[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
في قوله سبحانه : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ماقد سلف وأجيببأن هذا غير وارد إذ المراد التفرقة فيما ذكر فيه صيغة ويغفر ذنوبكم لامطلق ما كان بمعناه ولذا أسند الامر إلى الاستقراء ومثل الزمخشري لايخفى عليه ماأورد ولايلزم رعاية هذه النكتة في جميع المواد وذكر البيضاوي في وجه التفرقة بين الخطابين ما حاصله لعل المعنى في ذلك أنها لما ترتبت المغفرة في خطاب الكفرة على الايمان لزم فيه من التبعيضية لأخراج المظالم لأنها غير مغفورة وأما في خطاب المؤمنين فلما ترتبت على الطاعة واجتناب المعاصي التي من جملتها المظالم لم يحتج إلى من لاخراجها لأنها خرجت بما رتبت عليه وهو مبني على خلاف ماصححه المحدثون وينافيه ماذكره في تفسير من ذنوبكم في سورة نوح عليه السلام ومع ذا أورد عليه قوله تعالى : ياقوم إني لكم نذير مبين أن أعبدواالله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم حيث ذكرت من مع ترتيب المغفرة على الطاعة واجتناب المعاصي الذي أفاده اتقوا وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة الآية لعدم ذكر من مع ترتبها على الايمان والجواب بأنه لاضير إذ يكفي ترتيب ذلك على الايمان في بعض المواد فيحمل مثله على أن القصد إلى ترتيبه عليه وحده بقرينه ذلك البعض وماذكر معه يحمل على الأمر به بعد الايمان أدنى من أن يقال فيه ليس بشيء وبالجملة توجيه الزمخشري اوجه مما ذكره البيضاوي فتأمل وتذكر
ويؤخركم إلى أجل مسمى إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعماركم على تقدير الايمان ولا يعاجلكم بعذاب الاستئصال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمتعكم في الدنيا باللذات والطيبات إلى الموت ولايلزم مما ذكر القول بتعدد الاجل كما يزعمه المعتزلة وقد مر تحقيق ذلك قالوا استئناف كما سبق آنفا إن أنتم ما أنتم الا بشر مثلنا من غير فضل يؤهلكم لما تدعون من الرسالة والزمخشري تهالك في مذهبه حتى اعتقد أن الكفار كانوا يعتقدون تفضيل الملك تريدون صفة ثانية لبشر حملا على المعنى كقوله تعالى : أبشر يهدوننا او كلام مستأنف أي تريدون بما أنتم عليه من الدعوة والارشاد أن تصدونا بما تدعونا اليه من التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى عما كان يعبد ءاباؤنا عما استمر على عبادته آباؤنا من غير شيء يوجبه وقرأ طلحة أن تصدونا بتشديد النون وخرج على جعل أن مخففة من الثقيلة وتقدير فاصل بينها وبين الفعل أي أنه قد تصدونا وقد جاء مثل ذلك في قوله : علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسئلوا بأعظم سؤل والأولى أن يخرج على أن أن هي الثنائية التي تنصب المضارع لكنها لم تعمل كما قيل : في قوله تعالى : لمن أراد أن يتم الرضاعة في قراءة الرفع حملا لها على اختها ما المصدرية كما عملت ما حملا عليها فيما ذكره بعضهم في قوله : أن تقرآن على اسماء ويحكما مني السلام وان لاتشعرا أحدا فأتونا بسلطن مبين
1
- أي إن لم يكن الأمر كما قلنا بل كنتم رسلا من قبله تعالى كما تدعون فأتونا بما يدل على صحة ماتدعونه من الرسالة حتى نترك مالم نزل نعبده أبا عن جد أو على فضلكم واستحقاقكم لتلك المرتبة قال ابن عطية : إنهم استبعدوا ارسال البشر فأرادوا حجة عليه وقيل : بل إنهم اعتقدوا محاليته وذهبوا
(13/197)

مذهب البراهمة وطلبوا الحجة على جهة التعجيز أي بعثكم محال وإلا فأتوا بسلطان مبين أي إنكم لاتفعلون ذلك أبدا وهو خلاف الظاهر وهذا الطلب كان بعد اتيانهم عليهم السلام لهم من الآيات الظاهرة والبينات الباهرة ماتخر له الجبال الصم أقدمهم عليه العناد والمكابرة قالت لهم رسلهم مجاراة لأول مقالتهم : إن نحن إلا بشر مثلكم كما تقولون وهذا كالقول بالموجب لأن فيه اطماعا في الموافقة ثم كر الى جانبهم بالابطال بقولهم عليهم السلام : ولكن الله يمن على من يشاء من عباده أي انما اختصنا الله تعالى بالرسالة بفضل منه سبحانه وامتنان والبشرية غير مانعة لمشيئته جل وعلا وفيه دليل على أن الرسالة عطائية وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئته تعالى ولا يخفى مافي العدول عن ولكن الله من علينا الى مافي النظم الجليل من التواضع منهم عليهم السلام وقيل : المعنى مانحن من الملائكة بل نحن بشر مثلكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس ولكن الله تعالى يمن على من يشاء بالفضائل والكمالات والاستعدادات التي يدور عليها فلك الاصطفاء للرسالة وفي هذا ذهاب الى قول بعض حكماء الاسلام : ان الانسان لو لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصا بخواص شريفة علوية قدسية فانه يمتنع عقلا حصول صفة النبوة فيه وأجابوا عن عدم ذكر المرسلين عليهم السلام فضائلهم النفسانية والبدنية بأنه من باب التواضع كاختيار العموم والحق منع الامتناع العقلي وان كانوا عليهم السلام جميعا لهم مزايا وخواص مرجحة لهم على غيرهم وإنما قيل لهم كما قيل : لاختصاص الكلام بهم حيث أريد الزامهم بخلاف ماسلف من انكار وقوع الشك فيه تعالى فانه عام وان اختص بهم مايعقبه وما كان لنا أي ما صح وما استقام أن نأتيكم بسلطان أي بحجة ما من الحجج فضلا عن السلطان المبين الذي اقترحتموه بشيء من الأشياء وسبب من الأسباب الا باذن الله فانه أمر يتعلق بمشيئته تعالى ان شاء كان والا فلا وعلى الله وحده دون ماعداه مطلقا فليتوكل المؤمنون
11
- في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم عمموا الأمر للاشعار بما يوجب التوكل من الايمان وقصدوا به أنفسهم قصدوا أوليا ويدل على ذلك قولهم : وما لنا ألا نتوكل على الله ومحل الخلاف في دخول المتكلم في عموم كلامه حيث لم يعلم دخوله فيه بالطريق الأولى أو تقم عليه قرينه كما هنا واحتمال أن يراد بالمؤمنين أنفسهم و مالنا التفات لا التفات اليه والجمع بين الواو والفاء تقدم الكلام فيه 1 و ما استفهامية للسؤال عن السبب والعذر و أن على تقدير حرف الجر أي أي عذر لنا في عدم التوكل عليه تعالى والاظهار لاظهار النشاط بالتوكل عليه جل وعلا والاستلذاذ باسمه تعالى وتعليل التوكل وقد هدانا أي والحال أنه سبحانه قد فعل بنا مايوجب ذلك ويستدعيه حيث هدانا سبلنا أي أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له وأوجب عليه سلوكه في الدين
وقرأ أبو عمرو سبلنا بسكون الباء وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في
(13/198)

التوكل قالوا على سبل التوكيد القسمي مظهرين لكمال العزيمة ولنصبرن على ماءاذيتمونا و ما مصدرية أي اذائكم ايانا بالعناد واقتراح الآيات وغير ذلك مما لاخير فيه وجوزوا أن تكون موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي الذي أذيتموناه وكان الاصل آذيتمونا به فهل حذف به أو الباء ووصل الفعل إلى الضمير قولان وعلى الله خاصة فليتوكل المتوكلون
21
- أي فليثبت المتوكلون على ماأحدثوه من التوكل والمراد بهم المؤمنون والتعبير عنهم بذلك لسبق اتصافهم به وغرض المرسلين من ذلك نحو غرضهم مما تقدم وربما يتجوز في المسند اليه فالمعنى وعليه سبحانه فليتوكل مريدو التوكل لكن الأول أولى
وقرأ الحسن بكسر لام الأمر في ليتوكل وهو الأصل هذا وذكر بعضهم أن من خواص هذه الآية دفع أذى البرغوث فقد أخرج المستغفري في الدعوات عن أبي ذر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا آذاك البرغوث فخذ قدحا من ماء واقرأ عليه سبع مرات ومالنا أن لانتوكل على الله الآية وتقول : ان كنتم مؤمنين فكفروا شركم وأذاكم عنا ثم ترشه حول فراشك فانك تبيت آمنا من شرها
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي الدرداء مرفوعا نحو ذلك إلا أنه ليس فيه إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم واذاكم عنا ولم أقف على صحة الخبر ولم أجرب ذلك إذ ليس للبرغوث ولع بي والحمد لله تعالى وأظن أن ذلك لملوحة الدم كما أخبرني به بعض الاطباء والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
وقال الذين كفروا قيل : لعل هؤلاء القائلين بعض المتمردين في الكفر من أولئك الأمم الكافرة التي نقلت مقالاتهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيب واضرابهم ولذلك لم يقل : وقالوا : لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا وجوز أن يكون المراد بهم أهل الحل والعقد الذين لهم قدرة على الاخراج والادخال ويكون ذلك علة للعدول عن قالوا أيضا و أو لأحد الأمرين ومرادهم ليكونن أحد الأمرين اخراجكم وأعودكم فالمقسم عليه في وسع المقسم والقول بأنها بمعنى حتى أو الا أن قول من لم يمعن النظر كما في البحر فيما بعدها اذ لايصح تركيب ذلك مع ماذكر كما يصح في لألزمنك أو تقضيني حقي والمراد من العود الصيرورة والانتقال من حال الى أخرى وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى فيندفع ما يتوهم من أن العود يقتضي أن الرسل عليهم السلام كانوا وحاشاهم في ملة الكفر قبل ذلك
واعترض في الفرائد بأنه لو كان العود بمعنى الصيرورة لقيل الى ملتنا فتعديته ففي يقتضي أنه ضمن معنى الدخول أي لتدخلن في ملتنا ورده الطيبي بأنه انما يلزم ماذكر لو كان في ملتنا صلة الفعل اما اذا جعل خبرا له لأن صار من أخوات كان فلا يرد كما في نحو صار زيد في الدار نعم يفهم مما ذكره وجه آخر وهو جعله مجازا بمعنى تدخلن لا تضمينا لأنه على ماقرروه يقصد فيه المعنيان فلا يدفع المحذور وفي الكشف ان في أبلغ من الى لدلالته على الاستقرار والتمكن كأنهم لم يرضوا بأن يتظاهروا أنهم من أهل ملتهم وقيل : المراد من العود في ملتهم سكوتهم عنهم وترك مطالبتهم بالايمان وهو كما ترى وقيل : هو على معناه المتبادر والخطاب لكل رسول ولمن آمن معه من قومه فغلبوا الجماعة على الواحد : فان كان الجماعة حاضرين فالامر ظاهر والا فهناك تغليب آخر في الخطاب وقيل : لاتغليب أصلا والخطاب للرسل وحدهم بناء على زعمهم أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل أظهار الدعوة كقول فرعون عليه اللعنة لموسى عليه السلام : وفعلت فعلتك
(13/199)

التي فعلت وأنت من الكافرين وقد مر الكلام في مثل ذلك فتذكر فأوحى إليهم أي الى الرسل عليهم السلام بعدما قيل لهم ماقيل ربهم مالك أمرهم سبحانه لنهلكن الظلمين
31
- أي المشركين المتناهين في الظلم وهم أولئك القائلون وقال ابن عطية : خص سبحانه الظالمين من الذين كفروا اذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا تلك المقالة ناس فالتوعد باهلاك من خلص للظلم و أوحى يحتمل أن يكون بمعنى فعل الايحاء فلا مفعول له ولنهلكن على اضمار القول أي قائلا لنهلكن ويحتمل أن يكون جاريا مجرى القول لكونه ضربا منه ولنهلكن مفعوله ولنسكننكم الأرض أي أرضهم وديارهم فاللام للعهد وعند بعض عوض عن المضاف اليه من بعدهم أي من بعد اهلاكهم وأقسم سبحانه وتعالى في مقابلة قسمهم والظاهر أن ما أقسم عليه جل وعلا عقوبة لهم على قولهم : لنخرجنكم من أرضنا وفي ذلك دلالة على مزيد شناعة ماأتوا به حيث أنهم لما أرادوا اخراج المخاطبين من ديارهم جعل عقوبته اخراجهم من دار الدنيا وتوريث أولئك أرضهم وديارهم وفي الحديث من آذى جاره أورثه الله تعالى داره وقرأ أبو حيوة ليهلكن الظالمين وليسكننكم الأرض بياء الغيبة اعتبارا لأوحى كقولك : أقسم زيد ليخرجن ذلك اشارة الى الموحي به وهو اهلاك الظالمين واسكان المخاطبين ديارهم وبذلك الاعتبار وحد اسم الاشارة مع أن المشار اليه اثنان فلا حاجة الى جعله من قبيل عوان بين ذلك وان صح أي ذلك الامر محقق ثابت
لمن خاف مقامي أي موقفي الذي يقف به العباد بين يدي للحساب يوم القيامة والى هذا ذهب الزجاج فالمقام اسم مكان واضافته الى ضميره تعالى لكونه بين يديه سبحانه وقال الفراء : هو مصدر ميمي أضيف الى الفاعل أي خاف قيامي عليه بالحفظ لأعماله ومراقبتي اياه وقيل : المراد اقامتي على العدل والصواب وعدم الميل عن ذلك
وقيل : لفظ مقام مقحم لأن الخوف من الله تعالى أي لمن خافني وخاف وعيد
41
- أي وعيدي بالعذاب فياء المتكلم محذوفة للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف والوعيد على ظاهره ومتعلقه محذوف وجوز أن يكون مصدرا من الوعد على وزن فعيل وهو بمعنى اسم المفعول أي عذابي الموعود للكفار : وفيه استعارة الوعد للايعاد والمراد بمن خاف على ماأشير اليه في الكشاف المتقون ووقوع ذلك الى آخره بعد ولنسكننكم الارض من بعدهم موقع والعاقبة للمتقين في قصة موسى عليه السلام حيث قال لقومه : استعينوا بالله واصبروا ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين واستفتحوا أي استنصروا الله تعالى على أعدائهم كقوله تعالى : إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ويجوز أن يكون من الفتاحة أي الحكومة أي استحكموا الله تعالى وطلبوا منه القضاء بينهم كقوله تعالى : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق والضمير للرسل عليهم السلام كما روى عن قتادة وغيره والعطف على أوحى ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس ومجاهد وابن محيصن واستفتحوا بكسر التاء أمرا للرسل عليهم السلام معطوفا على ليهلكن فهو داخل تحت الموحى والواو من الحكاية دون المحكي وقيل : ما قبله لانشاء الوعد فلا يلزم عطف الانشاء على الخبر مع أن مذهب بعضهم تجويزه وأخر على القراءتين عن قوله تعالى : لنهلكن أو أوحى اليهم على مافي الكشف
(13/200)

دلالة على أنهم لم يزالوا داعين الى أن تحقق الموعود من اهلاك الظالمين وذلك لأن لنهلكن وعد وانما حقيقة الاجابة حين الاهلاك وليس من تفويض الترتيب الى ذهن السامع في شيء ولا ذلك من مقامه كما توهم وقال ابن زيد : الضمير للكفار والعطف حينئذ على قال الذين كفروا أي قالوا ذلك واستفتحوا على نحو ما قال قريش : عجل لنا قطنا وكأنهم لما قوى تكذيبهم وأذاهم ولم يعالجوا بالعقوبة ظنوا أن ماقيل لهم باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح : فأتنا بما تعدنا وقوم شعيب فأسقط علينا كسفا الى غير ذلك وقيل : الضمير للرسل عليهم السلام ومكذبيهم لأنهم كانوا كلهم سألوا الله تعالى أن ينصر المحق ويهلك المبطل وجعل بعضهم العطف على أوحى على هذا أيضا بل ظاهر كلام بعض أن العطف عليه على القراءة المشهورة مطلقا وسيأتي ان شاء الله تعالى احتمال آخر في الضمير ذكره الزمخشري
وخاب أي خسر وهلك كل جبار متكبر عن عبادة الله تعالى وطاعته وقال الراغب : الجبار في صفة الانسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لايستحقها ولا يقال الا على طريق الذم عنيد
51
- معاند للحق مباه بما عنده وجاء فعيل بمعنى مفاعل كثيرا كخليط بمعنى مخالط ورضيع بمعنى مراضع وذكر أبو عبيدة أن اشتقاق ذلك من العند وهو الناحية ولذا قال مجاهد : العنيد مجانب الحق قيل : والوصف الاول اشارة الى ذمه باعتبار الخلق النفساني والثاني الى ذمه باعتبار الاثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانبا منحرفا عن الحق وفي الكلام ايجاز الحذف بحذف الفاء الفصيحة والمعطوف عليه أي استفتحوا ففتح لهم وظفروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم المعاندون فالخيبة بمعنى مطلق الحرمان دون الحرمان عن المطلوب او ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعمون أنهم على الحق هذا اذا كان ضمير استفتحوا للرسل عليهم السلام وأما اذا كان للكفار فالعطف كما في البحر على استفتحوا أي استفتح الكفار على الرسل عليهم السلام وخابوا ولم يفلحوا وانما وضع كل جبار عنيد موضع ضميرهم ذما لهم وتسجيلا عليهم بالتجبر والعناد لا ان بعضهم ليسوا كذلك ولم تصبهم الخيبة ويقدر اذا كان الضمير للرسل عليهم السلام وللكفرة استفتحوا جميعا فنصر الرسل وخاب كل عات متمرد والخيبة على الوجهين بمعنى الحرمان غب الطلب وفي اسناد الخيبة الى كل منهم ما لايخفى من المبالغة من ورائه جهنم أي من قدامه وبين يديه كما قال الزجاج والطبري وقطرب وجماعة وعلى ذلك قوله : 1 أليس ورائي ان تراخت منيتي لزوم العصا نحني عليها الأصابع ومعنى كونها قدامه أنه مرصد لها واقف على شفيرها ومبعوث اليها وقيل : المراد من خلف حياته وبعدها ومن ذلك
قوله : حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب واليه ذهب ابن الأنباري واستعمال وراء في هذا وذاك بناء على أنها من الأضداد عند أبي عبيدة
(13/201)

والأزهري فهي من المشتركات اللفظية عندهما وقال جماعة : انها من المشتركات المعنوية فهي موضوعة لأمر عام صادق على القدام والخلف وهو ماتوارى عنك وقد تفسر بالزمان مجازا فيقال : الأمر من ورائك على معنى أنه سيأتيك في المستقبل من أوقاتك ويسقي قيل عطف على متعلق من ورائه المقدر والأكثر على أنه عطف على مقدر جوابا عن سؤال سائل كأنه قيل : فماذا يكون اذن فقيل : يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء مخصوص لا كالمياه المعهودة صديد
61
- قال مجاهد وقتادة والضحاك هو مايسيل من أجساد أهل النار وقال محمد بن كعب والربيع : مايسيل من فروج الزناة والزواني وعن عكرمة هو الدم والقيح وأعربه الزمخشري عطف بيان لماء وفي إبهامه أولا ثم بيانه من التهويل ما لايخفى وجواز عطف البيان في النكرات مذهب الكوفيين والفارسي والبصريون لايرونه وعلى مذهبهم هو بدل من ماء ان اعتبر جامدا أو نعت ان اعتبر فيه الاشتقاق من الصد أي المنع من الشرب كأنه ذلك الماء لمزيد قبحه مانع عن شربه وفي البحر قيل : إنه مصدود عنه أي لكراهته يصد عنه وإلى كونه نعتا ذهب الحوفي وكذا ابن عطية قال : وذلك كما تقول : هذا خاتم حديد وإطلاق الماء على ذلك بحقيقة وانما أطلق عليه باعتبار أنه بدله وقال بعضهم : هو نعت على إسقاط مفيد التشبيه كما تقول مررت برجل أسد والتقدير مثل صديد وعلى هذا فاطلاق الماء عليه حقيقة وبالجملة تخصيص السقي من هذا الماء بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه يتجرعه جوز أبو البقاء كونه صفة لماء أو حالا منه أو استئنافا
وجوز أبو حيان كونه حالا من ضمير يسقى والاستئناف أظهر وهو مبني على سؤال كأنه قيل : فماذا يفعل به فقيل : يتجرعه أي يتكلف جرعه مرة بعد أخرى لغلبة العطش واستيلاء الحرارة عليه ولا يكاد يسيغه أي لايقارب أن يسيغه فضلا عن الاساغة بل يغص به فيشربه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعة فيطول عذابه تارة بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالة فان السوغ انحدار الماء انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول نفس ونفيهلايفيد نفي ماذكر جميعا وقيل : تفعل مطاوع فعل يقال : جرعه فتجرع وقيل : إنه موافق للمجرد أي جرعة كما تقول عدا الشيء وتعداه وقيل : الاساغة الادخال في الجوف والمعنى لايقارب أن يدخله في جوفه قبل أن يشربه ثم شربه على حد ماقيل في قوله تعالى : فذبحوها وماكادوا يفعلون أي ما قاربوا قبل الذبح وعبر عن ذلك بالاساغة لما أنها المعهودة في الأشربة أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في الآية : يقرب اليه فيتكرهه فاذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فاذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم وقال سبحانه : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ويسيغه بضم الياء لأنه يقال : ساغ الشراب وأساغه غيره وهو الفصيح وإن ورد ثلاثيه متعديا أيضا على ماذكره أهل اللغة وجملة لايكاد إلى آخره في موضع الحال من فاعل يتجرعه أو من مفعوله أو منهما جميعا ويأتيه الموت أي أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب فالكلام على المجاز أو بتقدير مضاف من كل مكان أي من كل موضع والمراد أنه يحيط به من جميع الجهات كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال ابراهيم التيمي : من
(13/202)

كل مكان في جسده حتى من أطراف شعره وروى نحو ذلك عن ميمون بن مهران ومحمد بن كعب واطلاق المكان على الأعضاء مجاز والظاهر أن هذا الاتيان في الآخرة
وقال الأخفش : أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا سماها موتا لشدتها ولا يخفى بعده لأن سياق الكلام في أحوال الكافر في جهنم وما يلقى فيها وما هو بميت أي والحال أنه ليس بميت حقيقة كما هو الظاهر من مجيء أسبابه على أتم وجه فيستريح مما غشيه من أصناف الموبقات ومن ورائه أي من بين يدي من حكم عليه بما مر عذاب غليظ
71
- يستقبل كل وقت عذابا أشد وأشق مما كان قبله وقيل : في وراء هنا نحو ماقيل فيما تقدم أمامه وذكر هذه الجملة لدفع مايتوهم من الخفة بحسب الاعتياد كما في عذاب الدنيا وقيل : ضمير ورائه يعود على العذاب المفهوم من الكلام السابق لا على كل جبار وروى ذلك عن الكلبي والمراد بهذا العذاب قيل : الخلود في النار وعليه الطبرسي وقال الفضيل : هو قطع الانفاس وحبسها في الاجساد هذا وجوز في الكشاف ان تكون هذه الآية أعني قوله تعالى : واستفتحوا إلى هنا منقطعة عن قصة الرسل عليهم السلام نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنينهم التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه و سلم فخيب سبحانه رجاءهم ولم يسقهم ووعدهم أن يسنيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار والواو على هذا قيل : للاستئناف وقيل : للعطف إما على قوله تعالى : وويل للكافرين من عذاب شديد أو على خبر أولئك في ضلال بعيد لقربه لفظا ومعنى والوجه الأول لبعد العهد وعدم قرينة تخصيص الاستفتاح بالاستمطار لأن الكلام على ذلك التقدير يتناول أهل مكة تناولا اوليا فان المقصود من ضرب القصة أن يعتبروا مثل الذين كفروا بربهم مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي في الغرابة كالمثل كما ذهب اليه سيبويه وقوله سبحانه : أعمالهم كرماد جملة مستأنفة لبيان مثلهم ورجح ابن عطية كونه مبتدأ وهذه الجملة خبره وتعقبه الحوفي بأنه لايجوز لخلو الجملة عما يربطها بالمبتدأ وليست نفسه في المعنى لتستغنى عن ذلك لظهور أن ليس المعنى مثلهم هذه الجملة وأجاب عنه السمين بالتزام أنها نفسه لأن مثل الذين في تأويل ما يقال فيهم ويوصفون به إذا وصفوا فلا حاجة إلى الرابط كما في قولك : صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول قيل : ولا يخفى حسنه إلا أن المثل عليه بمعنى الصفة والمراد بالصفة اللفظ الموصوف به كما يقال : صفة زيد أسمر أي اللفظ الذي يوصف به هو هذا وهذا وان كان مجازا على مجاز لكنه يغتفر لأن الأول ملحق بالحقيقة لشهرته وليس من الاكتفاء بعود الضمير على المضاف اليه لأن المضاف ذكر توطئة له فان ذلك اضعف من بيت العنكبوت كما علمت
وذهب الكسائي والفراء إلى أن مثل مقحم وتقدم عليه وله وقال الحوفي : هو مبتدأ و كرماد خبره وأعمالهم بدل من المبتدأ بدل اشتماله كما في قوله : ماللجمال مشيها وئيدا أجند لا يحملن أم حديدا وفيه خفاء ولعله اعتبر المضاف اليه وفي الكشاف جواز كونه بدلا من مثل الذين كفروا لكن على تقدير مثل أعمالهم فيكون التقدير مثل الذين كفروا مثل أعمالهم كرماد قال في الكشف : وهو بدل الكل من الكل وذلك لأن مثلهم ومثل أعمالهم متحدان بالذات وفيه تفخيم اه وقيل : إنه على هذا التقدير أيضا بدل اشتمال
(13/203)

لأن مثل أعمالهم كونها كرماد ومثلهم كون أعمالهم كرماد فلا اتحاد لكن الأول سبب للثاني فتأمل والرماد معروف وعرفه ابن عيسى بأنه جسم يسحقه الاحراق سحق الغبار ويجمع على رمد في الكثرة وأرمد في القلة وشذ جمعه على افعلاء قالوا أرمداء كذا في البحر وذكر في القاموس أن الارمداء كالاربعاء الرماد ولم يذكر أنه جمع والمراد بأعمالهم ماهو من باب المكارم كصلة الارحام وعتق الرقاب وفداء الاسارى وقرى الاضياف واغاثة الملهوفين وغير ذلك وقيل : مافعلوه لأصنامهم من القرب بزعمهم وقيل : ما يعم هذا وذاك ولعله الأولى وجيء بالجملة على مااختاره بعضهم جوابا لما يقال : ما بال أعمالهم التي عملوها حتى آل أمرهم إلى ذلك المآل إذ بين فيها أنها كرماد اشتدت به الريح أي حملته وأسرعت الذهاب به فاشتد بمعنى عدا والباء للتعدية أو للملابسة وجوز أن يكون من الشدة بمعنى القوة أي قويت بملابسة حمله في يوم عاصف العصف اشتداد الريح وصف به زمان هبوبها على الاسناد المجازي كنهاره صائم وليله قائم للمبالغة وقال الهروي : التقدير في يوم عاصف الريح فحذف الريح لتقدم ذكره كما في قوله :
إذ جاء يوم مظلم الشمس كاسف
1 - والتنوين على هذا عوض من المضاف اليه وضعف هذا القول ظاهر وقيل : إن عاصف صفة الريح إلا أنه جر على الجوار وفيه أنه لايصح وصف الريح به لاختلافهما تعريفا وتنكيرا وقرأ نافع وأبو جعفر الرياح على الجمع وبه يشتد فساد الوصفية وقرأ ابن أبي اسحق وابراهيم بن أبي بكر عن الحسن في يوم عاصف على الاضافة وذلك عند أبي حيان من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه والتقدير في يوم ريح عاصف وقد يقال : إنه من اضافة الموصوف إلى الصفة من غير حاجة إلى حذف عند من يرى جواز ذلك لايقدرون أي يوم القيامة مما كسبوا في الدنيا من تلك الأعمال على شيء ما أي لايرون أنه أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب
ويؤيد التعميم ماورد في الصحيح عن عائشة أنها قالت : يارسول الله إن ابن جدعان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين هل ذلك نافعة قال : لاينفعه لأنه لم يقل ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين وقيل : الكلام على حذف مضاف أي لايقدرون من ثواب ماكسبوا على شيء ما والاول أولى وقدم المتعلق الأول للايقدرون على الثاني وعكس في البقرة لأهمية كل في آيته وذلك ظاهر لمن له أدنى بصيرة وحاصل التمثيل تشبيه أعمالهم في حبوطها وذهابها هباء منثورا لابتنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والايمان به وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف وفرقته وهذه الجملة فذلكة ذلك والمقصود منه قيل : والاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للاصنام مع ان لها عقوبات للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند الله تعالى وفيه تهكم بهم ذلك أي مادل عليه التمثيل دلالة واضحة من ضلالهم مع حسبانهم أنهم على شيء هو الضلال البعيد
81
- عن طريق الحق والصواب وقد تقدم تمام الكلام في ذلك غير بعيد
ألم تر خطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد به أمته الذين بعث اليهم وقيل : خطاب الكل واحد من الكفرة لقوله تعالى : ان يشأ يذهبكم والرؤية رؤية القلب وقوله تعالى : إن الله خلق السموات والأرض ساد مسد مفعوليها أي ألم تعلم أنه تعالى خلقهما بالحق أي ملتبسة بالحكمة والوجه الصحيح الذي يحق
(13/204)

أن يخلق عليه وقرأ السلمي ألم تر بسكون الراء ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف قال أبو حيان : وتوجيه آخر وهو ان ترى حذفت العرب ألفها في قولهم : قام القوم ولو نر مازيد كما حذفت ياء لا أبالي وقالوا لا أبال فلما دخل الجازم تخيل ان الراء هي آخر الكلمة فسكنت للجازم كما قالوا في لا أبال لم أبل تخيلوا اللام آخر الكلمة والمشهور التوجيه الأول وقرأ الأخوان خالق السموات والأرض بصيغة اسم الفاعل والاضافة وجر الارض
إن يشأ يذهبكم يعدمكم أيها الناس كما قاله جماعة أو أيها الكفرة كما روى عن ابن عباس بالمرة ويأت بخلق جديد
91
- أي بخلق بدلكم خلقا مستأنفا لاعلاقة بينكم وبينهم والجمهور على انه من جنس الآدميين وذهب آخرون الى أنه أعم من أن يكون من ذلك الجنس أو من غيره أورد سبحانه هذه الشرطية بعد أن ذكر خلقه السموات والارض ارشادا الى طريق الاستدلال فان من قدر على خلق مثل هاتيك الاجرام العظيمة كان على اعدام المخاطبين وخلق آخرين بدلهم أقدر ولذلك قال سبحانه : وما ذلك أي المذكور من اذهابكم والاتيان بخلق جديد مكانكم على الله بعزيز
2
- بمتعذر أو متعسر فانه سبحانه وتعالى قادر بذاته لاباستعانة وواسطة على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور وهذه الآية على مافي الكشاف بيان لابعادهم في الضلال وعظيم خطبهم في الكفر بالله تعالى لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يؤمن به ويرجى ثوابه ويخشى عقابه وبرزوا لله جميعا أي يبرزون يوم القيامة وايثار الماضي لتحقق الوقوع او لأنه لامضى ولا استقبال بالنسبة اليه سبحانه والمراد ببروزهم لله ظهورهم من قبورهم للرائين لأجل حساب الله تعالى فاللام للتعليل وفي الكلام حذف مضاف وجوز أن تكون اللام صلة البروز وليس هناك حذف مضاف ولا يراد له عز شأنه عند أنفسهم وعلى زعمهم فانهم كانوا يظنون عند ارتكابهم الفواحش سرا أنها تخفى على الله تعالى فاذا كان يوم القيامة انكشفوا له تعالى عند أنفسهم وعلموا أنه لاتخفى عليه جل شأنه خافية وقال ابن عطية : معنى برزوا صاروا بالبراز وهي الارض المتسعة فاستعير ذلك لمجمع يوم القيامة وهذا ميل الى التعليل والحذف ونقل الامام عن الحكماء في تأويل البروز أن النفس اذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت مجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله تعالى وهو كلام تعده العرب من الاحاجي ولذا لم يلتفت اليه المحدثون
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وبرزوا مبنيا للمفعول وبتشديد الراء والمراد أظهرهم الله تعالى وأخرجهم من قبورهم لمحاسبته فقال الضعفاء جمع ضعيف والمراد بهم ضعاف الرأي وهم الاتباع وكتب في المصحف العثماني بواو قبل الهمزة ووجه ذلك بأنه على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها الى الواو ونظيره علموا بني إسرائيل ورد ذلك الجعبري قائلا : انه ليس من لغة العرب ولا حاجة للتوجيه بذلك لأن الرسم سنة متبعة وزعم ابن قتيبة أنه لغة ضعيفة ولو وجه بأنه اتباع للفظه في الوقت فان من القراء من يقف في مثل ذلك بالواو كان حسنا صحيحا كذا ذكر فليراجع ولعل من أنصف لايرى أحسن من ترك التوجيه
للذين استكبروا أي لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم إنا كنا في الدنيا لكم تبعا في تكذيب الرسل عليهم السلام والاعراض عن نصائحهم وهو جمع تابع كخادم وخدم وغايب وغيب أو
(13/205)

اسم جمع لذلك ولم يذكر كونه جمعا في البحر أو هو مصدر نعت به مبالغة أو بتأويل أو بتقدير مضاف أي تابعين أو ذوي تبع وبه على سائر الاحتمالات يتعلق الجار والمجرور والتقديم للحصر أي تبعا لكم لا لغيركم
وقيل : المعنى انا تبع لكم لا لرأينا ولذا سماهم الله تعالى ضعفاء ولا يلزم منه كون الرؤساء اقوياء الرأي حيث ضلوا وأضلوا ولو حمل الضعف على كونهم تحت أيديهم وتابعين لهم كان أحسن وليس بذاك
فهل أنتم مغنون عنا استفهام أريد به التوبيخ والتقريع والفاذ للدلالة على سببية الاتباع للاغناء وهو من الغناء بمعنى الفائدة وضمن معنى الدفع ولذا عدى بعن أي أنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال فهل أنتم اليوم دافعون عنا من عذاب الله من شيء أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله تعالى بناء على ماقيل : ان من الثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول للوصف السابق والأولى للبيان وهي واقعة موقع الحال من مجرور الثانية لأنها لو تأخرت كانت صفة له وصفة النكرة إذا قدمت أعربت حالا واعترض هذا الوجه بأن فيه تقديم من البيانية على ما تبينه وهو لايجوز وكذا تقديم الحال على صاحبها المجرور
وأجيب بأن في كل من هذين الأمرين اختلافا وقد أجاز جماعة تقديم من البيانية وصحح ذلك لأنه إنما يفوت بالتقديم الوصفية لا البيانية وكذا أجاز كثير كابن كيسان وغيره تقديم الحال على صاحبها المجرور فلعل الذاهب إلى هذا الوجه في الآية يرى رأي المجوزين لكل من التقديمين
وقال بعض المدققين : جاز تقديم هذه الحال لأنها في الحقيقة عما سد مسده من شيء أعنى بعض لا عن المجرور وحده وفيه من البعد مالايخفى وجوز أن تكون الأولى والثانية للتبعيض والمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله تعالى والاعراب كما سبق واختار بعضهم على هذا كون الحال عما سد مسده من شيء إذ لو جعل حالا عن المجرور لآل الكلام إلى هل أنتم مغنون عنا بعض بعض عذاب الله تعالى ولا معنى له وفيه أنه يفيد المبالغة في عدم الغناء كقولهم : أقل من القليل فنفى المعنى لامعنى له ولايصح الالغاء إذ لايصح أن يتعلق بفعل ظرفان من جنس دون ملابسة بينهما تصحح التبعية وجعل الثاني بدلا من الأول يأباه كما في الكشف اللفظ والمعنى وقد تعقب أبو حيان توجيه التبعيض في المكانين كما سمعت بأن ذلك يقتضي البداية فيكون بدل عام من خاص لأن من شيء اعم من قوله : من عذاب وهذا لايقال : لأن بعضية الشيء مطلقة فلا يكون لها بعض ومما ذكرنا يعلم مافيه
وجوز أن تكون الأولى مفعولا والثانية صفة مصدر سادة مسده والشيء عبارة عن اغناء ما أي فهل أنتم مغنون عنا بعض عذاب الله بعض الاغناء وتعقب بأنه يلزم على هذا أن يتعلق بعامل ظرفان الى آخر ماسمعت آنفا وفيه نظر لأنه لكون أحدهما في تأويل المفعول به والآخر في تأويل المفعول المطلق صح التعلق ولم يكونا من جنس واحد وقد يقال : إن تقييد الفعل الثاني بعد اعتبار تقييده بالاول فليس العامل واحدا
ونص الحوفي وأبو البقاء على أن من الثانية زائدة للتوكيد وسوغ زيادتها تقدم الاستفهام الذي هو هنا في معنى النفي و من عذاب الله اما متعلق بمغنون أو متعلق بمحذوف وقع حالا من شيء أي شيئا كائنا من عذاب الله تعالى أو مغنون من عذاب الله تعالى غناء ما قالوا أي المتكبرون جوابا عن توبيخ الضعفاء وتقريعهم واعتذارا عما فعلوا بهم : لو هدانا الله الى الايمان ووفقنا له لهديناكم ولكن
(13/206)

ضللنا فضللناكم أي أخترنا لكم مااخترنا لأنفسنا وحاصله على ماقيل : إن ما كان منا في حقكم هو النصح لكن قصرنا في رأينا وقال الزمخشري : إنهم وركوا الذنب في ضلالهم واضلالهم على الله تعالى وكذبوا في ذلك ويدل على وقوع الكذب من أمثالهم يوم القيامة قوله تعالى حكاية عن المنافقين : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء وقد خالف في ذلك أصول مشايخه لأنهم لايجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فلا يقبل منه وجوز أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان ونقل ذلك القاضي وزيفه كما ذكره الامام وقيل : المعنى لو هدانا الله تعالى إلى الرجعة إلى الدنيا فنصلح ماأفسدناه لهديناكم وهو كما ترى وقال الجياني وأبو مسلم : المراد لو هدانا الله تعالى إلى طريق الخلاص من العقاب والوصول إلى النعيم والثواب لهديناكم إلى ذلك وحاصله لو خلصنا لخلصناكم أيضا لكن لامطمع فيه لنا ولكم قال الامام : والدليل على أن المراد من الهدى هو هذا أنه الذي طلبوه والتمسوه
سواء علينا أجزعنا مما لقينا أم صبرنا على ذلك و سواء اسم بمعنى الاستواء مرفوع على الخبرية للفعل المذكور بعده لأنه مجرد عن النسبة والزمان فحكمه حكم المصدر والهمزة و أم قد جردتا عن الاستفهام لمجرد التسوية ولذا صارت الجملة خبرية فكأنه قيل : جزعنا وصبرنا سواء علينا أي سيان وإنما أفرد الخبر لأنه مصدر في الاصل وقال الرضي في مثله : إن سواء خبر مبتدأ محذوف أي الامران سواء ثم بين الامران بقولهم : أجزعنا أم صبرنا وما قيل : من أن سواء خبر مبتدأ محذوف والجملة جزاء للجملة المذكورة بعد لتضمنها معنى الشرط وإفادة همزة الاستفهام معنى إن لاشتراكهما في الدلالة على عدم الجزم والتقدير إن جزعنا أم صبرنا فالامران سيان فتكلف كما لايخفى والجزع حزن يصرف عما يراد فهو حزن شديد وفي البحر هو عدم احتمال الشدة فهو نقيض الصبر وإنما أسندوا كلا من الجزع والصبر واستوائهما إلى ضمير المتكلك المنتظم للمخاطبين أيضا مبالغة في النهي عن التوبيخ باعلامهم أنهم شركاء لهم فيما ابتلوا به وتسلية لهم
وجوز أن يكون هذا من كلام الفريقين فهو مردود إلى ماسيق له الكلام وهم الفريقان ولانظر إلى القرب كما قيل في قوله تعالى : ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأيد ذلك بما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن كعب بن مالك رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيما يظن أنه قال : يقول أهل النار : هلموا فلتصبروا فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا ذلك لاينفعهم قالوا : هلموا فلنجزع فيبكون خمسمائة عام فلما رأوا ذلك لاينفعهم قالوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا الآية وإلى كون هذه المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين في النار ذهب بعضهم ميلا لظواهر الاخبار
واستظهر أبو حيان أنها في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله تعالى وقول الاتباع : فهل أنتم مغنون عنا جزع منهم وكذا جواب الرؤساء باعترافهم بالضلال واحتمال أنه من كلام الأولين فقط خلاف الظاهر جدا وقوله تعالى : مالنا من محيص
12
- جملة مفسرة لا جمال مافيه لاستواء فلا محل لها من الاعراب أو حال مؤكدة أو بدل منه والمحيص من حاص حاد وفر وهو إما أسم مكان كالمبيت والمصيف أو مصدر ميمي كالمغيب والمشيب والمعنى ليس لنا محل ننجوا فيه من عذابه أو لانجاة لنا من ذلك وقال الشيطان الذي أضل كلا الفريقين واستتبعهما عندما عتباه وقرعاه على نمط الاتباع للرؤساء لما قضي الأمر أي
(13/207)

أحكم وفرغ منه وهو الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار خطيبا في محفل الاشقياء من الثقلين
أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال : إذا كان يوم القيامة قام ابليس خطيبا على منبر من نار فقال : إن الله وعدكم وعد الحق إلى آخره وعن مقاتل أن الكفار يجتمعون عليه في النار باللائمة فيرقى منبرا من نار فيقول ذلك وفي بعض الآثار ماهو ظاهر في أن في الموقف فقد أخرج الطبراني وابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن عساكر لكن بسند ضعيف من حديث عقبة بن عامر يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الكفار حين يروا شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم للمؤمنين يأتون ابليس فيقولون له قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فأشفع لنا فانك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد فيقول ما قص الله تعالى
ومعنى وعد الحق وعدا من حقه أن ينجز أو وعدا نجز وهو الوعد بالبعث والجزاء وقيل : أراد الحق ماهو صفته تعالى أي ان الله تعالى وعدكم وعده الذي لايخلف والظاهر أنه صفة الوعد وفي الآية على الاول ايجاز أي أن الله سبحانه وعدكم وعد الحق فوفاكم وأنجزكم ذلك ووعدتكم وعد الباطل وهو أن لابعث ولا حساب ولئن كانا فالاصنام تشفع لكم فأخلفتكم موعدي أي لم يتحقق ماأخبرتكم به وظهر كذبه وقد استعير الاخلاف لذلك ولو جعل مشاكلة لصح وما كان لي عليكم من سلطان أي تسلط أو حجة تدل على صدقي إلا أن دعوتكم أي الا دعائي إياكم إلى الضلالة وهذا وإن لم يكن من جنس السلطان حقيقة لكنه أبرزه في مبرزه وجعله منه ادعاء فلذا كان الاستثناء متصلا وهو من تأكيد الشيء بضده كقوله : وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع وهو من التهكم لا من باب الاستعارة أو التشبيه أو غيرهما على ما حقق في موضعه فان لن يعتبر فيه التهكم والادعاء يكون الاستثناء منقطعا على حد قوله : وبلدة ليس بها أنيس الا اليعافير والا العيس والى الانقطاع ذهب أبو حيان وقال : إنه الظاهر وجوز الامام القول بالاتصال من غير اعتبار الادعاء ووجه ذلك بأن القدرة على حمل الانسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بالقاء الوسواس اليه وهذا نوع من أنواع التسلط فكأنه قال : ما كان لي تسلط عليكم الا بالوسوسة لا بالضرب ونحوه فاستجبتم لي أي أسرعتم اجابتي كما يؤذن بذلك الفاء وقيل : يستفاد الاسراع من السين لأن الاستجابة وان كانت بمعنى الاجابة لكن عدا ذلك من التجريد وأنهم كأنهم طلبوا ذلك من أنفسهم فيقتضي السرعة وفيه بعد فلا تلوموني بوعدي اياكم حيث لم يكن على طريق القسر والالجاء كما يدل عليه الفاء وقيل : بوسوستي فان من صرح بالعداوة وقال : لأقعدن لهم صراطك المستقيم لايلام بأمثال ذلك وقريء فلا يلوموني بالياء على الالتفات ولوموا أنفسكم حيث استجبتم لي باختياركم الناشيء عن سوء استعدادكم حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل بل بمجرد تزيين وتسويل ولم تستجيبوا لربكم اذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبينات والحجج وليس مراد اللعين التنصل عن توجه اللائمة اليه بالمرة بل بيان أنهم أحق بها منه وفي الكشاف أن في هذه الآية دليلا على أن الانسان هو الذي يختار الشقاوة والسعادة
(13/208)

ويحصلها لنفسه وليس من الله تعالى الا التمكين ولا من الشيطان الا التزيين ولو كان الامر كما تزعم المجبرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم فان الله تعالى قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه وليس قوله المحكي باطلا لايصح التعلق به والا لبين الله سبحانه بطلانه وأظهر إنكاره على أنه لاطائل في النطق بالباطل في ذلك المقام ألا ترى كيف أتي بالصدق الذي لاريب فيه في قوله : إن الله وعدكم إلى آخره وقوله : وما كان لي عليكم إلى آخره اه
واعترض قوله : والا لبين سبحانه بطلانه بأنه ينقلب عليه في قول المستكبرين لو هدانا الله لهديناكم إذ لم يعقب بالبطلان على وجه التوريك الذي ادعاه وكذلك قوله : على أنه لاطائل إلى آخره
والجواب ان الاول غير متعين لذلك الوجه كما سمعت ومع ذلك قد عقب بالبطلان في مواضع عديدة ويكفي حكاية الكذب عنهم في ذلك الموطن وذلك في الموطن على توهم أنه نافع كما حكى الله تعالى عنهم أما بعد قضاء الامر ودخول أهل الجنة والنار النار فلا يتوهم لذلك طائل البتة لاسيما والشيطان لاغرض له في ذلك فافترقا قائلا وموطنا وحكما بل الجواب أن أهل الحق لاينكرون توجه اللائمة عليهم وأن الله تعالى مقدس عن ذلك وحجته البالغة وقضاؤه سبحانه الحق حيث أثبتوا للعبد القدرة الكاسبة التي يدور عليها فلك التكليف وجعلوا لها مدخلا في ذلك فانه سبحانه إنما يخلق أفعاله حسبما يختاره وسلبهم التأثير الذاتي عن قدرته لاينفي اللوم عنهم كما بين في محله وماذكره من أنه لو كان الامر إلى آخره مبني على عدم الفرق بين مذهب أهل الحق الملقبين عنده بالمجبرة وبين مسلك المجبرة في الحقيقة والفرق مثل الصبح ظاهر هذا واستدل بظاهر الآية على أن الشيطان لاقدرة له على تصريع الانسان أو تعويج أعضائه وجوارحه أو على ازالة عقله لأنه نفى أن يكون له تسلط بالوسوسة
وأجاب من زعم القدرة على نحو ذلك بأن المقصود في الآية نفي أن يكون له تسلط في أمر الاضلال الا بمحض الوسوسة لانفي أن يكون له تسلط أصلا والسياق أول والسياق أدل قرينة على ذلك وانتزع بعضهم من الآية ابطال التقليد في الاعتقاد قال ابن الفرس : وهو انتزاع حسن لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ولم يبطلوا منه برهانا فحكى ذلك عنهم متضمنا لذمهم ثم الظاهر أن هذه الدعوة من الشيطان أعني ابليس بلا واسطة وهي إن كانت في وقت واحد لمتعددين مما يعسر تصوره ولا يبعد أن يقال : إن له اعوانا يفعلون كما يفعل لكن لما كان ذلك بأمره تصدى وحده لما تصدى ونسبت الدعوة اليه وللامام الرازي في الآية كلام طويل ساقه لبيان كيفية الدعوة والقاء الشيطان الوسوسة في قلب الانسان وأكثره عند المحدثين والسلف الصالحين أشبه شيء بوساوس الشياطين ولعل التوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ذلك بعون الله تعالى القادر المالك ماأنا بمصرخكم اي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب يقال : استصرخني فأصرخته اي استغاثني فأغثته وأصله من الصراخ وهو مد الصوت والهمزة للسلب كأن المغيث يزيل صراخ المستغيث
وما أنتم بمصرخي مما أنا فيه وفي تعرضه لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمال مبالغة في بيان عدم اصراخه إياهم وإيذان بأنه أيضا مبتلى بمثل ما ابتلوا به ومحتاج إلى الاصراخ فكيف له باصراخ الغير ولذلك آثر الجملة الاسمية والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار وكذا يقال في التأكيد فكان ما مضى جوابا منه عن توبيخهم وتقريعهم وهذا جواب استغاثتهم به في دفع مادهمهم من العذاب وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش
(13/209)

وحمزة بمصرخي بكسر الياء على الاصل في التخلص من التقاء الساكنين وذلك أن الاصل بمصرخين لي فاضيف وحذفت نون الجمع للاضافة فالتقت ياء الجمع الساكنة وياء المتكلم والاصل فيها السكون فكسرت لالتقاء الساكنين وأدغمت وطعن في هذه القراءة كثير من النحاة قال الفراء : لعلها من زعم القراء فانه قل من سلم منهم من الوهم وقال أبو عبيد نراهم غلطوا وقال الاخفش : ما سمعت هذا الكسر من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين وقال الزجاج : إنها عند الجميع رديئة مرذولة ولا وجه لها الاوجيه ضعيف وقال الزمخشري : هي ضعيفة واستشهدوا لها ببيت مجهول : قال لها هل لك ياتافى قالت له ما أنت بالمرضي 1 وكأنهم قدروا ياء الاضافة ساكنة فحركوها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ولكنه غير صحيح لأن ياء الاضافة لاتكون الا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو عصاي فما بالها وقبلها ياء والقول بأنه جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الادغام فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الاصل ذهاب إلى القياس وهو قياس حسن ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل اليه القياسات
وقد قلد هؤلاء الطاغين جماعة وقد وهموا طعنا وتقليدا فان القراءة متواترة عن السلف والخلف فلا يجوز أن يقال فيها : إنها خطأ أو قبيحة ورديئة وقد نقل جماعة من العلماء أنها لغة لكنه قل استعمالها
ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع فانهم يكسرون ياء المتكلم إذا كان قبلها ياء أخرى ويصلونها بها كعليه ولديه وقد يكتفون بالكسرة وذلك لغة أهل الموصل وكثير من الناس اليوم وقد حسنها أبو عمرو وهو امام لغة وامام نحو وامام قراءة وعربي صحيح وروا بيت النابغة : علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب بكسر ياء على فيه وأنشدوا لذلك أيضا البيت السابق وهو للأغلب العجلي وجهل الزمخشري به كالزجاج لايلتفت اليه وقوله : ان ياء الاضافة لاتكون الا مفتوحة الى آخره مردود بأنه روى سكون الياء بعد الألف وقرأ به القراء في محياي وماذكره أيضا قياس مع الفارق فانه لايلزم من كسرها مع الياء المجانسة للكسرة كسرها مع الالف الغير المجانسة لها ولذا فتحت بعدها للمجانسة وكون الاصل في هذه الياء الفتح في كل موضع غير مسلم كيف وهي من المبنيات والاصل في المبني أن يبنى على السكون ومن الناس من وجه القراءة بأنها على لغة من يزيد ياء على ياء الاضافة اجراء لها مجرى هاء الضمير وكافه فان الهاء قد توصل بالواو اذا كانت مضمومة كهذا لهو وضر بهو وبالياء اذا كانت مكسورة نحو بهى والكاف قد تلحقها الزيادة فيقال أعطيتكاه وأعطيتكيه الا انه حذفت الياء هنا اكتفاء بالكسرة وقال البصير : كسر الياء ليكون طبقا لكسر الهمزة في قوله : إني كفرت لأنه أراد الوصل دون الوقف والابتداء بذلك والكسر أدل على الوصل من الفتح وفيه نظر وبالجملة لاريب في صحة تلك القراءة وهي لغة فصيحة وقد روى أنه تكلم بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث بدء الوحي وشرح حاله عليه الصلاة و السلام لورقة بن نوفل رضي الله تعالى عنه فانكارها محض جهالة وأراد بقوله : اني كفرت اني كفرت اليوم بما أشركتمون من قبل أي من قبل هذا اليوم يعني في الدنيا
(13/210)

و ما مصدريه و من متعلقة بأشركتموني أي كفرت باشراككم اياي الله تعالى في الطاعة لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر كما يطاع الله تعالى في أعمال الخير فالاشراك استعارة بتشبيه الطاعة به وتنزيلها منزلته أو لأنهم لما أشركوا الاصنام ونحوها بايقاعه لهم في ذلك فكأنهم أشركوه والكفر مجاز عن التبري كما في قوله تعالى : ويوم القيامة يكفرون بشرككم ومراد اللعين أنه ان كان اشراككم لي بالله تعالى هو الذي أطعمكم في نصرتي لكم وخيل اليكم ان لكم حقا علي فاني تبرأت من ذلك ولم أحمده فلم يبق بيني وبينكم علاقة وارادة اليوم حسبما ذكرنا هو الظاهر فيكون الكلام محمولا على انشاء التبري منهم يوم القيامة وجوز النسفي أن يكون اخبارا عن أنه تبرأ منهم في الدنيا فيكون من قبل متعلقا بكفرت أو متنازعا فيه
وجوز غير واحد أن تكون ما موصولة بمعنى من كما قيل في قولهم سبحان ماسخركن لنا والعائد محذوف و من قبل متعلق بكفرت أي إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتمونيه أي جعلتموني شريكا له بالطاعة وهو الله عز و جل فأشرك منقول من شركت زيدا للتعدية الى مفعول ثان والكلام على هذا اقرار من اللعين بقدم كفره وبيان لأن خطيئته سابقة عليهم فلا إغاثة لهم منه فهو في المعنى تعليل لعدم اصراخه إياهم وزعم الامام انه لنفي تأثير الوسوسة كأنه يقول : لاتأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة وكان الظاهر على هذا تقديمه على قوله : ما أنا بمصرخكم إلى آخره ولا يظهر لتأخيره نكتة يهش لها الخاطر ومنهم من جعله تعليلا لعدم اصراخهم إياه وهو مما لاوجه له إذ لا احتمال لذلك حتى يحتاج إلى التعليل وقيل : لأن تعليل عدم إصراخهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لولا المانع من جهته
واعترض بأن نحو هذا الابهام جار في الوجه الأول وهم الكفرة الذين لاتنفعهم شفاعة الشافعين وتعقب في البحر القول بالموصولية بأن فيه اطلاق ما على الله تعالى والأصح فيها أنها لاتطلق على آحاد من يعلم و ما في سبحان ماسخركن يجوز أن تكون مصدرية بتقدير مضاف أي سبحان موجد أو ميسر تسخيركن لنا
وقال الطيبي : إن ما لاتستعمل في ذي العلم الا باعتبار الوصفية فيه وتعظيم شأنه والمثال على ذلك أي سبحان العظيم الشأن الذي سخركن للرجال مع مكركن وكيدكن وكون ما موصولة عبارة عن الصنم أي إني كفرت بالصنم الذي أشركتمونيه مما لاينبغي أن يلتفت اليه إن الظلمين لهم عذاب اليم
22 - الظاهر أنه من تمام كلام إبليس قطعا لأطماع الكفار من الاغاثة والاعانة وحكى الله تعالى عنه ماسيقوله في ذلك الوقت ليكون تنبيها للسامعين وحثا لهم على النظر في عاقبتهم والاستعداد لما لابد منه وان يتصوروا ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان مايقول فيخافوا ويعملوا ماينفعهم هناك وقيل : إنه من كلام الخزنة يوم ذاك وقيل : إنه ابتداء كلام من جهته تعالى وأيد بأنه قرأ الحسن وعمرو بن عبيد أدخل في قوله تعالى : وأدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بصيغة المضارع المسند إلى المتكلم وأنت تعلم أنه إذا اعتبرت هذه القراءة مؤيدة لهذا القول فلتعتبر قراءة الجمهور أدخل بصيغة الماضي المبني للمفعول مؤيدة لما قبله فان المدخلين الملائكة عليهم السلام فتأمل وكأن الله تعالى
(13/211)

لما جمع الفريقين في قوله سبحانه : وبرزوا لله جميعا وذكر شيئا من أحوال الكفار ذكر ما آل اليه أمر المؤمنين من ادخالهم الجنة بأذن ربهم أي بأمره سبحانه أو بتوفيقه وهدايته جل شأنه والجار والمجرور متعلق بأدخل على قراءة الجمهور وفي التعرض لوصف الربوبية مع الاضافة الى ضميرهم اظهار مزيد اللطف بهم وعلقه جماعة على القراءة الأخرى بقوله تعالى : تحيتهم فيها سلام
32
- أي يحييهم الملائكة بالسلام باذن ربهم وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري وفعل عليه وهو غير جائز لما أن ذلك في حكم تقديم جزء من الشيء المرتب الأجزاء عليه ورد بأن الظاهر أنه هنا غير منحل اليهما لأنه ليس المعنى المقصود منه أن يحيوا فيها بسلام ولو سلم فمراد القائل بالتعلق المعنوي فالعامل فيه فعل مقدر يدل عليه تحيتهم أي يحيون باذن ربهم
وقال العلامة الثاني : الأظهر أن التقديم جائز إذا كان المعمول ظرفا أو شبهه وهو في الكلام كثير والتقدير تكلف وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أول به مع أن الظرف مما يكفيه رائحة من الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه ولهذا اتسع في الظروف مالم يتسع في غيرها اه وبالجواز أقول وإنما لم يجعله المحققون متعلقا بأدخل على تلك القراءة مع أنه سالم من الاعتراض ومشتمل على الالتفات أو التجريد وهو من المحسنات لأن قولك : أدخلته باذني ركيك لايناسب بلاغة التنزيل والالتفات أو التجريد حاصل إذا علق بما بعده أيضا
وفي الانتصاف الصارف عن هذا الوجه هو أن ظاهر أدخل بلفظ المتكلم يشعر بأن ادخالهم الجنة لم يكن بواسطة بل من الله تعالى مباشرة وظاهر الاذن يشعر باضافة الدخول إلى الواسطة فبينهما تنافر واستحسن أن يعلق بخالدين والخلود غير الدخول فلا تنافر وتعقبه في الكشف بأن ذلك لايدفع الركاكة وكأنه لما أن الأذن للدخول لا للأستمرار بحسب الظاهر وكون المراد بمشيئتي وتيسيري لايدفع ذلك عند التأمل الصادق فما ذهب اليه ابن جني واستطيبه الشيخ الطيبي وارتضاه ليس بشيء لمن سلم له ذوقه ألم تر الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : لمن يصلح له والفعل معلق بما بعده من قوله تعالى : كيف ضرب الله مثلا أي كيف اعتمله ووضعه في موضعه اللائق به كلمة طيبة نصب على البدلية من مثلا و ضرب متعدية إلى مفعول واحد كما ذهب إلى ذلك الحوفي والمهدوي وابو البقاء وهو على ماقيل : بدل اشتمال ولو جعل بدل كل من كل لم يبعد واعترض عليه بأنه لامعنى لقولك ضرب الله كلمة طيبة إلا بضم مثلا اليه فمثلا هو المقصود بالنسبة فكيف يبدل منه غيره ولايخفى أن هذا بناءا على ظاهر قول النحاة : ان المبدل في نية الطرح وهو غير مسلم وقوله سبحانه : كشجرة طيبة صفة كلمة أو خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة وجوز أن يكون كلمة منصوبا بمضمر و ضرب أيضا متعدية لواحد أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة أي حكم بأنها مثلها والجملة تفسير لقوله سبحانه : ضرب الله مثلا كقولك : شرف الأمير زيدا كساه حلة وحمله على فرس وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تكلف اضمار لاضرورة تدعو اليه
وأجاب عنه السمين بما فيه بحث وجوز أيضا أن يكون ضرب المذكور متعديا إلى مفعولين اما لكونه
(13/212)

بمعنى جعل واتخذ أو لتضمينه معناه وكلمة أول مفعوليه قد أخر عن ثانيهما أعني مثلا لئلا يبعد عن صفته التي هي كشجرة قيل : ولا يرد على هذا بأن المعنى أنه تعالى ضرب لكلمة طيبة مثلا لا كلمة طيبة مثلا لأن المثل عليه بمعنى الممثل به والتقدير ذات مثل أولها مثلا وقريء كلمة بالرفع على الابتداء لكونها نكرة موصوفة والخبر كشجرة ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف و كشجرة صفة أخرى أصلها ثابت أي ضارب بعروقه في الأرض وقرأ أنس بن مالك كشجرة طيبة ثابت أصلها وقراءة الجماعة على الأصل وذكروا أنها أقوى معنى
قال ابن جني : لأنك إذا قلت ثابت أصلها فقد أجريت الصفة على شجرة وليس الثبات لها إنما هو للأصل والصفة إذا كانت في المعنى لما هو من سبب الموصوف قد تجري عليه لكنها أخص بما هي له لفظا ومعنى فالاحسن تقديم الأصل عناية به ومن ثم قالوا : زيد ضربته فقدموا المفعول عناية به حيث أن الغرض ليس ذكر الفاعل وإنما هو ذكر المفعول ثم لم يقنعوا بذلك حيث أزالوه عن لفظ الفضلة وجعلوه رب الجملة لفظا فرفعوه بالابتداء وصار ضربته ذيلا له وفضلة ملحقة به وكذلك قولك : مررت برجل أبوه قائم أقوى معنى من قولك : مررت برجل قائم أبوه لأن المخبر عنه بالقيام إنما هو الأب لا الرجل مع مافي التقديم هنا من حسن التقابل والتقسيم إلا أن لقراءة أنس وجها حسنا وهو أن ثابت اصلها صفة الشجرة وأصل الصفة أن تكون اسما مفردا لأن الجملة إذا وقعت صفة حكم على موضعها باعراب المفرد وذلك لم يبلغ مبلغ الجملة بخلاف أصلها ثابت فانه جملة قطعا وقال بعضهم : إنها أبلغ ولم يذكر وجه ذلك فزعم من زعم أنه ماأشير اليه من وجه الحسن وهو بمعزل عن الصواب
وقال ابن تمجيد : هو أنه كوصف الشيء مرتين مرة صوره ومرة معنى مع مافيه من الاجمال والتفصيل كما في ألم نشرح لك صدرك فانه لما قيل : كشجرة طيبة ثابت تبادر الذهن من جعل ثابت صفة لشجرة صورة أن شيئا من الشجرة متصف بالثبات ثم لما قيل : أصلها علم صريحا أن الثبات صفة أصل الشجرة وقيل : كونها أكثر مبالغة لجعل الشجرة بثبات أصولها ثابتة بجميع أغصانها فتدبر وفروعها أي أعلاها من قولهم : فرع الجبل اذا علاه وسمى الاعلى فرعا لتفرعه على الاصل ولهذا أفرد والا فكل شجرة لها فروع وأغصان ويجوز أن يراد به الفروع لأنه مضاف والاضافة حيث لاعهد ترد للاستغراق أو لأنه مصدر بحسب الاصل واضافته على مااشتهر تفيد العموم فكأنه قيل : وفروعها في السماء
42
- أي في جهة العلو تؤتى أكلها تعطي ثمرها كل حين وقت أقته الله تعالى لإثمارها بأذن ربها بارادة خالقها جل شأنه والمراد بالكلمة الطيبة شهادة أن لا اله الا الله على ما أخرجه البيهقى وغيره عن ابن عباس وعن الاصم أنها القرآن وعن ابن بحر دعوة الاسلام وقيل : التسبيح والتنزيه وقيل : الثناء على الله تعالى مطلقا وقيل : كل كلمة حسنة وقيل : جميع الطاعات وقيل : المؤمن نفسه واخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وهو خلاف الظاهر وكأن اطلاق الكلمة عليه نظير إطلاقها على عيسى عليه السلام والمراد بالشجرة المشبه بها النخلة عند الاكثرين وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن زيد واخرج عبد الرزاق والترمذي وغيرهما عن شعيب بن الحبحاب قال : كنا عند أنس فأتينا بطبق
(13/213)

عليه رطب فقال أنس لأبي العالية : كل ياأبا العالية فان هذا من الشجرة التي ذكرها الله تعالى في كتابه ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ثابت أصلها واخرج الترمذي أيضا والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه عن انس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بقناع من بسر فقال : مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة حتى بلغ كل حين قال : هى النخلة 1
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنها شجرة جوز الهند وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه رضى الله تعالى عنه أيضا أنها شجرة في الجنة وقيل : كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ولم يتأت حمل ما فيه على التمثيل لاينبغي العدول عنه
ووجه التشبيه الكلمة الطيبة بمعنى شهادة أن لا إله إلا الله بهذه الشجرة المنعوتة بما ذكر أن أصل تلك الكلمة ومنشآها وهو الايمان ثابت في قلوب المؤمنين وما يتفرع منها وينبني عليها من الاعمال الصالحة والافعال الزكية يصعد إلى السماء وما يترتب على ذلك من ثواب الله تعالى ورضاه هو الثمرة التي تؤتيها كل حين ويقال نحو هذا على تقدير أن تكون الكلمة بمعنى آخر فتأمل والذاهبون إلى تفسير الشجرة بالنخلة من السلف اختلفوا في مقدار الحين فأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب أنه شهران قال : إن النخلة إنما يكون فيها حملها شهرين
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه سنة وقيل غير ذلك واختلفت الروايات عن ابن عباس والأشهر أنه فسره بستة أشهر وقال : إن النخلة مابين حملها الى صرامها ستة أشهر وأفتى رضي الله تعالى عنه لرجل حلف أن لايكلم أخاه حينا أنه لو كلمه قبل ستة أشهر حنث وهو الذي قال به الحنفية فقد ذكروا أن الحين والزمان معرفين أو منكرين واقعين في النفي أو في الاثبات ستة أشهر وعللوا ذلك بأن الحين قد جاء بمعنى الساعة وبمعنى أربعين سنة وبمعنى الأبد وبمعنى ستة أشهر فعند عدم النية ينصرف اليه لأنه الوسط ولأن القليل لايقصد بالمنع لوجود الامتناع فيه عادة والاربعون سنة لاتقصد بالحلف عادة لأنه في معنى الأبد ولو سكت عن الحين تأبد فالظاهر أنه لم يقصد ذلك ولا الأبد ولا أربعين سنة فيحكم بالوسط في الاستعمال والزمان استعمل استعمال الحين ويعتبر ابتداء الستة أشهر من وقت اليمين في نحو لا أكلم فلانا حينا مثلا وهذا بخلاف لأصومن حينا فان له أن يعين فيه أي ستة أشهر شاء كما بين في محله ومتى نوى الحالف مقدارا معينا في الحين وأخيه صدق لأنه نوى حقيقة كلامه لأن كلا منهما للقدر المشترك بين القليل والكثير والمتوسط واستعمل في كل كما لايخفى على المتتبع فليتذكر ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون
52
- لأن في ضربها زيادة افهام وتذكير فانه تصوير المعاني العقلية بصور المحسوسات وبه يرتفع التنازع بين الحس والخيال
ومثل كلمة خبيثة وهي كلمة الكفر أو الدعاء اليه أو الكذب أو كل كلمة لايرضاها الله تعالى وقرىء ومثل بالنصب عطفا على كلمة طيبة وقرأ أبي وضرب الله مثلا كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ولعل تغيير الاسلوب على قراءة الجماعة للايذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان وإنما ذلك أمر ظاهر يعرفه كل أحد وفي الكلام مضاف مقدر أي كمثل شجرة خبيثة والمثل بمعنى الصفة الغريبة اجتثت أي اقتلعت من أصلها وحقيقة الاجتثات أخذ الجثة وهي شخص الشيء كلها من فوق الأرض لكون عروقها قريبة
(13/214)

من الفوق فكأنها فوق مالها من قرار
62
- أي استقرار على الأرض والمراد بهذه الشجرة المنعوتة الحنظلة وروى ذلك أيضا مرفوعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن الضحاك أنها الكشوث ويشبه به الرجل الذي لاحسب له ولا نسب كما قال الشاعر : فهو الكشوث فلا أصل ولا ورق ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر وقال الزجاج وفرقة شجرة الثوم وقيل : شجرة الشوك وقيل : الطحلب وقيل : الكمأة وقيل : كل شجر لايطيب له ثمر وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها شجرة لم تخلق على الأرض والمقصود التشبيه بما اعتبر فيه تلك النعوت وقال ابن عطية : الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الاوصاف وفي رواية عن الحبر أيضا تفسير هذه الشجرة بالكافر وروى الامامية وأنت تعرف حالهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه تفسيرها ببني أمية وتفسير الشجرة الطيبة برسول الله صلى الله عليه و سلم وعلي كرم الله تعالى وجهه وفاطمة رضي الله تعالى عنها وما تولد منهما وفي بعض روايات أهل السنة مايعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني أمية
فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن أبي حاتم قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير عباده العرب وقلب العرب ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريشا وهي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه : مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة لأن بني أمية من قريش وأخبار الطائفتين في هذا الباب ركيكة وأحوال بني أمية التي يستحقون بها مايستحقون غير خفية عند الموافق والمخالف والذي عليه الاكثرون في هذه الشجرة الخبيثة أنها الحنظل وإطلاق الشجرة عليه للمشاكلة والا فهو نجم لاشجر وكذا يقال في اطلاقه على الكشوث ونحوه
وللامام الرازي قدس سره كلام في هذين المثلين لابأس بذكره ملخصا وهو انه تعالى ذكر في المثل الاول شجرة موصوفة بأربع صفات ثم شبه الكلمة الطيبة بها
الصفة الاولى كونها طيبة وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر وكونها طيبة الرائحة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كونها لذيذة مستطابة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كثرة الانتفاع بها ويحب ارادة الجميع اذ به يحصل كمال الطيب
والثانية كون أصلها ثابتا وهو صفة كمال لها لأن الشيء الطيب اذا كان في معرض الزوال فهو وان كان يحصل الفرح بوجدانه الا أنه يعظم الحزن بالخوف من زواله واما اذا لم يكن كذلك فانه يعظم السرور به من غير ماينغص ذلك
والثالثة كون فرعها في السماء وهو أيضا صفة كمال لها لأنها متى كانت مرتفعة كانت بعيدة عن عفونة الارض وقاذورات الابنية فكانت ثمرتها نقية خالصة عن جميع الشوائب
والرابعة كونها دائمة الثمر لا أن ثمرها حاضر في بعض الاوقات دون بعض وهو صفة كمال أيضا اذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذ
ثم إن من المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها ينبغي أن يقوم له على ساق ولا يتساهل عنه والمراد من الكلمة المشبهة بذلك معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته سبحانه وطاعته وشبه ذلك للشجرة في صفاتها الأربعة أما في الاولى فظاهر بل لا لذة ولا طيب في الحقيقة إلا لهذه المعرفة لأنها ملائمة لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ولا كذلك لذة
(13/215)

الفواكه إذ هي أمر ملائم لمزاج البدن ومن تأمل أدنى تأمل ظهر له فروق لاتحصى بين اللذتين وأما في الصفة الثانية فثبوت الاصل في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل لأن عروقها راسخة في جوهر النفس القدسية وهو جوهر مجرد آمن عن الكون والفساد بعيد عن التغير والفناء وأيضا مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلى جلال الله وهو من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور وذلك مما يمتنع عقلا زواله وأما في الصفة الثالثة فلأن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الالهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني والنوع الاول اقسامه كثيرة يجمعها قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : التعظيم لامر الله تعالى ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفته سبحانه كاحوال العوالم العلوية والسفلية وكذا محبة الله تعالى والتشوق اليه سبحانه والمواظبة على ذكره جل شأنه والاعتماد عليه وقطع النظر عما سواه جل وعلا الى غير ذلك والنوع الثاني أقسامه كذلك ويجمعها قوله عليه الصلاة و السلام والشفقة على خلق الله تعالى ويدخل فيه الرأفة والرحمة والصفح والتجاوز عن الاساءة والسعي في ايصال الخير الى عباد الله تعالى ودفع الشرور عنهم ومقابلة الاساءة بالاحسان الى مالا يحصى وهي فروع من شجرة المعرفة فان الانسان كلما كان متوغلا فيها كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى وأما في الصفة الرابعة فلأن شجرة المعرفة موجبة لما عملت من الاحوال ومؤثرة في حصولها والمسبب لاينفك عن السبب فدوام أكل هذه الشجرة أتم من دوام أكل الشجرة المنعوتة فهي أولى بهذه الصفة بل ربما توغل العبد في المعرفة فيصير بحيث كلما لاحظ شيئا لاحظ الحق فيه وربما عظم ترقيه فيصير لايرى شيئا الا يرى الله تعالى قبله وأيضا قد يحصل للنفس من هذه المعرفة الهامات نفسانية وملكات روحانية ثم لايزال يصعد منها في كل حين ولحظة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل كثمرة هذه الشجرة وفي قوله سبحانه : باذن ربها دقيقة عجيبة وذلك لأن الانسان عند حصول هذه الأحوال السنية والدرجات العلية قد يفرح بها من حيث هي هي وقد يترقى فلا يفرح بها كذلك وانما يفرح بها من حيث أنها من المولى جل جلاله وعند ذلك يكون فرحه في الحقيقة بالمولى تبارك وتعالى ولذلك قال بعض المحققين : من آثر العرفان للعرفان فقد وقف بالساحل ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول
وذكر بعضهم في هذا المثال كلاما لايخلو عن حسن وهو أنه إنما مثل سبحانه الايمان بالشجرة لأن الشجرة لاتستحق أن تسمى شجرة الا بثلاثة أشياء : عرق راسخ وأصل قائم وأغصان عالية فكذلك الايمان لايتم الا بثلاثة أشياء : معرفة في القلب وقول باللسان وعمل بالاركان ولم يرتض قدس سره تفسير الشجرة بالنخلة ولا الحين بما شاع فقال : بعد نقل كلام جماعة إن هؤلاء وان أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية ألا أنهم بعدوا عن ادراك المقصود لأنه تعالى وصف شجرة بالصفات المذكورة ولا حاجة بنا الى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها فانا نعلم بالضرورة أن الشجرة الكذائية يسعى في تحصيلها وادخارها لنفسه كل عاقل سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل واختلافهم في تفسير الحين أيضا من هذا الباب والله تعالى أعلم وذكر تبارك وتعالى في المثل الثاني شجرة أيضا الا انه تعالى وصفها بثلاث صفات
الصفة الاولى كونها خبيثة وذلك يحتمل أن يكون بحسب الرائحة وأن يكون بحسب الطعم وأن يكون بحسب الصورة وأن يكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة
(13/216)

