصول الولد بتوسط الأسباب العادية واستيهابه على الوجه الخارق للعادة
وقيل لأن ذلك موجب لانقطاع رجائه عن حصول الولد منها وهي في تلك الحال واستيهابه على الوجه الذي يشاؤه الله تعالى وهو مبني على القول الثاني في المراد من هب لي من لدنك وليا والأول أولى
ولا يقدح فيما ذكر أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعاء من مشاهدته عليه السلام للخوارق الظاهرة في حق مريم كما يعرب عنه قوله تعالى هنالك دعا زكريا ربه الآية وعدم ذكره ههنا للتعويل على ما ذكر هنالك كما أن عدم ذكر مقدمة الدعاء هنالك للإكتفاء بذكرها ههنا والاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من السنن التنزيلية وقوله يرثني ويرث من ءال يعقوب صفة لوليا كما هو المتبادر من الجمل الواقعة بعد النكرات ويقال : ورثه وورث منه لغتان كما قيل وقيل من للتبعيض لا للتعدية وءال الرجل خاصته الذين يؤل إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين ويعقوب على ما روي عن السدي هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم فإن زكريا من ولد هرون وهو من ولد لاوى بن يعقوب وكان متزوجا بأخت مريم بنت عمران وهي من ولد سليمان بن داود عليهما السلام وهو من ولد يهوذ بن يعقوب أيضا وقال الكلبي ومقاتل : هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان أبو مريم وقيل : هو أخو زكريا عليه السلام والمراد من الوراثة في الموضعين العلم على ما قيل
وقال الكلبي : كان بنو ماثان رؤس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا عليه السلام رئيس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده الحبورة ويرث من بني ماثان ملكهم فتكون الوراثة مختلفة في الموضعين وأيد ذلك بعدم اختيار العطف على الضمير المنصوب والاكتفاء بيرث الأول وقيل الوراثة الأولى وراثة النبوة والثانية وراثة الملك فتكون
(16/62)
مختلفة أيضا إلا أن قوله واجعله رب رضيا 6 أي مرضيا عندك قولا وفعلا وقيل راضيا والأول أنسب يكون على هذا تأكيدا لأن النبي شأنه أن يكون كذلك وعلى ما قلنا يكون دعاء بتوفيقه للعمل كما أن الأول متضمن للدعاء بتوفيقه للعلم فكأنه طلب أن يكون ولده عالما عاملا وقيل : المراد اجعله مرضيا بين عبادك أي متبعا فلا يكون هناك تأكيد مطلقا وتوسيط رب بين مفعولي الجعل على سائر الأوجه للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه
واختار السكاكي أن الجملتين مستأنفتان استئنافا بيانيا لأنه يرد أنه يلزم على الوصفية أن لا يكون قد وهب لزكريا عليه عليه السلام من وصف لهلاك يحيى عليه السلام قبل هلاكه لقتل يحيى عليه السلام قبل قتله وتعقب ذلك في الكشف بأنه مدفوع بأن الروايات متعارضة والأكثر على هلاك زكريا قبله عليهما السلام ثم قال : وأما الجواب بأنه لا غضاضة في أن يستجاب للنبي بعض ما سأل دون بعض ألا ترى إلى دعوة نبينا في حق أمته حيث قال عليه الصلاة و السلام : وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها وإلى دعوة إبراهيم عليه السلام في حق أبيه فإنما يتم لو كان المحذور ذلك وإنما المحذور لزوم الخلف في خبره تعالى فقد قال سبحانه وتعالى في الأنبياء : فاستجبنا له وهو يدل على أنه عليه السلام أعطى ما سأل من غير تفرقة بين بعض وبعض وكذلك سياق الآيات الأخر ولك أن تستدل بظاهر هذه الآية على ضعف رواية من زعم أن يحيى هلك قبل أبيه عليهما السلام وأما الإيراد بأن ما اختير من الحمل على الاستئناف لا يدفع المحذور لأنه وصل معنوي فليس بشيء لأن الوصل ثابت ولكنه غير داخل في المسئول لأنه بيان العلة الباعثة على السؤال ولا يلزم أن يكون علة السؤال مسؤلة انتهى
وأجاب بعضهم بأنه حيث كان المراد من الوراثة هنا وراثة العلم لا يضر هلاكه قبل أبيه عليهما السلام لحصول الغرض وهو أخذ ذلك وإضافته على الغير بحيث تبقى آثاره بعد زكريا عليه السلام زمانا طويلا ولا يخفى أن المعروف بقاء ذات الوارث بعد الموروث عنه
وقرأ أبو عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصفهاني وابن محيصن وقتادة بجزم الفعلين على أنهما جواب الدعاء والمعنى أن تهب لي ذلك يرثني إلخ والمراد أنه كذلك في ظني ورجائي وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهم والحسن وابن يعمر والجحدري وأبو حرب بن أبي الأسود وأبو نهيك يرثنى بالرفع وأرث فعلا مضارعا من ورث وخرج ذلك على أن المعنى يرثني العلم وأرث أنا به الملك من آل يعقوب وذلك بجعل وراثة الولي للملك وراثة لزكريا عليه السلام لأن رفعة الولد رفعة للوالد والواو لمطلق الجمع وقال بعضهم : والواو للحال والجملة حال من أحد الضميرين وقال صاحب اللوامح : فيه تقديم ومعناه فهب لي وليا من آل يعقوب يرثني النبوة إن مت قبله وأرثه ماله إن مات قبلي وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه وجماعة أنهم قرأوا يرثني وأرث برفع وأرث بزنة فاعل على أنه فاعل يرثني على طريقة التجريد كما قال أبو الفتح وغيره أي يرثني ولي من ذلك الولي أو به فقد جرد من الولي وليا كما تقول رأيت منه أو به أسدا وعن الجحدري أنه قرأ وأرث بإمالة الواو وقرأ مجاهد أو يرث تصغير وارث وأصله وويرث
(16/63)
بواوين الأولى فاء الكلمة الأصلية والثانية بدل ألف فاعل لأنها تقلب واوا في التصغير كضويرب ولما وقعت الواو مضمومة قبل أخرى في أوله قلبت همزة كما تقرر في التصريف ونقل عنه أيضا أنه قال التصغير لصغره فإنه عليه السلام لما طلبه في كبره علم ولو حدسا أنه يرثه في صغر سنه وقيل : للمدح وليس بذاك
هذا واستدل الشيعة بالآية على أن الأنبياء عليهم السلام تورث عنهم أموالهم لأن الوراثة حقيقية في وراثة المال ولا داعي إلى الصرف عن الحقيقة وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي صالح أنهم قالوا في الآية : يرثني مالي وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية : يرحم الله تعالى أخي زكريا ما كان عليه من ورثة وفي رواية ما كان عليه ممن يرث ماله وقال بعضهم : إن الوراثة ظاهرة في ذلك ولا يجوز ههنا حملها على وراثة النبوة لئلا يغلو قوله : واجعله رب رضيا ولا على وراثة العلم لأنه كسبي والموروث حاصل بلا كسب ومذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون مالا ولا يورثون لما صح عندهم من الأخبار
وقد جاء ذلك أيضا من طريق الشيعة فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة والوراثة في الآية محمولة على ما سمعت ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم والمنصب والمال وإنما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية ولو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصا في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة ومن ذلك قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وقوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب وقوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وقوله تعالى : إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ولله ميراث السموات والأرض قولهم لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة قلنا : الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب ودون تأويله خرط القتاد والآثار الدالة على أنهم يورثون المال لا يعول عليها عند النقاد وزعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يغلو قوله : واجعله رب رضيا قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه وزعم أن كسبية الشيء تمنع من كونه موروثا ليس بشيء فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق ومن ذلك أيضا ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : إن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان عليه السلام فإن وراثة النبي سليمان عليه السلام لا يتصور أن تكون وراثة غير العلم والنبوة ونحوهما ومما يؤيد حمل الوراثة هنا على وراثة العلم ونحوه دون المال أنه ليس في الأنظار العالية والهمم العلياء للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المتغير الفاني واتصلت بالعالم الباقي ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما جناب زكريا عليه السلام فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع والتجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف والحزن والخوف ويستدعي من حضرة الحق سبحانه وتعالى ذلك النحو من الاستدعاء وهو يدل على كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وقالت الشيعة : إنه عليه السلام خاف أن يصرف بنوعمه ماله بعد موته فيما لا ينبغي
(16/64)
فطلب له الوارث المرضي لذلك وفيه أن ذلك مما لا يخاف منه إذ الرجل إذا مات وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال ذلك الآخر فصرفه على ذمته صوابا أو خطأ ولا مؤاخذة على الميت من ذلك الصرف بل لا عتاب أيضا مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له عليه السلام بأن يصرفه قبل موته ويتصدق به كله في سبيل الله تعالى ويترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم وقبح أفعالهم وللأنبياء عليهم السلام عند الشيعة خبر بزمن موتهم وتخيير فيه فما كان له خوف موت الفجأة أيضا فليس قصده عليه السلام من مسئلة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى وترويج الشريعة وبقاء النبوة في أولاده فإن ذلك موجب لتضاعف الأجر إلى حيث شاء الله تعالى من الدهر ومن أنصف لم يتوقف في قبول ذلك والله تعالى الهادي لأقوم المسالك
يا زكريا على إرادة القول أي قيل له أو قال الله تعالى يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لكن لا بأن يخاطبه سبحانه وتعالى بذلك بالذات بل بواسطة الملك كما يدل عليه آية أخرى على أن يحكى عليه السلام العبارة عنه عز و جل على نهج قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية وهذا جواب لندائه عليه السلام ووعد بإجابة دعائه كما يفهمه التعبير بالبشارة دون الإعطاء أو نحوه وما في الوعد من التراخي لا ينافي التعقيب في قوله تعالى : فاستجبنا له الآية لأنه تعقيب عرفي كما في تزوج فولد له ولأن المراد بالاستجابة الوعد أيضا لأن وعد الكريم نقد والمشهور أن هذا القول كان إثر الدعاء ولم يكن بين البشارة والولادة إلا أشهر وقيل : إنه رزق الولد بعد أربعين سنة من دعائه وقيل : بعد ستين والغلام الولد الذكر وقد يقال للأنثى : غلامة كما قال :
تهان لها الغلامة والغلام
وفي تعيين اسمه عليه السلام تأكيد للوعد وتشريف له عليه السلام وفي تخصيصه به حسبما يعرب عنه قوله تعالى : لم نجعل له من قبل سميا 7 أي شريكا له في الاسم حيث لم يسم أحد قبله بيحيى على ما روي عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام وهذا كما قال الزمخشري شاهد على أن الأسماء النادرة التي لا يكاد الناس يستعملونها جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحى في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز حتى قال القائل في مدح قوم : شنع الأسامي مسبلي أزر حمر تمس الأرض بالهدب وقيل للصلت بن عطاء : كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك فقال : كنت غريب الدار غريب الاسم خفيف الجرم شحيحا بالأشلاء فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد أن سميا بمعنى شبيها وروي عن عطاء وابن جبير مثله أي لم نجعل له شبيها حيث أنه لم يعص ولم يهم بمعصية فقد أخرج أحمد والحكيم والترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي قال : ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام لم يهم بخطيئة ولم يعملها : والأخبار في ذلك متظافرة وقيل : لم يكن له شبيه لذلك ولأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر
وقيل لأنه كان كما وصف الله تعالى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين فيكون هذا إجمالا لذلك وإنما قيل للشبيه سمى لأن المتشابهين يتشاركان في الاسم ومن هذا الإطلاق قوله تعالى : هل تعلم له
(16/65)
سميا لأنه الذي يقتضيه التفريع والأظهر أنه اسم أعجمي لأنه لم تكن عادتهم التسمية بالألفاظ العربية فيكون منعه الصرف على القول المشهور في مثله للعلمية والعجمة وقيل إنه عربي ولتلك العادة مدخل في غرابته وعلى هذا فهو منقول من الفعل كيعمر ويعيش وقد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع بن أخت الجاحظ ووجه تسميته بذلك على القول بعربيته قيل الإشارة بأنه يعمر وهذا في معنى التفاؤل بطول حياته وكان في ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام يرث حسبما سأل زكريا عليه السلام وقيل : سمي بذلك لأنه حي به رحم أمه وقيل لأنه حي بين شيخ فان وعجوز عاقر وقيل لأنه يحيا بالحكمة والعفة وقيل لأنه يحيا بإرشاد الخلق وهدايتهم وقيل لأنه يستشهد والشهداء أحياء وقيل غير ذلك ثم لا يخفى أنه على العربية والعجمة يختلف الوزن والتصغير كما بين في محله
قال استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال عليه السلام حينئذ فقيل قال رب ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه بواسطة الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجد في التبتل إليه عز و جل وقيل لذلك والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه تعالى بما يصدر عنه متوقف على توسطه كما أن علم البشر بما يصدر عنه تعالى متوقف على ذلك في عامة الأوقات ولا يخفى أن الاقتصار على الأول أولى أنى يكون لي غلام كلمة أنى بمعنى كيف أو من أين وكان أما تامة وأنى واللام متعلقان بها وتقديم الجار على الفاعل لما مر غير مرة أي كيف أو من أين يحدث لي غلام ويجوز أن يتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من غلام أي أنى يحدث كائنا لي غلام أو ناقصة واسمها ظاهر وخبرها إما أنى و لي متعلق بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى نصب على الظرفية وقوله تعالى وكانت امرأتي عاقرا حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى وقد بلغت من الكبر عتيا 8 حال منه مؤكدة للإستبعاد إثر تأكيد ومن للابتداء العلي والعتي من عتى يعتو اليبس والقحول في المفاصل والعظام
وقال الراغب : هو حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها وقيل إلى رياضتها وهي الحالة المشار إليها بقول الشاعر
ومن العناء رياضة الهرم
وأصله عتوو كقعود فاستثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم انقلبت الثانية أيضا لاجتماع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون وكسرت العين اتباعا لما بعدها أي كانت امرأتي عاقرا لم تلد في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوز وقد بلغت أنا من أجل كبر السن يبسا وقحولا أو حالة لا سبيل إلى إصلاحها وقد تقدم لك الأقوال في مقدار عمره عليه السلام إذ ذاك وأما عمر امرأته فقد قيل إنه كان ثماني وتسعين
وجوز أن تكون من للتبعيض أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا وجعلها بعضهم بيانية تجريدية وفيه بحث والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا من عتيا وهو نصب على المفعولية وأصل المعنى متحد مع قوله تعالى في آل عمران حكاية عنه بلغني الكبر والتفاوت في المسند إليه لا يضر فإن ما بلغك من المعاني فقد بلغته نعم بين الكلامين اختلاف من حيثية أخرى لا تخفى فيحتاج اختيار كل منهما في مقام إلى نكتة فتدبر ذاك وكذا وجه البداءة ههنا بذكر حال امرأته عليه السلام على عكس ما في تلك السورة