ولا حاجة إلى القول بأنها شجرة كذا أو كذا فان الشجرة الجامعة لتلك الصفات وإن لم تكن موجودة الا أنها إذا كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعا في المطلوب
والثانية اجتثاثها من فوق الارض وهذه في مقابلة أصلها ثابت في الاول
والثالثة نفى أن يكون لها قرار وهذه كالمتممة للصفة الثانية والمراد بالكلمة المشبهة بذلك الجهل بالله تعالى والاشراك به سبحانه فانه أول الآفات وعنوان المخافات ورأس الشقاوات فخبثه أظهر من أن يخفى وليس له حجة ولاثبات ولا قوة بل هو داحض غير ثابت اه وهو كلام حسن لكن فيه مخالفة لظواهر كثير من الآثار فتأمل يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة والظاهر أن الجار متعلق بتثبيت وكذا قوله سبحانه : في الحياة الدنيا أي يثبتهم بالبقاء على ذلك مدة حياتهم فلا يزالون إذا قيض لهم من يفتنهم ويحاول زللهم عنه كما جرى لأصحاب الاخدود ولجرجيس وشمسون وكما جرى لبلال وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضى الله تعالى عنهم وفي الآخرة أي بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ولا تدهشهم الاهوال وأخرج ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب أنه قال في الآية : التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا له : من ربك قال : ربي الله قالا : وما دينك قال : ديني الاسلام قالا : ومن نبيك قال : نبي محمد صلى الله عليه و سلم وعلى هذا فالمراد من الآخرة يوم القيامة وأخرج الطبراني في الاوسط وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في هذه الاية : يثبت الله الخ في الآخرة القبر وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء واختاره الطبرى نعم اختار بعضهم ان الحياة الدنيا مدة حياتهم والآخرة يوم القيامة والعرض وكان الداعي لذلك عموم الذين آمنوا وشمولهم لمؤمني الامم السابقة مع عدم عموم سؤال القبر وجوز تعلق الجار الأول بآمنوا على معنى آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لايليق بجنابه سبحانه وكذا جوز تعلق الجار الثاني بالثابت ومن الناس من زعم أن التثبيت في الدنيا الفتح والنصر وفي الآخرة الجنة والثواب ولا يخفى أن هذا مما لايكاد يقال وأمر تعلق الجارين ما قدمنا وهذا عند بعضهم مثال إيتاء الشجرة أكلها كل حين ويضل الله الظالمين أي يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب ارادتهم واختيارهم الناشيء عن سوء استعدادهم والمراد بهم الكفرة بدليل مقابلتهم بالذين آمنوا ووصفهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعه وإما باعتبار ظلمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابت أو حيث قلدوا أهل الضلال وأعرضوا عن البينات الواضحة واضلالهم على ماقيل في الدنيا أنهم لايثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وازل واخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره فاذا دخل قبره اقعد فقيل له : من ربك فلم يرجع اليهم شيئا وانساه الله تعالى ذكر ذلك وإذا قيل له : من
(13/217)

الرسول الذي بعث اليكم لم يهتد له ولم يرجع اليهم شيئا فذلك قوله تعالى : ويضل الله الظالمين : ويفعل الله مايشاء
72
- من تثبيت بعض واضلال بعض آخرين حسبما توجبه مشيئته التابعة للحكم البالغة المقتضية لذلك وفي اظهار الاسم الجليل في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة مالايخفى مع مافيه كما قيل من الايذان بالتفاوت في مباديء التثبيت والاضلال فان مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ماهو مبدأ صدور الآخر وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة مافيها ألم تر تعجيب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل أحد مما صنع الكفرة من الاباطيل أي ألم تنظر إلى الذين بدلوا نعمت الله أي شكر نعمته تعالى الواجب عليهم ووضعوا موضعه كفرا عظيما وغمطا لها فالكلام على تقدير مضاف حذف واقيم المضاف اليه مقامه وهو المفعول الثاني و كفرا المفعول الاول وتوهم بعضهم عكس ذلك وقد لايحتاج إلى تقدير على معنى أنهم بدلوا النعمة نفسها كفرا لأنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبيها موصوفين بالكفر وقد ذكر هذا كالاول الزمخشري والوجهان كما في الكشف خلافا لما قرره الطيبي وتابعه عليه غيره متفقان في أن التبديل ههنا تغيير في الذات إلا أنه واقع بين الشكر والكفر أو بين النعمة نفسها والكفر والمراد بهم أهل مكة فان الله سبحانه أسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه و سلم فكفروا نعمة الله تعالى بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم أو أصابهم الله تعالى بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين فكفروا نعمته سبحانه فضربهم جل جلاله بالقحط سبع سنين وقتلوا وأسروا يوم بدر فحصل لهم الكفر بدل النعمة وبقى ذلك طوقا في أعناقهم
وأخرج الحاكم وصححه وابن جرير والطبراني وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هؤلاء المبدلين هما الافجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع الله تعلى دابرهم يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين
وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك 1
وجاء في رواية كما في جامع الاصول هم والله كفار قريش
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : هم جبلة بن الايهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم ولعله رضي الله تعالى عنه لايريد أنها نزلت في جبلة ومن معه لأن قصتهم كانت في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه إنما يريد أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة وأحلوا أي انزلوا قومهم بدعوتهم إياهم لما هم فيه من الضلال ولم يتعرض لحلولهم لدلالة الاحلال عليه إذ هو فرع الحلول كما قالوا في قوله تعالى في فرعون : يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار دار البوار
82
- أي الهلاك من بار يبور بوارا وبورا قال الشاعر : فلم أر مثلهم أبطال حرب غداة الحرب إذ خيف البوار وأصله كما قال الراغب فرط الكساد ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر به عن الهلاك جهنم عطف بيان للدار وفي الابهام ثم البيان مالايخفى من التهويل وأعربه الحوفي وأبو البقاء بدلا منها وقوله تعالى : يصلونها أي يقاسون حرها حال من الدار أو من جهنم أو من قومهم أو استئناف لبيان كيفية الحلول وجوز أبو البقاء كون جهنم منصوبا الاشتغال أي يصلون
(13/218)

جهنم يصلونها واليه ذهب ابن عطية فالمراد بالاحلال حينئذ تعريضهم للهلاك بالقتل والاسر وأيد بما روى عطاء أن الآية نزلت في قتلى بدر وبقراءة ابن أبي عبلة جهنم بالرفع على الابتداء ويحتمل أن يكون جهنم على هذه القراءة خبر مبتدأ محذوف واختاره أبو حيان معللا بأن النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه ولا مالا يجعله مساويا وجمهور القراء على النصب ولم يكونوا ليقرؤا بغير الراجح أو المساوي إذ زيد ضربته بالرفع أرجح من زيدا ضربته فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في تلك القراءة راجحا وأنت تعلم أن قوله تعالى : قل تمتعوا فان مصيركم الى النار يرجح التفسير السابق وبئس القرار
92
- على حذف المخصوص بالذم أي بئس القرار هي أي جهنم أو بئس القرار قرارهم فيها وفيه بيان أن حلولهم وصليهم على وجه الدوام والاستمرار وجعلوا عطف على أحلوا أو ماعطف عليه داخل معه في حيز الصلة وحكم التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم لله الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء وهو الواحد القهار أندادا أمثالا في التسمية أو في العبادة وقال الراغب : ند الشيء مشاركه في جوهره وذلك ضرب من المماثلة فان المثل يقال في أي مشاركة كانت فكل ند مثل وليس كل مثل ندا ولعل المعول عليه هنا ماأشرنا اليه
ليضلوا قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا عن سبيله القويم الذي هو التوحيد وقيل : مقتضى ظاهر النظم الكريم أن يذكر كفرانهم نعمة الله تعالى ثم كفرانهم بذاته سبحانه باتخاذ الانداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار ولعل تغيير الترتيب لتثنية التعجيب وتكريره والايذان بأن كل واحد هذه الهنات يقضي منه العجب ولو سيق النظم على نسق الوجود لربما فهم التعجيب من المجموع وله نظائر في الكتاب الجليل وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب ليضلوا بفتح الياء والظاهر أن اللام في القراءتين مثلها في قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وذلك أنه لما كان الاضلال أو الضلال نتيجة للجعل المذكور شبه بالغرض والعلة الباعثة فاستعمل له حرفه على سبيل الاستعارة التبعية قاله غير واحد وقيل عليه : إن كون الضلال نتيجة للجعل لله سبحانه اندادا غير ظاهر إذ هو متحد معه أو لازم لاينفك عنه إلا أن يراد الحكم به أو دوامه ورد بأنهم مشركون لايعتقدون أنه ضلال بل يزعمون أنه اهتداء فقد ترتب على اعتقادهم ضده على أن المراد بالنتيجة مايترتب على الشيء أعم من أن يكون من لوازمه أولا وفيه تأمل قل لأولئك الضلال المتعجب منهم تمتعوا بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها تبديل نعمة الله تعالى كفرا واستتباع الناس في الضلال وجعل ذلك متمتعا به تشبيها له بالمشتهيات المعروفة لتلذذهم به كتلذذهم بها وفي التعبير بالأمر كما قال الزمخشري إيذان بأنهم لانغماسهم بالتمتع بما هم عليه وأنهم لايعرفون غيره ولايريدونه مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع لايسعهم ان يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرا دونه وهو آمر الشهوة وعلى هذا يكون قوله تعالى : فان مصيركم إلى النار
3
- جواب شرط ينسحب عليه الكلام على ما أشار اليه بقوله : والمعنى أن دمتم على ما انتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فان مصيركم الى النار ويجوز أن يكون الأمر مجازا عن التخلية والخذلان وأن ذلك الآمر متسخط إلى غاية ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك أن ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم فتبالغ في نصحه واستنزاله
(13/219)

عن رأيه فاذا لم تر منه إلا الاباء والتصميم حردت عليه وقلت : أنت وشأنك فافعل ماشئت فلا تريد بهذا حقيقة الأمر ولكنك كأنك تقول : فاذا قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك أفعل ماشئت وتبعث عليه ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح وفساد رأيك انتهى
قال صاحب الكشف : إن الوجهين مشتركان في إفادة التهديد لكن الاداء اليه مختلف والأول نظير ما إذا أطاع أحد عبيدك بعض من تنتقم طريقته فتقول : اطع فلانا وهذا صحيح صدر من المنقوم أمر ومن العبد طاعة أو كان منه موافقة لبعض ما يهواه والقسم الاخير هو مانحن فيه والثاني ظاهر انتهى
وظاهر هذا ان التهديد على الوجهين مفهوم من صيغة الأمر ويفهم من كلام بعض الأجلة أن ذلك على الوجه الأول من الشرطية وعلى الثاني من الأمر وما في حيز القاء تعليل له ولعل النظر الدقيق قاض بما أفتى به ظاهر ما في الكشف وذكر غير واحد أن هذا كقول الطبيب لمريض يأمره بالاحتماء فلا يحتمي : كل ماتريد فان مصيرك إلى الموت فان المقصود كما قال صاحب الفرائد التهديد ليرتدع ويقبل مايقول
وجعل الطيبي ماقرر في المثال هو المراد من قول الزمخشري ان في تمتعوا إيذانا بأنهم لانغماسهم الخ وأنت تعلم أنه ظاهر في الوجه الثاني فافهم والمصير مصدر صار التامة بمعنى رجع وهو اسم إن و إلى النار في موضع الخبر ولا ينبغي أن يقال : إنه متعلق بمصير وهو من صار بمعنى انتقل ولذا عدى بإلى لأنه يدعو إلى القول بحذف خبر إن وحذفه في مثل هذا التركيب قليل والكثير فيما اذا كان الاسم نكرة والخبر جار ومجرور والحوفي جوز هذا التعلق فالخبر عنده محذوف أي فان مصيركم إلى النار واقع أو كائن لامحالة
ثم انه تعالى لما هدد الكفار وأشار إلى انهماكهم في اللذة الفانية أمر نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأمر خلص عباده بالعبادة البدنية والمالية فقال سبحانه : قل لعبادي الذين ءامنوا وخصهم بالاضافة اليه تعالى رفعا لهم وتشريفا وتنبيها على أنهم المقيمون لوظائف العبودية الموفون بحقوقها وترك العطف بين الأمرين للايذان بتباين حالهما تهديدا وغيره ومقول القول على ماذهب اليه المبرد والاخفش والمازني محذوف دل عليه يقيموا أي قل لهم : أقيموا الصلاة وأنفقوا
ويقيموا الصلاة وينفقوا ممارزقناهم والفعل المذكور مجزوم على أنه جواب قل عندهم وأورد أنه لايلزم من قوله عليه الصلاة و السلام : أقيموا وأنفقوا أن يفعلوا ورد بأن المقول لهم الخلص وهم متى أمروا امتثلوا ومن هنا قالوا : إن في ذلك إيذانا بكمال مطاوعتهم وغاية مسارعتهم إلى الامتثال ويشد عضد ذلك حذف المقول لما فيه من إيهام انهم يفعلون من غير أمر على أن مبني الايراد على أنه يشترط في السبيبة التامة وقد منع وجعل ابن عطية قل بمعنى بلغ وأد الشريعة والجزم في جواب ذلك وهو قريب مما تقدم
وحكى عن أبي علي وعزى للمبرد أن الجزم في جواب الأمر المقول المحذوف وتعقبه أبو البقاء بأنه فاسد لوجهين : الاول أن جواب الشرط لابد أن يخالف فعل الشرط أما في الفعل أو في الفاعل أو فيهما فاذا اتحدا لايصح كقولك : قم تقم اذ التقدير هنا إن يقيموا يقيموا والثاني أن الأمر المقدر للمواجهة والفعل المذكور على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا وقيل عليه : إن الوجه الأول قريب وأما الثاني فليس بشيء لأنه يجوز أن تقول : قل لعبدك أطعني يطعك وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال
(13/220)

وعن أبي علي وجماعة أن يقيموا خبر في معنى الأمر وهو مقول القول ورد بحذف النون وهي في مثل ذلك لاتحذف ومنه قوله تعالى : هل ادلكم على تجارة تنجيكم الى قوله سبحانه : تؤمنون اذ المراد منه آمنوا والقول بأن لما كان بمعنى الأمر بني على حذف النون كما بني الاسم المتمكن في النداء على الضم في نحو يازيد لما شبه بقيل وبعد وما لم يبين إنما لوحظ فيه لفظه مما لايكاد يلتفت اليه وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن مقول القول وهو مجزوم بلام أمر مقدرة أي ليقيموا وينفقوا على حد قول الاعشى : محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من أمر تبالا وأنت تعلم أن اضمار الجازم أضعف من اضمار الجار الا أن تقدم قل نائب منابه كما أن كثرة الاستعمال في أمر المخاطب ينوب مناب ذلك والشيءإذا كثر في موضع أو تأكد الدلالة عليه جاز حذفه منه حذف الجار من أني إذا كانت بمعنى من أين وبما ذكرنا من النيابة فارق ما هنا مافي البيت فلا يضرنا تصريحهم فيه بكون الحذف ضرورة وعن ابن مالك أنه جعل حذف هذه اللام على أضرب قليل وكثير ومتوسط فالكثير ان يكون قبله قول بصيغة الامر كما في الآية والمتوسط ماتقدمه قول غير أمر كقوله : قلت لبواب لديه دارها تيذن فاني حمها وجارها والقليل ماسوى ذلك وظاهر كلام الكشف اختيار هذا الوجه حيث قال المدقق فيه : والمعنى على هذا أظهر لكثرة ما يلزم من الاضمار وان تقييد الجواب بقوله تعالى : من قبل أن يأتي الى ولا خلال ليس فيه كثير طائل انما المناسب تقييد الامر به وقال ابن عطية : ويظهر أن مقول القول الله الذي الخ ولا يخفى ما في ذلك من التفكيك على أنه لايصح حينئذ أن يكون يقيموا مجزوما ما في جواب الامر لأن قول الله الذي الخ لايستدعي أقامة الصلاة والانفاق الا بتقدير بعيد جدا هذا والمراد بالصلاة قيل ما يعم كل صلاة فرضا كانت أو تطوعا وعن ابن عباس تفسيرها بالصلاة المفروضة وفسر الاتفاق بزكاة الاموال
ولايخفى عليك ان زكاة المال انما فرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد صدقة الفطر وان هذه السورة كلها مكية عند الجمهور والآيتين ليست هذه الآية احداهن عند بعض ثم ان لم يكن هذا المأمور به في الآية مامورة به من قبل فالامر ظاهر وان كان مأمورا به فالامر للدوام فتحقق ذلك ولا تغفل سرا وعلانية منتصبان على المصدرية لكن من الامر المقدر أو من الفعل المذكور على ماذهب اليه الكسائي ومن معه على ماقبل والاصل انفاق سر وانفاق علانية فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه فانتصب انتصابه ويجوز أن يكون الاصل انفاقا سرا وإنفاقا علانية فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه وجوز أن يكونا منتصبين على الحالية أما على التأويل بالمشتق أو على تقدير مضاف أي مسرين ومعلنين أو ذوي سر وعلانية أو على الظرفية أي في سر وعلانيته وقد تقدم الكلام في حكم نفقة السر ونفقة العلانية من قبل أن يأتي يوم لابيع فيه فيبتاع المقصر فيه ما يتلافى به تقصيره أو يفتدى به نفسه والمقصود كما قال بعض المحققين نفى عقد المعاوضة بالمرة وتخصيص البيع بالذكر للايجاز مع المبالغة في نفي العقد اذ انتفاء البيع يستلزم انتفاء الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه ربما يتصور مع تحقق الايجاب من البائع انتهى وقيل : إن البيع كما يستعمل في اعطاء المثمن وأخذ الثمن وهو المعنى الشائع يستعمل في اعطاء الثمن وأخذ المثمن وهو معنى الشراء وعلى هذا جاء قوله صلى الله تعالى
(13/221)

عليه وسلم : لايبيعن أحدكم على بيع أخيه ولا مانع من ارادة المعنيين هنا فان قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه مطلقا كما قال به الشافعية أو في النفي كما قال به ابن الهمام فذاك والا احتجنا الى ارتكاب عموم المجاز فكأنه قيل : لامعاوضة فيه ولا خلال
13
- أي مخالفة فهو كما قال أبو عبيدة وغيره مصدر خاللته كالخلال وقال الأخفش : هو جمع خليل كأخلاء وأخلة والمراد واحد وهو نفي أن يكون هناك خليل ينتفع به بأن يشفع له أو يسامحه بما يفتدى به ويحتمل أن يكون المعنى من قبل أن يأتي يوم لاانتفاع فيه لما لهجوا بتعاطيه من البيع والمخالفة ولا انتفاع بذلك وانما الانتفاع والارتفاق فيه بالانفاق لوجه الله تعالى فعلى الاول المنفي البيع والخلال في الآخرة وعلى هذا المراد نفي البيع والخلال الذين كانا في الدنيا بمعنى نفي الانتفاع بهما و فيه ظرف للانتفاع المقدر حسبما أشرنا اليه ولا يشكل ما هنا مع قوله تعالى : الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين حيث أثبت فيه المخالفة وعدم العداوة بين المتقين لأن المراد هنا على ماقيل نفي المخالفة النافعة بذاتها في تدارك ما فات ولم يذكر في تلك الآية أن المتقين يتدارك بعضهم لبعض ما فات
وقيل في التوفيق بين الآيتين : إن المراد لا مخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس وتلك المخالة الواقعة بين المتقين في الله تعالى مع أن الاستثناء من الاثبات لايلزمه النفي وان سلم لزومه فنفى العداوة لايلزم منه المخالة وهو كما ترى ومثله ماقيل : إن الاثبات والنفي بحسب المواطن والظرف على ما استظهره غير واحد متعلق بالامر المقدر وعلقه بالفعل المذكور من رأى رأي الكسائي ومن معه بل وبعض من رأى غير ذلك إلا أنه لايخلو عن شيء وتذكير اتيان ذلك اليوم على مافي ارشاد العقل السليم لتأكيد مضمون الأمر من حيث أن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك بهالتقصير معارضة وتبرعا وانقطاع آثار البيع والخلال الواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الاتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الانفاق في سبيل الله تعالى أو من حيث أن ادخار المال وترك انفاقه إنما يقع غالبا للتجارات والمهاداة فحيث لايمكن ذلك في الآخرة فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت وتخصيص أمر الانفاق بذلك التأكيد لميل النفوس الى المال وكونها مجبولة على حبه والضنة به وفيه أيضا أنه لايبعد أن يكون تأكيدا لمضمون الأمر باقامة الصلاة أيضا من حيث أن تركها كثيرا مايكون للاشتغال بالبياعات والمخاللات كما في قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا اليها وأنت تعلم بعده لفظا بناء على تعلق سرا وعلانية بالامر بالانفاق ثم ان ماذكر من الوجهين في الآية هو الذي ذكره بعض المحققين واقتصر الزمخشري فيها على الوجه الثاني وكلامه في تقريره ظاهر في أن فائدة التقييد الحث على الانفاق حسبما بينه في الكشف وفيه في تقرير الحاصل أن قوله تعالى : لا بيع فيه ولا خلال أي لا انتفاع بهما كناية عن الانتفاع بما يقابلهما وهو ما انفق لوجه الله تعالى فهو حث على الانفاق لوجه سبحانه كأنه قيل : لينفقوا له من قبل أن يأتي يوم ينتفع بانفاقهم المنفقون له ولا ينفع الندم لمن أمسك والعدول الى مافي النظم الجليل ليفيد الحصر وان ذلك وحده هو المنتفع به وليفيد المضادة بين ماينفع عاجليا وما ينفع آجليا وذكر في آية البقرة من قبل أن يأتي يوم لابيع فيه ولا خلة أن المعنى من قبل أن يأتي يوم لاتقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الانفاق لأنه لابيع حتى تبتاعوا ماتنفقونه ولا خلة حتى يسامحكم أخلاؤكم به وبين المدقق وجه اختصاص كل من المعنيين بموضعه مع صحةجريانهما جميعا في
(13/222)

كل من الموضعين بأن الأول خطاب عام فكان الحث فيه على الانفاق مطلقا وتصوير أن الانفاق نفسه هو المطلوب فليغتنم قبل أن يأتي يوم يفوت فيه ولا يدركه الطالب هو الموافق لمقتضى المقام وأن الثاني لما اختص بالخلص كان الموافق للمقام تحريضهم على ماهم عليه من الانفاق ليدوموا عليه فقيل : دوموا عليه وتمسكوا به تغتبطوا يوم لاينفع إلا من دام عليه ولو قيل : دوموا عليه قبل أن يفوتكم ولا تدركوه لم يكن بتلك الوكادة لأن الأول بالحث على طلب أصل الفعل أشبه والثاني بطلب الدوام فتفطن له اه ولا يخلو عن دغدغة
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ويعقوب لابيع فيها ولا خلال بفتح الاسمين تنصيصا على استغراق النفي ودلالة الرفع على ذلك باعتبار خطابي هو على ماقيل وقوعه في جواب هل فيه بيع أو خلال ثم أنه لما ذكر سبحانه أحوال الكافرين لنعمه وأمر المؤمنين باقامة مراسم الطاعة شكرا لها شرع جل وعلا في تفصيل ما يستوجب على كافة الانام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام حثا للمؤمنين عليها وتقريعا للكفرة المخلين أتم اخلال بها فقال عز قائلا : الله الذي خلق السموات والارض الخ وهذا أولى ماقيل : أنه تعالى لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والاشقياء وكان حصول السعادة بمعرفة الله تعالى وصفاته والشقاوة بالجهل بذلك ختم الوصف بالدلائل الدالة على وجوده جل شأنه وكمال علمه وقدرته فقال سبحانه ما قال لظهور اعتبار المذكورات في حيز الصلة نعما لا دلائل والاسم الجليل مبتدأ والموصول خبره ولا يخفى مافي الكلام من تربية المهابة والدلالة على قوة السلطان والمراد خلق السموات وما فيها من الاجرام العلوية والارض وما فيها من أنواع المخلوقات وأنزل من السماء أي السحاب ماء أي نوعا منه وهو المطر وسمى السحاب سماء لعلوه وكل ماعلاك سماء وقيل : المراد بالسماء الفلك المعلوم فان المطر منه يتبدى الى السحاب ومن السحاب الى الارض وعليه الكثير من المحدثين لظواهر الاخبار
واستبعد ذلك الامام لأن الانسان ربما كان واقفا على قمة جبل عال ويرى السحاب أسفل منه فاذا نزل رآه ماطرا ثم قال : واذا كان هذا امرا مشاهدا بالبصر كان النزاع فيه باطلا وأول بعضهم الظواهر لذلك بأن معنى نزول المطر من السماء نزوله أسباب ناشئةمنها واياما كان فمن ابتدائية وهي متعلقة بأنزل وتقديم المجرور على المنصوب اما باعتبار كونه مبتدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك : أعطاء السلطان من خزائنه مالا أو لما مر غير مرة من التشويق الى المؤخر فأخرج به أي بذلك الماء من الثمرات رزقا لكم تعيشون به وهو بمعنى المرزوق مرادا به المعنى اللغوي وهو كل ما ينتفع به فيشمل المطعوم والملبوس ونصبه على انه مفعول أخرج و من الثمرات بيان له فهو في موضع الحال منه وتقدم من البيانية على ما تبينه قد اجازه الكثير من النحاة وقد مر الكلام في ذلك واستظهر أبو حيان المانع لذلك كون من للتبعيض والجار والمجرور في موضع الحال و رزقا مفعول أخرج أيضا وجوز أن تكون من بمعنى بعض مفعول أخرج و رزقا بمعنى مرزوقا حالا منه فهو بيان للمراد من بعض الثمرات لأن منها ماينتفع به فهو رزق ومنها ما ليس كذلك ويجوز أن يكون رزقا باقيا على مصدريته ونصبه على انه مفعول له أي أخرج به ذلك لأجل الرزق والانتفاع به أو مفعول مطلق لأخرج لأن أخرج بعض الثمرات في معنى رزق فيكون في معنى قعدت جلوسا على المشهور وقيل : من زائدة ولا يرى جواز ذلك هنا إلا الاخفش و لكم
(13/223)

صفة لرزقا ان أريد به المرزوق ومفعول به إن أريد به المصدر كأنه قيل : رزقا اياكم والباء للسببية
ومعنى كون الاخراج بسببه أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة باذنه في ذلك حسبما جرت به حكمته الباهرة مع غناه الذاتي سبحانه عن الاحتياج اليه في الاخراج وهذا هو رأي السلف الذي رجع اليه الاشعري كما حقق في موضعه وزعم من زعم أن المراد أخرج عنده والتزموا هذا التأويل في ألوف من المواضع وضللوا القائلين بأن الله تعالى أودع في بعض الاشياء قوة مؤثرة في شتى ما حتى قالوا : إنهم إلى الكفر اقرب منهم إلى الايمان وأولئك عندي أقرب إلى الجنون وسفاهة الرأي و الثمرات يراد بها ما يراد من جمع الكثرة لأن صيغ الجموع يتعاور بعضها موضع بعض أو لأنه أريد بالمفرد جماعة الثمرة التي في قولك : أكلت ثمرة بستان فلان وقد تقدم لك ما ينفعك تذكره في هذا المقام فتذكر وسخر لكم الفلك السفن بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك وقيل : بأن جعلها لاترسب في الماء لتجري في البحر حيث توجهتم بأمره بمشيئته التي بها نيط كل شيء وتخصيصه بالذكر على ماذكره بعض المحققين للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الاعمال واستعمال الآلات كما يتراءى من ظاهر الحال ويندرج في تسخير الفلك كما في البحر تسخيره 1 وكذا تسخير الرياح وسخر لكم الأنهار
23
- جعلها معدة لانتفاعكم حيث تشربون منها وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم وما أشبه ذلك هذا اذا أريد بالأنهار المياه العظيمة الجارية في المجاري المخصوصة وأما اذا أريد بها نفس المجاري فتسخيرها تيسيرها لهم لتجري فيها المياه وسخر لكم الشمس والقمر دائبين أي دائمين في الحركة لايفتران الى انقضاء عمر الدنيا
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فاذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الارض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر والقول بجريانهما إذا غربا تحت الارض مروي أيضا عن الحسن البصري وهو الذي يشهد له العقل السليم وللاخباريين غير ذلك وظاهر الآية اثبات الحركة لهما أنفسهما والفلاسفة يثبتون لهما حركتين يسمون احداهما الحركة الاولى وهي الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب الحاصلة لهما بقسر المحدد لفلكيهما والاخرى الحركة الثانية وهي الحركة على توالي البروج من المغرب إلى المشرق الحاصلة لهما بحركة فلكيهما حركة ذاتية ولا يثبتون لهما حركة في ثخن الفلك على نحو حركة السمكة في الماء لصلابة الفلك وعدم قبوله الخرق أصلا عندهم
وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته حركتهما على ذلك النحو والفلك عنده مثل الماء والهواء
ذكر بعض الاخبار بين أنهما وسائر الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة يسيرونها كيف شاء الله تعالى وحيث شاء سبحانه والافلاك ساكنة عند هذا البعض وكذا عند الشيخ قدس سره على ما يقتضيه ظاهر كلامه والاخبار في هذا الباب ليست بحيث تسر ثغر الخصم وذكر النسفي أنه ليس فيما ما يعول عليه وكلام الفلاسفة ما لم يكن فيه مصادمة لما تحقق عن المخبر الصادق صلى الله عليه و سلم مما لابأس به وفسر بعضهم دائبين بمجدين تعبين وهو على التشبيه والاستعارة وأصل الدأب العادة المستمرة ونصب الاسم على الحال وتسخير
(13/224)

هذين الكوكبين العظيمين جعلهما منيرين مصلحين مانيط بهما صلاحه من المكونات ولعمري أن الله سبحانه جعلهما اجدى من تفاريق العصا وفي كتاب المشارع والمطارحات للشيخ شهاب الدين السهروردي قتيل حلب أن تأثير الشمس والقمر أظهر الآثار السماوية وتأثير الشمس أظهر من تأثير القمر وأظهر الآثار بعد الشعاع التسخين الحاصل منه ولولا ذلك ما كان كون ولا فساد ولا استحالة ولا ليل ولا نهار ولا فصول ولا مزاج ولا حيوانات ولا غيرها وأطال الكلام في بيان ذلك وما يتعلق به ولا ضرر عندي في اعتقاد أنهما مؤثران باذن الله تعالى كسائر الاسباب عند السلف الصالح وسخر لكم الليل والنهار
33
- يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم وأرجح بعض المحققين التسخير في المواضع الاربعة الى معنى التصريف وأصله سياقه الشيء إلى الغرض المختص به قهرا وذكر أن في التعبير عن ذلك به من الاشعار بما في ذلك من صعوبة المأخذ وعزة المنال والدلالة على عظم السلطان وشدة المحال مالا يخفى والظاهر أنه في المعنى المراد به ههنا مجاز في تلك المواضع جميعا ونقل أبو حيان عن المتكلمين أنه مجاز في الاخير منها قال : لأن الليل والنهار عرضان والأعراض لاتسخر وفيه قصور وفي ابراز كل من هذه النعم في جملة مستقلة تنويه لشأنها وتنبيه على رفعة مكانها وتنصيص على كون كل نعمة جليلة مستوجبة للشكر
وتأخير تسخير الشمس والقمر عن تسخير ماتقدم من الامور مع ما بينه وبين خلق السموات من المناسبة الظاهرة قيل : لاستتباع ذكرها لذكر الارض المستدعي لذكر انزال الماء منها اليها الموجب لذكر اخراج الرزق الذي من جملته مايحصل بواسطة الفلك والانهار أو للتفادي عن توهم كون الكل أعني خلق السموات والارض وتسخيرالشمس والقمر نعمة واحدة وقد تقدم نظيره آنفا وذكر بعضهم في وجه ذكر هذه المتعاطفات على هذا الاسلوب انه بدأ بخلق السموات والارض لأنهما أصلان يتفرع عليهما سائر مايذكر بعد وثنى بانزال الماء من السماء واخراج الثمرات به لشدة تعلق النفوس بالرزق فيكون تقديمه من قبيل المسرة ولما كان الانتفاع بما ينبت من الارض إنما يكمل بوجود الفلك الجواري في البحر وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الارض بنوع من ذلك وبالنقل يكثر الربح ذكر سبحانه تسخيرالفلك التي ينقل عليها واقتصر عليها اعتناء بشأنها ولما ذكر أمر الثمرات وما به يكمل الانتفاع بها من حيث النقل ذكر تسخير الانهار العذبة التي يشرب منها الناس في سائر الاحيان اتماما لأمر الرزق وذكر تسخير الشمس والقمر بعد لأن الانتفاع بهما ليس بالمباشرة كالانتفاع بالفلك والانتفاع بالانهار وأخر تسخير الليل والنهار لأنهما عرضان وما تقدمهما جوهر والعرض من حيث هو بعد الجواهر اه وليس بشيء يعول عليه وءاتاكم من كل ما سألتموه أي أعطاكم بعض جميع ماسألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة فمن كل مفعول ثان لآتي و من تبعيضية وقال بعض الكاملين : إن كل للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى : وفتحنا عليهم أبواب كل شيء واعترض على حمل من على التبعيض دون ابتداء الغاية بأنه يفضي إلى اخلاء لفظ كل عن فائدة زائدة لأن ما نص في العموم بل يوهم ايتاء البعض من كل فرد متعلق به السؤال ولا وجه له
ودفع بأنه بعد تسليم كون ما نصا في العموم هنا عمومان عموم الافراد وعموم الاصناف بمعنى كل صنف صنف وهما مقصودان هنا فالمعنى أعطاكم من جميع أفراد كل صنف سألتموه فان الاحتياج بالذات إلى النوع
(13/225)

والصنف لالفرد بخصوصه وفسر ماسألتموه بما من شأنه أن يسأل لاحتياج الناس اليه سواء سئل بالفعل أم لم يسأل فلا ينفي إيتاء ما لاحاجة اليه مما يخطر بالبال وجعلوا الاحتياج إلى الشيء سؤالا له بلسان الحال وهو من باب التمثيل وسبيل هذا السؤال سبيل الجواب في رأي في قوله تعالى : ألست بربكم قالوا : بلى وقيل : الاصل وآتاكم من كل ماسألتموه وما لم تسألوه فحذف الثاني لدلالة ماأبقى على ما ألقى وما يحتمل أن تكون موصولة والضمير المنصوب في سألتموه عائد عليها والتقدير من كل الذي سألتموه اياه ومنع أبو حيان جواز أن يكون راجعا اليه تعالى ويكون العائد على الموصول محذوفا مستندا بأنه لو قدر متصلا لزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة من دون اختلاف وهو لايجوز 1 ولو قدر منفصلا حسبما تقتضيه القاعدة في مثل ذلك لزم حذف العائد المتصل وقد نصوا على عدم جوازه اه
وذهب بعضهم إلى جواز كلا التقديرين مدعيا أن منع اتصال المتحدين رتبة خاص فيما إذا ذكرا معا أما إذا ذكر أحدهما وحذف الآخر فلا منع إذ الاتصال حينئذ محض اعتبار وعلة المنع لاتجرى فيه وأن منع حذف المنفصل خاص أيضا فيما إذا كان الانفصال لغرض معنوي كالحصر في قولك : جاء الذي أباه ضربت إذ بالحذف حينئذ يفوت ذلك الغرض أما إذا كان لغرض لفظي كدفع اجتماع المثلين فلا منع إذ ليس هناك غرض يفوت ويحتمل أن تكون موصوفة والكلام في الضمير كما تقدم وأن تكون مصدرية والضمير لله تعالى والمصدر بمعنى المفعول أي مسؤلكم
وقرأ ابن عباس والضحاك والحسن ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وعمرو بن قائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في رواية من كل بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء مااحتجتم اليه وسألتموه بلسان الحال وجوز على هذه القراءة أن تكون ما نافية والمفعول الثاني من كل كما في قوله تعالى : وأوتيت من كل شيء والجملة المنفية في موضع الحال أي أتاكم من كل غير سائليه وهو إخبار منه تعالى بسبوغ نعمته سبحانه عليهم بما لم يسألوه من النعم وروى هذا عن الضحاك ولا يخفى أن الوجه هو الأول لما أن القراءة على هذا الوجه تخالف القراءة الأولى والأصل توافق القراءتين وإن فهم منها إيتاء ماسألوه بطريق الأولى
وإن تعدوا نعمت الله أي ما أنعم به عليكم ما هوالظاهر
وقال الواحدي : إن نعمة هنا اسم أقيم مقام المصدر يقال : أنعم إنعاما ونعمة كما يقال أنفقت إنفاقا ونفقة فالنعمة بمعنى الانعام ولذا لم تجمع والمعول عليه ما أشرنا اليه من أنها اسم جنس بمعنى المنعم به والمراد بها الجمع كأنه قيل : وإن تعدوا نعم الله لاتحصوها وقد نص بعضهم على أن المفرد يفيد الاستغراق بالاضافة وما قيل : إن الاستغراق ليس مأخوذا من الاضافة بل من الشرط والجزاء المخصوصين فيه نظر لأن الحكم المذكور يقتضي صحة إرادته منه ولولاه تنافيا والمراد بلا تحصوها لاتطيقوا حصرها ولو إجمالا فانها غير متناهية وأصل الإحصاء العد بالحصى فان العرب كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع ولذا قال الاعشى : ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر
(13/226)

ثم استعمل لمطلق العد وقال بعض الافاضل : ان اصله ان الحاسب اذا بلغ عقدا معينا من عقود الاعداد وضع حصاة ليحفظه بها ففيه ايذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلا عن بلوغ غايتها وهو من الحسن بمكان الا انه ذهب الى الاول الراغب وغيره وأول الاحصاء بالحصر لئلا يتنافى الشرط والجزاء اذا ثبت في الاول العد ونفى في الثاني ولو أول أن تعدوا بأن تريدوا العد يندفع السؤال على ماقيل أيضا والاول أولى وقال بعض الفضلاء : ان المعنى ان تشرعوا في عد افراد نعمة من نعمه تعالى لاتطيقوا عدها
وإنما أتي بإن وعدم العد مقطوع به نظرا الى توهم أنه يطاق قيل : والكلام عليه أبلغ على الاول لما فيه من الاشارة الى أن النعمة الواحدة لايمكن عد تفاصيلها لكن أنت تعلم أن الظاهر هو الاول وقد ذكر الامام مثالين يستوضح بهما الوقوف على أن نعم الله تعالى لاتحصى ولا يمكن أن تستقصى فقال : الاول أن الاطباء ذكروا أن الاعصاب قسمان دماغية ونخاعية والدماغية سبعة وقد اتبعوا انفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحدة منها ولا شك أن كل واحدة تنقسم الى شعب كثيرة وكل واحدة من تلك الشعب تنقسم أيضا الى شعب أدق من الشعر ولكل واحد منها الى الاعضاء ولو أن واحدة اختلت كيفا أو وضعا أو نحو ذلك لاختلت مصالح البنية ولكل منها على كثرتها حكم مخصوصة وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والاوردة وفي كل واحد من الاعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والوضع والفعل والانفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحرا لا ساحل له واذا اعتبرت هذا في بدن الانسان فاعتبر في نفسه وروحه فان عجائب عالم الارواح أكثر من عجائب عالم الاجسام واذا اعتبرت أحوال عالم الافلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والمعدن والحيوان ظهر لك أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلا واحدا وتأمل به الانسان في حكمة الله تعالى في أقل الاشياء لما أدرك منها إلا القليل
الثاني أنه اذا اخذت لقمة من الخبز لتضعها في فمك فانظر الى ماقبلها والى مابعدها فاما الاول فاعرف أنها لاتتم الا اذا كان هذا العالم بكليته قائما على الوجه الاصوب لأن الحنطة لابد منها ولا تنبت الا بمعونة الفصول وتركب الطبائع وظهور الامطار والرياح ولا يحصل شيء من ذلك الا بدور أن الافلاك واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة ثم بعد أن تكون الحنطة لابد لها من الآت الطحن ونحوه وهي لاتحصل الا عند تولد الحديد في ارحام الجبال ثم تأمل كيف تكونت على الاشكال المخصوصة ثم اذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لابد من اجتماع العناصر حتى يمكن الطبخ وأما الثاني فتأمل في تركيب بدن الحيوان وهو أنه تعالى كيف خلق ذلك حتى يمكنه الانتفاع بتلك اللقمة وانه كيف يتضرر الحيوان بالاكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار فلا يمكنك أن تعرف القليل الا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب على الوجه الأكمل وأنى للعقول بادراك كل ذلك فظهر بالبرهان الباهر صحة هذه الشرطية اه
وقال مولانا أبو السعود قدس سره بعد كلام : وإن رمت العثور على حقيقة الحق والوقوف على ماجل من السر ودق فاعلم ان الانسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائقة بحيث لو انقطع مابينه وبين العناية الالهية من العلاقة لما استقر له القرار ولا أطمأنت به الدار الا في مطمورة العدم والبوار ومهاوي الهلاك والدمار لكن يفيض عليه من الجناب الاقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من أنواع الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وسائر الصفات الروحانية
(13/227)

والنفسانية والجسمانية مالايحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه الا اللطيف الخبير وتوضيحه أنه كما لايستحق الوجود ابتداء لايستحقه بقاء وانما ذلك من جناب المبدىء الأول عز شأنه وجل فكما لايتصور وجوده ابتداء مالم يسند عليه جميع انحاء عدمه الاصلي لايتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته مالم ينسد عليه جميع انحاء عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي
وأنت خبير بأن مايتوقف عليه وجوده من الامور الوجودية التي هي علله وشرائطه وان وجب كونها متناهية لوجوب تناهي مادخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك اذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية وانما الاستحالة في دخولها تحت الوجود وارتفاع تلك الموانع التي لاتتناهى أعني بقاءها على العدم مع امكان وجودها في انفسها في كل آن من آنات وجوده نعم غير متناهية حقيقة لا ادعاء وكذا الحال في وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداء وبقاء وكذا في كمالاته التابعة لوجوده اه ويتراءى منه أنه قد ترك الامام في تحقيق هذا المقام وراءه وأنه لو سمع ذلك لأفتدى به في ذكره ولعد من النعم اقتداءه وقريب منه ما يقال في بيان عدم تناهي النعم : ان الوجود نعمة وكذا كل مايتبعه من الكمالات وذلك موقوف على وجوده تعالى في الازمنة الموهومة الغير المتناهية وتحقق مايتوقف عليه وجود النعمة نعمة فتحققه سبحانه في كل آن من تلك الآنات نعمة فالنعم غير متناهية ولك أن تقول في بيان ذلك : إنه ما من انسان الا وقد دفع الله تعالى عنه من البلايا ما لا يحيط به نطاق الحصر لأن البلايا الداخلة تحت حيطة الامكان غير متناهية ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية ومما يوضح عدم تناهي البلايا الممكنة أن أهل النار المخلدين فيها لازال عذابهم بازدياد كما يرشد اليه قوله تعالى : فذوقوا فلن نزيديكم الا عذابا وقد ذكر غير واحد في ذلك أنهم كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد من ذلك فيكون كل مرتبة منه متناهيا في الشدة وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة وعلى هذا نعم الله تعالى على المبتلى أيضا لاتحصى
وفي رواية ابن أبي الدنيا والبيهقي عن ابن مسعود قال : إن لله تعالى على أهل النار منه فلو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم ثم الظاهر أن المراد بالنعمة معناها اللغوي أعني الأمر الملائم لا المعنى الشرعي أعني الملائم الذي تحمد عاقبته إذ لايتأتى عليه عموم الخطاب ولا يبعد اطلاق النعمة بذلك المعنى على نحو رفع الموانع وتحقق العلل والشرائط حسبما ذكر سابقا وظاهر ماتقدم يقتضي أن النعم في حد ذاتها غير محصورة والآية ظاهرة في أن الانسان لايحصرها بالعد وفرق بين الأمرين فتدبر وبالجملة ليس للعبد إلا العجز عن الوقوف على نهاية نعمه سبحانه وتعالى وكذا العجز عن شكر ذلك وما أحسن ماقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه : من لم يعرف نعمة الله تعالى عليه الا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه
وأخرج البيهقي في الشعب وغيره عن سليمان التيمي قال : إن الله تعالى أنعم على العباد على قدره سبحانه وكلفهم الشكر على قدرهم وعن طلق بن حبيب قال : إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد وإن نعم الله سبحانه أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين وأفضل نعمه جل شأنه على عباده على ما روى عن سفيان بن عيينة أن عرفهم أن لا إله إلا الله وأخرج ابن أبي الدنيا وغيره عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم أن داود عليه السلام قال : رب اخبرني ماأدنى نعمتك علي فأوحى الله تعالى اليه ياداود
(13/228)

تنفس فتنفس فقال تبارك وتعالى : هذا أدنى نعمتي عليك واشتهر أن اول النعم المقصودة لذتها الوجود وأنه معدن كل كمال كما أن العدم معدن كل نقص ويدل على أنه نعمة لايكاد يقاس بها غيرها عند كثير من الناس ان الانسان منهم يفدي نفسه بملك الدنيا لو كان بيده وعلم أن الفداء ممكن إذا ألم به الالم وتحقق العدم
ومن العجيب ان أبا علي الشبلي البغدادي وقيل : ابن سيناء لم يعد وجود الانسان نعمة عليه فقد قال من أبيات : ودهر ينثر الاعمار نثرا كما للغصن بالورق انتثار ودنيا كلما وضعت جنينا غذاه من نوائبها ظؤار إلى أن قال : نعاقب في الظهور وما ولدنا ويذبح في حشا الام الحوار وننتظر البلايا والرزايا وبعد فللوعيد لنا انتظار ونخرج كارهين كما دخلنا خروج الضب أخرجه الوجار فماذا الامتنان على وجود لغير الموجدين به الخيار فكانت أنعما لو أن كونا نخير قبله أو نستشار فهذا الداء ليس له دواء وهذا الكسر ليس له انجبار إلى آخر ماقال ولعمري لقد غمط نعمة الله تعالى عليه وظلمها إن الانسان لظلوم يظلم النعمة باغفال شكرها بالكلية أو بوضعه في غير موضعه أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان بترك الشكر كفر
43
- شديد الكفران والجحود وقيل : ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع والاول أنسب بما قبله وأل في الانسان للجنس ومصداق الحكم بالظلم وأخيه بعض من وجدا من افراده فيه ويدخل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله تعالى كفرا والظاهر أن الجملة استئناف بياني وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل : لم لم يراعوا حقها أو لم حرمها بعضهم وقيل : إنها تعليل لعدم تناهي النعم ولذا أتى بصيغتي المبالغة فيها وهو كما ترى هذا وفي النحل وان تعدوا نعمة الله لاتحصوها ان الله لغفور رحيم وفرق أبو حيان بين الختمين بأنه هنا لما تقدم قوله تعالى : ألم تر الى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وبعده وجعلوا الله اندادا فكان ذلك نصا على مافعلوا من القبائح من الظلم والكفران ناسب أن يختم بذم من وقع ذلك منه فختمت الآية بقوله سبحانه : إن الانسان لظلوم كفار وأما في النحل فلما ذكرعدة تفضلات وأطنب فيها وقال جل شأنه : أفمن يخلق كمن لايخلق أي من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لايقدر على الخلق ذكر من تفضلاته تعالى اتصافه بالغفران والرحمة تحريضا على الرجوع اليه سبحانه وأن هاتين الصفتين هو جل وعلا متصف بهما كما هو متصف بالخلق ففي ذلك اطماع لمن آمن به تعالى وانتقل من عبادة المخلوق الى عبادة الخالق تبارك وتعالى انه يغفر زلله السابق ويرحمه وأيضا فانه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الانسان ذكر ما حصل من المنعم ومن جنس المنعم عليه فحصل من المنعم ما يناسب حالة عطائه وهو الغفران والرحمة اذ لولاهما لما أنعم عليه وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسب حالة الانعام عليه ويقع معها في الجملة وهو الظلم والكفران فكأنه قيل : إن صدر من الانسان ظلم فالله تعالى غفور أو كفران فالله تعالى رحيم لعلمه بعجز الانسان وقصوره وما نقل السخاوي عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم من أن هذه الآية منسوخة
(13/229)

بآية النحل مما لايلتفت اليه انتهى كلامه
وفيه بحث وقيل : انما ختم سبحانه آية النحل بما ختم للاطناب هناك في ذكر النعم مع تقدم الدعوة الى الشكر صريحا فكان ذلك مظنة التقصير فيه ويناسب الاطناب في سرد النعم أن يذكر منها مايتعلق بذلك وهو الغفران والرحمة فتأمل والله تعالى أعلم بأسرار كتابه
ومن باب الاشارة في الآيات الر كتاب أنزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فيه احتمالات عندهم فقيل : من ظلمات الكثرة الى نور الوحدة أو من ظلمات صفات النشأة الى نور الفطرة أو من ظلمات حجب الافعال والصفات الى نور الذات وهو المراد بقولهم : النور البحت الخالص من شوب المادة والمدة وقال جعفر : من ظلمات الكفر الى نور الايمان ومن ظلمات البدعة الى نور السنة ومن ظلمات النفوس الى نور القلوب وقال أبو بكر بن طاهر : من ظلمات الظن الى نور الحقيقة وقيل غير ذلك باذن ربهم بتيسيره بهبة الاستعداد وتهيئة أسباب الخروج الى الفعل الى صراط العزيز الذي يقهر الظلمة بالنور الحميد بكمال ذاته أو بما يهب لعباده المستعدين من الفضائل والعلوم أو من الوجود الباقي أو نحو ذلك وويل للكافرين المحجوبين من عذاب شديد وهو عذاب الحرمان الذين يستحبون الحياة الدنيا الحسية والصورية على الآخرة العقلية والمعنوية ويصدون المريدين عن سبيل الله طريقه الموصل اليه سبحانه : ويبغونها عوجا انحرافا مع استقامتها وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم أي بكلام يناسب حالهم واستعدادهم وقدر عقولهم والالم يفهموا فلا يحصل البيان وعن عمر رضي الله تعالى عنه كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي أسرار التأويل لكل نبي وصديق اصطلاح في كلام المعرفة وطريق المحبة يخاطب به من يعرفه من أهل السلوك وعلى هذا لاينبغي للصوفي أن يخاطب العامة باصطلاح الصوفية لأنهم لايعرفونه وخطابهم بذلك مثل خطاب العربي بالعجمية أو العجمي بالعربية ومنشأ ضلال كثير من الناس الناظرين في كتب القوم جهلهم باصطلاحاتهم فلا ينبغي للجاهل بذلك النظر فيها لأنها تأخذ بيده الى الكفر الصريح بل توقعه في هوة كفر كفر أبي جهل ايمان بالنسبة اليه ومن هنا صدر الامر السلطاني إذ كان الشرع معتنى به النهي عن مطالعة كتب الشيخ الأكبر قدس سره ومن انخرط في سلكه فيضل الله من يشاء اضلاله لزوال استعداده بالهيئات الظلمانية ورسوخها والاعتقادات الباطلة واستقرارها ويهدي من يشاء هدايته ممن بقى على استعداده أو لم يرسخ فيه تلك الهيآت والاعتقادات ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله وهي أيام وصاله سبحانه حين كشف لعباده سجف الربوبية في حضرة قدسية وأدناهم إلى جنابه ومن عليهم بلذيذ من خطابه : سقيا لها ولطيبها ولحسنها وبهائها أيام لم يلج النوى بين العصا ولحائها وماأحسن ماقيل : وكانت بالعراق لنا ليال سلبناهن من ريب الزمان جعلناهن تاريخ الليالي وعنوان المسرة والاماني وأمره عليه السلام بتذكير ذلك ليثور غرامهم ويأخذ بهم نحو الحبيب هيامهم فقد قيل :
(13/230)

تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى يتوق ومن يعلق به الحب يصبه وجوز أن يراد بأيام الله تعالى أيام تجليه جل جلاله بصفة الجلال وتذكيرهم بذلك ليخافوا فيمتثلوا ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور أي لكل مؤمن بالايمان الغيبي سد الصبر والشكر على ماقيل مقامان للسالك قبل الوصول وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم قال الجوزجاني : أي لئن شكرتم الاحسان لأزيدنكم المعرفة ولئن شكرتم المعرفة لأزيدنكم الوصلة ولئن شكرتم الوصلة لأزيدنكم القرب ولئن شكرتم القرب لأزيدنكم الأنس ويعم ذلك كله ماقيل : لئن شكرتم نعمة لأزيدنكم نعمة خيرا منها وللشكر مراتب وأعلا مراتبه الاقرار بالعجز عنه وفي بعض الآثار ان داود عليه السلام قال : يارب كيف أشكرك والشكر من آلائك فأوحى الله تعالى اليه الآن شكرتني ياداود وقال حمدون : شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا قالت رسلهم أفي الله شك أي أنه سبحانه لاشك فيه لأنه الظاهر في الآفاق والأنفس فاطر السموات والأرض موجدهما ومظهرهما من كتم العدم يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ليستر بنوره سبحانه ظلمات حجب صفاتكم فلا تشكون فيه عند جلية اليقين ويؤخركم إلى أجل مسمى إلى غاية يقتضيها استعدادكم من السعادة قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا منعهم ذلك عن اتباع الرسل عليهم السلام قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده سلموا لهم المشاركة في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة مامن الله تعالى به عليهم مما يرشحهم لذلك وكثيرا مايقول المنكرون في حق أجلة المشايخ مثل ما قال هؤلاء الكفرة في حق رسلهم والجواب نحو هذا الجواب وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا باذن الله جواب عن قول أولئك : فأتونا بسلطان مبين ويقال نحو ذلك للمنكرين الطالبين من الوالي الكرامة تعنتا ولجاجا وعلى الله فليتوكل المؤمنون لأن الايمان يقتضي التوكل وهو الخمود تحت الموارد وفسره بعضهم بأنه طرح القلب في الربوبية والبدن في العبودية فالمتوكل لايريد إلا مايريده الله تعالى ومن هنا قيل : إن الكامل لايحب إظهار الكرامة وفي المسئلة تفصيل عندهم وبرزوا لله جميعا ذكر بعضهم أن البروز متعدد فبروز عند القيامة الصغرى بموت الجسد وبروز عند القيامة الوسطى بالموت الأرادي وهو الخروج عن حجاب صفات النفس إلى عرصة القلب وبروز عند القيامة الكبرى وهو الخروج عن حجاب الآنية إلى فضاء الوحدة الحقيقية وان حدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين المشار اليه بقوله تعالى : فقال الضعفاء للذين استكبروا الخ فهو بوجود المهدي القائم بالحق الفارق بين أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء وفسروا الشيطان بالوهم وقد يفسرونه في بعض المواضع بالنفس الأمارة والقول المقصوص عنه في الآية عند ظهور سلطان الحق وبعضهم حمل الشيطان هنا على الشيطان المعروف عند أهل الشرع وذكر أن قوله : فلا تلوموني ولوموا أنفسكم دليل بقائه على الشرك حيث رأى الغير في البين وما ثم غير الله تعالى وإلى هذا يشير كلام الواسطي حيث قال : من لام نفسه فقد أشرك ويخالفه قول محمد بن حامد : النفس محل كل لائمة فمن لم يلم نفسه على الدوام ورضى عنها في حال من الأحوال فقد أهلكها يأباه ماصح في الحديث القدسي ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فتأمل وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
(13/231)

جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها باذن ربهم تحيتهم فيها سلام لم يذكر من يحييهم وقد ذكروا أن منهم من يحييهم ربهم وهم أهل الصفوة والقربة ومنهم من يحييهم الملائكة وهم أهل الطاعات والدرجات وماأطيب سلام المحبوب على محبه وما ألذه على قلبه : أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس تسيل من الآماق والاسم أدمع ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها اشارة كما قيل إلى كلمة التوحيد التي غرسها الحق في ارض بساتين الارواح وجعل سبحانه أصلها هناك ثابتا بالتوفيق وفرعها في سماء القربة وسقيها من سواقي العناية وساقها المعرفة وأغصانها المحبة وأوراقها الشوق وحارسها الرعاية تؤتى أكلها في جميع الانفاس من لطائف العبودية وعرفان أنوار الربوبية وقال بعضهم : الكلمة الطيبة النفس الطيبة أصلها ثابت بالاطمئنان وثبات الاعتقاد بالبرهان وفرعها في سماء الروح تؤتي أكلها من ثمرات المعارف والحكم والحقائق كل وقت بتسهيله تعالى ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة أجتثت من فوق الارض مالها من قرار اشارة إلى كلمة الكفر أو النفس الخبيثة وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : الشجرة الخبيثة الشهوات وارضها النفوس وماؤها الامل وأوراقها الكسل وثمارها المعاصي وغايتها النار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال الصادق رضي الله تعالى عنه : يثبتهم في الحياة الدنيا على الايمان وفي الآخرة على صدق جواب الرحمن وجعل بعضهم القول الثابت قوله سبحانه وحكمه الأزلي أي يثبتهم على مافيه تبجيلهم وتوقيرهم في الدارين حيث حكم بذلك في الازل وحكمه سبحانه الثابت الذي لايتغير ولا يتبدل ويضل الله الظالمين في الحياتين لسوء استعدادهم الذين بدلوا نعمة الله من الهداية الاصلية والنور الفطري كفرا احتجابا وضلالا وأحلوا قومهم من تابعهم واقتد بهم في ذلك دار البوار الهلاك والحرمان وجعلوا لله أندادا من متاع الدنيا ومشتهياتها التي يحبونها كحب الله سبحانه ليضلوا عن سبيله كل من نظر إلى ذلك والتفت اليه الله الذي خلق السموات أي سموات الارواح والارض أي أرض الاجساد وأنزل من السماء أي سماء عالم القدس ماء وهو ماء العلم فأخرج به من أرض النفس من الثمرات وهي ثمرات الحكم والفضائل رزقا لكم في تقوى القلب بها وسخر لكم الفلك أي فلك العقول لتجري في البحر أي بحر آلائه وأسرار مخلوقاته الدالة على عظمته سبحانه وسخر لكم الانهار أي أنهار العلم التي تنتهي بكم إلى ذلك البحر العظيم وسخر لكم الشمس شمس الروح والقمر قمر القلب دائبين في السير بالمكاشفة والمشاهدة وسخر لكم الليل ليل ظلمة صفات النفس والنهار نهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد والراحة والاستنارة وآتاكم من كل ماسألتموه بلسان الاستعداد فان المسؤل بذلك لايمنع وإن تعدوا نعمة الله السابقة واللاحقة لاتحصوها لعدم تناهيها إن الانسان لظلوم ينقص حق الله تعالى أو حق نفسه بابطال الاستعداد أو يضع نور الاستعداد في ظلمة الطبيعة ومادة البقاء في محل الفناء كفار لتلك النعم التي لاتحصى لغفلته عن المنعم عليه بها وقيل : إن الانسان لظلوم لنفسه حيث يظن أن شكره يقابل نعمه تعالى كفار محجوب عن رؤية الفضل عليه بداية ونهاية نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويكرمنا بالهداية والعناية وإذ قال ابراهيم مفعول لفعل محذوف أي أذكر ذلك الوقت
(13/232)

والمقصود تذكير ماوقع فيه على نهج ماقيل في أمثاله رب اجعل هذا البلد يعني مكة شرفها الله تعالى : ءامنا أي ذا أمن فصيغة فاعل للنسب كلابن وتامر لأن الآمن في الحقيقة أهل البلد ويجوز أن يكون الاسناد مجازيا من اسناد ما للحال إلى المحل كنهر جار والفرق بين ما هنا وما في البقرة من قوله : رب اجعل هذا بلدا آمنا أنه عليه السلام سأل في الاول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا كذا في الكشاف وتحقيقه أنك إذا قلت : اجعل هذا خاتما حسنا فقد أشرت إلى المادة طالبا أن يسبك منها خاتم حسن وإذا قلت : اجعل هذا الخاتم حسنا فقد قصدت الحسن دون الخاتمية وذلك لأن محط الفائدة هو المفعول الثاني لأنه بمنزلة الخبر وإلى هذا يرجع ماقيل في الفرق ان في الاول سؤال أمرين البلدية والأمن وههنا سؤال أمر واحد وهو الامن واستشكل هذا التفسير بأنه يقتضي أن يكون سؤال البلدية سابقا على السؤال المحكي في هذه السورة وأنه يلزم أن تكون الدعوة الأولى غير مستجابة
قال في الكشف : والتفصي عن ذلك أما بأن المسؤول أولا صلوحه للسكنى بأن يؤمن فيه أهله في أكثر الأحوال على المستمر في البلاد فقد كان غير صالح لها بوجه على ماهو المشهور في القصة وثانيا إزالة خوف عرض كما يعتري البلاد الآمنة أحيانا وأما بالحمل على الاستدامة وتنزيله منزلة العاري عنه مبالغة أو بأن أحدهما أمن الدنيا والآخر أمن الآخرة أو أن الدعاء الثاني صدر قبل استجابة الأول وذكر بهذه العبارة إيماء إلى أن المسؤول الحقيقي هو الأمن والبلدية توطئة لا أنه بعد الاستجابة عراه خوف وكأنه بنى الكلام على الترقي فطلب أولا أن يكون بلدا آمنا من جملة البلاد التي هي كذلك ثم لتأكيد الطلب جعله مخوفا حقيقة فطلب الأمن لأن دعاء المضطر أقرب إلى الإجابة ولذاذ ذيله عليه السلام بقوله : إني أسكنت الخ اه
وهو مبني على تعدد السؤال وإن حمل على وحدته وتكرير الحكاية كما استظهره بعضهم واستظهر آخرون الأول لتغاير التعبير في المحلين فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين وقد حكى أولا واقتصر ههنا على حكاية سؤال الامن لأن سؤال البلدية قد حكى بقوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوى اليهم إذ المسؤول هويها اليهم المساكنة كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا للحج فقط وهو عين سؤال البلادية وقد حكى بعبارة أخرى على ما أختاره بعض الآجلة أو لأن نعمة الا من أدخل في استيجاب الشكر فذكره انسب بمقام تقريع الكفرة على اغفاله على ماقيل وهذه الآية وماتلاها أعني قصة إبراهيم عليه السلام على مانص عليه صاحب الكشف واردة على سبيل الاعتراض مقررة لما حث عليه من الشكر بالايمان والعمل الصالح وزجر عنه من مقابلهما مدمجا فيها دعوة هؤلاء النافرين بلسان اللطف والتقريب مؤكدة لجميع ماسلف أشد التأكيد
وفي إرشاد العقل السليم أن المراد منها تأكيد ماسلف من تعجيبه صلى الله تعالى عليه وسلم ببيان فن آخر من جنايات القوم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ماكفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم مكة زادها الله تعالى شرفا فالاقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات ويهوي قلوب الناس اليهم فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعله حرما آمنا تجبى اليه ثمرات كل شيء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا دار البوار بالبلد الحرام وجعلوا لله
(13/233)

تعالى أندادا وفعلوا ما فعلوا من القبائح الجسام وأجنبني وبني أي بعدني واياهم أن نعبد الأصنام
53
- أي عن عبادتها وقرأ الجحدري وعيسى الثقفي وأجنبني بقطع الهمزة وكسر النون بوزن أكرمني وهما لغة أهل نجد يقولون : جنبه مخففا وأجنبه رباعيا وأما أهل الحجاز فيقولون : جنبه مشددا وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره ثم استعمل بمعنى البعد والمراد هنا على ماقال الزجاج طلب الثبات والدوام على ذلك أي ثبتنا على مانحن عليه من التوحيد وملة الاسلام والبعد عن عبادة الاصنام وإلا فالانبياء معصومون عن الكفر وعبادة غير الله تعالى وتعقب ذلك الامام بأنه لما كان من المعلوم أنه سبحانه يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب فما الفائدة في سؤال التثبيت ثم قال : والصحيح عندي في الجواب وجهان : الأول أنه عليه السلام وإن كان يعلم أن الله تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضما لنفسه وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله سبحانه وتعالى في كل المطالب والثاني أن الصوفية يقولون : الشرك نوعان ظاهر وهو الذي يقول به المشركون وخفى وهو تعلق القلب بالوسائط والاسباب الظاهرة والتوحيد المحض قطع النظر عما سوى الله تعالى فيحتمل أن يكون مراده عليه السلام من هذا الدعاء العصمة عن هذا الشرك انتهى ويرد على هذا الأخير أنه يعود السؤال عليه فيما أظن لأن النظر إلى السوى يحاكي الشرك الذي يقول به المشركون عند الصوفية فقد قال قائلهم 1 : ولو خطرت لي في سواك ارادة على خاطري سهوا حكمت بردتي ولا أظن أنهم يجوزون ذلك للانبياء عليهم السلام وحيث بني الكلام على ماقرروه يقال : ما فائدة سؤال العصمة عن ذلك والانبياء عليهم السلام معصومون عنه والجواب الصحيح عندي ماقيل : إن عصمة الأنبياء عليهم السلام ليست لأمر طبيعي فيهم بل بمحض توفيق الله تعالى اياهم وتفضله عليهم ولذلك صح طلبها وفي بعض الآثار أن الله سبحانه قال لموسى عليه السلام : ياموسى لاتأمن مكري حتى تجوز الصراط
وأنت تعلم أن المبشرين بالجنة على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة و السلام كانوا كثيرا مايسألون الله تعالى الجنة مع أنهم مقطوع لهم بها ولعل منشأ ذلك ماقيل لموسى عليه السلام فتدبر والمتبادر من بنيه عليه السلام من كان من صلبه فلا يتوهم ان الله تعالى لم يستجب دعاءه لعبادة قريش الأصنام وهم من ذريته عليه السلام حتى يجاب بما قاله بعضهم من ان المراد كل من كان موجودا حال الدعاء من أبنائه ولا شك أن دعوته عليه السلام مجابة فيهم أو بأن دعاءه استجيب في بعض دون بعض ولا نقص فيه كما قال الامام
وقال سفيان بن عيينة : إن المراد ببنيه مايشمل جميع ذريته عليه السلام وزعم أنه لم يعبد أحد من أولاد اسمعيل عليه السلام الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هذا حجر والبيت حجر وكانوا يدورون به ويسمونه الدوار ولهذا كره غير واحد أن يقال دار بالبيت 2 بل يقال طاف به وعلى ذلك أيضا حمل مجاهد البنين وقال : لم يعبد أحد من ولد ابراهيم عليه السلام صنما وانما عبد بعضهم الوثن وفرق بينهما بأن الصنم هو التمثال المصور والوثن هو التمثال الغير المصور وليت شعري كيف ذهبت على هذين
(13/234)

الجليلين مافي القرآن من قوارع تنعى على قريش عبادة الاصنام وقال الامام بعد نقله كلام مجاهد : إن هذا ليس بقوى لأنه عليه السلام لم يرد بهذا الدعاء الا عبادة غير الله تعالى والصنم كالوثن في ذلك ويرد مثله على ابن عيينة ومن هنا قيل عليه : إن فيما ذكره كرا على ما فر منه لأن ماكانوا يصنعونه عبادة لغير الله تعالى أيضا : واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الايمان ليس الا من الله تعالى لأنه عليه السلام انما طلب التبعيد عن عبادة الاصنام منه تعالى وحمل ذلك على الالطاف فيه ما فيه رب انهن اي الاصنام اضللن كثيرا من الناس أي تسببن له في الضلال فاسناد الاضلال اليهم مجازي لأنهن جماد لايعقل منهن ذلك والمضل في الحقيقة هو الله تعالى وهذا تعليل لدعائه عليه السلام السابق وصدر بالنداء اظهارا للاعتناء به ورغبة في استجابته فمن تبعني منهم فيما أدعو اليه من التوحيد وملة الاسلام فانه مني يحتمل أن تكون من تبعيضية على التشبيه أي فانه كبعضي في عدم الانفكاك ويحتمل أن تكون اتصالية كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه أنت مني بمنزلة هرون من موسى أي فانه متصل بي لاينفك عني في أمر الدين وتسميتها اتصالية لأنه يفهم منها اتصال شيء بمجرورها وهي ابتدائية الا أن ابتدائيته باعتبار الاتصال كذا في حواشي شرح المفتاح للشريفي يعني أن مجرورها ليس مبدأ أو منشأ لنفس ما قبلها بل لأتصاله فاما أن يقدر متعلقها فعلا خاصا كما قاله الجلال السيوطي في بيان الخبر من أن مني فيه خبر المبتدأ ومن اتصالية ومتعلق الخبر خاص والباء زائدة بمعنى أنت متصل بي ونازل مني بمنزلة هرون من موسى واما أن يقدر فعل عام كما ذهب اليه الشريف هناك أي منزلته بمنزلة كائنة وناشئة مني كمنزلة هرون من موسى عليهما السلام وتقديره خاصا هنا كما فعلنا على تقدير جعلها اتصالية مما يستطيبه الذوق السليم دون تقديره عاما ومن عصاني أي لم يتبعني والتعبير عنه بالعصيان كما قيل للايذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباع من لم يتبعه انما هو لعصيانه لا لأن الدعوة لم تبلغه وفي البحر أن بين الاتباع والعصيان طباقا معنويا لأن الاتباع طاعة فانك غفور رحيم
63
- اي قادر على أن تغفر له وترحمه وفي الكلام على ما أشار اليه البعض حذف والتقدير ومن عصاني فلا أدعو عليه فانك الخ وفي الآية دليل على أن الشرك يجوز أن يغفر ولا اشكال في ذلك بناء على ما قال النووي في شرح مسلم من أن مغفرة الشرك كانت في الشرائع القديمة جائزة في أممهم وانما امتنعت في شرعنا
واختلف القائلون بأن مغفرة الشرك لم تكن جائزة في شريعة من الشرائع في توجيه في توجيه الآية فمنهم من ذهب الى أن المراد غفور رحيم بعد التوبة ونسب ذلك الى السدي ومنهم من ذهب الى تقييد العصيان بما دون الشرك وغفل عما تقتضيه المعادلة وروى ذلك عن مقاتل وفي رواية أخرى عنه أنه قال : إن المعنى ومن عصاني باقامته على الكفر فانك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان والاسلام وتهديه الى الصواب ومنهم من قال : المعنى ومن لم يتبعني فيما أدعو اليه من التوحيد واقام على الشرك فانك قادر على ان تستره عليه وترحمه بعدم معالجته بالعذاب ونظير ذلك قوله تعالى : وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ومنهم من قال : ان الكلام على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلام قبل أن يعلم أن الله سبحانه
(13/235)

لايغفر الشرك ولا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلا كما تقرر في الأصول لكن الدليل السمعي منه منها ولا يلزم النبي أن يعلم جميع الادلة السمعية في يوم واحد والامام لم يرتض أكثر هذه الاوجه وجعل هذا الكلام منه عليه السلام شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة وأنه دليل لحصول ذلك لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن المعصية المفهومة من الآية اما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو قبلها والاول والثاني باطلان لأن من عصاني مطلق فتخصيصه عدول عن الظاهر وأيضا الصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصم فلا يمكن اللفظ عليه فثبت أن الآية شفاعة لأهل الكبائر قبل التوبة ومتى ثبتت منه عليه السلام ثبتت في حق نبينا عليه الصلاة و السلام لمكان اتبع ملة ابراهيم ونحوه ولئلا يلزم النقص وهو كما ترى وقد مر لك ماينفعك في هذا المقام فتذكر هداك الله تعالى
ربنا قال في البحر كرر النداء رغبة في الاجابة والالتجاء اليه تعالى وأتى بضمير الجماعة لأنه تقدم ذكره عليه السلام وذكر بنيه في قوله : واجنبني وبني وتعقب بأن ذلك يقتضي ضمير الجماعة في رب انهن الخ مع أنه جيء فيه بضمير الواحد فالوجه ان ذلك لأن الدعاء المصدر به وما هو بصدد تمهيد مبادي اجابته من قوله : إني أسكنت الخ متعلق بذريته فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم ادخل في القبول واجابة المسؤل والتأكيد لمزيد الاعتناء فيما قصده من الخبر ومن في قوله من ذريتي بمعنى بعض وهي في تأويل المفعول به أي أسكنت بعض ذريتي ويجوز أن يكون المفعول محذوفا والجار والمجرور صفته سدت مسده أي أسكنت ذرية من ذريتي ومن تحتمل التبعيض والتبين وزعم بعضهم أن من زائدة على مذهب الاخفش لايرتضيه سليم البصيرة كما لايخفى والمراد بالمسكن اسمعيل عليه السلام ومن سيولد له فان اسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لاسكانهم والداعي للتعميم على ماقيل قوله الآتي : ليقيموا الخ ولا يخفى أن الاسكان له حقيقة ولأولاده مجاز فمن لم يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز يرتكب لذلك عموم المجاز وهذا الاسكان بعدما كان بينه عليه السلام وبين أهله ما كان
وذلك أن هاجر أم اسمعيل كانت أمه من القبط لسارة فوهبتها من إبراهيم عليه السلام فلما ولدت له اسمعيل غارت فلم تقاره على كونه معها فأخرجها وابنها الى أرض مكة فوضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في اعلا المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفي منطلقا فتبعته هاجر فقالت : ياابراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء قالت له ذلك مرارا وجعل لايلتفت اليها فقالت له : الله أمرك بهذا قال : نعم 1 قالت : إذن لايضيعنا ثم رجعت وانطلق عليه السلام حتى اذا عند الثنية حيث لايرونه استقبل بوجهه البيت وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال : رب إني أسكنت الى لعلهم يشكرون ثم انها جلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى اذا نفد عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر اليه يتلبط فانطلقت كراهية ان تنظر اليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت
(13/236)

عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر فهبطت حتى اذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الانسان المجهود حتى جاوزته ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر ففعلت ذلك سبع مرات ولذلك سعى الناس بينهما سبعا فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت ان كان عندك غواث فاذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فجعلت تحرضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور فشربت وأرضعت ولدها وقال لها الملك : لاتخافي الضيعة فان ههنا بيت الله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وان الله سبحانه لايضيع أهله ثم أنه مرت مع رفقة من جرهم فرأوا طائرا عائفا فقالوا : لاطير الا على الماء فبعثوا رسولهم فنظر فاذا بالماء فأتاهم فقصدوه وأم اسماعيل عنده فقالوا : أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت فلما أدرك اسماعيل عليه السلام زوجوه أمرأة منهم وتمام القصة في كتب السير
بواد غير ذي زرع وهو وادي مكة شرفها الله تعالى ووصفه بذلك دون غير مزروع للمبالغة لأن المعنى ليس صالحا للزرع ونظيره قوله تعالى : قرآنا عربيا غير ذي عوج وكان ذلك لحجريته قال ابن عطية : وإنما لم يصفه عليه السلام بالخلو عن الماء مع انه حاله إذ ذاك لأنه كان علم ان الله تعالى لايضيع اسمعيل عليه السلام وامه في ذلك الوادي وانه سبحانه يرزقهما الماء فنظر عليه السلام النظر البعيد وقال أبو حيان بعد نقله وقد يقال : إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء اذ لايمكن أن يوجد زرع الا حيث الماء فنفى مايتسبب عن الماء هو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء اه وقال بعضهم : ان طلب الماء لم يكن مهما له عليه السلام لما أن الوادي مظنة السيول والمحتاج للماء يدخر منها مايكفيه وكان المهم له طلب الثمرات فوصف ذلك بكونه غير صالح للزرع بيانا لكمال الافتقار الى المسؤول فتأمل
عند بيتك المحرم ظرف لأسكنت كقولك : صليت بمكة عند الركن وزعم أبو البقاء أنه صفة واد أو بدل منه واختار بعض الأجلة الاول اذ المقصود إظهار كون ذلك الاسكان مع فقدان مباديه لمحض التقرب الى الله تعالى والالتجاء الى جواره الكريم كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره فانهم قالوا : معنى كون البيت محرما ان الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به أو أنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه الجبابرة في كل عصر أو لأنه منع الطوفان فلم يستول عليه ولذا سمي عتيقا على ماقيل 1 وأبعد من قال إنه سمي محرما لأن الزائرين يحرمون على انفسهم عند زيارته أشياء كانت حلالا عليهم وسماه عليه السلام بيتا باعتبار ما كان فانه كان مبنيا قبل وقيل : باعتبار ماسيكون بعد وهو ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة كذلك
ربنا ليقيموا الصلوة اي لأن يقيموا فللام جارة والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها والجار والمجرور متعلق بأسكنت المذكور وتكرير النداء وتوسيطه لاظهار كمال العناية باقامة الصلاة فانها عماد الدين ولذا خصها بالذكر من بين سائر شعائره والمعنى على مايقتضيه كلام غير واحد على الحصر أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق الاليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وماتعمر به مساجدك ومتعبداتك متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقربين اليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين رحمتك التي آثرت بها سكان حرمك وهذا الحصر على ماذكروا مستفاد فانه عليه السلام لما قال : بواد غير ذي زرع نفي أن يكون
(13/237)

سكانهم للزراعة ولما قال : عند بيتك المحرم أثبت انه مكان عبادة فلما قال : ليقيموا أثبت أن الاقامة عنده عبادة وقد نفى كونها للكسب فجاء الحصر مع مافي ربنا من الاشارة الى أن ذلك هو المقصود
وعن مالك أن التعليل يفيد الحصر فقد استدل بقوله تعالى : لتركبوها على حرمة أكلها وفي الكشف ان استفادة الحصر من تقدير محذوف مؤخر يتعلق به الجار والمجرور أي ليقوموا أسكنتهم هذه الاسكان أخبر أولا أنه أسكنهم بواد قفر فأدمج فيه حاجتهم الى الوافدين وذكر وجه الايثار لشرف الجوار بقوله : عند بيتك المحرم ثم صرح ثانيا بأنه انما آثر ذلك ليعمروا حرمك المحرم وبنى عليه الدعاء الآتي ومن الدليل على أنه غير متعلق بالمذكور تخلل ربنا ثانيا بين الفعل ومتعلقه وهذا بين ولا وجه لاستفادة ذلك من تكرار ربنا الا من هذا الوجه اه واختار بعضهم ماذكرناه أولا في وجه الاستفادة وقال : انه معنى لطيف ولا ينافيه الفصل بالنداء لأنه اعتراض لتأكيد الاول وتذكيره فهو كالمنبه عليه فلا حاجة الى تعلق الجار والمجرور بمحذوف مؤخر واستفادة الحصر من ذلك وهو الذي ينبغي أن يعول عليه وبجعل النداء مؤكدا للاول يندفع ماقيل : إن النداء له صدر الكلام فلا يتعلق مابعده بما قبله فلا بد من تقدير متعلق ووجه الاندفاع ظاهر وقيل : اللام لام الامر والفعل مجزوم بها والمراد هو الدعاء لهم باقامة الصلاة كأنه طلب منهم الاقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها ولا يخفى بعده وأبعد منه ماقاله أبو الفرج بن الجوزي : ان اللام متعلقة بقوله : اجنبني وبني أن نعبد الاصنام وفي قوله : ليقيموا بضمير الجمع على مافي البحر دلالة على أن الله تعالى أعلمه بأن ولده اسماعيل عليه السلام سيعقب هنالك ويكون له نسل فاجعل أفئدة من الناس أي افئدة من أفئدتهم تهوي إليهم أي تسرع اليهم شوقا وودادا فمن للتبعيض ولذا قيل : لو قال عليه السلام : أفئدة الناس لأزدحمت عليهم فارس والروم وهو مبني على الظاهر من اجابة دعائه عليه السلام وكون الجمع المضاف يفيد الاستغراق وروى عن ابن جبير انه قال : لو قال عليه السلام : أفئدة الناس لحجت البيت اليهود والنصارى
وتعقب بأنه غير مناسب للمقام اذا المسؤول توجيه القلوب اليهم للمساكنة معهم لاتوجيهها الى البيت للحج والا لقيل تهوى اليه فانه عين الدعاء بالبلدية قد حكى بعبارة أخرى اه وأنت تعلم انه لا منافاة بين الشرطية في المروي وكون المسؤول توجيه القلوب اليهم للمساكنة معهم وقد جاء نحو ذلك تلك الشرطية عن ابن عباس ومجاهد كما في الدر المنثور وغيره على أن بعضهم جعل هذا دعاء بتوجيه القلوب الى البيت
فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحكم قال : سألت عكرمة وطاوسا وعطاء ابن أبي رباح عن هذه الآية فاجعل الى آخره فقالوا : البيت تهوى اليه قلوبهم ياتونه وفي لفظ قالوا : هواهم الى مكة ان يحجوا نعم هو خلاف الظاهر وجوز أن تكون من للابتداء كما في قولك : القلب منه سقيم تريد قلبه فكأنه قيل : أفئدة ناس واعترضه أبو حيان بأنه لايظهر كونها للابتداء لأنه لافعل هنا يبتدأ فيه لغاية ينتهي اليها اذ لايصح ابتداء جعل أفئدة من الناس وتعقبه بعض الاجلة بقوله : وفيه بحث فان فعل الهوى للأفئدة يبتدأ به لغاية ينتهي اليها ألا يرى الى قوله : اليهم وفيه تأمل اه وكأن فيه اشارة الى ماقيل : من أن الابتداء في من الابتدائية إنما هو من متعلقها لا مطلقا وان جعلناها متعلقة بتهوى لايظهر لتأخيره ولتوسيط الجار فائدة وذكر مولانا الشهاب في توجيه الابتداء وترجيحه على التبعيض كلاما لايخلو
(13/238)

عن بحث فقال : اعلم أنه قال في الايضاح أنه قد يكون القصد الى الابتداء دون أن يقصد انتهاء مخصوص اذا كان المعنى لايقتضي الا المبتدأ منه كأعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم وزيد أفضل من عمرو
وقد قيل : إن جميع معاني من دائرة على الابتداء والتبعيض هنا لايظهر فيه فائدة كما في قوله : وهن العظم مني فان كون قلب الشخص وعظمه بعضا منه معنى مكشوف غير مقصود بالافادة فلذا جعلت للابتداء والظرف مستقر للتفخيم كأن ميل القلب نشأ من جملته مع أن ميل جملة كل شخص من جهة قلبه كما أن سقم قلب العاشق نشأ منه مع أنه اذا صلح صلح البدن كله وإلى هذا نحا المحققون من شراح الكشاف لكنه معنى غامض فتدبره والافئدة مفعول أول لاجعل وهو جمع فؤاد وفسروه على مافي البحر وغيره بالقلب لكن يقال له فؤاد اذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي النوقد يقال : فأدت اللحم أي شويته ولحم فئيد أي مشوي وقيل : الأفئدة هنا القطع من الناس بلغة قريش واليه ذهب ابن بحر والمفعول الثاني جملة تهوى وأصل الهوى الهبوط بسرعة وفي كلام بعضهم السرعة وكان حقه ان يعدى باللام كما في قوله : حتى اذا ما هوت كف الوليد لها طارت وفي كفه من ريشها تبك وانما عدى بإلى لتضمينه معنى الميل كما في قوله : تهوى الى مكة تبغى الهدى مامؤمن الجن كأنجاسها ولما كان ماتقدم كالمبادي لأجابة دعائه عليه السلام واعطاء مسؤوله جاء بالفاء في قوله : فاجعل الى آخره وقرأ هشام أفئيدة بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه وخرج ذلك على الاشباع كما في قوله : أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الاذناب ولما كان ذلك لايكون إلا في ضرورة الشعر عند بعضهم قالوا : إن هشاما قرأ بتسهيل الهمزة كالياء فعبر عنها الراوي بالياء فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة والمراد بياء عوضا من الهمزة وتعقب ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بأن النقلة عن هشام كانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها فهم أجل من أن يعتقد فيهم مثل ذلك وقرىء آفدة على وزن ضاربة وفيه احتمالان أحدهما أن يكون قدمت فيه الهمزة على الفاء فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة فقبلت ألفا فوزنه أعفلة كما قيل في أدور جمع دار قلبت فيه الواو المضمومة همزة ثم قدمت وقلبت الفا فصار آدر وثانيهما انه اسم فاعل من أفد يأفد بمعنى قرب ودنا ويكون بمعنى عجل وهو صفة لمحذوف أي جماعة أو جماعات آفدة وقريء أفدة بفتح الهمزة من غير مد وكسر الفاء بعدها دال وهو اما صفة من أفد بوزن خشنة فيكون بمعنى آفدة في القراءة الأخرى أو اصله أفئدة فنقلت حركة الهمزة الى ماقبلها ثم طرحت وهو وجه مشهور عند الصرفيين والقراء
قال الاولون : اذا تحركت الهمزة بعد ساكن صحيح تبقى أو تنقل حركتها الى ماقبلها وتحذف ولايجوز جعلها بين بين لما فيه من شبه التقاء الساكنين وقال صاحب النشر من الآخرين : الهمزة المتحركة بعد حرف صحيح ساكن كمسؤلا وأفئدة وقرآن وظمآن فيها وجه واحد وهو النقل وحكى فيه وجه ثان وهو بين بين وهو ضعيف جدا وكذا قال غيره منهم فما قيل : إن الوجه اخراجها بين بين ليس بالوجه وقرأت أم الهيثم أفودة بالواو المكسورة بدل الهمزة قال صاحب اللوامح : وهو جمع وفد والقراءة حسنة لكني لاأعرف
(13/239)

هذه المرأة بل ذكرها أبو حاتم اه
وقال أبو حيان : يحتمل أنه أبدل الهمزة في فؤاد ثم جمع وأقرت الواو في الجمع اقرارها في المفرد أو هو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح وقلب اذ الاصل أوفدة وجمع فعل على أفعله شاذ ونجد وأنجدة ووهي وأوهية وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما افادة على وزن امارة ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا : اشاح في وشاح فالوزن فعالة أي فاجعل ذوي وفادة ويجوز أن يكون مصدر أفاد أفادة أي ذوي افادة وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم وقرأ مسلمة بن عبدالله تهوى بضم التاء مبنيا للمفعول من أهوى المنقول بهمزة والتعدية من هوى اللازم كأنه قيل : يسرع بها اليهم وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وجماعة من أهله ومجاهد تهوى مضارع هو بمعنى أحب وعدي بالى لما تقدم وارزقهم أي ذريتي الذين أسكنتهم هناك وجوز أن يريدهم والذين ينحازون اليهم من الناس وإنما لم يخص عليه السلام الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله : وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر اكتفاء على ماقيل بذكر اقامة الصلاة
من الثمرات من أنواعها بأن تجعل بقربهم قرى يحصل فيها ذلك أو تجبى اليهم من الاقطار الشاسعة وقد حصل كلا الامرين حتى أنه يجتمع في مكة المكرمة البواكير والفواكه المختلفة الازمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا ابراهيم عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقا للحرم وفي رواية أن جبريل عليه السلام اقتلعها فجاء وطاف بها حول البيت سبعا ولذا سميت الطائف ثم وضعها قريب مكة وروى نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج ابن أبي حاتم عن عن الزهري أن الله تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة ابراهيم عليه السلام والظاهر أن ابراهيم عليه السلام لم يكن مقصوده من هذا الدعاء نقل أرض منبتة من فلسطين أو قرية من قرى الشام وإنما مقصوده عليه السلام أن يرزقهم سبحانه من الثمرات وهو لايتوقف على النقل فلينظر ماوجه الحكمة فيه وأنا لست على يقين من صحته ولا أنكر والعياذ بالله تعالى أن الله جل وعلا على كل شيء قدير وأنه سبحانه يفعل مايشاء ويحكم مايريد لعلهم يشكرون
73
- تلك النعمة باقامة الصلاة واداء سائر مراسم العبودية واستدل به على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها على اداء العبادات واقامة الطاعات ولا يخفى مافي دعائه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة ولذا من عليه بحسن القبول واعطاء المسؤول ولا بدع في ذلك من خليل الرحمن عليه السلام
ربنا إنك تعلم مانخفى وما نعلن من الحاجات وغيرها وأخرج ابن أبي حاتم عن ابراهيم النخعي أن مراده عليه السلام مانخفى من حب اسمعيل وأمه وما نعلن لسارة من الجفاء لهما وقيل : ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة وما نعلن من البكاء والدعاء وقيل : مانخفي من كآبة الافتراق ومانعلن مما جرى بيننا وبين هاجر عند الوداع من قولها : الى من تكلنا وقولي لها : الى الله تعالى و ما في جميع هذه الاقوال موصولة والعائد محذوف والظاهر العموم وهو المختار والمراد بما نخفي على ماقيل مايقابل مانعلن سواء
(13/240)

تعلق به الاخفاء أولا أي تعلم مانظهره ومالا نظهره فان علمه تعالى متعلق بما لايخطر بباله عليه السلام من الاحوال الخفية وتقديم مانخفى على مانعلن لتحقيق المساواة بينهما في تعلق العلم على أبلغ وجه فكان تعلقه بما يخفى أقدم منه بما يعلن أو لأن مرتبة السر والخفاء متقدمة على مرتبة العلن اذ ما من شيء يعلن الا وهو قبل ذلك خفى فتعلق علمه تعالى بحالته الاولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية وجعل بعضهم ما مصدرية والتقديم والتأخير لتحقيق المساواة أيضا ومن هنا قيل : أي تعلم سرنا كما تعلم علننا
والمقصود من فحوى كلامه عليه السلام ان اظهار هذه الحاجات وماهو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لأظهار العبودية والتخشع لعظمتك والتذلل لعزتك وعرض الافتقار لما عندك والاستعجال لنيل اياديك وقيل : أراد عليه السلام انك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وارحم بنا من أنفسنا فلا حاجة لنا الى الطلب لكن ندعوك لأظهار العبودية الى آخره وقد أشار السهر وردي الى أن ظهور الحال يغني عن السؤال بقوله : ويمنعني الشكوى الى الناس انني عليل ومن أشكو اليه عليل ويمنعني الشكوى الى الله انه عليم بما أشكوه قبل أقول وتكرير النداء للمبالغة في الضراعة والابتهال وضمير الجماعة كما قال بعض المحققين لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بما يخفى وما يعلن بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه عليه السلام بقوله على وجه الاعتراض : وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء
83
- لما أن علمه تعالى ذاتي فلا يتفاوت بالنسبة اليه معلوم دون معلوم وقال أبو حيان : لايظهر تفاوت بين اضافة رب الى ياء المتكلم وبين اضافته الى جمع المتكلم اه ومما نقلنا يعلم وجه اضافة رب هنا الى ضمير الجمع ولا أدري ماذا أراد أبو حيان بكلامه هذا وما يرد عليه أظهر من أن يخفى وإنما قال عليه السلام : وما يخفي الى آخره دون أن يقول : ويعلم مافي السموات والارض تحقيقا لما عناه بقوله : تعلم مانخفي من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة الى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة الى علوم المخلوقات وكلمة في متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء أي لشيء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما وجوز أن تتعلق بيخفى وهو كما ترى وتقديم الارض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القرب والبعد منا المستعدين للتفاوت بالنسبة الى علومنا والمراد من السماء مايشمل السموات كلها ولو أريد من الأرض جهة السفل ومن السماء جهة العلو كما قيل جاز 1 والالتفات من الخطاب الى الاسم الجليل للاشعار بعلة الحكم والايذان بعمومه لأنه ليس بشأن يختص به أو بمن يتعلق به بل شامل لجميع الاشياء فالمناسب ذكره تعالى بعنوان مصحح لمبدئية الكل وعن الجبائي أن هذا من كلام الله تعالى شأنه وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه : وكذلك يفعلون والا كثرون على الاول ومن على الوجهين للاستغراق الحمد لله الذي وهب لي على الكبر أي مع كبر سني ويأسي عن الولد فعلى بمعنى مع كما في قوله :
(13/241)

أني على ماترين من كبري أعرف من أين تؤكل الكتف والجار والمجرور في موضع الحال والتقييد بذلك استعظاما للنعمة واظهارا لشكرها وسيصح جعل على بمعناها الاصلي والاستعلاء مجازي كما في البحر ومعنى استعلائه على الكبر أنه وصل غايته فكأنه تجاوزه وعلا ظهره كما يقال : على رأس السنة وفيه من المبالغة مالايخفى وقال بعضهم : لو كانت للاستعلاء لكان الانسب جعل الكبر مستعليا عليه كما في قولهم : علي دين وقوله : ولهم علي ذنب بل الكبر أولى بالاستعلاء منهما حيث يظهر أثره في الرأس واشتعل الرأس شيبا نعم يمكن أن تجري على حقيقتها بجعلها متعلقة بالتمكن والاستمرار أي متمكنا مستمرا على الكبر وهو الأنسب لأظهار ما في الهيئة من الآية حيث لم يكن في أول الكبر اه وفيه غفلة عماذكرنا اسماعيل وإسحق روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه وهب له اسمعيل وهو ابن تسع وتسعين ووهب له اسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة وفي رواية أنه ولد له اسماعيل لأربع وستين واسحق لسبعين وعن ابن جبير لم يولد لابراهيم عليه السلام الا بعد مائة وسبع عشرة سنة إن ربي ومالك أمري لسميع الدعاء
93
- أي لمجيبه فالسمع بمعنى القبول والاجابة مجاز كما في سمع الله تعالى لمن حمده وقولهم : سمع الملك كلامه اذا اعتد به وقبله وهو فعيل من امثلة المبالغة واعمله سيبويه وخالف في ذلك جمهور البصريين وخالف الكوفيون فيه وفي اعمال سائر أمثلتها وهو اذا قلنا بجواز عمله مضاف لمفعوله أن أريد به المستقبل وقيل : إنه غير عامل لأنه قصد به الماضي او الاستمرار وجوز الزمخشري أن يكون مضافا لفاعله المجازي فالاصل سميع دعاؤه بجعل الدعاء نفسه سامعا والمراد أن المدعو وهو الله تعالى سامع وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة وهو متعد ولا يجوز ذلك الا عند الفارسي حيث لايكون لبس نحو زيد ظالم العبيد اذا علم أن له عبيدا ظالمين وههنا فيه الباس لظهور أنه من اضافة المثال للمفعول انتهى وهو كلام متين
والقول بأن اللبس منتف لأن المعنى على الاسناد المجازي كلام واه لأن المجاز خلاف الظاهر فاللبس فيه أشد ومثله القول بأن عدم اللبس انما يشترط في اضافته الى فاعله على القطع وهذا كما قال بعض الاجلة مع كونه من تتمة الحمد والشكر لما فيه من وصفه تعالى بأن قبول الدعاء عادته سبحانه المستمرة تعليل على طريق التذييل للهبة المذكورة وفيه ايذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاء بقوله : رب هب لي من الصالحين فاقترنت الهبة بقبول الدعوة وذكر بعضهم أن موقع قوله : الحمد لله وتذييله موقع الاعتراض بين أدعيته عليه السلام في هذا المكان تأكيدا للطلب بتذكير ماعهد من الاجابة يتوسل اليه سبحانه بسابق نعمته تعالى في شأنه كأنه عليه السلام يقول اللهم استجب دعائي في حق ذريتي في هذا المقام فانك لم تزل سميع الدعاء وقد دعوتك على الكبر أن تهب لي ولدا فأجبت دعائي وهبت لي اسماعيل واسحاق ولا يخفى أن اسحاق عليه السلام لم يكن مولودا عند دعائه عليه السلام السابق فالوجه أن لايجعل ذلك اعتراضا بل يحمل على أن الله تعالى حكى جملا مما قاله ابراهيم عليه السلام في أحايين مختلفة تشترك كلها فيما سيق له الكلام من كونه عليه السلام على الايمان والعمل الصالح وطلب ذلك لذريته وأن ولده الحقيقي من تبعه على ذلك فترك العناد والكفر وقد ذكر هذا صاحب الكشف
ومما يعضده مااخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله : الحمد لله الخ : قال هذا بعد ذلك بحين ووحد عليه السلام الضمير في رب
(13/242)

وان كان عقيب ذكر الولدين لما أن نعمة الهبة فائضة عليه عليه السلام خاصة وهما من النعم لا من المنعم عليهم رب اجعلني مقيم الصلوة معدلا لها فهو مجاز من أقمت العود اذا قومته وأراد بهذا الدعاء الديمومة على ذلك وجوز بعضهم أن يكون المعنى مواظبا عليها وبعض عظماء العلماء أخذ الأمرين في تفسير ذلك على أن الثاني قيد للاول مأخوذ من صيغة الاسم والعدول عن الفعل كما ان الاول مأخوذ من موضوعه على ماقيل فلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين مجازيين وتوحيد ضمير المتكلم مع شمول دعوته عليه السلام لذريته أيضا حيث قال : ومن ذريتي للاشعار بأنه المقتدى في ذلك وذريته أتباع له فان ذكرهم بطريق الاستطراد ومن للتبعيض والعطف كما قال أبو البقاء على مفعول اجعل الاول أي ومن ذريتي مقيم الصلاة
وفي الحواشي الشهابية أن الجار والمجرور في الحقيقة صفة للمعطوف على ذلك أي وبعضا من ذريتي ولولا هذا التقدير كان ركيكا وإنما خص عليه السلام هذا الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهته تعالى أن بعضا منهم لايكون مقيم الصلاة بأن يكون كافرا أو مؤمنا لايصلي وجوز أن يكون علم من استقرائه عادة الله تعالى في الأمم الماضية أن يكون في ذريته من لايقيمها وهذا كقوله : واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ربنا وتقبل دعاء
4
- ظاهره دعائي هذا المتعلق بجعلي وجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ولذلك جيء بضمير الجماعة وقيل : الدعاء بمعنى العبادة أي تقبل عبادتي وتعقب بأن الأنسب أن يقال فيه دعاءنا حينئذ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وهبيرة عن حفص دعائي بياء ساكنة في الوصل وفي رواية البزي عن ابن كثير أنه يصل ويقف بياء
وقال قنبل : إنه يشم الياء في الوصل ولا يثبتها ويقف عليها بالألف ربنا اغفر لي أي مافرط مني مما أعده ذنبا ولوالدي أي لأمي وأبي وكانت أمه على ماروى عن الحسن مؤمنة فلا إشكال في الاستغفار لها وأما استغفاره لأبيه فقد قيل في الاعتذار عنه إنه كان قبل أن تبين له أنه عدو لله سبحانه والله تعالى قد حكى ماقاله عليه السلام في أحايين مختلفة وقيل : إنه عليه السلام نوى شرطية الاسلام والتوبة وإليه ذهب ابن الخازن وقيل : أراد بوالده نوحا عليه السلام وقيل : أراد بوالده آدم وبوالدته حواء عليهما السلام وإليه ذهب بعض من قال بكفر أمه والوجه ماتقدم
وقالت الشيعة : ان والديه عليه السلام كانا مؤمنين ولذا دعا لهما وأما الكافر فأبوه والمراد به عمه أو جده لأمه واستدلوا على إيمانه أبويه بهذه الآية ولم يرضوا ماقيل فيها حتى القول الأول بناء على زعمهم أن هذا الدعاء كان بعد الكبر وهبة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام له وقد كان تبين له في ذلك الوقت عداوة أبيه الكافر لله تعالى
وقرأ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وأبو جعفر محمد وزيد ابنا علي وابن يعمر والزهري والنخعي ولوالدي بغير ألف وبفتح اللام تثنية ولد يعني بهما إسمعيل وإسحاق وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة ونقل أن في مصحف أبي ولأبوي وفي بعض المصاحف ولذريتي وعن يحيى بن يعمر ولولدي بضم الواو وسكون اللام فاحتمل أن يكون جمع ولد كأسد في أسد ويكون قد دعا عليه السلام لذريته وأن
(13/243)

يكون لغة في الولد كما في قول الشاعر : فليت زيادا كان في بطن أمه وليت زيادا كان ولد حمار ومثل ذلك العدم والعدم وقرأ ابن جبير ولوالدي باسكان الياء على الافراد كقوله : واغفر لأبي وللمؤمنين كافة من ذريته وغيرهم ومن هنا قال الشعبي فيما رواه عنه ابن أبي حاتم : مايسرني بنصيبي من دعوة نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين والمؤمنات حمر النعم وللايذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة جيء بضمير الجماعة يوم يقوم الحسب
14
- أي يثبت ويتحقق واستعمال القيام فيما ذكر اما مجازا مرسل أو استعارة ومن ذلك قامت الحرب والسوق وجوز أن يكون قد شبه الحساب برجل قائم على الاستعارة المكنية وأثبت له القيام على التخييل وأن يكون المراد يقوم أهل الحساب فحذف المضاف أو أسند إلى الحساب ما لأهله مجازا وجعل ذلك العلامة الثاني في شرح التلخيص مثل ضربه التأديب مما فيه الاسناد إلى السبب الغائي أي يقوم أهله لأجله وذكر السالكوتي إنه إنما قال مثله لأن الحساب ليس ما لأجله القيام حقيقة لكنه شبيه به ترتبه عليه وفيه بحث
ولاتحسبن الله غافلا عما يعمل الظلمون خطاب لكل من توهم غفلته تعالى وقيل : للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما هو المتبادر والمراد من النهي تثبيته عليه الصلاة و السلام على ماهو عليه من عدم ظن أن الغفلة تصدر منه عز شأنه كقوله تعالى : ولا تدع مع الله إلها آخر ولا تكونن من المشركين أي دم على ذلك وهو مجاز كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا آمنوا وفيه إيذان بكون ذلك الحسبان واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نهى عنه من لايمكن تعاطيه وجوز أن يكون المراد من ذلك على طريق الكناية أو المجاز بمرتبتين الوعيد والتهديد والمعنى لاتحسبن الله تعالى يترك عقابهم للطفه وكرمه بل هو معاقبهم على القليل والكثير وأن يكون ذلك استعارة تمثيلية أي لاتحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ولكن معاملة الرقيب المحاسب على النقير والقمطير وإلى هذه الأوجه أشار الزمخشري وتعقب الوجه الأول بأنه غير مناسب لمقام النبوة لأنه عليه الصلاة و السلام لايتوهم منه عدم الدوام على ماهو عليه من عدم الحسبان ليثبت وفيه نظر
وفي الكشف الوجه هو الأول لأن في إطلاق الغافل عليه سبحانه وإن كان على المجاز ركة يصان كلام الله تعالى عنها وفي الكناية النظر إلى المجموع فلم يجسر العاقل عليه تعالى عنه ويجوز أن يكون الأول مجازا في المرتبة الثانية بجعل عدم الغفلة مجازا عن العلم ثم جعله مجازا عن الوعيد غير سديد لعدم منافاة ارادة الحقيقة
والأسلم من القيل والقال ماذكرناه أولا من كون الخطاب لكل من توهم غفلته سبحانه وتعالى لغير معين وهو الذي اختاره أبو حيان وعن ابن عيينة أن هذا تسلية للمظلوم 1 وتهديد للظالم فقيل له : من قال هذا فغضب وقال : إنما قاله من علمه وقد نقل ذلك في الكشاف فاستظهر صاحب الكشف كونه تأييدا لكون الخطاب لغير معين وجوز أن يكون جاريا على الأوجه اذ على تقدير اختصاص الخطاب به عليه الصلاة و السلام أيضا لايخلو عن التسلية للطائفتين فتأمل والمراد بالظالمين أهل مكة الذين عدت مساويهم فيما سبق
(13/244)

أو جنس الظالمين وهم داخلون دخولا أوليا والآية على ماقال الطيبي مردودة الى قوله تعالى : قل تمتعوا وقل لعبادي واختار جعلها تسلية له عليه الصلاة و السلام وتهديدا للظالمين على سبيل العموم
وقرأ طلحة ولا تحسب بغير نون التوكيد إنما يؤخرهم يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنيوية ولا يعجل عقوبتهم وهو استئناف وقع تعليلا للنهي السابق أي لاتحسبن الله تعالى غافلا عن عقوبة أعمالهم لما ترى من التأخير انما ذلك لأجل هذه الحكمة وايقاع التأخير عليهم مع أن المؤخر انما هو عذابهم قيل : لتهويل الخطب وتفظيع الحال بييان أنهم متوجهون الى العذاب مرصدون لأمر مالا أنهم باقون باختيارهم وللدلالة على أن حقهم من العذاب هو الاستئصال بالمرة وأن لايبقى منهم في الوجود عين ولا أثر وللايذان بأن المؤخر ليس من جملة العذاب وعنوانه ولو قيل : انما يؤخر عذابهم لما فهم ذلك
وقرأ السلمي والحسن والأعرج والمفضل عن عاصم ويونس بن حبيب عن أبي عمرو وغيرهم نؤخرهم بنون العظمة وفيه التفات ليوم هائل تشخص فيه الأبصار
24
- أي ترتفع أبصار أهل الموقف فيدخل في زمرتهم الظالمون المعهودون دخولا أوليا أي تبقى مفتوحة لاتطرف كما قال الراغب من هول مايرونه وفي البحر شخص البصر أحد النظر ولم يستقر مكانه والظاهر أن اعتبار عدم الاستقرار لجعل الصيغة من شخص الرجل من بلده إذا خرج منها فانه يلزمه عدم القرار فيها أو من شخص بفلان إذا ورد عليه مايقلقه كما في الأساس
وحمل بعضهم الألف واللام على العهد أي أبصارهم لأنه المناسب لمابعده والظاهر مما روى عن قتادة فقد أخرج عبد بن حميد وغيره عنه انه قال في الآية : شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد اليهم واختار بعضهم حمل أل على العموم قال : لأنه أبلغ في التهويل ولا يلزم عليه التكرير مع بعض الصفات الآتية وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ماقيل فيه مهطعين مسرعين إلى الداعي قاله ابن جبير وقتادة وقيده في البحر بقوله : بذلة واستكانة كاسراع الأسير والخائف وقال الأخفش : مقبلين للاصغاء وأنشد : بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع وقال مجاهد : مديمين النظر لايطرفون وقال احمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع لايقلع بصره وروى ابن الأنباري ان الاهطاع التجميح وهو قبض الرجل مابين عينيه وقيل : إن الاهطاع مد العنق والهطع طول العنق وذكر بعضهم أن أهطع وهطع بمعنى وان كل المعاني تدور على الاقبال مقنعي رؤسهم رافعيها مع الاقبال بأبصارهم إلى مابين أيديهم من غير التفات إلى شيء قاله ابن عرفة والقتيبي
وانشد الزجاج قول الشماخ يصف ابلا ترعى أعلا الشجر : يباكرن العضاة بمقنعات نواجذهن كالحد الوقيع وأنشده الجوهري لكون الاقناع انعطاف الانسان إلى داخل الفم يقال : فم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخله وهو الظاهر وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المقنع بالرافع رأسه أيضا وأنشد له قول زهير : هجان وحمر مقنعات رؤسها وأصفر مشمول من الزهر فاقع
(13/245)

ويقال : أقنع رأسه نكسه وطأطأه فهو من الأضداد قال المبرد وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة اه وقيل : ومن المعنى الأول قنع الرجل إذا رضي بما هو فيه كأنه رفع رأسه عن السؤال : وقد يقال : إنه من الثاني كأنه طأطأ رأسه ولم يرفعه للسؤال ولم يستشرف إلى غير ماعنده ونصب الوصفين على أنهما حالان من مضاف محذوف أي أصحاب الأبصار بناء على أنه يقال : شخص زيد ببصره أو الأبصار تدل على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه ذكر ذلك أبو البقاء وجوز أن يكون مهطعين منصوبا بفعل مقدر أي تبصرهم مهطعين و مقنعي رؤسهم على هذا قيل : حال من المستتر في مهطعين فهي حال متداخلة وإضافته غير حقيقية فلذا وقع حالا وقال بعض الأفاضل : إن في اعتبار الحالية من أصحاب حسبما ذكر أولا ما لايخفى من البعد والتكلف والأولى والله تعالى أعلم جعل ذلك حالا مقدرة من مفعول يؤخرهم وقوله سبحانه : تشخص فيه الأبصار بيان حال عموم الخلائق ولذلك أوثر فيه الجملة الفعلية فان المؤمنين المخلصين لايستمرون على تلك الحال بخلاف الكفار حيث يستمرون عليها ولذلك عبر عن حالهم بما يدل على الدوام والثبات فلا يرد على هذا توهم التكرار بين مهطعين و تشخص فيه الأبصار على بعض التفاسير وبنحو ذلك رفع التكرار بين الأول وقوله تعالى : لايرتد اليهم طرفهم بمعنى لايرجع اليهم تحريك أجفانهم حسبما كان يرجع اليهم كل لحظة فالطرف باق على أصل معناه وهو تحريك الجفن والكلام كناية عن بقاء العين مفتوحة على حالها وجوز أن يراد بالطرف نفس الجفن مجازا لأنه يكون فيه ذلك أي لاترجع اليهم أجفانهم التي يكون فيها الطرف وقال الجوهري : الطرف العين ولا يجمع لأنه في الأصل مصدر فيكون واحدا ويكون جمعا وذكر الآية وفسره بذلك أبو حيان أيضا وأنشد قول الشاعر : وأغض طرفي مابدت لي جارتي حتى يوارى جارتي مأواها وليس ماذكر متعينا فيه وهو معنى مجازي له وكذا النظر وجوز ارادته على معنى لايرجع اليهم نظرهم لينظروا الى أنفسهم فضلا عن شيء آخر بل يبقون مبهوتين ولا ينبغي كما في الكشف ان يتخيل تعلق اليهم بما بعده على معنى لايرجع نظرهم إلى أنفسهم أي لايكون منهم نظر كذلك لأن صلة المصدر لاتتقدم والمسئلة في مثل ما نحن فيه خلافية ودعوى عدم الجمع ادعاها جمع وادعى أبو البقاء أنه قد جاء مجموعا هذا وأنت خبير بأن لزوم التكرار بين مهطعين و لايرتد اليهم طرفهم على بعض التفاسير متحقق ولا يدفعه اعتبار الحالية من مفعول يؤخرهم على أن بذلك لايندفع عرق التكرار رأسا بين تشخص فيه الأبصار وكل من الأمرين المذكورين كما لايخفى على من صحت عين بصيرته وفي إرشاد العقل السليم ان جملة لايرتد الخ حال أو بدل من مقنعي الخ أو استئناف والمعنى لايزول مااعتراهم من شخوص الابصار وتأخيره عما هو من تتمة من الاهطاع والاقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة لتربية هذا المعنى وكأنه أراد بذلك دفع التكرار وفي انفهام لايزول ا لخ من ظاهر التركيب خفاء واعتبر بعضهم عدم الاستقرار في الشخوص وعدم الطرف هنا فاعترض عليه بلزوم المنافاة وأجيبي بأن الثاني بيان حال آخر وان اولئك الظالمين تارة لاتقر أعينهم وتارة يبهتون فلا تطرف أبصارهم وقد جعل الحالتان المتنافيتان لعدم الفاصل كأنهما في حال واحد كقول امرىء القيس :
(13/246)

مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل وهذا يحتاج اليه على تقدير اعتبار ماذكر سواء اعتبر كون الشخص وما بعده من أحوال الظالمين بخصوصهم أم لا والأولى أن لايعتبر في الآية مايحوج لهذا الجواب وأن يختار من التفاسير مالا يلزمه صريح التكرار وأن يجعل شخوص الأبصار حال عموم الخلائق وما بعده حال الظالمين المؤخرين فتأمل
وأفئدتهم هواء
34
- أي خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة ومنه قيل للجبان والأحمق : قلبه هواء أي لاقوة ولا رأي فيه ومن ذلك قول زهير : كأن الرحل منها فوق صعل من الظلمان جؤجؤه هواء وقول حسان : ألا بلغ أبا سفيان عني فانت مجوف نخب هواء وروى معنى ذلك عن أبي عبيدة وسفيان وقال ابن جريج : صفر من الخير خالية منه وتعقب بأنه لايناسب المقام وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال : أي تمور في أجوافهم إلى حلوقهم ليس لها مكان تستقر فيه والجملة في موضع الحال أيضا والعامل فيها اما يرتد أو ماقبله من العوامل الصالحة للعمل وجوز أن تكون جملة مستقلة وإلى الأول ذهب أبو البقاء وفسر هواء بفارغة وذكر أنه انما افرد مع كونه خبرا لجمع لأنه بمعنى فارغة وهو يكون خبرا عن جمع كما يقال : أفئدة فارغة لأن تاء التأنيث فيه يدل على تأنيث الجمع الذي في أفئدتهم ومثل ذلك أحوال صعبة وأفعال فاسدة وقال مولانا الشهاب : الهواء مصدر ولذا أفرد وتفسيره باسم الفاعل كالخالي بيان للمعنى المراد منه المصحح للحمل فلا ينافي المبالغة في جعل ذلك عين الخلاء والمتبادر من كلام غير واحد أن الهواء ليس بمعنى الخلاء بل بالمعنى الذي يهب على الذهن من غير أعمال مروحة الفكر ففي البحر بعد سرد أقوال لايقضي ظاهرها بالمصدرية أن الكلام تشبيه محض لأن الأفئدة ليست بهواء حقيقة ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور وانها تجيء وتذهب وتبلغ الحناجر وهذا في معنى ماروى آنفا عن ابن جبير وذكر في إرشاد العقل السليم ماهو ظاهر في ان الكلام على التشبيه أيضا حيث قال بعد تفسير ذلك بماذكرنا أولا : كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل هذا ثم إنهم اختلفوا في وقت حدوث تلك الأحوال فقيل عند المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله تعالى يوم يقوم الحساب وقيل : عند إجابة الداعي والقيام من القبور وقيل عند ذهاب السعداء إلى الجنة والأشقياء إلى النار فتذكر ولا تغفل وأنذر الناس خطاب لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم بعد اعلامه أن تأخير عذابهم لماذا وأمر له بانذارهم وتخويفهم منه فالمراد بالناس الكفار المعبر عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهر إتيان العذاب وإلى ذلك ذهب أبو حيان وغيره
ونكتة العدول اليه من الاضمار على ماقاله شيخ الاسلام الاشعار بأن المراد بالانذار هو الزجر عماهم عليه من الظلم شفقة عليهم لا التخويف للأزعاج والايذاء فالمناسب عدم ذكرهم بعنوان الظلم وقال الجبائي : وأبو مسلم : المراد بالناس مايشمل أولئك الظالمين وغيرهم من المكلفين والانذار كما يكون للكفار يكون لغيرهم كما في قوله تعالى : إنما تنذر من اتبع الذكر والاتيان يعم الفريقين من كونهما في الموقف وإن كان
(13/247)

لحوقه بالكفار وخاصة وأيا ماكان فالناس مفعول أول لأنذر وقوله سبحانه : يوم يأتيهم العذاب مفعوله الثاني على معنى أنذرهم هوله ومافيه فالايقاع عليه مجازي أو هو بتقدير مضاف ولايجوز أن يكون ظرفا للانذار لأنه في الدنيا والمراد بهذا اليوم اليوم المعهود وهو اليوم الذي وصف بما يذهل الألباب وهو يوم القيامة وقيل : هو يوم موتهم معذبين بالسكرات ولقاء الملائكة عليهم السلام بلا بشرى وروى ذلك عن أبي مسلم أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل وتعقب بأنه يأباه القصر السابق وأجيب بما فيه مافيه
فيقول الذين ظلموا أي فيقولون والعدول عنه إلى مافي النظم الجليل للتسجيل عليهم بالظلم والاشعار بعليته لما ينالهم من الشدة المنبىء عنها القول وفي العدول عن الظالمين المتكفل بما ذكر مع اختصاره وسبق الوصف به للايذان على ماقيل بأن الظلم في الجملة كاف في الافضاء إلى ماأفضوا اليه من غير حاجة إلى الاستمرار عليه كما ينبىء عنه صيغة اسم الفاعل والمعنى على ماقال الجبائي وأبو مسلم الذين ظلموا منهم وهم الكفار وقيل : يقول كل من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذرين وغيرهم من الأمم الخالية : ربنا أخرنا أي عن العذاب أو أخر عذابنا ففي الكلام تقدير مضاف أو تجوز في النسبة قال الضحاك ومجاهد : انهم طلبوا الرد إلى الدنيا والامهال إلى أجل قريب أي أمد وحد من الزمان قريب وقيل : إنهم طلبوا رفع العذاب والرجوع إلى حال التكليف مدة يسيرة يعملون فيها ما يرضيه سبحانه
والمعنى على ماروى عن أبي مسلم أخر آجالنا وابقنا أياما نجب دعوتك أي الدعوة اليك والى توحيدك أو دعوتك لنا على ألسنة الرسل عليهم السلام ففيه ايماء الى أنهم صدقوهم في أنهم رسل الله سبحانه وتعالى
ونتبع الرسل فيما جاؤا به أي نتدارك مافرطنا به من اجابة الدعوة واتباع الرسل عليهم السلام ولا يخلو ذكر الجملتين عن تأكيد والمقام حرى به وجمع اما باعتبار اتفاق الجميع على التوحيد وكون عصيانهم للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عصيانا لهم جميعا عليهم السلام واما باعتبار ان المحكى كلام ظالمي الأمم جميعا والمقصود بيان وعد كل أمة بالتوحيد واتباع رسولها على ماقيل
أولم تكونوا أقسمتم من قبل على تقدير القول معطوفا على فيقول والمعطوف عليه هذه الجملة أي فيقال لهم توبيخا وتبكيتا : ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا حلفتم إذ ذاك بألسنتكم بطرا وأشرا وسفها وجهلا مالكم من زوال
44
- مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال ودلالة الأفعال حيث بنيتم مشيدا وأملتم بعيدا ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال إلى هذه الأحوال والأهوال وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وبعد مداه أو مالكم من زوال وانتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لايبعث الله من يموت وروى هذا عن مجاهد وأياما كان فمالكم الخ جواب القسم و من صلة لتأكيد النفي وصيغة الخطاب فيه لمراعاة حال الخطاب في أقسمتم كما في حلف بالله تعالى ليخرجن وهو أدخل في التوبيخ من أن يقال مالنا مراعاة لحال المحكي الواقع في جواب قسمهم وقيل هو ابتداء كلام من قبل الله تعالى جوابا لقولهم : ربنا أخرنا أي مالكم من زوال عن هذه الحال وجواب القسم لايبعث الله من القبور محذوفا وهو خلاف المتبادر
(13/248)

وهذا أحد أجوبة يجاب بها أهل النار على ما في بعض الآثار فقد ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي انه قال : لاهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فاذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون : ربنا أمتنا اثنتين واحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل الى خروج من سبيل فيجيبهم الله عز و جل ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وان يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير ثم يقولون : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا أنا موقنون فيجيبهم جل شأنه فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا الآية ثم يقولون : ربنا أخرنا الى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل فيجيبهم تبارك وتعالى أولم تكونوا أقسمتم من قبل الآية ثم يقولون : ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل فيجيبهم جل جلاله أو لم نعمركم مايتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير فيقولون : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين فيجيبهم جل وعلا اخسأوا فيها ولا تكلمون فلا يتكلمون بعدها ان هو الا زفير وشهيق وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم اللهم انا نعوذ بك من غضبك ونلوذ بكنفك من عذابك ونسألك التوفيق للعمل الصالح في يومنا لغدنا والتقرب اليك بما يرضيك قبل أن يخرج الامر من يدنا
وسكنتم من السكنى بمعنى التبوء والاستيطان وهو بهذا المعنى مما يتعدى بنفسه تقول سكنت الدار واستوطنتها الا أنه عدى هنا بفي حيث قيل : في مساكن الذين ظلموا أنفسهم جريا على أصل معناه فانه منقول عن سكن بمعنى قر وثبت وحق ذلك التعدية بفي وجوز أن يكون المعنى وقررتم في مساكتنهم مطمئنين سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر والمعاصي غير محدثين أنفسكم بما لقوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات وفي ايقاع الظلم على أنفسهم بعد اطلاقه فيما سلف ايذان بأن غائلة الظلم آيلة الى صاحبه والمراد بهم كما قال بض المحققين اما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين وإما أوائلهم من قوم نوح وهود على تقدير عمومها للكل وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم
وتبين لكم أي ظهر لكم على أتم وجه بمعانيه الآثار وتواتر الاخبار كيف فعلنا بهم من الاهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد وفاعل تبين مضمر يعود على مادل عليه الكلام أي فعلنا العجب بهم أو حالهم أو خبرهم أو نحو ذلك وكيف في محل النصب بفعلنا وجملة الاستفهام ليست معمولة لتبين لأنه لايعلق وقيل : الجملة فاعل تبين بناء على جواز كونه جملة وهو قول ضعيف للكوفيين
وذهب أبو حيان إلى ماذهب إليه الجماعة ثم ذكر أنه لايجوز أن يكون الفاعل كيف لأنه لايعمل فيها ماقبلها إلا فيما شذ من قولهم : على كيف تبيع الأحمرين وقولهم : انظر إلي كيف تصنع وقرأ السلمي فيما حكاه عنه أبو عمرو الداني ونبين بنون العظمة ورفع الفعل وحكى ذلك أيضا صاحب اللوامح عن عمر أنه قرأ بنون العظمة إلا أنه جزم الفعل عطفا على تكونوا أي أو لم نبين لكم وضربنا لكم أي في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين
(13/249)

الأمثال
54
- أي صفات مافعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لتعتبروا وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم وما لكم على ما لهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجل الى العذاب الآجل فتردعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي وجوز أن يراد من الأمثال ماهو جمع مثل بمعنى الشبيه أي بينا لكم أنهم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب : وروى هذا عن مجاهد والجمل الثلاث في موقع الحال من ضمير أقسمتم أي أقسمتم أن ليس لكم زوال والحال أنكم سكنتم في مساكن المهلكين بظلمهم وتبين لكم فعلنا العجيب بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثال وقوله سبحانه : وقد مكروا مكرهم حال من الضمير الأول في فعلنا بهم أو من الثاني أو منهما جميعا وقدم عليه قوله تعالى : وضربنا لكم الأمثال لشدة ارتباطه على ماقيل بما قبله أي فعلنا بهم مافعلنا والحال أنهم قد مكروا في ابطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لايقدر عليه غيرهم والمراد بيان تناهيهم في استحقاق مافعل بهم أو وقد مكروا مكرهم المذكور في ترتيب مبادي البقاء ومدافعة أسباب الزوال فالمقصود اظهار عجزهم واضمحلال قدرتهم وحقارتها عند قدرة الله سبحانه قاله شيخ الاسلام وهو ظاهر في ان هذا من تتمة مايقال لأولئك الذين ظلموا وهو المروي عن محمد بن كعب القرظي فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال : بلغني أن أهل النار ينادون ربنا أخرنا إلى أجل قريب الخ فيرد عليهم بقوله سبحانه : أولم تكونوا أقسمتم الى قوله لتزول منه الجبال وذكره ابن عطية احتمالا وقيل غير ذلك مما ستعلمه ان شاء الله تعالى قريبا وظاهر كلام غير واحد ان استفادة المبالغة في مكروا مكرهم من الاضافة وفي الحواشي الشهابية ان مكرهم منصوب على أنه مفعول مطلق لأنه لازم فدلالته على المبالغة لقوله تعالى الآتي : وان كان مكرهم الخ لا لأن اضافة المصدر تفيد العموم أي أظهروا كل مكر لهم أو لأن اضافته وأصله التنكير لافادة أنهم معروفون بذلك وللبحث فيه مجال وعند الله مكرهم أي جزاء مكرهم على أن الكلام على حذف مضاف وجوز أن لايكون هناك مضاف محذوف والمعنى مكتوب عنده تعالى مكرهم ومعلوم له سبحانه وذلك كناية عن مجازاته تعالى لهم عليه وأياما كان فاضافة مكر إلى الفاعل وهو الظاهر المتبادر وقيل : إنه مضاف إلى مفعوله على معنى عنده تعالى مكرهم الذي يمكرهم به وتعقبه أبو حيان بأن المحفوظ أن مكر لازم اولم يسمع متعديا وأجيبي بأنه يجوز أن يكون المكر متجوزا به أو مضمنا معنى الكيد أو الجزاء والكلام في نسبة المكر اليه تعالى وأنه إما باعتبار المشاكلة أو الاستعارة مشهور وذكر بعض المحققين أن المراد بهذا المكر ماأفاده قوله تعالى : كيف فعلنا بهم لا أنه وعيد مستأنف والجملة حال من الضمير في مكروا أي مكروا مكرهم وعند الله تعالى جزاؤه أو هو ما أعظم منه والمقصود بيان فساد رأيهم حيث باشروا فعلا مع تحقق مايوجب تركه وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال
64
- أي وإن كان مكرهم في غاية الشدة والمتانة وعبر عن ذلك بكونه معدى لازالة الجبال عن مقارها لكونه مثلا في ذلك وإن شرطية وصلية عند جمع والمراد أنه سبحانه مجازيهم على مكرهم ومبطلة إن لم يكن في هذه الشدة وإن كان فيها ولابد على هذا الوجه من ملاحظة الابطال وإلا فالجزاء المجرد عن ذلك لايكاد يتأتى معه النكتة التي يدور عليها مافي إن الوصلية
(13/250)

من التأكيد المعنوي وجوز أن يكون المعنى أنه تعالى يقابلهم بمكرهم ولا يمنع من ذلك كون مكرهم في غاية الشدة فهو سبحانه وتعالى أشد مكرا ولاحاجة حينئذ إلى ملاحظة الابطال فتدبر وعن الحسن وجماعة أن إن نافية واللام لام الجحود وكان تامة والمراد بالجبال آيات الله تعالى وشرائعه ومعجزاته الظاهرة على أيدي الرسل السالفة عليهم السلام التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات والقصد إلى تحقير مكرهم وانه ماكان لتزول منه الآيات والنبوات وجوز أن تكون كان ناقصة وخبرها إما محذوف أو الفعل الذي دخلت عليه اللام على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين وأيد هذا الوجه بما روى عن ابن مسعود من أنه قرأ وما كان بما النافية وتعقب بأن فيه معارضة للقراءة الدالة على عظم مكرهم كقراءة الجمهور وأجيب بأن الجبال في تلك القراءة يشار بها إلى ماراموا إبطاله من الحق كما أشرنا اليه وفي هذه على حقيقتها فلا تعارض إذ لم يتواردا على محل واحد نفيا وإثباتا ورد بأنه إذا جعل الحق شبيها بالجبال في الثبات كان مثلها بل أدون منها في هذا المعنى فاذا نفى ازالته جبال الدنيا وحينئذ يجيء الاشكال
وتعقبه الشهاب بأن هذا غير وارد لأن المشبه لايلزم أن يكون أدون من المشبه به في وجه الشبه بل قد يكون بخلافه ولو سلم فقد يقدر على ازالة الأقوى دون الآخر لمانع كالشجاع يقدر على قتل أسد ولا يقدر على قتل رجل مشبه به لامتناعه بعدة أو حصن ولا حصن أحصن وأحمى من تأييد الله تعالى شأنه للحق بحيث تزول الجبال يوم تنسف نسفا ولا يزول انتهى وإلى تفسير الجبال على هذه القراءة بما ذكرنا ذهب شيخ الاسلام ثم قال : وأما كونها عبارة عن أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين وإن خص الخطاب بالمنذرين وسيظهر لك قريبا إن شاء الله تعالى جواز ذلك على بعض الأقوال في الآية والجملة حال من الضمير في مكروا لا من قوله تعالى : وعند الله مكرهم وجوز أبو البقاء وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة والمعنى إن كان مكرهم ليزول منه ماهو كالجبال في الثبات من الآيات والشرائع والمعجزات والجملة أيضا حال من الضمير المذكور أي مكروا مكرهم المعهود وأن الشأن كان مكرهم لازالة الحق من الآيات والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك وكان شأن الحق مانعا من مباشرة المكر لازالته
وقرأ ابن عباس وجاهد وابن وثاب والكسائي لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الفعل فان على ذلك عند البصريين مخففة واللام هي الفارقة وعند الكوفيين نافية واللام بمعنى إلا والقصد إلى تعظيم مكرهم فالجملة حال من قوله تعالى : وعند الله مكرهم أي عنده تعالى جزاء مكرهم أو المكر بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبال أي في غاية الشدة وقرىء لتزول بالفتح والنصب وخرج ذلك على لغة جاءت في فتح لام كي وقرأ عمر وعلي وأبي وعبدالله وأبو سلمة بن عبدالرحمن وأبو اسحق السبيعي وزيد ابن علي رضي الله تعالى عنهم ورحمهم وإن كاد بدل مكان النون و لتزول بالفتح والرفع وهي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ونقل أبو حاتم عن أبي رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال وحمل ذلك بعضهم على التفسير لمخالفته لسواد المصحف مخالفة ظاهرة هذا ومن الناس من قال : إن الضمير في مكروا للمنذرين والمراد بمكرهم ماأفاده قوله عز و جل : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك وغيره من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال
(13/251)

شيخ الاسلام : ولعل الوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى : وقد مكروا الخ حالا من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحال أنهم مع مافعلوا من الاقسام المذكور مع ما ينافيه قد مكروا مكرهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجرد الاقسام الذي وبخوا به بل اجترؤا على مثل هذه العظيمة وقوله سبحانه : وعند الله مكرهم حال من ضمير مكروا حسبما ذكر من قبل وقوله تعالى : وإن كان مكرهم إلى آخره مسوق لبيان عدم تفاوت الحال في تحقيق الجزاء بين كون مكرهم قويا أو ضعيفا كما مرت الاشارة اليه وعلى تقدير كون إن نافيه فهو حال من ضمير مكروا والجبال عبارة عن أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي وقد مكروا والحال أن مكرهم ماكان لتزول منه هاتيك الشرائع والآيات التي هي كالجبال في القوة وعلى تقدير كونها مخففة من الثقيلة واللام مكسورة يكون حالا منه ايضا على معنى أن ذلك المكر العظيم منهم كان لهذا الغرض والقصد إلى أنه لم يصح أن يكون منهم مكر كذلك لما أن شأن الشرائع أعظم من أن يمكر بها وعلى تقدير فتح اللام فهو حال من قوله تعالى : وعند الله مكرهم كما ذكر سابقا اه ويجوز أن يراد بمكرهم شركهم كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس والجبال على حقيقتها وأمر الجملة على ما قال
وحاصل المعنى لم يكن الصادر عنهم مجرد الاقسام مع ماينافيه بل اجترؤا على الشرك وقالوا : اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وقد روى عن الضحاك أنه صرح بأن مانحن فيه كهذه الآية ثم إن القول بجعل الضمير للمنذرين قول بعدم دخول هذا الكلام في حيز ما يقال وهو الظاهر كما قيل وكذا حمل الجبال على معناها الحقيقي وفي البحر الذي يظهر أن زوال الجبال مجاز ضرب مثلا لمكر قريش وعظمه والجبال لاتزول وفيه من المبالغة في ذم مكرهم ما لايخفى
وأما ماروى أن جبلا زال بحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذبا مات فحملها للحلف فمكرت بأن رمت نفسها من الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه من الدابة فأركبها زوجها وذلك الرجل وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما فنزلت سالمة وأصبح الجبل قد اندك وكانت المرأة من عدنان
وما روى من قصة نمروذ بن كوش بن كنعان أو بخت نصر واتخاذ الانسر وصعودهما إلى قرب السماء في قصة طويلة مشهورة وما فعل بعضهم من حمل الجبال على دين الاسلام والقرآن وحمل المكر على اختلافهم فيه من قولهم : هذا سحر هذا شعر هذا إفك فأقوال ينبو عنها ظاهر اللفظ وبعيد جدا قصة الانسر اه
واستبعد ذلك أيضا كما نقل الامام القاضي وقال : إن الخطر في ذلك عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء خبر صحيح معتمد ولا حاجة في تأويل الآية اليه ونعم ماقال في خبر النسور فاه وإنجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وعن مجاهد وابن جبير وأبي عبيدة والسدي وغيرهم إلا أن في الأسانيد ما لايخفى على من نقر
وقد شاع ذلك من أخبار القصاص وخبرهم واقع عن درجة القبول ولو طاروا إلى النسر الطائر ومثل ذلك فيما أرى خبر المتهمة فافهم والله تعالى أعلم فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله تثبيت له صلى الله تعالى عليه وسلم على ما هو عليه من الثقة بالله سبحانه والتيقن بانجاز وعده تعالى بتعذيب الظالمين المقرون
(13/252)

بالأمر بانذارهم كما يفصح عنه الفاء وقال الطيبي : واستحسنه التلميذ أنه يجوز أن يحمل الوعد على المفاد بقوله تعالى : وعند الله مكرهم وقد جعله وجها آخر لما ذكره الزمخشري من تفسيره له بقوله تعالى إنا لننصر رسلنا و كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وفيه نظر لأنه لا اختصاص لذلك كما قيل بالتعذيب لاسيما الأخروى وإضافة مخلف إلى الوعد عند الجمهور من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم : هذا معطي درهم زيدا وهو لما كان يتعدى إلى اثنين إضافته إلى كل منهما فينصب ماتأخر وأنشد بعضهم نظيرا لذلك قوله : ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
وسائره باد إلى الشمس أجمع وذكر أبو البقاء أن هذا قريب من قولهم : ياسارق الليلة أهل الدار وفي الكشاف أن تقديم الوعد ليعلم أنه لايخلف الوعد أصلا كقوله سبحانه : لايخلف الميعاد ثم قال جل شأنه : رسله ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا وليس من شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته
ونظر فيه ابن المنير بأن الفعل إذا تقيد بمفعول انقطع احتمال إطلاقه وهو هنا كذلك فليس تقديم الوعد الا على إطلاق الوعد بل على العناية والاهتمام به لأن الآية سيقت لتهديد الظالمين بما وعد سبحانه على ألسنة رسله عليهم السلام فالمهم ذكر الوعد وكونه على ألسنة الرسل عليهم السلام لايتوقف عليه التهديد والتخويف وقال صاحب الإنصاف : أن هذا النظر قوي إلا أن ما اعترض عليه هو القاعدة عند أهل البيان كما قال الشيخ عبد القاهر في قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن أنه قدم شركاء للايذان بأنه لاينبغي أن يتخذ الله تعالى شركاء مطلقا ثم ذكر الجن تحقيرا أي إذا لم يتخذ من غير الجن فالجن أحق بأن لايتخذوا
وتعقب بأنه لايدفع السؤال بل يؤيده وكذا ماذكره الفاضل الطيبي فانه مع تطويله لم يأت بطائل فالوجه مافي الكسف من أن ذلك الاعلام إنما نشأ من جعل الاهتمام بشأن الوعد فهو ماسيق له الكلام وما عداه تبع وإفادة هذا الأسلوب الترقي كافادة اشرح لي صدري الاجمال والتفصيل نعم أن الظاهر من حال صاحب الكشاف أنه أضمر فيما قرره اعتزالا وهذه مسألة أخرى وقيل : مخلف هنا متعد إلى واحد كقوله تعالى : لايخلف الميعاد فاضيف إليه وانتصب رسله بوعده إذ هو مصدر ينحل إلى أن والفعل فرقة مخلف وعده رسله بنصب وعده وإضافة مخلف إلى رسله ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى وأنه مما يتعدى مخلف هنا إلى مفعولين إن الله عزيز غالب لايماكر وقادر لايقادر ذو انتقام
74
- من أعدائه لأوليائه فالجملة تعليل للنهي المذكور وتذييل له وحيث كان الوعد عبارة عن تعذيبهم خاصة كما مرت إليه الاشارة لم يذيل كما قال بعض المحققين بأن يقال : إن الله لايخلف الميعاد بل تعرض لوصف العز والانتقام المشعرين بذلك والمراد بالانتقام ماأشير إليه بالفعل وعبر عنه بالمكر
يوم تبدل الأرض غير الأرض ظرف لمضمر مستأنف ينسحب عليه النهي المذكور أي ينجزه يوم إلى آخره أو معطوف عليه نحو وارتقب يوم إلى آخره وجعله بعض الفضلاء معمولا لاذكر محذوفا كما قيل في شأن نظائره وقيل : ظرف للانتقام وهو يوم يأتيهم العذاب بعينه ولكن له أحوال جمة يذكر
(13/253)

كل مرة بعنوان مخصوص والتقييد مع عموم انتقامه سبحانه للاوقات كلها للافصاح عما هو المقصود من تعذيب الكفرة المؤخر إلى ذلك اليوم بموجب الحكمة المقتضية له
وجوز أبو البقاء تعلقه بلا يخلف الوعد مقدرا بقرينه السابق وفيه الوجه قبله من الحاجة إلى الاعتذار
وقال الحوفي : هو متعلق بمخلف و إن الله عزيز ذو انتقام جملة اعتراضية وفيه رد لما قيل : لايجوز تعلقه بذلك لأن ماقبل إن لايعمل فيما بعدها لأن لها الصدارة ووجهه أنها لكونها وما بعدها اعتراضا لايبالى بها فاصلا
وجوز الزمخشري انتصابه على البدلية من يوم يأتيهم وهو بدل كل من كل وتبعه بعض من منع تعلقه بمخلف لمكان ماله الصدر والعجب أن العامل فيه حينئذ أنذر فيلزم عليه مالزم القائل بتعلقه بما ذكر فكأنه ذهب إلى أن البدل له عامل مقدر وهو ضعيف وقوله تعالى : والسموات عطف على المرفوع أي وتبدل السموات غير السموات والتبديل قد يكون في الذات كما في بدلت الدراهم دنانير ومنه قوله تعالى : بدلناهم جلودا غيرها وقد يكون في الصفات كما في قولك : بدلت الحلقة خاتما إذا غيرت شكلها ومنه قوله سبحانه : يبدل سيئاتهم حسنات والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين نص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال تبدل الأرض يزاد فيها وينقص منها وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وما فيها وتمد مد الاديم العكاظي وتصير مستوية لاترى فيها عوجا ولا أمتا وتبدل السموات بذهاب شمسها وقمرها ونجومها وحاصله يغير كل عما هو عليه في الدنيا وأنشد : وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعلم وقال ابن الأنباري : تبدل السموات بطيها وجعلها مرة كالمهل ومرة وردة كالدهان
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : تبدل الأرض من فضة والسماء من ذهب
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه تكون الأرض كالفضة والسموات كذلك وصح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : تبدل الأرض أرضا بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل فيها خطيئة وروى ذلك مرفوعا أيضا والموقوف على ما قال البيهقي أصح وقد يحمل قول الإمام كرم الله تعالى وجهه على التشبيه
وقال الامام : لايبعد أن يقال : المراد بتبديل الأرض جعلها جهنم وبتبديل السموات جعلها الجنة وتعقب بأنه بعيد لأنه يلزم أن تكون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن والثابت في الكلام والحديث خلافه وأجيب بأن الثابت خلقهما مطلقا لاخلق كليهما فيجوز أن يكون الموجود الآن بعضهما ثم تصير السموات والأرض بعضا منهما وفيه أن هذا وإن صححه لايقربه والاستدلال على ذلك بقوله تعالى : كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وقوله سبحانه : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين في غاية الغرابة من الامام فان في إشعار ذلك بالمقصود نظرا فضلا عن كونه دالا عليه نعم جاء في بعض الاثار مايؤيد ما قاله فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال في الآية : تصير السموات جنانا ويصير مكان البحر نارا وتبدل الأرض غيرها
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال : الأرض كلها نار يوم القيامة وجاء في تبديل الأرض
(13/254)

روايات أخر
فقد أخرج ابن جرير عن ابن جبير أنه قال : تبدل الأرض خبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه
وأخرج عن محمد بن كعب القرظي مثله
وأخرج البيهقي في البعث عن عكرمة كذلك
وأخرج ابن مردويه عن أفلح مولى أبي أيوب أن رجلا من يهود سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ماالذي تبدل به الأرض فقال خبزة فقال اليهودي : درمكة بأبي أنت فضحك صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال : قاتل الله تعالى يهود هل تدرون ما الدرمكة لباب الخبز
وقد تقدم خبر أن الأرض تكون يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وهو في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحكى بعضهم أن التبديل يقع في الأرض ولكن تبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله ففريق من المؤمنين يكونون على خبز يأكلون منه وفريق يكونون على فضة وفريق الكفرة يكونون على نار وليس تبديلها بأي شيء كان بأعظم من خلقها بعد أن لم تكن
وذكر بعضهم أنها تبدل أولا صفتها على النحو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم تبدل ذاتها ويكون هذا الأخير بعد أن تحدث أخبارها ولا مانع من أن يكون هنا تبديلات على أنحاء شتى
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا أن الناس يوم تبدل على الصراط وفيه من حديث ثوبان أن يهوديا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض فقال عليه الصلاة و السلام : هم في الظلمة دون الجسر ولعل المراد من هذا التبديل نحو خاص منه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وتقديم تبديل الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظم أمرا بالنسبة إلينا
وبرزوا أي الخلائق أو الظالمون المدلول عليهم بمعونة السياق كما قيل والمراد بروزهم من اجداثهم التي في بطون الأرض
وجوز أن يكون المراد ظهورهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرا ويزعمون أنها لاتظهر أو يعملون عمل من يزعم ذلك ووجه إسناد البروز إليهم مع أنه على هذا لأعمالهم بأنه للايذان بتشكلهم بأشكال تناسبها وأنت تعلم أن الظاهر ظهورهم من أجداثهم والعطف على تبدل والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع
وجوز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة وأن تكون حالا من الأرض بتقدير يرقد والرابط الواو
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وبرزوا بضم الباء وكسر الراء مشددة جعله مبنيا للمفعول على سبيل التكثير باعتبار المفعول لكثرة المخرجين لله أي لحكمه سبحانه ومجازاته الواحد الذي لاشريك له القهار
84
- الغالب على كل شيء والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة لأنهم إذا كانوا واقفين عند ملك عظيم قهار لايشاركه غيره كانوا على خطر إذ لا مقاوم له ولا مغيث سواه وفي ذلك أيضا تحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كون يوم تبدل بدلا من يوم تأتيهم العذاب
وترى المجرمين عطف على برزوا والعدول إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة
(13/255)

على الاستمرار وأما البروز فهو دفعي لا استمرار فيه وعلى تقدير حالية برزوا فهو معطوف على تبدل وجوز عطفه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونه ينجزه مثلا يومئذ يوم إذ برزوا لله تعالى أو يوم إذ تبدل الأرض أو يوم إذ ينجز وعده والرؤية إذا كانت بصرية فالمجرمين مفعولها وقوله تعالى : مقرنين حال منه وإن كانت علمية فالمجرمين مفعولها الأول مقرنين مفعولها الثاني
والمراد قرن بعضهم مع بعض وضم كل لمشاركه في كفره وعمله كقوله تعالى : وإذا النفوس زوجت على قول وفي المثل إن الطيور على أشباهها تقع أو قرنوا مع الشياطين الذين أغووهم كقوله تعالى : فوربك لنحشرنهم والشياطين الخ أوقرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملكات الرديئة والأعمال السيئة غب تصورها وتشكلها بما يناسبها من الصور الموحشة والأشكال الهائلة أو قرنوا مع جزاء ذلك أو كتابة فلا حاجة إلى حديث التصور بالصور أو قرنت ايديهم وأرجلهم إلى رقابهم وجاء ذلك في بعض الآثار والظاهر أنه على حقيقته
ويحتمل على ماقيل أن يكون تمثيلا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم وأصل المقرن بالتشديد من جمع في قرن بالتحريك وهو الوثاق الذي يربط به في الأصفاد
94
- جمع صفد ويقال فيه صفاد وهو القيد الذي يوضع في الرجل أو الغل الذي يكون في اليد والعنق أو مايضم به اليد والرجل إلى العنق ويسمى هذا جامعة ومن هذا قول سلامة بن جندل : وزيد الخيل قد لاقى صفادا
يعض بساعد وبعظم ساق وجاء صفد بالتخفيف وصفد بالتشديد للتكثير وتقول : أصفدته إذا أعطيته فتأتى بالهمزة في هذا المعنى وقيل : صفد وأصفد معا في القيد والاعطاء ويسمى العطاء صفدا لأنه يقيد
ومن وجد الاحسان قيدا تقيدا
والجار والمجرور متعلق بمقرنين أو بمحذوف وقع حالا من ضميره أي مصفدين وجوز أبو حيان كونه في موضع الصفة لمقرنين سرابيلهم أي قمصانهم جمع سربال من قطران هو مايحلب من شجر الأبهل فيطبخ وتهنأ به الابل الجربى فيحرق الجرب بما فيه من الحدة الشديدة وقد تصل حرارته إلى الجوف وهو أسود منتن يسرع فيه اشتعال النار حتى قيل : إنه أسرع الأشياء اشتعالا وفي التذكرة أنه نوعان غليظ براق حاد الرائحة ويعرف بالبرقى ورقيق كمد ويعرف بالسائل والأول من الشربين خاصة والثاني من الأرز والسدر ونحوهما والأول أجود وهو حار يابس في الثالثة أو الثانية وذكر في الزفت أنه من أشجار كالأرز وغيره وأنه إن سال بنفسه يقال زفت وإن كان بالصناعة فقطران ويقال فيه : قطان بوزن سكران
وروى عن عمر وعلى رضي الله تعالى عنهما أنهما قرآ به وقطران بوزن سرحان ولم نقف على من قرأ بذلك والجملة من المبتدأ والخبر في موضع النصب على الحالية من المجرمين أو من ضميرهم في مقرنين أو من مقرنين نفسه على ماقيل رابطها الضمير فقط كما في كلمته فوه إلى في أو مستأنفة وأيا ما كان ففي سرابيلهم تشبيه بليغ وذلك أن المقصود أنه تطلى جلود أهل النار بالقطران حتى يعود طلاؤه كالسرابيل وكأن ذلك ليجتمع عليهم الألوان الأربعة من العذاب لذعه وحرقه وإسراع النار في جلودهم واللون الموحش والنتن
(13/256)

على ان التفاوت بين ذلك القطران وما نشاهده كالتفاوت بين النارين فكان ما نشاهده منهما أسماء مسمياتها في الآخرة فبكرمه العميم نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ وجوز أن تكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن تشبه النفس المتلبسة بالملكات الرديئة كالكفر والجهل والعناد والغباوة بشخص لبس ثيابا من زفت وقطران ووجه الشبه تحلي كل منهما بأمر قبيح مؤذ لصاحبه يستكره عند مشاهدته ويستعار لفظ أحدهما للآخر ولا يخفى ما في توجيه الاستعارة التمثيلية بهذا من المساهلة وهو ظاهر على أن القول بهذه الاستعارة هنا أقرب مايكون إلى كلام الصوفية وقال بعضهم : يحتمل أن يكون القطران المذكور عين مالابسوه في هذه النشأة وجعلوه شعارا لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعة لاشتداد العذاب عصمنا الله تعالى من ذلك بلطفه وكرمه وأنت تعلم أن التشبيه البليغ على هذا على حاله وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبو هريرة وعكرمة وقتادة وجماعة من قطرآن على أنهما ملمتان منونتان أولاهما قطر بفتح القاف وكسر الطاء وهي النحاس مطلقا أو المذاب منه وثانيتهما آن بوزن عان بمعنى شديد الحرارة
قال الحسن : قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت فتناهى حره وتغشى وجوههم النار
5
- أي تعلوها وتحيط بها النار التي تسعر بأجسادهم المسربلة بالقطران وتخصيص الوجوه بالحكم المذكور مع عمومه لسائر أعضائهم لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها كقوله تعالى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ولكونها مجمع الحواس والمشاعر التي لم يستعملوها فيما خلقت له من إدراك الحق وتدبره وهذا كما تطلع على أفئدتهم لأنها أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملؤها بالجهالات أو لخلوها كما قيل : عن القطران المغني عن ذكر غشيان النار ووجه تخليتها عنه بأن ذلك لعله ليتعارفوا عند انكشاف اللهب أحيانا ويتضاعف عذابهم بالخزي على رؤس الأشهاد وقرىء برفع الوجوه ونصب النار كأنه جعل ورود الوجوه على النار غشيانا لها مجازا وقرىء تغشى أي تتغشى بحذف إحدى التاءين والجملة كما قال أبو البقاء نصب على الحال كالجملة السابقة
وفي الكشف وافاد العلامة الطيبي أن مقرنين سرابيلهم من قطران تغشى أحوال من مفعول ترى جيء بها كذلك للترقي ولهذا جيء بالثانية جملة أسمية لأن سرابيل القطران الجامعة بين الأنواع الأربعة أفظع من الصفد وأما تغشى فلتجديد الاستحضار المقصود في قوله تعالى : وترى لأن الثاني أهول والظاهر أن الثانيين منقطعان من حكم الرؤية لأن الأول في بيان حالهم في الموقف إلى أن يكب بهم في النار والاخيرين لبيان حالهم بعد دخولها وكأن الاول حرك من السامع أن يقول : وإذا كان هذا شأنهم في الموقف فكيف بهم وهم في جهنم خالدون فأجيب بقوله سبحانه : سرابيلهم من قطران وأوثر الفعل المضارع في الثانية لاستحضار الحال وتجدد الغشيان حالا فحالا وأكثر المعربين على عدم الانقطاع ليجزى الله متعلق بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزي سبحانه كل نفس أي مجرمة بقرينة المقام ما كسبت من أنواع الكفر والمعاصي جزاءا وفاقا وفيه إيذان بأن جزاءهم مناسب لأعمالهم وجوز على هذا الوجه كون النفس أعم من المجرمة والمطيعة لأنه إذا خص المجرمون بالعقاب علم اختصاص المطيعين بالثواب مع أن عقاب المجرمين وهم أعداؤهم جزاء لهم أيضا كما قيل :
(13/257)

من عاش بعد عدوه يوما فقد بلغ المنا ويجوز على اعتبار العموم تعلق اللام ببرزوا على تقدير كونه معطوفا على تبدل والضمير للخلق ويكون مابينهما اعتراضا فلا اعتراض أي برزوا للحساب ليجزى الله تعالى كل نفس مطيعة أو عاصية ماكسبت من خير أو شر إن الله سريع الحساب
15
- لأنه لايشغله سبحانه فيه تأمل وتتبع ولا يمنعه حساب عن حساب حتى يستريح بعضهم عند الاشتغال بمحاسبة الآخرين فيتأخر عنهم العذاب وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد سريع الانتقام وذكر المرتضى في درره وجوها أخر في ذلك
هذا بلاغ أي ماذكر من قوله سبحانه : ولاتحسبن الله غافلا إلى هنا وجوز أن يكون الاشارة إلى القرآن وهو المروي عن ابن زيد أو إلى السورة والتذكير باعتبار الخبر وهو بلاغ والكلام على الأول أبلغ فكأنه قيل : هذا المذكور آنفا كفاية في العظمة والتذكير من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورة الكريمة أو كل القرآن المجيد من فنون العظات والقوارع وأصل البلاغ مصدر بمعنى التبليغ وبهذا فسره الراغب في الآية وذكر مجيئه بمعنى الكفاية في آية أخرى للناس للكفار خاصة على تقدير اختصاص الانذار بهم في قوله سبحانه : وأنذر الناس أو لهم وللمؤمنين كافة على تقدير شمولهم أيضا وإن كان ماشرح مختصا بالظالمين على ماقيل : ولينذروا به عطف على محذوف أي لينصحوا أو لينذروا به أو نحو ذلك فتكون اللام متعلقة بالبلاغ ويجوز أن تتعلق بمحذوف وتقديره ولينذروا به أنزل أو تلى وقال الماوردي : الواو زائدة وعن المبرد هو عطف مفرد على مفرد أي هذا بلاغ وانذار ولعله تفسير معنى لا اعراب وقال ابن عطية : أي هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به فجعل ذلك خبرا لهو محذوفا وقيل اللام لام الامر قال بعضهم : وهو حسن لولا قوله سبحانه : وليذكر فانه منصوب لاغير وارتضى ذلك أبو حيان وقال : إن ماذكر لايخدشه اذ لايتعين عطف ليذكر على الامر بل يجوز أن يضمر له فعل يتعلق به ولا يخفى أنه تكلف وقرأ يحيى بن عمارة الذراع عن أبيه وأحمد ابن يزيد السلمي ولينذروا بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء إذا علم به فاستعد له قالوا : ولم يعرف لنذر بمعنى علم مصدر فهو كعسى وغيرها من الافعال التي لامصادر لها وقيل : إنهم استغنوا بأن والفعل عن صريح المصدر وفي القاموس نذر بالشيء كفرح علمه فحذره وأنذره بالامر إنذارا ونذرا ونذيرا أعلمه وحذره
وقرأ مجاهد وحميد بتاء مضمومة وكسر الذال وليعلموا بالنظر والتأمل بما فيه من الدلائل الواضحة التي هي اهلاك الامم واسكان آخرين مساكنهم وغيرهما مما تضمنه ماأشار اليه أنما هو إله واحد لاشريك له أصلا وتقديم الانذار لأنه داع إلى التأمل المستتبع للعلم المذكور وليذكروا أولوا الألباب
25
- أي ليتذكروا شؤون الله تعالى ومعاملته مع عباده ونحو ذلك فيرتدعوا عما يرديهم من الصفات التي يتصف بها الكفار ويتدرعوا بما يحظيهم لديه عز و جل من العقائد الحقة والاعمال الصالحة وفي تخصيص التذكر بأولي الألباب اعلاء لشأنهم
وفي إرشاد العقل السليم أن في ذلك تلويحا باختصاص العلم بالكفار ودلالة على أن المشار اليه بهذا القوارع المسوقة لشأنهم لا كل السورة المشتملة عليها وعلى ماسيق للمؤمنين أيضا فان فيه مايفيدهم فائدة جديدة وللبحث فيه مجال وفيه أيضا أنه حيث كان مايفيده البلاغ من التوحيد وما يترتب عليه من الاحكام بالنسبة إلى الكفرة امرا حادثا وبالنسبة إلى أولي الالباب الثبات على ذلك عبر عن الاول بالعلم وعن الثاني بالتذكر وروعي ترتيب الوجود مع ما
(13/258)