(16/66)
وفي إرشاد العقل السليم لعل ذلك لما أنه قد ذكر حاله في تضاعيف دعائه وإنما المذكور ههنا بلوغه أقصى مراتب الكبر تتمة لما ذكر قبل وأما هنا لك فلم يسبق في الدعاء ذكر حاله فلذلك قدمه على ذكر حال امرأته لما أن المسارعة إلى بيان قصور شأنه أنسب ا ه
وقال بعضهم : يحتمل تكرر الدعاء والمحاورة واختلاف الأسلوب للتفنن مع تضمن كل ما لم يتضمنه الآخر فتأمل والله تعالى الموفق والظاهر أنه عليه السلام كان يعرف من نفسه أنه لم يكن عاقرا ولذلك ذكر الكبر ولم يذكر العقر وإنما قال عليه السلام ما ذكر مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران استعظاما لقدرة الله تعالى واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك في ذلك بإظهار أنه محض فضل الله تعالى ولطفه مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة ولم يكن ذلك استبعادا كذا قيل
وقيل : هو استبعاد لكنه ليس راجعا إلى المتكلم بل هو بالنسبة إلى المبطلين وإنما طلب عليه السلام ما يزيل شوكة استبعادهم ويجلب ارتداعهم من سيء عادتهم وذلك مما لا بأس به من النبي خلافا لابن المنير نعم أورد على ذلك أن الدعاء كان خفيا عن المبطلين
وأجيب بأنه يحتمل أنه جهر به بعد ذلك إظهارا لنعمة الله تعالى عليه وطلبا لما ذكر فتذكر وقيل : هو استبعاد راجع إلى المتكلم حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة وكان قد نسي عليه السلام دعاءه وهو بعيد جدا
وقال في الانتصاف : الظاهر والله تعالى أعلم أن زكريا عليه السلام طلب ولدا على الجملة وليس في الآية ما يدل أنه يوجد منه وهو هرم ولا إنه من زوجته وهي عاقر ولا أنه يعاد عليهما قوتهما وشبابهما كما فعل بغيرهما أو يكون الولد من غير زوجته العاقر فاستبعد الولد منهما وهما بحالهما فاستخبر أيكون وهما كذلك فقيل له كذلك أي يكون الولد وأنتما كذلك وتعقب بأن قوله فهب لي من لدنك ظاهر في أنه طلب الولد وهما على حالة يستحيل عادة منهما الولد
والظاهر عندي كونه استبعادا من حيث العادة أو هو بالنسبة إلى المبطلين وهو كما في الكشف أولى وقرأ أكثر السبعة عتيا بضم العين وقرأ ابن مسعود بفتحها وكذا بفتح صاد صليا وأصل ذلك كما قال ابن جني ردا على قول ابن مجاهد لا أعرف لهما في العربية أصلا ما جاء في المصادر على فعيل نحو الحويل والزويل وعن ابن مسعود أيضا ومجاهد أنهما قرآ عسيا بضم العين وبالسين مكسورة وحكى ذلك الداني عن ابن عباس والزمخشري عن أبي ومجاهد وهو من عسا العود يعسو إذا يبس
م قال كذلك قال ربك هو علي هين قرأ الحسن وهو علي هين بالواو وعنه أنه كسر ياء المتكلم كما في قول النابغة : علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب ونحو ذلك قراءة حمزة وما أنتم بمصرخي بكسر الياء والكاف إما رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وضمير قال للرب عز و جل لا الملك المبشر لئلا يفك النظم وذلك إشارة إلى قول زكريا عليه السلام والخطاب في قال ربك له عليه السلام لا لنبينا بدليل السابق واللاحق وجملة هو علي هين مفعول قال الثاني وجملة الأمر كذلك مع جملة قال ربك إلخ مفعول قال الأول وإن لم يتخلل بين الجملتين عاطف كما في قوله تعالى وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وقوله سبحانه وتعالى قالوا أئذا
(16/67)
متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد وعدنا الآية وكم وكم وجيء بالجملة الأولى تصديقا منه تعالى لزكريا عليه السلام وبالثانية جوابا لما عسى يتوهم من أنه إذا كان ذلك في الاستبعاد بتلك المنزلة وقد صدقت فيه فأنى يتسنى فهي في نفسها استئنافية لذلك ولا يحسن تخلل العاطف في مثل هاتين الجملتين إذا كان المحكي عنه قد تكلم بهما معا من غير عاطف ليدل على الصورة الأولى للقول بعينها وكذلك لا يحسن إضمار قول آخر لأنه يكون استئنافا جوابا للمحكى له فلا يدل على أنه استئناف أيضا في الأول إلا بمنفصل أما لو تكلم بهما في زمانين أو بدون ذلك الترتيب فالظاهر العطف أو الاستئناف بإضمار القول
ثم لو كان الإقتصار في جواب زكريا عليه السلام على هو علي هين من دون إقحام قال ربك لكان مستقيما لكن إنما عدل إليه للدلالة على تحقيق الوعد وإزالة الاستبعاد بالكلية على منوال ما إذا وعد ملك بعض خواصه ما لا يجد نفسه تستأهل ذلك فأخذ يتعجب مستبعدا أن يكون من الملك بتلك المنزلة فحاول أن يحقق مراده ويزيل استبعاده فإما أن يقول لا تستبعد أنه أهون شيء علي على الكلام الظاهر وإما أن يقول لا تستبعد قد قلت إنه أهون شيء على إشارةمنه إلى أنه وعد سبق القول به وتحتم وإنه من جلالة القدر بحيث لا يرى في إنجازه لباغيه كائنا من كان وقعا فكيف لمن استحق منه لصدق قدمه في عبوديته إجلالا ورفعا وهذا قول بلسان الإشارة يصدق وإن لم يكن قد سيق منه نطق به لأن المقصود أن علو المكانة وسعة القدرة وكمال الجود يقضي بذلك قيل : أولا أولا ثم إذا أراد ترشيح هذا المعنى عدل عن الحكاية قائلا : قد قال من أنت غرس نعمائه أنه أهون شيء علي ثم إذا حكى الملك القصة مع بعض خلصائه كان له أن يقول : قلت لعبدي فلان كيت وكيت قال : إني وليت قلت قال من أنت إلخ وأن يقول بدله قال سيد فلان له ويسرد الحديث فهذا وزان الآية فيما جرى لزكريا عليه السلام وحكى لنبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام وقد لاح من هذا التقرير أن فوات نكتة الإقحام مانع من أن يجعل المرفوع من صلة قال الثاني والمجموع صلة الأول والظاهر في توجيه قراءة الحسن على هذا أن جملة هو علي هين عطف على محذوف من نحو أفعل وأنا فاعل ويجوز أن يقال وربما أشعر كلام الزمخشري بإيثاره أنه عطف على الجملة السابقة نظرا إلى الأصل لما مر من أن قال مقحم لنكتة فكأنه قيل الأمر كذلك وهو على ذلك يهون علي وأما نصب بقال الثاني وهي الكاف التي تستعمل مقحمة في الأمر العجيب الغريب لتثبيته وذلك إشارة إلى مبهم يفسر ما بعده أعني هو علي هين وضمير قال للرب كما تقدم والخطاب لنبينا أيضا أي قال رب زكريا له قال ربك مثل ذلك القول العجيب الغريب هو علي هين على أن قال الثاني مع ما في صلته مقول القول الأول وإقحام القول الثاني لما سلف ولا ينصب الكاف بقال الأول وإلا كان قال ثانيا تأكيدا لفظيا لئلا يقع الفصل بين المفسر والمفسر بأجنبي وهو ممتنع إذ لا ينتظم أن يقال : قال رب زكريا قال ربك ويكون الخطاب لزكريا عليه السلام والمخاطب غيره كيف وهذا النوع من الكلام يقع في التشبيه مقدما لا سيما في التنزيل الجليل من نحو وكذلك جعلناكم أمة كذلك الله يفعل ما يشاء إلى غير ذلك وهذا الوجه لا يتمشى في قراءة الحسن لأن المفسر لا يدخله الواو ولا يجوز حذفه حتى يجعل عطفا عليه لأن الحذف والتفسير متنافيان وجوز على احتمال النصب أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من وعد الله تعالى إياه عليه السلام بقوله إنا نبشرك إلخ أي قال ربه سبحانه له قال ربك مثل ذلك أي مثل ذلك القول العجيب الذي وعدته وعرفته وهو إنا نبشرك إلخ وأداة التشبيه
(16/68)
مقحمة كما مر فيكون المعنى وعد ذلك وحققه وفرغ منه فكن فارغ البال من تحصيله على أوثق بال ثم قال : هو علي هين أي قال ربك هو علي هين فيضمر القول ليتطابقا في البلاغة لأن قوله مثل ذلك مفرد فلا يحسن أن تقرن الجملة به وينسحب عليه ذلك القول بعينه بل إنما يضمر مثله استئنافا إيفاءا بحق التناسب وإن شئت لم تنوه ليكون محكيا منتظما في سلك قال ربك منسحبا عليه القول الأول أي قال رب زكريا له هو علي هين لأن الله تعالى هو المخاطب لزكريا عليه السلام فلا منع من جعله مقول القول الأول من غير إضمار لأن القولين أعني قال ربك مثل ذلك هو علي هين صادران معا محكيان على حالهما ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى أعني الملك تعين إضمار القول لامتناع أن يكون هو علي هين من مقوله فلا ينسحب عليه الأول وأما على قراءة الحسن فإن جعل عطفا على قال ربك لم يحتج إلى إضمار لصحة الانسحاب وإن أريد تأكيده أيضا قدر القول لئلا تفوت البلاغة ويكون التناسب حاصلا وجعله عطفا ما بعد قال الثاني من دون التقدير يفوت به رعاية التناسب لفظا فإن ما بعده مفرد والملاءمة معنى لما عرفت أن لا قول على الحقيقة والمعنى قال ربه قد حقق الموعود وفرغ عنه فلا بد من تقديره على هو علي هين ليفيد تحقيقه أيضا ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى تعين الإضمار لعدم الإنسحاب دونه فافهم وهذا ما حققه صاحب الكشف وقرر به عبارة الكشاف بأدنى اختصار ثم ذكر أن خلاصة ما وجده من قول الأفاضل أن التقدير على احتمال أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الوعد قال رب زكريا له قال ربك قولا مثل قوله سبحانه وتعالى السابق عدة في الغرابة والعجب فاتجه له عليه السلام أن يسأل ماذا قلت يا رب وهو مثله فيقول : هو علي هين أي قلت أو قال ربك والأصل على هذا التقدير قلت قولا مثل الوعد في الغرابة فعدل إلى الالتفات أو التجريد أيا شئت تسميه لفائدته المعلومة وليس في الإتيان بأصل القول خروج عن مقتضى الظاهر إذ لا بد منه لينتظم الكلام وذلك لأن المعنى على هذا التقدير ولا تعجب من ذلك القول وانظر إلى مثله واعجب فقد قلناه وكذلك يتجه لنبينا السؤال فيجاب بأنه قال له ربه هو علي هين وصحة وقوعه جوابا عن سؤال نبينا عليه الصلاة و السلام وهو الأظهر على هذا الوجه لأن الكلام معه وإذ قد صح أن يجعل جوابا له جاز إضمار القول لأنه جواب له بما يدل على أنه خوطب به زكريا عليه السلام أيضا وجاز أن لا يضمر لأن المخاطب لهما واحد والخطاب مع نبينا وعلم من ضرورة المماثلة أنه قيل لزكريا أيضا هذه المقالة ولو كان الحاكي والقائل الأول مختلفين في هذه الصورة لم يكن بد من إضماره لأنه إذا قال عمرو لبكر ماذا قال زيد لخالد مما يماثل مقالته السابقة فيقول : إنك محبب مرضي وجب أن يكون التقدير قال زيد لخالد هذه المقالة لا محالة ولا بعد في تنزيل كلام الزمخشري عليه وهذا ما لوح إليه صاحب التقريب وآثره الإمام الطيبي وفيه فوات النكتة المذكورة في قال ربك ثم إنه إن لم يكن سبق القول كان كذبا من حيث الظاهر إذ ليس من القول بلسان الإشارة إلا أن يؤول بأنه مستقبل معنى هذا والكلام مسوق لما يزيل الاستبعاد ويحقق الموعود المرتاد وفي ذلك التقدير خروج عنه إلى معنى آخر ربما يستلزم هذا المعنى تبعا وما سيق له الكلام ينبغي أن يجعل الأصل انتهى
وهو كلام تحقيق وتدقيق لا يرشد إليه إلا توفيق وفي الآية وجه آخر هو ما أشار إليه صاحب الانتصاف و هين فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب والمراد أني كامل القدرة على ذلك إذا أردته كان
(16/69)
وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا 9 تقرير لما قبل والشيء هنا بمعنى الموجود أي ولم تك موجودا بل كنت معدوما والظاهر أن هذا إشارة إلى خلقه بطريق التوالد والانتقال في الأطوار كما يخلق سائر أفراد الإنسان وقال بعض المحققين : المراد به ابتداء خلق البشر إذ هو الواقع إثر العدم المحض لا ما كان بعد ذلك لطريق التوالد المعتاد فكأنه قيل : وقد خلقتك من قبل في تضاعيف خلق آدم ولم تك إذ ذاك شيئا أصلا بل كنت عدما بحتا وإنما لم يقل : وقد خلقت أباك أو ءادم من قبل ولم يك شيئا مع كفايته في إزالة الاستبعاد بقياس حال ما بشر به على حاله عليه السلام لتأكيد الاحتجاج وتوضيح منهاج القياس من حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه السلام من العدم لأنه عليه السلام أبدع أنموذجا منطويا على سائر ءاحاد الجنس فكان إبداعه على ذلك الوجه إبداعا لكل أحد من فروعه كذلك ولما كان خلقه عليه السلام على هذا النمط الساري إلى جميع ذريته أبدع من أن يكون مقصورا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه وأدل على عظم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته وكان عدم زكريا حينئذ أظهر عنده وكان حاله أولى بأن يكون معيارا لحال ما بشر به نسب الخلق المذكور إليه كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين في قوله تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم توفية لمقام الامتنان حقه انتهى ولا يخلو عن تكلف وجوز أن يكون الشيء بمعنى المعتد به وهو مجاز شائع ومنه قول المتنبي : وضاقت الأرض حتى كان هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا وقولهم : عجبت من لاشيء وليس بشيء إذ يأباه المقام ويرده نظم الكلام وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي خلقناك قال رب اجعل لي ءاية أي علامة تدلني على تحقيق المسؤل ووقوع الخبر وكان هذا السؤال كما قال الزجاج لتعريف وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه وهو أمر خفي لا يوقف عليه لا سيما إذا كانت زوجته ممن انقطع حيضها لكبرها وأراد أن يطلعه الله تعالى ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر من حيث حدوثها ولا يؤخره إلى أن تظهر ظهورا معتادا وقيل : طلب ذلك ليزداد يقينا وطمأنينة كما طلب إبراهيم عليه السلام كيفية إحياء الموتى لذلك والأول أولى وبالجملة لم يطلبه لتوقف منه في صدق الوعد ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله تعالى ورواية هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تصح لعصمة الأنبياء عليهم السلام عن مثل ذلك وذكر أن هذا السؤال ينبغي أن يكون بعد ما مضى بعد البشارة برهة من الزمان لما روي أن يحيى كان أكبر من عيسى عليهما السلام يستة أشهر أو بثلاث سنين ولا ريب في أن دعاءه عليه السلام كان في صغر مريم لقوله تعالى هنالك دعا زكريا ربه وهي إنما ولدت عيسى عليه السلام وهي بنت عشر سنين أو بنت ثلاث عشرة سنة والجعل إبداعي واللام متعلقة به والتقديم على آية الذي هو المفعول لما تقدم مرارا أو بمحذوف وقع حالا من ءاية وقيل : بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين أولهما ءاية وثانيهما الظرف وتقديمه لأنه لا مسوغ لكونه ءاية مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الظرف فلا يتغير حالهما بعد ورود الناسخ
قال ءايتك ألا تكلم الناس أن لا تقدر على تكليمهم بكلامهم المعروف في محاوراتهم
(16/70)
روي عن أبي زيد أنه حملت زوجته عليه السلام أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا وهو مع ذلك يقرأ التوراة فإذا أراد مناداة أحد لم يطقها ثلاث ليال مع أيامهن للتصريح بالأيام في سورة ءال عمران والقصة واحدة والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر كما ذكره السيرافي والنكتة في الاكتفاء بالليالي هنا وبالأيام ثمة على ما قيل أن هذه السورة مكية سابقة النزول وتلك مدنية والليالي عندهم سابقة على الأيام لأن شهورهم وسنيهم قمرية إنما تعرف بالأهلة ولذلك اعتبروها في التاريخ كما ذكره النحاة فأعطى السابق للسابق والليالي جمع ليل على غير قياس كأهل وأهال أو جمع ليلاة ويجمع أيضا على لياليل