فيه من الختم بالحسنى
وذكر القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب تكميل الرسل عليهم السلام للناس المشار اليه بالانذار واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها ما يتعلق بمعرفة الله تعالى المشار اليه بالعلم واستصلاح القوة العملية التي هي التدرع بلباس التقوى المشار اليه بالتذكر والظاهر أن المراد بأولى الالباب أصحاب العقول الخالصة من شوائب الوهم مطلقا ولا يقدح في ذلك ماقيل : إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقد ناسب مختتم هذه السورة مفتتحها وكثيرا ماجاء ذلك في سور القرآن حتى زعم بعضهم أن قوله تعالى : ولينذروا به معطوف على قوله سبحانه : ليخرج الناس وهو من البعد بمكان نسأله سبحانه عز و جل أن يمن علينا بشآبيب العفو والغفران
هذا ومن باب الاشارة في الآيات وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذاالبلد آمنا قال ابن عطاء : أراد عليه السلام أن يجعل سبحانه قلبه آمنا من الفراق والحجاب وقيل : اجعل بلد قلبي ذا أمن بك عنك واجنبني وبني أن نعبد الأصنام من المرغوبات الدنية والمشتهيات الحسية
وقال جعفر رضي الله تعالى عنه : أراد عليه السلام لاتردني إلى مشاهدة الخلة ولا ترد أولادي إلى مشاهدة النبوة وعنه أنه قال : أصنام الخلة خطرات الغفلة ولحظات المحبة وفي رواية أخرى أنه عليه السلام كان آمنا من عبادة الاصنام في كبره وقد كسرها في صغره لكنه علم أن هوى كل إنسان صنمه فاستعاذ من ذلك
وقال الجنيد قدس سره : أي امنعني وبني أن نرى لأنفسنا وسيلة اليك غير الافتقار وقيل : كل ماوقف العارف عليه غير الحق سبحانه فهو صنمه وجاء النفس هو الصنم الأكبر رب إنهن أضللن كثيرا من الناس بالتعلق بها والانجذاب اليها والاحتجاب بها عنك سبحانك فمن تبعني في طريق المجاهدة والخلة ببذل الروح بين يديك 0 فانه مني طينته من طينتي وقلبه من قلبي وروحه من روحي وسره من سري ومشربه في الخلة من مشربي ومن عصاني وفعل مايقتضي الحجاب عنك فانك غفور رحيم فلا أدعو عليه وأفوض أمره اليك قيل : إن هذا منه عليه السلام دعاء للعاصي بستر ظلمته بنوره تعالى ورحمته جل شأنه اياه بافاضة الكمال عليه بعد المغفرة ومن كلام نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم اهد قومي فانهم لايعلمون
وفي أسرار التأويل أنه عليه السلام أشار بقوله : ومن عصاني إلى مقام الجمع ولذا لم يقل : ومن عصاك ويجوز أن يقال : انما أضاف عصيانهم إلى نفسه لأن عصيان الخلق للخالق غير ممكن وما من دابة الا وربي آخذ بناصيتها فهم في كل أحوالهم مجيبون لداعي ألسنة مشيئته سبحانه وإرادته القديمة وسئل عبدالعزيز المكي لم لم يقل الخليل ومن عصاك فقال لأنه عظم ربه عز و جل وأجله من أن يثبت أن أحدا يجترىء على معصيته سبحانه وكذا أجله سبحانه من أن يبلغ أحد مبلغ مايليق بشأنه عز شأنه من طاعته حيث قال فمن تعني ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم قيل : ان من عادة الله تعالى أن يبتلي خليله بالعظائم لينزعه عن نفسه وعن جميع الخليقة لئلا يبقى بينه وبينه حجاب من الحدثان فلذا امر جل شأنه هذا الخليل أن يسكن من ذريته في واد الحرم بلا ماء ولا زاد لينقطع اليه ولا يعتمد الا عليه عز و جل وناداه باسم الرب طمعا في تربية عياله وأهله بألطافه وايوائهم إلى جوار كرامته ربنا ليقيموا الصلاة التي يصل العبد بها اليك ويكون مرآة تجليك فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم تميل بوصف الارادة والمحبة ليسلكوهم اليك ويدلوهم عليك قال ابن عطاء من انقطع عن الخلق بالكلية صرف الله تعالى اليه وجوه الخلق وجعل مودته في صدورهم ومحبته في
(13/259)

قلوبهم وذلك من دعاء الخليل عليه السلام لما قطع أهله عن الخلق والاسباب قال : فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات قيل : أي ثمرات طاعتك وهي المقامات الرفيعة والدرجات الشريفة
وقال الواسطي : ثمرات القلوب وهي أنواع الحكمة ورئيس الحكمة رؤية المنة والعجز عن الشكر على النعمة وهو الشكر الحقيقي ولذلك قال : لعلهم يشكرون أي يعلمون أنه لايتهيأ لأحد أن يقوم بشكرك وثمرة الحكمة تزيل الأمراض عن القلوب كما أن ثمرة الاشجار تزيل أمراض النفوس وقيل : أي ارزقهم الأولاد الانبياء والصلحاء وفيه اشارة الى دعوته بسيد المرسلين صلى الله عليه و سلم المعنى له بقوله : ربنا وابعث فيهم رسولا وأي الثمرات أشهى من أصفى الأصفياء وأتقى الأتقياء وأفضل أهل الأرض والسماء وحبيب ذي العظمة والكبرياء فهو عليه الصلاة و السلام ثمرة الشجرة الابراهيمية وزهرة رياض الدعوة الخليلية بل هو صلى الله عليه و سلم ثمرة شجرة الوجود ونور حديقة الكرم والجود ونور حدقة كل موجود صلى الله عليه و سلم عليه إلى اليوم المشهود ربنا انك تعلم ما نخفي وما نعلن قال الخواص : مانخفي من حبك وما نعلن من شكرك
وقال ابن عطاء : ما نخفي من الاحوال وما نعلن من الآداب وقيل : مانخفي من التضرع في عبوديتك وما نعلن من ظاهر طاعتك في شريعتك وأيضا ما نخفي من أسرار معرفتك وما نعلن من وظائف عبادتك وأيضا مانخفي من حقائق الشوق اليك في قلوبنا وما نعلن في غلبة مواجيدنا باجراء العبرات وتصعيد الزفرات : وارحمتا للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضاح بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح وان همو كتموا تحدث عنهم عند الوشاة المدمع السحاح وقال السيد على البندنيجي قدس سره : كتمت هوى حبيه خوف إذاعة فلله كم صب أضربه الذيع ولكن بدت آثاره من تأوهي اذا فاح مسك كيف يخفى له ضوع وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء فيعلم ما خفى وما علن ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار قيل : الظالم من تجاوز طوره وتبختر على بساط الانانية زاعما أنه قد تضلع من ماء زمزم المحبة واستغرق في لجى بحر الفناء توعده الله تعالى بتأخير فضيحته إلى يوم تشخص فيه أبصار سكارى المعرفة والتوحيد وهو يوم الكشف الاكبر حين تبدو أنوار سطوات العزة فيستغرقون في عظمته بحيث لايقدرون على الالتفات إلى غيره فهناك يتبين الصادق من الكاذب : إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى وقوله سبحانه : مهطعين مقنعي رؤسهم لايرتد اليهم طرفهم وأفئدتهم هواء شرح لأحوال أصحاب الابصار الشاخصة وهم سكارى المحبة على الحقيقة قال ابن عطاء في : وأفئدتهم هواء هذه صفة قلوب أهل الحق متعلقة بالله تعالى لاتقر الا معه سبحانه ولا تسكن الا اليه وليس فيها محل لغيره وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل طلبوا تدارك مافات وذلك بتهذيب الباطن والظاهر والانتظام في سلوك الصادقين وهيهات ثم هيهات ثم أجيبوا بما يقصم الظهر ويفصم عرى البصر وهو قوله سبحانه : أولم تكونوا أقسمتم من قبل الآية 0 يوم تبدل الارض غير الأرض
(13/260)

والسموات وبرزوا لله الواحد القهار وذلك عند انكشاف أنوار حقيقة الوجود فيظهر هلاك كل شيء الا وجهه
وقيل : الاشارة في الآية إلى تبدل أرض قلوب العارفين من صفات البشرية إلى الصفات الروحانية المقدسة بنور شهود جمال الحق وتبدل سموات الارواح من عجز صفات الحدوث وضعفها عن أنوار العظمة بافاضة الصفات الحقة وقيل : تبدل أرض الطبيعة بأرض النفس عند الوصول إلى مقام القلب وسماء القلب بسماء السر وكذا تبدل ارض النفس بارض القلب وسماء السر بسماء الروح وكذا كل مقام يعبره السالك يتبدل ما فوقه وما تحته كتبدل سماء التوكل في توحيد الافعال بسماء الرضا في توحيد الصفات ثم سماء الرضا بسماء التوحيد عند كشف الذات وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد بسلاسل الشهوات سرابيلهم من قطران وهو قطران أعمالهم النتنة وتغشى تستر وجوههم النار في جهنم الحرمان وسعير الاذلال والاحتجاب عن رب الارباب
هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو اله واحد وليذكر أولوا الألباب وهم علماء الحقيقة وأساطين المعرفة وعشاق الحضرة وأمناء خزائن المملكة جعلنا الله تعالى واياكم ممن ذكر فتذكر وتحقق في مقر التوحيد وتقرر بمنة سبحانه وكرمه
14
(13/261)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجر
15 - أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بمكة وروي ذلك عن قتادة ومجاهد وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم وقوله سبحانه : كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين وذكر الجلال السيوطي في الاتقان عن بعضهم استثناء الآية الأولى فقط ثم قال قلت : وينبغي استثناء قوله تعالى : ولقد علمنا المستقدمين الآية لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وإنها في صفوف الصلاة وعلى هذا فقول أبي حيان ومثله في تفسير الخازن أنها مكية بلا خلاف الظاهر في عدم الاستثناء ظاهر في قلة التتبع وهي تسع وتسعون آية قال الداني : وكذا الطبرسي بالاجماع وتحتوي على ما قيل على خمس آيات نسختها آية السيف ووجه مناسبتها لما قبلها أنها مفتتحة بنحو ما افتتح به السورة السابقة ومشتملة أيضا على شرح أحوال الكفرة يوم القيامة وودادتهم لو كانوا مسلمين وقد اشتملت الأولى على نحو ذلك وأيضا ذكر في الأولى طرف من أحوال المجرمين في الآخرة وذكر هنا طرف مما نال بعضا منهم في الدنيا وأيضا قد ذكر سبحانه في كل مما يتعلق بأمر السماوات والأرض ما ذكر وأيضا فعل سبحانه نحو ذلك فيما يتعلق بإبراهيم عليه السلام وأيضا في كل من تسلية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ما فيه إلى غير ذلك مما لا يحصى بسم الله الرحمن الرحيم الر قد تقدم الكلام فيه تلك اختار غير واحد أنه إشارة إلى السورة أي تلك السورة العظيمة الشأن ءايات الكتاب الكامل الحقيق باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق كما يشعر به التعريف أي بعض منه مترجم مستقل باسم خاص فالمراد به جميع القرآن أو جميع المنزل إذ ذاك وقرءان عظيم الشأن كما يشعر به التنكير مبين
1
- مظهر في تضاعيفه من الحكم والأحكام أو لسبيل الرشد والغي أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام أو ظاهر معانيه أو أمر إعجازه فالمبين إما من المتعدي أو اللازم وفي جمع وصفي الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها وبالثاني إلى كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه خارجا عن دائرة البيان قرآنا غير ذي عوج ونحو هذا فاتحة سورة النمل خلا أنه أخر ههنا الوصف بالقرآنية عن الوصف بالكتابية لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره منها أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف
(14/2)

خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وعكس هناك نظرا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية قاله بعض المحققين وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ وذكر أن تقديمه هنا باعتبار الوجود وتأخيره هناك باعتبار تعلق علمنا لأنا إنما نعلم ثبوت ذلك من القرآن وتعقب بأن إضافة الآيات إليه تعكر على ذلك إذ لا عهد باشتماله على الآيات والزمخشري جعل هنا الإشارة إلى ما تضمنته السورة والكتاب وما عطف عليه عبارة عن السورة وذكر هناك أن الكتاب إما اللوح وإما السورة وإما القرآن فآثر ههنا أحد إلا وجه هناك
قال في الكشف : لأن الكتاب المطلق على غير اللوح أظهر والحمل على السورة أوجه مبالغة كما دل عليه أسلوب قوله تعالى : والذي أنزل إليك من ربك الحق وليطابق المشار إليه فإنه إشارة إلى آيات السورة ثم قال : وإيثار الحمل على اتحاد المعطوف والمعطوف عليه في الصدق لأن الظاهر من إضافة الآيات ذلك
ولما كان في التعريف نوع من الفخامة وفي التنكير نوع آخر وكان الغرض الجمع عرف الكتاب ونكر القرآن ههنا وعكس في النمل وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هنالك قدم كونه قرآنا لأنه أدل على خصوص المنزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للإعجاز وتعقب تفسير ذلك بالسورة دون جميع القرآن أو المنزل إذ ذاك بأنه غير متسارع إلى الفهم والمتسارع إليه عند الإطلاق ما ذكر وعليه يترتب فائدة وصف الآيات بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمال لا على جعله عبارة عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبة من الشهرة حتى يستغنى عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها وفيه من التكلف ما لا يخفى ثم إن الزمخشري بعد أن فسر المتعاطفين بالسورة أشار إلى وجه التغاير بينهما بقوله كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان ورمز إلى أنه لما جعل مستقلا في الكمال والغرابة قصد قصدهما فعطف أحدهما على الآخر فالغرض من ذكر الذات في الموضعين الوصفان وهذه فائدة إيثار هذا الأسلوب ومن هذا عده من عده من التجريد قاله في الكشف
وقال الطيبي بعد أن نقل عن البغوي توجيه التغاير بين المتعاطفين بأن الكتاب ما يكتب والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض : فإن قلت : رجع المآل إلى أن الكتاب وقرآن وصفان لموصوف واحد أقيما مقامه فما ذلك الموصوف وكيف تقديره فإن قدرته معرفة رفعه وقرآن مبين وإن ذهبت إلى أنه نكرة أباه لفظ الكتاب قلت : أقدره معرفة وقرآن مبين في تأويل المعرفة لأن معناه البالغ في الغرابة إلى حد الإعجاز فهو إذا محدود بل محصور إلى آخر ما قال وهو كلام خال عن التحقيق كما لا يخفى على أربابه وقيل : المراد بالكتاب التوراة والإنجيل وبالقرآن الكتاب المنزل على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد وقتادة وأمر العطف على هذا ظاهر جدا إلا أن ذلك نفسه غير ظاهر وفي المراد بالإشارة عليه خفاء أيضا
وفي البحر أن الإشارة على هذا القول إلى ءايات الكتاب وهو كما ترى ثم إنه سبحانه لما بين شأن الآيات لتوجه المخاطبين إلى حسن تلقي ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ شرع جل شأنه في بيان المتضمن فقال عز قائلا : ربما يود الذين كفروا بما يجب الإيمان به لو كانوا مسلمين
2
- مؤمنين بذلك وقيل : المراد
(14/3)

كفرهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند الله تعالى وودادتهم الانقياد لحكمه والإذعان لأمره وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود وفيه نظر وهذه الودادة يوم القيامة عند رؤيتهم خروج العصاة من النار
أخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهم أنهما تذاكرا هذه الآية فقالا : هذا حيث يجمع الله تعالى بين أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار فيقول المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون فيغضب الله تعالى لهم فيخرجهم بفضل رحمته
وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله تعالى أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون : ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من النار ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم الآية
وأخرج غير واحد عن علي كرم الله وجهه وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري نحو ذلك يرفعه كل إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام وروي ذلك عن كثير من السلف الصالح فقول الزمخشري إن القول به باب من الودادة بيت من السفاهة قعيدته عقيدته الشوهاء وقال الضحاك : إن ذلك في الدنيا عند الموت وانكشاف وخامة الكفر لهم وعن ابن مسعود أن الآية في كفار قريش ودوا ذلك يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين وفي رواية عنه وعن أناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن ذلك حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار
وذكر ابن الأنباري أن هذه الودادة من الكفار عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المسلم ورب على كثرة وقوعها في كلام العرب لم تقع في القرآن إلا في هذه الآية ويقال فيها رب بضم الراء وتشديد الباء وفتحها ورب بفتح الراء ورب بضمهما وربت بالضم وفتح الباء والتاء وربت بسكون التاء وربت بفتح الثلاثة وربت بفتح الأولين وسكون التاء وتخفيف الباء من هذه السبعة وربتا بالضم وفتح الباء المشددة ورب بالضم والسكون ورب بالفتح والسكون فهذه سبع عشرة لغة حكاها ما عدا ربتا ابن هشام في المغنى وحكى أبو حيان إحدى عشر منها ربتا وإذا اعتبر ضم الاتصال بما والتجرد منها بلغت اللغات ما لا يخفى وزعم ابن فضالة 1 في الهوامل والعوامل أنها ثنائية الوضع كقد وإن فتح الباء مخففة دون التاء ضرورة وإن فتح الراء مطلقا شاذ وهي حرف جر خلافا للكوفية والأخفش في أحد قوليه وابن الطراوة زعموا أنها اسم مبني ككم واستدلوا على اسميتها بالأخبار عنها في قوله : إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن عارا عليك ورب قتل عار فرب عندهم مبتدأ وعار خبره وتقع عندهم مصدرا كرب ضربة ضربت وظرفا كرب يوم سرت ومفعولا به كرب رجل ضربت واختار الرضي اسميتها إلا أن عنده رفع أبدا على أنها مبتدأ لا خبر له كما اختار ذلك في قولهم : أقل رجل يقول ذلك إلا زيدا قال : إنها إن كفت بما فلا محل لها حينئذ لكونها كحرف النفي الداخل على الجملة ومنع ذلك البصريون بأنها لو كانت اسما لجاز أن يتعدى إليها الفعل بحرف الجر فيقال برب رجل عالم مررت وإن يعود عليها الضمير ويضاف إليها وجميع علامات الاسم منتفية عنها وأجيب عن البيت بأن المعروف وبعض بدل رب وإن صحت تلك الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف أي هو عار كما صرح به في قوله :
يا رب هيجا هي خير من دعه
والجملة صفة المجرور أو خبره إذ هو في موضع مبتدأ ويرد قياسها على كم كما قال
(14/4)

أبو علي : أنهم لم يفصلوا بينها وبين المجرور كما فصلوا بين كم وما تعمل فيه وفي مفادها أقوال أحدها أنها للتقليل دائما وهو قول الأكثرين وعد في البسيط منهم الخليل وسيبويه والأخفش والمازني والفارسي والمبرد والكسائي والفراء وهشام وخلق آخرون ثانيها أنها للتكثير دائما وعليه صاحب العين وابن درستويه وجماعة وروي عن الخليل ثالثها واختاره الجلال السيوطي وفاقا للفارابي وطائفة أنها للتقليل غالبا والتكثير نادرا رابعها عكسه وجزم به في التسهيل واختاره ابن هشام في المعنى وخامسها أنها لهما من غير غلبة لأحدهما نقله أبو حيان عن بعض المتأخرين سادسها أنها لم توضع لواحد منهما بل هي حرف إثبات لا يدل على تكثير ولا تقليل وإنما يفهم ذلك من خارج واختاره أبو حيان سابعها أنها للتكثير في المباهاة وللتقليل فيما عداه وهو قول الأعلم وابن السيد ثامنها أنها لمبهم العدد وهو قول ابن الباذش وابن طاهر وتصدر وجوبا غالبا ونحو قوله : تيقنت أن رب أمريء خيل خائنا أمين وخوان يخال أمينا وقوله : ولو علم الأقوام كيف خلفتهم لرب مفد في القبور وحامد يحتمل أن يكون كما قال الشمني ضرورة وقال أبو حيان : المراد تصدرها على ما تتعلق به فلا يقال : لقيت رب رجل عالم وذكروا أنها قد تسبق بإلا كقوله : ألا رب مأخوذ بأجرام غيره فلا تسأمن هجران من كان أجرما وبيا صدر جواب شرط غالبا كقوله
فإن أمس مكروبا فيارب فتية
ومن غير العالب يا رب كاسية الحديث ولا تجر غير نكرة وأجاز بعضهم جرها المعرف بأل احتجاجا بقوله : ربما الجامل المؤبل فيهم وعناجيج بينهن المهار وأجاب الجمهور بأن الرواية بالرفع وإن صح الجر فأل زائدة وفي وجوب نعت مجرورها خلف فقال المبرد وابن السراج والفارسي وأكثر المتأخرين وعزى للبصريين يجب لإجرائها مجرى حرف النفي حيث لا تقع إلا صدرا ولا يقدم عليها ما يعمل في الاسم بعدها وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة فالأقيس في مجرورها أن يوصف بجملة لذلك وقد يوصف بما يجري مجراها من ظرف أو مجرور أو اسم فاعل أو مفعول وجزم به ابن هشام في المعنى وارتضاء الرضى قال الأخفش والفراء والزجاج وابن طاهر وابن خروف وغيرهم لا يجب وتضمنها القلة أو الكثرة يقوم مقام الوصف واختاره ابن مالك وتبعه أبو حيان ونظر في الاستدلال المذكور بما لا يخفى وتجر مضافا إلى ضمير مجرورها معطوفا بالواو كرب رجل وأخيه ولا يقاس على ذلك عند سيبويه وما حكاه الأصمعي من مباشرة رب للمضاف إلى الضمير حيث قال لأعرابية ألفلان أب أو أخ فقالت : رب أبيه رب أخيه تريد رب أب له رب أخ له تقديرا للانفصال لكون أب وأخ من الأسماء التي يجوز الوصف بها فلا يقاس عليه اتفاقا وتجر ضميرا مفردا مذكرا يفسره نكرة منصوبة مطابقة للمعنى الذي يقصده المتكلم غير مفصولة عنه وسمع جره في قوله
وربه عطب أنقذت من عطبه
على نية من وهو شاذ وجوز الكوفية مطابقة الضمير للنكرة المفسر تثنية وجمعا وتأنيثا كما في قوله : ربها فتية دعوت إلى ما يورث الحمد دائما فأجابوا والأصح أن هذا الضمير معرفة جرى مجرى النكرة واختار ابن عصفور تبعا لجماعة أنه نكرة وأن جرها إياه ليس قليلا ولا شاذا خلافا لابن مالك وأنها زائدة في الإعراب لا المعنى وأن محل مجرورها على حسب
(14/5)

العامل لا لازم النصب بالفعل الذي بعد أو بعامل محذوف خلافا للزجاج ومتابعيه في قولهم : بذلك لما يلزم عليه من تعدي الفعل المتعدي بنفسه إلى مفعوله بالواسطة وهو لا يحتاج إليها فيعطف على محله كما يعطف على لفظه كقوله
وسن كسنيق سناء وسنما ذعرت بمدلاح الهجير نهوض وأنها تتعلق كسائر حروف الجر وقال الرماني وابن طاهر لا تتعلق كالحرف الزائدة وإن التعلق بالعامل الذي يكون خبرا لمجرورها أو عاملا في موضعه أو مفسرا له قاله أبو حيان وقال ابن هشام : قول الجمهور أنها معدية للعامل إن أرادوا المذكور فخطأ إنه يتعدى بنفسه أو محذوفا يقدر بحصل ونحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير ما معنى الكلام مستغنى عنه ولم يلفظ به في وقت ثم على التعليق قال لكذة : حذفه لحن والخليل وسيبويه نادر كقوله : ودوية قفر تمشي نعامها كمشي النصارى في خفاف اليرندج أي قطعتها ويرد لكذة هذا وقولهم : رب رجل قائم ورب ابنة خير من ابن وقوله : ألا رب من تغتشه لك ناصح وموتمن بالغيب غير أمين والفارسي والجزولي كثير وبه جزم ابن الحاجب ورابعها واجب كما نقله صاحب البسيط عن بعضهم وخامسها ونقل عن ابن أبي الربيع يجب حذفه إن قامت الصفة مقامه وإلا جاز الأمران سواء كان دليل أم لا ويجب عند المبرد والفارسي وابن عصفور وهو المشهور كما قال أبو حيان : ورأى الأكثرين كونه ماضيا معنى وقال ابن السراج : يأتي حالا وابن مالك يأتي مستقبلا واختاره في البحر إلا أنه قال بقتله وكثرة وقوع الماضي وأنشد له قول سليم القشيري : ومعتصم بالجبن من خشية الردى سيردى وغاز مشفق سيؤب وقول هند : يا رب قائلة غدا يالهف أم معاوية وجعل كابن مالك الآية من ذلك وتأولها الأكثرون بأنه وضع فيها المضارع موضع الماضي على حد ونفخ في الصور وتعقبه ابن هشام بأن فيه تكلفا لاقتضائه أن الفعل المستقبل عبر به عن ماض متجوز به عن المستقبل وأجاب الشمني بأنه لا تكلف فيه لأنهم قالوا : إن هذه الحالة المستقبلة جعلت بمنزلة الماضي المتحقق فاستعار معها ربما المختصة بالماضي وعدل إلى لفظ المضارع لأنه كلام من لا خلف في أخباره فالمضارع عنده بمنزلة الماضي فهو مستقبل في التحقيق ماض بحسب التاويل وهو كما ترى وعن أبي حيان أنه أجاب عن بيت هند بأنه من باب الوصف بالمستقبل لا من باب تعلق رب بما بعدها وهو نظير قولك رب مسيء اليوم يحسن غدا أي رب رجل يوصف بهذا الوصف وتأول الكوفيون كما في المطول الآية بأنها بتقدير كان أي ربما كان يود الذين كفروا فحذف لكثرة استعمال كان بعد ربما وضعف ذلك أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع إضمار كان وفي جمع الجوامع وشرحه أن ما تزاد بعد رب فالغالب الكف وإيلائها حينئذ الفعل الماضي لأن
(14/6)

التكثير أو التقليل إنما يكون فيما عرف حده والمستقبل مجهول كقوله : ربما أوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات وقد يليها المضارع كربما يود الآية وقد يليها الجملة الاسمية نحوه ربما الجامل المؤبل فيهم
وقد لا تكف نحو ربما ضربة بسيف صقيل بين بصري وطعنة نجلاء وقيل : يتعين بعدها الفعلية إذا كفت وإليه ذهب الفارسي وأول البيت على أن ما نكره موصوفة بجملة حذف مبتدأها أي رب شيء هو الجامل وقد يحذف الفعل بعدها كقوله : فذلك أن يلق الكريهة يلقها حميدا وإن يستغن يوما فربما وقد تلحق بها ما ولا تكف كقوله : مأوى ياربتما غارة شعواء كالكية بالميسم انتهى
وبنحو تأويل الفارسي البيت أول بعضهم الآية فقال : إن ما نكرة موصوفة بجملة يود إلى آخره والعائد محذوف والفعل المتعلق به رب محذوف أي رب شيء يوده الذين كفروا تحقق وثبت ونحوه قول ابن أبي الصلت : ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال والتزم كون المتعلق محذوفا لأنها حينئذ لا يجوز تعلقها بيود ولا بد لها من فعل تتعلق به على ما صححه جمع وأما على ما اختاره الرضي من كونها مبتدأ لا خبر له والمعنى قليل أو كثير وداد الذين كفروا فلا حاجة إليه وهذا التأويل على ما قال السمرقندي أحد قولي البصريين وتعقبه العلامة التفتازاني بأنه لا يخفى ما فيه من التعسف وبتر النظم الكريم أي قطع لو كانوا مسلمين عما قبله ووجه التعسف أن المعنى على تقليل أو تكثير ودادهم لا على تقليل أو تكثير شيء إلا أن يراد رب شيء يودونه من حيث إنهم يودونه والمختار عندي ما اختاره أبو حيان وكذا صاحب اللب من أن رب تدخل على الماضي والمضارع إلا أن دخولها على الماضي أكثر ومن تتبع أشعار العرب رأى فيها مما دخلت فيه على المضارع ما يبعد ارتكاب التأويل معه كما لا يخفى على المنصف المتتبع واختلفوا في مفادها هنا فذهب جمع كثير إلى أنه التقليل وهو ظاهر أكثر الآثار حيث دلت على أن ودادهم ذلك عند خروج عصاة المسلمين من جهنم وبقائهم فيها نعم زعم بعضهم أن الحق أن ما فيها محمول على شدة ودادهم إذ ذاك وأن نفس الوداد ليس مختصا بوقت دون وقت بل هو متقرر ومستمر في كل آن يمر عليهم
ووجه الزمخشري الإتيان بأداة التقليل على هذا بأنه وارد على مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك وربما ندم الإنسان على ما فعل ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون كما يتحرزون من التعرض للغم المتيقن ومن القليل منه كما من الكثير وكذلك المعنى في الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة فبالحري أن يسارعوا إليه فكيف وهم يودونه في كل ساعة أه
والكلام عليه على ما قيل من الكناية الإيمانية وفي ذلك من المبالغة ما لا يخفى قال ابن المنير : لا شك أن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدي عكس مقصوده كثيرا ومنه والله تعالى أعلم قد تعلمون أني رسول الله إليكم المقصود منه توبيخهم على أذاهم لموسى عليه السلام على توفر علمهم برسالته ومناصحته لهم وقوله
قد أترك القرن مصفرا أنامله
(14/7)

فإنه إنما يتمدح بالإكثار من ذلك وقد عبر بقد المفيدة للتقليل وقد اختلف توجيه علماء البيان لذلك فمنهم من وجهه بما ذكر عن الزمخشري من التنبيه بالأدنى على الأعلى ومنهم من وجهه بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الضد وذلك شأن كل ما بلغ نهايته أن يعود إلى عكسه وقد أفصح المتنبي عن ذلك بقوله : ولجدت حتى كدت تبخل حائلا للمنتهى ومن السرور بكاء وكلا الوجهين يحتمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها والعمدة في ذلك على سياق الكلام لأنه إذا اقتضى مثلا تكثيرا فدخلت فيه عبارة يشعر ظاهرها بالتقليل استيقظ السامع لأن المراد المبالغة على إحدى الطريقتين المذكورتين وقال في الكشف : الأصل في هذا الباب أن استعارة أحد الضدين للآخر تفيد المبالغة للتعكيس ولا تختص بالتهكم والتمليح على ما يوهمه ظاهر لفظ صاحب المفتاح في موضع فهو الذي عد المفازة من هذا القبيل لقصد التفاؤل ثم قد يختص موقعها بفائدة زائدة كما ذكره الزمخشري في هذا المقام وليس في ذلك كناية إيمانية وإنما ذلك من فوائد هذه الاستعارة وسيجيء إن شاء الله تعالى فيه كلام أتم بسطا في سورة التكوير أه
والحق أنه لا مانع من القول بالكناية الإيمانية كما لا يخفى وقيل : إن التقليل بالنسبة إلى زمان ذهاب عقلهم من الدهشة بمعنى أنه تدهشهم أهوال القيامة فيبهتون فإن وجدت منهم أفاقة ما تمنوا ذلك وظاهر صنيع العلامة التفتأزاني في المطول اختياره وجوز أن تكون مستعارة للتكثير والقول بالأستعارة له لا يحتاج إليه على القول المحكي عن صاحب العين ومن معه حسبما سمعت وذكر ابن الحاجب أنها نقلت من التقليل إلى إلى التحقيق كما نقلوا قد إذ أدخلت على المضارع منه إليه ومفعول يود محذوف أي الإسلام بدلالة لو كانوا مسلمين بناءا على أن لو للتمني والجملة في موضع الحال أي قائلين لو كانوا مسلمين وتقدير المفعول ماذكرنا هو الذي ذهب إليه غير واحد وقال الشهاب : تقديره النجاة ولا ينبغي تقدير الإسلام لأنه يصير تقديره يودوا الإسلام لو كانوا مسلمين وهو حشو وفيه نظر
وقال صاحب الفرائد بأن لو كانوا إلى آخره منزل منزلة المفعول وتعقب بأنه ظاهر إذ ليس ذلك مما يعمل في الجمل إلا أن يكون بمعنى ذكروا التمني ويجري مجرى القول على مذهب بعض النحاة والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك : حلف بالله تعالى ليفعلن ولو قلت لأفعلن لجاز وعلى ذلك جاء قوله تعالى تقاسموا بالله لنبيتنه بالنون وإيثار الغنيمة أكثر لئلا يلبس والتعليل بقلة التقدير ليس بشيء كما كشف ذلك في الكشف وأنكر قوم ورود لو للتمني وقالوا ليست قسما برأسها وإنما هي الشرطية أشربت معنى التمني وعلى الأول الأصح لا جواب لها على الأصح وقد نص على ذلك ابن الضائع وابن هشام الخضراوي ونقل أنهما قالا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط سهو وذكر أبو حيان أن الذي يظهر أنها لا بد لها من جواب لكنه التزم حذفه لا شرابها معنى التمني لأنه متى أمكن تقليل القواعد وجعل الشيء من باب المجاز كان أولى من تكثير القواعد وادعاء الاشتراك لأنه يحتاج إلى وضعين والمجاز ليس فيه إلا وضع واحد وهو الحقيقة وقيل : إنها هنا امتناعية شرطية والجواب محذوف تقديره لفازوا ومفعوا يود ما علمت وزعم بعضهم مصدريتها فيما إذا وقعت بعدما يدل على التمني فالمصدر حينئذ هو المفعول وهو القول بأن ما نكرة موصوفة بدل منها كما في البحر وقرأ عاصم ونافع ربما بتخفيف الباء وعن أبي عمرو التخفيف والتشديد وقرأ طلحة بن مصرف
(14/8)

وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ربتما بزيادة تاء هذا وإنما أطنبت الكلام في هذه الآية لا سيما فيما يتعلق برب لما أنه قد جرى لي بحث في ذلك مع بعض العظاميين فأبان عن جهل عظيم وحمق جسيم ورأيته ورب الكعب أجهل من رأيت من صغار الطلبة برب نعم له من العظاميين أمثال أصمهم الله تعالى وأعمى بالهم وقللهم ولا أكثر أمثالهم
ذرهم أي اتركهم وقد استغنى غالبا عن ماضيه بماضيه وجاء قليلا وذر وفي الحديث ذروا الحبشة ما وذروكم والمراد من الأمر التخلية بينهم وبين شهواتهم إذ لم تنفعهم النصيحة والإنذار كأنه قيل : خلهم وشأنهم يأكلوا ويتمتعوا بدنياهم وفي تقديم الأكل إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب والفعل وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر وأشار في الكشاف أن المراد المبالغة في تخليتهم حتى كأنه عليه السلام أمر أن يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما ووجهه المدقق صاحب الكشف فقال : أريد الأمر من حيث المعنى لأنه جعل أكلهم وتمتعهم الغاية المطلوبة من الأمر بالتخلية والغايات المطلوبة إن صح الأمر بها كانت مأمورا بها بنفس الأمر وأبلغ من صريحه فإذا قلت : لازم سدة العالم تعلم منه ما ينجيك في الآخرة كان أبلغ من قولك : لازم وتعلم لأنك جعلت الأمر وسيلة الثاني فهو أشد مطلوبية وإن لم يصح جعلت مأمورا بها مجازا كقولك : أسلم تدخل الجنة وما نحن فيه لما جعل غاية الأمر على التجوز صار مأمورا به على ما أرشدت إليه أه وهو من النفاسة بمكان وظن أن أنفهام الأمر من تقدير لامه قبل الفعل من بعض الأمر وما في البحر من أنه إذا جعل ذرهم أمرا بترك نصيحتهم وشغل باله صلى الله تعالى عليه وسلم بهم لا يترتب عليه الجواب لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم أم لا وقوف في ساحل التحقيق كما لا يخفى على من غاص في لجة المعاني فاستخرج درر السرار واستظهر أنه أمر بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وموادعتهم ثم قال : ولذلك صح أن يكون المذكور جوابا لأنه عليه الصلاة و السلام لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحروب ما هناهم أكل ولا تمتع ويدل على ذلك أن السورة مكية وهو كما ترى
ثم المراد على ما قيل دوامهم على ما هم عليه لا إحداث ما ذكر أو تمتعهم بلا استمتاع ما ينغص عيشهم والتمتع كذلك أمر حادث يصلح أن يكون مرتبا على تخليتهم فتأمل ويلههم الأمل ويشغلهم التوقع لطول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يلقوا إلا خيرا في العاقبة والمآل عن الإيمان والطاعة أو عن التفكر فيما يصيرون إليه فسوف يعلمون
3
- سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه ووخامة عاقبته أو حقيقة الحال التي ألجاتهم إلى التمني
وظاهر كلام الأكثرين أن المراد علم ذلك في الآخرة وقيل : المراد سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدنيا من الذل والقتل والسبي وفي الآخرة من العذاب الرمدي وهذا كما قيل مع كونه وعيدا أيما وعيد وتهديد غب تهديد تعليل للأمر بالترك وفيه إلزام الحجة ومبالغة في الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد حسبما علمت إلا بعد تكرر الإنذار وتقرر الجحود والإنكار ومن أنذر فقد أعذر وكذلك ما ترتب عليه من الأكل وما بعده وفي الآية إشارة إلى التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها ليس من أخلاق من يطلب النجاة وجاء عن الحسن ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل
(14/9)

وأخرج أحمد في الزهد والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا أعلمه إلا رفعه قال : صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل
وفي بعض الآثار عن علي كرم الله تعالى وجهه إنما أخشى عليكم اثنين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق وما أهلكنا من قرية أي قرية من القرى بالخسف بها وبأهلها الكافرين كما فعل ببعضها أو بأخلائها عن أهلها بعد إهلاكهم كما فعل بآخرين إلا ولها في ذلك الشأن كتاب أجل مقدر مكتوب في اللوح معلوم
4
- لا ينسى ولا يغفل عنه حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم والتأخر وهذا شرع في بيان سر تأخير عذابهم و كتاب مبتدأ خبره الظرف والجملة حال من قرية ولا يلزم تقدمها لكون صاحبها نكرة لأنها واقعة بعد النفي وهو مسوغ لمجيء الحال لأنه في معنى الوصف لا سيما وقد تأكد بكلمة من والمعنى ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال أن يكون لها كتاب معلوم لا نهلكها قبل بلوغه ولا نغفل عنه ليمكن مخالفته أو مرتفع بالظرف والجملة كما هي حال أيضا أي ما أهلكنا قرية من الرى في حال من الأحوال إلا وقد كان لها في حق إهلاكها أجل مقدر لا يغفل عنه
وقال الزمخشري الجملة صفة لقرية والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى : وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون وإنما توسطت لتأكد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب ووافقه على ذلك أبو البقاء وتعقبه في البحر بأنا لا نعلم أحدا قاله من النحاة وهو مبني على أن ما بعد ألا يجوز أن يكون صفة وقد صرح الأخفش والفارسي بمنع ذلك وقال ابن مالك : إن جعل ما بعد الأصفة لما قبلها مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي فلا يلتفت إليه وأبطل القول بأن الواو توسطت لتأكيد اللصوق
ونقل عن منذر بن سعيد أن هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو ومنه قوله تعالى : حتى إذا جاؤها وفتحت 2 أبوابها واعتذر السكاكي بأن ذلك سهو ولا عيب فيه ولم يرض بذلك صاحب الكشف وانتصر للزمخشري فقال : قد تكرر هذا المعنى منهم في هذا الكتاب فلا سهو كما اعتذر صاحب المفتاح وإذا ثبت إقحام الواو كما عليه الكوفيون والقياس لا يدفعه لثبوته في الحال وفيما أضمر بعده الجار في نحو بعت الشاء شاة ودرهما وكم وكم وهذه تدل على أن الاستعارة شائعة في الواو نوعية بل جنسية فلا نعتبر النقل الخصوصي ولا يكون من إثبات اللغة بالقياس لثبوت النقل عن نحارير الكوفة واعتضاده بالقياس والمعنى ولا يبعد من صاحب المعاني ترجيح المذهب الكوفي إذا اقتضاه المقام كما رجحوا المذهب التميمي على الحجازي في باب الاستثناء عنده ولا خفاء أن المعنى على الوصف أبلغ وأن هذا الوصف ألصق بالموصوف منه في قوله تعالى : إلا لها منذرون لأنه لازم عقلي عادي جري عليه سنة الله تعالى أه
وفي الدر المصون أنه قد سبق الزمخشري إلى ما قاله ابن حني وناهيك به من مقتدى
قال بعض المحققين : إن الموصوف ليس القرية المذكورة وإنما هو قرية مقدرة وقعت بدلا من المذكورة على
(14/10)

المختار فيكون ذلك بمنزلة كون الصفة لها أي ما أهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم كما في قوله تعالى : ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فإن لا يسمن الخ صفة لكن لا للطعام المذكور لأنه إنما يدل على انحصار طعامهم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع في الضرع وليس المراد ذلك بل للطعام المقدر بعد إلا أي ليس لهم طعام من شيء من الأشياء إلا طعام لا يسمن الخ فليس هناك الفصل بين الموصوف والصفة بإلا وأما توسيط الواو وإن كان القياس عدمه فللايذان بكمال الاتصال انتهى ولا يخفى أنه لم يأت في أمر التوسيط بما يدفع عنه القال والقيل وما ذكره من تقدير الموصوف بعد إلا يدفع حديث الفصل لكن نقل أبو حيان عن الأخفش أنه قال بعد منع الفصل بين الصفة والموصوف بإلا : ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره إلا رجل راكب : وفيه قبح لجعلك الصفة كالأسم ولعل الجواب عن هذا سهل وقرأ ابن أبي عبلة إلا لها بإسقاط الواو وهو على ما قيل يؤيد القول بزيادتها ولما بين سبحانه أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين لهلاكهم وأنه لم يكن إلا حسبما كان مكتوبا في اللوح بين جل شأنه أن كل أمة من الأمم منهم ومن غيرهم لهم كتاب لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقال عز قائلا : ما تسبق من أمة من الأمم المهلكة وغيرهم فمن مزيدة للاستغراق وقيل : إنها للتبعيض وليس بذاك أجلها المكتوب في كتابها أي لا يجيء هلاكها قبل مجيء كتابها ولا تمضي أمة قبل مضي أجلها فإن السبق كما نقل الإمام عن الخليل إذا كان واقعا على زماني فمعناه المجاوزة والتخليف فإذا قلت : سبق زيد عمرا فمعناه أنه جاوزه وخلفه وراءه وإن عمرا قصرا عنه ولم يبلغه وإذا كان واقعا على زمان كان على عكس ذلك فإذا قلت سبق فلان عام كذا كان معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه والسر في ذلك على ما في إرشاد العقل السليم أن الزمان يعتبر فيه الحركة والتوجيه فما سبقه يتحقق قبل تحققه وأما الزماني فإنما يعتبر فيه الحركة والتوجيه إلى ما سيأتي من الزمان فالسابق ما تقدم إلى المقصد وإيراده بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما أن إيراده بعنوان الكتاب باعتباره ما يوجبه من الإهلاك وما يستأخرون
5
- أي وما يتأخرون
وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له وإيثار صيغة المضارع في الفعلين بعدما ذكر نفي الإهلاك بصيغة الماضي لأن المقصود بيان دوامهما فيما بين الأمم الماضية والباقية وله نظائر في كتاب الكريم وإسنادهما إلى الأمة بعد إسناد الإهلاك إلى القرية لما أن السبق والاستئخار حال الأمة بدون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرهم ممن أخرت عقوباتهم إلى الآخرة وتأخير عدم سبقهم مع كون المقام مقام المبالغة في بيان تحقق عذابهم إما باعتبار تقدم السبق في الوجود وإما باعتبار أن المراد بيان سر تأخير عذابهم من استحقاقهم لذلك وأورد الفعل على صيغة المذكر رعاية لمعنى أمة مع التغليب كما روعي لفظها أولا مع رعاية الفواصل ولهذا حذف الجار والمجرور والجملة مبينة لما سبق ولذا فصلت والمعنى أن تأخير عذابهم إلى يوم الودادة حسبما أشير إليه إنما لتأخير أجلهم المقدر لما يقتضيه من الحكم ومن جملة ذلك ما علم الله تعالى من إيمان بعض من يخرج منهم قاله شيخ الإسلام واستدل بالآية على أن كل من مات أو قتل فإنما هو ميت بأجله وقد بين ذلك الامام
وقالوا شروع في بيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب
(14/11)

المتضمن للكفر به وبيان ما يؤل إليه حالهم والقائل أهل مكة قال مقاتل : نزلت الآية في عبدالله بن أمية والنضر ابن الحرث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة وهم الذين قالوا له صلى الله تعالى عليه وسلم : يا أيها الذي نزل عليه الذكر أي القرآن وخاطبوه عليه الصلاة و السلام بذلك مع أنهم الكفرة الذين لا يعتقدون نزول شيء استهزاء وتهكما وإشعارا بعلة حكمهم الباطل في قولهم : إنك لمجنون
6
- يعنون يا من يدعي مثل هذا الأمر العظيم الخارق للعادة إنك بسبب تلك الدعوى متحقق جنونك على أتم وجه وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده : أنت مجنون وقيل : حكمهم هذا لما يظهر عليه الصلاة و السلام من شبه الغشي حين ينزل عليه الوحي بالقرآن والأول على ما قيل هو الأنسب بالمقام وذهب بعضهم إلى أن القول الجملة المؤكدة دون النداء أما هو فمن كلام الله تعالى تبرئة له عليه الصلاة و السلام عما نسبوه إليه من أول الأمر وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر الخ فإنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى رد لإنكارهم واستهزائهم وقد يجاب بأن ذلك على هذا رد لما عنوه في ضمن قولهم المذكور لكن الظاهر كون الكل كلامهم وقد سبقهم إلى نظيره فرعون عليه اللعنة بقوله في حق موسى عليه السلام : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وتقديم الجار والجرور على نائب الفاعل كما قيل لأن إنكارهم متوجه إلى كون النازل ذكرا من الله تعالى لا إلى كون المنزل عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد تسليم كون النازل منه تعالى كما في قوله سبحانه : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فإن الإنكار هناك متوجه إلى كون المنزل عليه رسول الله عليه الصلاة و السلام
وإيراد الفعل على صيغة المجهول لا يهام أن ذلك ليس بفعل له فاعل أو لتوجيه الإنكار إلى كون التنزيل عليه لا إلى إسناده إلى الفاعل وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما نزل عليه الذكر بتخفيف نزل مبنيا للفاعل ورفع الذكر على الفاعلية وقريء يا أيها الذي ألقى عليه الذكر قال أبو حيان : وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف لوما تأتينا كلمة لوما كلولا تستعمل في أحد معنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتحضيض وعند إرادة الثاني منها لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر وعند إرادة الأول لا يليها إلا إسم ظاهر أو مقدر عند البصريين ومنه قول ابن مقبل : لوما الحياة ولوما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عورى وعن بعضهم أن الميم في لوما بدل من اللام في لولا ومثله استولى واستومى وخاللته وخالمته فهو خلى وخلمى أي صديقي وذكر الزمخشري أن لو تركب مع لا وما لمعنيين وهل لا تركب إلا مع وحدها للتحضيض واختار أبو حيان فيهما البساطة وأن الميم ليست بدلا من اللام وقال المالقي : إن لوما لا ترد إلا للتحضيض وهو محجوج بالبيت السابق وأياما كان فالمراد هنا التحضيض أي هلا تأتينا بالملائكة يشهدون لك ويعضدونك في الإنذار كقوله تعالى حكايه عنهم : لو لا أنزل ملك فيكون معه نذيرا أو يعاقبون على تكذيبك كما كانت تأتي الأمم المكذبة لرسلهم إن كنت من الصادقين
7
- في دعواك إن قدرة الله تعالى على ذلك مما لا ريب فيه وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك إذ لا نصدقك في ذلك الأمر الخطير بدونه أو إن كنت من
(14/12)

جملة تلك الرسل الصادقين الذين عذبت أممهم المكذبة لهم ما ننزل الملائكة بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل وهي قراءة حفص والأخوين وابن مصرف وقرأ أبو بكر عن عاصم ويحيى بن وثاب تنزل الملائكة بضم التاء وفتح النون والزاي مبنيا للمفعول ورفع الملائكة على النيابة عن الفاعل وقرأ الحرميان وباقي السبعة تنزل الملائكة بفتح التاء والزاي على أن الأصل تتنزل بتاءين إحداهما تخفيفا ورفع الملائكة على الفاعلية وإبقاء الفعل على ظاهره أولى من جعله بمعنى تنزل الثلاثي وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ما نزل ماضيا مخففا مبنيا للفاعل ورفع الملائكة على الفاعلية والبيضاوي بنى تفسيره على أن الفعل ينزل بالياء التحتية مبنيا للفاعل وهو ضمير الله تعالى و الملائكة بالنصب على أنه مفعوله واعترض عليه أنه لم يقرأ بذلك أحد من العشرة بل لم توجد هذه القراءة في الشواذ وهو خلاف ما سلكه في تفسيره ولعله رحمه الله تعالى قدسها وهذا الكلام مسوق منه سبحانه إلى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم جوابا لهم عن مقالتهم المحكية وردا لاقتراحهم الباطل الصادر عن محض التعصب والعناد ولشدة استدعاء ذلك للجواب قدم رده على ما هو جواب عن أولها أعني قوله سبحانه : أنا نحن الخ والعدول عن تطبيقه لظاهر كلامهم بصدد الاقتراح بأن يقال مثلا ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد أخطأوا في الاقتراح وأن الملائكة لعلو رتبتهم أعلى من أن ينسب إليهم مطلق الإتيان الشامل للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الأخر منها بل من الأسفل إلى الأعلا وأن يكون مقصد حركاتهم أولئك الكفرة وأن يدخلوا تحت ملكوت أحد من البشر وإنما الذي يليق بشأنهم النزول من مقامهم العالي وكون ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل قاله شيخ الإسلام
وقيل : لعل هذا جواب لما عسى أن يخطر بخاطره الشريف عليه الصلاة و السلام حين طلبوا منه الإتيان بالملائكة من سؤال التنزيل رغبة في إسلامهم فيكون وجه ذكر التنزيل ظاهرا وهو غير ظاهر كما لا يخفى
إلا بالحق أي إلا تنزيلا ملتبسا بالوجه الذي اقتضته الحكمة فالباء للملابسة والجار والمجرور في موضع صفة للمصدر المحذوف مستثنى استثناء مفرغا وجوز فيه الحالية من الفاعل والمفعول وجوز أبو البقاء أن تكون الباء للسببية متعلقة بننزل وإليه يشير كلام ابن عطية الآتي إن شاء الله تعالى والأول أولى ومقتضى الحكمة التشريعية والتكوينية على ما قيل أن تكون الملائكة المنزلون بصور البشر وتنزيلهم كذلك يوجب اللبس كما قال الله تعالى ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون وهذا إشارة إلى نفي ترتب الغرض وعدم النفع في ذلك وقوله تعالى : وما كانوا إذا منظرين
8
- إشارة إلى حصول الضرر وترتب نقيض المطلوب وكأنه عطف على مقدر يقتضيه الكلام السابق كأنه قيل : ما ننزل الملائكة عليهم إلا بصور الرجال لأنه الذي تقتضيه الحكمة فيحصل اللبس فلا ينتفعون وما كانوا إذا أنزلناهم منظرين أي ويتضررون بتنويلهم لأنا نهلكهم لا محالة ولا نؤخرهم لأنه قد جرت عادتنا في الأمم قبلهم أنا لم نأتهم بآية اقترحوها إلا والعذاب في أثرها إن لم يؤمنوا وقد علمنا منهم ذلك والمقصود نفي أن يكون لاقتراحهم الإتيان بهم وجه على أتم وجه بالإشارة إلى عدم نفعه أولا والتصريح بضرره ثانيا وقيل : يقدر المعطوف عليه لا يؤمنون كأنه قيل : ما ننزل الملائكة إلا بصور البشر لاقتضاء الحكمة ذلك فلا يؤمنون وما كانوا إذا منظرين وفي النفس من هذا ومما قبله شيء
وقال بعض المحققين : إن المعنى ما ننزل الملائكة إلا ملتبسا بالوجه بحق ملابسة التنزيل به مما تقتضيه
(14/13)

الحكمة وتجري به السنة الإلهية والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هم ومنزلتهم في الحقائق منزلتهم مما لا يكاد يدخل تحت الصحة والحكمة أصلا فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام من أفراد كل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئام وإنما الذي يدخل في حقهم تحت الحكمة في الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة وما كانوا إذا مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل في الآيات قبل وحال حائل الحكمة بينهم استئصالهم لتعلق العلم بازديادهم عذابا وبأيمان بعض ذراريهم ونظم إيمان بعضهم في سمط الحكمة يأباه تماديهم في الكفر والعناد فما كانوا الخ جواب لشرط مقدر أي ولو أنزلناهم ما كانوا الخ
واعترض بأن الأوفق بقوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا أن يكون الوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به لمثل غرضهم كونهم بصور الرجال وذلك ليس من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يكون لهم أصلا فلا يتم كلامه وفيه بحث كما لا يخفى وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد تفسير الحق هنا بالرسالة والعذاب ووجهت الآية على ذلك نحو هذا التوجيه فقيل : المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالرسالة والعذاب ولو نزلناهم عليهم ما كانوا منظرين لأن التنزيل عليهم بالرسالة مما لايكاد فتعين أن يكون التنزيل بالعذاب وذكر الماوردي الاقتصار على الرسالة وروي عن الحسن الاقتصار على العذاب وفي معنى ذلك ما روي عن ابن عباس من أن المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالحق الذي هو الموت الذي لا يقع فيه تقديم ولا تأخير
وقال ابن عطية : الحق ما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده والمعنى ما ننزل الملائكة إلا بالحق واجب من وحي ومنفعة لا باقتراحكم وأيضا لو نزلنا لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب لأن عادتنا إهلاك الأمم المقترحة إذا أتيناهم ما اقترحوه وفيه ما فيه وقال الزمخشري المعنى ألا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه و سلم لأنهم حينئذ مصدقون اضطرارا وهو مبني على أن الإنزال بصورهم الحقيقية ومنه أخذ صاحب القيل المذكور أو لا قيله والبيضاوي جعل المنافي للحكمة أنزالهم بصور البشر حيث قال : لا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا
وقال بعضهم : أريد إن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفرة أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثا باطلا ولا يكون حقا وتعقب الأقوال الثلاثة البعض من المحققين بأنه مع إخلال كل من ذلك بفظيعة الآتي لا يلزم من فرض وقوع شيء من ذلك تعجيل العذاب الذي يفيده قوله سبحانه : وما كانوا إذا منظرين ومن الناس من تكلف لتوجيه اللزوم على بعض هذه الأقوال بما تكلف واختار بعضهم كون المراد من الحق الهلاك والجملة بعد جواب سؤال مقدر فكأنه لما قيل : ما ننزل الملائكة إلا بالهلاك إذ هو الذي يحق لأمثالهم من المعاندين قيل : فليكن ذلك فأجيب بأنه لو فعلنا ما كانوا منظرين أي وهم قد كانوا منظرين كما أجمل فيما قبل من قوله سبحانه : ذرهم يأكلون ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وحاصل الجواب حينئذ على ما قيل أن ما طلبوه من الإتيان بالملائكة ليشهدوا بصدق النبي صلى الله عليه و سلم مما لا يكون لهم لأن ما اقتضته حكمتنا وجرت به عادتنا مع أمثالهم ليس إلا التنزيل بالهلاك دون الشهادة فإن الحكمة لا تقتضيه والعادة لم تجر فيه لأنه إن كان والملائكة بصورهم
(14/14)

الحقيقية لم يحصل الإيمان بالغيب ولم يتحقق الإختيار الذي هو مدار التكليف وإن كان وهم بصور البشر حصل اللبس فكان وجوده كعدمه ولزم التسلسل ويمنع من التنزيل بالهلاك كما فعل مع أضرابهم من المعاندين أنا جعلناهم منظرين فلو نزلنا الملائكة وأهلكناهم عاد بالنقض لما أبرمناه حسبما نعلم فيه من الحكم وقيل : في توجيه الآية على تقدير كون اقتراحهم لأتيان الملائكة لتعذيبهم : إن المعنى إنا ما ننزل الملائكة للتعذيب إلا تنزيلا ملتبسا بما تقتضيه الحكمة ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك ملتبسا بما تقتضيه لأنها اقتضت تأخير عذابهم إلى يوم القيامة وحيث كان تنزيلهم للتعذيب إلى عدم موافقة الحكمة نوع إيهام لعدم استحقاقهم التعذيب عدل عما يقتضيه الظاهر إلى ما عليه النظم الكريم فكأنه قيل : لو نزلناهم ما كانوا منظرين وذلك غير موافق للحكمة فتدبر جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك هذا ولفظة إذا قال في الكشاف : جواب وجزاء لأن الكلام جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا وصرح فإفادتها هذا المعنى سيبويه إلا أن الشلوبين حمل ذلك على الدوام وتكلف له وأبو علي على الغالب وقد تتمحض للجواب عنده وهي حرف بسيط عند الجمهور وذهب قوم إلى أنها اسم ظرف وأصلها إذا الظرفية لحقها التنوين عوضا من الجملة المضاف إليها ونقلت إلى الجزائية فبقي فيها معنى الربط والسبب وذهب الخليل إلى أنها حرف تركيب من إذ وأن وغلب عليها حكم الحرفية ونقلت حركة الهمزة إلى الذال ثم حذفت والتزم هذا النقل فكان المعنى إذا قال القائل أزورك فقلت إذا أزورك قلت حينئذ زيارتي واقعة ولا يتكلم بهذا
وذهب أبو علي عمر بن عبدالمجيد الزيدي إلى أنها مركبة من إذا وإن وكلاهما يعطي ما يعطى كل واحدة منهما فيعطى الربط كإذا والنصب كأن ثم حذفت همزة أن ثم ألف إذا لالتقاء الساكنين والظاهر أنه لو قدر في الكلام شرط كانت لمجرد التأكيد وجعلوا من ذلك قوله تعالى : ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا الخ ونقل عن الكافيجي أنه قال في مثل ذلك : ليست إذا هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ وله سلف في ذلك فقد قال الزركشي في البرهان بعد ذكره : لإذا معنيين وذكر لها بعض المتأخرين معنى ثالثا وهو أن تكون مركبة من إذا التي هي ظرف زمان ماض ومن جملة بعدها تحقيقا أو تقديرا لكنها حذفت تخفيفا وأبدل منها التنوين كما في قولهم حينئذ وليست هذه الناصبة للمضارع لأن تلك تختص به وهذه لا بل تدخل على الماضي نحو إذا لأمسكتم وعلى الاسم نحو وإنكم إذا لمن المقربين ثم قال : وهذا المعنى لم يذكره النحويون لكنه قياس ما قالوه في إذ وفي التذكرة لأبي حيان ذكر لي علم الدين أن القاضي تقي الدين بن رزين كان يهب إلى أن تنوين إذا عوض من الجملة المحذوفة وليس قول نحوي وقال الجوني : وأنا أظن أنه يجوز أن تقول لمن قال : أنا آتيتك إذا أكرمك بالرفع على معنى إذا أتيتني أكرمك فحذفت أتيتني وعوضت التنوين فسقطت الألف لالتقاء الساكنين والنصب الذي اتفق عليه النحاة لحملها على غير هذا المعنى وهو لا ينفي الرفع إذا أريد بها ما ذكره
وذكر الجلال السيوطي أن الإجماع في القرآن على كتابتها بالألف والوقف عليه دليل على أنها اسم منون لا حرف آخره نون خصوصا إذا لم تقع ناصبة للمضارع فالصواب إثبات هذا المعنى لها كما جنح إليه شيخنا الكافيجي ومن سبق النقل عنه وعلى هذا فالأولى حملها في الآية على ما ذكر ة وقد ذكرنا فيما مضى بعضا من هذا الكلام فتذكر ثم إنه تعالى رد إنكارهم التنزيل واستهزاءهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسلاه
(14/15)

عليه الصلاة و السلام بقوله سبحانه : إنا نحن نزلنا الذكر أي نحن بعظم شأننا وعلو جانبنا نزلنا الذكر أنكروه وأنكروا نزوله عليك وقالوا فيك لادعائه ما قالوا وعملوا منزله حيث بنو الفعل للمفعول إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له وأنا له لحافظون
9
- أي من أكل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى أن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول له من كان : الصواب كذا ويدخل في ذلك استهزاء أولئك المستهزئين وتكذيبهم إياه دخولا أوليا ومعنى حفظه من ذلك عدم تأثيره فيه وذبه عنه وقال الحسن : حفظه بابقاء شريعته إلى يوم القيامة وجوز غير واحد أن يراد حفظه بالإعجاز في كل وقت كما يدل عليه الجملة الأسمية من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل ولم يحفظ سبحانه كتابا من الكتب كذلك بل استحفظها جل وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظا أولا وآخرا وإلى هذا أشار في الكشاف ثم سأل بما حاصله أن الكلام لما كان مسوقا لردهم وقد تم الجواب بالأول فما فائدة التذييل بالثاني وإنما يحسن إذا كان الكلام مسوقا لإثبات محفوظية الذكر أولا وآخرا وأجاب بأنه جيء به لغرض صحيح وأدمج فيه المعنى المذكور إماما هو أن يكون دليلا على أنه منزل من عند الله تعالى آية فالأول وإن كان ردا كان كمجرد دعوى فقيل ولولا أن الذكر من عندنا لما بقي محفوظا عن الزيادة والنقصان كما سواه من الكلام وذلك لأن نظمه لما كان معجزا لم يكن زيادة عليه ولا نقص للإخلال بالإعجاز كذا في الكشف وفيه إشارة إلى وجه العطف وهو ظاهر
وأنت تعلم أن الإعجاز لا يكون سببا لحفظه عن إسقاط بعض السور لأن ذلك لا يخل بالإعجاز كما لا يخفى فالمختار أن حفظ القرآن وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر الله تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء الله عز و جل ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله تعالى عنهم لجمعه حسبما علمته أول الكتاب واحتج القاضي بالآية على فساد قول بعض من الإمامية لا يعبأ بهم إن القرآن قد دخله الزيادة والنقصان وضعفه الإمام بأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه لأن للقائلين بذلك أن يقولوا : إن هذه الآية من جملة الزوائد ودعوى الإعجاز في هذا المقدار لابد لها من دليل واحتج بها القائلون بحدوث الكلام اللفظي وهي ظاهرة فيه ومن العجب ما نقله عن أصحابه حيث قال : قال أصحابنا في هذه الآية دلالة على كون البسملة آية من كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصونا عن التغيير ولما كان محفوظا عن الزيادة ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أن يظن بهم أنهم نقصوا وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة أه ولعمري أن تسمية مثل هذا بالخبال أولى من تسميته بالاستدلال ولا يخفى ما في سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد ونحن ليس فصلا لأنه لم يقع بين اسمين وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن ويعلم مما قررنا أن ضمير له وإليه ذهب مجاهد وقتادة والأكثرون وهو الظاهر وجوز الفراء وذهب إليه النزر أن يكون راجعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي وأما للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين كقوله تعالى : والله يعصمك من الناس والمعول عليه الأول وأخر هذا الجواب مع أنه رد لأول كلامهم الباطل لما أشرنا إليه فيما مر ولارتباطه
(14/16)

بما يعقبه من قوله تعالى : ولقد أرسلنا أي رسلا كما روي عن ابن عباس وإنما لم يذكر لظهور الدلالة عليه من قبلك متعلق بأرسلنا أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف أي رسلا كائنة من قبلك في شيع الأولين
10
- أي فرقهم كما قال الحسن والكلبي وإليه ذهب الزجاج وهو وكذا أشياع جمع شيعة وهي الفرقة الجماعة المتفقة على طريقة ومذهب مأخوذ من شاع المتعدي بمعنى تبع لأن بعضهم يشايع بعضا ويتابعه وتطلق الشيعة على الأعوان والأنصار وأصل ذلك على ما قيل من الشياع بالكسر والفتح صغار الحطب يوقد به الكبار والمناسبة في ذلك نظرا للإطلاق في الثاني ظاهرة وللإطلاق الأول أن التابع من حيث أنه تابع ممن يتبعه وأضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيع الأمم الأولين والجار والمجرور متعلق بأرسلنا
ومعنى إرسال الرسل في الشيع جعل كل منهم رسولا فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين وكأنه لو قيل إلى بدل في لم يظهر إرادة هذا المعنى وقيل : إنما عدل عن إلى إليها للإعلام بمزيد التمكين وزعم بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول المقدر أو حال ولا يخفى بعده
وما يأتيهم من رسول حكاية حال ماضية كما قال الزمخشري لأن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال وهو قول الأكثرين وقال بعضهم : إن الأكثر دخول ما على المضارع مرادا به الحال وقد تدخل عليه مرادا به الاستقبال وأنشد قول أبي ذؤيب : أودى بني وأودعوني حسرة عند الرقاد وعبرة ما تقلع وقول الأعشى يمدح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : له نافلات ما يغب نوالها وليس عطاء اليوم مانعه غدا وقال تعالى : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ولعله المختار وإن كان ما هنا على الحكاية والمراد نفي أتيان كل رسول لشيعته الخاصة به لانفي إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيع جميعا أو على سبيل البدل أي ما أتي شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها إلا كانوا به يستهزئون
11
- كما يفعله هؤلاء الكفرة والجملة كما قال أبو البقاء في محل النصب على أنها حال من ضمير المفعول في يأتيهم إن كان المراد بالإتيان حدوثه أو في محل الرفع أو الجر على أنها صفة رسول على لفظه أو موضعه لأنه فاعل وتعقب جعلها صفة باعتبار لفظه بأنه يفضي إلى زيادة من الاستغراقية في الإثبات لمكان إلا وتقدير العمل في النعت بعدها
وجوز أن تكون نصبا على الاستثناء وإن كان المختار الرفع على البدلية وهذا كما ترى تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن هذه شنشنة جهال الأمم مع المرسلين عليهم السلام قبل وحيث كان الرسول مصحوبا بكتاب من عند الله تعالى ذكر استهزائهم بالرسول استهزاءهم بالكتاب ولذلك قال سبحانه : كذلك أي مثل السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به نسلكه أي ندخله يقال : سلكت الخيط في الأبرة والسنان في المطعون أي
(14/17)

كما ذكر أبو عبيدة بمعنى واحد والضمير عند جمع ومنهم الحسن على ما ذكره الغزنوي للذكر في قلوب المجرمين
12
- أي أهل مكة أو جنس المجرمين فيدخلون فيه دخولا أوليا ومعنى المثلثية كونه مقرونا بالاستهزاء غير مقبول لما تقتضيه الحكمة وحاصله أنه تعالى يلقى القرآن في قلوب المجرمين مستهزأ به غير مقبول لأنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق كما ألقى سبحانه كتب الرسل عليهم السلام في قلوب شيعهم مستهزأ بها غير مقبولة لذلك وصيغة المضارع لكون المشبه به مقدما في الوجود وهو السلك الواقع في شيع الأولين
لا يؤمنون به الضمير للذكر أيضا والجملة في موضع الحال من مفعول نسلكه أي غير مؤمن به وهي إما مقدرة وإما مقارنة على معنى أن الإلقاء وقع بعد الكفر من غير توقف فهما في زمان واحد عرفا ويجوز أن تكون بيانا للجملة السابقة فلا محل لها من الإعراب قال في الكشف : وهو الأوجه لأن في طريقة الإبهام والتفسير لا سيما في هذا المقام ما يجل موقع الكلام وفي إرشاد العقل السليم أنه قد جعل ضمير نسلكه للإستهزاء المفهوم من يستهزئون فتتعين البيانية إلا أن يجعل ضمير به له أيضا على أن الباء للملابسة أي يسلك الإستهزاء في قلوبهم حال كونهم غير مؤمنين بملابسة الإستهزاء وقد ذهب إلى جواز إرجاع الضميرين إلى الإستهزاء ابن عطية إلا أنه جعل الباء للسببية وكذا الفاضل الجلبي ولا يخفى أن يعد ذلك يغني عن رده وذهب البيضاوي إلى كون الضمير الأول للإستهزاء وضمير به للذكر وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة إذا دل الدليل عليه ليس ببدع في القرآن وجوز على هذا كون الجملة حالا من المجرمين ولا يتعين كونها حالا من الضمير ليتعين رجوعه للذكر وذكر أن عوده على الإستهزاء لا ينافي كونها مفسرة بل يقويه إذ عدم الإيمان بالذكر أنسب بتمكن الإستهزاء في قلوبهم وجعل الآية دليلا على أنه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم ففيها رد على المعتزلة في قولهم : إنه قبيح فلا يصدر منه سبحانه وكأنه رحمه الله تعالى ظن أن ما فعله الزمخشري من جعل الضميرين للذكر كان رعاية لمذهبه ففعل ما فعل ولا يخفى أنه يصب المحز وغفل عن قولهم : الدليل إذا طرقه الإحتمال بطل به الإستدلال
وفي الكشف بعد كلام إن رجع الضمير إلى الإستهزاء أو الكفر مع ما فيه من تنافر النظم لا ينكره أهل الإعتزال إلا كإنكار سلك الذكر بصفة التكذيب والتأويل وكأنهم غفلوا عما ذكره جار الله في الشعراء حيث أجاب عن سؤال إسناد سلك الذكر بتلك الصفة إلى نفسه جل وعلا بأن المراد تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن كشيء جبلوا عليه ولخص المعنى ههنا بأنه تعالى يلقيه في قلوبهم مكذبا لا أن التكذيب فعله سبحانه
نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أنس والحسن تفسير ضمير نسلكه إلى الشرك وأخرج هو وابن جرير عن ابن زيد أنه قال في الآية : هم كما قال الله تعالى هو أضلهم ومنعهم لكن هذا أمر وما نحن فيه آخر واعترض بعضهم رجوع الضمير إلى الذكر بأن نون العظمة لا تناسب ذلك فإنها إنما تحسن إذا كان فعل المعظم نفسه فعلا يظهر له أثر قوي وليس كذلك هنا فإنه تدافع وتنازع فيه وأجاب بأن المقام إذا كان للتوبيخ يحسن ذلك ولا يلزم أن تكون العظمة باعتبار القهر والغلبة فقد تكون باعتبار اللطف والإحسان وتعقب ذلك الشهاب بقوله : لا يخفى أنه باعتبار القهر والغلبة يقتضي أن يؤثر ذلك في قلوبهم وليس كذلك لعدم إيمانهم
(14/18)

به وكذا باعتبار اللطف والإحسان يقتضي أن يكون سلكه في قلوبهم إنعاما عليهم فأي إنعام عليهم بما يقتضي الغضب فلا وجه لما ذكر وأنت تعلم أنه إذا كان المراد سلك ذلك وتمكينه في قلوبهم مكذبا به غير مقبول فكون الإسناد باعتبار القهر والغلبة مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان والأثر الظاهر القوي لذلك بقاؤهم على الكفر والإصرار على الضلال ولو جاءتهم كل آية ولا يخفى ما في كذلك مما يناسب نون العظمة أيضا وقد مر التنبيه عليه غير مرة
وقد خلت مضت سنة طريقة الأولين
13
- والمراد عادة الله تعالى فيهم على أن الإضافة لأدنى ملابسة لا على أن الإضافة بمعنى في والمراد بتلك العادة على تقدير أن يكون ضمير نسلكه للإستهزاء الخذلان وسلك الكفر في قلوبهم أي قد مضت عادته سبحانه وتعالى في الأولين ممن بعث إليهم الرسل عليهم السلام أن يخذلهم ويسلك الكفر والإستهزاء في قلوبهم وعلى تقدير أن يكون للذكر الإهلاك وعلى هذا قول الزمخشري أي مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم والمنزل عليهم وذكر أنه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم وإلى الأول ذهب الزجاج وادعى الإمام أنه الأليق بظاهر اللفظ وبين ذلك الطيبي قائلا : إن التعريف في المجرمين للعهد والمراد بهم المكذبون من قوم رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنهم المذكورون بعد أي مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين المكذبين للرسل الماضين نسلكه في قلوب هؤلاء المجرمين فلك أسوة بالرسل الماضية مع أممهم المكذبة ولست بأوحدي في ذلك وقد خلت سنة الأولين والمقام يقتضي التقرير والتأكيد فيكون في هذا مزيد تسلية للرسول عليه الصلاة و السلام والوعيد بعيد لأنه لم يسبق لإهلاك الأمم ذكر وإيثار ذلك لأنه أقرب إلى مذهب الإعتزال أه
وفي غفلة عن مغزى الزمخشري وقد تفطن لذلك صاحب الكشف ولله تعالى رده حيث قال : أراد أن موقع قد خلت إلى آخره موقع الغاية في الشعراء أعني قوله تعالى هنالك : حتى يروا العذاب الأليم فإنهم لما شبهوا بهم قيل : لا يؤمنون وقد هلك من قبلهم ولم يؤمنوا فكذلك هؤلاء ومنه يظهر أن الكلام على هذا الوجه شديد الملاءمة وأما أن الوعيد بعيد لعدم سبق ذكر لإهلاك الأمم ففيه أن لفظ السنة مضافا إلى ما أضيف إليه ينبيء عن ذلك أشد الأنباء ثم إنه ليس المقصود منه الوعيد على ما قررناه وقد صرح أيضا بعض الأجلة أن الجملة استثنافية جيء بها تكملة للتسلية وتصريحا بالوعيد والتهديد ثم ما ذهب إليه الزمخشري من المراد بالسنة مروي عن قتادة فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه أنه قال في الآية : قد خلت وقائع الله تعالى فيمن خلا من الأمم وعن ابن عباس أن المراد سنتهم في التكذيب ولعل الإضافة على هذا على ظاهرها
ولو فتحنا عليهم أي على هؤلاء المقترحين المعاندين بابا من السماء ظاهره بابا ما لا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل : فظلوا فيه أي في ذلك الباب يعرجون
14
- يصعدون حسبما نيسره لهم فيرون ما فيها من الملائكة والعجائب طول نهارهم مستوضحين لما يرونه كما يفيده ظلوا لأنه يقال ظل يعمل كذا إذا فعله في النهار حيث يكون للشخص ظل وجوز في البحر كون ظل بمعنى صار وهو مع كونه خلاف الأصل مما لا داعي إليه وأياما كان فضمير الجمع للمقترحين وهو الظاهر المروي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي وأبو مسلم وأخرج ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه للملائكة وروي ذلك عن قتادة أيضا
(14/19)

أي فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونهم على أتم وجه وقرأ الأعمش وأبو حيوة يعرجون بكسر الراء وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود لقالوا لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق : إنما سكرت أبصارنا أي سدت ومنعت من الإبصار حقيقة وما نراه تخيل لا حقيقة له أخرجه أبو حاتم وغيره عن مجاهد وروي أيضا عن ابن عباس وقتادة فهو من السكر بالفتح وقال أبو حيان : بالكسر السد والحبس وقال ابن السيد : السكر بالفتح سد الباب والنهر وبالكسر السد نفسه ويجمع على سكور قال الرفاء : غناؤنا فيه ألحان السكور إذا قل الغناء ورنات النواعير ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن كثير والحسن ومجاهد سكرت أبصارنا بتخفيف الكاف مبنيا للمفعول لأن سكر المخفف المتعدي اشتهر في معنى السد وعن عمرو بن العلاء أن المراد حيرت فهو من السكر بالضم ضد الصحو وفسروه بأنه حالة تعرض بين المرء وعقله وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب وقد يعتري من الغضب والعشق ولذا قال الشاعر : سكران سكر هوى وسكر مدامة أنى يفيق فتى به سكران والتشديد في ذلك للتعدية لأن سكر كفرح لازم في الأشهر وقد حكى تعديه فيكون للتكثير والمبالغة وأرادوا بذلك أنه فسدت أبصارنا واعتراها خلل في أحساسها كما يعتري عقل السكران ذلك فيختل إدراكه ففي الكلام على هذا استعارة وكذا على الأول عند بعض ويشهد لهذا المعنى قراءة الزهري سكرت بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيا للفاعل لأن الثلاثي اللازم مشهور فيه ولأن سكر بمعنى سد المعروف فيه فتح الكاف
واختار الزجاج أن المعنى سكنت عن إبصار الحقائق من سكرت الريح تسكر سكرا إذا ركدت ويقال : ليلة ساكرة لا ريح فيها والتضعيف للتعدية ولهم أقوال أخر متقاربة في المعنى وقرأ أبان بن تغلب وحملت لمخالفتها سواد المصحف على التفسير سحرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون
15
- قد سحرنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما قالوا ذلك عند ظهور سائر الآيات الباهرة والظاهر على ما قال القطب أنهم أرادوا أولا سكرت أبصارنا لا عقولنا فنحن وإن تخلينا هذه الأشياء بأبصارنا لكن نعلم بعقولنا أن الحال بخلافه ثم أضربوا عن الحصر في الإبصار وقالوا : بل تجاوز ذلك إلى عقولنا وفسر الزمخشري الحصر بأن ذلك ليس إلا تسكيرا فأورد عليه بأن إنما إنما تفيد الحصر في المذكر آخرا وحينئذ يكون المعنى ما تقدم وهو مبني على أن تقديم المقصور على المقصور عليه لازم وخلافه ممتنع وقد قال المحقق في شرح التخليص أنه يجوز إذا كان نفس التقديم يفيد الحصر كما في قولنا : إنما زيدا ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد وقال أبو الطيب : صفاته لم تزده معرفة لكنها لذة ذكرناها أي ما ذكرناها إلا لذة إلا أن هذا لا ينفع فيما نحن فيه نعم نقل عن عروس الأفراح أن حكم أهل المعاني غير مسلم فإن قولك : إنما قمت معناه لم يقع إلا القيام فهو لحصر الفعل وليس بآخر ولو قصد حصر الفاعل لا نفصل ثم أورد عدة أمثلة من كلام المفسرين تدل على ما ذكروه في المسئلة فالظاهر أن الزمخشري لا يرى ما قالوه مطردا وهم غفلوا عن مراده هنا قاله الشهاب وما نقله عن عروس الأفراح في إنما قمت من أنه
(14/20)

لحصر الفعل ولو كان لحصر الفاعل لا نفصل يخالفه ما في شرح المفتاح الشريفي من أنه إذا أريد حصر الفعل في الفاعل المضمر فإن ذكر بعد الفعل شيء من متعلقاته وجب انفصال الفاعل وتأخيره كما في قولك : إنما ضرب اليوم أنا وكما في قول الفرزدق : أنا الذائد الحامي الذمار وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي وإن لم يذكر احتمل الوجوب طرد للباب وعدمه بأن يجوز الانفصال نظرا إلى المعنى والانفصال نظرا إلى اللفظ إذ لا فاصل لفظيا أه فإنه صريح في أن إنما قمت لحصر الفاعل وإن لم يجب الانفصال لكن اختار السعد في شرحه وجوب الانفصال مطلقا وحكم بأن الظاهر أن معنى إنما أقوم ما أنا إلا أقوم كما نقله السمرقندي وأبو حيان مع طائفة يسيرة من النحاة أنكروا إفادة إنما للحصر أصلا وليس بالمعول عليه عند المحققين لكنهم قالوا : إنها قد تأتي لمجرد التأكيد وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله ووجه الشهاب الاضراب بعد أن قال هو جعل الأول في حكم المسكوت عنه دون النفي ويحتمل الثاني بأنه إضراب لأن هذا ليس بواقع في نفس الأمر بل بطريق السحر أو هو باعتبار ما تفيده الجملة من الاستمرار الذي دلت عليه الإسمية أي مسحوريتنا لا تختص بهذه الحالة بل نحن مستمرون عليها في كل ما يرينا من الآيات هذا وفي هذه الآية من وصفهم بالعناد وتواطئهم على ما هم فيه من التكذيب والفساد ما لا يخفى وفي ذلك تأكيد لما يفهم من الآية الأولى وقد ذكر بن المنير في المراد منها وجها بعيدا جدا فيما أرى فقال : المراد والله تعالى أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها كما سلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله تعالى حجة بأنهم ما فهموا وجه الإعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى وهم في مهلة وإمكان أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير معذورين ولذلك عقبه سبحانه بقوله تعالى : ولو فتحنا عليهم الخ أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسمتهم اللداد حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها إلى الإيمان لقالوا بعد الإيضاح العظيم : إنما سكرت أبصارنا وسحرنا وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها فأسجل سبحانه عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم بالتكذيب من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كان حاصلا لهم وليس بهم إلا العناد والإصرار لا غير أه فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ثم أنه تعالى لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد ذكر دلائله السماوية والأرضية فقال عز قائلا : ولقد جعلنا في السماء بروجا الخ وإلى هذا ذهب الإمام وغيره في وجه الربط
وقال ابن عطية : أنه سبحانه لما ذكر أنهم لو رأوا الآية المطلوبة في السماء لعاندوا وبقوا على ما هم فيه من الضلال عقب ذلك بهذه الآية كأنه جل شأنه قال : وإن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه المذورة وكفرهم بها وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو أه والظاهر أن الجعل بمعنى الخلق والإبداع فالجار والمجرور متعلق به وجوز أن يكون بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان له وبروجا مفعوله الأول والبروج جمع برج وهو لغة القصر والحصن وبذلك فسره هنا عطية فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم أنه قال :
(14/21)

جعلنا قصورا في السماء فيها الحرس وأخرج عن أبي صالح أن المراد بالبروج الكواكب العظام
وفي البحر عنه الكواكب السيارة وروي غير واحد عن مجاهد وقتادة أنها الكواكب من غير قيد وروي عن ابن عباس تفسير ذلك بالبروج الأثني عشر المشهورة وهي ستة شمالية ثلاثة ربيعية وثلاثة صيفية وأولها الحمل وستة جنوبية ثلاثة خريفية وثلاثة شتائية وأولها الميزان وطول كل برج عندهم ل درجة وعرضه قف درجة ص منها في جهة الشمال ومثلها في جهة الجنوب وكأنها إنما سميت بذلك لأنها كالحصن أو القصر للكوكب الحال فيها وهي في الحقيقة أجزاء الفلك الأعظم وهو المحدد المسمى بلسانهم الفلك الأطلس وفلك الأفلاك وبلسان الشرع بعكسه ولهذا يسمى الشيخ الأكبر قدس سره الفلك الأطلس بفلك البروج والمشهور تسمية الفلك الثامن وهو فلك الثوابت به لاعتبارهم الأنقسام فيه وكأن ذلك لظهور ما تتعين به الأجزاء من الصور فيه وإن كان كل منها منتقلا عما عينه إلى آخر منها لثبوت الحركة الذاتية للثوابت على خلاف التوالي وإن لم يثبتها لها لعدم الإحساس بها قدماء الفلاسفة كما لم يثبت الأكثرون حركتها على نفسها وأثبتها الشيخ أبو علي ومن تبعه من المحققين وقد صرحوا بأن هذه الصور المسماة بالسماء المعلومة توهمت على المنطقة وما يقرب منها من الجانبين من كواكب ثابتة تنظمها خطوط مرهومة وقعت وقت القسمة في تلك الأقسام ونقل ذلك في الكفاية عن عامة المنجمين وأنهم إنما توهموا لكل قسم صورة ليحصل التفهيم والتعليم بأن يقال : الدبران مثلا عين الأسد
وتعقب ذلك بقوله : هذا ليس بسديد عندي لأن تلك الصور لو كانت وهمية لم يكن لها أثر في أمثالها من العالم السفلي مع أن الأمر ليس كذلك فقد قال بطليموس في الثمرة الصور التي في عالم التركيب مطيعة للصور الفلكية إذ هي في ذواتها على تلم الصور فأدركتها الأوهام على ما هي عليه وفيه بحث ثم هذه البروج مختلفة الآثار والخواص بل لكل جزء من كل منها وإن كان أقل من عاشرة بل أقل الأقل آثار تخالف آثار الجزء الآخر وكل ذلك آثار حكمة الله تعالى وقدرته عز و جل وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في بعض كتبه أن آثار النجوم وأحكامها مفاضة عليها من تلك البروج المعتبرة في المحدد وفي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلثمائة من فتوحاته ما منه أن الله تعالى قسم الفلك الأطلس اثني عشر قسما سماها بروجا وأسكن كل برج منها ملكا وهؤلاء الملائكة أئمة العالم وجعل لكل منهم ثلاثين خزانة تحتوي كل منها على علوم شتى يهبون منها للنازل بهم قدر ما تعطيه رتبته وهي الخزائن التي قال الله تعالى فيها : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم وتسمى عند أهل التعاليم بدرجات الفلك والنازلون بها هم الجواري والمنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من تلك الخزائن الأهلية هي ما يظهر في عام الأركان من التأثيرات بل ما يظهر في مقعر فلك الثوابت إلى الأرض إلى آخر ما قال وقد أطال قد سره الكلام في هذا الباب وهو بمعزل عن اعتقاد المحدثين نقلة الدين عليهم الرحمة ثم إن في اختلاف خواص البروج حسبما نشهد به من التجربة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء أدل دليل على وجود الصانع المختار جل جلاله
وزيناها أي السماء بما فيها من الكواكب السيارات وغيرها وهي كثيرة لا يعلم عددها إلا الله تعالى نعلم المرصود منها ألف ونيف وعشرون ورتبوها على ست مراتب وسموها أقدارا متزايدة سدسا حتى
(14/22)

كان قطر ما في القدر الأول ستة أمثال ما في القدر السادس وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب وما دون السادس لم يثبتوه في المراتب بل إن كان كقطعة السحاب يسمونه سحابيا وإلا فمظلما وذكر في الكفاية أن ما كان منها في القدر الأول فجرمه مائة وستة وخمسون مرة ونصف عشر الأرض وجاء في بعض الآثار أن أصغر النجوم كالجبل العظيم واستظهر أبو حيان عود الضمير للبروج لأنها المحدث عنها والأقرب في اللفظ والجمهور على ما ذكرنا حذرا من انتشار الضمائر للناظرين
16
- أي بأبصارهم إليها كما قاله بعضهم لأنه المناسب للتزيين وجوز أن يراد بالتزيين ترتيبها على نظام بديع مستتبعا للآثار الحسنة فيراد بالناظرين المتفكرون المستدلون بذلك على قدرة مقدرها وحكمة مدبرها جل شأنه وحفظناها من كل شيطان رجيم
17
- مطرود عن الخيرات ويطلق الرجم على الرمي بالرجام وهي الحجارة فالمراد بالرجيم المرمي بالنجوم ويطلق أيضا على الإهلاك والقتل الشنيع والمراد بحفظها من الشيطان إما منعه عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة فالاستثناء في قوله تعالى : ألا من استرق السمع متصل وإما المنع عن دخولها والاختلاط مع أهلها على نحو الاختلاط مع أهل الأرض فهو حينئذ منقطع وعلى التقديرين محل من النصب على الاستثناء وجوز أبو البقاء والحوفي كونه في محل جر على أنه يدل من كل شيطان بدل بعض من كل واستغنى عن الضمير الرابط بإلا
واعترض بأنه يشترط في البدلية أن تكون في كلام غير موجب وهذا الكلام مثبت
ودفع بأنه في تأويل المنفي أي لم نمكن منها كل شيطان أو نحوه وأورد أن تأويل المثبت في غير أبي ومتصرفاته غير مقيس ولا حسن فلا يقال مات القوم إلا زيد بمعنى لم يعيشوا ولعل القائل بالبدلية لا يسلم ذلك وقد أولوا بالمنفي قوله تعالى : فشربوا منه إلا قليل وقوله عليه الصلاة و السلام : العالم هلكى إلا العالمون الخبر وغير ذلك مما ليس فيه أبى ولا شيء من متصرفاته لكن الإنصاف ضعف هذه البدلية كما لا يخفى
وجوز أبو البقاء أيضا أن يكون في محل رفع على الابتداء والخبر جملة قوله تعالى : فأتبعه شهاب مبين
18
- وذكر أن الفاء من أجل أن من موصوف أو شرط والاستراق افتعال من السرقة وهو أخذ الشيء بخفية شبه به خطفتهم اليسيرة من الملا الأعلى وهو المذكور في قوله تعالى : إلا من خطف الخطفة والمراد بالسمع المسموع والشهاب على ما قال الراغب الشعلة الساطعة من النار الموقودة ومن العارض في الجو ويطلق على الكوكب لبريقه كشعلة النار
وأصله من الشهبة وهي بياض مختلط بسواد وليست البياض كما يغلط فيه العامة فيقولون فرس أشهب للقرطاسي والمراد بمبين ظاهر أمره للمبصرين ومعنى اتبعه تبعه عند الأخفش نحو ردفته وأردفته فليست الهمزة فيه للتعدية وقيل : أتبعه أخص من تبعه لما قال الجوهري تبعت القوم تبعا وتباعة بالفتح إذا مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم واتبعت القوم على أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم واستحسن الفرق بينهما الشهاب ولما كان الاتباع محتملا للإهلاك وغيره اختلف العلماء في ذلك فحكى القرطبي عن ابن عباس أن الشهاب يجرج ويحرق ولا يقتل وعن الحسن وطائفة أنه يقتل وادعى أن الأول أصح ونقل غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا يسترقون
(14/23)

من الملائكة عليهم السلام فيرمون بالكواكب فلا تخطيء أبدا فمنهم من تقتله ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء الله تعالى ومنهم من تخبله فيصير غولا فيضل الناس في البراري ومما لا يعول عليه ما يروى من أن منهم من يقع في البحر فيكون تمساحا ومن الناس من طعن كما قال الإمام في أمر هذا الاستراق والرمي من وجوه
أحدها أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة وذكروا فيه أن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس فإذا بلغ كرة النار التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشهاب وقد يبقى زمانا مشتعلا إذا كان كثيفا وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب فانضغطت مشتعلة وجاء أيضا في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي حازم : والعير يلحقها الغبار وجحشها ينقض خلفهما انقضاض الكواكب وقال أوس بن حجر : وانقض كالدري يتبعه نقع يثور تخاله طنبا إلى غير ذلك
وثانيها أن هؤلاء الشياطين كيف يجوز فيهم أن يشاهدوا ألوفا من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون ثم أنهم مع ذلك يعودون لصنيعهم فإن من له أدنى عقل إذا رأى هلاك أبناء جنسه من تعاطي شيء مرارا امتنع منه
وثالثها أن يقال : أن ثخن السماء خمسمائة عام فهؤلاء الشياطين إن نفذوا في جرمها وخرقوها فهو باطل لنفى أن يكون لها فطور على ما قال سبحانه : فأرجع البصر هل ترى من فطور وإن كانوا لا ينفذون فكيف يمكنهم سماع أسرار الملائكة عليهم السلام مع هذا البعد العظيم
ورابعا أن الملائكة عليهم السلام إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة أما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها بالوحي وعلى التقديرين لم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا تتمكن الشياطين من الوقوف عليها
وخاسمها أن الشياطين مخلوقون من النار والنار لا تحرق النار بل تقويها فكيف يعقل زجرهم بهذه الشهب
وسادسها أنكم قلتم : أن هذا القذف لأجل النبوة فلم دام بعد وفاة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
وسابعها أن هذه الشهب إنما تحدث بقرب الأرض بدليل أنا نشاهد حركتها ولو كانت قريبة من الفلك لما شاهدناها كما لم نشاهد حركات الأفلاك والكواكب وإذا ثبت أنها تحدث بالقرب من الأرض فكيف يقال : إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك
وثامنها أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة عليهم السلام عن المغيبات إلى الكهنة فلم لم ينقلوا أسرار المؤمنين إلى الكفار حتى يتوصلوا بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضرر بهم
وتاسعها لم لم يمنعهم الله تعالى من الصعود ابتداء حتى لا يحتاج في دفعهم إلى هذه الشهب وقال بعضهم : أيضا : إن السماع إنما يفيدهم إذا عرفوا لغة الملائكة فلم لم يجعلهم الله سبحانه جاهلين بلغتهم لئلا يفيدهم السماع شيئا وأيضا أن انقطع الهواء دون مقعر فلك القمر لم يحدث هناك صوت إذ هو من تموج الهواء والمفروض عدمه وإن لم ينقطع كان دون ذلك أصوات هائلة من تموج الهواء بحركة الأجرام العظيمة وهي تمنع من سماع أصوات الملائكة عليهم السلام في محاوراتهم ولا يكاد يظن أن أصواتهم في المحاورات تغلب هاتيك الأصوات لتسمع معها وأيضا ليس في السماء الدنيا إلا القمر ولا نراه يرمي به وسائر السيارات فوق كل في فلك يسبحون والثوابت في الفلك الثامن والرمي بشيء من ذلك يستدعي خرق السماء وتشققها ليصل الشهاب إلى الشيطان وهو مما لا يكاد يقال
وأجاب الإمام عن الأول أولا بأن الشهب لم تكن موجودة قبل البعثة وهذا
(14/24)

قول ابن عباس فقد روي عنه أنه قال : كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها أشياء من عند أنفسهم فلما بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منعوا مقاعدهم ولم يكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس : ما هذا إلا لأمر حدث الخبر
وروي عن أبي بن كعب أنه قال : لم يرم بنجم منذ رفع عيسى عليه السلام حتى بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فرمى بها فرأت قريش ما لم تر قبل فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم يظنون أنه الفناء فبلغ ذلك كبيرهم فقال : لم تفعلون فقالوا : رمى بالنجوم فقال : اعتبروا فإن تكن نجوم معروفة فهو وقت فناء الناس وإلا فهو أمر حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال : في الأمر مهلة وهذا عند ظهور نبي الخبر وكتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسئلة بها طعنا في هذه المعجزة وكذا الأشعار المنسوبة إلى الجاهلية لعلها مختلفة عليهم وثانيا وهو الحق بأنها كانت موجودة قبل البعثة لأسباب أخر ولا ننكر ذلك إلا أنه لا ينافي أنها بعد البعثة قد توجد بسبب دفع الشياطين وزجرهم يروى أنه قيل للزهري : أكان يرمي في الجاهلية قال : نعم قيل : أفرأيت قوله تعالى : وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا قال : غلظ وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه و سلم وعلى نحو هذا يخرج ما روي عن ابن عباس وأبي رضي الله تعالى عنهم إن صح
وعن الثاني بأنه إذا جاء القدر عمي البصر فإذا قضى الله تعالى على طائفة منهم الحرق لطغيانهم وضلالهم قيض لها من الدواعي ما تقدم معه على الفعل المفضي إلى الهلاك
وعن الثالث بأن البعد بين الأرض والسماء خمسمائة عام فأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيما
وعن الرابع بأنه روي عن الزهري عن علي بن الحسين بن علي كرم الله تعالى وجهه عن ابن عباس قال : بينا النبي صلى الله عليه و سلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال عليه الصلاة و السلام : ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم قال عليه الصلاة و السلام : فإنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ولا يزال ينتهي الخبر إلى هذه السماء فيتخطفه الجن فيرمون فما جاءوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه
وعن الخامس بأن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فالأقوى تبطل ما دونها
وعن السادس بأنه إنما دام لأنه عليه الصلاة و السلام أخبر ببطلان الكهانة فلو لم يدم هذا القذف لعادت الكهانة وذلك يقدح في خبر الرسول صلى الله عليه و سلم عن بطلانها
وعن السابع بأن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع فلعله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة عليهم السلام
وعن الثامن بأنه لعل الله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب من الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكفار
وعن التاسع بأنه عز و جل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وبهذا يجاب عن الأول فيما قيل
وأجيب عن الثاني بأنا نختار انقطاع الهواء والسماع عندنا بخلق الله تعالى ولا يتوقف على وجود الهواء وتموجه وقد يختار عدم الانقطاع ويقال : إنه تعالى شأنه
(14/25)

قادر على منع الهواء من التموج بحركة هاتيك الأجرام وكذا هو سبحانه قادر على إسماعهم مع هاتيك الأصوات الهائلة السر وأخفى
وعن الثالث بأن كون الثوابت في الفلك الثامن هو الذي ذهب إليه الفلاسفة واحتجوا عليه بأن بعضها فيه فيجب أن يكون كلها كذلك أما الأول فلأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بالسيارات فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة وأما الثاني فلأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة أو أقل على الخلاف درجة فلا بد أن تكون مركوزة في كرة واحدة وهو احتجاج ضعيف لأنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق السيارات كون كلها هناك لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة وعلى هذا لا يمتنع أن تكون هذه النجوم في السماء الدنيا وقد ذكر الجلال السيوطي وغيره أنه جاء في بعض الآثار أن الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة في السماء الدنيا يسيرونها حيث شاء الله تعالى وكيف شاء إلا أن في صحة ذلك ما فيه على أن ما ذكر في السؤال من أن ذلك يستلزم الخرق وهو مما لا يكاد يقال إما أن يكون مبنيا على القول بامتناع الخرق والالتئام على الفلك المحدد وغيره فقد تقرر فساد ذلك وحقق إمكان الخرق والإلتئام بما لا مزيد عليه في غير كتاب من كتب الكلام وإما أن يكون مبنيا على مجرد الاستبعاد فهو لا يفيد شيئا لأن أكثر الممكنات مستبعدة وهي واقعة ولا أظنك في مرية من ذلك بل قد يقال : نحن لا نلتزم أن الكوكب نفسه يتبع الشيطان فيحرقه والشهاب ليس نصا في الكوكب لما علمت ما قيل في معناه وإن قيل : إنه بنفسه ينقض ويرمي الشيطان ثم يعود إلى مكانه لظاهر إطلاق الرجوم على النجوم وقولهم رمى بالنجم مثلا
وكذا لا نلتزم القول بأنه ينفصل عن الكوكب شعلة كالقبس الذي يؤخذ من النار فيرمي بها كما قاله غير واحد لنحتاج في الجواب عن السؤال بما تقدم إذ يجوز أن يقال : إنه يؤثر حيث كان بإذن الله تعالى هذه الشعلة المسماة بالشهاب ويحرق بها من شاء الله تعالى من الشياطين وإطلاق الرجوم على النجوم وقولهم : رمى بالنجم يحتمل أن يكون مبنيا على الظاهر للرائي كما في قوله تعالى في الشمس : تغرب في عين حمئة وقال الإمام : إن هذه الشهب ليست هي الثوابت المركوزة في الفلك وإلا لظهر نقصان كثير في أعدادها مع أنه لم يوجد نقصان أصلا وأيضا إن في جعلها رجوما ما يوجب النقصان في زينة السماء بل هي جنس آخر غيرها يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين ولا يأباه قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين حيث أفاد أن تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها لأنا نقول : كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن المصابيح منها باقية على وجه الدهر أمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك والشهب من هذا القسم وحينئذ يزول الإشكال
والجرح والتعديل بين القولين مفوضان إلى شهاب ذهنك الثاقب وفي أجوبته السابقة رحمه الله تعالى ما لا يخفى ضعفه وكذا شاهدة عليه بقلة الإطلاع على الأخبار الصحيحة المشهورة ألا ترى قوله في الجواب عن ثالث الأسئلة التسعة : إن البعد بين السماء والأرض خمسمائة عام وأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيما فإنه مخالف لما أنطقت به الشريعة وهذت به الفلسفة أما مخالفته للأول فلأنه قد صح أن سمك كل سماء خمسمائة عام كما صح أن بين السماء والأرض كذلك وأما مخالفته للثاني
(14/26)

فلأنه لم يقل أحد من الفلاسفة : أن بين السماء والأرض هذه المسافة التي ذكرها والأفلاك عندهم مختلفة في الثخن وقد بينوا ثخن كل بالفراسخ حسبما ذكر في كتب الأجرام والأبعاد وذكروا في ثخن المحدد ما يشهد بمزيد عظمة الله جل جلاله لكن لا مستند لهم قطعي في ذلك بل إن قولهم : لا فضل في الفلكيات مع كونه أشبه شيء بالخطابيات يعكر عليه وقوله في الجواب عن السادس : إنه إنما دام لئلا يقدح انقطاعه في خبر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن بطلان الكهانة فإنه مستلزم للدور إذ الظاهر أنه عليه الصلاة و السلام إنما أخبر بذلك لعلمه بدوام القذف المانع من تحقق ما تتوقف عليه الكهانة وقوله في الجواب عن الخامس : إن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فتبطلها ظاهر في أن الشياطين نار صرفة وليس كذلك بل الحق أنهم يغلب عليهم العنصر الناري وقد حصل لهم بالتركيب ولو مع غلبة هذا العنصر ما ليس للنار الصرفة وهو ظاهر هذا ثم أعلم أنه يجوز أن يكون استراق السمع من الملائكة الذين عند السماء لا من الملائكة الذين بين كل سماء وسماء ليجيء حديث الثخن واستبعاد السماع معه ويشهد لهذا ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون مع الكلمة مائة كذبة من عند أنفسهم ولا ينافيه ما رواه أيضا عن عكرمة أنه قال : سمعت أبا هريرة يقول : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله سبحانه كأنه سلسة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم قالوا : الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع الخبر إذ ليس فيه أكثر من سماع المسترق الكلمة بعد قول الملائكة عليهم السلام بعضهم لبعض وعدم منافاة هذا لذاك ظاهر عند من ألقى السمع وهو شهيد وأنه ليس في الآيات ما هو نص في أن ما نراه من الشهب لا يكون إلا لرمي شيطان يسترق بل غاية ما فيها أنه إذا استرق شيطان أتبعه شهاب ورمى بنجم وأين هذا من ذاك نعم في خبر الزهري ما يحتاج معه إلى تأمل وعلى هذا فيجوز أن يكون حدوث بعض ما نراه من الشهب لتصاعد البخار حسبما تقدم عن الفلاسفة وكذا يجوز أن يكون صعود الشياطين للإستراق في كل سنة مثلا مرة ولا يخفى نفع هذا في الجواب عن السؤال الثاني
ومن الناس من أجاب عنه بأنه لا يبعد أن يكون المسترقون صنفا من الشياطين تقتضي ذواتهم التصاعد نظير تصاعد الأبخرة بل يجوز أن يكون أولئك الشياطين أبخرة تعلقت بها أنفس خبيثة على نحو ما ذكر الفلاسفة من أنه قد يتعلق بذوات الأذناب نفس فتغيب وتطلع بنفسها وفيه بحث ونقل الإمام عن الجبائي أنه قال في الجواب عن ذلك : إن الحالة التي تعتريهم ليس لها موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضعهم فتصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا يصيبهم شيء فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعضها جاز أن يصيروا إلى موضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم فيه كما يجوز فيمن يسلك البحر إن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة فيه
وتعقبه بقوله : ولقائل أن يقول : إنهم إن صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة أو إلى غيرها فإن وصلوا إلى الأول احترقوا وأن إلى الثاني لم يظفروا بمقصود أصلا فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل فإذا حصلت هذه التجربة وثبت بالإستقراء أن الفوز بالمقصود محقق وجب أن يمتنعوا وهذا بخلاف حال
(14/27)

المسافر في البحر فإن الغالب على المسافرين فيه الفوز بالمقصود ثم قال : فالأقرب في الجواب أن تقول : هذه الواقعة إنما تتفق في الندوة فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة فيما بين الشياطين أه
وأنت تعلم أن هذا لا يكاد يتم إلا مع القول بأنه ليس كل ما نراه من الشهب يحرق به الشياطين والأمر مع هذا القول سهل كما لا يخفى
وذكر البيضاوي أن استراق السمع خطفتهم اليسيرة من قطان السماوات لما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالإستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها وذكر عند قوله تعالى : إنهم عن السمع لمعزولون أن السمع مشروط بمشاركتهم في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصورة الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك ولا يخفى ما فيه فإنه ظاهر في أن الاستراق يقتضي مناسبة الجوهر والسمع التام يقتضي المشاركة المذكورة وهو لا يتمشى على أصول الشرع وفي أن تلقيهم يكون من الأوضاع الفلكية وهو مخالف لصريح النظم والأحاديث مع أنه يقتضي أن يكون قطان السماء بمعنى الكواكب وشمول من شياطين الإنس من المنجمين وهو كما ترى
وذكر هو وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السماوات فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات ولما ولد النبي صلى الله عليه و سلم منعوا من السماوات كلها أه
ومن الناس من ذهب أخذا ببعض الظواهر إلى أن المنع عند البعثة والله تعالى أعلم بقي ههنا إشكال ذكره الإمام مع جوابه فقال : ولقائل أن يقول : إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السماء ويسمع أخبار الغيوب من الملائكة عليهم السلام ثم يلقيها إلى الكهنة وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزا دالا على الصدق لأن كل غيب يخبر عنه الرسول عليه الصلاة و السلام يقوم فيه هذا الإحتمال ولا يقال : إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولده صلى الله تعالى عليه وسلم لأنا نقول : هذا المعجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكونه عليه الصلاة و السلام رسولا ويكون القرآن حقا والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز وكون الأخبار عن الغيوب معجزا لا يثيب إلا بعد إبطال هذا الإحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو محال ويمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كونه صلى الله تعالى عليه وسلم رسولا بسائر المعجزات ثم بعد العلم بثبوت ذلك نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجزا ولا يلزم الدور أه فتدبر والله سبحانه ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق
والأرض مددناها بسطناها قال الحسن : أخذ الله تعالى طينة فقال لها : انبسطي فانبسطت وعن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن أم القرى ومنها دحيت الأرض وبسطت وعن ابن عباس أنه قال : بسطناها على وجه الماء : وقيل يحتمل أن يكون المراد جعلناها ممتدة في الجهات الثلاث الطول والعرض والعمق والظاهر أن المراد بسطها وتوسعتها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها ولا يلزم من ذلك نفي كرويتها لما أن الكرة العظيمة لعظمها ترى كالسطح المستوي ونصب الأرض على الحذف على شريطة التفسير وهو في مثل ذلك أرجح من الرفع على الابتداء للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى : ولقد جعلنا الخ وليوافق ما بعده أعني قوله سبحانه : وألقينا فيها رواسي أي جبالا ثوابت جمع راسية جمع رأس على ما قيل وقد بين حكمة إلقاء ذلك فيها في قوله سبحانه : وألقى في
(14/28)

رواسي أن تميد بكم
قال ابن عباس : إن الله تعالى لما بسط الأرض على الماء مالت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها وقد تقدم الكلام في ذلك
وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعالى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تميد الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال ثم قال : وهذا الوجه ظاهر الإحتمال وأنت تعلم أنه لا يسوغ الذهاب إليه مع وجود أخبار تأباه كالجبال وأنبتنا فيها أي في الأرض وهي إما شاملة للجبال لأنها تعد منها أو خاصة بغيرها لأن أكثر النبات وأحسنه في ذلك
وجوز أن يكون الضمير للجبال والأرض بتأويل المذكورات مثلا أو للأرض بمعنى ما يقابل السماء بطريق الإستخدام وعوده على الرواسي لقربها وحمل الإنبات على إخراج المعادن بعيد من كل شيء موزون
19
- أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة فهو مجاز مستعمل في لازم معناه أو كناية أو من كل شيء مستحسن متناسب من قولهم : كلام موزون وأنشد المرتضى في دوره لهذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة : وحديث ألذه وهو مما تشتهيه النفوس يوزن وزنا وقد شاع استعمال ذلك في كلام العجم والمولدين فيقولون : قوام موزون أي متناسب معتدل أو ماله قدر واعتبار عند الناس في أبواب النعمة والمنفعة وقال ابن زيد : المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة وغيرهما و من كما في البحر للتبعيض وقال الأخفش : هي زائدة أي كل شيء وجعلنا لكم فيها معايش ما تعيشون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها مما يتعلق به البقاء وهي بياء صريحة وقال الأعرج وخارجة عن نافع بالهمز قال ابن عطية : والوجه تركه لأن الياء في ذلك عين الكلمة والقياس في مثله أن لا يبدل همزة وإنما يبدل إذا كان زائدا كياء شمائل وخبائث ولكن لما كان الياء هما مشابها للياء هناك في وقوعه بعد مدة زائدة في الجمع عومل معاملته على خلاف القياس ومن لستم له برازقين
20
- عطف على معايش أي وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغلب كما قال الفراء وغيره وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبان بعض الجهلة أنهم يرتزقون منهم أو لتحقيق أن الله تعالى يرزقهم وإياهم مع ما في ذلك من عظيم الامتنان ويجوز عطفه على محل لكم وجوز الكوفيون ويونس والأخفش وصححه أبو حيان العطف على الضمير المجرور وأن لم يعد الجار والمعنى على التقديرين سواء أي وجعلنا لكم معايش ولمن لستم برازقين وقال الزجاج : إن من في محل نصب بفعل محذوف والتقدير وأعشنا من لستم الخ أي أمما غيركم لأن المعنى أعشناكم وقيل : إنه في محل رفع على الإبتداء وخبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي ومن لستم برازقين جعلنا له فيها معايش وهو خلاف الظاهر وقال أبو حيان : لا بأس به فقد أجازوا ضربت زيدا وعمرا بالرفع على الإبتداء أي وعمر وضربته فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أن المراد بمن لستم الخ الدواب والأنعام وعن منصور الوحش وعن بعضهم ذاك والطير فمن على هذه الأقوال لما لا يعقل وأن من شيء أن نافية
(14/29)

و من مزيدة للتأكيد و شيء في محل الرفع على الإبتداء أي ما شيء من الأشياء الممكنة فيدخل فيها ما ذكر
دخولا أوليا والاقتصار عليه قصور وزعم ابن جريج وغيره أن الشيء هنا المطر خاصة
إلا عندنا خزائنه الظرف خبر للمبتدأ و خزائنه مرتفع به على أنه فاعله لاعتماده أو مبتدأ والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول والخزائن جمع خزانة ولا تفتح وهي اسم للمكان الذي يحفظ فيه نفائس الأموال لا غير غلبت على ما قيل في العرف على ما للملوك والسلاطين من خزائن أرزاق الناس شبهت مقدوراته تعالى الغائبة للحصر المندرجة تحت قدرته الشاملة في كونها مستورة عن علوم العالمين ومصونة عن وصول أيديهم مع وفور رغبتهم فيها وكونها متهيأة متأتية لايجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت بلا تأخر بنفائس الأموال المخزونة في الخزائن السلطانية فذكر الخزائن على طريقة الإستعارة التخييلية قاله غير واحد وجوز أن يكون قد شبه اقتداره تعالى على كل شيء وإيجاده لما يشاء بالخزائن المودعة فيها الأشياء المعدة لأن يخرج منها ما شاء فذكر ذلك على سبيل الإستعارة التمثيلية والمراد ما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه وقيل : الأنسب أنه لعلمه تعالى بكل معلوم ووجهه على ما قيل أنه يبقى شيء على عمومه لشموله الواجب والممكن بخلاف القدرة ولأن عند أنسب بالعلم لأن المقدور ليس عنده إلا بعد الوجود وتعقب بأن كون المقدورات في خزائن القدرة ليس باعتبار الوجود الخارجي بل الوجود العلمي وقال قوم : الخزائن على حقيقتها وهي الأماكن التي تحفظ فيها الأشياء وأن للريح مكانا وللمطر مكانا ولكل مكان حفظة من الملائكة عليهم السلام ولا يخفى أنه لا يمكن مع تعميم الشيء وما ننزله أي نوجد وما نكون شيئا من تلك الأشياء ملتبسا بشيء من الأشياء إلا بقدر معلوم
21
- أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة وتستدعيه المشيئة التابعة لها من بين المقدورات الغير المتناهية فإن تخصيص كل شيء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكل في الأشكال وصحة تعلق القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاص كل من ذلك بما اختص به
وهذا لبيان سر عدم تكون الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في الخزائن وهو إما عطف 2 على مقدر أي ننزله وما ننزله إلا بقدر إلى آخره أو حال مما سبق أي عندنا خزائن كل شيء والحال إنا ما ننزله إلا بقدر إلى آخره فالأول لبيان سعة القدرة والثاني لبيان بالغ الحكمة قاله مولانا شيخ الإسلام
وقرأ الأعمش وما نرسله إلا إلى آخره وهي على ما في البحر قراءة تفسير لمخالفتها السواد المصحف والأولى في التفسير ما ذكرنا وإنما عبر عن إيجاد ذلك وإنشائه بالتنزيل لما أنه بطريق التفضل من العالم العلوي إلى العالم السفلي وقيل : لما أن فيه إخراج الشيء مما تميل إليه ذاته من العدم إلى مالا تميل إليه ذاته من الوجود وهذا كما في قوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج وقوله سبحانه : وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد وكأن من حمل الشيء على المطر غره ظاهر التنزيل فارتكب خلاف ظاهره جدا وكأنه لما كان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل وجيء بصيغة المضارع للدلالة على الإستمرار واستدل بعض القائلين بشيئية المعدوم على ذلك بهذه الآية وقد بين وجهه والجواب عنه الإمام ونحن مع القائلين بالشيئية وأرسلنا الرياح لواقح عطف على جعلنا لكم فيها معايش وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق وترشيح ما لحق واللواقح جمع
(14/30)

لاقح بمعنى حامل يقال : ناقة لاقح أي حامل ووصف الرياح بذلك على التشبيه البليغ شبهت الريح التي بالسحاب الماطر بالناقة الحامل لأنها حاملة لذلك السحاب أو للماء الذي فيه وقال الفراء : إنها جمع لاقح على النسب كلابن وتامر أي ذات لقاح واحمل وذهب إليه الراغب ويقال لضدها ريح عقيم وقال أبو عبيدة : لواقح أي ملاقح جمع ملقحة كالطوائح في قوله : لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح أي المطاوح جمع مطيحة وهو من ألقح الفحل الناقة إذا ألقى ماءه فيها لتحمل والمراد ملقحات للسحاب أو الشجر فيكون قد استعير اللقح لصب المطر في السحاب أو الشجر وإسناده إليها على الأول حقيقة الثاني مجاز إذ الملقي في الشجر السحاب لا الريح والرياح اللواقح هي ريح الجنوب كما رواه ابن أبي الدنيا عن قتادة مرفوعا وروي الديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة نحوه وأخرج ابن جرير وغيره عن عبيد بن عمير قال : يبعث الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قما ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاما ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر وقرأ حمزة وأرسلنا الريح بالإفراد على تأويل الجنس فتكون في معنى الجمع فلذا صح جعل لواقح حالا منها وذلك كقولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ولا تخالف هذه القراءة ما قالوه في حديث اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا من أن الرياح تستعمل للخير والريح للشر لما قال الشهاب كم أن ذلك ليس من الوضع وإنما هو من الإستعمال وهو أمر أغلبي لا كلي فقد استعملت الريح في الخير أيضا نحو قوله تعالى : وجرين بهم بريح طيبة أو هو محمول على الإطلاق بأن لا يكون معه قرينة كالصفة والحال وأما كون المراد بالخير الدعاء بطول العمر ليرى رياحا كثيرة فلا وجه له
فأنزلنا من السماء بعد ما أنشأنا بتلك الرياح سحابا ماطرا ماء فأسقيناكموه جعلنا لكم سقيا تسقون به مزارعكم ومواشيكم وهو على ما قيل أبلغ من سقيناكم لما فيه من الدلالة على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاؤا وقد فرق بين أسقي وسقى غير واحد فقد قال الأزهري : العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام أو من السماء أو من نهر جار أسقيته أي جعلت شربا له وجعلت له منه مسقى فإذا كان للشفة فالواسقي ولم يقولوا أسقي وقال أبو علي : يقال سقيته حتى روي وأسقيته نهرا جعلته شربا له وربما استعملوا سقى بلا همزة كأسقى كما في قول لبيد يصف سحابا : أقول وصوته مني بعيد يحط اللث من قلل الجبال سقى قومي بني نجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال فإنه لا يريد بسقي قومي ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم يخصبون بها وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى ولغيرهم ما يخصبون به ولا يرد على قول الأزهري أنه لا يقال أسقى في سقيا الشفة قول ذي الرمة : وأسقيه حتى كاد مما أبثه يكلمني أحجاره وملاعبه قال الإمام : لأنه أراد بأسقيه أدعو له بالسقيا ولا يقال في ذلك كما قال أبو عبيد سوى أسقي هذا وقد جاء الضمير هنا متصلا بعد ضمير منصوب متصل أعرف منه ومذهب سيبويه في مثل ذلك وجوب الإتصال
وما أنتم بخازنين
32
- نفى سبحانه عنهم ما أثبته لجنابه بقوله جل جلاله : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه كأنه
(14/31)

قيل : نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله وما أنتم على ذلك بقادرين وقيل : المراد نفي حفظه أي وما أنتم له بحافظين في مجاريه عن أن يغور فلا تنتفعون به وعن سفيان أن المعنى وما أنتم له بمانعين لإنزاله من السماء وإنا لنحن نحيي بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها ونميت بإزالتها عنها فالحياة صفة وجودية وهي كما قيل صفة تقتضي الحسن والحركة الإرادية والموت زوال تلك الصفة وقال بعضهم : إنه صفة وجودية تضاد الحياة لظاهر قوله تعالى : الذي خلق الموت وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك وقد يعمم الأحياء والأمانة بحيث يشتمل الحيوان والنبات مثل أن يقال : المراد إعطاء قوة النماء وسلبها وتقديم الضمير للحصر وهو إما توكيد للأول أو مبتدأ خبره الجملة بعده والمجموع خبر لإنا وجوز كونه ضمير فصل ورده أبو البقاء بوجهين
أحدهما أنه لا يدخل على الخبر الفعلي والثاني أن اللام لا تدخل عليه وتعقب ذلك في الدر المصون بأن الثاني غلظ فإنه ورد دخول اللام عليه في قوله تعالى : إن هذا لهو القصص الحق ودخوله على المضارع مما ذهب إليه الجرجاني وبعض النحاة وجعلوا من ذلك قوله تعالى : إنه هو يبديء ويعيد ولعل ذلك المجوز ممن يرى هذا الرأي والعجب من أبي البقاء فإنه رد ذلك هنا وجوزه في قوله تعالى : ومكر أولئك هو يبور كما نقله في المغنى
ونحن الوارثون
23
- أي الباقون بعد فناء الخلق قاطبة المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازي الحاكمون في الكل أولا وآخرا وليس لأحد التصرف الصوري والملك المجازي وفي هذا تنبيه على أن المتأخر ليس بوارث للمتقدم كما يتراآى من ظاهر الحال وتفسير الوارث بالباقي مروي عن سفيان وغيره وفسر بذلك في قوله عليه الصلاة و السلام : اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا وهو من باب الإستعارة ولقد علما المستقدمين منكم من مات ولقد علمنا المستأخرين
24
- من هو حي لم يمت بعد أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس وفي رواية أخرى عنه المستقدمين آدم عليه السلام ومن مضى من ذريته والمستأخرين من في أصلاب الرجال وروي مثله عن قتادة عن مجاهد المستقدمين من مضى من الأمم و المستأخرين أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : من تقدم ولادة وموتا ومن تأخر كذلك مطلقا وهو من المناسبة بمكان وروي عن الحسن أنه قال : من سبق إلي الطاعة ومن تأخر فيها وروي عن معتمر أنه قال : بلغنا أن الآية في القتال فحدثت أبي فقال لقد نزلت قبل أن يفرض القتال فعلى هذا أخذ الجهاد في عموم الطاعة ليس بشيء على أنه ليس في تفسير ذلك بالمستقدمين والمستأخرين فيها كمال مناسبة والمراد من علمه تعالى بهؤلاء علمه سبحانه بأحوالهم والآية لبيان كمال علمه جل وعلا بعد الإحتجاج على كمال قدرته تعالى فإن ما يدل عليها دليل عليه ضرورة أن القادر على كل شيء لابد من علمه بما يصنعه وفي تكرير قوله تعالى : ولقد علمنا ما لا يخفى من الدلالة على التأكيد وإخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه وجماعة من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى الآية وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن أبي الجوزاء أنه قال في الآية ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة ولم يذكر من حديث المرأة شيئا قال الترمذي : هذا أشبه أن يكون أصح وقال الربيع بن أنس : حرض النبي صلى الله تعالى
(14/32)

عليه وسلم على الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد فقالوا : نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد فأنزل الله تعالى الآية وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومن هنا قال بعضهم : الأولى الحمل على العموم أي علمنا من اتصف بالتقدم والتأخر في الولادة والموت والإسلام وصفوف الصلاة وغير ذلك وإن ربك هو يحشرهم للجزاء وتوسيط الضمير قيل للحصر أي هو سبحانه يحشرهم لا غير وقيل عليه : إنه في مثل ذلك يكون الفعل مسلم الثبوت والنزاع في الفاعل وههنا ليس كذلك فالوجه جعله لإفادة التقوى وتعقب بأن هذا في القصر الحقيقي غير مسلم تصدير الجملة بإن لتحقيق الوعد والتنبيه على ما سبق يدل على صحة الحكم وفي الإلتفات والتعرض لعنوان الربوبية إشعار بعلته وفي الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم دلالة على اللطف به عليه الصلاة و السلام
وقرأ الأعمش يحشرهم بكسر الشين إنه حكيم بالغ الحكمة متقن في أفعاله والحكمة عندهم عبارة عن العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي عليم
25
- وسع علمه كل شيء ولعل تقديم وصف الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء وقد نص بعضهم على أن الجملة مستأنفة للتعليل ولقد خلقنا الإنسان أي هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقا بديعا منطويا على خلق سائر أفراده انطواء إجماليا
من صلصال أي طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة ونقله في الدر المصون عن أبي عبيدة ونقل عنه أبو حيان أنه قال : هو الطين المخلوط بالرمل وهو رواية عن ابن عباس وفي رواية أخرى عنه أنه الطين المرقق الذي يصنع منه الفخار وفي أخرى نحو الأول وقيل : هو من صلصل إذ أنتن تضعيف صل يقال : صل الرحم وأصل إذا أنتن وهذا النوع من المضعف مصدر يفتح أوله ويكسر كالزلزال ووزنه عند جمهور البصريين فعلال وقال الفراء : وكثير من النحويين فعفع كررت الفاء والعين ولالام وغلطهم في الدر المصون لأن أقل الأصول ثلاثة فاء وعين ولام وقال البصريين والكوفيين : فعفل ونسب أيضا إلى الفراء بل قيل هو المشهور عنه عن بعض آخر من الكوفيين أنه وزنه فعل بتشديد العين والأصل صلل مثلا فلما اجتمع ثلاثة أمثال أبدل الثاني من جنس الفاء وخص بعضهم هذا الخلاف بما إذا لم يختل المعنى بسقوط الثالث كلملم وكبكب فإنك تقول لم وكب فلو لم يصح المعنى بسقوطه نحو سمسم فلا خلاف في أصالة الجميع وقال اليمني : ليس معنى قولهم : إن الأصل صلل أنه زيد فيه صاد بل هو رباعي كزلزل والإشتراك في أصل المعنى لا يقتضي أن يكون منه إذ الدليل دال على أن الفاء لا تزاد لكن زيادة الحرف تدل على زيادة المعنى وذكر في البحر أن صلصال بمعنى مصلصل كالقضاض بمعنى المقضقض فهو مصدر بمعنى الوصف ومثله كثير
من حمإ من طين تغير وأسود من مجاورة الماء ويقال للواحدة حمأة قال الليث : بتحريك الميم ووهم في ذلك وقالوا : لا نعرف الحمأة في كلام العرب إلا ساكنة الميم وعلى هذا أبو عبيدة والأكثرون والجار والمجرور في موضع الصفة لصلصال كما هو السنة الشائعة في الجار والمجرور بعد النكرة أي من صلصال كائن من حمإ وقال الحوفي : هو بدل مما قبله بإعادة الجار فكأنه قيل خلقناه من حمإ مسنون
26
(14/33)

أي مصور من سنة الوجه وهي صورته وأنشد لذلك ابن عباس قول عمه حمزة يمدح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أغر كأن البدر سنة وجهه جلا الغنيم عنه ضوؤه فتبددا وأنشد غيره قول ذي الرمة : تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب أو مصبوب من سن الماء صبه ويقال شن بالشين أيضا أي مفرغ على هيئة الإنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب وقال قتادة ومعمر : المسنون المنتن قيل : وهو من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل بينهما سنين ولا يكون إلا منتنا وقيل : هو من سننت الحديدة على المسن إذا غيرتها بالتحديد وأصله الإستمرار في جهة من قولهم : هو على سنن واحد وهو صفة لحمإ ويجوز أن يكون صفة لصلصال ولا ضير في تقدم الصفة الغير الصريحة على الصريحة فقد قال الرضي : إذا وصفت النكرة بمفرد أو ظرف أو جملة قدم المفرد في الأغلب وليس بواجب خلافا لبعضهم والدليل عليه قوله تعالى : وهذا كتاب مبارك أنزلناه لكنه يحتاج إلى نكتة لا سيما في كلام الله تعالى لأنه لا يعدل عن الأصل لغير مقتض ولعل النكتة ههنا مناسبة المقدم لما قبله في أن كلا منهما من جنس المادة وقيل : إنما أخرت الصفة الصريحة تنبيها على أن ابتداء مسنونيته ليس في حال كونه صلصالا بل في حال كونه حمأ كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوت ثم غيره طورا بعد طور حتى نفخ فيه من روحه فتبارك الله أحسن الخالقين وقيل : المسنون المنسوب أي نسب إليه ذريته وهو كما ترى
والجان هو ابو الجن كما روي عن ابن عباس ويجمع على جنان كحائط وحيطان وراع ورعيان قاله الطبرسي وقيل : هو إبليس وروي عن الحسن وقتادة لكن في الدر المصون أنه هو ابو الجن وقال ابن بحر : هو اسم لجنس الجن وتشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس مخلوقا منها وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد والجأن بالهمز وانتصابه بفعل يفسره خلقناه وهو هنا أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية من قبل أي من قبل خلق الإنسان قيل : ومن هنا يظهر جواز كون المراد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله تعالى منكم للكل وهو بعيد غاية البعد
من نار السموم
27
- أي الريح الحارة التي تقتل : وروي ذلك عن ابن عباس وأكثر ما تهب في النار وقد تهب ليلا وسميت سموما لأنها بلطفها تنفذ في مسام البدن ومنه السم القاتل ويقال : سم يومنا يسم إذا هبت فيه تلك الريح وقيل : السموم نار لا دخان لها ومنها تكون الصواعق وروي ذلك أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس فالإضافة من إضافة العام إلى الخاص وقيل : السموم إفراط الحر والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والمراد من النار المفرطة الحرارة وقد جاء في بعض الآثار ما يدل على أن النار التي خلق منها الجان أشد حرارة من النار المعروفة فقد أخرج ابن مردوية عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : رؤيا المسلم جزء من سبعين جزأ من النبوة وهذه النار جزء من سبعين جزأ من السموم التي خلق منها الجان وتلا
(14/34)

عليه الصلاة و السلام الآية واستشكل الخلق من النار بأنه كيف تخلق الحياة فيها وهي بسيطة ليست متركبة من أجزاء مختلفة الطبع والحياة كالمزاج لا تكون إلا في المركبات وقد اشترط الحكماء فيها البنية المركبة
وأجيب بمنع ذلك لأنها إذا خلقت في المجردات كالملائكة على قول والعقول التي أثبتها الفلاسفة فبالطريق الأولى البسائط بل لا مانع أيضا أن تخلق في الأجزاء الفردة خلافا للمعتزلة حيث اشترطوا البنية المركبة من الجواهر وليس لهم سوى شبه أوهن من بيت العنكبوت على أن ذلك غيلا وارد رأسا لأن معنى كون الجن مخلوقة من نار أنها الجزء الأعظم الغالب عليها كالتراب في الإنسان فليست بسيطة وقال بعضهم : إن الجن أجسام هوائية أو نارية بمعنى أنهم يغلب عليهم ذلك وهم مركبون من العناصر الأربعة كالملائكة عليهم السلام على قول
ثم إن النقل الظاهر على أكثر الفلاسفة إنكار الجن وليس ذلك مذهب جميعهم فقد ذهب جمع عظيم من قدمائهم إلى وجودهم وهو مذهب جمهور أرباب الملل وأصحاب الروحانيات ويسمونهم بالأرواح السفلية وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنها أضعف نعم اختلف المثبتون فمنهم من زعم أنهم ليسوا أجساما ولا حالين فيها بل هم جواهر قائمة بأنفسها لكنها أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها كريمة حرة محبة للخيرات وبعضها دنية خسيسة محبة للشرور ولا يعلم عدد أنواعهم إلا الله تعالى ولا يبعد أن يكون في أنواعها من يقدر على أفعال شاقة يعجز عنها قدرة البشر وكذا لا يبعد لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ومن الناس من زعم أن هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن مشابه للبدن الذي فارقته فبسبب تلك المشابهة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق تعلق ما بهذا البدن وتصير معاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمى ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمى ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة ومنهم من قال : إنهم أجسام لكن اختلفوا فقال بعضهم : هي مختلفة الماهية وإن اشتركت في صفة وقال آخرون : إنها متساوية في تمام الماهية وقد أطال الكلام في ذلك الإمام في تفسير سورة الجن وذكر في تفسير هذه الآية أنهم اختلفوا في الجن فقال بعضهم : إنهم جنس غير الشياطين والأصح أن الشياطين قسم من الجن فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان وكل من كان منهم كافرا سمي بهذا الإسم والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الإستتار فكل من كان كذلك كان من الجن أه وما ذكره من الأصح هو الذي ذهب إليه المعظم لكن ما ذكره من الدليل ضعيف
وقال وهب : إن من الجن من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ومنهم من هو بمنزلة الريح لايتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين وذكر ابن عربي أن تناسل الجن بإلقاء الهواء في رحم الأنثى كما أن التناسل في البشر بإلقاء الماء في الرحم وأنهم محصورون في اثنتي عشرة قبيلة أصولا ثم يتفرعون إلى أفخاذ ويقع بينهم حروب وبعض الزوابع يكون عند حربهم فإن الزوبعة تقابل ريحين تمنع كل صاحبتها أن تخترقها فيؤدي ذلك إلى الدور وما كل زوبعة حرب
وأخرج البيهقي في الأسماء وأبو نعيم والديلمي وغيرهم بإسناد صحيح كما قال العراقي عن أبي ثعلبة مرفوعا الجن ثلاثة أصناف فصنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب وصنف
(14/35)

يحلون ويظعنون وفي هذه القسمة عندي إشكال يظهر بالتدبر ولعل حاصلها أن صنفا منهم يغلب عليهم الطيران في الهواء وصنف يغلب عليهم الحل والإرتحال وصنف يغلب عليهم المكث والتوطن ببعض المواطن وعبر عنهم بالحيات والكلاب لكثرة تشكيلهم بذلك دون الصنفين الآخرين فإنهم وإن جاز عليهم التشكل بالأشكال المختلفة لأنهم من الجن وقد قالوا : إنهم قادرون على ذلك وإن نوزع فيه بأنه يستلزم أن لا تبقى ثقة بشيء ورد بأن الله تعالى قد تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الإستلزام المذكور إلا أنهم لا يكثر تشكلهم بذلك وربما يقال : إن القدرة على التشكل إنما هي لصنف المتوطنين وإثباتها في كلامهم للجن يكفي فيه صحتها باعتبار الأصناف لكنه بعيد جدا فليتدبر حقه وقد قال الهيتمي : إن رجال هذا الحديث وثقوا في بعضهم ضعف فإن كان الحديث لذلك ضعيفا فلا قيل ولا قال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وسيأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام في هذا المقام بعون الله تعالى الملك العلام ثم إن مساق الآية الكريمة على ما قيل كما هو للدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على مقدمة يتوقف عليها إمكان الحشر وهي قبول المواد للجمع والإحياء فتدبر
وإذ قال ربك نصب بإضمار أذكر وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام إشعار بعلة الحكم وتشريف له صلى الله تعالى عليه وسلم أي أذكر قوله تعالى : للملائكة الظاهر أن المراد بهم ملائكة السماء والأرض وزعم بعض الصوفية أن المراد بهم ملائكة الأرض ولا دليل له عليه إني خلق فيما سيأتي وفيه ما ليس في صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل لذلك البتة من غير صارف ولا عاطف بشرا أي إنسانا وعبر به عنه اعتبارا بظهور بشرته وهي ظاهر الجلد عكس الأدمة خلافا لأبي زيد حيث عكس وغلظه في ذلك أبو العباس وغيره من الصوف والوبر ونحوهما ولبعض أكابر الصوفية وجه آخر في التسمية سنذكره إن شاء الله تعالى في باب الإشارة ويستوي فيه الواحد والجمع
وذكر الراغب أنه جاء جمع البشرة بشرا وأبشارا وقيل : أريد جسما كثيفا يلاقي ويباشر أو جسما بادي البشرة ولم يرد إنسانا وإن كان هو إياه في الواقع وبعض من قال إنه المراد قال : ليس هذا صيغة عين الحادثة وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم : إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الإسم من صلصال متعلق بخالق أو بمحذوف وقع صفة بشرا من حمإ مسنون
28
- تقدم تفسيره وإعرابه فتذكر فما في العهد من قدم فإذا سويته فعلت فيه ما يصير به مستويا معتدلا مستعدا لفيضان الروح وقيل : صورته بالصور الإنسانية والخلقة البشرية ونفخت فيه من روحي النفخ في العرف إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والإمتلاء بها والمراد هنا تمثيل إفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها وليس هناك نفخ حقيقة
وقال حجة الإسلام : عبر بالنفخ الذي يكون سببا لاشتعال فتيلة القابل من الطين الذي تعاقبت عليه الأطوار حتى اعتدل واستوى واستعد استعدادا تاما بنور الروح كما يكون سببا لاشتعال الحطب القابل مثلا
(14/36)

بالنار عن نتيجته ومسببه وهو ذلك الإشتعال وقد يكنى بالسبب عن الفعل المستفاد الذي يحصل منه على سبيل المجاز وإن لم يكن الفعل المستفاد على صورة الفعل المستفاد منه ثم هذا الروح عنده وكذا عند جماعة من المحققين ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في الإناء مثلا ولا هو عرض يحل القلب أو الدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالم بل هو جوهر مجرد ليس داخل البدن ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولهم على ذلك عدة أدلة
الدليل الأول : أن الإنسان يمكنه إدراك الأمور الكلية وذلك بارتسام صور المدركات في المدرك فمحل تلك الصور إن كان جسما فإما أن يحل غير منقسم أو منقسما والأول محال لأن الذي لا ينقسم من الجسم طرف نقطي والنقطة تمتنع أن تكون محلا للصور العقلية لأنها مما لا يعقل حصول المزاج لها حتى يختلف حال استعدادها في القابلية وعدمها بل إن كانت قابلة للصور المذكورة وجب أن يكون ذلك القبول حاصلا أبدا ولو كان كذلك لكان المقبول حاصلا أبدا لما أن المبادي الفعالة المفارقة عامة الفيض فلا يتخصص إلا لاختلاف أحوال القوابل فلو كان القابل تام الإستعداد لكان المقبول واجب الحصول وحينئذ يكون جميع الأجسام ذوات النقط عاقلة ويجب أيضا أن يبقى البدن بعد الموت عاقلا لبقاء محل الصور على استعداده وليس كذلك والثاني أيضا محال لأن الحال في المنقسم منقسم فيلزم أن تكون تلك الصورة منقسمة أبدا وذلك محال لوجوه مقررة فيما بينهم
والدليل الثاني : ما عول عليه الشيخ وزعم أنه أجل ما عنده في هذا الباب وهو أنه يمكننا أن نعقل ذواتنا وكل من عقل ذاتا فله ماهية ذلك الذات فإذا لنا ماهية ذاتنا فلا يخلو إما أن يكون تعلقنا لذاتنا لأجل صورة أخرى مساوية لها تحصل فيها وإما أن لا يكون بل لأجل أن نفسها حاضرة لها والأول محال لأنه يفضي إلى الجمع بين المثلين فتعين الثاني وكل ما ذاته حاصل لذاته كان قائما بذاته فإذن القوة العاقلة وهي الروح والنفس الناطقة قائمة بنفسها وكل جسم أو جسماني فإنه غير قائم بنفسه وأكثر تلامذته من اإعتراضات وأجاب عنها
الدليل الثالث : ما عول عليه أفلاطون وهو أنا نتخيل صورا لا وجود لها في الخارج ونميز بينها وبين غيرها فهذه الصور أمور وجودية ومحلها يمتنع أن يكون جسمانيا فإن جملة بدننا بالنسبة إلى الأمور المتخيلة لنا قليل من كثير فكيف ينطبق الصور العظيمة على المقادير الصغيرة وليس يمكن أن يقال : إن بعض تلك الصور منطبقة في أبداننا وبعضها في الهواء المحيط بنا إذ الهواء ليس من جملة أبداننا ولا آلة لنفوسنا في أفعالها أيضا وهو ظاهر فإذن محل هذه الصور شيء غير جسماني وذلك هو النفس الناطقة
الدليل الرابع : لو كان محل الإدراكات شيئا جسمانيا لصح أن يقوم ببعض ذلك الجسم علم وبالبعض الآخر جهل فيكون الشيء الواحد عالما جاهلا بشيء واحد في حالة واحدة
الدليل الخامس : أن الروح لو كان منطبعا في جسم مثل قلب أو دماغ لكان إما أن يعقل دائما ذلك الجسم أو لا يعقله كذلك أو يعقله في وقت دون وقت والأقسام باطلة فالقول بانطباعه باطل وبيان ذلك أن تعقل الروح لذلك الجسم إما أن يكون لأجل أن الآلة حاضرة عنده أو لأن صورة أخرى من تلك الآلة تحصل له فإن كان الأول فالروح إن أمكنه إدراك تلك الآلة وإدراك نفس مقارنتها له فما دامت الآلة مقارنة وجب
(14/37)

أن يعقلها الروح فيكون دائم الإدراك لتلك الآلة وإن امتنع على الروح إدراك الآلة وجب أن لا يدركها أبدا فظاهر أنه لو كان تعقل الروح لتلك الآلة لأجل المقارنة لوجب أن يعقلها دائما أو لا يعقلها كذلك وكلا القسمين باطل وأما إن كان تعقله لها لأجل حصول صورة أخرى منها فالروح إن كانت في تلك الآلة والصورة الثانية حاصلة فيه يكون الصورة الثانية للآلة حالة أيضا في الآلة لأن الحال في الحال في الشيء حال في ذلك الشيء فيلزم الجمع بين المثلين وإن لم يكن الروح في تلك الحالة بل مجردة فذلك المطلوب واستدل بغير ذلك أيضا
وقد ذكر الإمام في المباحث من الأدلة اثني عشر دليلا منها ما ذكر وأطال الكلام في ذلك جرحا وتعديلا وعول في إثبات هذا المطلب على غير ذلك فقال : والذي نعول عليه أن نقول : إن كل عاقل يجد من نفسه أنه الذي الذي كان قبل فهويته إما أن تكون جسما وإما أن تكون قائمة بالجسم وإما أن لا تكون شيئا من الأمرين والأول بالباطل أما أو لا فلأن الإنسان قد يكون عالما بهويته عند ذهوله عن جملة أعضائه الظاهرة والباطنة وأما ثانيا فلأن الأبعاض الجسمانية دائمة التحلل والتبدل لأن الأسباب المحالة من الحرارة الخارجية والداخلية والحركات النفسانية والبدنية مما لا تختص بجزء دون جزء والبدن مركب من الأعضاء المركبة وهي مركبة من الأعضاء البسيطة مثل اللحم والعظم فيكون كل جزء من اللحم مثل الآخر في الإستعداد للتحلل فإذا كانت الأجزاء كلها متساوية في ذلك كانت نسبة المحللات إلى كل واحد من الأجزاء كنسبته إلى الجزء الآخر فلم يكن عروض التحلل لبعض أولى من عروضه للبعض الآخر فثبت أن هوية الإنسان ليست جسما وليست أيضا قائمة بالجسم لأن القائم به يجب أن يتبدل عند تبدله لاستحالة انتقال الأعراض فكان يلزم أن لا يجد الإنسان من نفسه أنه الذي كان موجودا قبل ولما كان هذا العلم من العلوم البديهية علمنا أن هوية الإنسان ليست جسما ولا محتاجة إليه فهو جوهر مجرد وهو المطلوب ولا يلزم أن يكون لسائر الحيوانات هذا الجوهر لأنا وإن عرفنا أنها تعلم هويات أنفسها لكن لا تعرف أنها تعلم من أنفسها أنها هي التي كانت موجودة قبل ويمكن أن يحتج أيضا على هذا المطلب بأنا قد دللنا على أن المدرك بجميع أصناف الإدراكات لجميع المدركات شيء واحد في نفس الإنسان فنقول ذلك المدرك إما أن يكون جسما أو قائما به أو لا ولا والأول ظاهر الفساد لأن الجسم من حيث هو جسم لا يمكن أن يكون مدركا والثاني أيضا باطل لأن تلك الصفة إما أن تكون قائمة بجميع أجزاء البدن أو ببعض دون بعض والأول باطل وإلا لكان كل جزء من أجزاء البدن مبصرا سامعا متخيلا متفكرا عاقلا وليس كذلك وبطل أيضا أن يقال : إن بعض الأعضاء قامت به القوة المدركة لجميع هذه المدركات لأنه يلزم أن يكون في البدن عضو واحد سامع مبصر متخيل متفكر عاقل ولسنا نجد ذلك فينا وبهذا ظهر أيضا فساد ما قيل : لعل القوة المدركة لجميع المدركات قائمة بجسم لطيف محصور في بعض الأعضاء لظهور أنا لا نجد من أبداننا موضعا مشتملا على هذا الجسم اللطيف السامع المبصر المتخيل المتفكر العاقل وليس لأحد أن يقول : هب أنكم لا تعرفون هذا الموضع لكن ذلك لا يدل على عدمه لأنا نقول إنا قد دللنا على أنا السامعون المبصرون المتخيلون العاقلون فلو كان بعض الأجسام سواء كان جزأ من البدن أو محصورا في جزء منه موصوفا بالقوة المتعلقة بجميع هذه المدركات لم يكن حقيقتنا وهويتنا إلا ذلك الجسم فلو لم نعرفه لكنا لا نعرف حقيقة أنفسنا وذلك باطل فثبت أن الموصوف بالقوة المدركة لجميع المدركات ليس جسما أصلا ولا قائما به
(14/38)

فهو جوهر مجرد وهو المطلوب وذكر هؤلاء الذاهبون إلى التجرد أنه متعلق بالبدن كتعلق العاشق عشقا جبليا إلهاميا بالمعشوق حتى أنه لا ينقطع ذلك التعلق ما دام البدن مستعدا لأن يتعلق به بل تعلق الروح أقوى من هذا التعلق بكثير وهو تعلق التدبير والتصريف وإضافته إلى ضميره تعالى في الآية لأنه سبحانه وتعالى خلقه من غير واسطة تجري مجرى الأصل والمادة أو للتشريف وسئل حجة الإسلام على ذلك فقال : لو نطقت الشمس وقالت : أفضت على الأرض من نوري يكون ذلك صدقا ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل للأرض من جنس نور الشمس بوجه من الوجوه وإن كان في غاية من الضعف بالنسبة إليه وقد عرفت أن الروح منزه عن الجهة والمكان وفي قوته العلم بجميع الأشياء وذلك مضاهاة ومناسبة ولذلك خص بالإضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصلا وليس لأحد أن يقول : إن في تنزيه الروح عن المكان وصفا له بصفة الله تعالى شأنه وتقدست صفاته بل بأخص صفاته سبحانه ويلزم من ذلك عدم التمييز فقد قالوا : كما يستحيل اجتماع جسمين في مكان واحد يستحيل أن يجتمع اثنان لا في مكان لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان لأنه لو اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الآخر فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في مكان لم يحصل التميز والفرق بينهما ولذا قالوا لا يجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلان كالضدين لأنا نقول : التميز غير منحصر بالمكان بل يكون به لجمسمين في مكانين وبالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين وبالحد والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد مثل الطعم واللون والبرودة والرطوبة في جسم واحد فإن تميز كل منها عن الآخر بذاته لا بمكان ولا زمان ومثل ذلك العلم والإرادة والقدرة فإن تميز كل أيضا بذاته وإن كان الجميع لشيء واحد فإذا تصور أعراض مختلفة الحقائق في محل واحد فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان أولى وكون الوجود لا في مكان أخص صفاته سبحانه في حيز المنع بل الأخص أنه جل شأنه قيوم أي قائم بذاته وكل ما سواه قائم به وأنه تبارك وتعالى موجود بذاته وكل ما سواه تعالى موجود لا بذاته بل ليس للأشياء من ذواتها إلا العدم وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية والوجود له سبحانه ذاتي غير مستعار فالقيومية ليس إلا لله عز و جل انتهى
وهذا الذي قالوه من تجرد الروح خلاف ما عليه جمهور أهل السنة قال الشيخ عبد الرؤف المناوي : قد خاض سائر الفرق غمرة الكلام في الروح فما ظفروا بطائل ولا رجعوا بنائل وفيها أكثر من ألف قول وليس فيها على ما قال ابن جماعة قول صحيح بل كلها قياسات وتجليات عقلية وجمهور أهل السنة على أنها جسم لطيف يخالف الأجسام بالماهية والصفة متصرف في البدن حال فيه حلول الزيت في الزيتون والنار في الفحم يعبر عنه بأنا وأنت وإلى ذلك ذهب إمام الحرمين وقال اللقاني : جمهور المتكلمين على أنها جسم مخالف بالماهية للجسم الذي تتولد منه الأعضاء نوراني علوي خفيف حي لذاته نافذ في جوهر الأعضاء سار فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم لا يتطرق إليه تبدل ولا انحلال بقاؤه في الأعضاء حياة وانفصاله عنها إلى عالم الأرواح موت
وزعم بعضهم أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس وروحه عرض قائم به وعراه بعض المتأخرين من المعاصرين إلى جمهور المتكلمين وجعله وامتناع اتحاد القبل دليلا على إبطال كون العبد خالقا لأفعاله وقد رد الإمام في التفسير ذلك الزعم وارتضى ما نقلنا عن الجمهور فقال : إنهم قالوا لا يجوز أن يكون الإنسان
(14/39)

عبارة عن هذا الهيكل المحسوس لأن أجزاءه أبدا في الذبول والنمو والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولاشك أن الإنسان من حيث هو هو أمر باق من أول عمره إلى آخره وغير الباقي غير الباقي فالمشار إليه عند كل أحد بقوله أنا وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل
ثم اختلفوا عند ذلك في أن المشار إليه بأنا أي شيء هو والأقوال فيه كثيرة إلى أن أسدها تحصيلا وتلخيصا أنها أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان الماء في الورد والدهن في السمسم ثم إن المحققين منهم قالوا أن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخره مخالفة بالماهية لما تركب منه الهيكل وهي حية لذاتها مدركة لذاتها نورانية لذاتها فإذا خالطت ذلك وصارت سارية فيه صار مستنيرا بنورها متحركا بتحريكها ثم إنه أبدا في الذوبان والتحلل والتبدل وتلك الأجزاء لمخالفتها له بالماهية باقية بحالها وإذا فسد انفصلت عنه إلى عالم القدس إن كانت سعيدة أو عالم الآفات إن كانت شقية أه ومنه يعلم بطلان الإستدلال على تجرد الروح بأبطال كون الإنسان عبارة عن الهيكل المحسوس كما يقتضيه كلام صاحب الهياكل حسبما يدل عليه كلام شارحه الجلال حيث قال في الهيكل الثاني : أنت لا تغفل عن ذاتك أبدا وما جزء من أجزاء بدنك إلا تنساه أحيانا ولا يدرك الكل إلا بأجزائه فلو كنت أنت هذه الجملة ما كان يستمر شعورك بذاتك مع نسيانها فأنت وراء هذا البدن وقال الجلال : فلا تكون النفس جسما أصلا لأن غاية ذلك إثبات أن النفس وراء هذا البدن لا إثبات أنها مع ذلك مجردة لجواز أن تكون جسما لطيفا كما علمت وزعم القاضي أن مذهب أكثر المتكلمين أن الروح عرض وأنها هي الحياة واختاره الأستاذ أبو إسحاق ولم يبال بلزوم قيام العرض بالعرض واعترض هذا الزاعم القول بالجسمية بأنها لو كانت جسما لجاز عليها الحركة والسكون كسائر الأجسام فيلزم أن تكون كلها أرواحا ولوجب أن يكون للروح روح أخرى لا إلى نهاية وفيه أنه إنما يلزم ما ذكر أن لو كان الجسم إنما كان روحا لكونه جسما وليس فليس فإنه إنما كان روحا لمعنى خصه الله تعالى به وقد علمت أن القائل بالجسمية يقول : إنه حي لذاته فلا يلزم التسلسل وبينه وبين الجسم عنده علاقة بحسب بخار لطيف يعبر عنه بالروح الحيواني وعرفه في الهياكل بأنه جسم لطيف بخاري يتولد من لطائف الأخلاط وينبعث من التجويف الأيسر من القلب وينبعث في البدن بعد أن يكتسب السلطان النووي من النفس الناطقة ولو لا لطفه لما سرى وهو مطية تصرفات النفس ومتى انقطع انقطع تصرفها وقال بعضهم : إنه اعتدال مزاج دم القلب والأمر في ذلك سهل وذهب بعض المحققين إلى أن الروح تطلق على الروح التي ذكر أنها جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو غير الروح الحيواني وعلى أمر رباني شريف له إشراق على ذلك الجسم اللطيف ولعل ذلك هو سبب حياة الروح بالمعنى الأول وإدراكها ونورانيتها ويعبر عنه بالروح الأمري وهو المراد من الروح في قوله تعالى : يسألونك عن الروح الآية ويطلقون كثيرا على الروح بالمعنى الأول النفس الإنسانية وعليها بالمعنى الثاني النفس الناطقة والذي يقال فيه : إنه جوهر مجرد ليس جسما ولا جسمانيا ولا متصلا ولا منفصلا ولا داخل العالم ولا خارجه وأنه نور من أنوار الله تعالى القائمة لا في أين من الله عز و جل مشرقه وإليه سبحانه مغربه هو الروح بهذا الإطلاق واختلفوا في أن حدوثها هل هو قبل الأبدان أو بعدها فقال حجة الإسلام : الحق أن الأرواح حدثت عند استعداد الجسد للقبول كما حدثت الصورة في
(14/40)