سويا 01 حال من فاعل تكلم مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الإعجاز وخرق العادة لا لاعتقال اللسان بمرض أي يتعذر عليك تكليمهم ولا تطيقه حال كونك سوي الخلق سليم الجوارح ما بك شائبة بكم ولا خرس وهذا ما عليه الجمهور وعن ابن عباس أن سويا عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أن لا تكلم بالرفع على أن أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن أي أنه لا تكلم فخرج على قومه من المحراب أي من المصلى كما روي عن ابن زيد أو من الغرفة كما قيل وأصل المحراب كما قال الطبرسي : مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله ويسمى محل العبادة محرابا لما أن العابد كالمحارب للشيطان فيه وإطلاق المحراب على المعروف اليوم في المساجد لذلك وهو محدث لم يكن على عهد رسول الله وقد ألف الجلال السيوطي في ذلك رسالة صغيرة سماها إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب روى أن قومه كانوا من وراء المحراب ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوه ويصلوا فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم متغيرا لونه فأنكروه وقالوا : مالك فأوحى إليهم أي أومأ إليهم وأشار كما روي عن قتادة وابن منبه والكلبي والقرطبي وهو إحدى الروايتين عن مجاهد ويشهد له قوله تعالى إلا رمزا وروي عن ابن عباس كتب لهم على الأرض أن سبحوا بكرة وعشيا 11 وهو الرواية الأخرى عن مجاهد لكن بلفظ على التراب بدل على الأرض وقال عكرمة : كتب على ورقة وجاء إطلاق الوحي على الكتابة في كلام العرب ومنه قول عنترة : كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي وقول ذي الرمة : سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في بطون الصحائف و أن إما مفسرة أو مصدرية فتقدر قبلها الباء الجارة والمراد بالتسبيح الصلاة مجازا بعلاقة الاشتمال وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وجماعة و بكرة وعشيا ظرفا زمان له والمراد بذلك كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية صلاة الفجر وصلاة العصر وقال بعض : التسبيح على ظاهره وهو التنزيه أي نزهوا ربكم طرفي النهار ولعله عليه السلام كان مأمورا بأن يسبح شكرا ويأمر قومه
وقال صاحب التحرير والتحبير : عندي في هذا معنى لطيف وهو أنه إنما خص التسبيح بالذكر لأن العادة جارية أن كل من رأى أمرا عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول : سبحان الله تعالى سبحان الخالق جل جلاله فلما رأى حصول الولد من شيخ عاقر عجب من ذلك فسبح وأمر بالتسبيح ا ه
(16/71)
فأمرهم بالتسبيح إشارة إلى حصول أمر عجيب وقيل : إنه عليه السلام كان قد أخبر قومه بما بشر به قبل جعل العلامة فلما تعذر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشر به من الأمر العجيب فسروا بذلك
وقرأ طلحة أن سبحوه بهاء الضمير عائدة إلى الله تعالى وروى ابن غزوان عن طلحة أن سبحن بنون مشددة يا يحيى على تقدير القول وكلام ءاخر حذف مسارعة إلى الأنباء بإنجاز الوعد الكريم أي فلما ولد وبلغ سنا يؤمر مثله فيه قلنا يا يحيى خذ الكتاب أي التوراة وادعى ابن عطية الإجماع على ذلك بناء على أن ال للعهد ولا معهود إذ ذاك سواها فإن الإنجيل لم يكن موجودا حينئذ وليس كما قال بل قيل : له عليه السلام كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء عليهم السلام بمثل ذلك وقيل المراد بالكتاب صحف إبراهيم عليه السلام وقيل : المراد الجنس أي كتب الله تعالى بقوة بجد واستظهار وعمل بما فيه وقائل ذلك هو الله تعالى على لسان الملك كما هو الغالب في القول للأنبياء عليه السلام وأبعد التبريزي فقدر قال له أبوه حين ترعرع ونشأ : يا يحيى إلخ ويزيده بعدا قوله تعالى وءاتيناه الحكم صبيا 21
أخرج أبو نعيم وابن مردويه والديلمي عن ابن عباس عن النبي أنه قال في ذلك : أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين وجاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أيضا قال الغلمان ليحيى بن زكريا عليهما السلام : اذهب بنا نلعب فقال : أللعب خلقنا اذهبوا نصلي فهو قوله تعالى وءاتيناه الحكم صبيا والظاهر أن الحكم على هذا بمعنى الحكمة وقيل : هي بمعنى العقل وقيل معرفة ءاداب الخدمة وقيل الفراسة الصادقة وقيل النبوة وعليه كثير قالوا : أوتيها وهو ابن سبع سنين أو ابن ثلاث أو ابن سنتين ولم ينبأ أكثر الأنبياء عليهم السلام قبل الأربعين والجملة عطف على قلنا المقدر وحنانا من لدنا عطف على الحكم وتنويه للتفخيم وهو في الأصل من حن إذا ارتاح واشتاق ثم استعمل في الرحمة والعطف ومنه الحنان لله تعالى خلافا لمن منع إطلاقه عليه عز و جل وإلى تفسيره بالرحمة هنا ذهب الحسن وقتادة والضحاك وعكرمة والفراء وأبو عبيدة وهو رواية عن ابن عباس ويروى أنه أنشد في ذلك لابن الأزرق قول طرفة
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض وأنشد سيبويه قول المنذر بن درهم الكلبي : وأحدث عهد من أمينة نظرة على جانب العلياء إذ أنا واقف تقول حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي وآتيناه رحمة عظيمة عليه كائنة من جنابنا وهذا أبلغ من ورحمانه وروى هذا التفسير عن مجاهد وقيل : المراد وآتيناه رحمة في قلبه وشفقتة على أبويه وغيرهما وفائدة الوصف على هذا الإشارة إلى أن ذلك كان مرضيا لله عز و جل فإن الرحمة والشفقة ما هو غير مقبول كالذي يؤدي إلى ترك شيء من حقوق الله سبحانه كالحدود مثلا أو الإشارة إلى تلك الرحمة زائدة على ما في جبلة غيره عليه السلام لأن ما يهبه العظيم عطيم وأورد على هذا أن الإفراط مذموم كالتفريط وخير الأمور أوسطها ورد بأن مقام المدح يقتضي ذلك ورب
(16/72)
إفراط يحمد من شخص ويذم من آخر فإن السلطان يهب الألوف ولو وهبها غيره كان إسرافا مذموما
وعن ابن زيد أن الحنان هنا المحبة وهو رواية عن عكرمة أي وآتيناه محبة من لدنا والمراد على ما قيل جعلناه محببا عند الناس فكل من رآه أحبه نظير قوله تعالى : وألقيت عليك محبة مني وجوز بعضهم أن يكون المعنى نحو ما تقدم على القول السابق وقيل : هو منصوب على القول السابق وقيل : هو منصوب على المصدرية فيكون من باب ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا
وجوز أن يجعل مفعولا لأجله وأن يجعل عطفا على صبيا وذلك ظاهر على تقدير أن يكون المعنى رحمة لأبويه وغيرهما وعلى تقدير أن يكون وحنانا من الله تعالى عليه لا يجيء الحال وباقي الأوجه بحاله ولا يخفى على المتأمل الحال ما روي عن ابن زيد وزكاة أي بركة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وهو عطف على المفعول ومعنى إيتائه البركة على ما قيل جعله مباركا نفاعا معلما للخير وقيل : الزكاة الصدقة والمراد ما يتصدق به والعطف على حاله آتيناه ما يتصدق به على الناس وهو كما ترى
وقيل : بمعنى الصدقة والعطف على الحال والمراد آتيناه الحكم حال كونه متصدقا به على أبويه وروي هذا عن الكلبي وابن السائب وجوز عليه العطف على حنانا بتقدير العلية وقيل : العطف على المفعول ومعنى إيتائه الصدقة عليهما كونه عليه السلام صدقة عليهما وعن الزجاج هي الطهارة من الذنوب ولا يضر في مقام المدح الاتيان بألفاظ ربما يستغنى ببعضها عن بعض وكان تقيا 31 مطيعا متجنبا عن المعاصي وقد جاء في غير ما حديث أنه عليه السلام ما عمل معصية ولا هم بها
وأخرج مالك وأحمد في الزهد وابن المبارك وأبو نعيم عن مجاهد قال : كان طعام يحيى بن زكريا عليهما السلام العشب وإنه كان ليبكي من خشية الله تعالى حتى لو كان القار على عينه لخرقه وقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه وبرا بوالديه كثير البر بهما والإحسان إليهما والظاهر أنه عطف على خبر كان وقيل هو من باب
علفتها تبنا وماء باردا
والمراد وجعلناه برا وهو يناسب نظيره حكاية عن عيسى عليه السلام وقرأ الحسن وأبو جعفر في رواية وابن نهيك وابن مجلز وبرا في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر ولم يكن جبارا متكبرا متعاليا عن قبول الحق والإذعان له أو متطاولا لا على الخلق وقيل : الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقا وعن ابن عباس أنه الذي يقتل ويضرب على الغضب
وقال الراغب : هو في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بإعادة منزلة من التغالي لا يستحقها
عصيا 41 مخالفا أمر مولاه عز و جل وقيل : عاقا لأبيه وهو فعول وقيل فعيل والمراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة وسلام عليه قال الطبري : أمان من الله تعالى عليه يوم ولد من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم ويوم يموت من وحشة فراق الدنيا وهو المطلع وعذاب القبر وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت بناء على أنه عليه السلام قتل لبغي من بغايا بني إسرائيل ويوم يبعث حيا 51 من هول القيامة وعذاب النار وجيء بالحال للتأكيد وقيل : للإشارة إلى أن البعث جسماني لا روحاني وقيل للتنبيه
(16/73)
على أنه عليه السلام من الشهداء
وقال ابن عطية : الأظهر أن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها لكونها من الله تعالى في المواطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله عز و جل وجاء في خبر رواه أحمد في الزهد وغيره عن الحسن أن عيسى ويحيى عليهما السلام التقيا وهما إبنا الخالة فقال يحيى لعيسى : ادع الله تعالى لي فأنت خير مني فقال له عيسى : بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله تعالى عليك وإنما سلمت على نفسي
وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف من حيث المعنى على آتيناه الحكم كأنه قيل وءاتيناه الحكم صبيا وكذا وكذا وسلمناه أو سلمنا عليه في تلك المواطن فعدل إلى الجملة الإسمية لإرادة الدوام والثبوت وهي كالخاتمة للكلام السابق ومن ثم شرع في قصة أخرى وذلك في قوله تعالى واذكر في الكتاب إلخ فهو كلام مستأنف خوطب به النبي وأمر عليه الصلاة و السلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه السلام لما بينهما من كمال الإشتباك والمناسبة والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرءان كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه السلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم السلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها مريم أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان
وقوله تعالى : إذ انتبذت ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ما عطف عليه وحكى بعده بطريق الإستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء وجعله أبو حيان ظرفا لفعل محذوف أي واذكر مريم وما جرى لها إذ انتبذت وما ذكرناه أولى وقيل : هو ظرف لمحذوف وقع حالا من ذلك المضاف وقيل : بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة
وتعقبه أبو البقاء بأن الزمان إذا لم يقع حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا صفة لها لم يكن بدلا منها ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البديلة ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح في البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل وكون ذلك حال الزمان فقط غير بين ولا مبين وقيل : بدل كل من كل على أن المراد بمريم قصتها وبالظرف الواقع فيه وفيه بعد وقيل : إذا بمعنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي وهذا قول ضعيف للنحاة والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية أن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الإشتمال والانتباذ الاعتزال والانفراد
وقال الراغب يقال : انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس والنبذ : إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداء به
وقوله تعالى من أهلها متعلق بانتبذت وقوله سبحانه مكانا شرقيا 61 قيل نصب على الظرف وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الاتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكانا شرقيا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هناك للعبادة وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بجبل على ما روي عن ابن عباس أو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى فاتخذت من دونهم حجابا
(16/74)
وكونه شرقيا كان أمرا اتفاقيا
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا فلذلك صلوا قبل مطلع الشمس وفي رواية أنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت من أهلها مكانا شرقيا وقد قدمنا عن بعض أنهم كانوا في زمن عيسى عليه السلام يستقبلون بيت المقدس وأنهم ما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه السلام زاعمين أنه ظهر لبعض كبارهم فأمره بذلك وجوز أن يكون اختاره الله تعالى لأنه مطلع الأنوار وقد علم سبحانه أنه حان ظهور النور العيسوي منها فناسب أن يكون ظهور النور المعنوي في جهة ظهور النور الحسي وهو كما ترى وروي أنه كان موضعها في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك عليه السلام في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر وذلك قوله عز و جل : فأرسلنا إليها روحنا أي جبرائيل عليه السلام كما قاله الأكثر وعبر عنه بذلك لأن الدين يحيا به وبوحيه فهو مجاز والإضافة للتشريف كبيت الله تعالى
وجوز أن يكون ذلك كما تقول لحبيبك أنت روحي محبة له وتقريبا فهو مجاز أيضا إلا أنه مخالف للأول في الوجه والتشريف عليه في جعله روحا وقال أبو مسلم : المراد من الروح عيسى عليه السلام لقوله تعالى وروح منه وضمير تمثل الآتي للملك وليس بشيء وقرأ أبو حيوة وسهل روحنا بفتح الراء والمراد به جبريل عليه السلام أيضا لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله تعالى الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان أو لأنه عليه السلام من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا أو ذا روحنا
وذكر النقاش أنه قريء روحنا بتشديد النون اسم ملك من الملائكة عليهم السلام فتمثل لها مشتق من المثال وأصله أن يتكلف أن يكون مثال الشيء والمراد فتصور لها بشرا سويا 71 سوى الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا وقيل تمثل في صورة قريب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته وما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع ما فيه من الهجنة التي ينبغي أن تنزه مريم عنها يكذبه قوله تعالى قالت إني أعوذ بالرحمن منك فأنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلا عن الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لأن عادة الملك إذا تمثل أن يتمثل بصورة بشر جميل كما كان يأتي النبي في صورة دحية رضي الله تعالى عنه أولا بتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وإرادة القائل أنه وقع كذلك ليكون مظنة لما ذكر فيظهر خلافه فيكون أقوى في نزاهتها بعيد جدا عن كلامه
وقال بعض المتأخرين : إن استعاذتها بالله تعالى تنبيء عن تهيج شهوتها وميلانها إليه ميلا طبيعيا على ما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن فقد قيل : المراد بالصبوة
(16/75)
فيه الميل بمقتضى الطبيعة وحكم القوة الشهوية ثم أنه لا ينافي عفتها بل يحققها لكونه طبيعيا اضطراريا غير داخل تحت التكليف كما قيل في قوله تعالى وهم بها ومع هذا قد استعاذ يوسف عليه السلام بما حكى الله تعالى عنه من قوله تعالى قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي فدعوى أن الاستعاذة تكذب التهييج والميل الطبيعي كذب والقول بأنه يأبى ذلك مقام بيان آثار القدرة للعادة ليس بشيء لأن خلق الإنسان من ماء واحد أثر من آثار القدرة الخارقة للعادة أيضا
والأسباب في هذا المقام ليست بمرفوضة بالكلية كما يرشد إلى ذلك قصة يحيى عليه السلام على أنه قد يدعى أن خلق شيء لا من شيء أصلا محال فلا يكون من مراتب القدرة ومادة الجعل الابداعي الأعيان الثابتة وهي قديمة ا ه ولا يخلو عن بحث وما ذكرناه في التعليل أسلم من القال والقيل فتدبر ونصب بشرا على الحالية المقدرة أو التمييز وقيل على المفعولية بتضميين تمثل معنى اتخذ واستشكل أمر هذا التمثل بأن جبريل عليه السلام شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإنسان يلزم أن لا يبقى جبريل أن تساقطت الأجزاء الزائدة على جثة الانسان وأن تتداخل الأجزاء إن لم يذهب شيء وهو محال وأيضا لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي أمس لاحتمال التمثل وأيضا لو جاز التمثل بصورة الإنسان فلم لا يجوز تمثله بصورة أخرى غير صورة الإنسان ومن ذلك البعوض ونحوه ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل وأيضا لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي عليه الصلاة و السلام يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل المتمثل به وأجيب عن الأول بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل عليه السلام أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة فبالأجزاء الأصلية يكون متمكنا من التمثل بشرا هذا عند القائلين بأنه جسم وأما عند القائلين بأنه روحاني فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير وعن الثاني بأنه مشترك الإلزام بين الكل فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك أيضا إذ يجوز أن يخلق سبحانه مثل زيد مثلا ومع هذا الجواز يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على طرز ما تقدم وكذا من لم يعترف وأسند الحوادث إلى الاتصالات والتشكلات الفلكية يلزمه ذلك لجواز حدوث اتصال يقتضي حدوث مثل ذلك وحينئذ يمتنع القطع أيضا ولعله لما كان مثل ذلك نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك في أن زيدا الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس
وأجيب عن الثالث بأن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع وهو الجواب عن الرابع كذا قال الإمام الرازي وعندي أن مسئلة التمثل على القول بالجسمية مما ينبغي تفويض الأمر فيها إلى علام الغيوب ولا سبيل للعقل إلى الجزم فيها بشيء تنشرح له القلوب وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيرا لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلابا لآثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها وما قيل من أن ذلك تذكير لمن رأت بالجزاء لينزجر فإنه يقال يارحمن الآخرة ليس بشيء لأنه ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما إن كنت تقيا 81 شرط جواب محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله تعالى وتخشاه وتحتفل بالإستعاذة به فإني عائذة به منك كذا قدره الزمخشري
(16/76)
وفي الكشف أنه أشار إلى أن وجه هذا الشرط مع أن الاستعاذة بالرحمن إن لم يكن تقيا أولى أن أثر الاستجارة بالله تعالى أعنى مكافته وأمنها منه إنما يتم ويظهر بالنسبة إلى المتقي وفيه دلالة على أن التقوى مما تقتضي للمستعيذ بالله تعالى حق الذمام والمحافظة وعلى عظم مكان التقوى حيث جعلت شرطا للإستعاذة لا تتم دونها وقال : إن كان يرجى إظهار لمعنى أن وأنها إنما أوثرت دلالة على أن رجاء التقوى كان فضلا عن العلم بها
والحاصل أن التقوى لم تجعل شرط الاستعاذة بل شرط مكافته وأمنها منه وكنت عن ذلك بالاستعاذة بالله تعالى حثا له على المكافة بألطف وجه وأبلغه وأن من تعرض للمستعيذ به فقد تعرض لعظيم سخطه انتهى
وقدر الزجاج إن كنت تقيا فتتعظ بتعويذي والأولى عليه تتعظ بإسقاط الفاء لأن المضارع الواقع جوابا لا يقترن بالفاء فيحتاج إلى جعله مرفوعا بتقدير مبتدأ وقدر بعضهم فاذهب عني وبعضهم فلا تتعرض بي وقيل إنها أرادت إن كنت تقيا متورعا فإني أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك وكأنه أراد أنها استعاذت بهذا الشرط ليعلم استعاذتها بما يقال له من باب أولى وقال الشهاب : الظاهر أن إن على هذا القول وصلية وفي مجيئها بدون الواو كلام وذكر أن الجملة على هذا حالية والمقصود بها الالتجاء إلى الله تعالى من شره لا حثه على الانزجار وقيل نافية والجملة استئناف في موضع التعليل أي ما كنت تقيا متورعا بحضورك عندي وانفرادك بي وهو خلاف الظاهر وأيا ما كان فالتقى وصف من التقوى وقول من قال : إنه اسم رجل صالح أو طالح ليس بسديد
قال إنما أنا رسول ربك المالك لأمرك والناظر في مصلحتك الذي استعذت به ولست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر روي عن ابن عباس أنها لما قالت : إني أعوذ إلخ تبسم جبريل عليه السلام وقال : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في الدرع ويجوز أن يكون حكاية لقوله تعالى بتقدير القول أي ربك الذي قال أرسلت هذا الملك لأهب لك ويؤيده قراءة شيبة وأبي الحسن وأبي بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي وأبي عمرو ونافع في رواية ليهب بالياء فإن فاعله ضمير الرب تعالى وما قيل : من أصل ليهب لأهب فقلبت الهمزة ياء لانكسار ما قبلها تعسف من غير داع له
وفي بعض المصاحف : أمرني أن أهب لك غلاما زكيا 91 طاهرا من الذنوب وقيل : نبيا وقيل : ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح فالزكا شامل للزيادة المعنوية والحسية واستدل بعضهم برسالة الملك إليها على نبوتها
وأجيب : بأن الرسالة لمثل ذلك لا تستدعي النبوة قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر أي والحال أنه لم يباشرني بالحلال رجل وإنما قيل بشر مبالغة في تنزهها من مباديء الولادة ولم أك بغيا 02 أي ولم أكن زانية والجملة عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالحلال وهو كناية عن ذلك كما في قوله تعالى من قبل أن تمسوهن أو لامستم النساء ونحوه كما قيل
(16/77)
دخلتم بهن وبنى عليها
وأما الزنا فليس بقمن أن يكنى عنه لأن مقامه إما تطهير اللسان فلا كناية ولا تصريح وإما التقريع فحينئذ يستحق الزيادة على التصريح والألفاظ التي يظن أنها كناية فيه قد شاعت حتى صارت حقيقة صريحة فيه ومنها ما في النظم الكريم ولا يرد على ذلك ما في سورة ءال عمران من قولها ولم يمسسني بشر مقتصرة عليه فإن غاية ما قيل فيه إنه كناية عن النكاح والزنا على سبيل التغليب ولم يجعل كناية عن الزنا وحده ولقائل أن يقول : أنه ثم كناية عن النكاح فقط كما هنا واستوعب الأقسام ههنا لأنه مقام البسط واقتصرت على نفي النكاح ثم لعدم التهمة ولعلمها أنهم ملائكة ينادون لا يتخيلون فيها التهمة بخلاف هذه الحالة فإن جبريل عليه السلام كان قد أتاها في صورة شاب أمرد ولهذا تعوذت منه ولم يكن قد سكن روعها بالكلية إلى أن قال : إنما أنا رسول ربك على أنه قيل : إن ما في ءال عمران من الاكتفاء وترك الاكتفاء في هذه لأنه تقدم نزولها فهي محل التفصيل بخلاف تلك لسبق العلم وقيل : المساس هنا كناية عن الأمرين على سبيل التغليب كما في تلك السورة ولم أك بغيا تخصيص بعد التعميم لزيادة الاعتناء بتنزيه ساحتها عن الفحشاء ولذا آثرت كان في النفي الثاني فإن في ذلك إيذانا بأن انتفاء الفجور لازم لها
وكأنها عليها السلام من فرط تعجبها وغاية استبعادها لم تلتفت إلى الوصف في قول الملك عليه السلام لأهب لك غلاما زكيا النافي كل ريبة وتهمة ونبذته وراء ظهرها وأتت بالموصوف وحده وأخذت في تقرير نفيه على أبلغ وجه أي ما أبعد وجود هذا الموصوف مع هذه الموانع بله الوصف وهذا قريب من الأسلوب الحكيم
وبغى فعول عند المبرد وأصله بغوى فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسرت الغين اتباعا ولذا لم تلحقه هاء التأنيث لأن فعولا يستوي فيه المذكر والمؤنث وإن كان بمعنى فاعل كصبور واعترضه ابن جني في كتاب التمام بأنه لو كان فعولا لقيل بغو كما قيل نهو عن المنكر ورد بأنه لا يقاس على الشاذ وقد نصوا على شذوذ نهو لمخالفته قاعدة اجتماع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون واختار أنه فعيل وهو على ما قال أبو البقاء بمعنى فاعل وكأن القياس أن تلحقه هاء التأنيث لأنه حينئذ ليس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كفعول ووجه عدم اللحوق بأنه للمبالغة التي فيه حمل على فعول فلم تلحقه الهاء وقال بعضهم : هو من باب النسب كطالق ومثله يستوي فيه المذكر والمؤنث وقيل ترك تأنيثه لاختصاصه في الاستعمال بالمؤنث ويقال للرجل باغ وقيل فعيل بمعنى مفعول كعين كحيل وعلى هذا معنى بغى يبغيها الرجال للفجور بها وعلى القول بأنه بمعنى فاعل فاجرة تبغي الرجال وأيا ما كان فهو للشيوع في الزانية صار حقيقة صريحة فيه فلا يرد أن اعتبار المبالغة فيه لا يناسب المقام لأن نفي الأبلغ لا يستلزم نفي أصل الفعل ولا يحتاج إلى الجواب بالتزام أن ذلك من باب النسب أو بأن المراد نفي القيد والمقيد معا أو المبالغة في النفي لا نفي المبالغة قال كذلك قال ربك هو علي هين اطلقوا الكلام في أنه نظير ما تقدم في قصة زكريا عليه السلام وفي الكشف أنه لا يجرى فيه تمام الأوجه التي ذكرها الزمخشري هناك لأن قال أولا فيه ضمير الرسول إليها فكذلك أن علق بالثاني يكون المعنى قال الرسول قال ربك كذلك ثم فسره بقوله هو علي هين أو المعنى مثل ذلك القول العجيب الذي سمعته ووعدتك قال ربك على إقحام الكاف ثم استأنف
(16/78)
هو علي هين ولا بد من إضمار القول لأن المخاطب لها جبريل عليه السلام وقوله هو علي هين كلام الحق تعالى شأنه حكاه لها وإن علق بالأول يكون المعنى الأمر كذلك تصديقا لها أو كما وعدت تحقيقا له ثم استأنف قال ربك هو علي هين لإزالة الإستبعاد أو لتقرير التحقيق ولا يبعد أن يجعل قال ربك على هذا تفسيرا وكذلك مبهما انتهى ولا أرى ما نقل عن ابن المنير هناك وجها هنا ولنجعله تعليل لمعلل محذوف أي لنجعل وهب الغلام آية وبرهانا للناس جميعهم أو المؤمنين على ما روي عن ابن عباس يستدلون به على كمال قدرتنا ورحمة عظيمة كائنة من عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده فعلنا ذلك
م وجوز أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة أي لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله ءاية إلخ قال في الكشف : إن مثل هذا يطرد فيه الوجهان ويرجح كل واحد بحسب المقام وحذف المعلل هنا أرجح إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف أيضا فليس قبل ما يصلح فهو تطويل للمسافة وهذه الجملة أعني العلة مع شكلها معطوفة على قوله هو علي هين وفي إيثار الأولى اسمية دالة على لزوم الهون مزيلة للإستبعاد والثانية فعلية دالة على أنه تعالى أنشأه لكونه آية ورحمة خاصة لا لأمر ءاخر ينافيه مرادا بها التجدد لتجدد الوجود لينتقل من الاستبعاد إلى الاستحماد ما لا يخفى من الفخامة انتهى
ولا يرد أنه إذا قدر علة نحو لنبين جاز أن يكون ذلك متعلقا بما يدل عليه هو علي هين من غير حذف شيء فلا يصح قوله لم يكن بد من معلل محذوف لظهور ما فيه وما ذكره من العطف خالف فيه بعضهم فجعل الواو على الأول اعتراضية ومن الناس من قال : إن لنجعله على قراءة ليهب عطف عليه على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم وجوز أيضا العطف على لأهب على قراءة أكثر السبعة ولا يخفى بعد هذا العطف على القراءتين وكان ذلك أمرا مقضيا 12 محكما قد تعلق قضاؤنا الأزلي أو قدر وسطر في اللوح لابد لك منه أو كان أمرا حقيقا بمقتضى الحكمة والتفضل أن يفعل لتضمنه حكما بالغة : وهذه الجملة تذييل إما لمجموع الكلام أو للأخير فحملته الفاء فصيحة أي فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيبها فدخلت النفخة في جوفها فحملته وروي هذا عن ابن عباس وقيل : لم يدن عليه السلام بل نفخ عن بعد فوصل الريح إليها فحملت وقيل : إن النفخة كانت في كمها وروي ذلك عن ابن جريح وقيل كانت في ذيلها وقيل كانت في فمها
واختلفوا في سنها إذ ذاك فقيل ثلاث عشرة سنة وعن وهب ومجاهد خمس عشرة سنة وقيل : أربع عشرة سنة وقيل : اثنتا عشرة سنة وقيل : عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل وحكى محمد بن الهيصم رئيس الهيصمية من الكرامية أنها لم تكن حاضت بعد وقيل : إنها عليها السلام لم تكون تحيض أصلا بل كانت مطهرة من الحيض وكذا اختلفوا في مدة حملها ففي رواية عن ابن عباس أنها تسعة أشهر كما في سائر النساء وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب ذكرها في أثناء هذه القصة الغريبة وفي رواية أخرى عنه أنها كانت ساعة واحدة كما حملته ونبذته واستدل لذلك بالتعقيب الآتي وبأنه سبحانه قال في وصفه إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فإنه ظاهر في أنه عز و جل قال له كن فيكون فلا يتصور فيه مدة الحمل وعن عطاء وأبي العالية والضحاك أنها
(16/79)
كانت سبعة أشهر وقيل : كانت ستة أشهر وقيل : حملته في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها والمشهور أنها كانت ثمانية أشهر قيل : ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره عليه السلام
ونقل النيسابوري عن أهل التنجيم أن ذلك لأن الحمل يعود إلى تربية القمر فتستولي عليه البرودة والرطوبة وهو ظاهر في أمر مربي الحمل في أول شهور الحمل القمر وفي الثامن يعود الأمر إليه عند المنجمين وهو مخالف لما في كفاية التعليم عنهم من أن أول الشهور منسوب إلى زحل والثاني إلى المشتري وهكذا إلى السابع وهو منسوب إلى القمر ثم ترجع النسبة إلى زحل ثم إلى المشتري : وفيها أيضا أن جهال المنجمين يقولون إن النطفة في الشهر الأول تقبل البرودة من زحل فتجمد وفي الثاني تقبل القوة النامية من المشتري فتأخذ في النمو وفي الثالث تقبل القوة الغضبية من المريخ وفي الرابع قوة الحياة من الشمس وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة وفي السادس قوة النطق من عطارد وفي السابع قوة الحركة من القمر فتتم خلقة الجنين فإن ولد في ذلك الوقت عاش وإلا فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل وإن ولد في التاسع عاش لأنه قبل قوة المشتري ومثل تلك الكلمات خرافات وكل امرأة تعرف أن النطفة إذا مضت عليها ثلاثة أشهر تتحرك
وقد ذكر علماء الطبيعة أن أقل مدة الولادة ستة أشهر ومدة الحركة ثلث مدة الولادة فيكون أقلها شهرين ومن امتحن الإسقاط يعلم أن الخلقة تتم في أقل من خمسين يوما انتهى وكلام المتشرعين لا يخفى عليك في هذا الباب
وقد يعيش المولود لثمان إلا أنه قليل فليس ذلك من خواصه عليه السلام إن صح ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال المضطربة المتناقضة بيد أني أميل إلى أولها والاستدلال للثاني مما سمعت لا يخلو عن نظر
فانتبذت به أي فاعتزلت وهو في بطنها فالباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قوله تعالى تنبت بالدهن وقول المتنبي يصف الخيول : فمرت غير نافرة عليهم تدوس بنا الجماجم والرؤسا والجار والمجرور ظرف مستقر وقع حالا من ضميرها المستتر أي فانتبذت ملتبسة به مكانا قصيا 22 بعيدا من أهلها وراء الجبل وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن نوف أن جبريل عليه السلام نفخ في جيبها فحملت حتى إذا أثقلت وجعت ما يجع النساء وكانت في بيت النبوة فاستحيت وهربت حياء من قومها فأخذت نحو المشرق وخرج قومها في طلبها فجعلوا يسألون رأيتم فتاة كذا وكذا فلا يخبرهم أحد فكان ما أخبره الله تعالى به