المرآة بحدوث الصقالة وإن كان ذو الصورة سابق الوجود على الصقيل وقد قال بذلك من الفلاسفة أرسطو ومتبعوه واستدلوا عليه بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان فإما أن تكون واحدة أو كثيرة وعلى الأول إما أن تتكثر عند التعلق بالبدن أولا فإن لم تتكثر كانت الروح الواحدة روحا لكل بدن ولو كان كذلك لكان ما علمه إنسان علمه الكل وما جهله جهله وذلك محال وإن تكثرت لزم انقسام ما ليس له حجم وهو أيضا محال وعلى الثاني لابد أن يمتاز كل واحدة منها عن صاحبتها إما بالماهية أو لوازمها أو عوارضها والأولان محالان لأن الأرواح متحدة بالنوع والواحد بالنوع يتساوى جميع أفراده بالذاتيات ولوازمها وأما العوارض فحدوثها إنما هو بسبب المادة وهي هنا البدن فقبله لا مادة فلا يمكن أن يكون هناك عوارض مختلفة وبعد أن ساق حجة الإسلام الدليل على هذا الطراز قيل له : ما تقول في خبر أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجسام بألفي عام وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين فقال رحمه الله تعالى : نعم هذا يدل بظاهره على تقدم وجود الروح على الجسد ولكن أمر الظواهر هين لسعة باب التأويل وقد قالوا : أن البرهان القاطع لا يدرأ بالظاهر بل يؤول له الظاهر كما في ظواهر الكتاب والسنة في حق الله تعالى المنافية لما يدل عليه البرهان القطعي وحينئذ يقال : لعل المراد من الأرواح في الخبر الأول الملائكة عليهم السلام وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسماوات ونحوها وإذا تفكرت في عظم هذه الأجساد لم تكد تستحضر أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد ونسبة أرواح البشر إلى أرواح الملائكة عليهم السلام كنسبة أجسادهم إلى أجساد العالم ولو انفتح عليك باب معرفة أرواح الملائكة لرأيت الأرواح البشرية كسراج اقتبس من نار عظيمة طبقت العالم وتلك النار هي الروح الأخير من أرواح الملائكة
وأما قوله عليه الصلاة و السلام : أنا أول الأنبياء خلقا فالخلق فيه بمعنى التقدير دون الإيجاد فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يولد لم يكن مخلوقا موجودا ولكن الغايات سابقة في التقدير ولاحقة في الوجود وهو معنى قول الحكيم : أول الفكر آخر العمل فالدار الكاملة أول الأشياء في حق المهندس مثلا تقديرا وآخرها وجودا وما يتقدم على وجودها من ضرب اللبن ونحوه وسيلة إليها ومقصود لأجلها ولما كان المقصود من فطرة الآدميين إدراكهم لسعادة القرب من الحضرة الإلهية ولم يمكنهم ذلك إلا بتعريف الأنبياء عليهم السلام كانت النبوة مقصودة والمقصود كمالها وغايتها لا أولها وتمهيد أولها وسيلة إلى ذلك وكمالها به صلى الله تعالى عليه وسلم فلذلك كان أولا في التقدير وآخرا في الوجود وقوله عليه الصلاة و السلام : كنت نبيا وآدم بين الماء والطين إشارة إلى هذا أيضا وأنه لم يشأ سبحانه خلق آدم إلا لينتزع الصافي من ذريته ولم يزل يستصفي تدريجا إلى أن بلغ كمال الصفا ولا يفهم هذا إلا بأن يعلم أن للدار مثلا وجودين وجودا في ذهن المهندس حتى كأنه ينظر إلى صورتها ووجودا خارج الذهن مسببا عن الوجود الأول فهو سابق عليه لا محالة
وحينئذ يقال : أن الله تعالى يقدر أولا ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا والتقدير يرسم في اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أولا في لوح أو قرطاس فتصير الدار موجودة بكمال صورتها نوعا من الوجود يكون سببا للوجود الحقيقي وكما أن هذه الصورة ترتسم في لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجري على وفق العلم بل العلم يجريه كذلك تقدير صور الأمور الإلهية ترتسم أولا في اللوح المحفوظ بواسطة القلم الإلهي والقلم يجري
(14/41)

على وفق العلم السابق الأزلي واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصور والقلم عبارة عن موجود منه تفيض الصور على اللوح وليس من شرطهما أن يكونا جسمين ولا يبعد أن يكون قلم الله تعالى ولوحه لائقين لأصبعه ويده وكل ذلك ما يليق بذاته الإلهية ويقدس عن حقيقة الجسمية وقد يقال : إنهما جوهران روحيان أحدهما متعلم وهو اللوح والآخر معلم وهو القلم وقد أشير إلى ذلك بقوله سبحانه : علم بالقلم فإذا فهمت معنى الوجود فقد كان نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بالمعنى الأول منهما دون المعنى الثاني أه
واعترض على الإستدلال من وجوه منها ما هو جار على رأي الفلاسفة المستدلين بذلك أيضا ومنها ما لا اختصاص له برأيهم الأول لم لا يجوز أن يقال : إنها كانت قبل الأبدان واحدة ثم تكثرت ولا يقال : الكل لو كان واحدا وكان قابلا للإنقسام يلزم أن تكون وحدته اتصالية فيكون جسما لأنا نقول : مسلم أن كل ما وحدته اتصالية فإنه واحد قابل للإنقسام ولا نسلم أن كل واحد قابل للإنقسام فوحدته اتصالية لأن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها
الثاني سلمنا أنها كانت متكثرة لكن لم قلتم لابد أن يختص كل بصفة مميزة لأنه لو كان التميز للإختصاص بأمر ما لكان ذلك الأمر أيضا متميزا عن غيره فإما أن يكون تميزه بما به تميزه فيلزم الدور أو بثالث فيلزم التسلسل ولأن التميز لا يختص بشيء بعينه إلا بعد تميزه فلو كان تميز الشيء عن غيره باختصاصه بشيء لزم الدور
الثالث سلمنا أنه لابد من مميز فلم لا يجوز أن يكون بذاتي وبيانه ما بينوه من اختلاف النفوس بالنوع
الرابع سلمنا أنها لا تتميز بشيء من الذاتيات فلم لا يجوز أن تتميز بالعوارض قولكم : إن حدوثها بسبب المادة وهي هنا البدن ولا بدن فنقول لم لا يجوز أن يكون هناك بدن تتعلق به وقبله آخر وهكذا ولا مخلص من هذا إلا بإبطال التناسح فتوقف حجة إثبات حدوث الأرواح على ذلك الإبطال مع أن الحكماء بنوا ذلك على الحدوث حيث قالوا بعد الفراغ من دليله : إذا ثبت حدوث النفس فلابد وأن يكون لحدوثها سبب وذلك هو حدوث البدن فإذا حدث البدن وتعلقت به نفس على سبيل التناسخ وثبت أن حدوث النفس سبب لأن يحدث عن المباديء الممارقة نفس أخرى فحينئذ يلزم اجتماع نفسين في بدن فيجيء الدور
الخامس سلمنا عدم تعلقنا ببدن قبل لكن لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض باعتباره كانت متميزة ثم يكون كل عارض بسبب عارض آخر لا إلى أول
السادس : المعارضة وهي أن الأرواح عند الفريقين باقية بعد المفارقة ولا يكون تمايزها بالماهية ولوازمها بل بالعوارض لكن الأرواح الهيولانية التي لم تكتسب شيئا من العوارض إذا فارقت لا يكون فيها شيء من العوارض سوى أنها كانت متعلقة بأبدان فإن كفى هذا القدر في وقوع التمايز فليكف أيضا كونها بحيث يحدث لها بعد التعلق بأبدان متمايزة قولهم : لم لا يجوز أن تكون قبل واحدة فتكسرت قلنا : لا يجوز لأن كل ما انقسم وجب أن يكون جزؤه مخالفا لكله ضرورة أن الشيء مع غيره ليس هو لا مع غيره فتلك المخالفة إن كانت بالماهية أو لوازمها وجب أن يكون كل واحد من الأجزاء مخالفا للآخر بالماهية فتكون تلك الأجزاء قد كانت متميزة أبدا وكانت موجودة قبل التعلق
فهذه الأمور المتعلقة الآن بالأبدان كانت متميزة قبل التعلق بها وإن كانت المخالفة لا بالماهية ولا بلوازمها فلا بد أن يكون الجزء أصغر مقدارا من الكل وإلا لم يكن أحدهما أولى بأن يكون جزء الآخر من العكس فثبت أن كل واحد قابل للإنقسام فلا بد أن يكون ذا مقدار سلمنا أن المجرد لا يمكن أن ينقسم بعد وحدته
(14/42)

لكن تعينات تلك الأجزاء إنما تحدث بعد الإنقسام الحاصل بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحد من تلك الأجزاء بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحدة من تلك النفوس من حيث هي حادثا وهو المطلوب
وقولهم : لم قلتم إن الإمتياز لا يوجد إلا عند الإختصاص بوصف قلنا : يجاب بنحو ما ذكروه في تشخص التشخص وقولهم لم قلتم : إن النفوس لا يجوز أن تتمايز بالصفات المقومة قلنا : هب أن لأمركما قلتموه إلا أنا لا نعرفه بالبديهة أن كل نوع من أنواعها فإنها مقولة على أشخاص عدة بالضرورة فإنا نعلم أنه ليس يجب أن يكون كل إنسان مخالفا لجميع الناس في الماهية وإذا وجد في كل نوع من أنواعها شخص فقد تمت الحجة
وقولهم : إن هذه الحجة مبنية على إبطال التناسخ قلنا : ليس كذلك لأنا إذا وجدنا من النوع الواحد شخصين علمنا أن تلك الشخصية ليست معولة لتلك الماهية لأن كل ما كان كذلك كان نوعه في شخصه ولما لم يكن كذلك علمنا أن شخصيته ليست من لوازم ماهيته فهي إذن لعلة خارجية وقد عرفت أن العلة هي المادة ومادة النفس هي البدن فإذن تعينها لابد وأن يكون للتعلق ببدن معين فتكون لا محالة غير متعينة قبل ذلك البدن فهي معدومة قبله
وبهذا يظهر أن كل ما نوعه مقول على كثيرين بالفعل فهو محدث فاتضح من هذا أنه متى سلم كون النفوس متحدة في النوع يلزم حدوثها وأنه لا يحتاج في ذلك إلى إبطال التناسخ ليجيء الدور السابق قولهم : لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض الخ قلنا : لا يجوز أن يكون امتيازها بذلك لأن تميز النفس المعينة عند غيرها حكم معين لا بد له من علة معينة وتلك العلة لا يمكن أن تكون حالة فيها لأن ذلك متوقف على امتيازها عن غيرها فلو توقف ذلك الإمتياز على حلول ذلك الحال لزم الدور فإذن تلك العلة أمر عائد إلى القابل وقيل البدن لا قابل فلا تميز والمتكلمون يبطلون مثل ما ذكر بلزوم التسلسل الذي يبطله برهان التطبيق
وأما المعارض فالجواب عنها بأن النفوس الهيولانية يتميز بعضها عن البعض أولا بسبب تعلقها بالقابل المعين ثم أنه يلزم من تعين كل واحد منها شعورها بذاتها الخاصة وقد بين أن شعور الشيء بذاته حالة زائدة على ذاته ثم إن ذلك الشعور يستمر فلا جرم يبقى الإمتياز
والحاصل أن الإمتياز لابد وأن يحصل أولا بسبب آخر حتى يحصل لكل من النفوس شعور بذاته الخاص وذلك السبب في النفوس الهيولانية تعلقها بالأبدان وأما التي قبل الأبدان فلو تميزت لكان المميز سوى الشعور حتى يترتب هو عليه وقد بين أنه ليس هناك مميز فلا جرم استحال حصول التميز وظهر الفرق والله تعالى الموفق
وقد استدل صاحب المعتبر على حدوثها بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان لكانت إما متعلقة بأبدان أخر أو لا والأول باطل لأنه قول بالتناسخ وهو باطل لأن أنفسنا لو كانت من قبل في بدن آخر لكنا نعلم الآن شيئا من الأحوال الماضية ونتذكر ذلك البدن وليس فليس والثاني كذلك لأنها تكون حينئذ معطلة ولا معطل في الطبيعة وهو دليل بجميع مقدماته ضعيف جدا فلا تعتبره وزعم قوم من قدماء الفلاسفة قدمها وأوردوا لذلك أمورا
الأول : أن كل ما يحدث فلا بد أن يكون له مادة تكون سببا لأن يصير أولى بالوجود بعد أن كان أولى بالعدم فلو كانت النفوس حادثة لكانت مادية وليس فليس
الثاني أنها لو كانت حادثة لكان حدوثها لحدوث
(14/43)

الأبدان لكن الأبدان الماضية غير متناهية فالنفوس الآن غير متناهية لكن ذلك محال لكونها قابلة للزيادة والنقصان والقابل لهما متناه فهي الآن متناهية فإذن ليس حدوث الأبدان علة لحدوثها فلا يتوقف صدورها عن عللها على حدوث أمر فتكون قديمة
الثالث : أنها لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية لما ثبت أن كل كائن فاسد لكنها أبدية إجماعا فهي أزلية ويرد عليهم أنه أريد بكونها مادية أن حدوثها يكون متوقفا على حدوث البدن فالأمر كذلك وإن أريد به أنها تكون منطبقة في البدن فلم قلتم : إنه لو توقف حدوثها على حدوث البدن وجب أن تكون منطبقة فيه وأيضا للمانع أن يمنع فساد لزوم كون النفوس الآن غير متناهية والمقدمة القائلة إن كل قابل للزيادة والنقصان متناه ليست من الأوليات قطعا كما هو ظاهر فإذن لا تصح إلا ببرهان وهو لا يتقرر إلا فيما يحتمل الإنطباق على ما بين في محله وقولهم : لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية قضية لا حجة لهم على تصحيحها فلا تقبل ثم إن كون النفوس متحدة بالنوع مما قد صرح به جماعة من المتكلمين كالغزالي وغيره وإليه ذهب الشيخ من الفلاسفة إلا أنه لم يأت لذلك بشبهة فضلا عن حجة واستدل غيره بأمور
الأول : أن النفوس مشتركة في أنها نفوس بشرية فلو انفصل بعضها عن بعض بمقوم ذاتي مع هذا الإشتراك لزم التركيب فكانت جسمانية
الثاني أنا نرى الناس مشتركين في صحة العلم بالمعلومات وفي صحة التخلق بالأخلاق فالنفوس متساوية في صحة اتصافها بالأفعال الإدراكية والتحريكية وذلك يوجب أن تكون متساوية مطلقا لأنا لا نعقل من صفاتها إلا كونها مدركة ومتحركة بالإرادة وهي متساوية فيهما فهي إذن متساوية في جميع صفاتها المعقولة فلو اختلفت بعد ذلك لكان اختلافها في صفات غير معقولة ولو فتحنا هذا الباب لزم تعذر الحكم بتماثل شيئين لجواز اختلافهما في غير معقول عندنا وذلك يؤدي إلى القدح في تماثل المتماثلات
الثالث : أنه بين في محله أن كان ماهية مجردة لابد وأن تكون عاقلة لحقيقة ذاتها لكن نفس زيد مثلا مجردة فهي عاقلة لذلك ثم إنها لا تعقل إلا ماهية قوية على الإدراك والتحريك فإذن ماهيته هذا القدر وهو مشترك بينه وبين سائر النفوس بالأدلة التي ذكروها في بيان أن الوجود مشترك فيكون حينئذ تمام ماهيته مقولا على سائر النفوس ويمتنع أن يكون هذا المشترك فصل مقوم في غيره إذ هو غير محتاج إليه في زيد إلى فصل يميزه عن غيره فلا يحتاج في غيره أيضا إلى فصل فإن الطبيعة الواحدة لا تكون محتاجة غنية معا فثبت الإتفاق في النوع وهي أدلة واهية
أما الأول فلقائل أن يقول : لم لا يجوز أن هذه النفوس وإن كانت مختلفة بالنوع فهي غير متشاركة في الجنس فلا يلزم من ذلك الإختلاف كونها مركبة والإشترك في كونها نفوسا بشرية ونحوه يجوز أن يكون اشتراكا في أمور لازمة لجوهرها ولا تكن مقومة لها فتكون مختلفة في تمام ماهيتها ومشتركة في اللوازم الخارجية مثل اشتراك الفصول المقومة لأنواع جنس واحد في ذلك الجنس فلا يلزم التركيب ولو سلمنا أن هذه الأوصاف ذاتية فلم لا يجوز أن تكون النفوس مركبة في ماهياتها مع عدم كونها جسمانية
(14/44)

فالسواد والبياض مثلا مندرجان تحت جنس وهو اللون فيكون كل منهما مركبا لا تركيبا جسمانيا ومثل هذا يقال هنا كيف لا وقد قالوا : الجوهر مقول على النفس والجسم
وأما الثاني فمداره الإستقراء ويضعف ذلك لوجهين أحدهما : أنه لا يمكننا أن نحكم على كل إنسان بكونه قابلا لجميع المدركات وثانيهما أنه لا يمكننا أيضا أن نحكم على النفس التي علمنا قبولها لصفة أنها قابلة لجميع الصفات كيف وضبط الصفات غير ممكن
وأما الثالث : فهو يقتضى أن يكون جميع المفارقات نوعا واحدا وهو مما لا سبيل إليه وذهب شرذمة إلى اختلافها بالنوع وهذا المعتبر عند صاحب المعتبر وطول الكلام في ذلك وأحسن ما عول عليه في الإستدلال له اختلاف الناس في العلم والجهل والقوة والضعف والغضب والتحمل وغير ذلك فقال : ليس ذلك لاختلاف المزاج لما أنا نجد متساويين مزاجا مختلفين اختلافا وبالعكس وأيضا أن نفس النبي عليه الصلاة و السلام تبلغ قوتها إلى حيث تكون قوية على التصرف في هيولي هذا العام ومعلوم أن ذلك ليس لقوم مزاجه فليس ذلك الإختلاف إلا لاختلاف الجواهر وأنت تعلم أن هذا ليس في الحقيقة من البراهين بل هو من الإقناعات الضعيفة فتدبر جميع ما ذكرناه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة للكلام في هذا المقام وهو لعمر الله تعالى طويل الذيل وبالجملة أن الوقوف على حقيقة الروح أمر عسر والطويل إليه وعر وقد جعل الله سبحانه ذاك من أعظم آياته الدالة على جلال ذاته وكمال صفاته فسبحانه من إله ما أجله ومن رب ما أكمله
فقعوا له ساجدين
29
- أمر الملائكة عليهم السلام بالسجود لآدم عليه السلام على وجه التحية والتعظيم أو لله تعالى وهو عليه السلام بمنزلة القبلة حيث ظهرت فيه تعاجيب آثار قدرته عز و جل كقول حسان : أليس أول من صلى لقبلتكم وأعلم الناس بالقرآن والسنن وفي أمرهم بالوقوع أي السقوط دليل على أن ليس المأمور به مجرد الإنحناء كما قيل بل السجود بالمعنى المتبادر فسجد الملائكة أي فخلقه فسواه فنفخ من روحه فسجد له الملائكة كلهم بحيث لم يشذ منهم أحد أجمعون
30
- بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد بل أوقعوا الفعل مجتمعين في وقت واحد وهذا على ما ذهب إليه الفراء والمبرد من دلالة أجمعين على الإجتماع في وقت الفعل وقال البصريون : أنها ككل لإفادة العموم مطلقا
ومن هنا منع تعاطفهما فلا يقال جاء القوم كلهم وأجمعون وردوا على ذلك بقوله تعالى حكاية عن إبليس : لأغوينهم أجمعين لظهور أن لا إجتماع هناك ورده في الكشف بأن الإشتقاق من الجمع يقتضيه لأنه ينصرف إلى أكمل الأحوال فإذا فهمت الإحاطة من لفظ آخر وهو كل لك يكن بد من كونه في وقت واحد وإلا كان لغوا والرد بالآية منشؤه عدم تصور وجه الدلالة ومنه يعلم وجه فساد النظر بأنه لو كان الأمر كذلك لكان حالا لا تأكيدا فالحق في المسألة مع الفراء والمبرد وذلك هو الموافق لبلاغة التنزيل وزعم البصريون إنما أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص
وزعم غير واحد أنه لا يؤكد بأجمع دون كل اختيار والمختار وفاقا لأبي حيان جوازه لكثرة وروده
(14/45)

في الفصيح ففي القرآن عدة آيات من ذلك وفي الصحيح فله سلبه أجمع فصلوا جلوا أجمعون ولعل منشأ الزعم وجوب تقديم وكل عند الإجتماع ويرده أن النفس يجب تقديمها على العين إذا اجتمعا مع جواز التأكيد بالعين على الإنفراد وما ذكروه من وجوب تقديم كل إنما بناء على ما علمت من الحق لرعاية البساطة والتركيب هذا ثم أنه قد تقدم الكلام في تحقيق أن سجودهم هذا هل هو ترتب على ما حكى من الأمر التعليقي كما يقتضيه هذه الآية الكريمة أو على الأمر التنجيزي كما يستدعيه بعض الآيات فتذكر
إلا إبليس استثناء متصل ما لأنه كان جنبا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة فعد منهم تغليبا وإما لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم جن وهو منهم وإما لأنه ملك لا جني وقوله تعالى : كان من الجن مؤول كما ستعلمه إن شاء الله تعالى وقوله سبحانه : أبى أن يكون من الساجدين
31
- استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الإستثناء بناء على أنه من الإثبات نفي ومن النفي إثبات وهو الذي تميل إليه النفس فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الإباء والإستكبار وجوز أن يكون الإستثناء منقطعا فجملة أبى الخ متصلة بما قبلها ووجه ذلك بأن إلا بمعنى لكن وإبليس اسمها والجملة خبرها كذا قيل : وفي الهمع أن البصريين يقدرون المنقطع بلكن المشددة ويقولون : إنما يقدر بذلك لأنه في حكم جملة منفصلة عن الأولى فقولك : ما في الدار أحد إلا حمارا في تقدير لكن فيها حمارا على أنه استدراك يخالف ما بعد لكن فيها ما قبلها غير أنهم اتسعوا فأجروا إلا مجرى لكن لكن لما كانت لا يقع بعدها إلا المفرد بخلاف لكن فإنه لا يقع بعدها إلا كلام تام لقبوه بالإستثناء تشبيها بها إذا كانت استثناء حقيقة وتفريقا بينها وبين لكن والكوفيون يقدرونه بسوى وقال قوم منهم ابن يسعون : إلا مع الإسم الواقع بعدها في المنقطع يكون كلاما مستأنفا وقال في قوله : وما بالربع من أحد
إلا الأواري إلا فيه بمعنى لكن والأواري اسم لها منصوب بها والخبر محذوف كأنه قال : لكن الأواري بالربع وحذف خبر إلا كما حذف خبر لكن في قوله
ولكن زنجيا عظيم المشافر
أه
والظاهر منه أن البصريين وإن قدروه بلكن لا يعربونه هذا الإعراب فهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ولعل التوجيه السابق مبني على مذهب ابن يسعون إلا أنه لم يصرح فيه بورود الخبر مصرحا به نعم صرح بعضهم بذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا المبحث في هذه السورة فافهم ووجه الإنقطاع ظاهر لأن المشهور أنه ليس من جنس الملائكة عليهم السلام والإنقطاع على ما قال غير واحد يتحقق بعدم دخوله في المستثنى منه أوفى حكمه وما قيل : إنه حينئذ لا يكون مأمورا بالسجود فلا يلزم والإعتذار عنه بأن الجن كانوا مأمورين أيضا واستغنى بذكر الملائكة عليهم السلام عنهم وأنه معنى الإنقطاع وتوجه اللوم من ضيق الطعن
قال استئناف مبني على سؤال من قال : فماذا قال الرب تعالى عند إبائه فقيل قال سبحانه : يا إبليس ما لك أي أي سبب لك كما يقتضيه الجواب وقوله تعالى : ما منعك ألا تكون أي في أن لا تكون مع الساجدين
32
- لما خلقت مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم وكأن في صيغة الإستقبال إيماء إلى مزيد قبح حاله ولعل التوبيخ ليس لمجرد تخلفه عن أولئك الكرام بل لأمور حكيت متفرقة أشعارا بأن كلا منها كاف في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وشناعته وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في غير سورة اكتفاء بحكايتها في موضع آخر والظاهر أن
(14/46)

قول الله تعالى له ذلك لم يكن بواسطة وهو منصب عال إذا كان على سبيل الإعظام والإجلال دون الإهانة والإذلال كما لا يخفى
قال استئناف على نحو ما تقدم لم أكن لأسجد اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني أن أسجد لبشر جسماني كثيف خلقته من صلصال من حمإ مسنون
33
- إشارة إجمالية إلى إدعاء خيريته وشرف مادته وقد نقل عنه لعنه الله تعالى التصريح بذلك في آية أخرى وقد عنى اللعين بهذا الوصف بيان مزيد خسة أصل من لم يسجد له وحاشاه وقد اكتفى في غير موضع بحكاية بعض ما زعمه موجبا للخسة وفي عدوله عن تطبيق جوابه على السؤال روم للتفصي عن المناقشة وأنى له ذلك كأنه قيل : لم أمتنع عن الإنتظام في سلك الساجدين بل عما لا يليق بشأني من السجود للمفضول وقد أخطأ اللعين حيث ظن أن الفضل كله باعتبار المادة وما درى أنه يكون باعتبار الفاعل وباعتبار الصورة وباعتبار الغاية بل أن ملاك الفضل والكمال هو التخلي عن الملكات الردية والتحلي بالمعارف الربانية : فشمال والكأس فيها يمين ويمين لا كأس فيها شمال ولله تعالى در من قال : كمن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك مضمونه عن النسب إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي على أن فيما زعمه من فضل النار على التراب منعا ظاهرا وقد تقدم الكلام في ذلك
قال استئناف كما تقدم أيضا فأخرج منها قيل : الظاهر أن الضمير للسماء وإن لم يجر لها ذكر وأيد بظاهر قوله تعالى : فاهبط منها وقيل لزمرة من الملائكة عليهم السلام ويلزم خروجه من السماء إذ كونه بإنزوائه عنهم في جانب لا يعد خروجا في المتبارد وكفى به قرينة وقيل : للجنة لقوله تعالى : اسكن أنت وزوجك الجنة ولوقوع الوسوسة فيها ورد بأن وقوعها كان بعد الأمر بالخروج فإنك رجيم
34
- مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة فالكلام من باب الكناية وقيل : أي شيطان يرجم بالشهب وهو وعيد بالرجم بها وقد تضمن هذا الكلام الجواب عن شبهته حيث تضمن سوء حاله فكأنه قيل : إن المانع لك عن السجود شقاوتك وسوء خاتمتك وبعدك عن الخير لأشرف عنصرك الذي تزعمه وقيل : تضمنه ذلك لأنه علم منه أن الشرف بتشريف الله تعالى وتكريمه فبطل ما زعمه من رجحانه إذ أبعده الله تعالى وأهانه وقرب آدم عليه الصلاة و السلام وكرمه وقيل : تضمنه للجواب بالسكوت كما قيل : جواب ما لا يرضى السكوت وفي تفسير الرجيم بالمرجوم بالشهب إشارة لطيفة إلى أن اللعين لما افتخر بالنار عذب بها في الدنيا فهو
كعابد النار يهواها وتحرقه
وإن عليك اللعنة الإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول فيضه تعالى وتوفيقه سبحانه ومن الإنسان دعاء بذلك والظاهر أن المراد لعنة الله تعالى لقوله سبحانه : وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين
35
- إلى يوم الجزاء وفيه إشعار بتأخير جزائه إليه وإن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ وفيه من التهويل ما فيه وجعل ذلك غاية أمد اللعنة قيل ليس لأنه تنقطع هنالك بل لأنه عند ذلك يعذب بما ينسى به اللعنة من أفانين العذاب فتصير هي كالزائل وقيل : إنما غيا بذلك لأنه أبعد
(14/47)

غاية يضربها الناس في كلامهم فهو نظير قوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض على قول
وقال بعضهم : إن المراد باللعنة لعن الخلائق له لعنة الله تعالى عليه وذلك منقطع إذا نفخ في الصور وجاء يوم الدين دون لعن الله تعالى له وإبعاده إياه فإنه متصل إلى الأبد
قال رب فانظرني أمهلني وأخرني ولا تمتني والفاء متعلقة بمحذوف مفهوم من الكلام أي إذ جعلتني رجيما فأمهلني إلى يوم يبعثون
36
- أي آدم عليه السلام وذريته للجزاء وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم ويأخذ منهم ثأره قيل : ولينجوا من الموت إذ لا موت بعد البعث وهو المروي عن ابن عباس والسدي وكأنه عليه اللعنة طلب تأخير موته لذلك ولم يكتف بما أشار إليه سبحانه في التغني من التأخير لما أنه يمكن كون تأخير العقوبة كسائر من أخرت عقوباتهم إلى الآخرة من الكفرة
قال الرب سبحانه فإنك من المنظرين
37
- أي من جملتهم ومنتظم في سلكهم قال بعض الأجلة : إن في ورود الجواب جملة إسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يؤذن بكون السائل تبعا لهم في ذلك دليلا على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم لا لانشاء إنظار خاص به وقع إجابة لدعائه أي أنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين فالفاء لربط الإخبار بالإنظار بالإستنظار كما في قوله : فإن ترحم فأنت لذاك أهل وإن تطرد فمن يرحم سواكا لا لربط نفس الإنظار به وأن استنظاره لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ونظمه في سلك من أخرت عقوبتهم إلى الآخرة في علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحق من الثقلين لا يلائم مقام الإستنظار مع الحياة ولأن ذلك التأخير معلوم من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث انتهى وقيل : إن الفاء متعلقة كالفاء الأولى بمحذوف والكلام إجابة له في الجملة أي إذ دعوتني فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم
38
- وهو وقت النفخة الأولى كما روي عن ابن عباس وعليه الجمهور
ووصفه بالمعلوم إما على معنى أن الله تعالى استأثر بعلمه أو على معنى معلوم حاله وأنه يصعق فيه من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله تعالى وقال آخرون : إنه عليه اللعنة أعطى مسئوله كملا وليس إلا البقاء إلى وقت النفخة الأولى وهو آخر أيام التكليف والوقت المشارف للشيء المتصل به معدود منه فأول يوم الدين وأول يوم البعث كأنه من ذلك الوقت واستظهر ذلك بأن الملعون عالم فلا يسأل ما يعلم أنه لا يجاب إليه وبأن ما في الأعراف لعدم ذكر الغاية فيه يدل على الإجابة واعترض على الأول بأنه غير بين ولا مبين وكونه على غالب الظن لا يجدي في مثله وعلى الثاني بأن ترك الغاية في سورة الأعراف يحتمل أن يكون كترك الماء في الإستنظار والأنظار تعويلا على ما ذكر ههنا وفي سورة ص فإن إيراد كلام واحد على أساليب متعددة غير غريز في الكتاب العزيز ومن الناس القائلين بالمغايرة من قال : إن المراد باليوم المعلوم اليوم الذي علم الله تعالى فيه انقضاء أجله وهو يوم خروج الدابة فإنها هي التي تقتله وقد قدمنا نقل هذا القول عن بعض السلف وهو من الغرابة بمكان وأغرب منه ما قيل : أنه هلك في بعض غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ذكرنا قبل أن هذا مما لا يكاد يقبل بظاهره أصلا والمشهور المعور عليه عند الجمهور هو ما ذكرناه من أنه
(14/48)

يموت عند النفخة الأولى وبينها وبين النفخة الثانية التي يقوم فيها الخلق لرب العالمين أربعون سنة ونقل عن الأحنف بن قيس عليه الرحمة أنه قال : قدمت المدينة أريد أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعب الأحبار فيها يحدث وهو يقول : لما حضر آدم عليه السلام الوفاة قال : يا رب سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا وهو منتظر إلى يوم القيامة فأجيب يا آدم إنك سترد إلى الجنة ويؤخر اللعين إلى النظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين والآخرين ثم قال لملك الموت : صف لي كيف تذيقه الموت فلما وصفه قال : يا رب حسبي فضج الناس وقالوا : يا أبا إسحاق كيف ذلك فأبى وألحوا فقال : يقول الله سبحانه لملك الموت عقيب النفخة الأولى قد جعلت فيك قوة أهل السماوات وأهل الأرضين السبع وإني اليوم ألبستك أثواب السخط والغضب كلها فابرز بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليس فأذقه الموت وأحمل عليه فيه مرارة الأولين والآخرين من الثقلين أضعافا مضاعفة وليكن معك من الزبانية سبعون ألفا قد امتلأوا غيضا وغضبا وليكن مع كل منهم سلسلة من سلاسل جهنم وغل من أغلالها وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاب من كلاليبها وناد مالكا ليفتح أبواب النيران فينزل الملك بصورة لو نظر إليها أهل السماوات والأرضين لماتوا بغتة من هولها فينتهي إلى إبليس فيقول : قف لي يا خبيث لأذيقنك الموت كم من عمر أدركت وقرن أضللت وهذا هو الوقت المعلوم قال : فيهرب اللعين إلى المشرق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرب إلى المغرب فإذا هو بين عينيه فيغوص البحار فيثير منها البخار فلا تقبله فلا يزال يهرب في الأرض ولا محيص له ولا ملاذ ثم يقول في وسط الدنيا عند قبر آدم عليه السلام ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه السلام وقد نصبت له الزبانية الكلاليب وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب فيبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى ويقال : آدم وحواء عليهما السلام اطلعا اليوم على عدوكما يذوق الموت فيطلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممت علينا نعمتك وجاء في بعض الأخبار أنه حين لا يجد مفرا يأتي قبر آدم عليه السلام فيحثو التراب على رأسه وينادي يا آدم أنت أصل بليتي فيقال له : يا إبليس اسجد الآن لآدم عليه السلام فيرتفع عنك ما ترى فيقول : كلا لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا وهذا إن صح يدل على أن اللعين من العناد بمكان لا تصل إلى غايته الأذهان
قال رب بما أغويتني أي بسبب إغوائك إياي لأزينن أي أقسم لأزينن لهم أي لذريته وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر له ذكر وقد جاء مصرحا به في قوله تعالى عن اللعين أيضا : لأحتنكن ذريته ومفعول أزينن محذوف أي المعاصي في الأرض أي هذا الجرم المدحو وكأن اللعين أشار بذلك إلى أني أقدر على الإحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة في السماء فأنا على التزيين لذريته في الأرض أقدر ويجوز أنه أراد بالأرض الدنيا لأنها محل متاعها ودارها وذكر بعضهم أن هذا المعنى عرفي للأرض وأنها إنما ذكرت بهذا اللفظ تحقيرا لها ولعل التقييد على ما قيل للإشارة إلى أن للتزيين محلا يقوي قبوله أي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور وجوز أن يكون بها هذا المعنى وينزل الفعل منزلة اللازم ثم يعدى بفيء وفي ذلك دلالة على أنها مستقر التزيين وأنه تمكن المظروف في ظرفه ونحوه قول ذي الرمة :
(14/49)

فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي والمعنى لأحسنن الدنيا وأزيننها لهم حتى يشتغلوا بها عن الآخرة وجوز جعل الباء للقسم و ما مصدرية أيضا أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن وأقسامه بعزة الله تعالى المفسرة بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله أقسم بهما جميعا فحكى تارة قسمه بهذا وأخرى بذاك وزعم بعضهم أن السببية أولى لأنه وقع في مكان آخر فبعزتك والقصة واحدة والحمل على محاورتين لا موجب له ولأن القسم بالإغواء غير متعارف انتهى وفيه نظر ظاهر فإن قوله : فبعزتك يحتمل القسمية أيضا وقد صرح الطيبي بأن مذهب الشافعية أن القسم بالعزة والجلال يمين شرعا فالآية على الزاعم لا له نعم إن دعواه عدم تعارف القسم بالإغواء مسلمة وهو عندي يكفي لأولوية السببية ولعدم التعارف مع عدم الإشعار بالتعظيم لا يعد القسم بها يمينا شرعا فإن القائلين بانعقاد القسم بصفة له تعالى يشترطون أن تشعر بتعظيم ويتعارف مثلها وفي نسبة الإغواء إليه تعالى بلا إنكار منه سبحانه قول بأن الشر كالخير من الله عز و جل وأول المعتزلة ذلك وقالوا : المراد النسبة إلى الغي كفسقته نسبته إلى الفسق لا فعلته أو أن المراد فعل به فعلا حسنا أفضى به لخبثه إلى الغي حيث أمره سبحانه بالسجود فأبى واستكبر أو أضله عن طريق الجنة وترك هدايته واللطف به واعتذروا عن إنظار الله تعالى إياه مع أنه مفض إلى الإغواء القبيح بأنه تعالى قد علم منه وممن اتبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أنظر أم لم ينظر وأن في إنظاره تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب
وأنت تعلم أن في إنظار إبليس عليه اللعنة وتمكينه من الإغواء وتسليطه على أكثر بني آدم ما يأبى القول وجوب رعاية الأصلح المشهور عن المعتزلة وأيضا من زعم أن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق أو اللسع فقد خرج عن الفطرة البشرية
فحينئذ الذي تحكم به الفطرة أن الله تعالى أراد بالأنظار أضلال بعض الناس فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وتمسك بعض المعتزلة في تأويل ما تقدم بقوله : ولأغوينهم حيث أفاد أن الإغواء فعله فلا ينبغي أن ينسب إلى الله تعالى وأجيب بأن المراد به هنا الحمل على الغواية لا إيجادها وتأويل اللاحق للسابق أولى من العكس وبالجملة ضعف الإستدلال ظاهر فلا يصلح ذلك متمسكا لهم أجمعين
39
- أي كلهم فهو لمجرد الإحاطة هنا إلا عبادك المخلصين
40
- بفتح اللام وهو قراءة الكوفيين ونافع والحسن والأعرج أي الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من كل ما ينافي ذلك وكان الظاهر وإن منهم من لا أغويه مثلا وعدل عنه إلى ما ذكر لكون الإخلاص والتمحض لله تعالى يستلزم ذلك فيكون من ذكر السبب وإرادة مسببه ولازمه على طريق الكناية وفيه إثبات الشيء بدليله فهو من التصريح به وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي الذين أخلصوا العمل لك ولم يشركوا معك فيه أحدا
قال الله سبحانه وتعالى : هذا صراط علي أي حق لابد أن أراعيه مستقيم
41
- لا إنحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره والإشارة إلى ما تضمنه الإستثناء وهو تخلص المخلصين من إغوائه وكلمة على تستعمل للوجوب والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الأصلح عليه تعالى وقال أهل السنة : إن ذلك وإن
(14/50)

كان تفضلا منه سبحانه إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه بمقتضى وعده جل وعلا فجيء بعلي لذلك أو إلى ما تضمنه المخلصين بالكسر من الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدي إلى الوصول إلى من غير اعوجاج وضلال وهو على نحو طريقك علي إذا انتهى المرور عليه وإيثار حرف الإستعلاء على حرف الإنتهاء لتأكيد الإستقامة والشهادة باستعلاء من ثبت عليه فهو أدل على التمكن من الوصول وهو تمثيل فلا استعلاء لشيء عليه سبحانه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وليست على فيه بمعنى إلى نعم أخرج ابن جرير عن الحسن أنه فسرها بها وأخرج عن زياد بن أبي مريم وعبدالله بن كثير أنهما قرآ هذا صراط مستقيم وقالا : على هي إلى وبمنزلتها والأمر في ذلك سهل وهي متعلقة بيمر مقدرا و صراط متضمن له فيتعلق به
وقال بعضهم : الإشارة إلى انقسامهم إلى قسمين أي ذلك الإنقسام إلى غاو وغيره أمر مصيره إلي وليس ذلك لك والعرب تقول : طريقك في هذا الأمر على فلان على معنى إليه يصير النظر في أمرك وعن مجاهد وقتادة أن هذا تهديد للعين كما تقول لغيرك افعل ما شئت فطريقك علي أي لا تفوتني ومثله على ما قال الطبرسي قوله تعالى : إن ربك لبالمرصاد والمشار على هذا إليه ما أقسم مع التأكيد عليه وأظهر هذه الأوجه على ما قيل هو الأول واختار في البحر كونها إلى الإخلاص وقيل : الأظهر أن الإشارة لما وقع في عبارة إبليس عليه اللعنة حيث قال : لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم الخ ولا أدري ما وجه كونه أظهر
وقرأ الضحاك وإبراهيم وأبو رجاء وابن سيرين ومجاهد وقتادة وحميد وأبو شرف مولى كندة ويعقوب وخلق كثير على مستقيم يرفع على وتنوينه أي عال لارتفاع شأنه أن عبادي ليس لك عليهم سلطان أي تسلط وتصرف بالإغواء والمراد بالعباد المشار إليهم بالمخلصين فالإضافة للعهد والإستثناء على هذا في قوله تعالى : إلا من اتبعك من الغاوين
42
- منقطع واختار ذلك غير واحد واستدل عليه بسقوط الإستثناء في الإسراء وجوز أن يكون المراد بالعباد العموم والإستثناء متصل والكلام كالتقرير لقوله : إلا عبادك منهم المخلصين ولذا لم يعطف على ما قبله وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين بجعلهم هم الباقين بعد الإستثناء
وفي الآية لمن جوز استثناء الأكثر وإلى ذلك ذهب أبو عبيد والسيرافي وأكثر الكوفية واختاره ابن خروف والشلوبين وابن مالك وأجاز هؤلاء أيضا استثناء النصف وذهب بعض البصرية إلى أنه لا يجوز كون المستثنى قدر نصف المستثنى منه أو أكثر ويتعين كونه أقل من النصف واختاره ابن عصفور والآدمي وإليه ذهب أبو بكر الباقلاني من الأصوليين وذهب البعض الآخر من علماء البلدين إلى أنه يجوز أن يكون المخرج النصف فما دونه ولا يجوز أن يكون أكثر وإليه ذهب الحنابلة واتفق النحويون كما قال أبو حيان وكذا الأصوليون عند الإمام والآدمي خلافا لما اقتضاه نقل القرافي عن المدخل لابن طلحة على أنه لا يجوز أن يكون المستثنى مستغرقا للمستثنى منه ومن الغريب نقل ابن مالك عن الفراء جواز له على ألف إلا ألفين وقيل : إن كان المستثنى منه عددا صريحا يمتنع فيه استثناء النصف والأكثر وإن كان غير صريح لا يمتنعان وتحقيق هذه المسئلة في الأصول والمذكور في بعض كتب العربية عن أبي حيان أنه قال : المستقرأ من كلام العرب إنما هو استثناء الأقل وجميع ما استدل به على خلافه محتمل التأويل وأنت تعلم أن الآية تدفع مع ما تقدم
(14/51)

قول من شرط الأقل لما يلزم عليه من الفساد لأن استثناء الغاوين هنا يستلزم على ذلك أن يكونوا أقل من المخلصين الذين هم الباقون بعد الإستثناء من جنس العباد واستثناء المخلصين هناك يستلزم أن يكونوا أقل من الغاوين الذين هم الباقون بعد الإستثناء من ذلك فيكون كل من المخلصين والغاوين أقل من نفسه وهو كما ترى
وأجاب بعضهم بأن المستثنى منه هنا جنس العباد الشامل للمكلفين وغيرهم ممن مات قبل أن يكلف ولا شك أن الغاوين أقل من الباقي منهم بعد الإستثناء وهم المخلصون ومن مات غير مكلف والمستثنى منه هناك المكلفون إذ هم الذين يعقل حملهم على الغواية والضلال إذ غير المكلف لا يوصف فعله بذلك والمخلصون أقل من الباقي منهم بعد الإستثناء أيضا ولا محذور في ذلك وذكر بعضهم أن الكثرة والقلة الإدعائيتين تكفيان لصحة الشرط فقد ذكر السكاكي في آخر قسم الإستدلال وكذا لا تقول لفلان على ألف إلا تسعمائة وتسعين إلا وأنت تنزل ذلك الواحد منزلة الألف بجهة من الجهات الخطابية مع أنه ممن يشترط كون المستثنى أقل من الباقي أه وظاهر كلام الأصوليين ينافيه وجوز أن يكون الإستثناء منقطعا على تقدير إرادة الجنس أيضا ويكون الكلام تكذيبا للملعون فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده سبحانه فإن منتهى قدرته أن يغرهم ولا يقدر على جبرهم على اتباعه كما قال : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فحاصل المعنى أن من اتبعك ليس لك عليهم سلطان وقهر بل أطاعوك في الإغواء واتبعوك لسوء اختيارهم ولا يضر في الإنقطاع دخول الغاوين في العباد بناء على ما قالوا من أن المعتبر في الإتصال والإنقطاع الحكم ويفهم كلام البعض أنه يجوز أن تكون الآية تصديقا له عليه اللعنة في صريح الإستثناء وتكذيبا في جعل الإخلاص علة للخلاص حسبما يشير إليه كلامه فإن الصبيان والمجانين خلصوا من إغوائه مع فقد هذه العلة
ومن على جميع الأوجه المذكورة لبيان الجنس أي الذين هم الغاوون واستدل الجبائي بنفي أن يكون له سلطان على العباد على رد قول من يقول : إن الشيطان يمكنه صرع الناس وإزالة عقولهم وقد تقدم الكلام في إنكار المعتزلة تخبط الشيطان والرد عليهم وإن جهنم لموعدهم أجمعين
43
- الضمير لمن اتبع أو للغاوين ورجح الثاني بالقرب وظهور ملاءمته للضمير والأول بأن اعتباره أدخل في الزجر عن اتباعه مع أن الثاني جيء به لبيانه و أجمعين توكيد للضمير وجوز أن يكون حالا منه ويجعل على هذا الموعد مصدرا ميميا ليتحقق شرط مجيء الحال من المضاف إليه وهو كون المضاف مما يعمل عمل الفعل فإنهم اشترطوا ذلك أو كون المضاف جزء المضاف إليه وكجزئه على ما ذكره ابن مالك وغيره ليتحد عامل الحال وصاحبها حقيقة أو حكما لكن يقدر حينئذ مضاف قبله لأن جهنم ليست عين الموعد بل محله فيقدر محل وعدهم أو مكانه وليس بتأويل اسم المفعول كما وهم وجوز أن يكون الموعد اسم مكان وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير المضاف إلا أن في جواز الحالية بحثا لأن اسم المكان لا يعمل عمل فعله كما حقق في النحو وكون العامل معنى الإضافة وهو الإختصاص على القول بأنه الجار للمضاف إليه غير مقبول عند المحققين لأن ذلك من المعاني التي لا تنصب الحال ولا يخفى ما في جعل جهنم موعدا لهم من التهكم والإستعارة فكأنهم كانوا على ميعاد وفيه أيضا إشارة إلى أن ما أعد لهم فيها مما لا يوصف في الفظاعة لها سبعة أبواب أي سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والمتابعة روي ذلك عن عكرمة وقتادة وأخرج أحمد في الزهد والبهقي في البعث وغيرهما من طرق عن علي كرم
(14/52)

الله تعالى وجهه أنه قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تملأ كلها
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهي أسفلها وجاء في ترتيبها عن الأعمش وابن جريج وغيرهما غير ذلك وذكر السهيلي في كتاب الأعلام أنه وقع في كتب الرقائق أسماء هذه الأبواب ولم ترد في أثر صحيح وظاهر القرآن والحديث يدل على أن منها ما هو من أوصاف النار نحو السعير والجحيم والحطمة والهاوية ومنها ما هو علم للنار كلها نحو جهلم وسقر ولظى فلذا أضربنا عن ذكرها أه وأقرب الآثار التي وقفنا عليها إلى الصحة فيما أظن ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه لكثرة مخرجيه وتحتاج جميع الآثار إلى التزام أن يقال : إن جهنم تطلق على طبقة مخصوصة كما تطلق على النار كلها وقيل : الأبواب على بابها والمراد أن لها سبعة أبواب يدخلونها لكثرتهم والإسراع بتعذيبهم
والجملة كما قال أبو البقاء يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون مستأنفة ولا يجوز أن تكون حالا من جهنم لأن إن لا تعمل في الحال لكل باب منهم من الأتباع والغواة جزء مقسوم
44
- فريق معين مفروز من غيره حسبما يقتضيه استعداده فباب للموحدين العصاة وباب لليهود وباب للنصارى وباب للصابئين وباب للمجوس وباب للمشركين وباب للمنافقين وترى هذا الترتيب في بعض الآثار وعن ابن عباس أن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحدين العاصين وروي غير ذلك وبالجملة في تعيين أهلها كترتيبها اختلاف في الروايات
ولعل حكمة تخصيص هذا العدد انحصار مجامع المهلكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضيات القوة الشهوانية الغضبية أو أن أصول الفرق الداخلين فيها سبعة وقرأ ابن القعقاع جز بتشديد الزاي من غير همز ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ثم وقف بالتشديد ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وقرأ ابن وثاب جزء بضم الزاي والهمز ومنهم حال من جزء وجاء من النكرة لتقدمه ووصفها أو حال من ضميره في الجار والمجرور الواقع خبرا له ورجح أن فيه سلامة مما في وقوع الحال من المبتدأ والتزم بعضهم لذلك كون المرفوع فاعلا بالظرف ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في مقسوم لأنه صفة جزء فلا يصح عمله فيما قبل الموصوف وكذا لا يجوز أن يكون صفة باب لأنه يقتضي أن يقال منها وتنزيل الأبواب منزلة العقلاء لا وجه له هنا كما لا يخفى والله تعالى أعلم
ومن باب الإشارة ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون فيه إشارة إلى ذم من كان همه بطنه وتنفيذ شهواته قال أبو عثمان : أسوأ الناس حالا من كان همه ذلك فإنه محروم عن الوصول إلى حرم القرب وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون رموه وحاشاه صلى الله تعالى عليه وسلم بالجنون مشيرين إلى أن سببه دعواه عليه الصلاة و السلام نزول الذكر الذي لم تتسع له عقولهم والإشارة في ذلك أنه لا ينبغي لمن لم يتسع عقله لما من الله سبحانه على أوليائه من الأسرار أن يبادر وهم بالأنكار ويرموهم بما لا ينبغي كما هو عادة كثير من المنكرين اليوم على الأولياء الكاملين حيث نسبوهم فيما تكلموا به من الأسرار الإلهية والمعارف الربانية إلى الجنون وزعموا أن ما تكلموا به من ذلك ترهات وأباطيل خيلت لهم من الرياضات ولا أعني بالأولياء الكاملين سوى من تحقق لدى المنصفين موافقتهم للشرع فيما يأتون ويذرون دون الذين يزعمون انتظامهم في سلكهم وهم أولياء الشيطان وحزبهم حزبه كبعض متصوفة هذا الزمان فإن الزنادقة بالنسبة
(14/53)

إليهم أتقياء موحدون كما لا يخفى على من سبر أحوالهم إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون قال ابن عطاء : أي إنا نزلنا هذا الذكر شفاء ورحمة وبيانا للهدى فينتفع به من كان موسوما بالسعادة منورا بتقديس السر عن دنس المخالفة وإنا له لحافظون في قلوب أوليائنا فهي خزائن أسرارنا ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين إشار سبحانه إلى سماء الذات وبروج الصفات والجلال فيسير في ذلك القلب والسر والعقل والروح فيحصل للروح التوحيد والتجريد والتفريد للعقل المعارف والكواشف وللقلب العشق والمحبة والخوف والرجاء والقبض والبسط والعلم والخشية والأنس والإنبساط وللسر الفناء والبقاء والسكر والصحو وحفظناها من كل شيطان رجيم إشارة إلى منع كشف جمال صفاته سبحانه وجلال ذاته عز و جل عن أبصار البطالين والمدعين والمبطلين الزائغين عن الحق إلا من استرق السمع اختلس شيئا من سكان هاتيك الحضائر القدسية من الكاملين فأتبعه شهاب بين نار التحير فهلك في بوادي التيه أو صار غولا يضل السائرين السالكين لتحصين ما ينفعهم وقيل الإشارة في ذلك : إنا جعلنا في سماء العقل بروج المقامات ومراتب العقول من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد وزيناها بالعلوم والمعارف للناظرين المتفكرين وحفظناها من شياطين الأوهام الباطلة إلا من اختطف الحكم العقلي باستراق السمع لقربه من أفق العقل فأتبعه شهاب البرهان الواضح فطرده وأبطل حكمه أه ولا يخفى ما في تزيين كل مرتبة من مراتب العقول المذكورة بالعلوم والمعارف للمتفكرين من النظر على من تفكر وقيل : الإشارة إلى أنه تعالى جعل في سماء القلوب بروج المعارف تسير فيها سيارات الهمم وجعلها زينة للناظرين إليها المطلعين عليها من الملائكة والروحانيين وحفظها من الشياطين فلو دنا إبليس أو جنوده من قلب عارف احترق بنور معرفته ورد خاسئا
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا من كل شيء موزون إشارة إلى أنه تعالى بسط بأنوار تجلى جماله وجلاله سبحانه أرض قلوب أوليائه حتى أن العرش وما حوى بالنسبة إليها كحلقة في فلاة بل دون ذلك بكثير وفي الخبر ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ثم أنه تعالى لما تجلى عليها تزلزلت من هيبته فألقى عليها رواسي السكينة فاستقرت وأنبت فيها بمياه بحار زلال نور غيبه من جميع نباتات المعارف والكواشف والمواجيد والحالات والمقامات والآداب وكل من ذلك موزون بميزان علمه وحكمته
وقال بعضهم : نفوس العابدين أرض العبادة وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة والرواسي الرجاء والخوف والرغبة والرهبة والأزهار والأنوار التي أشرقت فيها من نور اليقين ونور العرفان ونور الحضور ونور الشهود ونور التوحيد إلى غير ذلك وقيل : أشير بالأرض إلى أرض النفس أي بسطنا أرض النفس بالنور القلبي وألقينا فيها رواسي الفضائل وأنبتنا فيها كل شيء من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكات الفاضلة والإدراكات الحسية معين مقدر بميزان الحكمة والعدل وجعلنا لكم فيها معايش بالتدابير الجزئية ومن لستم له برازقين ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم قال بعضهم : إن سبب العيش مختلف فعيش المريدين بيمن إقباله تعالى وعيش العارفين بلطف جماله سبحانه وعيش الموحدين بكشف جلاله جل جلاله
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه أي ما من شيء إلا له عندنا خزائنه في عالم القضاء وما ننزله في عالم الشهادة إلا بقدر معلوم من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل حسبما يقتضيه استعداده قيل : إن الإشارة في ذلك إلى دعوة العباد إلى حقائق التوكل وقطع الأسباب والإعراض عن الأغيار ومن هنا قال حمدون : إنه سبحانه
(14/54)

قطع أطماع عبيده جل وعلا بهذه الآية فمن رفع بعد هذا حاجة إلى غيره تعالى شأنه فهو جاهل ملوم وكان الجنيد قدس سره إذا قرأ هذه الآية يقول : فأين تذهبون يقال : خزائنه تعالى في الأرض قلوب العارفين وفيها جواهر الأسرار ومنهم من قال : النفوس خزائن التوفيق والقلوب خزائن التحقيق والألسنة خزائن الذكر إلى غير ذلك وأرسلنا على القلوب الرياح النفحات الإلهية لواقح بالحكم والمعارف قال ابن عطاء : رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ورياح الكرم تلقح في القلوب معرفة المنعم ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة بالله تعالى والإعتماد عليه وكل من هذه الرياح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة وشقى من حرمها فأنزلنا من السماء أي سماء الروح ماء من العلوم الحقيقية فأسقيناكموه وأحييناكم به وما أنتم له أي لذلك الماء بخازنين لخلوكم عن العلوم قبل أن نعلمكم وإنا لنحن نحيي القلوب بماء العلم والمشاهدة ونميت النفوس بالجد والمجاهدة وقيل : نحيى بالعلم ونميت بالإفناء في الوحدة وقيل : نحيي بمشاهدتنا قلوب المطيعين من موت الفراق ونميت نفوس المريدين بالخوف منا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات وقال الواسطي : نحيي من نشاء بنا ونميت من نشاء عنا وقال الوراق : نحيي القلوب بنور الإيمان ونمين النفوس باتباع الشيطان وقيل وقيل : ونحن الوارثون للوجود والباقون بعد الفناء ولقد علمنا المستقدمين منكم وهم المشتاقون الطالبون للتقدم ولقد علمنا المستأخرين وهم المنجذبون إلى عالم الحس باستيلاء صفات النفس الطالبون للتأخر عن عالم القدس وروضات الإنس ومن هنا قال ابن عطاء : من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناس والنظر إلى الأكوان ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بنجاستها لا تنفك عنها طرفة عين وقيل : المستقدمين الطالبون كشف أنوار الجمال والجلال والمستأخرون أهل الرسوم الطالبون للحظوظ والأعراض وقيل : الأولون هم أرباب الصحو الذين يتسارعون إذا دعوا إلى الطاعة والآخرون سكارى التوحيد والمعرفة والمحبة وقيل : الأولون هم الآخذون بالعزائم والآخرون هم الآخذون بالرخص وقيل : غير ذلك وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فيه إشارة إلى عظم شأن آدم عليه السلام حيث أخبر سبحانه بخلقه قبل أن يخلقه وسماه بشرا لأنه باشر خلقه بيديه ولم يثن سبحانه اليد لأحد إلا له وهو النسخة الإلهية الجامعة لصفات الجمال والجلال فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين أضاف سبحانه الروح إلى نفسه تشريفا لها وتعظيما لقدرها لما أنها سر خفي من أسراره جل وعلا ولذا قيل : من عرف نفسه عرف ربه وعلق تبارك شأنه الأمر بالسجود بالتسوية والنفخ لما أن أنوار الأسماء والصفات وسناء سبحات الذات إنما تظهر إذ ذاك ولذا لما تم الأمر وجلدت النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس لما أعمى الله تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه أبى أن يكون من الساجدين ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليه السلام ولم يخطر في باله أيضا أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان ومن هنا قيل : لو قال تيهاقف على جمر الغضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف وقال بعض أهل الوحدة : إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى وقد أخطأ
(14/55)

أيضا لأنه لا غير هناك لأن في حقيقة جمع الجمع ترتفع الغيرية وتزول الأثنينية وأنت تعلم أن هذا بمراحل عما يدل عليه كلامه وأن الغيرية إذا ارتفعت في هذا المقام ترتفع مطلقا فلا تبقى غيرية بين آدم وإبليس بل ولا بينهما وبين شخص من الأشخاص الخارجية والذهنية ومن هنا قال قائلهم : ما آدم في الكون ما إبليس ما ملك سليمان وما بلقيس الكل عبارة وأتت المعنى يا من هو للقلوب مغناطيس وقال الحسين بن منصور : جحودي لك تقديس وعقلي فيك منهوس فمن آدم إلاك ومن في البين إبليس وقد انتشر مثل هذا الكلام اليوم في الأسواق ومجالس الجهلة والفساق واتسع الخرق على الراقع وتفاقم الأمر وماله سوى الله تعالى من دافع قال فاخرج منها فإنك رجيم طريد عن ساحة القرب إذ القرب يقتضي الإمتثال وكلما ازداد العبد قربا من ربه ازداد خضوعا وخشوعا وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين لم يرد سبحانه أنه بعد ذلك يحصل له القرب خلافا لبعض أهل الوحدة بل أراد جل وعلا بعض ما قدمناه
قال فيما أغويتني لأزينن لهم في الأرض أي لأزينن لهم الشهوات في الجهة السفلية ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين الذين أخلصتهم لك واصطفيتهم لمحبتك أو المخلصين في طاعتهم لك ولا يلتفتون لأحد سواك وفيه من مدح الإخلاص ما فيه وفي الخبر العالم هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر أي شرف عظيم كما ذكره السيد السند في بعض تعليقاته
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين أي الذين يناسبونك في الغواية والبعد وأن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب عدد الحواس الخمس والقوتين الشهوية والغضبية وهاتان القوتان بابان عظيمان للضلالة المفضية إلى النار أخرج ابن جرير عن يزيد بن قسيط قال : كانت للأنبياء عليهم السلام مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد أحدهم يستنبيء ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله تعالى ثم سأل ما بدا له فبينما نبي في مسجده إذ جاء إبليس حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي : أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ثلاثا فقال إبليس : أخبرني بأي شيء تنجو مني قال النبي : بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم فأجد كل واحد منهما على صاحبه فقال النبي : إن الله تعالى يقول : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين قال إبليس : قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي : ويقول الله تعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله وإني والله تعالى ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله تعالى منك قال إبليس : صدقت بهذا تنجو مني فقال النبي : أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم قال : آخذه عند الغضب وعند الهوى لكل باب منهم جزء مقسوم فيكون لكل باب فرقة تغلب عليها قوة ذلك الباب نسأل الله تعالى أي يجيرنا منها بحرمة سيد ذوي الألباب صلى الله تعالى عليه وسلم
إن المتقين في جنات وعيون
45
- أي مستقرون في ذلك خالدون فيه والمراد بهم على ما في الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها وفيه أن المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه
(14/56)

مما نهى عنه ونقل الإمام عن جمهور الصحابة والتابعين وذكر أنه المنقول عن الخبر أن المراد بهم الذين اتقوا الشرك ثم قال : وهذا هو الحق الصحيح والذي يدل عليه أن المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى والذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا ولهذا قالوا : ظاهر الأمر لا يفيد التكرار فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم وأيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس : إلا عبادك منهم المخلصين وعقيب قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولو كانوا من أهل المعصية وهذا تقرير بين وكلام ظاهر أه
وقد يقال : لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم وأن المطلق يحمل على الكامل والكامل ما أشار إليه الزمخشري ولا بأس بالحمل عليه وقيل أنه الأنسب
وأخرج العصاة من النار ثابت بنصوص أخر وكذا إدخال التائبين الجنة بل غيرهم أيضا فلا يلزم القائل بذلك القول بما عليه المعتزلة من تخليد أصحاب الكبائر كما لا يخفى وأل للإستغراق وهو إما مجموعي فيكون لكل واحد من المتقين جنة وعين أو أفرادي فيكون لكل جنات وعيون والمراد بالعيون يحتمل كما قيل أن يكون الأنهار المذكورة في قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه الآية ويحتمل أن يكون منابع مغايرة لتلك الأنهار وهو الظاهر وهو كل من المتقين مختص بعيونه أو ليس مختصا بل تجري من بعض إلى بعض احتمالات فإنه يمكن أن يكون لكل واحد عين وينتفع بها من معيته ويمكن أن تجري العين من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وضم العين من عيون هو الأصل وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام وقرأ الباقون بالعكس وهو لمناسبة الياء
أدخلوها أمر لهم بالدخول من قبله تعالى وهو بتقدير القول على أنه حال أي وقد قيل لهم ادخلوها فلا يرد أنه بعد أن الحكم بأنهم في الجنة كيف يقال لهم ادخلوها وجوز أن يقدر مقولا لهم ذلك والمقارنة عرفية لاتصالهما وقيل : يقدر يقال لهم فيكون مستأنفا ووجه ذكر هذا الأمر بعد الحكم السابق بأنهم لما ملكوا جنات كثيرة كانوا كلما خرجوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها إلى آخره وهو إنما يجري على تقدير أن يكون لكل جنات وبغير ذلك مما فيه دخل وقرأ الحسن ادخلوها على أنه ماض مبني للمفعول من باب الأفعال والهمزة فيه للقطع وأصل القياس أن لا يكسر التنوين قبلها إلا أن الحسن كسره على أصل التقاء الساكنين إجراء لهمزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك إلا أنه ضم التنوين بإلقاء حركة همزة تقطع عليه وعنه أدخلوها بفتح الهمزة عليه وكسر الخاء على أنه أمر للملائكة بإدخالهم إياها وفتح في هذه القراءة التنوين بإلقاء فتحة الهمزة عليه وعلى القراءة بصيغة
(14/57)

الماضي لا حاجة إلى تقدير القول والفاعل عليها هو الله تعالى أي أدخلهم الله سبحانه إياها بسلام أي ملتبسين به أي سالمين أو مسلما عليكم وعلى الأول يراد سلامتهم من الآفة والزوال في الحاد ويراد بالأمن في قوله سبحانه : آمنين
46
- الأمن من طرو ذلك في الإستقبال فلا حاجة إلى تخصيص السلامة بما يكون جسمانيا والأمن بغيره ونزعنا ما في صدورهم من غل أي حقد وأصله على ما قيل من الغلالة وهو ما يلبس بين الثوبين الشعار والدثار وتستعار للدرع كما يستعار الدرع لها وقيل : قيل للحقد غل أخذا له من أنغل في كذا وتغلل إذا دخل فيه ومنه قيل للماء الجاري بين الشجر غلل وقد يستعمل الغل فيما يضمر في القلب مما يذم كالحسد والحقد وغيرهما وهذا النزع قيل في الدنيا فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن كثير النوا قال : قلت لأبي جعفر إن فلانا حدثني عن علي بن الحسن رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم ونزعنا ما في صدورهم من غل قال : والله إنها لفيهم أنزلت وفيمن تنزل إلا فيهم قلت : وأي غل هو قال : غل الجاهلية أن بني تميم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا فأخذت أبا بكر الخاصرة فجعل علي كرم الله تعالى وجهه يسخن يده فيكوي بها خاصره أبي بكر رضي الله تعالى عنه فنزلت هذه الآية ويشعر بذلك على ما قيل ما أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والحاكم وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال لابن طلحة : إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى : ونزعنا الآية فقال رجل من همذان : إن الله سبحانه أعدل من ذلك فصاح علي كرم الله تعالى وجهه عليه صيحة تداعى لها القصر وقال : فمن أذن أن لم نكن نحن أولئك وقيل : إن ذلك في الآخرة بعد دخول الجنة فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردوية من طريق القاسم عن أبي أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن حتى إذا تدانوا وتقايلوا على السرر نزع الله تعالى ما في صدورهم في الدنيا من غل
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبدالكريم بن رشيد قال : ينتهي أهل الجنة إلى باب الجنة وهم يتلاحظون تلاحظ الفيران فإذا دخلوها نزع الله تعالى ما في صدورهم من الغل وقيل : فيها قبل الدخول فقد أخرج ابن أبي حاتم أيضا عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : يحيس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل
وهذا ونحوه يؤيد ما قاله الإمام في المتقين وقيل : معنى الآية طهر الله تعالى قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع سبحانه منها كل غل وألقى فيها التواد والتحاب والآية ظاهرة في وجود الغل في صدورهم قبل النزع فتأمل
إخوانا حال في الضمير في في جنات وهي حال مترادفة أن جعل ادخلوها حالا من ذلك أيضا أو حال من فاعل ادخلوها وهي مقدرة إن كان النزع في الجنة أو من ضمير آمنين أو الضمير المضاف إليه في صدورهم وجاز لأن المضاف بعض من ذلك وهي حال مقدرة أيضا ويقال نحو ذلك في قوله تعالى : على سرر متقابلين
47
- ويجوز أن يكونا صفتين لاخواتا أو حالين من الضمير المستتر فيه لأنه في معنى
(14/58)

المشتق أي متصافيين ويجوز أن يكون متقابلين حالا من المستتر في على سرر سواء كان حالا أو صفة وأبو حيان لا يرى جواز الحال من المضاف إليه إذا كان جزاءه أو كجزئه ويخصه فيما إذا كان المضاف مما يعمل في المضاف إليه الرفع أو النصب وزعم أن جواز ذلك في الورتين السابقتين مما تفرد به ابن مالك ولم يقف على أنه نقله في فتاويه عن الأخفش وجماعة وافقوه فيه واختار كون إخوانا منصوبا على المدح والسرر بضمتين جمع سرير وهو معروف وأخذه من السرور إذ كان ذلك لأولي النعمة وإطلاقه على سرير الميت للتشبيه في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله عز و جل وخلاصه من سجنه المشار إليه بما جاء في بعض الآثار الدنيا سجن المؤمن وكلب وبعض بني تميم يفتحون الراء وكذا كل مضاعف فعيل ويجمع أيضا على أسرة وهي على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من ذهب مكللة باليواقيت والزبرجد والدر وسعة كل كسعة ما بين صنعاء إلى الجابية وفي كونهم على سرر إشارة إلى أنهم في رفعة وكرامة تامة
وروي عن مجاهد أن السرة تدور بهم حيثما داروا فهم في جميع أحوالهم متقلبون لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض فالتقابل التواجه وهو نقيض التدابر ووصفهم بذلك إشارة إلى أنهم على أشرف أحوال الإجتماع
وقيل : هو إشارة إلى أنهم يجتمعون ويتنادمون وقيل : معنى متقابلين متساوين في التواصل والتزاور
وفي بعض الأخبار إن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار كل واحد منهم إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان لا يمسهم فيها أي في تلك الجنات نصب تعب ما إما بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من السعي في تحصيل ما لا بد لهم منه لحصول كل ما يشتهونه من غير مزاولة عمل أصلا وإما بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم
وفي بعض الآثار أن قوة الواحد منهم قوة أربعين رجلا من رجال الدنيا والجملة استئناف نحوي أو بياني أو حال من الضمير في في جنات أو من الضمير في إخوانا أو من الضمير في متقابلين أو من الضمير في على سرر وما هم منها بمخرجين
48
- أي هم خالدون فيها فالمراد استمرار النفي وذلك لأن إتمام النعمة بالخلود وهذا متكرر مع آمنين إن أريد منه الأمن من زوالهم عن الجنة وانتقالهم منها وارتكب ذلك للإعتناء والتأكيد وإن أريد به إلا من من زوال ما هم عليه من النعيم والسرور والصحة لا يتكرر وبحث بعضهم في لزوم التكرار بأن الأمن من الشيء لا يستلزم عدم وقوعه كأمن الكفرة من مكر الله تعالى مثلا وأنه يجوز أن يكون المراد زوال أنفسهم بالموت لا الزوال عن الجنة وتعقب بأن الثاني في غاية البعد فإنه لا يقال للميت : أنه فيها وإن دفن بها كالأول فإن الله تعالى إذا بشرهم بالأمن منه كيف يتوهم عدم وقوعه نبيء عبادي قيل : مطلقا وقيل : الذين عبر عنهم بالمتقين أي أخبرهم أني أنا الغفور الرحيم
49
- وأن عذابي هو العذاب الأليم
50
- وهذا إجمال لما سبق من الوعد والوعيد وتأكيد له و أنا إما مبتدأ أو تأكيد أو فصل وهو إما مبتدأ أو فصل وإن ما بعدها قال أبو حيان : ساد مسد مفعولي نبيء إن قلنا : إنها تعدت إلى ثلاثة ومسد واحد إن قلنا تعدت إلى اثنين وفي ذكر المغفرة إشعار على ما قيل بأن ليس المراد بالمتقين من يتقي جميع الذنوب إذ لو أريد ذلك لم يكن لذكرها موقع وقيل : إن ذكرها حينئذ لدفع توهم أن غير أولئك المتقين لا يكون في الجنة بأنه يدخلها وإن لم يتب لأنه تعالى الغفور الرحيم وله وجه وفي توصيف ذاته تعالى بالمغفرة والرحمة دون التعذيب حيث لم يقل سبحانه : وإني أنا المعذب المؤلم
(14/59)

ترجيع لجانب الوعد على الوعيد وإن كان الأليم على ما قال غير واحد في الحقيقة صفة العذاب وكذا لا يضر في ذلك الإضافة لأنها لا تقتضي حصول المضاف إليه بالفعل كما لإذا قيل ضربي شديد فإنه يصح أن يراد منه ذاك شديد إذا وقع ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة ويقوي أمر الترجيح الإتيان بالوصفين بعيغتي المبالغة وكذا ما أخرج ابن جرير وابن مردوية من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : أطلع علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال : ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقري فقال : إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إن الله تعالى يقول لم تقنط عبادي نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم الآية وتقديم الوعد أيضا يؤيد ذلك وفيه إشارة إلى سبق الرحمة حسبما نطق به الخبر المشهور
ومع هذا كله في الآية ما تخشع منه القلوب فقد أخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية : بلغنا أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ولم يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار ثم لإنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ذكر ما يحقق ذلك لما تضمنه من البشرى والإهلاك بقوله سبحانه : ونبئهم عن ضيف إبراهيم
51
- الخ وقيل : إنه تفصيل لما تضمنته الآية السابقة منهما لا من الوعيد فقط كما قيل والمراد بضيف إبراهيم الملائكة عليهم السلام الذين بشروه بالولد وبهلك قوم لوط عليه السلام وإنما سموا ضيفا لأنهم في صورة من كان ينزل به عليه السلام من الأضياف وكان لا ينزل به أحد إلا أضافه وكان لقصره عليه السلام أربعة أبواب من كل جهة باب لئلا يفوته أحد ولذا كان يكنى أبا الضيفان واختلف في عددهم كما تقدم وهو في الأصل مصدر والأفصح أن لا يثني ولا يجمع ولا يؤنث للمثنى والمجموع والمؤنث فلا حاجة إلى تكلف إضمار أي أصحاب ضيف كما قاله النحاس وغيره ولم يتعرض سبحانه لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط عليه السلام كما يأتي إن شاء الله تعالى ذكره
وقرأ أبو حيوة ونبيهم بإبدال الهمزة ياء إذ دخلوا عليه نصب على أنه مفعول بفعل محذوف معطوف على نبيء أي واذكر وقت دخولهم عليه أو ظرف لضيف بناء على أنه مصدر في الأصل وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له بناء على أنه مصدر الآن مضاف إلى المفعول حيث كان التقدير أصحاب ضيف حسبما سمعته عن النحاس وغيره وأن يكون ظرفا لخبر مضافا إلى ضيف أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه فقالوا عند ذلك : سلاما مقتطع من جملة محكية بالقول وليس منصوبا به أي سلمت سلاما من السلامة أو سلمنا سلاما من التحية وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولا سلاما قال إنا منكم وجلون
52
- أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه وقوله عليه السلام هذا كان عند غير واحد بعد أن قرب إليهم العجل الحنيد فلم يأكلوا منه وكان العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما يقدم له ظنوا أنه لم يجيء بخير وقيل : كان
(14/60)

عند ابتداء دخولهم حيث دخلوا عليه عليه الصلاة و السلام بغير إذن وفي وقت لا يطرق في مثله وتعقب بأنه لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا به ولم يكن عليه السلام ليقرب إليهم الطعام وأيضا قوله تعالى : فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ظاهر فيما تقدم ولعل هذا التصريح كان بعد ألا يجلس
وقيل : يحتمل أن يكون القول هنا مجازا بأن يكون قد ظهرت عليه عليه الصلاة و السلام مخايل الخوف حتى صار كالقائل المصرح به وإنما لم يذكر هنا تقريب الطعام اكتفاء بذكره في غير هذا الموضع كما لم يذكر رده عليه السلام السلام عليهم لذلك وقد تقدم ما ينفعك هنا مفصلا في هود فتذكر
قالوا لا توجل لا تخف وقرأ الحسن لا توجل بضم التاء مبنيا للمفعول من الإيجاد وقريء لا تواجل من واجله بمعنى أوجله و لا تاجل بإبدال الواو ألفا كما قالوا تابة في توبة
إنا نبشرك استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهي بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانا طويا
بغلام هو إسحاق عليه السلام لأنه قد صرح به في موضع آخر وقد جعل سبحانه البشارة هنا لإبراهيم وفي آية أخرى لامرأته ولكل وجهة ولعلها هنا كونها أوفق بأنباء العرب عما وقع لجدهم الأعلى عليه السلام ولعله سبحانه لم يتعرض ببشارة يعقوب اكتفاء بما ذكر في سورة هود والتنوين للتعظيم أي بغلام عظيم القدر عليم
53
- ذي علم كثير قيل : أريد بذلك الإشارة إلى أنه يكون نبيا فهو على حد قوله تعالى : وبشرناه بإسحاق نبيا قال أبشرتموني بذلك على أن مسني الكبر وأثر في والإستفهام للتعجب و على بمعنى مع مثلها في قوله تعالى : وآتى المال على حبه على أحد القولين في الضمير والجار والمجرور في موضع الحال فيكون قد تعجب عليه السلام من بشارتهم إياه مع هذه الحال المنافية لذلك ويجوز أن يكون الإستفهام للإنكار و على على ما سمعت بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون البشارة مع الحال المذكورة وزعم بعض المنتمين إلى أهل العلم أن الأولى جعل على بمعنى في مثلها في قوله تعالى : ودخل المدينة على حين غفلة وقوله سبحانه : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان لوجهين الإستغناء عن التقرير وكون المصاحبة لصدقها بأول المس لا تنافي البشارة وهو لعمري ضرب من الهذيان كما لا يخفى على إنسان ثم أنه عليه السلام زاد في ذلك فقال فبم تبشرون
54
- أي فبأي أعجوبة تبشرون أو بأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يقع عادة بشارة بغير شيء وجوز أن تكون الباء للملابسة والإستفهام سؤال عن الوجه والطريقة أي تبشرون لمتلبسين بأي طريقة ولا طريق لذلك في العادة
وقرأ الأعرج بشرتمون بغير همزة الإستفهام وابن محيصن الكبر بضم الكاف وسكون الباء
وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة بدون ياء على إدغام نون الجمع في نون الوقاية والإكتفاء بالكسرة عن الياء
وقرأ نافع بكسر النون مخففة واعترض على ذلك أبو حاتم بأن مثله لا يكون إلا في الشعر وهو مما لا يلتفت إليه وخرج على حذف نون الرفع كما هو مذهب سيبويه استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية على الياء وقيل : حذفت نون الوقاية وكسرت نون الرفع وحذفت الياء اجتزاء بالكسرة وحذفها كذلك كثير فصيح وقد قريء به في مواضع عديدة ورجع الأول بقلة المؤنة واحتمال عدم حذف نون في هذه القراءة بأن يكون اكتفى بكسر نون الرفع من أول الأمر خلاف المنقول في كتب النحو والتصريف
(14/61)

وقرأ الحسن كابن كثير إلا أنه أثبت الياء وباقي السبعة يقرؤون بفتح النون وهي نون الرفع
قالوا بشرناك بالحق أي بالأمر المحقق لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق وهو أمر من له الأمر القادر على خلق الولد من غير أبوين فكيف بإيجاده من شيخ وعجوز فلا تكن من القانطين
55
- أي الآيسين من خرق العادة لك فإن ظهور الخوارق على يد الأنبياء عليهم السلام كثير حتى لا يعد بالنسبة إليهم مخالفا للعادة وكأن مقصده عليه السلام استعظام نعمته تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبني على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده جل وعلا لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته جل جلاله فإنه عليه السلام بل النبي مطلقا أجل قدرا من ذلك وينبيء عنه قول الملائكة عليهم السلام : فلا تكن من القانطين على ما فيه من المبالغة دون أن يقولوا : من الممترين ونحوه قال ومن يقنط إستفهام إنكاري أي لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون
56
- أي الكفرة المخطئون طريق معرفة الله تعالى فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته سبحانه وتعالى وهذا كقول ولده يعقوب : إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ومراده عليه السلام نفى القنوط عن نفسه بأبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة على وفي التعرض لعنوان الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة
وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وأبو عمرو في رواية القنطين والنحويان : والأعمش يقنط بكسر النون وباقي السبعة بفتحها وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأشهب بضمها وهو شاذ وماضيه مثله في التثليب : واستدل بالآية على تفسير الضالين بما سمعت لما سمعت من الآية على أن القنوط وهو كما قال الراغب : اليأس من الخير كفر والمسئلة خلافية والشافعية على أن ذاك وكذا إلا من المكر من الكبائر للحديث الموقوف على ابن مسعود أو المرفوع من الكبائر الإشراك بالله تعالى واليأس من روح الله تعالى والأمن من مكر الله تعالى وقال الكمال بن أبي شريف : العطف على الإشراك بمعنى مطلق الكفر يقتضي المغايرة فإن أريد باليأس إنكار سعة الرحمة الذنوب وبالأمن اعتقاد أنه لا مكر فكل منهما كفر اتفاقا لأنه رد للقرآن العظيم وإن أريد استعظام الذنوب واستبعاد العفو عنها استبعادا يدخل في حد اليأس وغلبة الرجل المدخل له في حد الأمن فهو كبيرة اتفاقا أه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر
قال فما خطبكم أي أمركم وشأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة أيها المرسلون
57
- لعله عليه السلام علم أن كمال المقصود ليس البشارة من مقالة لهم في أثناء المحاورة مطوية هنا وتوسيط قال بين كلاميه عليه السلام مشيرا إلى أن هناك ما طوى ذكره وخطابه لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجردا عن ذلك مع تصديره بالفاء ظاهر في أن مقالتهم المطلوبة كانت متضمنة ما فهم منه ذلك فلا حاجة إلى الإلتجاء إلى أن علمه عليه السلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبشارة ى تحتاج إلى عدد ولذلك اكتفى بواحد في زكريا ومريم عليهما السلام ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدأوا بها على أن فيما ذكر بحثا فقد قيل : أن التعذيب كالبشارة لا يحتاج أيضا إلى العدد ألا يرى أن جبريل عليه السلام قلب مدائنهم بأحد جناحيه وأيضا يرد على قوله : ولذلك اكتفى الخ
(14/62)

أن زكريا عليه السلام لم يكتف في بشارته بواحد كما يدل عليه قوله تعالى : فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى وأما مريم عليها السلام فإنما جاءها الواحد لنفخ الروح والهبة كما يدل عليه قوله : لأهب لك غلاما زكيا وقوله تعالى : فنفخنا فيه من روحنا وأما التبشير فلازم لتلك الهبة وفي ضمنها وليست مقصودة بالذات وأيضا يخدش قوله : ولو كانت تمام المقصود لابتدأوا بها ما في قصة مريم عليها السلام قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا
فيجوز أن يكون قولهم : لا توجل تمهيدا للبشارة وأجيب عن هذا بأنه لا ورود له لأن مريم عليها السلام لنزاهة شأنها أول ما أبصرته متمثلا عاجلته بالإستعاذة فلم تدعه يبتديء بالبشارة بخلاف ما نحن فيه وعما تقدم بأن المعنى إن العادة الجارية بين الناس ذلك فيرسل الواحد للبشارة والجمع لغيرها من حرب وأخذ ونحو ذلك والله تعالى يجري الأمور للناس على ما أعتادوه فلا يرد قصة جبريل عليه السلام في ذلك وإن قيل : المراد بالملائكة في تلك الآية جبريل عليه السلام كقولهم فلأن يركب الخيل ويلبس الثياب أي الجنس الصادق بالواحد من ذلك قاله بعض المحققين وتعقب ما تقدم من كون العلم من كلام وقع في أثناء المحاورة وطوى ذكره بأنه بعيد وتوسيط قال والفاء والخطاب بعنوان الرسالة لا يقربه أما الأول فلجواز أن يكون لما أن هناك انتقالا إلى بحث آخر ومثله كثير في الكلام وأما الثاني فلجواز أن تكون فصيحة على معنى إذا تحقق هذا فأخبروني ما أمركم الذي جئتم له سوى البشرى وأما الثالث فلجواز أن يقال : أنه عليه السلام لم يعلم بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى إلا بعد البشارة ولم يك يحسن خطابهم بذلك عند الإنكار أو التعجب من بشارتهم وكذا لا يحسن في الجواب كما لا يخفى على أرباب الأذواق السليمة بل قد يقال : إنه لا يحسن أيضا عند قوله : إنا منكم وجلون على تقدير أن يكون علم عليه السلام ذلك قبل البشارة لما أن المقام هناك ضيق من أن يطال فيه الكلام بنحو ذلك الخطاب فتدبر
قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين
58
- هم قوم لوط عليه السلام وجيء بهم بطريق التنكير ووصفوا بالإجرام استهانة بهم وذما لهم إلا آل لوط قال الزمخشري : يجوز أن يكون استثناء من قوم بملاحظة الصفة فيكون الإستثناء منقطعا لأنهم ليسوا قوما مجرمين واحتمال التغليب مع هذه الملاحظة ليتصل الإستثناء ليس مما يقتضيه المقام ولو سلم فغير ضار فيما ذكر لأنه مبني على الحقيقة ولا ينافي صحة الإتصال على تقدير آخر ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستتر في مجرمين فيكون الإستثناء متصلا لرجوع الضمير إلى القوم فقط فيكون الآل على الأول مخرجين من حكم الإرسال المراد به إرسال خاص وهو ما كان للإهلاك لا مطلق البعث لاقتضاء المعنى له وقوله تعالى إنا لمنجوهم أجمعين
59
- خبر إلا بناء على ما سمعت سابقا وعن الرضى أن المستثنى المنقطع منتصب عند سيبويه بما قبل إلا من الكلام كما انتصب المتصل به وإن كانت إلا بمعنى لكن وأما المتأخرون من البصريين فلما رأوها بمعنى لكن قالوا أنها الناصبة بنفسها نصب لكن للأسماء وخبرها في الأغلب محذوف نحو جاءني القوم إلا حمار أي لكن حمارا لم يجيء قالوا وقد يجيء خبرها ظاهرا نحو قوله تعالى إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم وقال الكوفيون إلا في ذلك بمعنى سوى والنصب بعدها في الإنفصال كالنصب في الإتصال وتأويل البصريين أولى لأن المستثنى المنقطع يلزم مخالفته لما قبله نفيا وإثباتا كما في لكن وفي سوى لا يلزم ذلك لأنك تقول : لي عليك ديناران
(14/63)

سوى الدينار الفلاني وذلك إذا كان صفة وأيضا معنى لكن الإستدراك والمراد به فيها دفع توهم المخاطب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها مع أنه ليس بداخل وهذا هو معنى الإستثناء المنقطع بعينه انتهى وزعم بعضهم أن في كون إلا الإستثنائية تعمل عمل لكن خفاء من جهة العربية وقال : إنه في المعنى خبر وليس خبرا حقيقيا كما صرح به النحاة ومما نقلناه يعلم ما فيه من النظر نعم صرح الزمخشري بأن الجملة على تقدير الإنقطاع جارية مجرى خبر لكن وهو ظاهر في أنها ليست خبرا في الحقيقة وذكر أنه إنما قال ذلك لأن الخبر محذوف أي لكن آل لوط ما أرسلنا إليهم والمذكور دليله لتلازمهما ولذا لم يجعله نفس الخبر بل جار مجراه وفيه غفلة عن كونه مبينا على ما نقل عن سيبويه وزعم بعض أنه قال ذلك لأن الجملة المصدرة بأن يمتنع أن تكون خبرا للكن فليراجع وقيل : قال ذلك لأن المذكور إلا لا لكن وهو كما ترى وعلى تقدير الإتصال يكون الآل مخرجين من حكم المستثنى منه وهو الإجرام داخلين في حكم الإرسال بمعنى البعث مطلقا فيكون الملائكة قد أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء وجملة إنا لمنجوهم على هذا مستأنفة إستئنافا بيانا كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم حين قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط فما حال آل لوط فقالوا : إنا لمنجوهم الخ وقوله سبحانه : إلا امرأته على التقديرين عند جار الله مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم ولم يجوز أن يكون من الإستثناء من الإستثناء في شيء قال : لأن ذلك إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه كقول المطلق أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة والمقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما وههنا اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين و إلا امرأته تعلق بمنجوهم فأنى يكون استثناء من استثناء انتهى
وقد يتوهم أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك فلا اختلاف إذ التقدير إلا آل لوط لم نهلكهم فهو بمعنى منجوهم فيكون من الإستثناء من الإستثناء على أحد التقديرين وأجاب عن ذلك صاحب التقريب بأن شرط الإستثناء المذكور لا يتخلل لفظ بين الإستثنائين متعدد يصلح أن يكون مستثنى منه وههنا قد تخلل منجوهم ولو قيل إلا آل لوط إلا امرأته لجاز ذلك وتعقب بأنه لا يدفع الشبهة لأن السبب حينئذ في امتناعه وجود الفاصل لا اختلاف الحكمين فلا وجه للتعبير به عنه وفي الكشف المراد من اتحاد الحكم اتحاده شخصا وعددا فلا يرد أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك قوله سبحانه : إنا لمنجوهم وقوله تعالى : إلا آل لوط في معنى واحد فالإستثناء من الأول في المعنى وإنما شرط الإتحاد لأن المتصل كاسمه لا يجوز تخلل جملة بين العصا ولحائها وكذلك في المنقطع وبه يتضح حال ما تقدم أتم اتضاح وفيه أيضا فإن قلت : لم لا يرجع الإستثناء إليهما قلت : لأن الإستثناء متعلق بالجملة المستقلة والخلاف في رجوعه إلى الجملتين فصاعدا لا إلى جملة وبعض جملة سابقة هذا والمعنى مختلف في ذلك ومحل الخلاف الجمل المتعاطفة لا المنقطع بعضها عن بعض انتهى والأمر كما ذكر في تعيين محل الخلاف والمسئلة قل من تعرض لها من النحاة وفيها مذاهب الأول هو الأصح وعليه ابن مالك أن الإستثناء يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض كما في قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم الآية فإن إلا الذين فيه عائد إلا فسقهم وعدم قبول شهادتهم معالا إلى الجلد للدليل ولا يضر اختلاف العامل لأن ذلك مبني على أن إلا هي العاملة الثاني أنه يعود للكل إن سيق الكل لغرض واحد نحو حبست داري على أعمامي ووقفت بستاني على أخوالي وسبلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا وإلا فللا خيرة فقط نحو أكرم
(14/64)

العلماء وأحبس دارك على أقاربك وأعتق عبيدك إلا الفسقة منهم الثالث إن كان العطف بالواو عاد للكل أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة وعليه ابن الحاجب الرابع أنه خاص بالأخيرة واختاره أبو حيان الخامس إن اتحد العامل فللكل أو اختلف فللأخيرة إذ لا يمكن حمل المختلفات في مستثنى واحد وعليه ألبها بأذى وهو مبني على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون إلا هذا ويوهم كلام بعضهم أنه لو جعل الإستثناء من آل لوط لزم أن تكون امرأته غير مهلكة أو غير مجرمة وهو توهم فاحش لأن الإستثناء من آل لوط إن قلنا به بملاحظة الحكم عليهم بالإنجاء وعدم الإهلاك أو بعدم الإجرام والصلاح فتكون الامرأة محكوما عليه بالإهلاك أو الإجرام ويرشدك إلى هذا ما ذكره الرضي فيما إذا تعدد الإستثناء وأمكن إستثناء كل تال من متلوه نحو جاءني المكيون إلا قريشا إلا بني هاشم إلا بني عقيل حيث قال : لا يجوز في الموجب حينئذ في كل وتر إلا النصب على الإستثناء لأنه عن موجب والقياس أن يجوز في كل شفع الإبدال والنصب على الإستثناء لأنه عن غير موجب والمستثنى منه مذكور والكلام في وتر وشفع غير الموجب على عكس هذا وهو مبني على ما ذهب إليه الجمهور من أن الإستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي خلافا للكسائي حيث قال : إن المستثنى مسكوت عن نفي الحكم عنه أو ثبوته له ولا دلالة في الكلام على شيء من ذلك واستفادة الإثبات في كلمة التوحيد من عرف الشرع وكما وقع الخلاف في هذه المسئلة بين النحويين وقع بين الأئمة المجتهدين وتحقيق ذلك في محله واختار ابن المنير كون آل لوط مستثنى من قوم مجرمين على أنه منقطع قال : وهو أولى وأمكن لأن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعدا من حيث أن موقع الإستثناء إخراج مالولاه لدخل المستثنى في حكم الأول وهنا الدخول متعذر مع التنكير ولذلك فلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ تعم فيتحقق الدخول لولا الإستثناء ومن ثمة لم يحسن رأيت قوما إلا زيدا وحسن ما رأيت أحدا إلا زيدا انتهى
ورد بأن هذا ليس نظير رأيت قوما إلا زيدا بل من قبيل رأيت قوما أساءوا إلا زيدا فالوصف يعينهم ويجعلهم كالمحصورين قال في همع الهوامع : ولا يستثنى من النكرة في الموجب ما لم تفد فلا يقال : جاء قوم إلا رجلا ولا قام رجال إلا زيدا لعدم الفائدة فإن أفاد جاز نحو فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وقام رجال كانوا في دارك إلا رجلا على أن المراد بالقوم أهل القرية كما صرح به في آية أخرى فهم معنى محصورون ونقل المدقق عن السكاكي أنه صرح في آخر بحث الإستدلال من كتابه بأن الإستثناء من جمع غير محصور جائز على المجاز مع أن بعض الأصوليين أيضا جوزوا الإستثناء من النكرة في الإيجاب وأطلقوا القول في ذلك نعم المصرح به في كثير من كتب النحو نحو ما في الهمع
وزعم بعضهم أنه ينبغي أن يكون الإستثناء من الظاهر والضمير منقطعا وعلل ذلك بأن الضمير في الصفة هو عين الموصوف المقيد بالصفة وذكر الجلال السيوطي أن بعض الفضلاء رفع هذا مع عدة أسئلة نثرا ونظما إلى الكمال بن الهمام ولم يذكر أنه أجاب عنها والجواب عما زعمه هنا قد مرت إليه الإشارة وأما الجواب عن سائر ما استشكله وسئل عنه الكمال فيغني عنه الإطلاع على السؤال فإنه مما يتعجب منه ومن هنا قال الشهاب : أظن أن ابن الهمام إنما سكت عن جواب ذلك لوضوح اندفاعه وأنه لا ينبغي أن يصدر عمن تحلى بحلية الفضل نعم بعد كل حساب الذي ينساق إلى الذهن أن الإستثناء من الظاهر لكن الرضى أنه إذا اجتمع شيآن فصاعدا يصلحان لأن يستثنى منهما فهنالك تفصيل فإما أن يتغايرا معنى أولا فإن تغايرا وأمكن اشتراكهما في
(14/65)

ذلك الإستثناء بلا بعد اشتراكا فيه نحو ما بر أب وابن إلا زيدا أي زيد أب بار وابن بار فإن لم يكن الإشتراك نحو ما فضل ابن أبا إلا زيدا أو كان بعيدا نحو ما ضرب أحد أحدا إلا زيدا فإن الأغلب مغايرة الفاعل للمفعول نظرنا فإن تعين دخول المستثنى في أحدهما دون الآخر فهو استثناء منه وليه أو لا نحو ما فدى وصى نبيا إلا عليا كرم الله تعالى وجهه وإن احتمل دخوله في كل واحد منهما فإن تأخر عنهما المستثنى فهو من الأخير نحو ما فضل ابن أبا إلا زيدا وكذا ما فضل أبا ابن إلا زيد لأن اختصاصه بالأقرب أولى لما تعذر رجوعه إليهما وإن تقدمهما معا فإن كان أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى فالإستثناء منه لأن مرتبته بعد الفعل فكأن الإستثناء وليه بعده نحو ما فضل إلا زيدا أبا ابن أو من ابن وإن لم يكن أحدهما مرفوعا فالأول أولى به لقربه نحو ما فضلت إلا زيدا واحدا على أحد ويقدر للأخير عامل وإن توسطهما فالمتقدم أحق به لأن أصل المستثنى تأخره عن المستثنى منه نحو ما فضل أنا إلا زيد ابن ويقدر أيضا للأخير عامل وإن لم يتغايرا معنى اشتركا فيه وإن اختلف العاملان فيهما نحو ما ضرب أحد وما قتل إلا خالدا لأن فاعل قتل ضمير أحد انتهى
وجزم ابن مالك فيما إذا تقدم شيآن مثلا يصلح كل منهما للإستثناء منه بأن الإستثناء من الأخير وأطلق القول في ذلك فليتأمل ذاك مع ما نحن فيه وقال القاضي البيضاوي : إنه على الإنقطاع يجوز أن يجعل إلا امرأته مستثنى من آل لوط أو من ضمير منجوهم وعلى الإتصال بتعيين الثاني لاختلاف الحكمين اللهم إلا إذا جعلت جملة أنا لمنجوهم معترضة انتهى ومخالفته لما نقل عن الزمخشري ظاهرة حيث جوز الإستثناء من المستثنى في الإنقطاع ومنعه الزمخشري مطلقا وحيث جعل اختلاف الحكمين في الإتصال وأثبته الزمخشري مطلقا أيضا وبين اختلاف الحكمين بنحو ما بين به في كلام الزمخشري ولم يرتض ذلك مولانا سرى الدين وقال : المراد بالحكمين الحكم المفاد بطريق استثناء الثاني من الأول وهو على تقدير الإتصال إجرام الإمرأة والحكم المقصود بالإفادة وهو الحكم عليها بالإهلاك وبين إتحاد هذا الحكم المقصود مع الحكم المفاد بالإستثناء على تقدير الإنقطاع بأنه على ذلك التقدير تكون إلا بمعنى لكن و إنا لمنجوهم خبرا له ثابتا للآل فيكون الحكم الحاصل من الإستثناء منه بعينه هو الحكم المقصود بالإفادة ويقال على تقدير الإتصال والإعتراض : إن الحكمين وإن اختلفا ظاهرا إلا أنه لما كانت الجملة المعترضة كالبيان لما يقتضيه الإستثناء الأول كان في المعنى كأنه هو وصار الإخراج منه كالإخراج منه وهذا بخلاف ما إذا كان استئنافا فإنه يكون منقطعا عنه ويكون جوابا لسؤال مقدر ولا يتم الجواب بدون الإستثناء ولا يخلو عن الإعتراض وقال بعضهم في توجيه الإستثناء على هذا : إن هناك حكمين الإجرام والإنجاء فيجر الثاني الإستثناء إلى نفسه كيلا يلزم الفصل إلا إذا اعتراضا فإن فيه سعة حتى يتخلل بين الصفة وموصوفها فيجوز أن يكون استثناء من آل لوط ولذا جوز الرضي أن يقال : أكرم القوم والنحاة بصريون إلا زيدا ويرد عليه أن كون الحكم المفاد بالإستثناء غير الحكم المقصود بالإفادة باقيا بحاله ولا يحتاج الأمر إلى ما سمعت وهو كما سمعت والذي ينساق إلى الذهن ما ذكره الزمخشري وفي الحواشي الشهابية أنه الحق دراية ورواية أما الأول فلأن الحكم المقصود بالإخراج منه هو الحكم المخرج منه الأول والثاني حكم طاريء من تأويل إلا بلكن وهو أمر تقديري وأما الثاني فلما ذكر في التسهيل من أنه إذا تعدد الإستثناء فالحكم المخرج منه حكم الأول ومما يدل عليه أنه لو كان الإستثناء مفرغا في هذه الصورة كما إذا قلت : لم يبق في الدار إلا اليعافير أبقاها الزمان إلا يعفور صيد منها فإنه يتعين إعرابه بحسب العامل الأول كقولك :
(14/66)

ما عندي إلا عشرة إلا ثلاثة ثم أن كلامه مبني على أمر ومانع معنوي لا على عدم جواز تخلل كلام منقطع بين المستثنى والمستثنى منه كما قيل وأن كان مانعا أيضا كما صرح به الرضي فتدبر انتهى فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك وقرأ الأخوان لمنجوهم بالتخفيف
قدرنا إنها لمن الغابرين
60
- أي الباقين في عذاب الله تعالى كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أو الباقين مع الكفرة لتهلك معهم وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع وقرأ أبو بكر عن عاصم قدرنا بالتخفيف وكسرت همزة أن لتعليق الفعل بوجود لام الإبتداء التي لها صدر الكلام وعلق مع أن التعليق في المشهور من خواص أفعال القلوب قال الزمخشري لتضمن فعل التقدير معنى العلم ولذلك فسره العلماء تقدير الله تعالى أفعال العباد بالعلم والمراد بتضمنه ذلك قيل المعنى المصطلح وقيل : التجوز عن معناه الذي كأنه في ضمنه لأنه لا يقدر إلا ما يعلم ذكره المدقق توجيها لكلام الزمخشري ثم قال : وليس ذلك من باب تضمين الفعل معنى فعل آخر في شيء حتى يتعرض بأنه لا ينفع الزمخشري لبقاء معنى الفعلين نعم هو على أصلهم من أنه كناية معلوم محقق لا مقدر مراد وقال القاضي : جاز أن يقال : أجرى مجرى القول لأن التقدير بمعنى القضاء قول وأما أنا فلا أنكر على جار الله أن التعليق لتضمن معنى العلم وإنما أنكر نفي كونه مقدورا مرادا انتهى وإنما أنكره لأنه اعتزال تأباه الظواهر ومن هنا قال إبراهيم النخعي فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم : بيني وبين القدرية هذه الآية وتلاها والظاهر أن هذا من كلام الملائكة عليهم السلام وإنما أسندوا ذلك إلى أنفسهم وهو فعل الله سبحانه لما لهم من الزلفى والإختصاص وهذا كما يقول حكاشية السلطان أمرنا ورسمنا بكذا والآمر هو في الحقيقة وقيل : ولا يخفى بعده هو من كلام الله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل قيل : وكذا لا يحتاج إليه إذا كان المراد بالتقدير العلم مجازا
فلما جاء ءال لوط المرسلون
61
- شروع في بيان إهلاك المجرمين وتنحية آل لوط ووضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من ذلك وليس المراد به ابتداء مجيئهم بل مطلق كينونتهم عند أل لوط فإن ما حكى عنه عليه السلام بقوله تعالى قال إنكم قوم منكرون
62
- إنما قاله عليه السلام بعد اللتيا والتي حين ضاقت عليه الحيل وعيت به العلل ولم يشاهد من المرسلين عند مقاساة الشدائد ومعاناة المكائد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهود والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجثمه في تخليصهم إنكارا لخذلانهم وتركهم نصره في المثل المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا عليهم السلام مباشرين معه لأسباب المدافعة والممانعة حتى ألجأته إلى أن قال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد حسبما فصل في سورة هود لا أنه عليه السلام قاله عند ابتداء ورودهم له على معنى أنكم قوم تنكركم نفسي وتنفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر كما قيل كيف لا وهم بحوا بهم المحكي بقوله سبحانه قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون
63
- أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون ويشكون ويكذبون فيه قد قشروا العصا وبينوا له عليه السلام جلية الأمر فأنى يعتريه بعد ذلك المساءة وضيق الذرع قاله العلامة أبو السعود وهو كلام معقول وجعل يل إضرابا عما حسبه عليه السلام من ترك النصرة له والمعنى
(14/67)

ماخذلناك وما خلينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمرهم من العذاب الذي كانوا يكذبونك فيه حين تتوعدهم به
وجعله غير واحد بعد أن فسر قوله عليه السلام : بما سمعت إضرابا عن موجب الخوف المذكور على معنى ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك عن عدوك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم به ويكذبونك ولم يقولوا بعذابهم مع حصول الغرض ليتضمن الكلام الإستئناس من وجهين تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه السلام ففيه تذكير لما كان يكابد منهم من التكذيب قيل : وقد كنى عليه السلام عن خوفه ونفاره بأنهم منكرون فقابلوه عليه السلام بكناية أحسن وأحسن ولا يمتنع فيما أرى حمل الكلام على الكناية على ما نقلناه عن العلامة أيضا ولعل تقديم هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهل المدينة من المجادلة كما قال للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه السلام بإهلاك قومه المجرمين وتنحية آله عقيب ذكر بشارة إبراهيم عليه السلام بهما وحيث كان ذلك مستدعيا لبيان كيفية النجاة وترتيب مباديها أشير إلى ذلك إجمالا ثم ذكر فعل القوم وما فعل بهم ولم يبال بتغيير الترتيب الوقوعي ثقة بمراعاة في موضع آخر ونسبة المجيء بالعذاب إليه عليه السلام مع أنه نازل بالقوم بطريق تفويض أمره إليه كأنهم جاؤه به وفوضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعدهم به فالباء للتعدية وجوز أن تكون للملابسة وجوز الوجهان في الباء في قوله سبحانه : وأتينك بالحق أي بالأمر المحقق المتيقن الذي لا مجال للإمتراء والشك فيه وهو عذابهم عبر بذلك تنصيصا على نفي الإمتراء عنه وجوز أن يراد بالحق الإخبار بمجيء العذاب المذكور
وقوله تعالى : وإنا لصادقون
64
- تأكيد له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر الحق أي المطابق للواقع وإنا لصادقون في ذلك الخبر أو في كل خبر فيكون كالدليل على صدقهم فيه وعلى الأول تأكيدا أثر تأكيدا ومن الناس من جوز كون الباء للملابسة وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المفعول ولا يخفى حاله
فأسر بأهلك شروع في ترتيب مباديء النجاة أي اذهب بهم في الليل وقرأ الحجازيان بالوصل على أنه من سرى لا من أسرى كما في قراءة الجمهور وهما بمعنى على ما ذهب إليه أبو عبيدة وهو سير الليل وقال الليث : يقال : أسرى في السير أول الليل وسرى في السير آخره وروى صاحب الأقليد فسر من سار وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني وهو عام وقيل : إنه مختص في السير بالنهار وليس مقلوبا من سرى
بقطع من الليل بطائفة منه أو من آخره ومن ذلك قوله : افتحي الباب وانظري في النجوم كم علينا من قطع ليل بهيم وقيل : هو بعد ما مضى منه شيء صالح وفي الكلام تأكيد أو تجريد على قراءة الجماعة على ما قيل وعلى قراءة سر لا شيء من ذلك وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى وحكى منذر بن سعيد أن فرقة قرأت بقطع بفتح الطاء وأتبع أدبارهم وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على أحوالهم ولعل إيثار الإتباع على السوق مع أنه المقصود بالأمر كما قيل للمبالغة في ذلك إذ السوق ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزمه عادة الغفلة عن حال المتأخر والإلتفات المنهي عنه بقوله تعالى : ولا يلتفت منكم أي منك
(14/68)

ومنهم أحد فيرى ما وراءه من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه العذاب فالإلتفات على ظاهره وجوز أن يكون المعنى لا ينصرف أحدكم ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما يصيب المجرمين فالإلتفات مجاز لأن الإلتفات إلى الشيء يقتضي محبته وعدم مفارقته فيتخلف عنده وذكر جار الله أنه لما بعث الله تعالى الهلاك على قومه ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا لم يكن له بد من الإجتهاد في شكر الله تعالى وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه وليكون مطاعا عليهم وعلى أحوالهم فلا ترط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ولئلا يتخلف أحد منهم لغرض فيصيبه العذاب وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به ونهوا عن الإلتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم فيرقوا لهم وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ويمضوا قدما غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوى له أخادعه كما قال : تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا أو جعل النهي عن الإلتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لأن من يلتفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة أه قال المدقق : وخلاصة ذلك أن فائدة الأمر والنهي أن يهاجر عليه الصلاة و السلام على وجه يمكنه وأهله التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره وفيه مع ذلك إرشاد إلى ما هو أدخل في الحزم للسير وأدب المسافرة وما على الأمير والمأمور فيها وتنبيه على كيفية السفر الحقيقي وأنه أحق بقطع العوائق وتقديم العلائق وأحق وإشارة إلى أن الإقبال بالكلية على الله تعالى إخلاص فلله تعالى در التنزيل ولطائفه التي لا تحصى أه وأنت تعلم أن كون الفائدة المهاجرة على وجه يمكن التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره غير متبادر كما لا يخفى ولعله لذلك تركه بعض مختصري كتابه وإنما لم يستثن سبحانه الإمرأة عن الإسراء أو الإلتفات اكتفاء بما ذكر في موضع آخر وليس نحو ذلك بدعا في التنزيل وأمضوا حيث تؤمرون
65
- قيل : أي إلى حيث يأمركم الله تعالى بالمضي إليه وهو الشام على ما روي عن ابن عباس والسدي وقيل : مصر وقيل : الأردن وقيل : موضع نجاة غير معين فعدى امضوا إلى حيث وتؤمرون إلى الضمير المحذوف على الإتساع
واعترض بأن هذا مسلم في تعدية تؤمرون إلى حيث فإن صلته وهي الباء محذوفة إذ الأصل تؤمرون به أي بمضيه فاوصل بنفسه وأما تعدية امضوا إلى حيث فلا اتساع فيها بل هي على الأصل لكونه من الظروف المبهمة إلا أن يجعل ما ذكر تغليبا وأجيب بأن تعلق حيث بالفعل هنا ليس تعلق الظرفية ليتجه تعدي الفعل إليه بنفسه لكونه من الظروف المبهمة فإنه مفعول به غير صريح نحو سرت إلى الكوفة وقد نص النحاة على أنه قد يتصرف فيه فالمحذوف ليس في بل إلي فلا إشكال أه والمذكور في كتب العربية أن الأصل في حيث أن تكون ظرف مكان وترد للزمان قليلا عند الأخفش كقوله : للفتى عقل يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه أراد حين تهدي ولا تستعمل غالبا إلا ظرفا وندر جرها بالباء في قوله
كان منا بحيث يفكي الإزار
ويالي في قوله
إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
وبفي في قوله : فأصبح في حيث التقينا شريدهم طليق ومكتوف اليدين ومرعف
(14/69)

وقال ابن مالك : تصرفها نادر ومن وقوعها مجردة عن الظرفية قوله : إن حيث استقر من أنت راعيه حمى فيه عزة وأمان فحيث اسم إن وقال أبو حيان : إنه غلط لأن كونها اسم إن فرع عن كونها تكون مبتدأ ولم يسمع في ذلك البتة بل اسم إن في البيت حمى و حيث الخبر لأنه ظرف والصحيح أنها لا تتصرف فلا تكون فاعلا ولا مفعولا به ولا مبتدأ أه ونقل ابن هشام وقوعها مفعولا به عن الفارسي وخرج عليه قوله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته وذكر أنها قد تخفض بمن وبغيرها وأنها لا تقع إسما لأن خلافا لابن مالك وزعم الزجاج أنها اسم موصول ومما ذكرنا يظهر حالة التصرف فيها واعترض ما ذكره المجيب بأنه وإن رفع به إشكال التعدي لكنه غير صحيح لأنهم قد صرحوا بأن الجمل المضاف إليها لا يعود منها ضمير إلى المضاف قال نجم الأئمة : اعلم أن الظرف المضاف إلى الجملة لما كان ظرفا للمصدر الذي تضمنته الجملة لم يجز أن يعود من الجملة ضمير إليه فلا يقال : يوم قدم زيد فيه لأن الربط الذي يطلب حصوله حصل بإضافة الظرف إلى الجملة وجعله ظرفا لمضمونها فيكون كأنك قلت : يوم قدوم زيد فيه أه و حيث على ما ذكروا تلزم في الغالب الإضافة إلى الجملة وكونها فعلية أكثر وإضافتها إلى مفرد قليلة نحو
بيض المواضي حيث لي العمائم
وحيث سهيل طالعا ولا يقاس على ذلك عند غير الكسائي وأقل من ذلك عدم إضافتها لفظا بأن تضاف إلى محذوفة معوضا عنها ما كقوله
إذا ريدة من حيث ما نفحت له
أي من حيث هبت وهي هنا مضافة للجملة بعدها فكيف يقدر الضمير في يؤمرون عائدا عليها وقد نص بعضهم على أن حيث لا يصح عود الضمير عليها والذي في البحر أنها ظرف مكان مبهم تعدى إليها امضوا بنفسه كما تقول : قعدت حيث قعد زيد والظاهر أن تعلق الفعل بها كما قال المجيب ليس تعلق الظرفية فلعل ذلك مبني على تضمين فعل صالح لأن يتعلق به الظرف المذكور كالحلول والتوطن وغيرهما
ونقل عن بعضهم القول بأن حيث هنا ظرف زمان أي امضوا حين أمرتم والمراد بهذا الأمر ما سبق من قوله تعالى : فأسر بأهلك بقطع من الليل ورد بأن الظاهر على هذا أمرتم دون تؤمرون مع أن فيه استعمال حيث في أقل معنييها ورودا من غير موجب وظاهر كلام بعض الأجلة أن المضارع مستعمل في مقام الماضي على المعنى الذي أشير إليه أولا وهو يقتضي تقدم أمر بالمضي إلى مكان فإن كان فصيغة المضارع لاستحضار الصورة وإيثار المضي إلى ذلك على ما قيل دون الوصول إليه واللحوق به للإيذان بأهمية النجاة ولمراعاة لمناسبة بينه وبين ما سلف من الغابرين
وقضينا أي أوحينا إليه ذلك الأمر مقضيا مثبتا فقضى مضمن معنى أوحى ولذا عدى تعديته وجعل المضمن حالا كما أشرنا إليه أحد الوجهين المشهورين في التضمين وذلك مبهم يفسره أن دابر هؤلاء مقطوع على أنه بدل منه كما قال الأخفش وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأمر إذا جعل بيانا لذلك لا بد لا وعن الفراء أن ذاك على إسقاط الباء أي بأن دابر الخ ولعل المشار إليه بذلك الأمر عليه الأمر الذي تضمنه قوله تعالى : وامضوا حيث تؤمرون والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي أوحينا ذلك الأمر المتعلق بنجاته ونجاة آله ملابسا لبيان حال قومه المجرمين من قطع دابرهم وهو حسن إلا أنه لا يخلو عن بعد وقرأ زيد بن علي والأعمش رحمهم الله تعالى إن بكسر الهمزة وخرج على الإستئناف البياني كأنه قيل : ما ذلك الأمر فقيل في جوابه : إن دابر الخ أو على البدلية بناء على أن في
(14/70)

الوحي معنى القول قيل : ويؤيده قراءة عبدالله وقلنا إن دابر الخ وهي قراءة تفسير لا قرآن لمخالفتها لسواد المصحف والدابر الآخر وليس المراد قطع آخرهم بل استئصالهم حتى لا يبقى منهم أحد مصبحين
66
- أي داخلين في الصباح فإن الأفعال يكون للدخول في الشيء نحو أتهم وأنجد وهو من أصبح التامة حال من هؤلاء وجاز بناء على أن المضاف بعضه وقد قيل : بجوار مجيء الحال من المضاف إليه فيما كان المضاف كذلك وليس العامل معنى الإضافة خلافا لبعضهم وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها واختار أبو حيان كونه حالا من الضمير المستكن في مقطوع الراجع إلى دابر وجاز ذلك مع الإختلاف إفرادا وجمعا رعاية للمعنى لأن ذلك في معنى دابري هؤلاء فيتفق الحال وصاحبها جميعه
وقدر الفراء وأبو عبيد إذا كانوا مصبحين كما تقول : أنت راكبا أحسن منك ماشيا وتعقب بأنه إن كان تقدير معنى فصحيح وإن كان بيان إعراب فلا ضرورة تدعو إلى ذلك كما لا يخفى وجاء أهل المدينة شروع في حكاية ما صدر من القوم عند وقوفهم على مكان الأضياف من الفعل وما ترتب عليه مما أشير إليه أولا على سبيل الإجمال وهذا مقدم وقوعا على العلم بهلاكهم كما سمعت والواو لا تدل على الترتيب وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون هذا العلم بذلك وما صدر منه عليه السلام من المحاورة معهم كان على جهة التكتم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم ولا يخفى أن كون المساءة وضيق الذرع من باب التكتم والإملاء أيضا مما يأتي عنه الطبع السليم والمراد بالمدينة سذوم وبأهلها أولئك القوم المجرمون ولعل التعبير عنهم بذلك للإشارة إلى كثرتهم مع ما فيه من الإشارة إلى مزيد فظاعة فعلهم فإن اللائق بأهل المدينة أن يكرموا الغرباء الواردين على مدينتهم ويحسنوا المعاملة معهم فهم عدلوا عن هذا اللائق مع من حسبوهم غرباء واردين إلى قصد الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين وجاءوا منزل لوط عليه السلام يستبشرون
67
- مستبشرين مسرورين إذ قيل لهم : إن عنده عليه السلام ضيوفا مردا في غاية الحسن والجمال فطمعوا قاتلهم الله تعالى فيهم قال إن هؤلاء ضيفي الضيف كما قدمنا في الأصل مصدر ضافه فيطلق على الواحد والجمع ولذا صح جعله خبرا لهؤلاء وإطلاقه على الملائكة عليهم السلام بحسب اعتقاده عليه السلام لكونهم في زي الضيف وقيل : بحسب اعتقادهم لذلك والتأكيد ليس لإنكارهم ذلك بل لتحقيق اتصالهم به وإظهار اعتنائه بهم عليهم السلام وتشميره لمراعاة حقوقهم وحمايتهم عن السوء ولذلك قال : فلا تفضحون
68
- أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر أولا تفضحوني بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه يقال : فضحته فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار ويقال : فضح الصبح إذا تبين للناس واتقوا الله في مباشرتكم لما يسوءني ولا تخزون
66
- أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض بالسوء لمن أجرتهم فهو من الخزي بمعنى الذل والهوان وحيث كان التعرض لهم بعد أن نهاهم عنه بقوله : فلا تفضحون أكثر تأثيرا في جانبه عليه السلام وأجلب
(14/71)

للعار إليه إذ التعرض للجار قبل العلم ربما يتسامح فيه وأما بعد العلم والمناصبة بحمايته الذنب عنه فذاك أعظم العار عبر عليه السلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكور بسبب لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي وأمرهم بتقوى الله تعالى في ذلك وجوز أن يكون ذلك في الخزاية وهي الحياء أي لا تجعلوني أستحيي من الناس بتعرضكم بالسوء وأستظهر بعضهم الأول وإنما يصرح عليه السلام بالنهي عن نفس تلك الفاحشة قيل : لأنه كان يعرف أنه لا يفيدهم ذلك وقيل : رعاية لمزيد الأدب مع ضيفه حيث لم يصرح بما يثقل على سمعهم وتنفر عنه طباعهم ويرى الحر الموت ألذ طمعا منه وقال بعض الأجلة : المراد باتقوا الله أمرهم بتقواه سبحانه عن ارتكاب الفاحشة وتعقب بأنه لا يساعد ذلك توسيطه بين النهيين المتعلقين بنفسه عليه السلام وكذلك قوله تعالى : قالوا أو لم ننهك عن العالمين
70
- أي عن إجارة أحد منهم وحيلولتك بيننا وبينه أو عن ضيافة أحد منهم والهمزة للإنكار والواو على ما قال غير واحد للعطف على مقدر أي ألم نتقدم إليك ولم ننهك عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد من الغرباء بالسوء وكان عليه السلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه ويحول بينهم وبين من يعرضون له وكانوا قد نهوه عن تعاطي مثل ذلك فكأنهم قالوا : ما ذكرت من الفضيحة والخزي إنما جاءك من قبلك لا من قبلنا إذ لو لا تعرضك لما تتصدى له لما اعتراك ولما رآهم لا يقلعون عما هم عليه قال هؤلاء بناتي يعني نساء القوم أو بناته حقيقة وقد تقدم الكلام في ذلك واسم الإشارة مبتدأ و بناتي خبره وفي الكلام حذف أي فتزوجوهن وجوز أن يكون بناتي بدلا أو بيانا والخبر محذوف أي أطهر لكم كما في الآية الأخرى وأن يكون هؤلاء في موضع نصب بفعل محذوف أي تزوجوا بناتي والمتبادر الأول
إن كنتم فاعلين
71
- شك في قبولهم لقوله فكأنه قال : إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهور فيما أحل الله تعالى دون ما حرم والوجه الأول كما في الكشف أوجه وفي الحواشي الشهابية أنه أنسب بالشك ويفهم صنيع بعضهم ترجيح الثاني قيل لتبادره من الفعل وعلى الوجهين المفعول مقدر وجوز تنزيل الوصف منزلة اللازم وجواب الشرط محذوف أي فهو خير لكم أو فاقضوا ذلك لعمرك قسم من الله تعالى بعمر نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ما عليه جمهور المفسرين
وأخرج البيهقي في الدلائل وأبو نعيم وابن مردوية وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه و سلم وما سمعت الله سبحانه أقسم بحياة أحد غيره قال تعالى : لعمرك الخ وقيل : هو قسم من الملائكة عليهم السلام بعمر لوط عليه السلام وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول أي قالت الملائكة للوط عليهم السلام : لعمرك الخ وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهدا له وقرينة عليه فلا يرد ما قاله صاحب الفرائد من أنه تقدير من غير ضرورة ولو ارتكب مثله لأمكن إخراج كل نص عن معناه بتقدير شيء فيرتفع الوثوق بمعاني النص وأيا ما كان فعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوبا أي قسمي أو يميني أو نحو ذلك والعمر بالفتح والضم البقاء والحياة إلا أنهم التزموا الفتح في القسم لكثرة دوره فناسب التخفيف وإذا دخلته اللام التزم فيه الفتح وحذف الخبر في القسم وبدون اللام يجوز فيه النصب والرفع وهو صريح وهو مصدر مضاف للفاعل أو المفعول وسمع فيه دخول الباء وذكر الخبر
(14/72)

قليلا وذكر أنه إذا تجرد من اللام لا يتعين للقسم ونقل ذلك عن الجوهري وقال ابن يعيش : لا يستعمل إلا فيه أيضا وجاء شاذار عملي وعدوه من القلب وقال أبو الهيثم : معنى لعمرك لدينك الذي تعمر ويفسر بالعبادة وأنشد : أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان أراد عبادتك الله الله تعالى فإنه يقال على ما نقل عن ابن الأعرابي عمرت ربي أي عبدته وفلان عامر لربه أي عابد وتركت فلانا يعمر ربه أي يعبده وهو غريب وفي البيت توجيهات فقال سيبويه فيه : الأصل عمرتك الله تعالى تعميرا فحذف الزوائد من المصدر وأقيم مقام الفعل مضافا إلى مفعوله الأول ومعنى عمرتك أعطيتك عمرا بأن سألت الله تعالى أن يعمرك فلما ضمن عمر معنى السؤال تعدى إلى المفعول الثاني أعني الاسم الجليل فهو على هذا منصوب وأجاز الأخفش رفعه ليكون فاعلا أي عمرك الله سبحانه تعميرا وجوز الرضي أن يكون عمرك فيه منصوبا على المفعول به لفعل محذوف أي أسأل الله تعالى عمرك وأسأل متعد إلى مفعولين أو يكون المعنى أسألك بحق تعميرك الله تعالى أي اعتقادك بقاءه وأبديته تعالى فيكون انتصابه بحذف حرف القسم نحو الله لأفعلن وهو مصدر محذوف الزوائد مصافا إلى الفاعل والإسم الجليل مفعول به له ولا بأس بإضافة عمر إليه تعالى وقد جاء مضافا كذلك قال الشاعر : إذا رضيت على بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها وقال الأعشى ولعمر من جعل الشهور علامة منها تبين نقصها وكمالها وزعم بعضهم أنه لا يجوز أن يقال : لعمر الله تعالى لأنه سبحانه أزلي أبدي وكأنه توهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع وليس كذلك وجاء في كلامهم إضافته لضمير المتكلم قال النابغة
لعنري وما عمري علي بهين
وكره النخعي ذلك لأنه حلف بحياة المقسم ولا أعرف وجه التخصيص فإن في لعمرك خطابا لشخص حلفا بحياة المخاطب وحكم الحلف بغير الله تعالى مقرر على أتم وجه في محله
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما و عمرك بدون لام إنهم لفي سكرتهم أي لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم يعمهون
72
- يتحيرون فكيف يسمع النصح وأصل العمه عمى البصرة وهو موروث للحيرة وبهذا الإعتبار فسر بذلك والضمائر لأهل المدينة والتعبير بالمضارع بناء على المأثور في الخطاب لحكاية الحال الماضية وقيل : ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الضمائر لقريش واستبعده ابن عطية وغيره لعدم مناسبة السباق والسياق ومن هنا قيل : الجملة اعتراض وجملة يعمهون حال من الضمير في الجار والمجرور وجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في سكرتهم والعامل السكرة أو معنى الإضافة ولا يخفاك حاله وقرأ الأشهب سكرتهم بضم السين وابن أبي عبلة سكراتهم بالجمع والأعمش سكرهم بغير تاء وأبو عمرو في رواية الجهضمي أنهم بفتح الهمزة قال أبو البقاء : وذلك على تقدير زيادة اللام ومثله قراءة سعيد بن جبير ألا إنهم ليأكلون الطعام بالفتح بناء على أن لام الابتداء إنما تصحب إن المكسورة الهمزة وكأن التقدير على هذه القراءة لعمرك قسمي على أنهم فافهم
(14/73)

فأخذتهم الصيحة يعني صيحة هائلة والتعريف للجنس وقيل : صيحة جبريل عليه السلام فالتعريف للعهد وقال الإمام : ليس في الآية دلالة على هذا التعيين فإن ثبت بدليل قوي قيل به
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية : الصيحة مثل الصاعقة فكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة مشرقين
73
- داخلين في وقت شروق الشمس قال المدقق : والجمع بين مصبحين ومشرقين باعتبار الابتداء والإنتهاء بأن يكون ابتداء العذاب عند الصبح وانتهاؤه عند الشروق وأخذ الصيحة قهرها إياهم وتمكنها منهم ومنه الأخيذ الأسير ولك أن تقول : مقطوع بمعنى يقطع عما قريب انتهى وقيل : مشرقين حال مقدرة فجعلنا عاليها أي المدينة كما هو الظاهر وجوز رجوعه إلى القرى وإن لم يسبق ذكرها والمراد بعاليها وجه الأرض وما عليه وهو المفعول الأول لجعل و سافلها الثاني له وقد تقدم الكلام في ذلك وأمطرنا عليهم في تضاعيف ذلك حجارة كائنة من سجيل
74
- من طين متحجر وهو في المشهور معرب سنك كل وذهب أبو عبيد وطائفة إلى أنه عربي وأنه يقال فيه سجين بالنون واجتجوا بقول تميم من مقبل :
ضربا تواصى به الأبطال سجينا
وهو كما ترى وسئل الأصمعي عن معناه في البيت فقال : لا أفسره إذ كنت أسمع وأنا حدث سخينا بالخاء المعجمة أي سخنا وسجين بالجيم أيضا وقيل : مأخوذ من السجل وهو الكتاب أي من طين كتب عليه أسماؤهم أو كتب الله تعذيبهم به وقد مر الكلام في ذلك أيضا
إن في ذلك أي فيما ذكر من القصة لآيات لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق للمتوسمين
75
- قال ابن عباس : للناظرين وقال جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما : للمتفرسين وقال مجاهد : للمعتبرين وقيل غير ذلك وهي معان متقاربة وفي البحر التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب وقال ثعلب : التوسم النظر من القرن إلى القدم واستقصاء وجوه التعريف قال الشاعر : أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلى عريفهم يتوسم وذكر أن أصله التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة محماة في جلد البعير أو غيره ويقال : توسمت فيه خيرا أي ظهرت علاماته لي منه قال عبدالله بن رواحة في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أني ثابت البصر والجار والمجرور في موضع الصفة لآيات أو متعلق به وهذه الآية على ما قال الجلال السيوطي أصل في الفراسة فقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى ثم قرأ الآية وكان بعض المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام جريا على طريق إياس بن معاوية وإنها أي المدينة المهلكة وقيل القرى لبسبيل مقيم
76
- أي طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها وقيل : الضمير للآيات وقيل : للحجارة وقيل : للصيحة أي وإن الصيحة لبمرصد لمن يعمل عملهم لقوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد و مقيم قيل معلوم وقيل : معتد دائم السلوك إن في ذلك أي فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمرأى من الناس يشاهدونها عند مرورهم عليها لآية عظيمة للمؤمنين
77
- بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فإنهم
(14/74)

الذين يعرفون أن سوء صنيعهم هو الذي ترك ديارهم بلا قع وأما غيرهم فيحملون ذلك على الإتفاق أو الأوضاع الفلكية وأفراد الآية بعد جمعها فيما سبق قيل لما أن المشاهد ها هنا بقية الآثار لا كل القصة كما فيما سلف وقيل : للإشارة إلى أن المؤمنين يكفيهم آية واحدة وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين
78
- هم قوم شعيب عليه السلام والأيكة في الأصل الشجرة الملتفة واحدة الأيك قال الشاعر : تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردا أسف لثاته بالأثمد والمراد بها غبضة أي بقعة كثيفة الأشجار بناء على ما روي أن هؤلاء القوم كانوا يسكنون الغيضة وعامة شجرها الدوم وقيل السدر فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فكذبوه فأهلكوا بما ستسمعه إن شاء الله تعالى وقيل : بلدة كانوا يسكنونها وإطلاقها على ما ذكر إما بطريق النقل أو تسمية المحل باسم الحال فيه ثم غلب عليه حتى صار علما وأيد القول بالعلمية أنه قريء في الشعراء وصى ليكة ممنوع الصرف و إن عند البصريين هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف واللام هي الفارقة وعند الفراء هي النافية ولا إسم لها واللام بمعنى إلا والمعول عليه الأول أي وأن الشأن كان أولئك القوم متجاوزين عن الحد فانتقمنا منهم جازيناهم على جنايتهم السابقة بالعذاب والضمير لأصحاب الأيكة
وزعم الطبرسي أنه لهم ولقوم لوط وليس بذاك روى غير واحد عن قتادة قال : ذكر لنا أنه جل شأنه سلط عليهم الحر سبعة أيام لا يظلهم منه ظل ولا يمنعهم منه شيء ثم بعث سبحانه عليهم سحابة فجعلوا يلتمسون الروح منها فبعث عليهم منها نارا فأكلتهم فهو عذاب يوم الظلة وإنهما أي محلى قوم لوط وقوم شعيب عليهما السلام وإلى ذلك ذهب الجمهور وقيل : الضمير للأيكة ومدين والثاني وإن لم يذكر هنا لكن ذكر الأول يدل عليه لإرسال شعيب عليه الصلاة و السلام إلى أهلهما فقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله تعالى إليهما شعيبا عليه السلام ولا يخلو عن بعد بل قيل : إن القول الأول كذلك أيضا لأن الأخبار عن مدينة قوم لوط عليه السلام بأنها لبإمام مبين
79
- أي لبطريق واضح يتكرر مع الإخبار عنها آنفا بأنها لبسبيل مقيم على ما عليه أكثر المفسرين وجمع غيرها معها في الأخبار لا يدفع التكرار بالنسبة إليها وكأنه لهذا قال بعضهم : الضمير يعود على لوط وشعيب عليهما السلام أي وإنهما لبطريق من الحق واضح
وقال الجبائي : الضمير لخبر هلاك قوم لوط وخبر هلاك قوم شعيب والإمام اسم لما يؤتم به وقد سمى به الطريق واللوح المحفوظ ومطلق اللوح المعد للقراءة وزيج البناء ويراد به على هذا اللوح المحفوظ
وقال مؤرج الإمام : الكتاب في لغة حمير والأخبار عنهما بأنهما في اللوح المحفوظ إشارة إلى سبق حكمه تعالى بهلاك القومين لما علمه سبحانه من سوء أفعالهم ولقد كذب أصحاب الحجر يعني ثمود المرسلين
80
- حين كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام فإن من كذب واحدا من رسل الله سبحانه فكأنما كذب الجميع لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار وقيل : المراد بالمرسلين صالح عليه السلام ومن معه من المؤمنين على التغليب وجعل الأتباع مرسلين كما قيل : الخبيبون الخبيب ابن الزبير وأصحابه وقال الشاعر :
قدني من نصر الخبيبين قدى
والقول بأنه نزل كل من الناقة وسقبها
(14/75)

منزلة رسول لأنه كالداعي لهم إلى اتباع عليه السلام فجمع بهذا الإعتبار لا اعتبار له أصلا فيما أرى
والحجر واد بين الحجاز والشام كانوا يسكنونه قال الراغب : يسمى ما أحيط به الحجارة حجرا وبه سمى حجر الكعبة وديار ثمود وقد نهى صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم كما في صحيح البخاري وغيره عن الدخول على هؤلاء القوم إلا أن يكونوا باكين حذرا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم
وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الناس عام غزوة تبوك استقوا من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإهراق القدور وأن يعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت ترد الناقة وءاتيناهم ءاياتنا من الناقة وسبقها وشربها ودرها
وذكر بعضهم أن في الناقة خمس آيات خروجها من الصخرة ودنو نتاجها عند خروجها وعظمها حتى لم تشبهها ناقة وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا وقيل : كانت لنبيهم عليه السلام معجزات غير ما ذكر ولا يضرنا أنها لم تذكر على التفصيل وهو على الإجمال ليس بشيء وقيل : المراد بالآيات الأدلة العقلية المنصوبة لهم الدالة عليه سبحانه المبثوثة في الأنفس والآفاق وفيه بعد وقيل : آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام
وأورد عليه أنه عليه السلام ليس له كتاب مأثور إلا أن يقال : الكتاب لا يلزم أن ينزل عليه حقيقة بل يكفي كونه معه مأمورا بالأخذ بما فيه ويكون ذلك في حكم نزوله عليه وقد يقال : بتكرار النزول حقيقة ولا يخفى قوة إلا يراد وقيل : يجوز أن يراد بالآيات ما يشمل ما بلغهم من آيات الرسل عليهم السلام ومتى صح أن يقال : أن تكذيب واحد منهم في حكم تكذيب الكل فلم لم يصح أن يقال : إن ما يأتي به واحد من الآيات كأنه أتى به الكل وفيه نظر وبالجملة الظاهر هو التفسير الأول فكانوا عنها معرضين
81
- غير مقبلين على العمل بما تقتضيه وتقديم المعمول لرعاية تناسب رؤس الآي
وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين
82
- من نزول العذاب بهم وقيل : من الموت لاغترارهم بطول الأعمار وقيل : من الإنهدام ونقب اللصوص وتحزيب الأعداء لمزيد وثاقتها وقال ابن عطية : أصح ما يظهر لي في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة فكانوا لا يعملون بحسبها بل يعملون بحسب الأمن وتفريع قوله تعالى : فأخذتهم الصيحة مصبحين
83
- أظهر في تأييد الأول ووقع في سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة ووفق بينهما بأن الصيحة تفضي إلى الرجفة أو هي مجاز عنها واستشكل التقييد بمصبحين مع ما روي في ترتيب أحوالهم بعد أن أوعدهم عليه السلام بنزول العذاب من أنه لما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالإفطاع فأتتهم صيحة السماء فتقطعت لها قلوبهم فإن هذا يقتضي أن أخذ الصيحة إياهم بعد الضحوة لا مصبحين وأجيب بأنه إن صحت الرواية يحمل مصبحين على كون الصيحة في النهار دون الليل أو أطلق الصبح على زمان ممتد إلى الضحوة وقيل : يجمع بين الآية والخبر بنحو ما جمع به بين الآيتين آنفا وفيه تأمل فتأمل
فما أغنى عنهم ولم يدفع عنهم ما نزل بهم ما كانوا يكسبون
84
- من نحت البيوت الوثيقة أو منه ومن جمع الأموال والعدد بل خروا جاثمين هلكى فما الأولى نافية وتحتمل الإستفهام و ما الثانية يحتمل أن تكون
(14/76)

مصدرية وأن تكون موصولة واستظهره أبو حيان والعائد عليه محذوف أي الذي كانوا يكسبونه
وفي الإرشاد أن الفاء لترتيب عدم الإغناء الخاص بوقت نزول العذاب حسبما كانوا يرجونه لا عدم الإغناء المطلق فإنه أمر مستمر وفي الآية من التهكم بهم ما لا يخفى
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق أي إلا خلقا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يتلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور وقد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقي إلى الصلاح وأن الساعة لآتية ولا بد فننتقم أيضا من أمثال هؤلاء فالجملة الأولى إشارة إلى عذابهم الدنيوي والثانية إلى عقابهم الأخروي وفي كلتا الجملتين من تسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى مع تضمن الأولى الإشارة إلى وجه أولئك بأنه أمر اقتضته الحكمة وفي التفسير الكبير في وجه النظم أنه تعالى لما ذكر إهلاك الكفار فكأنه قيل : كيف يليق ذلك بالرحيم فأجاب سبحانه بأنه إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض
وتعقبه المفسر بأنه يستقيم على قول المعتزلة ثم ذكر وجها آخر لذلك وهو أن المقصود من هذه القصة تصبير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على سفاهة قومه فإنه عليه الصلاة و السلام إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياءهم عليهم السلام بمثل هذه المعاملات الفاسدة هان عليه عليه الصلاة و السلام تحمل سفاهة قومه ثم إنه تعالى لما بين إنزال العذاب على الأمم السالفة المكذبة قال له صلى الله تعالى عليه وسلم إن الساعة لآتية وإن الله تعالى ينتقم لك فيها من أعدائك ويجاريك وإياهم على حسناتك وسيآتهم فإنه سبحانه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك وإلى جواز تفسير الحق بالعدل ذهب شيخ الإسلام وأشار إلى أن الباء للسببية وأن المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال وذكر أنه ينبيء عن ذلك الجملة الثانية ولعل جعل كل جملة إشارة إلى شيء حسبما أشرنا إليه أولى
واستدل بالأولى بعض الأشاغرة على أن أفعال العباد مطلقا مخلوقة له تعالى لدخولها فيما بينهما وزعم بعض المعتزلة الرد بها على القائلين بذلك لأن المعاصي من الأفعال باطلة فإذا كانت مخلوقة له سبحانه لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق وهو كلام خال عن التحقيق فأصفح أي أعرض عن الكفرة المكذبين الصفح الجميل
85
- وهو ما خلا عن عتاب على ما روي غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفسر الراغب الصفح نفسه بترك التثريب وذكر أنه أبلغ من العفو وفي أمره صلى الله تعالى عليه وسلم إشارة إلى أنه عليه الصلاة و السلام قادر على الإنتقام منهم فكأنه قيل : أعرض عنهم وتحمل أذيتهم ولا تجعل بالإنتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم وحاصل ذلك أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بمخالفتهم بخلق رضي وحلم وتأن بأن ينذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى قبل القتال ثم يقاتلهم وعلى هذا فالآية غير منسوخة وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك أنها منسوخة بآية السيف وكأنهم ذهبوا إلى أن المراد بها مداراتهم وترك قتالهم وآثر هذا الأخير العلامة الطيبي قال : ليكون خاتمة القصص جامعة للتسلي والأمر بالمداراة وتخلصا إلى مشرع آخر وهو قوله تعالى الآتي : ولقد إلى آخره ففيه حديث الإعراض عن
(14/77)

زهرة الحياة الدنيا وهو من أعظم أنواع الضر لكن ذكر في الكشف أن الذي يقتضيه النظم أن قوله تعالى : وما خلقنا السماوات إلى آخره جمع بين حاشيتي مفصل الآيات البرهانية والإمتنانية ملخص منها مع زيادة مبالغة من الحصر ليلقيه المحتج به إلى المعاندين ويتسلى به عن استهزاء الجاحدين وتمهيد لتطرية ذكر المقصود من كون الذكر كاملا في شأن الهداية وافيا بكل ما علق به من الغرض القائم له بحق الرعاية ثم قال : ومنه يظهر أن الآية عطف على وما خلقنا الخ عطف الخاص على العام إشارة إلى أنه أتم النعم وأحق دليل وأحق ما يتشفى به عن الغليل وأن من أوتيته لا يضره فقد شيء سواه ومن طلب الهوى في غيره ترك وهواه أه فتدبر إن ربك الذي يبلغك إلى غاية الكمال هو الخلاق لك ولهم ولسائر الأشياء على الإطلاق العليم
86
- بأحوالك وأحوالهم وبكل شيء فلا يخفى عليه جل شأنه شيء مما جرى بينك وبينهم فحقيق أن تكل الأمور إليه ليحكم بينكم أو هم الذي خلقكم وعلم تفاصيل أحوالكم وقد علم سبحانه أن الفصح الجميل اليوم أصلح إلى أم يكون السيف أصلح فهو تعليل للأمر بالسفح على التقديرين على ما قيل وقال بعض المدقيين : إنه على الأخير تذييل للأمر المذكور وعلى الأول لقوله سبحانه : إن الساعة لآتية وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والجحدري والأعمش ومالك بن دينار هو الخالق وكذا في مصحف أبي وعثمان رضي الله تعالى عنهما وهو صالح للقليل والكثير و الخلاق مختص بالكثير و العليم أوفق به وهو على ما قيل أنسب بما تقدم من قوله سبحانه : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ولقد ءاتيناك سبعا أي سبع آيات وهي الفاتحة وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وأبي جعفر وأبي عبدالله والحسن ومجاهد وأبي العالية والضحاك وابن جبير وقتادة رضي الله تعالى عنهم وجاء ذلك مرفوعا أيضا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من حديث أبي وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما وقيل : سبع سور وهي الطور وروي ذلك أيضا عن عمر وابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد وهي في رواية البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة سورة واحدة وفي أخرى عد براءة دون الأنفال السابعة وفي أخرى عد يونس دونهما وفي أخرى عد الكهف وقيل : السبع آل حم وقيل : سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء عليهم السلام على معنى أنه عليه الصلاة و السلام أوتي ما يتضمن سبعا منها وإن لم يكن بلفظها وهي الأسباع وعن زياد بن أبي مريم هي أمور سبع الأمر والنهي والبشارة والإنذار وضرب الأمثال وتعداد النعم وأخبار الأمم وأصح الأقوال الأول وقد أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ورفعوه وقال أبو حيان : إنه لا ينبغي العدول عنه بل لا يجوز ذلك وأورد على القول بأنها السبع الطوال إن هذه السورة مكية وتلك السبع مدنية وروي هذا عن الربيع فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن جرير وغيرهما أنه قيل له : إنهم يقولون : هي السبع الطول فقال : لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطول شيء وأجيب بأن المراد بأيتائها إنزالها إلى السماء الدنيا ولا فرق بين المدني والمكي فيها واعترض بأن ظاهر آتيناك يأباه وقيل : إنه تنزيل للمتوقع منزلة الواقع في الإمتنان ومثله كثير من المثاني بيان للسبع وهو على ما قال في موضع من الكشاف جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر ويجوز أن يكون مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في
(14/78)

قوله تعالى : ثم أرجع البصر كرتين أي كرة بعد كرة ونحو قولهم لبيك وسعديك وأراد كما في الكشف أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار ويحتمل أن يريد أن مثنى بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو كرتين ثم جمع مبالغة وقوله من التثنية إيضاح للمعنى لأنه من المثنى بمعنى التثنية والأول أرجح نظرا إلى ظاهر اللفظ والثاني نظرا إلى الأصل وقال في موضع آخر : إنه من التثنية أو الثناء والواحدة مثناة أو مثنية بفتح الميم على ما في أكثر النسخ وإلا قيس على ما قال المدقق بحسب اللفظ إن ذلك مشتق من الثناء أو المثنى جمع مثنى مفعل منهما إما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل المثنى ولا بعد في باب العدل أن يكون منقولا عنه لا مخترعا ابتداء وإطلاق ذلك على الفاتحة لأنها تكرر قراءتها في الصلاة وروي هذا عن الحسن وأبي عبدالله رحمهما الله تعالى وعن الزجاج لأنها تثنى بما يقرأ بعدها من القرآن وقيل ونسب إلى الحسب أيضا : لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة وتعقب بأنها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثاني إذ السورة كما سمعت غير مرة مكية وقيل : لأن كثيرا من ألفاظها مكرر كالرحمن والرحيم وإياك والصراط وعليهم وقيل : لاشتمالها على الثناء على الله تعالى والقولان كما ترى وقيل ونسب إلى ابن عباس ومجاهد أن إطلاق المثاني على الفاتحة لأن الله سبحانه استثناها وادخرها لهذه الأمة فلم يعطها لغيرهم وروي هذا الإدخار في غيرها أيضا وفي غيرها أن ذلك لأنه تكرر قراءته وألفاظه أو قصصه ومواعظه أو لما فيه من الثناء عليه تعالى بما هو أهله جل شأنه أو لأنه مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز أو يثنى بذلك على المتكلم به وعن أبي زيد البلخي أن إطلاق المثاني على ذلك لأنه يثني أهل الشر عن شرهم فتأمل وجوز أن يراد بالمثاني القرآن كله وأخرج ذلك ابن المنذر وغيره عن أبي مالك وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في توجيه إطلاقها عليه مع الإختلاف في الإفراد والجمع وأن يراد بها كتب الله تعالى كلها فمن للتبعيض وعلى الأول للبيان والقرآن العظيم
87
- بالنصب عطف على سبعا فإن أريد بها الآيات أو السور أو الأمور السبع التي رويت عن زياد فهو من عطف الكل على الجزء بأن يراد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين أو من عطف العام على الخاص بأن يراد به المعنى المشترك بين الكل والبعض وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه وإن أريد بها الإسباغ فهو من عطف أحد الوصفين على الآخر كما في قوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام
البيت بناء على أن القرآن في نفسه الإسباغ أي ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم واختار بعضهم تفسير القرآن العظيم كالسبع المثاني بالفاتحة لما أخرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته وفي الكشف كونهما الفاتحة أوفق لمقتضى المقام لما مر في تخصيص الكتاب وقرآن مبين بالسورة وأشد طباقا للواقع فلم يكن إذ ذاك قد أوتي صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن كله أه وأمر العطف معلوم مما قبله وقرأت فرقة والقرآن بالجر عطفا على المثاني وأبعد من ذهب إلى أن الواو مقحمة والتقدير سبعا من المثاني القرآن العظيم لاتمدن عينيك لا تطمح بنظرك طموح راغب ولا تدم نظرك إلى ما متعنا به من زخارف الدنيا وزينتها أزواجا منهم
(14/79)

أصنافا من الكفرة اليهود والنصارى والمشركين وقيل : رجالا مع نساءهم والنهي قيل له صلى الله عليه ويلم وهو لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة وقيل : هو لأمته وإن كان الخطاب له عليه الصلاة و السلام وأريد بما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : نهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه نعم كان صلى الله تعالى عليه وسلم بعد نزول الآية شديد الإحتياط فيما تضمنته فقد أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير أنه عليه الصلاة و السلام مر بإبل لحي يقال لهم بنو الملوح أو بنو المصطلق قد عنست في أبوالها وأبعارها من السمن فتقنع بثوبه ومر ولم ينظر إليها لقوله تعالى : لا تمدن عينيك الآية ويعد نحو هذا الفعل من باب سد الذرائع ومنهم من أيد الأول بهذا وبدلالة ظاهر السياق عليه وحاصلها مع ما قبل قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي بالنسبة إليها حقيرة فعليك أن تستغني بذلك ولا ترغب في متاع الدنيا وجعل من ذلك قوله عليه الصلاة و السلام : ليس منا من لم يتغن بالقرآن بناء على أن يتغن من الغني المقصور كيستغنى وليس مقصورا على الممدود ويشهد لذلك ما في الحديث الصحيح في الخيل وأما التي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه من أوتي القرآن فرأى أن أحد أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا وقد أخرج ابن المنذر عن سفيان ابن عيينة ما هو بمعناه وقال العراقي : إن الخبر مروي لكن لم أقف على روايته عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه في شيء من كتب الحديث
وحكى بعضهم في سبب نزول الآية أنه وافت من بصري واذرعات سبع قوافل لقريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البر والطيب والجواهر فقال المسلمون : لو كانت لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فنزلت فكأنه سبحانه يقول : قد أعطيتكم سبعا هي خير من سبع قوافل وروي هذا عن الحسن بن الفضل
وتعقب بأنه ضعيف أو لا يصح لأن السورة مكية وقريظة والنضير كانوا بالمدينة فكيف يصح أن يقال ذلك وهو كما ترى نعم روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم وافي بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها الخ وهو غير معروف وقد قالوا : إنه لم يعهد سفره صلى الله تعالى عليه وسلم للشام واستؤنس بخبر النزول نفى أن النهي معنى به سيد المخاطبين عليه الصلاة و السلام كالنهي في قوله تعالى : ولا تحزن عليهم حيث أنهم لم يؤمنوا وكل صلى الله عليه و سلم يود أن يؤمن كل من بعث إليه ويشق عليه عليه الصلاة و السلام لمزيد شفقته بقاء الكفرة على كفرهم ولذلك قيل له : ولا تحزن عليهم وكأن مرجع الجملة الأولى إلى النهي عن الإلتفات إلى أموالهم ومرجع هذه الجملة إلى النهي عن الإلتفات إليهم وليس المعنى لا تحزن عليهم حيث أنهم المتمتعون بذلك فإن التمتع به لا يكون مدارا للحزن عليهم وكون المعنى لا تحزن على تمتعهم بذلك فالكلام على حذف مضاف لا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع إليه واخفض جناحك للمؤمنين
88
- كناية عن التواضع لهم والرفق بهم وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه بسط جناحيه له والجناحان من ابن آدم جانباه وقل إني أنا النذير المبين
89
- أي المنذر الكاشف نزول عذاب الله تعالى ونقمه المخوقة بمن لم يؤمن كما أنزلنا على المقتسمين
90
- قيل : إنه متعلق بقوله تعالى : ولقد آتيناك الخ على أن
(14/80)

يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أي آتيناك سبعا من المثاني إيتاء كما أنزلنا وهو معنى أنزلنا عليك ذلك إنزالا كإنزالنا على أهل الكتاب الذين جعلوا القرءان عضين
91
- أي قسموه إلى حق وباطل حيث قالوا عنادا وعداوة : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما وتفسير المقتسمين المذكورين بأهل الكتاب مما روي عن الحسن وغيره وفي الدر المنثور أخرج البخاري وسعيد بن منصور والحاكم وابن مردوية من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه وجاء ذلك مرفوعا أيضا فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن الحبر قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أرأيت قول الله تعالى : كما أنزلنا على المقتسمين قال عليه الصلاة و السلام : اليهود والنصارى قال : الذين جعلوا القرآن عضين ما عضين قال صلى الله عليه و سلم : آمنوا ببعض وكفروا ببعض أو اقتسموه لأنفسهم إستهزاء به فقد روي عن عكرمة أن بعضهم كان يقول : سورة البقرة لي وبعضهم سورة آل عمران لي وهكذا وجوز أن يراد بالمقتسمين أهل الكتاب ويراد من القرآن معناه اللغوي أي المقروء من كتبهم أي الذين اقتسموا ما قرؤا من كتبهم وحرفوه وأقروا ببعض وكذبوا ببعض وحمل توسط قوله تعالى : لا تمدن عينيك الخ بين المتعلق والمتعلق على إمداد ما هو المراد بالكلام من التسلية وتعقب القول بهذا التعلق بأنه جل هذا المقام عن التشبيه فلقد أوتي صلى الله تعالى عليه وسلم مالم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله وفي حمل القرآن على معناه اللغوي ما فيه وقيل : هو متعلق بقوله تعالى : وقل إني أنا النذير المبين لأنه في قوة الأمر بالإنذار كأنه قيل : أنذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني اليهود وهو ما جرى على قريظة والنضير بأن جعل المتوقع كالواقع وقد وقع كذلك وتعقب بأن المشبه به العذاب المنذر ينبغي أن يكون معلوما حال النزول وهذا ليس كذلك فيلغو التشبيه وتنزيل المتوقع منزلة الواقع له موقع جليل من الإعجاز لكن إذا صادف مقاما يقتضيه كما في قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ونظائره على أن تخصيص الإقتسام باليهود بمجرد اختصاص العذاب المذكور بهم مع شركتهم للنصارى في الإقتسام المتفرع على الموافقة والمخالفة وفي الإقتسام بمعنى التحريف الشامل للكتابين بل تخصيص العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الإقتسام تخصيص من غير مخصص وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش وهي اثنا عشر وقال ابن السائب : ستة عشر رجلا حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال عبد الأسود والسائب بن صيفي والنضر بن الحرث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس ابن المغيرة أرسلهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ليقفوا على مداخل طرق مكة لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر ويقول الآخر : كذاب والآخر : شاعر إلى غير ذلك من هذيانهم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر وقبله بآفات ويجعل الذين منصوبا بالنذير على أنه مفعوله الأول و كما مفعوله الثاني أي أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة وهذوا مثل هذيانهم
(14/81)