وروى الثعلبي في العرائس عن وهب قال : إن مريم لما حملت كان معها ابن عم لها يسمى يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكانا معا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم أن أحدا من أهل زمانهما أشد اجتهادا وعبادة منهما وأول من علم أمرها يوسف فتحير في ذلك لعلمه بكمال صلاحها وعفتها وأنه لم تغب عنه ساعة فقال لها : قد وقع في نفسي شيء من أمرك لم أستطع كتمانه وقد رأيت الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولا جميلا فقال : يا مريم أخبريني هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر : فقالت نعم ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة أتقول : إن الله سبحانه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى يستعين بالماء : قال لا أقول هذا ولكني أقول إن الله تعالى يقدر على
(16/80)
ما يشاء بقول كن فيكون فقالت : ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى فعند ذلك زال ما يجده وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فكان ما قص سبحانه وقيل : انتبذت أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل فأجاءها المخاض أي ألجأها كما قال الزمخشري وجماعة وفي الصحاح أجأته إلى كذا بمعنى الجأته واضطررته إليه قال زهير بن أبي سلمى : وجار سار معتمدا عليكم أجاءته المخافة والرجاء قال الفراء : أصله من جئت وقد جعلته العرب الجاء وفي المثل شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب انتهى واختار أبو حيان أن المعنى جاء بها واعترض على الزمخشري وأطال الكلام بما لا يخفى رده و المخاض بفتح الميم كما في قراءة الأكثرين وبكسرها كما في رواية عن ابن كثير مصدر مخضت المرأة بفتح الخاء وكسرها إذا أخذها الطلق وتحرك الولد في بطنها للخروج وقرأ الأعمش وطلحة فاجاءها بإمالة فتحة الجيم وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم فاجأها من المفاجأة وروي ذلك عن مجاهد ونقله ابن عطية عن شبيل بن عزرة أيضا وقال صاحب اللوامح : إن قراءته تحتمل أن تكون الهمزة فيها قد قلبت ألفا ويحتمل أن تكون بين بين غير مقلوبة
إلى جذع النخلة لتستند إليه عند الولادة كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي أو لذلك ولتستر به كما قيل والجذع ما بين العرق ومتشعب الأغصان من الشجرة وقد يقال للغصن أيضا : جذع والنخلة معروفة والتعريف إما للجنس فالمراد واحدة من النخل لا على التعيين أو للعهد فالمراد نخلة معينة ويكفي لتعينها تعينها في نفسها وإن لم يعلمها المخاطب بالقرآن عليه الصلاة و السلام كما إذا قلت أكل السلطان ما أتى به الطباخ أي طباخه فإنه المعهود وقد يقال : إنها معينة له بأن يكون الله تعالى أراها له عليه الصلاة و السلام ليلة المعراج وزعم بعضهم أنها موجودة إلى اليوم والظاهر أنها كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها وهو الذي تدل عليه الآثار فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها عليها السلام لما اشتد عليها الطلق نظرت إلى أكمة فصعدت مسرعة فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس عليها سعف
وقيل : إن الله تعالى خلقها لها يومئذ وليس بذاك وكان الوقت شتاء ولعل الله تعالى أرشدها إليها ليريها فيما هو أشبه الأشجار بالإنسان من آياته ما يسكن روعتها كأثمارها بدون رأس وفي وقت الشتاء الذي لم يعهد ذلك فيه ومن غير لقاح كما هو المعتاد وفي ذلك إشارة أيضا إلى أن أصلها ثابت وفرعها في السماء وإلى أن ولدها نافع كالثمرة الحلواء وأنه عليه السلام سيحيي الأموات كما أحيى الله تعالى بسببه الموات مع ما في ذلك من اللطف بجعل ثمرتها خرسة لها والجار والمجرور متعلق بأجاءها وعلى القراءة الأخرى متعلق بمحذوف وقع حالا أي مستندة إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت بكسر الميم من مات يمات كخاف يخاف أو من مات يميت كجاء يجيء
(16/81)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر ويعقوب بضمها من مات يموت كقال يقول
قبل هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت أو قبل هذا الأمر وإنما قالته عليها السلام مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل عليه السلام من الوعد الكريم استحياء من الناس وخوفا من لائمتهم أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها وروي أنها سمعت نداء أخرج يا من يعبد من دون الله تعالى فحزنت لذلك وتمنت الموت وتمني الموت لنحو ذلك مما لا كراهة فيه نعم يكره تمنيه لضرر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا ففي صحيح مسلم وغيره قال : لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل فإن كان لابد متمنيا فليقل اللهم أحييني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ومن ظن أن تمنيها عليها السلام ذلك كان لشدة الوجع فقد أساء الظن والعياذ بالله تعالى
وكنت نمسيا منسيا أي شيئا تافها شأنه أن ينسى ولا يعتد به أصلا كخرقة الطمث
وقرأ الأكثرون نسيا بالكسر قال الفراء : هما لغتان في ذلك كالوتر والوتر والفتح أحب إلي
وقال الفارسي : الكسر أعلى اللغتين وقال ابن الأنباري : هو بالكسر اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض وبالفتح مصدر نائب عن الاسم وقرأ محمد بن كعب القرظي نسئا بكسر النون والهمزة مكان الياء وهي قراءة نوف الأعرابي وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضا في رواية نسأ بفتح النون والهمزة على أن ذلك من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء ونقل ابن عطية عن بكر بن حبيب أنه قرأ نسا بفتح النون والسين من غير همز كعصى منسيا 32 لا يخطر ببال أحد من الناس ووصف النسي بذلك لما أنه حقيقة عرفية فيما يقل الاعتداد به وإن لم ينس وقرأ الأعمش وأبو جعفر في رواية بكسر الميم اتباعا لحركة السين كما قالوا : منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء فناداها أي جبريل عليه السلام كما روي عن ابن عباس ونوف
وقرأ علقمة فخاطبها قال أبو حيان : وينبغي أن يكون المراد به جبريل عليه السلام ليوافق ما روي عنه أولا ومعنى من تحتها من مكان أسفل منها وكان واقفا تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفا ونقل في البحر عن الحسن أنه قال : ناداها جبريل عليه السلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وأقسم على ذلك ولعله إنما كان موقفه عليه السلام هناك إجلالا لها وتحاشيا من حضوره بين يديها في تلك الحال والقول بأنه عليه السلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال وقيل : ضمير تحتها للنخلة واستظهر أبو حيان كون المنادى عيسى عليه السلام والضمير لمريم والفاء فصيحة أي فولدت غلاما فأنطقه الله تعالى حين الولادة فناداها المولود من تحتها
وروي ذلك عن مجاهد ووهب وابن جبير وابن جرير وابن زيد والجبائي ونقله الطبرسي عن الحسن أيضا وقرأ الابنان والأبوان وعاصم والجحدري وابن عباس والحسن في رواية عنهما من بفتح الميم بمعنى الذي فاعل نادى و تحتها ظرف منصوب صلة لمن والمراد به إما عيسى أو جبريل عليهما الصلاة
(16/82)
والسلام ألا تحزني أي أي لا تحزني على أن أن مفسرة أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار قد جعل ربك تحتك بمكان أسفل منك وقيل : تحت أمرك إن أمرت بالجري جري وإن أمرت بالإمساك أمسك وهو خلاف الظاهر سريا 42 أي جدولا كما أخرجه الحاكم في مستدركه عن البراء وقال : إنه صحيح على شرط الشيخين وذكره البخاري تعليقا موقوفا عليه وأسنده عبد الرزاق وابن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم عنه موقوفا عليه أيضا ولم يصح الرفع كما أوضحه الجلال السيوطي وعلى ذلك جاء قول لبيد يصف عيرا وأتانا : فتوسطا عرض السرى فصدعا مسجورة متجاوزا قلامها وأنشد ابن عباس قول الشاعر : سهل الخليقة ما وجد ذو نائل مثل السرى تمده الأنهار وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس جدولا من الأردن أجراه الله تعالى منه لما أصابها العطش وروي أن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولا وقيل : فعل ذلك عيسى عليه السلام وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وقيل : كان ذلك موجودا من قبل إلا أن الله تعالى نبهها عليه وما تقدم هو الموافق لمقام بيان ظهور الخوارق والمتبادر من النظم الكريم وسمي الجدول سريا لأن الماء يسري فيه فلامه على هذا المعنى ياء وعن الحسن وابن زيد والجبائي أن المراد بالسري عيسى عليه السلام وهو من السرو بمعنى الرفعة كما قال الراغب أي جعل ربك تحتك غلاما رفيع الشأن سامي القدر وفي الصحاح هو سخاء في مروءة وإرادة الرفعة أرفع قدرا ولامه على هذا المعنى واو والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي عنه والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية
وهزي إليك أي إلى جهتك والهز تحريك يمينا وشمالا سواء كان بعنف أو لا أو تحريك بجذب ودفع وهو مضمن معنى الميل فلذا عدى بإلى أو أنه مجاز عنه أو اعتبر في تعديته ذلك لأنه جزء معناه كذا قيل
ومنع أبو حيان تعلقه بهزي وعلل ذلك بأنه قد تقرر في النحو أن الفعل لا يعدى إلى الضمير المتصل وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا عدم وهما لمدلول واحد فلا يقال : ضربتك وزيد ضربه على معنى ضربت نفسك وضرب نفسه والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا يقال : نظرت إليك وزيد نظر على معنى نظرت إلى نفسك ونظر إلى نفسه ومن هنا جعلوا على في قوله : هو عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها اسما كما في قوله :
غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها
وجعل الجار والمجرور هنا متعلقا بمحذوف أي أعني إليك كما قالوا في سقيا لك ونحوه مما جيء به للتبيين وأنت تعلم أنهم قالوا بمجيء إلى للتبيين لكن قال ابن مالك وكذا صاحب القاموس : إنها المبينة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل وما هنا ليس كذلك وقال في الإتقان : حكى ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري أن إلى
(16/83)
تستعمل اسما فيقال : انصرفت من إليك كما يقال غدوت من عليه وخرج عليه من القرآن وهزي إليك وبه يندفع أشكال أبي حيان فيه انتهى
وكان عليه أن يبين ما معناه على القول بالإسمية ولعلها حينئذ بمعنى عند فقد صرح بمجيئها بهذا المعنى في القاموس وأنشد : أم لا سبيل إلى الشباب وذكره أشهى إلي من الرحيق السلسل لكن لا يحلو هذا المعنى في الآية ومثله ما قيل أنها في ذلك اسم فعل ثم أن حكاية استعمالها اسما إذا صحت تقدح في قول أبي حيان : لا يمكن أن يدعى أن إلى تكون اسما لإجماع النحاة على حرفيتها ولعله أراد إجماع من يتعد به منهم في نظره والذي أميل إليه في دفع الإشكال أن الفعل مضمن معنى الميل والجار والمجرور متعلق به لا بالفعل الرافع للضمير وهو مغزى بعيد لا ينبغي أن يسارع إليه بالاعتراض على أن في القلب من عدم صحة نحو هذا التركيب للقاعدة المذكورة شيئا لكثرة مجيء ذلك في كلامهم ومنه قوله تعالى أمسك عليك زوجك والبيت المار آنفا وقول الشاعر : دع عنك نهبا صيح في حجراته ولكن حديثا ما حديث الرواعل وقولهم : أذهب إليك وسر عنك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع وتأويل جميع ما جاء لا يخلو عن تكلف فتأمل وأنصف ثم الفعل هنا منزل منزلة اللازم كما في قول ذي الرمة : فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلى فلذا عدي بالباء أي افعلي الهز بجذع النخلة فالباء للآلة كما في كتبت بالقلم وقيل هو متعد والمفعول محذوف والكلام على تقدير مضاف أي هزي الثمرة بهز جزع النخلة ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن هز الثمرة لا يخلو من ركاكة وعن المبرد أن مفعوله رطبا الآتي والكلام من باب التنازع وتعقب بأن الهز على الرطب لا يقع إلا تبعا فجعله أصلا وجعل الأصل تبعا حيث أدخل عليه الباء للإستعانة غير ملائم مع ما فيه من الفصل بجواب الأمر بينه وبين مفعوله ويكون فيه أعمال الأول وهو ضعيف لا سيما في هذا المقام
وما ذكر من التعكيس وارد على ما فيه التكلف وهو ظاهر وما قيل من أن الهز وإن وقع بالأصاله على الجذع لكن المقصود منه الثمرة فلهذه النكتة المناسبة جعلت أصلا لأن هز الثمرة ثمرة الهز لا يدفع الركاكة التي ذكرناها مع أن المفيد لذلك ما يذكر في جواب الأمر وجعل بعضهم بجذع النخلة في موضع الحال على تقدير جعل المفعول رطبا أو الثمرة أي كائنة أو كائنا بجذع النخلة وفيه ثمرة ما لا تسمن ولا تغني وقيل الباء مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقول الشاعر : هن الحرائر لأربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور والوجه الصحيح الملائم لما عليه التنزيل من غرابة التظم كما في الكشف هو الأول وقول الفراء : إنه يقال هزه وهز به إن أراد أنهما بمعنى كما هو الظاهر لا يلتفت إليه كما نص عليه بعض من يعول عليه تساقط من ساقطت بمعنى أسقطت والضمير المؤنث للنخلة ورجوع الضمير للمضاف إليه شائع ومن أنكره فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا
وجوز أبو حيان أي يكون الضمير للجذع لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله تعالى تلتقطه
(16/84)
بعض السيارة في قراءة من قرأ بالتاء الفوقية وقول الشاعر
كما شرقت صدر القناة من الدم
وتعقب بأنه خلاف الظاهر وإن صح وقرأ مسروق وأبو حيوة في رواية تسقط بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف وفي رواية أخرى عن أبي حيوة أنه قرأ كذلك إلا أنه بالياء من تحت وقوله تعالى عليك رطبا في جميع ذلك نصب على المفعولية وهو نضيج البسر واحدته بهاء وجمع شاذا على أرطاب كربع وأرباع وعن أبي حيوة أيضا أنه قرأ تسقط بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف وعنه أيضا كذلك إلا أنه بالياء من تحت فنصب رطبا على التمييز وروي عنه أنه رفعه في القراءة الأخيرة على الفاعلية
وقرأ ابو السمال تتساقط بتاءين وقرأ البراء بن عازب يساقط بالياء من تحت مضارع أساقط وقرأ الجمهور تساقط بفتح التاء من فوق وشد السين بعدها ألف وفتح القاف والنصب على هذه الثلاثة على التمييز أيضا
وجوز في بعض القراآت أن يكون على الحالية الموطئة وإذا أضمر ضمير مذكر على إحدى القراآت فهو للجذع وإذا أضمر ضمير مؤنث فهو للنخلة أوله على ما سمعت جنيا 52 أي مجنيا ففعيل بمعنى مفعول أي صالحا للإجتناء وفي القاموس ثمر جنى جنى من ساعته وعليه قيل المعنى رطبا يقول من يراه هو جنى وهو صفة مدح فإن ما يجنى أحسن مما يسقط بالهز وما قرب عهده أحسن مما بعد عهده وقيل فعيل بمعنى فاعل أي رطبا طريا وكان المراد على ما قيل إنه تم نضجه
وقرأ طلحة بن سليمان جنيا بكسر الجيم للإتباع ووجه التذكير ظاهر وعن ابن السيد أنه قال في شرح أدب الكاتب كان يحب أن يقال جنية إلا أنه أخرج بعض الكلام على التذكير وبعضه على التأنيث وفيه نظر روي عن ابن عباس أنه لم يكن للنخلة جذع ولم يكن لها رأس فلما هزته إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم اخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا ثم رطبا كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها وكان برنيا وقيل عجوة وهو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
والظاهر أنها لم تحمل سوى الرطب وقيل كان معه موز وروي ذلك عن أبي روق وإنما اقتصر عليه لغاية نفعه للنفساء فعن الباقر رضي الله تعالى عنه لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله تعالى أطعمه مريم في نفاسها فقالوا : ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل وقيل : المرأة إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب وذكر أن التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك وفي أمرها بالهز إشارة إلى أن السعي في تحصيل الرزق في الجملة مطلوب وهو لا ينافي التوكل وما أحسن ما قيل : ألم تر أن الله أوحى لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أحنى الجذع من غير هزه إليها ولكن كل شيء له سبب فكلي من ذلك الرطب واشربي من ذلك السرى وقيل : من عصير الرطب وكان في غاية الطراوة فلا يتم الاستدلال بذكر الشرب على تعين تغسير السري بالجدول وما ألطف ما أرشد إليه النظم الكريم من إحضار الماء أولا والطعام ثانيا ثم الأكل ثالثا والشرب رابعا فإن الاهتمام بالماء أشد من الاهتمام بالأكل لا سيما ممن يريد أن يأكل ما يحوج إلى الماء كالأشياء الحلوة الحارة والعادة قاضية بأن الأكل بعد الشرب ولذا قدم
(16/85)
الأكل على الشرب حيث وقع وقيل : قدم الماء لأنه أصل في النفع ونفعه عام للتنظيف ونحوه وقد كان جاريا وهو أظهر في إزالة الحزن وأخر الشرب للعادة وقيل قدم الأكل ليجاور ما يشاء كله وهو الرطب
والأمر قد يحتمل الوجوب والندب وذلك باعتبار حالها وقيل هو للإباحة وقري عينا وطيبي نفسا وارفضي عنها ما أحزنك وقريء بكسر القاف وهي لغة نجد وهم يفتحون عين الماضي ويكسرون عين المضارع وغيرهم يكسرهما وذلك من القر بمعنى السكون فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ويشهد له قوله تعالى تدور أعينهم من الحزن أو بمعنى البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ويشهد له قولهم قرة العين وسخنتها للمحبوب والمكروه وتسليتها عليها السلام بما تضمنته الآية من إجراء الماء وإخراج الرطب من حيث أنهما أمران خارقان للعادة فكأنه قيل لا تحزني فإن الله تعالى قدير ينزه ساحتك عما يختلج في صدور المتقيدين بالأحكام العادية بأن يرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك بما أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية وما يخرق العادات التكوينية وفرع على التسلية الأمر بالأكل والشرب لأن الحزين قد لا يتفرغ لمثل ذلك وأكد ذلك بالأمر الأخير ومن فسر السرى برفيع الشأن سامي القدر جعل التسلية بإخراج الرطب كما سمعت وبالسرى من حيث أن رفعة الشأن مما يتبعها تنزيه ساحتها فكأنه قيل لا تحزني فإن الله سبحانه قد أظهر لك ما ينزه ساحتك قالا وحالا
وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال : قال عيسى عليه السلام لها لا تحزني فقالت : كيف لا أحزن وأنت معي ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السلام : أنا أكفيك الكلام فإما ترين من البشر أحدا أي آدميا كائنا من كان وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه ابن الرومي ترئن بالإبدال من الياء همزة وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين
وقال الزمخشري : إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة ترين بسكون الياء وفتح النون خفيفة قال ابن جني : هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي : أما ترى رأسي أزري به مأس زمان ذي انتكاس مؤوس فقولي له إن استنطقك إني نذرت للرحمن صوما وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه صياما والمعنى واحد أي صمتا كما في مصحف عبد الله وقرأ به أنس بن مالك فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة وقيل إطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك وقال بعضهم : المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره وقد نهى النبي عنه فهو منسوخ في شرعنا كما ذكره الجصاص في كتاب الأحكام وروي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال : إن الإسلام هدم هذا فتكلمي
وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان
(16/86)
قربة في شرع من قبلنا فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشيء من قلة الإطلاع وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السلام خاصة فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال : كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم ما لصاحبك لم يسلم قال : إنه نذر صوما لا يكلم اليوم إنسيا فقال له ابن مسعود : بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإنه خير لك والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى فلن أكلم اليوم أنسيا 62 أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تتكلم إنسيا بغير هذا الإخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمنذور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته وقال فرقة : أمرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل : وهو الأظهر قال الفراء : العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام ويفهم من قوله تعالى أنسيا دون أحدا أن المراد فلن أكلم اليوم أنسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي وإنما أمرت عليها السلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بعيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن فأتت بها قومها تحمله أي جاءتهم مع ولدها حاملة إياه على أن الباء للمصاحبة ولو جعلت للتعدية صح أيضا والجملة في موضع الحال من ضمير مريم أو من ضمير ولدها وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها قيل : إنها حنت إلى الوطن وعلمت أن ستكفي أمرها فأتت به فلما دخلت عليهم تباكوا وقيل : هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام وجاء في رواية عن الحبر أنها لما انتبذت من أهلها وراء الجبل فقدوها من محرابها فسألوا يوسف عنها فقال : لا علم لي بها وإن مفتاح باب محرابها عند زكريا فطلبوا زكريا وفتحوا الباب فلم يجدوها فاتهموه فأخذوه ووبخوه فقال رجل : إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقعق في رأس الجذع الذي هي من تحته فانطلقوا إليه فلما رأتهم قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به ثم كان ما كان فظاهر الآية والأخبار أنها جاءتهم به من غير طلب منهم وقيل : أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك وكان الشيطان قد أخبرهم بولادتها فحضرت إليهم به فلما رأوهما قالوا يا مريم لقد جئت فعلت شيئا فريا 72 قال قتادة : عظيما وقيل : عجيبا وأصله من فرى الجلد قطعه على وجه الإصلاح أو الإفساد وقيل : من أفراه كذلك واختير الأول لأن فعيلا إنما يصاغ قياسا من الثلاثي وعدم التفرقة بينه وبين المزيد في المعنى هو الذي ذهب إليه صاحب القاموس
وفي الصحاح عن الكسائي أن الفرى القطع على وجه الإصلاح والإفراء على وجه الإفساد وعن الراغب مثل ذلك وقيل الإفراء عام وأيا ما كان فقد استعير الفرى لما ذكر في تفسيره وفي البحر أنه يستعمل في العظيم من الأمر شرا أو خيرا قولا أو فعلا ومنه في وصف عمر رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه وفي المثل جاء يفري الفرى ونصب شيئا على أنه مفعول به وقيل على أنه مفعول مطلق أي لقد جئت مجيئا عجيبا وعبر عنه بالشيء تحقيقا للإستغراب
(16/87)
وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية فريا بسكون الراء وفيما نقل ابن خالويه فرأ بالهمزة يا أخت هارون استئناف لتجديد التعبير وتأكيد التوبيخ وليس المراد بهرون أخا موسى بن عمران عليهما السلام لما أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني وابن حبان وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله إلى أهل نجران فقال : أرأيت ما تقرأون يا أخت هرون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة و السلام فقال : ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم بل هو على ما روي عن الكلبي أخ لها من أبيها وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : هو رجل صالح في بني إسرائيل وروي عنه أنه قال ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا من بني إسرائيل كلهم يسمى هرون والأخت على هذا بمعنى المشابهة وشبهوها تهكما أو لما رأوا قبل من صلاحها وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه رجل طالح فشبهوها شتما لها وقيل : المراد هرون أخو موسى عليهما السلام وأخرج ذلك ابن أبي حاتم أيضا عن السدي وعلي بن أبي طلحة وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة فوصفوها بالأخوة لكونها وصف أصلها وجوز أن يكون هرون مطلقا على نسله كهاشم وتميم والمراد بالأخت أنها واحدة منهم كما يقال أخا العرب وهو المروي عن السدي
ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا 92 تقرير لكون ما جاءت به فريا أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش وفيه دليل على أن الفروع غالبا ما تكون زاكية إذا زكت الأصول وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك وقرأ عمر بن بجاء التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريرا ما كان أباك امرؤ سوء بجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة وحسن ذلك قليلا وجود مسوغ الابتداء فيها وهو الإضافة
فأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أن كلموه قال شيخ الإسلام : والظاهر أنها بينت حينئذ نذرها وأنها بمعزل من محاورة الإنس حسبما أمرت ففيه دلالة على أن المأمور به بيان نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمع بينهما مما لا عهد به قالوا منكرين لجوابها وفي بعض الآثار أنها لما أشارت إليه كلموه قالوا : استخفافها بنا أشد من زناها وحاشاها ثم قالوا : كيف نكلم من كان في المهد صبيا 92 قال قتادة : المهد حجر أمه وقال عكرمة : المرباة أي المرجحة وقيل : سريره وقيل : المكان الذي يستقر عليه واستشكلت الآية بأن كل من يكلمه الناس كان في المهد صبيا قبل زمان تكليمه فلا يكون محلا للتعجب والإنكار
وأجاب الزمخشري عن ذلك بوجهين الأول أن كان الإيقاع مضمون لجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة والدال عليه أن الكلام مسوق للتعجب فيكون المعنى كيف نكلم من كان بالأمس وقريبا منه هذا الوقت في المهد وغرضهم من ذلك استمرار حال الصبي به ولم يبرح بعد عنه ولو قيل : من هو في المهد لم يكن فيه تلك الوكادة من حيث السابق كالشاهد على ذلك ومن على هذا موصولة يراد بها عيسى عليه السلام الثاني أن يكون نكلم حكاية حال ماضية ومن موصوفة والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي ما كلمناهم إلى الآن حتى نكلم هذا وفي العدول عن الماضي إلى الحال إفادة التصوير والاستمرار وهذا كما في الكشف وجه حسن ملائم
(16/88)
وقال أبو عبيدة : كان زائدة لمجرد التأكيد من غير دلالة على الزمان صبيا حال مؤكدة والعامل فيها الاستقرار فقول ابن الأنباري إن كان نصبت هنا الخبر والزائدة لا تنصبه ليس بشيء والمعنى كيف نكلم من هو في المهد الآن حال كونه صبيا وعلى قول من قال : إن كان الزائدة لا تدل على حدث لكنها تدل على زمان ماض مقيد به ما زيدت فيه كالسيرافي لا يندفع الإشكال بالقول بزيادتها
وقال الزجاج : الأجود أن تكون من شرطية لا موصولة ولا موصوفة أي من كان في المهد فكيف نكلمه ولا يخفى بعده قال استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل : قال عيسى عليه السلام إني عبد الله روي أنه عليه السلام كان يرضع فلما سمع ما قالوا ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته فقال ما قال وقيل إن زكريا عليه السلام أقبل عليه يستنطقه فقال ذلك وذكر عبوديته لله تعالى أولا لأن الاعتراف بذلك على ما قيل أول مقامات السالكين وفيه رد على من يزعم ربوبيته وفي جميع ما قال تنبيه على براءة أمه لدلالته على الاصطفاء والله سبحانه أجل من أن يصطفي ولد الزنا وذلك من المسلمات عندهم وفيه من إجلال أمه عليهما السلام ما ليس في التصريح وقيل لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بما ذكر إلا مبرأة مصطفاة
واختلف في أنه بعد أن تكلم بما ذكر هل بقي يتكلم كعادة الرجال أو لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان وعده عليه السلام في عداد الذين تكلموا في المهد ثم لم يتكلموا إلى وقت العادة ظاهر في الثاني ءاتاني الكتاب الظاهر أنه الإنجيل وقيل التوراة وقيل مجموعهما وجعلني نبيا 03 وجعلني مع ذلك مباركا قال مجاهد نفاعا ومن نفعه إبراء الأكمه والأبرص وقال سفيان : معلم الخير آمر بالمعروف ناهيا عن المنكر وعن الضحاك قاضيا للحوائج والأول أولى لعمومه والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة كالذي وقع وقيل أكمله الله تعالى عقلا واستنبأه طفلا وروي ذلك عن الحسن
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه وذلك قوله آتاني الكتاب أين ما كنت أي حيثما كنت وفي البحران هذا شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركا وحذف لدلالة ما تقدم عليه ولا يجوز أن يكون معمولا لجعلني السابق لأن أين لا تكون إلا استفهاما أو شرطا والأول لا يجوز هنا فتعين الثاني واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله وإنما هو معمول للفعل الذي يليه
وأوصاني بالصلاة والزكاة أي أمرني بالزكاة زكاة الفطر وقيل المراد بالصلاة الدعاء وبالزكاة تطهير النفس عن الرذائل ويتعين هذا في الزكاة على ما نقل عن ابن عطاء الله وإن كان منظورا فيه من أنه لا زكاة على الأنبياء عليهم السلام لأن الله تعالى نزههم عن الدنيا فما في أيديهم لله تعالى ولذا لا يورثون أو لأن الزكاة
(16/89)
تطهير وكسبهم طاهر وقيل لا يتعين لأن ذلك أمر له بإيجاب الزكاة على أمته وهو خلاف الظاهر وإذا قيل بجعل الزكاة على الظاهر فالظاهر أن المراد أوصاني بأداء زكاة المال إن ملكته فلا مانع من أن يشمل التوقيت بقوله سبحانه ما دمت حيا 13 مدة كونه عليه السلام في السماء ويلتزم القول بوجوب الصلاة عليه عليه الصلاة و السلام هناك كذا قيل
وأنت تعلم أن الظاهر المتبادر من المدة المذكورة مدة كونه عليه الصلاة و السلام حيا في الدنيا على ما هو المتعارف وذلك لا يشمل مدة كونه عليه السلام في السماء ونقل ابن عطية أن أهل المدينة وابن كثير وأبا عمرو قرأوا دمت بكسر الدال ولم نجد ذلك لغيره نعم قيل إن ذلك لغة وبرا بوالدتي عطف على مباركا على ما قال الحوفي وأبو البقاء وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا للفصل بالجملة ومتعلقها اختار إضمار فعل أي وجعلني بارا بها قيل هذا كالصريح في أنه عليه السلام لا والد له فهو أظهر الجمل في الإشارة إلى براءتها عليها السلام وقريء برا بكسر الباء ووجه نصبه نحو ما مر في القراءة المتواترة وجعل ذاته عليه السلام برا من باب فإنما هي إقبال وإدبار وجوز أن يكون النصب بفعل في معنى أوصاني أي وألزمني أو وكلفني برا فهو من باب
علفتها تبنا وماء باردا
وأقرب منه على ما في الكشف لأنه مثل زيدا مررت به في التناسب وإن لم يكن من بابه
موجوز أن يكون معطوفا على محل بالصلاة كما قيل في قراءة أرجلكم بالنصب وقيل إن أوصى قد يتعدى المفعول الثاني بنفسه كما وقع في البخاري أوصيناك دينا واحدا والظاهر أن الفعل في مثل ذلك مضمن معنى ما يتعدى بنفسه وحكى الزهراوي وأبو البقاء أنه قريء وبر بكسر الباء والراذ وهو معطوف على الصلاة والزكاة قولا واحدا والتكير للتفخيم ولم يجعلني جبارا شقيا 23 أي لم يقض علي سبحانه بذلك في علمه الأزلي وقد كان عليه السلام في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ولم يتخذ مسكنا وكان عليه السلام يقول : سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا 33 تقدم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر فتذكر فما في العهد من قدم والأظهر بل الصحيح أن التغريب للجنس جيء به تعريضا باللعنة على متهمي مريم وأعدائها عليها السلام من اليهود فإنه إذا قال جنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم ونظيره قوله تعالى والسلام على من اتبع الهدى يعني أن العذاب على من كذب وتولى وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو من التعريض والقول بأنه لتعريف العهد خلاف الظاهر بل غير صحيح لا لأن المعهود سلام يحيى عليه الصلاة و السلام وعينه لا يكون سلاما لعيسى عليه الصلاة و السلام لجواز أن يكون من قبيل هذا الذي رزقنا من قبل بل لأن هذا الكلام منقطع عن ذلك وجودا وسدرا فيكون معهودا غير سابق لفظا ومعنى على أن المقام يقتضي التعريض ويفوت على ذلك التقدير لأن التقابل إنما ينشأ من اختصاص جميع السلام به عليه كذا في الكشف والاكتفاء في العهد به لتصحيحه بذكره في الحكاية لا يخفى حاله
(16/90)
وسلام يحيى عليه السلام قيل لكونه من قول الله تعالى أرجح من هذا السلام لكونه من قول عيسى عليه السلام وقيل هذا أرجح لما فيه من إقامة الله تعالى إياه في ذلك مقام نفسه مع إفادة اختصاص جميع السلام به عليه السلام فتأمل
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما يوم ولدت بتاء التأنيث وإسناد الفعل إلى والدته ذلك إشارة إلى من فصلت نعوته الجليلة وفيه إشارة إلى علو رتبته وبعد منزلته وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن عن غيره ونزوله منزلة المحسوس المشاهد وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : عيسى وقوله سبحانه : ابن مريم صفة عيسى أو خبر بعد خبر أو بدل أو عطف بيان والأكثرون على الصفة والمراد ذلك هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني حيث جعل موصوفا بأضداد ما يصفونه كالعبودية لخالقه سبحانه المضادة لكونه عليه السلام إلها وابنا لله عز و جل فالحصر مستفاد من فحوى الكلام وقيل : هو مستفاد من تعريف الطرفين بناء على ما ذكره الكرماني من أن تعريفهما مطلقا يفيد الحصر وهو على ما في بعض شروح الكشاف وقيل استفادته من التعريف على ما ذكروه أيضا بناء على أن عيسى مؤول بالمعرف باللام أي المسمى بعيسى وهو كما ترى فعليك بالأول
قول الحق نصب على المدح والمراد بالحق الله تعالى وبالقول كلمته تعالى وأطلقت عليه عليه السلام بمعنى أنه خلق بقول كن من غير أب وقيل : نصب على الحال من عيسى والمراد بالحق والقول ما سمعت
وقيل : نصب على المصدر أي أقول قول الحق وقيل : هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة منصوب بأحق محذوفا وجوبا وقال شيخ الإسلام : هو مصدر مؤكد لقال إني عبد الله إلخ وقوله سبحانه ذلك عيسى ابن مريم اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وفيه بعد و الحق في الأقوال الثلاثة بمعنى الصدق والإضافة عند جمع بيانية وعند أبي حيان من إضافة الموصوف إلى الصفة
وقرأ الجمهور قول بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه والضمير المقدر للكلام السابق أو لتمام القصة وقيل : صفة لعيسى أو بدل من أو خبر بعد خبر لذلك أهو الخبر وعيسى بدل أو عطف بيان والمراد في جميع ذلك كلمة الله تعالى وقرأ ابن مسعود قال الحق وقال الله برفع قال فيهما
وعن الحسن قول الحق بضم القاف واللام والقول والقال والقول بمعنى واحد كالرهب والرهب والرهب ونص أبو حيان على أنها مصادر وعن ابن السكيت القال وكذا القيل اسم لا مصدر وقرأ طلحة والأعمش في رواية قال الحق برفع لام قال على أنه فعل ماض ورفع الحق على الفاعلية وجعل ذلك عيسى ابن مريم على هذا مقول القول أي قال الله تعالى ذلك الموصوف بما ذكر عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون 43 أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود : هو ساحر وحاشاه ويقول النصارى : ابن الله سبحان الله عما يقولون
والموصول صفة القول أو الحق أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي إلخ وذلك بحسب اختلاف التفسير والقراءة وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي
(16/91)
كذلك تمترون بتاء الخطاب
ما كان الله أن يتخذ من ولد سبحانه أي ما صح وما استقام له جل شأنه اتخاذ ذلك وهو تكذيب للنصارى وتنزيه له عز و جل عما افتروه عليه تبارك وتعالى وقوله جل وعلا إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون 53 تبكيت له ببيان أن شأنه إذا قضى أمرا من الأمور أو يوجد بأسرع وقت فمن يكون هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وهو من أمارات الاحتياج والنقص وقرأ ابن عامر فيكون بالنصب على الجواب وقوله تعالى وإن الله ربي وربكم فاعبدوه عطف على ما قال الواحدي على قوله إني عبد الله فهو من تمام قول عيسى عليه السلام تقريرا لمعنى العبودية والآيتان معترضتان ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقرأ أبي بغير واو
والظاهر أنه على هذا بتقدير خطابا لسيد المخاطبين أي قل يا محمد إن الله إلخ وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأن بالواو وفتح بالهمزة وخرجه الزمخشري على حذف حرف الجر وتعلقه باعبدوه أي ولأنه تعالى ربي وربكم فاعبدوه وهو كقوله تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وهو قول الخليل وسيبويه
وأجاز الفراء أن يكون أن وما بعدها في تأويل مصدر عطفا على الزكاة أي وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم إلخ وأجاز الكسائي أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله ربي وربكم
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه عطف على أمرا من قوله تعالى إذا قضى أمرا أي إذ قضى أمرا وقضى أن الله ربي وربكم وهو تخبيط في الإعراب فلعله لا يصح عن أبي عمرو فإنه من الجلالة في علم النحو بمكان وقيل : إنه عطف على الكتاب وأكثر الأقوال كما ترى وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه أيضا وبأن بالواو وباء الجر وخرجه بعضهم بالعطف على الصلاة أو الزكاة وبعضهم بأنه متعلق باعبدوه أي بسبب ذلك فاعبدوه والخطاب إما لمعاصري عيسى عليه السلام وإما لمعاصري نبينا هذا أي ما ذكر من التوحيد صراط مستقيم 63 لا يضل سالكه وقوله تعالى فاختلف الأحزاب من بينهم لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيها على سوء صنيعهم بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشأ للإختلاف فإن ما حكي من مقالات عيسى عليه السلام مع كونها نصوصا قاطعة في كونه عبد الله تعالى ورسوله وقد اختلف اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط فالمراد بالأحزاب اليهود والنصارى وهو المروي عن الكلبي ومعنى من بينهم أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين و بين ظرف استعمل اسما بدخول من عليه
ونقل في البحر القول بزيادة من وحكى أيضا القول بأن البين هنا بمعنى البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق فتكون سببية ولا يخفى بعده وقيل : المراد بالأحزاب فرق النصارى فإنهم اختلفوابعد رفعه عليه السلام فيه فقال : نسطور هو ابن الله تعالى عن ذلك أظهره ثم رفعه وقال يعقوب : هو الله تعالى هبط ثم صعد وقالملكا : هو عبد الله تعالى ونبيه وفي الملل والنحل أن الملكانية قالوا : إن الكلمة يعني أقنوم العلم اتحدت بالمسيح عليه السلام وتدرعت بناسوته
وقال أيضا : إن المسيح عليه السلام ناسوت كلي لا جزيئ وهو قديم وقد ولدت مريم إلها قديما أزليا
(16/92)
والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا وقد قدمنا من أمر النصارى ما فيه كفاية فليتذكر وقيل المراد بهم المسلمين واليهود والنصارى
وعن الحسن أنهم الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما قص عليهم قصة عيسى عليه السلام اختلفوا فيه من بين الناس قيل : إنهم مطلق الكفار فيشمل اليهود والنصارى والمشركين الذين كانوا فس زمن نبينا صلى الله عليه و سلم وغيرهم ورجحه الأمام بأنه لا مخصص فيه ورجح القول بأنهم أهل الكتاب بأن ذكر الاختلاف عقيب قصة عيسى عليه السلام يقضي ذلك ويؤيده قوله تعالى فويل للذين كفروا فالمراد بهم الأحزاب المختلفون وعبر عنهم بذلك إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم وإذا قيل بدخول المسلمين أو الملكانية وقيل : إنهم قالوا بأنه عليه السلام عبد الله ونبيه في الأحزاب فالمراد من الذين كفروا بعض الأحزاب أى فويل للذين كفروا منهم من مشهد يوم عظيم
37
- أي من مشهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة أو من وقت شهوده أو مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد الملائكة والأنبياء عليهم السلام وألسنتهم وسائر جوارحهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها
وقيل : هو ماشهدوا به في حق عيسى عليه السلام وأمه وعظمه لعظم ما فيه أيضا كقوله تعالى كبرت كلمة تخرج من افواههم وقيل هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وهو كما ترى والحق أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة اسمع بهم وابصر تعجيب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما وعميا
وروى ذلك عن الحسن وقتاده وقال علي بن عيسى : هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ويبصرون ما يسود وجوههم وعن أبي العالية أنه أمر حقيقة للرسول صلى الله عليه و سلم بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه والجار والمجرور على الأولين في موضع الرفع على القول المشهور وعلى الأخير في محل نصب لأن اسمع أمر حقيقي وفاعله مستتر وجوبا وقيل : في التعجب أيضا إنه كذلك والفاعل ضمير المصدر لكن الظالمون اليوم أي في الدنيا في ضلال مبين
38
- لا يدرك غايته حيث اغفلوا الأستماع والنظر بالكلية ووضع الظالمين موضع الضمير للايذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم
والأستدراك على ما نقل عن أبي العالية يتعلق بقوله تعالى فويل للذين كفروا وانذرهم أي الظالمين على ما هو الظاهر وقال أبو حيان : الضمير لجميع الناس أي خوفهم يوم الحسرة يوم يتحسر الظالمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى وقيل : الناس قاطبة وتحسر المحسنين على قلة إحسانهم إذ قضى الأمر أي فرغ من الحساب وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وذبح الموت ونودى كل من الفريقين بالخلود
وعن السدى وابن جريح الاقتصار على ذبح الموت وكان ذلك لما روى الشيخان والترمذي
عن ابي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد
(16/93)
رأوه ثم ينادي مناد يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا فيقولون نعم : هذا الموت وكلهم قد رأوه فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وأنذرهم الآية
وفي روايه عن ابن مسعود أن يوم الحسرة حين يرى الكفار مقاعدهم من الجنة لو كانوا مؤمنين وقيل : حين يقال لهم وهم في النار اخسؤا فيها ولا تكلمون وقيل : حين يقال امتازوا اليوم أيها المجرمون
وقال الضحاك : ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشر وقيل : المراد بذلك يوم القيامة مطلقا وروى ذلك عن ابن زيد وفيه حسرات في مواطن عديدة ومن هنا قيل : المراد بالحسرة جنسها فيشمل ذلك حسرتهم فيما ذكر وحسرتهم عند أخذ الكتب بالشمائل وغير ذلك والمراد بقضاء الأمر الفراغ من أمر الدنيا بالكلية ويعتبر وقت ذلك ممتدا وقيل : المراد بيوم الحسرة يوم القيامة كما روى عن ابن زيد إلا أن المراد بقضاء الأمر الفراغ مما يوجب الحسرة وجوز ابن عطية أن يراد بيوم الحسرة ما يعم يوم الموت
وأنت تعلم أن ظاهر الحديث السابق وكذا غيره كما لا يخفى على المتتبع قاض بأن يوم الحسرة يوم يذبح الموت وينادى بالخلود ولعل التخصيص لما أن الحسرة يومئذ اعظم الحسرات لأنه هناك تنقطع الآمال وينسد باب الخلاص من الأهوال ومن غريب ما قيل : إن المراد بقضاء المر سد باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها وليس بشيئ و اذ على سائر الأقوال بدل من يوم او متعلق بالحسرة والمصدر المعرف يعمل بالمفعول الصريح عند بعضهم فكيف بالظرف وقوله تعالى وهم في غفلة وهم لا يؤمنون
39
- قال الزمخشرى : متعلق بقوله تعالى شأنه في ضلال مبين عن الحسن ووجه ذلك بأن الجملتين في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين واستظهر في الكشف العطف على قوله تعالى : الظالمون في ضلال مبين أي هم في ضلال وهم في غفلة وعلى الوجهين تكون جملة أنذرهم معترضة والواو اعتراضية ووجه الاعتراض أن الانذار مؤكد ما هم فيه من الغفلة والضلال وجوز أن يكون ذلك متعلقا بأنذارهم على أنه حال من المفعول أي انذرهم غافلين غير مؤمنين بأنه لا يلائم قوله تعالى : إنما انت منذر من يخشاها وقال في الكشف : أنه غير وارد لأن ذلك بالنسبة إلى النفع وهذا بالنسبة إلى تنبيه الغافل لبيان أن النفع في الآخرة وهذه وظيفة الأنبياء عليهم السلام عن آخرهم ثم لو سلم لا مناقضة كما في قوله تعالى : وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين كيف وقد تكرر هذا المعنى في القرآن إلى قوله تعالى لتنذر قوما ماانذر اباؤهم فهم غافلون وأما إن قوله سبحانه : وهم لا يؤمنون نفي مؤكد يشتمل على الماضية والآتية فلا يسلم لو حعل حالا ولو سلم فقد علم جوابه مما سبق وما على الرسول إلا البلاغ
نعم لا نمنع أن الوجه الأول ارجح وأشد طباقا للمقام وحاصل المعنى على الأخير أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها للانذار إنا نحن نرث الأرض ومن عليها لا يبقى لاحد غيره تعالى ملك ولا ملك فيكون كل ذلك له تعالى استقلالا ظاهرا وباطنا دون ما سواه وينتقل اليه سبحانه انتقال الموروث من المورث إلى الوارث وهذا كقوله تعالى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار أو نتوفى الأرض ومن عليها
(16/94)
بالافناء والاهلاك توفى الوارث لارثه واستيفائه إياه وإلينا يرجعون
40
- أي يردون إلى الجزاء لا إالى غيرنا استقلالا او اشتراكا وقرأ الأعرج ترجعون بالتاء الفوقية وقرأ السلمى وابن اسحق وعيسى بالياء التحتية مبنيا للفاعل وحكى عنهم الدانى أنهم قرؤا بالتاء الفوقية والله تعالى أعلم
ومن باب الأشارة في الآيات كهيعص هو وامثاله على الصحيح سر من أسرار الله تعالى وقيل في وجه افتتاح هذه السورة به : إن الكاف اشارة إلى الكافى الذي اقتضاه حال ضعف زكريا عليه السلام وشيخوخته وعجزه والهاء اشارة إلى الهادي الذي لقتضله عنايته سبحانه به واراءة مطلوبه له والياء اشارة إلى الواقى الذي اقتضاه حال خوفه من الموالى والعين اشارة إلى العالم الذي اقتضاه اظهاره لعدم الأسباب والصاد اشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد والأشارة في القصتين اجمالا إلى أن الله تعالى شأنه يهب بسؤال وغير سؤال وطبق بعض أهل التأويل ما فيهما علي ما في الانفس فتكلفوا وتعسفوا وفي نذر الصوم والمراد به الصمت اشارة إلى ترك الانتصار للنفس فكأنه قيل لها عليها السلام : اسكتى ولا تنتصري فان في كلامك وانتصارك لنفسك مشقة عليك وفي سكوتك اظهار ما لنا فيك من القدرة فلزمت الصمت فلما علم الله سبحانه صدق انقطاعها اليه أنطق جل وعلا عيسى عليه السلام ببراءتها وذكر أنه عليه السلام طوى كل وصف جميل في مطاوى قوله إني عبد الله وذلك لما قالوا من أنه لا يدعى احد بعبد الله إلا إذا صار مظهرا لجميع الصفات الالهية المشير اليها الأسم الجليل وجعل على هذا قوله آتاني الكتاب الخ كالتعليل لهذه الدعوى وذكروا أن العبد مضاغا إلى ضميره تعالى ابلغ مدحا مما ذكر وان صاحب ذلك المقام هو نبينا صلى الله عليه و سلم وكأن مرادهم أن العبد مضافا إلى ضميره سبحانه كذلك إذا لم يقرن بعلم كعبده زكريا والافدعوى الأختصاص لانتم فليتدبر
وذكر ابن عطاء في قوله تعالى ولم يجعلني جبارا شقيا أن الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا ينتصح نعوذ بالله سبحانه من أن يجعلنا كذلك واذكر عطف على أنذرهم عند أبي السعود وقيل : على اذكر السابق ولعله الظاهر في الكتاب أي هذه السورة او في القرآن ابراهيم أي اتل على الناس قصته كقوله تعالى واتل عليهم نبأ ابراهيم والافذاكر ذلك في الكتاب هو الله تعالى كما في الكشاف وفيه أنه عليه الصلاة و السلام لكونه الناطق عنه تعالى ومبلغ اوامره ونواهيه وأعظم مظاهره سبحانه ومجاليه كأنه الذاكر في الكتاب ما ذكره ربه جل وعلا ومناسبة هذه الآية لما قبلها اشتمالها على تضليل من نسب الالوهية إلى الجماد اشتمال ما قبلها على ما اشار إلى تضليل من نسبها إلى الحي والفريقان وان اشتركا في الضلال إلا أن الفريق الثاني اضل
ويقال على القول الأول في العطف إن المراد انذرهم ذلك واذكر لهم قصة ابراهيم عليه السلام فانهم ينتمون اليه صلى الله عليه و سلم فعساهم باستماع قصته يقلعون عماهم فيه من القبائح إنه كان صديقا أي ملازم الصدق لم يكذب قط نبيا
41
- استنبأه الله تعالى وهو خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي كان جامعا بين الوصفين
ولعل هذا الترتيب للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنبوة فان كان نبي صديق وقيل : الصديق من صدق بقوله واعتقاده وحقق صجقه بفعله وفي الكشاف الصديق من أبنية المبالغة والمراد فرط
(16/95)
صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبيا في نفسه كقوله تعالى بل جاء بالحق وصدق المرسلين أو كان بليغا في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله تعالى بآياته ومعجزات حرى أن يكون كذلك انتهى
وفيه اشارة إلى أن المبالغة تحتمل أن تكون باعتبار الكم وأطن تكون باعتبار الكيف ولك أن تريد الأمرين لكون المقام مقام المدح والمبالغة وقد ألم بذلك الراغب وأما أن التكثير باعتبار المفعول كما في قطعت الحبال فقد عده في الكشف من الاغلاط فتأمل واستظهر أنه من الصدق لا من التصديق وأيد بأنه قرئ انه كان صادقا وبأنه قلما يوجد فعيل من مفعل والكثير من فاعل وفسر بعضهم النبي هنا برفيع القدر عند الله تعالى وعند الناس
والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فان وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره وهي على ما قيل اعتراض بين المبدل منه وهو ابراهيم والبدل وهو اذ في قوله تعالى إذ قال وتعقبه صاحب الفرائد بأن الأعتراض بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيد عن الطبع وفيه منع ظاهر في البحر أن بدلية إذ من ابراهيم تقتضي تصرفها والأصح انها لا تتصرف وفيه بحث وقيل : إذ ظرف لكان وهو مبني على أن كان الناقصة واخواتها تعمل في الظروف وهي مسئلة خلافيه وقيل ظرف لنبينا أي منبئ في وقت قوله لأبيه وتعقب بأنه يقتضي أن الأستنباء كان في ذلك الوقت وقيل : ظرف لصديقا وفي البحر لا يجوز ذلك لأنه قد نعت الاعلى رأى الكوفيين وفيه أن نبيا خبر كما ذكرنا لانعت نعم تقييد الصديقية بذلك الوقت لا يخلو عن شئ
وقيل ظرف لصديقا نبيا وظاهره أنه معمول لهما معا وفيه أن توارد عاملين على معمول واحد غير جائز على الصحيح والقول بأنهما جعلا بتأويل اسم واحد كتأويل حلو حامض بمز أي جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء عليهم السلام حين خاطب اباه لايخفى ما فيه والذي يقتضيه السياق ويشهد به الذوق البدلية وهو بدل اشتمال وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مرارا فتذكر
يا أبت أي يا أبي فان التاء عوض من ياء الأضافه ولذلك لايجمع بينهما إلا شذوذا كقوله : يا أبتي ارقني القذان والجمع في يا أبتا قيل بين عوضين وهو جائز كجمع صاحب الجبيرة بين المسح والتيمم وهما عوضان عن الغسل وقيل المجموع فيه عوض وقيل : الألف للاشباع وانت تعلم حال العلل النحوية
وقرأ ابن عامر والأعرج وابو جعفر يا أبت بفتح التاء وزعم هارون أن ذلك لحن والحق خلافه وفي مصحف عبد الله واأبت بوا بدل ياء والنداء بها في غير الندبه قليل وناداه عليه السلام بذلك استعطافاله
وأخرج أبو نعيم والدليمي عن انس مرفوعا حق الوالد على ولده أن لا يسميه إلا بما سمى ابراهيم به اباه يا أبت ولا يسميه باسمه وهذا ظاهر في أنه كان اباه حقيقة وصحح جمعه أنه كان عمه واطلاق الأب عليه مجاز لم تعبد مالا يسمع ثناءك عليه عند عبادتك له وجؤارك اليه ولا يبصر خضوعك وخشوعك بين يديه اولا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا وما موصولة وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ولا يغنى أي لا يقدر على أن يغنى عنك شيئ
42
(16/96)
من الأشياء أو شيئا من الأغناء فهو نصب على المفعولية أتو المصدرية ولقد سلك عليه السلام في دعوته احسن منهاج واحتج عليه ابد احتجاج بحسن ادب وخلق ليس له من هاج لئلا يركب متن المكابرة والعناد ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاعل ويأبى الركون اليه فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع انها لا تحق إلا لمن له الأستغناء التام والأفعام العام الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيئ لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على النفع والضر لكن كان ممكنا لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان اشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من اوصاف الأحياء عين ولا اثر
ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الالهى مستقلا بالنظر السوى مصدرا لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال يا أبت إني قد جاءني من العلم مالم يأتك ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في اقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل ابرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف باحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال فاتبعني اهدك صراطا سويا
43
- أي مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منحنيا عن الضلال المؤدي إلى مهاوى الردى والمعاطب وقوله جاءني ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبئ عليه السلام والذي جاءه قيل العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على اتم وجه واكمله وقيل : العلم بامور الآخرة وثوابها وعقابها وقيل : العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فانه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال : يا أبت لا تعبد الشيطان فان عبادتك الأصنام عبادة له إذ هو الذي يسولها ويغريك عليها
وقوله ان الشيطان كان للرحمن عصيا
44
- تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على من شملتك رحمته وعمتك نعمته ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه وللاشارة إلى هذا المعنى جئ بالرحمن وفيه أيضا إشارة إلى كمال شناعة عصيانه وفي الاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها او لأنه نتيجة معادته لآدم عليه السلام فتذكيره داع لأبيه عن الأحتراز عن موالاته وطاعته والأظهار في موضع الاضمار لزيادة التقرير
وقوله : يا ابت اني اخاف أن يمسك عذاب من الرحمن تحذير من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونه أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف ومن هنا قيل : إن في اختياره مجامله وحملة الفراء والطبري على العلم وليس بذاك وتنوين عذاب على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيئ منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى لمسكم فيه افضتم فيه عذاب عظيم ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشداه
(16/97)
واختار اب السعود أنه للتعظيم وقال : كلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكده لما افاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخافة الأضافية واظهار الرحمن للاشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عز و جل ما غرك بربك الكريم انتهى وفي الكشف أن الحمل على التفخيم في عذاب كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام أي لأنه مقام اظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة وإنما قال من الرحمن لقوله اولا كان للرحمن عصيا وللدلالة على أنه ليس على وجه الأنتقام بل ذلك أيضا رحمه من الله تعالى على عبادة وتنبيه على سبق الرحمه الغضب وان الرحمانية لاتنافي العذاب بل الرحيمية على ما عليه الصوفية فقد قال المحقق القونوي في تفسير الفاتحة الرحيم كما بينا لأهل اليمين والجمال والرحمن الجامع بين اللطف والقهر لأهل الق 1 ضية الاخرى والجلال إلى آخر ما قال وأيد الحمل على التفخيم بقوله فتكون للشيطان وليا
45
- أي قرينا تليه ويليك في العذاب فان الولاية للشيطان بهذا المعنى إنما تترتب على مس العذاب العظيم وأجيب عن كون المقام مقام اظهار مزيد الشفقة وهو يأبى ذلك بأن القسوة احيانا من الشفقة أيضا كما قيل : فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس احيانا على من يرحم وقد تقدم هذا مع ابيات أخر بهذا المعنى ويكفي في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق والمس وان كان مشعرا بالقلة عند الجلة لكن قالوا : إن الكثرة والعظمة باعتبار ما يلزمة ويتبعه لا بالنظر اليه في نفسه فانه غير مقصود بالذات وإنما هو كالذوق مقدمة للمقصود فيصح وصفه بكل من الأمرين باعتبارين وكاني بك تختار التفخيم لأنه أنسب بالتخويف وتدعى أنه ههنا من معدن الشفقة فتدبر وجوز أن يكون فتكون الخ مترتبا على مس العذاب القليل والولي من الموالاة وهي المتابعة والمصادقة والمراد تفريع الثبات على حكم تلك الموالاة وبقاء آثارها من سخط الله تعالى وغضبه ولا مانع من أن يتفرع من قليل أمر عظيم ثم الظاهر أن المراد بالعذاب عذاب الآخره وتأوله بعضهم بعذاب الدنيا واراد به الخذلان أو شيئا أخر مما اصاب الكفرة في الدنيا من أنواع البلاء وليس بذاك وزعم بعضهم أن في الكلام تقديما وتاخير والأصل إني اخاف أن تكون وليا للشيطان أي تابعا له في الدنيا فيمسك عذاب من الرحمن أي في العقبى وكانه اشكل عليه أمر التفريع فاضطر لما ذكر وقد اغناك الله تعالى عن ذلك بما ذكرنا قال استئناف مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا قال ابوه عندما سمع منه عليه السلام هذه النصائح الواجبه القبول فقيل قال مصرا على عناده مقابلا الأستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة : اراغب انت عن الهتى يا ابراهيم اختار الزمخشري كون راغب خبر مقدما وأنت مبتدأ وفيه توجيه الأنكار إلى نفس الرغبه مع ضرب من التعجيب وذهب أبو البقاء وابن مالك وغيرهما إلى أن انت فاعل الصفة لتقدم الأستفهام وهو مغن عن الخبر وذلك لئلا يلزم الفصل بين أراغب ومعموله وهو عن الهتى باجنبي هو المبتدأ وأجيب بأن عن متعلق بمقدر بعد أنت يدل عليه راغب
وقال صاحب الكشف : المبتدأ ليس اجنبيا من كل وجه لا سيما والمفصول ظرف والمقدم فيه نية التاخير والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ في العربية وإن كان مرجوحا ولعل سلوك هذا الأسلوب قريب من ترجيح الأستحسان لقوة أثرة على القياس ولاخفاء أن زيادة الانكار إنما نشأ من تقديم الخبر كأنه قبل أراغب أنت عنها لا طالب لها راغب فيها منبها له على الخطأ في صدرقه ذلك ولو قيل أترغب لم يكن
(16/98)
من هذا الباب في شيئ انتهى ورجح أو حيان اعراب أبى البقاء ومن معه بعدم لزوم الفصل فيه وبسلامة الكلام عليه عن خلاف الأصل في التقديم والتاخير وتوقف البدر الدماميني في جواز ابتدائية المؤخر في مثل هذا التركيب وان خلا عن فصل أو محذور آخر كما في اطالع الشمس وذلك نحو اقائم زيد للزوم التباس المبتدأ بالفاعل كما في ضرب زيد فانه لا يجوز فيه ابتدائية زيد واجاب الشمنى بأن زيدا في الأول يحتمل أمرين كل منهما بخلاف الأصل وذلك اجمال لا لبس بخلافه في الثاني فتأمل لئن لم تنته لارجمنك تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما انت عليه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني اليه لأرجمنك بالحجارة على ما روى عن الحسن وقيل : باللسان والمراد لاشتمنك وروى ذلك عن ابن عباس وعن السدى والضحاك وابن جريج وقدر بعضهم متعلق النهي الرغبه عن الآلهه أي لئن لم تنته عن الرغبه عن آلهتي لأرجمنك وليس بذاك واهجرنى عطف على محذوف يدل عليه التهديد أي فاحذرني واتركني والى ذلك ذهب الزمخشري
ولعل الداعي لذلك وعدم اعتبار العطف على المذكور أنه لا يصح او لا يحسن التخالف بين المتعاطفين إنشائية واخبارية وجواب القسم غير الاستعطافي لا يكون إنشا وليست الفاء في فاحذرني عاطفه حتى يعود المحذور ومن الناس من عطف على الجملة السابقة بناء على تجويز سيبويه العطف مع التخالف في الأخبار والإنشاء والتقدير أوقع في النفس مليا
46
- أي دهرا طويلا عن الحسن ومجاهد وجماعه وقال السدى : ابدأ وكأنه المراد واصله على ما قيل من الاملاء أي الأمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل : فتصدعت صمم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره بطويلا ولم يذكر الموصوف فقيل هو نصب على المصدرية أي هجرا مليا وفي روايه أخرى عن ابن عباس أن المعنى سالما سويا والمراد قادرا على الهجر مطيقا له وهو حينئذ حال من فاعل اهجرني أي اهجرني مليا بالهجران والذهاب عني قبل أن اثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح وكانه على هذا من تملى بكذا تمتع به ملاوة من الدهر قال استئناف كما سلف سلام عليك توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة فان ترك الأساءة للمسيء إحسان أي لا اصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك وهو نظير ما في قوله تعالى لنا اعمالنا ولكم اعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين في قوله وقيل : هو تحية مفارق وجوز قائل هذا تحية الكافر وان يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينه مستدلا بقوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم الآية وقوله سبحانه قد كانت لكم اسوة حسنه في ابراهيم الآية وما استدل به متأول وهو محجوج بما ثبت في صحيح مسلم لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وقرئ سلام بالنصب على المصدرية والرفع على الأبتداء سأستغفر لك ربي أي استدعيه سبحانه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبه ويهديك إلى الأيمان كما يلوح به تعليل قوله واغفر لابي بقوله انه كان من الضالين كذا قيلا فيكون استغفاره في قوة قوله : ربي اهده إلى الأيمان وأخرجه من الضلال
(16/99)