وتعقب بأن فيه مع ما فيه من المشاركة لما سبق في عدم كون العذاب الذي شبه به العذاب المنذر واقعا ومعلوما للمنذرين أنه لا داعي إلى تخصيص وصف التعضية بهم وإخراج المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوة لهم في ذلك فإن وصفهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما وصفوا به من السحر والشعر والكذب متفرع على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفس التعضية ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذار على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يشبه به عذاب غيرهم ولا مخصوما بهم بل هو عام لكلا الفريقين وغيرهم ومع أن بعضهم من عد من المنذرين على قول كالوليد بن المغيرة والأسود وغيرهما قد هلكوا قبل مهلك أكثر المقتسمين يوم بدر ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى وقيل : إنه صفة لمفعول النذير أقيم مقامه بعد حذفه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل الطرق كما حرر أي النذير عذابا من العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين
وتعقب أيضا بأن فيه مع ما مر أنه يقتضي أنه يكون كما أنزلنا من مقول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وهو لا يصح لذلك واعتذر له بأنه كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا والآمر الملك كما تقدم غير بعيد أو حكاية لقول الله تعالى وفيه من التعسف ما لا يخفى وأيضا فيه أعمال الوصف الموصوف في المفعول وهو مما لا يجوز
وأجيب بأن الكوفية تجوزه والقائل بنى الكلام على ذلك أو أن المراد بالمفعول المفعول الغير الصريح وتقديره بعذاب وهو لا يمتنع الوصف من العمل فيه وقيل : المراد بالمقتسمين على تقدير الوصفية الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه السلام فأهلكهم الله تعالى والإقتسام بمعنى التقاسم ولا إشكال في التشبيه لأن عذابهم أمر محقق نطق به القرآن العظيم فيصح أن يقع مشبها للعذاب المنذر والموصول إما مفعول أول للنذير أو لما دل هو عليه من أنذر وتعقب أيضا بأن فيه بعد إغماض العين عما في المفعولية من الخلاف أو الخفاء أنه لا يكون للتعلاض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الإقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلية الصلة والصفة للحكم الثابت الموصول والموصوف فلا يكون هناك وجه شبه يدور عليه تشبيه عذابهم خاصة لعدم اشتراكهم في السبب فإن المعضين بمعزل من التقاسم على التبييت الذي هو السبب لهلاك أولئك مع أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوما ولا وجودا تصحح وقوع أحدهما في جانب والآخر في جانب واتفاق الفريقين على مطلق الإتفاق على الشرور المفهوم من الإتفاق على الشر المخصوص الذي هو التبييت المدلول عليه بالتقاسم غير مفيد إذ لا دلالة لعنوان التعضية على ذلك وإنما يدل عليه اقتسام المداخل وجعل الموصول مبتدأ على أن خبره الجملى القسمية لا يليق بجزالة التنزيل وجلالة شأنه الجليل أه وهذا الجعل مروي عن ابن زيد وفي رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البيهقي وأبو نعيم في الدلائل ما يقتضيه ومن هنا قيل يمنع عدم اللياقة وبعض من يسلمها يقول : يجوز أن يكون الموصوف صفة المقتسمين مرادا بهم أولئك الرهط ومعنى جعلهم القرآن عضين حكمهم بأنه مفتري وتكذيبهم به والمراد منه معناه اللغوي فيئول إلى وصفهم بتكذيبهم بكتابهم وإعراضهم عن الإيمان والعمل بما فيه ويوافق ما هو من قوله تعالى فيهم وفي قومهم : وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين بناء على أن المراد بالآيات آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام حسبما قيل به فيما سبق وإن أبيت ذلك بناء على ما سمعت هنالك التزمنا كون الموصول مفعولا وقلنا : فائدة التعرض للعنوانين المذكورين على الوجه المذكور الإشارة إلى تفظيع أمر التكذيب وكونه في سببيته للعذاب
(14/82)

كالإقتسام على قتل النبي ويلتزم ما يشعر به هذا من أفظعية الإقتسام المزبور لأنه لا يكون إلا عن تكذيب ومزيد عداوة للنبي وفيه بحث وقيل : المصحح لوقوع أحد العنوانين في جانب والآخر في جانب أن يكون التكذيب ينجر بزعم المكذبين إلى إبطال أمر النبي عليه الصلاة والصلام وإطفاء نوره وهو العلة الغائبة لذلك الإقتسام المذكور كذلك وهو كما ترى وقال أبو البقاء وليته لم يقل : إن كما أنزلنا متعلق بقوله تعالى : متعنا به أزواجا منهم وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي متعناهم تمتيعا كما أنزلنا والمعنى نعمنا بعضهم كما عذبنا بعضهم وذكر ابن عطية وغيره أنه يحتمل أن يكون المعنى قل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيرا على المقتسمين أي أهل الكتاب ومرادهم على ما قيل أن ما في كما موصولة والمراد من المشابهة المستفادة من الكاف الموافقة وهي مع ما في حيزها في محل النصب على الحالية من مفعول قل أي قل هذا القول حال كونه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقا لذلك والأنسب على هذا حمل الإقتسام على التحريف ليكون وصفهم بذلك تعريضا بما فعلوا من تحريفهم وكتمانهم لنعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنت تعلم أن فيه بعدا لكنه أولى بالنسبة إلى بعض ما تقدم وقريب منه ما قيل : المعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني إيتاء موافقا للإيتاء الذي أنزلناه على أهل الكتابين وأخبرناهم به في كتبهم وفيه ما فيه
وأما جعلها زائدة والمعنى أنا النذير المبين ما أنزلنا فحاله غني عن التنبيه عليه وقال العلامة أبو السعود بعد نقل أقوال عقبها بما عقبها : والأقرب من الأقوال المذكورة أن كما أنزلنا متعلق بقوله تعالى : ولقد آتيناك الخ وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين وأن الموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ومحل الكاف النصب على المصدرية وحديث جلالة المقام عن التشبيه من لوائح النظر الجليل
والمعنى لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما وعدم التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرض بيان المماثلة بين الإيتائين لا بين متعلقيهما والعدول عن تطبيق ما في جانب المشبه به على ما في جانب المشبه بأن يقال : كما آتينا المقتسمين حسبما وقع في قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب الخ للتنبيه على ما بين الإيتائين من التنائي فإن الأول على وجه التكرمة والإمتنان فشتان بينه وبين الثاني ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبها به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم وتقدم وجوده على المشبه زمانا لا لمزية تعود إلى ذاته ونظير ذلك ما قيل في الصلوات الإبراهيمية فليس في التشبيه إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلا عن إيهام ما تعلق به الأول مما تعلق به الثاني وإنما ذكروا بعنوان الإقتسام إنكارا لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكور وإيذانا بأنهم كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانهم بما أنزل عليهم بحكم الإشتراك في العلة والإتحاد في الحقيقة التي هي مطلق الوحي وتوسيط قوله تعالى : لا تمدن عينيك الخ لكمال اتصاله بما هو المقصود من بيان حال ما أوتي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
ولقد بين أولا علو شأنه ورفعة مكانه صلى الله عليه و سلم بحيث يستوجب اغتباطه عليه الصلاة و السلام بمكانه واستغناءه به عما سواه ثم نهى عن الإلتفات إلى زهرة الدنيا وعبر سبحانه عن إيتائها لأهلها بالتمتع المنبيء عن وشك زوالها عنهم ثم عن الحزن لعدم إيمان المنهمكين فيها وأمر بمراعاة المؤمنين والإكتفاء بهم عن غيرهم وبإظهار قوامه بمواجب الرسالة ومراسم النذارة حسبما فصل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم ثم رجع
(14/83)

إلى كيفية إتيانه على وجه أدمج فيه ما يزيح شبه المنكرين ويستنزلهم من العناد من بيان مشاركته لما لا ريب لهم في كونه وحيا صادقا فتأمل والله تعالى عنده علم الكتاب أه وهو كلام ظاهر عليه مخايل التحقيق
وفي البحر بعد نقل أكثر هذه الأقوال وهذه أقوال وتوجيهات مكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره عليه الصلاة و السلام بخفض جناحه للمؤمنين أمره صلى الله تعالى عليه وسلم أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمر صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يقول لهم : إني أنا النذير المبين لكم ولغيركم كما قال سبحانه : إنما أنت منذر من يخشاها وتكون الكاف نعتا لمصدر محذوف والتقدير وقل قولا مثل ما أنزلنا على المقتسمين إنك نذير لهم فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفار المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالفا لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمن كما تنذر الكافر كما قال تعالى : إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون أه بحروفه وهو كما ترى ركيك لفظا ومعنى والله تعالى أعلم بمراده وعنده علم الكتاب وعضين جمع عضة وأصلها عضوة بكسر العين وفتح الضاد بمعنى جزء فهو معتل اللام من عضاه بالتشديد جعله أعضاء وأجزاء فالمعنى جعلوا القرآن أجزاء
وقيل : العضة في لغة قريش السحر فيقولون للساحر : عاضه والساحرة عاضهة وفي حديث رواه ابن عدي في الكامل وأبو يعلى في مسنده لعن الله تعالى العاضهة والمستعضهة وأراد صلى الله عليه و سلم الساحرة والمستحسرة أي المستعملة لسحر غيرها وهو على هذا مأخوذ من عضهته فاللام المحذوفة هاء كما في شفة وشاة على القول بأن أصلهما شفهة وشاهة بدليل جمعهما على شفاه وشياه وتصغيرهما على شفيهة وشويهة
وعن الكسائي أنه من عضعه عضها وعضيهة رماه بالبهتان قبل : وأخذ العضه بمعنى السحر من هذا لأن البهتان لا أصل له والسحر تخييل أمر لا حقيقة له وذهب الفراء إلى أنه من العضاه وهي شجرة تؤذى كالشوك واختار بعضهم الأول وجمع السلامة لجبر ما حذف منه كعزين وسنين وإلا فحقه أن لا يجمع جمع السلامة المذكر لكونه غير عاقل ولتغير مفرده ومثل هذا كثير مطرد ومن العرب من يلزمه الياء ويجعل الإعراب على النون فيقول : عضينك كسنينك وهذه اللغة كثيرة في تميم وأسد وفي التعبير عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريق الأعضاء من ذي الروح المسلتزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيض للتنصيص على قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم فو ربك لنسألنهم أجمعين
92
- أي لنسئلن يوم القيامة أصناف الكفرة مطلقا المقتسمين وغيرهم سؤال تقريع وتوبيخ عما كانوا يعملون
93
- في الدنيا من قول وفعل وترك فيدخل فيه ما ذكر من الإقتسام والتعضية دخولا أوليا أو لنجازينهم على ذلك وعلى التقديرين لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى : فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان لأن المراد هنا حسبما أشرنا إليه إثبات سؤال التقريع والتوبيخ أو المجازاة بناءا على أن السؤال مجاز عنها وهناك نفي سؤال الإستفهام لأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم وروي هذا عن ابن عباس وضعف هذا الإمام أنه لا معنى لتخصيص نفي سؤال الإستفهام بيوم القيامة لأن ذلك السؤال محال عليه تعالى في كل وقت وأجيب بأنه بناءا على زعمهم
(14/84)

كقوله تعالى وبرزوا لله جميعا فإنه يظهر لهم في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء فلا يحتاج إلى الإستفهام وقيل : المراد لا سؤال يومئذ منه تعالى ولا من غيره بخلاف الدنيا فإنه ربما سأل غيره فيها ورد بأن قوله : لأنه سبحانه عالم بجميع أعمالهم يأباه
واختار غير واحد في الجمع أن النفي بالنسبة إلى بعض المواقف والإثبات بالنسبة إلى بعض آخر وسيأتي تمام الكلام في ذلك واستظهر بعضهم عود الضمير في لنسألنهم إلى المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين للقرب وجوز أن يعود على الجميع من مؤمن وكافر لتقدم ما يشعر بذلك من قوله سبحانه : وقل إني أنا النذير المبين و ما للعموم كما هو الظاهر وأخرج ابن جرير : وغيره وعن أبي العالية أنه قال في الآية : يسئل العباد كلهم يوم القيامة عن خلتين عما كانوا يعبدون وعما أجابوا به المرسلين
وأخرج الترمذي وجماعة عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : يسئلون عن قول لا إله إلا الله وأخرجه البخاري في تاريخه والترمذي من وجه آخر عن أنس موقوفا وروي أيضا عن ابن عمر ومجاهد والمعنى على ما في البحر يسئلون عن الوفاء بلا إله إلا الله والتصديق لقالها بالأعمال والفاء قيل لترتيب الوعيد على أعمالهم التي ذكر بعضها وقيل : لتعليل النهي والأمر فيما سبق وزعم أنها الفاء الداخلة على خبر الموصول كما في قولك : الذي يأتيني فله درهم مبني على أن الذين مبتدأ وقد علمت حال ذلك وفي التعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة و السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم فاصدع بما تؤمر قال الكلبي : أي أظهره وأجهر به يقال : صدع بالحجة إذا تكلم جهارا ومن ذلك قيل للفجر صديع لظهوره
وجوز أن يكون أمرا من صدع الزجاجة وهو تفريق أجزائها أي أفرق بين الحق والباطل وأصله على ما قيل الإبالة والتمييز والباء على الأول صلة وعلى الثاني سببية و ما جوز أن تكون موصولة والمائد محذوف أي بالذي تؤمر به فحذف الجار فتعدى الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذف ولعل القائل بذلك لم يعتبر حذفه مجرورا لفقد شرط حذفه بناء على أنه يشترط على حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا وقيل : التقدير فاصدع بما تؤمر بالصدع به فحذفت الباء الثانية ثم الثالثة ثم لام التعريف ثم المضاف ثم الهاء وهو تكلف لا داعي له ويكاد يورث الصداع والمراد بما يؤمر به الشرائع وقول مجاهد : كما أخرجه عنه ابن حاتم إن المعنى أجهر بالقرآن في الصلاة يقتضي بظاهره التخصيص ولا داعي له أيضا كما لا يخفى وأظهر منه في ذلك ما روي عن ابن زيد أن المراد بما تؤمر القرآن الذي أوحي إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبلغهم إياه وأن تكون مصدرية أي فاصدع بمأموريتك وهو الذي عناه الزمخشري بقوله : أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول وتعقبه أبو حيان بأنه مبني على مذهب من يجوز أن يراد بالمصدر أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز ورد بأن الإختلاف في المصدر الصريح هل يجوز انحلاله إلى حرف مصدري وفعل مجهول أم لا أما أن الفعل المجهول هل يوصل به حرف مصدري فليس محل النزاع فإن كان اعتراضه على الزمخشري في تفسيره بالأمر وأنه كان ينبغي أن يقول بالمأمورية فشيء
(14/85)

آخر سهل ثم لا يخفى ما في الآية من الجزالة وقال أبو عبيدة : عن رؤبة ما في القرآن منها ويحكى أن بعض العرب سمع قارئا يقرأها فسجد فقيل له في ذلك فقال : سجدت لبلاغة هذا الكلام ولم يزل صلى الله تعالى عليه وسلم مستخفيا كما روي عن عبد الله بن مسعود قبل نزول ذلك فلما نزلت خرج هو وأصحابه عليه الصلاة و السلام وأعرض عن المشركين
94
- أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم فليست الآية منسوخة وقيل : هي من آيات المهادنة التي نسختها آية السيف وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنا كفيناك المستهزئين
95
- بك أو بك وبالقرآن كما روي عن ابن عباس بقمعهم وتدميرهم أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل وابن مردوية بسند حسن قال : المستهزؤن الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبدالمطلب والحرث ابن عيطل السهمي والعاص بن وائل فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه فأراه الوليد فأومأ جبريل عليه السلام إلى أكحله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه ثم أراه الأسود ابن عبدالمطلب فأومأ إلى عينيه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه ثم أراه الحرث فأومأ إلى بطنه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه ثم أراه العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه فقال : ما صنعت شيئا قال : كفيتكه فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا فأصاب أكحله فقطعها وأما الأسود بن عبدالمطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول : يا بني ألا تدفعون عني قد هلكت أطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون : ما ترى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها وأما الحرث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج رجيعه من فيه فمات منه وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل في أخمص قدمه شوكة فقتلته وقال الكرماني في شرح البخاري : إن المستهزئين هم السبعة الذين ألقوا الأذى ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي كما جاء في حديث البخاري وهم : عمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن معيط وعمارة بن الوليد وفي الأعلام للسهيلي أنهم قذفوا بقليب بدر وعدهم بخلاف ما ذكر وفي الدر المنثور وغيره روايات كثيرة مختلفة في عدتهم وأسمائهم وكيفية هلاكهم وعد الشعبي منهم هبار بن الأسود وتعقبه في البحر بأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة فعده وهم وهذا متعين إذا كانت كفايته على السلام إياهم بالإهلاك كما هو الظاهر وقد ذكر الإمام نحو ما ذكرنا من اختلاف الروايات ثم قال : ولا حاجة إلى شيء من ذلك والقدر المعلوم أنهم كانوا طائفة لهم قوة وشوكة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على مثل هذه السفاهة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في علو قدره وعظم منصبه ودل القرآن على أن الله سبحانه أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم
الذين يجعلون مع الله إلها آخر أي اتخذوا إلها يعبدونه معه تعالى وصيغة الإستقبال لاستحضار الحال الماضية وفي وصفهم بذلك تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتهوين الخطب عليه عليه الصلاة والصلام بالإشارة إلى أنهم يقتصروا على الإستهزاء به صلى الله تعالى عليه وسلم بل اجترؤا على
(14/86)

العظيمة التي هي الإشراك به سبحانه فسوف يعلمون
96
- ما يأتون ويذرون وفيه من الوعيد ما لا يخفى وفي البحر أنه وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وشركهم في الآخرة كما جوزوا في الدنيا ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون
97
- من كلمات الشرك والإستهزاء وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقق ما تتضمنه من التسلية وصيغة المضارع لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة فسبح بحمد ربك فافزع إلى ربك فيما نابك من ضيق الصدر بالتسبيح ملتبسا بحمده أي قل : سبحان الله والحمد لله أو فنزهه عما يقولون حامدا له سبحانه على أن هداك للحق فالتسبيح والحمد بمعناهما اللغوي كما أنهما على الأول بمعناهما العرفي أعني قول تينك الجملتين وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى من اللطف به عليه الصلاة و السلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر المذكور وكن من الساجدين
98
- أي المصلين ففيه التعبير عن الكل بالجزء وهذا الجزء على ما ذهب إليه البعض أفضل الأجزاء لما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وليس هذا موضع سجدة خلافا لبعضهم وفي أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بما ذكر إرشاد له إلى ما يكشف به الغم الذي يجده كأنه قيل : افعل ذلك يكشف عنك ربك الغم والضيق الذي تجده في صدرك ولمزيد الإعتناء بأمر الصلاة جيء بالأمر بها كما ترى مغايرا للأمر السابق على هذا الوجه المخصوص وفي ذلك من الترغيب فيها ما لا يخفى وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة وصح حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة وذكر بعضهم أن في الآية إشارة إلى الترغيب بالجماعة فيها وإن عدم تقييد السجود بنحو له أو لربك إشارة إلى أنه لا يكاد يخطر بالبال إيقاعه لغيره تعالى فتدبر
واعبد ربك دم على ما أنت عليه من عبادته سبحانه قيل : وفي الإظهار بالعنوان السالف آنفا تأكيد لما سبق من إظهار اللطف به صلى الله عليه و سلم والإشعار بعلة الأمر بالعبادة حتى يأتيك اليقين
99
- أي الموت كما روي عن ابن عمر والحسن وقتادة وابن زيد وسمي بذلك لأنه متيقن اللحوق بكل حي وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه والمعنى دم على العبادة ما دمت حيا من غير إخلال بها لحظة وقال ابن بحر : اليقين النصر على الكافرين الذي وعده صلى الله تعالى عليه وسلم وأياما كان فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود وقالوا : إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة وهي ليست إلا للمحجوبين ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين
وذكر بعض الثقات أن هذا الأمر كان بعد الإسراء والعروج إلى السماء أفترى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتضح له ليلتئذ صبح الكشف والشهود ولم يمن عليه باليقين عظيم الكرم والجود الله أكبر لا يتجاسر على ذلك من قلبه مثقال ذرة من إيمان أو رزق حبة خردل من عقل ينتظم به في سلك الإنسان وأيضا لم يزل صلى الله تعالى عليه وسلم مادام حيا آتيا بمراسم العبادة قائما بأعباء التكليف لم ينحرف عن الجادة قدر
(14/87)

حادة فيقال : إنه لم يأته عليه الصلاة و السلام حتى توفى ذلك اليقين ولذلك بقي في مشاق التكليف إلى أن قدم على رب العالمين لا أدري أحدا يخطر له ذلك بجنان ولو طال سلوكه في مهامه الضلالة وبان نعم ذكر بعض العلماء الكرام في قوله تعالى : ولقد نعلم الخ كلاما متضمنا شيئا مما يذكره الصوفية لكنه بعيد بمراحل عن مرام أولئك اللئام ففي الكشف أنه تعالى بعد ما هدم قواعد جهالات الكفرة وأبرق وأرعد بما أظهر من صنيعه بالقائلين نحو مقالات أولئك الفجرة فذلك الكلام بقوله سبحانه : ولقد نعلم مؤكدا هذا التأكيد البالغ الصادر عن مقام تسخط بالغ وكبرياء لينفس عن حبيبه عليه الصلاة و السلام أشد التنفيس ثم أرشد إلى ما هو أعلى من ذلك مما تأهله لمسامرة الجليس للجليس وقال تعالى : فسبح بحمد ربك إشارة إلى التوجيه إليه بالكلية والتجرد التام عن الأغيار والتحلي بصفات من توجه إليه بحسن القبول والإفتقار إذ ذلك مقتضي التسبيح والحمد لمن عقلهما ثم قال سبحانه : وكن من الساجدين دلالة على الإقتراب المضمر فيه لأن السجود غاية الذلة والإفتقار وهو مظهر الفناء حتى نفسه وشرك البقاء بمن أمره بخمسه وقوله تعالى شأنه : واعبد ربك الخ ظاهره ظاهر وباطنه يومي إلى أن السفر في الله تعالى لا ينقطع والشهود الذي عليه يستقر لا يحصل أبدا فما من طامة إلا وفوقها طامة
إذا تغيبت بدا
وإن بدا غيبني
وعن لسان هذا المقام رب زدني علما أه هذا ولا يخفى مما ذكره غير واحد من المفسرين مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها وأن قوله سبحانه : ولقد تعلم الخ في مقابلة وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر والله تعالى أعلم وأحكم
ومن باب الإشارة فيما تقدم من الآيات ما قالوه مما ملخصه نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم أي أخبرهم بأني أغفر خطرات قلوب العارفين بعد إدراكهم مواضع خطرها وتداركهم ما هو مطلوب منهم وأرحمهم بأنواع الفيوضات وأوصلهم إلى أعلى المكاشفات والمشاهدات وأن عذابي هو العذاب الأليم وهو عذاب الإحتجاب والطرد عن الباب
وقال ابن عطاء هذه الآية إرشاد له صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كيفية الإرشاد كأنه قيل : أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصح لهم سبيل الإستقامة في الطاعة فإن من غلب عليه رجاؤه عطله ومن غلب عليه خوفه أقنطه وذكر بعضهم أن فيها إشارة إلى ترجيح جانب الخوف على الرجاء لأنه سبحانه أجرى وصفي الرحمة على نفسه عز و جل ولم يجر العذاب على ذلك السنن وأنت تعلم أن المذكور في كثير من الكتب أنه ينبغي للإنسان أن يكون معتدل الرجاء والخوف إلا عند الموت فينبغي أن يكون رجاؤه أزيد من خوفه وفي المقام كلام طويل يطلب من موضعه لعمرك أنهم لفي سكرتهم يعمهون قال النووي : أي بحياتك التي خصصت بها من بين العالمين وقال القرشي : هذا قسم بحياة الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما أقسم سبحانه بها لأنها كانت به تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين أي المتفرسين وذكروا أن للفراسة مراتب فبعضها يحصل بعين الظاهر وبعضها ما يدركه آذان العارفين مما ينطلق به الحق بألسنة الخلق وبعضها ما يبدو في صورة المتفرس من أشكال تصرف الحق سبحانه وإنطاقه وجوده له حتى ينطق جميع شعرات بدنه بألسنة مختلفة فيروي ويسمع من ظاهر نفسه ما يدل على وقوع الأمور الغيبية وبعضها ما يحصل بحواس الباطن حيث وجدت بلطفها أوائل المغيبات باللائحة وبعضها ما يحصل من النفس الأمارة بما يبدو فيها من التمني والإهتزاز وذلك سر محبته فإن الله تعالى
(14/88)

إذا أراد فتح باب الغيب ألقى في النفس آثار بواديه إما محبوبة فتتمنى وإما مكروهة فتنفر فتنفر فتفزع ولا يعرف ذلك إلا رباني الصفة وبعضها ما يحصل للقلب إما بالإلهام وإما بالكشف وبعضها ما يحصل للعقل وذلك ما يقع من أثقال الوحي الغيبي عليه وبعضها ما يحصل للروح بالواسطة وغير الواسطة وبعضها ما يحصل لعين السر وسمعه وبعضها ما يحصل في سر السر ظهور عرائس أقدار الغيبة ملتبسات بأشكال إلهية ربانية روحانية فيبصر تصرف الذات في الصفات ويسمع الصفات بوصف الحديث والخطاب من الذات بلا واسطة وهناك منتهى الكشف والفراسة وسئل الجنيد رضي الله تعالى عنه عن الفراسة فقال : آيات ربانية تظهر في أسرار العارفين فتنطق ألسنتهم بذلك فتصادف الحق ولهم في ذلك عبارات أخر
فافصح الصفح الجميل روي عمرو بن دينار عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : الصفح الجميل صفح لا توبيخ فيه ولا حقد بعده مع الرجوع إلى ما كان قبل ملابسة المخالفة وقيل : الصفح الجميل مواساة المذنب برفع الخجل عنه ومداواة موضع آلام الدم في قلبه ولقد آتيناك سبعا من المثاني وهي الصفات السبعة أعني الحياء والعلم والقدرة والإرادة والبصر والسمع والكلام ومعنى كونها مثاني أنها ثني وكرر ثبوتها له صلى الله تعالى عليه وسلم فكانت له عليه الصلاة و السلام أولا في مقام وجود القلب وتخلقه بأخلاقه واتصافه بأوصافه وثانيا في مقام البقاء بالوجود الحقاني وقيل : معنى كونها مثاني أنها ثواني الصفات القائمة بذاته سبحانه عز و جل ومواليدها وجاء لا زال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به الحديث والقرآن العظيم وهو عندهم : الذات الجامع لجميع الصفات لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم إلى آخره قال بعضهم في ذلك غار الحق سبحانه عليه عليه الصلاة و السلام أن يستحسن من الكون شيئا ويعيره طرفه وأراد منه صلى الله تعالى عليه وسلم أن تكون أوقاته مصروفة إليه وحالاته موقوفة عليه وأنفاسه النفيسة حبيسة عنده وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كما أراد منه سبحانه ولذلك وقع في المحل الأعلى ما زاغ البصر وما طغى فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين قد مر عن الكشف ما فيه مقنع لمن أراد الإشارة من المسترشدين هذا وأسأل الله سبحانه أن يحفظنا من سوء القضاء ويمن علينا بالتوفيق إلى ما يحب ويرضى بحرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وآله وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين ما جرى في تفسير كتاب الله تعالى قلم
سورة النحل
16 -
وتسمى كما أخرج ابن أبي حاتم سورة النعم قال ابن الفرس : لما عدد الله تعالى فيها هن النعم على عباده وأطلق جمع القول بأنها مكية وأخرج ذلك ابن مردوية عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أحد وفي رواية عنه أنه كلها مكية إلا قوله تعالى : ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا إلى قوله سبحانه : بأحسن ما كانوا يعملون وروي أمية الأزدي
(14/89)

عن جابر بن زيد أن أربعين آية منها نزلت بمكة وبقيتها نزلت بالمدينة وهي مائة وثمان وعشرون آية قال الطبرسي وغيره : بلا خلاف والذي ذكره الدائي في كتاب العدد أنها تسعون وثلاث وقيل أربع وقيل خمس في سائر المصاحف وتحتوي على المنسوخ قيل على أربع آيات بإجماع وعلى آية واحدة على مختلف فيها وسيظهر لك حقيقة الأمر في ذلك إن شاء الله تعالى ولما ذكر في آخر السورة السابقة المستهزؤن المكذبون له صلى الله تعالى عليه وسلم ابتديء هنا بعد قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم بقوله عز و جل : أتى أمر الله فلا تستعجلون المناسب لذلك على ما ذكره غير واحد في معناه وسبب نزوله وفي البحر في بيان وجه الإرتباط أنه تعالى لما قال : فوربك لنسألنهم أجمعين كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا فقيل : أتى أمر الله فإن المراد به على قول الجمهور يوم القيامة وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الإلتئام بأول هذه فإن قوله سبحانه : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا : أتى أمر الله وانظر كيف جاء في المتقدمة يأتيك بلفظ المضارع وفي المتأخرة أتى بلفظ الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في محله والأمر واحد الأمور وتفسيره بيوم القيامة كما قال في البحر وفسر بما يعمه وغيره من نزول العذاب الموعود للكفرة وعن ابن جريج تفسيره لنزول العذاب فقط فقال : المراد بالأمر هنا ما وعد الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من النصر والظفر على الأعداء والإنتقام منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال والإستيلاء على المنازل والديار وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أن المراد به الأحكام والحدود والفرائض وكأنه حمله على ما هو أحد الأوامر وفيما ذكره بعد إذ لم ينقل عن أحد أنه استعجل فرائض الله تعالى وحدوده سبحانه والتعبير عن ذلك بأمر الله للتهويل والتفخيم وفيه إيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه منوط بحكمه تعالى النافذ وقضائه الغالب وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع وجوز أن يكون المراد إتيان مباديه فالماضي باق على حقيقته ولعل ما أخرجه ابن مردوية من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الأمر بخروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مؤيد لما ذكر وبعضهم أبقى الفعل على معناه الحقيقي وزعم أن المعنى أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا وهو كما ترى وظاهر صنيع الكثير يشعر باختيار أن الماضي بمعنى المضارع على طريق الإستعارة بتشبيه المستقبل المتحقق بالماضي في تحقق الوقوع والقرينة عليه قوله سبحانه فإنه لو وقع ما استعجل وهو الذي يميل إليه القلب والضمير المنصوب في تستعجلوه على ما هو الظاهر عائد على الأمر لأنه هو المحدث عنه وقيل : يعود على الله سبحانه أي فلا تستعجلوا الله تعالى بالعذاب أو بإتيان يوم القيامة كقوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب وهو خلاف الظاهر ولكن قيل : إن ذلك أوفق بما يعد والخطاب للكفرة خاصة ويدل عليه قراءة ابن جبير فلا يستعجلوه على صيغة نهي الغائب واستعجالهم وإن كان بطريق الإستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله تعالى ما قدمنا أو العذاب الموعود للكفرة خاصة أما الأول فلأنه
(14/90)

لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة أو ما يعمها من العذاب حتى يعمهم النهي عنه وأما الثاني فلأن الإستعجال من المؤمنين حقيقة ومن الكفرة استهزاء فلا ينظمهما صيغة واحدة والإلتجاء إلى إرادة معنى مجازي يعمهما معا من غير أن يكون هناك نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل
وادعى بعضهم عموم الخطاب واستدل بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله تعالى : اقتربت الساعة قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى تنظروا ما هو كائن فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئا فنزلت اقترب للناس حسابهم فأشفقوا وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت أتى أمر الله فوثب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرفع الناس رؤسهم فلما نزل فلا تستعجلوه اطمأنوا ثم قال صلى الله تعالى عليه وسلم : بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه إن كادت لتسبقني ولا دلالة فيه على ذلك لأن مناط اطمئنانهم إنما هو وقوفهم على أن المراد بالإتيان هو الإتيان الإدعائي لا الحقيقي الموجب لاستحالة الإستعجال المستلزمة لامتناع النهي عنه لما أن النهي عن الشيء يقتضي إمكانه في الجملة ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الإستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي عدم وقوع المستحيل بعد ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنا من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعة وصدور استعجالها عن المؤمنين مستحيل نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله تعالى العذاب الموعود للكفرة خاصة لكن الذي يقتضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص بالكفرة كذا قاله أبو السعود
وبحث فيه من وجوه أما أولا فلأن الذي لا يتصور من المؤمنين الإستعجال بمعنى طلب الوقوع عاجلا لأعده عاجلا وسيأتي ما روي يدل على الأخير فإنه لما سمعوا الكلام حملوه على الظاهر فاضطربوا فقيل لهم : فلا تستعجلوه أي لا تعدوه عاجلا على أن عدم تصور المعنى الأول أيضا منهم في حيز المنع لجواز أن يستعجلوه لتشقي صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم والإستهزاء بهم والضحك منهم وأما ثانيا فلأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لعله مذهب ذلك القائل وأما ثالثا فلأن القول بكون القراءة على صيغة نهي الغائب دالة على أن الخطاب مخصوص بالكفرة ممنوع والسند ظاهر وأما رابعا فلأن نفي دلالة ما روي على عموم الخطاب غير موجه لعموم لفظ الناس وأما خامسا فلأن قوله : بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله تعالى إنما هو الساعة إلى آخره يرد عليه أنه لادلالة فيه أصلا على عدم العموم فضلا أن تكون واضحة وقد عرفت ما في قوله : وقد عرفت وأما سادسا فلأن حصره المراد بالأمر في الساعة مخالف لما ذكره في تفسير قوله : أتى أمر الله حيث قال : أي الساعة أو ما يعملها وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف يدعي ذلك الحصر وفي بعض الأبحاث نظر وقال بعض الفضلاء : قد يقال : إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر أخرجه ابن مردوية عن الخبر قال : لما نزلت أتى أمر الله ذعر أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزلت فلا تستعجلوه فسكنوا وهذا أيضا على ما قيل لا يقتضي كون الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال : إنهم لما سمعوا أول الآية ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة
(14/91)

بقوله سبحانه : فلا تستعجلوه اطمأنت قلوبهم وسكنوا وقد يورد على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق لو كان استعجالهم على طرز اسعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل منزلة الإستعجال الحقيقي واستدل على كون الخطاب للكفرة بقوله سبحانه وتعالى : سبحانه وتعالى عما يشركون
1
- فإنه على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ : لما كان استعجالهم ذلك من نتائج اشتراكهم المستتبع لنسبة الله تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والإحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحدا يحجزه على إمضاء وعيده أو إنجاز وعده قيل بطريق الإستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن اشتراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما اد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على ما في بعض الروايات : إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها لنا والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والإلتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين وقيل في وجه الإرتباط على ذلك التقدير : أنه تعالى لما نهاهم عن الإستعجال ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه وإخباره تعالى للتخويف والإرشاد وأن قوله جل وعلا : أتى أمر الله إنما هو لذلك فيستعد كل أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون عطف وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتبار ما بعده فيكون ما ذكر مقدمة واستفتاحا له وأيضا فإن قوله تعالى : أتى أمر الله تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده أدله التوحيد أه وأنت تعلم أن الإرتباط على ما قرر أولا أظهر منه على هذا التقرير فافهم ثم إن ما تحتمل الموصولية والمصدرية والإحتمال الثاني أظهر ولا بد على الإحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا فلا يظهر التنزيه عن الشريك وقرأ حمزة والكسائي تشركون بتاء الخطاب على وفق فلا تستعجلوه وقرأ باقي السبعة والأعرج وأبو جعفر وأبو رجاء والحسن بياء الغيبة وقد تقدم أن في الكلام حينئذ التفاتا وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين حتى يكون التفات ولا التفات أيضا على قراءة تشركون بالتاء سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين نعم في ذلك على تقدير عموم الخطاب تغليبان على ما قيل الأول تغليب المؤمنين على غيرهم في الخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في نسبة الشرك وعلى قراءة يستعجلوه ويشركون بالتحية فيهما لا إلتفات ولا تغليب ينزل الملائكة قيل هو إشارة إلى طرق علم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بإتيان ما أوعد به وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة و السلام بذلك وقال في الكشف : التحقيق أن قوله سبحانه : أتى أمر الله تنبيه وإيقاظ ليكون ما يرد بعده ممكنا في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد لما يرد من دلائل التوحيد وقوله تعالى : ينزل الملائكة الخ تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه وتعالى أيقظ أولا ثم نعى عليهم ما هم فيه من الشرك ثم أردفه بدلائل السمع والعقل وقدم السمعي لأن صاحبه هو القائم بتحرير العقلي وتهذيبه أيضا فليس النظر إلى دليل السمع بل إلى من قام به من الملائكة والرسل عليهم السلام وهم القائمون بالأمرين جميعا فافهم وأخذ سيبويه منه أن جعل ينزل حالا من ضمير يشركون لا يطابق المقام البتة انتهى
وما ذكره من أمر الحالية إشارة إلى الإعتراض على شيخه العلامة الطيبي حيث جعل ذلك أحد احتمالين في
(14/92)

الجملة ثانيهما كونها مستأنفة وهو الظاهر وما أشار إليه من وجه الربط وادعى أنه التحقيق لا يخلو عما هو خلاف المتبادر والتعبير بصيغة الإستقبال للإشارة إلى أن التنزيل عادة مستمرة له تعالى والمراد بالملائكة عند الجمهور جبريل عليه السلام ويسمى الواحد بالجمع كما قال الواحدي إذا كان رئيسا وعند بعض هو عليه السلام ومن معه من حفظة الوحي
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل مخففا من الإنزال وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأعمش وأبو بكر ينزل مشددا مبنيا للمفعول والملائكة بالرفع على أنه نائب الفاعل والجحدري كذلك إلا أنه خفف وأبو العالية والأعرج والمفضل عن عاصم تنزل بتاء فوقية مفتوحة وتشديد الزاي مبنيا للفاعل وقد حذف منه أحد التاءين وأصله تتنزل وابن أبي عبلة ننزل بنون العظمة والتشديد وقتادة بالنون والتخفيف وفي هاتين القراءتين كما في البحر التفات بالروح أي الوحي كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ويدخل في ذلك القرآن وروي عن الضحاك والربيع بن أنس الإقتصار عليه وأما ما كان فإطلاق الروح على ذلك بطريق الإستعارة المصرحة المحققة ووجه الشبه أن الوحي يحيي القلوب الميتة بداء الجهل والضلال أو أنه يكون به قوام الدين كما أن بالروح يكون قوام البدن ويلزم ذلك استعارة مكنية وتخييلية وهي تشبه الجهل والضلال بالموت وضد ذلك بالحياة أو تشبيه الدين بإنسان ذي جسد وروح وهذا كما إذا قلت : رأيت بحرا يغترف الناس منه وشمسا يستغيثون بها فإنه يتضمن تشبيه علم الممدوح بالماء العظيم والنور الساطع لكنه جاء من عرض فليس كأنظار المنية وليس غير كونه استعارة مصرحة وجعل ذلك في الكشف من قبيل الإستعارة بالكناية وليس بذاك والباء متعلقة بالفعل السابق أو بما هو حال من مفعوله أي ينزل الملائكة ملتبسين بالروح وقوله سبحانه : من امرأة بيان للروح المراد به الوحي والأمر بمعنى الشأن واحد الأمور ولا يخرج ذلك الروح من الإستعارة إلى التشبيه كما قيل في قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر لما قالوا : من أن بينهما بونا بعيدا لأن نفس الفجر عين المشبه شبه بخيط وليس مطلق الأمر بالمعنى السابق مشبها به ولذا بينت به الروح الحقيقية في قوله تعالى : قل الروح من أمر ربي كما تبين به المجازية ولو قيل : يلقى أمره الذي هو الروح لم يخرج عن الإستعارة فليس وزان من أمره وزان من الفجر وليس كل بيان مانعا من الإستعارة كما يتوهم من كلام المحقق في شرح التلخيص
وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الروح على معنى حال كونه ناشئا ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره أو متعلقا ينزل و من سببية أو تعليلية أو ينزل الملائكة بسبب أمره أو لأجله والأمر على هذا واحد الأوامر وعلى ما قبله قيل : فيه احتمالان وذهب بعضهم إلى أن الروح هو جبريل عليه السلام وأيده بقوله تعالى : نزل به الروح الأمين وجعل الباء بمعنى مع وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الروح خلق من خلق الله تعالى كصور بني آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم وروي ذلك عن ابن جريج وعليه حمل بعضهم ما في الآية هنا وتعقب ذلك ابن عطية بأن هذا قول ضعيف لم يأت له سند يعول عليه وأضيف منه بل لا يكاد يقدم عليه في الآية أحد ما روي عن مجاهد أن المراد بالروح أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه
(14/93)

روح من تلك الأرواح على من يشاء من عباده أي أن ينزل عليهم لا لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك والآية دليل على أن النبوة عطائية كما هو المذهب الحق ويرد أيضا على بعض المتصوفة القائلين بأنه لا حاجة للخلق على إرسال الرسل عليهم السلام قالوا : الرسل سوى الله تعالى وكل ما سواه سبحانه حجاب عنه جل شأنه فالرسل حجاب عنه تعالى وكل ما هو حجاب لا حاجة للخلق إليه فالرسل لا حاجة إليهم وهذا جهل ظاهر ولعمري أنه زندقة وإلحاد وفساده مثل زندقة في الظهور ويكفي في ذلك منع الكبرى القائلة بأن كل ما سواه سبحانه الخ فإن الرسل وسيلة إلى الله تعالى والوصول إليه عز و جل لا حجاب وهل يقبل ذو عقل أن نائب السلطان في بلاده حجاب عنه وهب هذا القائل أمكنه الوصول إليه سبحانه بلا واسطة بقوة الريانة والإستعداد والقابلية فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكنه كيف يصنعون وممن ينتظم في سلك هؤلاء الملحدين البراهمة فإنهم أيضا نفوا النبوة لكنهم استدلوا بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف فيأتي بالحسن ويجتنب القبيح ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك فالأنبياء عليهم السلام إما أن يأتوا بما يوافق العقل فلا حاجة معه إليهم أو بما يخالفه فلا التفات إليهم وجوابه أن هذا مبني على القول بالحسن والقبح العقلين وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف وتم الأمر في إبطاله وعلى تقدير تسليمه لا نسلم أن العقل يستقل بجميع ما ينبغي ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤا بما يوافق العقل لا حاجة إليهم لجواز أن يعرفوا المكلف بعض ما يخفى عليه مما ينبغي له أو يؤكدوا حكمه بحكمهم ودليلان أقوى من دليل ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤا بما يخالف العقل لا يلتفت إليهم لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عليه على أن ذلك فرض محال لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر وإنما يأتي بما يقصر على إدراكه بنفسه كوجوب صوم آخر يوم من رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله أن أنذروا بدل من روح على أن أن هي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم : كتبت إليه بأن قم ولا ضير في ذلك كما حقق في موضعه أي ينزلهم ملتبسين بطلب الإنذار منهم : وجوز ابن عطية وأبو البقاء وصاحب الغنيان كون أن مفسره فلا موضع لها من الإعراب وذلك لما في تنزيل الملائكة بالوحي من معنى القول كأنه قيل : يقول بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا وجوز الزمخشري ذلك وكون أن المخففة من المثقلة وأمر البديلة على حاله قال : والتقدير بأنه أنذروا أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا
وتعقبه أبو حيان بأن جعلها مخففة وإضمار اسمها وهو ضمير الشأن وتقدير القول حتى يكون الخبر جملة خبرية تكلف لا حاجة إليه مع سهولة جعلها الثنائية التي من شأنها نصب المضارع وفيه بحث ففي الكشف أن تحقيق وصل الأمر بهذا الحرف ناصبة كانت أو مخففة وإضمار القول قد سلف إنما الكلام في إيثار المخففة ههنا وفي يونس والناصبة في نوح وهي الأمل لقلة التقدير وذلك لأن مقام المبالغة يقتضي إيثار المخففة ولهذا جعل بدلا والمبدل منه ما عرفت شأنه وكذلك في يونس معناه أعجبوا من هذا الأمر المحقق وهو أن الشأن كذا وأما في نوح فكلام ابتدائي وجعلهم فائدة القول أن لا يقع الطلبي خبرا من ضيق العطن فذلك في ضمير الشأن غير مسلم لأنه متحد بما بعده وهو كما تقول : كلامي اضرب زيدا انتهى وقريء لينذروا والإنذار الإعلام كما قيل خلا أن مختص بإعلام المحذور أي اعلموا أنه لا إله إلا أنا فالضمير للشأن وهو من خلاف
(14/94)

مقتضى الظاهر وفائدة تصدير الجملة به الإيذان من أول الأمر بفخامة مضمونها مع ما في ذلك من زيادة تقدير في الذهن و أن وما بعدها في موضع المفعول الثاني لأنذروا دون تقدير جار فيه والمفعول الأول محذوف والمراد العموم أي أعلموا الناس أن الشأن الخطير هذا ووجه أنباء مضمونه عن المحذر بأنه ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين بما يضاده من الإشراك ولا يشترط تحقق المحذور كالإتصاف المذكور بالفعل في تحقق ماهية الإنذار وإن أبيت إلا الإشتراط فتحقق الإتصاف في بعض أفراد المنذرين لا سيما الأكثر بالفعل كاف
وقال الراغب : الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور وهو قريب مما تقدم ومحصله على العبارتين التخويف ومن هنا جوز بعضهم تفسيره بذلك وقدر المفعول الأول خاصا و أن وما بعدها في موضع المفعول الثاني بتقدير الجار أي خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأن الشأن الخطير هذا وذلك كما جوز تفسيره بالأعلام وجعل المفعول الأول عاما ولم يقدر جارا في الثاني وذكر أن ذلك أصل معناه وأن تخصيصه بإعلام المحذور طاريء فإن أريد ذلك الأصل كان تعلقه بما بعده ظاهرا غاية الظهور وإن أريد غيره احتاج إلى التوجيه وقد علمته فيما إذا كان المفعول الأول عاما والأمر فيما إذا كان خاصا بعد ذلك أظهر من أن يذكر وذكر بعض الفضلاء أن الثابت في اللغة أن نذر بالشيء كفرح به فحذره وأنذره إذا أعلمه بما يحذره وليس فيها مجيئه بمعنى التخويف فأصله الإعلام مع التخويف فاستعملوه بكل من جزئي معنييه الإعلام والتخويف انتهى وفيه غفلة عما أشرنا إليه وكأنه لهذا قيل : إنه لم يأت بشيء يعتد به فاتقون
2
- جعله أبو السعود خطابا للمستعجلين على طريقة الإلتفات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على من يشاء تنزيلهم عليه من عباده وأمر المنزل عليهم بأن ينذروا الناس بأنه تعالى لا شريك له في الألوهية فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرة ما ينافيه وفروعه التي من جملتها الإستعجال والاستهزاء انتهى
وهو على ما يقتضيه الظاهر مبني عل ما مال إليه من اختصال الخطاب السابق بالكفرة وجعل بعضهم هذا الخطاب رجوعا أيضا إلى خطاب قريش لكنه متفرع على التوحيد ووجه تفرعه عليه أنه سبحانه وتعالى إذا كان واحدا لم يتصور تخليص أحد لأحد من عذابه إذا أراد ذلك ولم يجوز جعله من جملة الموحي به على معنى أعلموهم قولي أن الشأن لا إله إلانا فاتقون أو أو خوفوهم بذلك معللا بأنه لو كان ذلك لقيل إن بالكسر لا بالفتح
وتعقب بمنع اللزوم فإن أن ليست بعد قول صريح أو مقدور إنما ذكروا ذلك في بيان المعنى لتصويره واختير أنه إذا كان الإنذار بمعنى التخويف فالظاهر دخول هذا الأمر في المنذر به لأنه هو المنذر به في الحقيقة وهو المقصود بالذكر وإذا كان بمعنى الإعلام فالمقصود بالإعلام هو الجملة الأولى وهو متفرع عليها على طريق الإلتفات ولا يخلو عن مناقشة فتأمل والذي يميل إليه القلب أن المجموع داخل في حيز الإنذار وهو مشتمل على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى التي ممى أقصى كمال القوة العلمية فإن النفوس البشرية لها نسبة إلى عالم الغيب تستعد بها لقبول الصور والتحلي بالمعارف والإدراكات من ذلك العالم ونسبة إلى عالم الشهادة تستعد بها لأن تتصرف في أجسام هذا العالم ويسمى استعدادها الحاصل لها باعتبار النسبة الأولى قوة نظرية واستعدادها باعتبار النسبة الثانية قوة عملية وأشرف كمالات القوة النظرية معرفة أن لا إله إلا الله تعالى وأشرف كمالات القوة العملية الإتيان بالأعمال الالواقية عن خزي يوم القيامة
(14/95)

وقدم قوله تعالى : لا إله إلا أنا على قوله سبحانه : فاتقون للإشارة إلى مايستند إلى القوة النظرية أعلى كمالا مما يستند إلى القوة العملية والكمال الإنساني باعتبار هاتين القوتين يسمى كمالا نفسانيا وله كمالات أخر هي كمالاته البدنية وقواه الحيوانية وقد فصل ذلك في موضعه ثم أنه تعالى شرع في تحرير الدلائل العقلية الدالة على توحيده الذي هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل عليهم السلام فقال عز قائلا : خلق السماوات والأرض بالحق وذكر بعض المحققين أنه تعالى شأنه وعظم برهانه قد استوفى أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام على أسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم ونبه على أن كل واحد يكفي صارفا للمشركين عما هم فيه من الشرك وعليه مدار السورة الكريمة كلما بصرهم طائفة من البصائر ضمنها تبكيتهم وكفرانهم نعمتي الرعاية والهداية وانظر إلى فاتحته ثم إلى خاتمته في قوله سبحانه : واصبر إلى آخر السورة بين لك بعض ما ضمن الكتاب الكريم من أسرار البلاغة وأنوار الإعجاز والمراد بالسماوات والأرض إما هذه الأجرام والأجسام المعلومة وإما جهة العلو والسفل أي أوجد ذلك ملتبسا بما يحق له بمقتضى الحكمة فيدل على صانع حي عالم قادر مريد منفرد باللوهية والربوبية والإ لزم إمكان التمانع المستلزم لإمكان المحال حسبما بين في علم الكلام ولذا عقب هذا بقوله تعالى : تعالى عما يشركون
3
-
وقرأ الأعمش فتعالى بالفاء و ما يحتمل أن تكون مصدرية أي تعالى وتقدس بذاته وأفعاله عن إشراكهم وأن تكون موصولة على معنى تعالى عن شركة ما يشركونه من الباطل الذي لا يبديء ولا يعيد واستدل بالآية على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام والأجسام كما يقوله المجسمة ووجه ذلك أنها تدل على احتياج الأجرام والأجسام إلى خالق سبحانه وتعالى لا يجانسها وإلا لاحتاج إليه فلا يكون خالقا وبإرادة الجهتين يكون وجه الدلالة من الآية أظهر وقرأ الكسائي تشركون بالتاء
خلق الإنسان أي هذا النوع غير الفرد الأول منه من نطفة أصلها الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل أي أوجده من جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلا ولا وضعا فإذا هو بعد الخلق من ذلك خصيم منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم وهو صيغة مبالغة وقال الواحدي : بمعنى مخاصم وفعيل بمعنى مفاعل معروف عندهم كالنسيب بمعنى المناسب والخليط بمعنى الخالط والعشير بمعنى المعاشر مبين
4
- مظهر للحجة لقن بها وقيل : المعنى أوجده من ذلك فإذا هو خصيم لخالقه سبحانه منكر لعظيم قدرته قائل : من يحيي العظام وهي رميم والأول أنسب بمقام الإمتنان بإعطاء القدرة على الإستدلال بذلك على قدرته جل جلاله ووحدته وبين الإمام وجه الإستدلال فقال بعد أن زعم أن الإنسان في الشرف بعد الأفلاك والكواكب وأشار إلى أنه لذلك عقب الإستدلال بخلق تلك بالإستدلال بخلقه : اعلم أن الإنسان مركب من نفس وبدن وصدر الآية إشارة إلى الإستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وعجزها إشارة إلى الإستدلال بأحواله وتقدير الأول أن يقال : إن النطفة إما أن تكون متشابهة الأجزاء أو مختلفتها فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد هذا البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهرها لأن تأثير الطبيعة بالذات والإيجاب فمتى عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون عملها الكرية وحيث لم يكن الأمر
(14/96)

فيما نحن فيه كذلك لظهور أن الأبدان ليست كرية علمنا أن المقتضى لها هو الفاعل الحكيم المختار وإن كان الثاني قلنا : إنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا وحينئذ لو كان المدبر لها قوة طبيعية لوجب أن يكون كل من تلك البسائط كرى الشكل فكان يلزم أن يكون الإنسان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن لذلك علمنا أن المقتضي هو الفاعل المختار أيضا جل شأنه وأيضا إن النطفة رطبة سريعة الإستحالة فلا تحفظ الوضع فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في السفل والجزء الذي هو مادة القلب يمكن حصوله في الفرق فحيث كان الإنسان على هذا الترتيب المعين دائما مع إمكان غيره علمنا أن حدوثه على ذلك الترتيب ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم ولا يصح أن يقال : إن ذلك من تأثير النجوم والأوضاع الفلكية لأن تأثيراتها متشابهة على أنه قد بين بطلان كونها مؤثرة بغير ذلك في موضعه
وتقرير الثاني أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات فإن فرخ الدجاجة حين خروجه من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجيء إلى الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حين انفصاله من بطن أمه لا يميز بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ثم إنه بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على معرفة الله تعالى وعلى معرفة أصناف المخلوقات العلوية والسفلية والإطلاع على كثير من أحوالها الدقيقة وعلى الخصومات والمباحثات فانتقال نفسه من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقلها من نقصانها إلى كمالها ومن جهالتها إلى معرفتها بحسب الحكمة والإختيار والثاني قيل : أنسب بمقام تعداد هنات الكفرة فإنه قد اشتمل من بيان جراءة من كفر على الله تعالى وعدم استحيائه منه سبحانه ووقاحته بتماديه في الكفر
وذكر بعضهم أنه يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في سورة يس بعد ما ذكر مثله : قال من يحيي العظام وهي رميم فإنه نص فيما ذكر فيكون صدر الآية للإستدلال وعجزها لتقرير الوقاحة وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه مدار ما قبلها في تلك السورة على ذكر الحشر والنشر ومكابرتهم فيه بخلاف هذه ولكل مقام مقال وأما كون الآية مسوقة لتقرير وقاحة الإنسان لانتفاء التنافي بين الإستدلال على الوحدانية والقدرة وتقرير وقاحة المنكرين ولذا جعل التتميم لما قبله تعالى عما يشركون فعدم المنافي لا يقتضى وجود المناسب وعندي لكل وجهة
وفي الكشف المعنيان ملائمان للمقام إلا أن في الثاني زيادة ملائمة مع قوله : تعالى عما يشركون ثم أنه أدمج فيه المعنى الأول وروي الواحدي أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعض رميم وقال : يا محمد أترى أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رم فنزلت نظير ما في آخر يس والمشهور أن تلك هي النازلة في تلك القصة ثم وجه التعقيب وإذا الفجائية في قوله سبحانه : فإذا هو إلى آخره مع أن كونه خصيما مبينا بأي معنى أريد لم يعقب خلقه من نطفة إذ بينهما وسائط أنه بيان لأطواره إلى كمال عقله فالتعقيب باعتبار آخرها فلا وجه لتقدير الوسائط ولا للقول بأنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤول إليه فافهم
والأنعام وهي الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز قال الراغب : ولا يقال أنعام إلا إذا كان فيها إبل وخصها بعضهم هنا بذلك وليس بشيء والنصب على المفعولية لفعل مضمر يفسره قوله تعالى : خلقها وهو أرجح من الرفع في مثل هذا الموضع لتقدم الفعلية وقريء به في الشواذ أو على العطف على الإنسان وما
(14/97)

بعد بيان ما خلق لأجله والذي بعده تفصيل لذلك وقوله سبحانه : لكم إما متعلق بخلقها وقوله تعالى : فيها خبر مقدم وقوله جل وعلا : دفء مبتدأ مؤخر والجملة حال من المفعول أو الجار والمجرور الأول خبر للمبتدأ المذكور والثاني متعلق بما فيه من معنى الإستقرار وقيل : حال من الضمير المستكن فيه العائد على المبتدأ وقيل : حال من دفء إذ لو تأخر لكان صفة وجوز أبو البقاء أن يكون الثاني هو الخبر والأول في موضع الحال من مبتدئه وتعقبه أبو حيان بأن هذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى لا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها فلا يجوز قائما في الدار زيد فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف وإن توسطت فالأخفش على الجواز والجمهور على المنع وجوز أبو البقاء أيضا أن يرتفع دفء بلكم أو بفيها والجملة كلها حال من الضمير المنصوب وتعقبه أبو حيان أيضا بأن ذلك لا يعد من قبيل الجملة بل هو من قبيل المفرد ونقل أنهم جوزوا أن يكون لكم متعلقا بخلقها وجملة فيها دفء استئناف لذكر منافع الأنعام واستظهر كون جملة لكم فيها دفء مستأنفة ثم قال : ويؤيد الإستئناف فيها الإستئناف في مقابلتها أعني قوله تعالى : ولكم فيها جمال فقابل سبحانه المنفعة الضرورية بالمنفعة الغير الضرورية وإلى نحو ذلك ذهب القطب فاختار أن الكلام قد تم عند خلقها لهذا العطف وخالفه في ذلك صاحب الكشف فقال : إن قوله تعالى : خلقها لكم بناء على تفسير الزمخشري له بقوله : ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان طرف من ترشيح المعنى الثاني في قوله سبحانه : فإذا هو خصيم مبين لما في الإلتفات المشار إليه من الدلالة عليه وأما الحصر المشار إليه بقوله : ما خلقها إلا لكم فمن اللام المفيدة للإختصاص سيما وقد نوع بما يفيد زيادة التمييز والإختصاص وهذا أولى من جعل لكم فيها دفء مقابل لكم فيها جمال لإفادته المعنى الثاني وأبلغ على أنه يكون فيها دفء تفصيلا للأول وكرر لكم في الثاني لبعد العهد وزيادة التقريع أه والحق في دعوى أولوية تعلق لكم بما قبله معه كما لا يخفى والدفء اسم لما يدفأ به أي يسخن وتقول العرب دفيء يومنا فهو دفيء إذا حصلت فيه سخونة ودفيء الرجل دفاء ودفاء بالفتح والكسر ورجل دفآن وامراة دفأى ويجمع الدفء على أدفاء والمراد به ما يعم اللباس والبيت الذي يتخذ من أوبارها وأصوافها وفسره ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره بالثياب
وأخرج عبد الرزاق وغيره عنه رضي الله تعالى عنه أيضا أنه نسل كل دابة ونقله الأموي عن لغة بعض العرب والظاهر هو الأول وقرأ الزهري وأبو جعفر دف بضم الفاء وشدها وتنوينها ووجه ذلك في البحر بأنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء وحذفت ثم شدد الفاء إجراء للوصول مجرى الوقفف إذ يجوز تشديدها في الوقف
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما دف بنقل الحركة والحذف دون تشديد وفي اللوامح قرأ الزهري دف بضم الفاء من غير همزة وهي محركة بحركتها ومنهم من يعوض عن هذه الهمزة فيشدد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا واعترض بأن التشديد وقفا لغة مستقلة وإن لم يكن ثمة حذف من الكلمة الموقوف عليها ودفع بأنه إنما يكون ذلك إذا وقف على آخر حرف منها أما إذا وقف على ما قبل الآخر منها كقاض فلا
ومنافع هي درها وركوبها والحراثة بها والنضح عليها وغير ذلك وإنما عبر عنها بها ليشمل الكل مع أنه الأنسب بمقام الإمتنان بالنعم وقدم الدفء رعاية لأسلوب الترقي إلى الأعلى ومنها تأكلون
5
- أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم ونحو ذلك فمن تبعيضة والأكل إما على معناه المتبادر وإما بمعنى التناول
(14/98)

الشامل للشرب فيدخل في العد الألبان وجوز أن تكون من ابتدائية وأن تكون للتبعيض مجازا أو سببية أي تأكلون ما يحصل بسببها فإن الحبوب والثمار المأكولة تكتسب باكتراء الإبل مثلا وأثمار نتاجها وألبانها وجلودها والأول أظهر وأدخل ما يحصل من أكترائها من الإجارة التي يتوصل بها إلى مصالح كثيرة في المنافع وتغيير النظم الجليل قيل للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحق فإن الدفء والمنافع التي أشرنا إليها والجمال يحصل منها وهي باقية على حالها ولذلك جعلت محال لها بخلاف الأكل وتقديم الظرف للحصر على معنى أن الأكل منها هو المعتاد المعتمد في المعاش من بين سائر الحيوانات فلا يرد الأكل من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فإنه من قبيل التفكه وكذا لا يرد أكل لحم الخيل عند من أباحه لأنه ليس من المعتاد المعتمد أيضا والحاصل أن الحصر إضافي وبذلك لا يرد أيضا أكل الخبز والبقول ونحوها ويضم إلى هذا الوجه في التقديم رعاية الفواصل وجعله لمجرد ذلك كما في الكشف قصور وأبو حيان ينكر كون التقديم مطلقا للحصر فينحصر وجهه هنا حينئذ في الرعاية المذكورة
ولكم فيها مع ما ذكر من المنافع الضرورية جمال زينة في أعين الناس وعظمة ووجاهة عندهم والمشهور إطلاقه على الحسن الكثير ويكون في الصورة بحسن التركيب وتناسق الأعضاء وتناسبها وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة وفي الأفعال بكونها ملائمة للمصلحة من درء المضرة وجلب المنفعة وهو في الأصل مصدر جمل بضم الميم ويقال للرجل جميل وجمال وجمال على التكثير وللمرأة جميلة وجملاء عند الكسائي وأنشد فهي جملاء كبدر طالع
بذت الخلق جميعا بالجمال ورأى بعضهم إطلاقه على التجمل فظن أنه مصدر بإسقاط الزوائد حين تريحون أي تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها يقال : أراح الماشية إذا ردها إلى المراح وقتئذ وحين تسرحون
6
- تخرجونها غدوة من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها يقال : سرحها يسرحها سرحا وسروحا وسرحت هي يتعدى ولا يتعدى والفعل الأول وكذا الثاني متعد والمفعول محذوف لرعاية الفواصل وتعيين الوقتين لأن ما يدور عليه أمر الجمال من تزين الأفنية وتجاوب ثغائها ورغائها إنما هو عند الذهاب والمجيء في ذينك الوقتين وأما عند كونها في المسارح فتنقطع إضافتها الحسية إلى أربابها وعند كونها في الحظائر لا يراها راء ولا ينظر إليها ناظر
وتقديم إلا راحة على السرح مع أنها متأخرة في الوجود عنه لكونها أظهر منه في استتباع ما ذكر من الجمال وأتم في استجلاب الأنس والبهجة إذ فيها حضور بعد غيبة وإقبال بعد إدبار على أحسن ما يكون ملأى البطون حافلة الضروع وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري حينا فيهما بالتنوين وفك الإضافة على أن كلتا الجملتين صفة لحينا قبلها والعائد محذوف كما في قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس أي حينا تريحون فيه وحنا تسرحون فيه والعامل في حين إما المبتدأ لأنه بمعنى التجمل كما قيل وإما خبره لما فيه من معنى الإستقراء
وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لجمال وتحمل أثقالكم أي أحمالكم الثقيلة جمع ثقل وقيل أجسامكم كما قيل في قوله تعالى : وأخرجت الآرض أثقالها حيث فسرت الأثقال فيه بأجسام بني آدم
(14/99)

إلى بلد روي عن ابن عباس أنه اليمن والشام ومصر وكأنه نظر إلى أنها متاجر أهل مكة كما يؤذن به ما في تفسير الخازن عنه رضي الله تعالى عنه من أنه قال : يريد من مكة إلى اليمن وإلى الشام وفي رواية أخرى عنه وعن الربيع بن أنس وعكرمة أنه مكة وكأنهم نظروا إلى أن أثقالهم وأحمالهم عند القفول من متاجرهم أكثر وحاجتهم إلى الحمولة أمس والظاهر أنه عام لكل بلد سحيق وإلى ذلك ذهب أبو حيان وجعل ما ورد من التعيين كالمذكور وكالذي نقله عن بعضهم من أنها مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم محمولا على التمثيل لا على أن المراد ذلك المعين دون غيره لم تكونوا بالغيه واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأقفال فضلا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم لو لم تكن الأنعام ولم تخلق إلا بشق الأنفس أي مشتقها وتعبها وقيل : المعنى لم تكونوا بالغيه بها إلا بما ذكر وحذف بها لأن المسافر لا بد له من الأثقال والمراد التنبيه على بعد البلد وأنه مع الإستعانة بها بحمل الأثقال لا تصلون إليه إلا بالمشقة ولا يخفى أن الأول أبلغ وقرأ مجاهد والأعرج وأبو جعفر وعمرو بن معين وابن أرقم بشق بفتح الشين وروي ذلك عن نافع وابن عمرو وكلا ذلك لغة والمعنى ما تقدم وقيل : الشق بالفتح المصدر وبالكسر الاسم يعني المشقة وعلى الكسر بهذا المعنى جاء قوله : وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب من شقها ودءوب فإنه أراد مشقتها وعن الفراء أن المفتوح مصدر من شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع والمكسور النصف يقال : أخذت شق الشاة أي نصفها وجاء اتقوا النار ولو بشق تمرة والمعنى إلا بذهاب نصف الأنفس كأن الأنفس تذوب تعبا ونصبا لما ينالها من المشقة كما يقال لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك أو قطعة من كبدك وهو من المجاز وجوز بعضهم أن يكون على تقدير مضاف أي إلا بشق قوي الأنفس والإستثناء مفرغ أي لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس وجعل أبو البقاء الجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المرفوع في بالغيه أي مشقوقا عليكم وضمير تحمل للأنعام إلا أن الحمل المذكور باعتبار بعض أنواعها وهي الإبل ومثله كثير ومن هنا يظهر ضعف استدلال بعضهم بهذا الإسناد على أن المراد بالأنعام فيما مر الإبل فقط وتغيير النظم الكريم السابق الدال على كونه الأنعام مدارا للنعم إلى الفعلية المفيدة للحدوث قيل لعله للإشعار بأن هذه النعمة ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفي الشمول للأوقات والأطراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعم السالفة فإنها بحسب المنشأ خاصة كما سمعت بالإبل وبحسب المتعلق بالمتقلبين في الأرض للتجارة وغيرها في أحايين غير مطردة وأما سائر النعم المعدودة فموجودة في جميع الأصناف وعامة لكافة المخاطبين دائما في عامة الأوقات أه واحتج كما قال الإمام منكر كرامات الأولياء بهذه الآية لأنها تدل على أن الإنسان لا يمكنه الإنتقال من بلد إلى آخر إلا بشق الأنفس وحمل الثقال على الجمال
ومثبتو الكرامات يقولون : إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى آخر بعيد في زمان قليل من غير تعب وتحمل مشقة فكان ذلك على خلاف الآية فيكون باطلا وإذا بطلت في هذه الصورة بطلت في الجميع إذ لا قائل بالفرق
وأجاب بأنا تخصص عموم الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرامات أه ولعل القائلين بعدم ثبوت طي المسافة للولياء يستندون إلى هذه الآية لكن هؤلاء لا ينفون الكرامات مطلقا فلا يصح قوله إذ لا قائل بالفرق ومن أنصف علم أن الإستدلال بها على هذا المطلب مما لا يكاد يلتفت إليه بناء على أنها مسوقة للإمتنان ويكفي فيه
(14/100)

وجود هذا في أكثر الأحايين لأكثر الناس فافهم إن ربكم لرءوف رحيم
7
- ولذلك أسبغ عليكم النعم الجليلة ويسر لكم الأمور الشاقة العسيرة والخير هو كما قال غير واحد اسم جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل وذكر الراغب أنه في الأصل يطلق على الإفراس والفرسان وهو عطف على الأنعام أي وخلق الخيل والبغال جمع بغل معروف والحمير جمع حمار كذلك ويجمع في القلة على أحمرة وفي الكثرة على حمر وهو القياس وقرأ ابن أبي عبلة برفع الخيل وما عطف عليه لتركبوها تعليل لخلق المذكورات والكلام في تعليل أفعال الله تعالى مبسوط في الكلام وزينة عطف على محل لتركبوها فهو مثله مفعول لأجله وتجريده عن اللام دونه لأن الزينة فعل الزاين وهو الخالق تعالى ففاعل الفعلين المعلل والمعلل به واحد بخلاف فاعل الركوب وفاعل المعلل به فشرط النصب الذي اشترطه من اشترطه موجود في المعطوف دون المعطوف عليه قاله غير واحد وذكر بعض المدققين أن في عدم مجيئها على سنن واحد دلالة على أن المقصود الأصلي الأول فجيء بالحروف الموضوعة لذلك وسيق الخطاب وأعيد الضمير للثلاثة في لتركبوها وجيء بالثاني تتميما ودلالة على أنه لما كان من مقاصدهم عد في معرض الإمتنان وإلا فليس التزين بالعرض الزائل مما يقصده أهل الله تعالى وهم أهل الخطاب بالقصد الأول واعترض ما تقدم بأنه وإن ثبت اتحاد الفاعل لكن لم تتم به شروط صحة النصب لفقد شرط آخر منها وهو المقارنة في الوجود فإن الخلق متقدم على الزينة وأجيب بأن ذلك على إرادة إرادة الزينة كما قيل في ضربت زيدا تأديبا أن التأديب بتأويل إرادته وجوز أبو البقاء كون زينة مصدرا لفعل محذوف أي ولتتزينوا بها زينة وقال ابن عطية إنه مفعول به لفعل محذوف أي وجعلها زينة وروي قتادة عن ابن عباس أنه قرأ لتركبوها زينة بغير واو قال صاحب اللوامح : إن زينة حينئذ نصب على الحال من الضمير في خلقها أو من الضمير في لتركبوها ولم يعين الضمير وعينه ابن عطية فقال هو المنصوب وقال غير واحد تجوز الحالية من كل من الضميرين أي لتركبوها متزينين أو متزينا بها وقال الزمخشري بعد حكاية القراءة : أي خلقها زينة لتركبوها ومراده على ما قيل أن الزينة إما ثاني مفعولي خلق على إجرائه مجرى جعل أو هو حال عن المفعولات الثلاثة على الجميع وجوز كونه مفعولا له لتركبوها وهو بمعنى التزين فلا يرد عليه اختلاف فاعل الفعلين قيل : وأما لزوم تخصيص الركوب المطلوب بكونه لأجل الزينة وكون الحكمة في خلقها ذلك وكون ذلك هو المقصود الأصلي لنا فلا ضير فيه لأن التجمل بالملابس والمراكب لا مانع منه شرعا وهو لا ينافي أن يكون لخلقها حكم أهم كالجهاد عليها وسفر الطاعات وإنما خص لمناسبته لمقام الإمتنان مع أن الزينة على ما قال الراغب ما لا يشين في الدنيا ولا في الآخرة وأما ما يزين في حالة دون أخرى فهو من وجه شين أه فتأمل ولا تغفل واستدل بالآية على حرمة أكل لحوم المذكورات لأن السوق معرض في الإستدلال بخلق هذه النعم منة على هذا النوع دلالة على التوحيد وسوء صنيع من يقابلها بالإشراك والحكيم لا يمن بأدنى النعمتين تاركا أعلاهما كيف وقد ذكر أماما
وروي ابن جرير وغيره القول بكراهة أكل لحوم الخيل لهذه الآية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروي عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنه قال : رخص بعض العلماء في لحم الخيل فأما أنا فلا يعجبني أكله وفي رواية أخرى أنه قال أكرهه والأولى تلوح إلى قوله بكراهة التنزيه والثانية تدل على التحريم بناء على ما روي عن
(14/101)

أبي يوسف أنه سأله إذا قلت : في شيء أكرهه فما رأيك فيه فقال : التحريم وكأنه لهذا قال صاحب الهداية الأصح أن كراهة أكل لحمها تحريمية عند الإمام وفي العمادية أنه رضي الله تعالى عنه رجع عن القول بالكراهة قبل موته بثلاثة أيام وعليه الفتوى وقال صاحباه والإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهم : لا بأس بأكل لحوم الخيل وأجاب بعض الشافعية عن الإستدلال بالآية بمنع كون المذكور أدنى النعمتين بالنسبة إلى الخيل قال : وذلك لأن الآية وردت للإمتنان عليهم على نحو ما ألفوه ولا ينكر ذو أرب أن معظم الغرض من الخيل الركوب والزينة لا الأكل بخلاف النعم وذكر أغلب المنفعتين وترك أدناهما ليس بدعا بل هو دأب اختصارات القرآن وذكره في الأول أن لم يصر حجة لنا في الإكتفاء مع التنبيه على أنه نزر في المقابل فلا يصير حجة علينا فظهر أنه لا استدلال لا من عبارة الآية ولا من إشارتها
واستدلوا على الحل بما صح من حديث جابر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية والبغال وأذن عليه الصلاة و السلام في لحم الخيل يوم خيبر وفيه دليل عندهم على أن الآية لا تدل على التحريم لإفادته أن تحريم لحوم الحمر الأهلية إنما وقع عام خيبر كما هو الثابت عند أكثر المحدثين وهذه السورة مكية فلو علم التحريم مما فيها كان ثابتا قبله وبحث فيه بأن السورة وإن كانت مكية يجوز كون هذه الآية مدنية وفيه أن مثل ذلك يحتاج إلى الرواية ومجرد الجواز لا يكفي وعورض حديث جابر بما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي وابن المنذر عن خالد بن الوليد قال : نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الخيل والبغال والحميل والترجيح كما قال في الهداية للمحرم ولكن أنت تعلم أن هذا الخبر يوهي أمر الإستدلال بالآية لما أن خالدا قد أسلم بالمدينة والآية مكية فلو كان التحريم معلوما منها كان للنهي الذي سمعه كثير فائدة والجملة الإستدلال بالآية على حرمة لحوم الخيل لا يسلم من العثار فلا بد من الرجوع في ذلك إلا الأخبار والحكم عند تعارضها لا يخفى على ذوي الأستبصار والذي أميل إليه الحل والله تعالى أعلم ويخلق ما لا تعلمون
8
- أي ويخلق غير ذلك الذي فصله سبحانه لكم والتعبير عنه بما ذكر لأن مجموعه غير معلوم ولا يكاد يكون معلوما فالكلام إجمالا لما عدا الحيوانات المحتاج غالبا احتياجا ضروريا أو غير ضروري والعدول إلى صيغة الإستقبال للدلالة على الإستمرار والتجدد أو لاستحضار الصورة ويجوز أن يكون إخبارا من تعالى بأن له سبحانه ما لا علم لنا به من الخلائق فما لا تعلمون على ظاهره فقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن مما خلق الله تعالى لأرضا لؤلؤة بيضاء مسيرة ألف عام عليها جبل من ياقوتة حمراء محدق بها في تلك الأرض ملك قد ملأ شرقها وغربها له ستمائة رأس في كل رأس ستمائة وجه في كل وجه ستمائة ألف فم في كل فك ستمائة ألف لسان يثني الله تعالى ويقدسه ويهلله ويكبره بكل لسان ستمائة ألف وستين ألف مرة فإذا كان يوم القيامة نظر إلى عظمة الله تعالى فيقول : وعزتك ما عبدتك حق عبادتك فلذلك قوله تعالى : ويخلق ما لا تعلمون وفي رواية أخرى عنه أن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيزداد جمالا إلى جماله وعظما إلى عظمه ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك فيدخل منهم كل يوم سبعون
(14/102)

ألف ملك البيت المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إلى يوم القيامة وروي هذا أيضا عن الضحاك ومقاتل وعطاء ومما لا نعلمه أرض السمسمة التي ذكر عنها الشيخ الأكبر قدس سره ما ذكر وجابرصا وجابلقا حسبما ذكره غير واحد وإن زعمت أن ذلك من الخرافات كالذي ذكره عصرينا رئيس الطائفة الذين سموا أنفسهم بالكشفية ودعاهم أعداؤهم من الإمامية بالكفشية في غالب كتبه مما تضحك منه لعمر أبيك الثكلي ويتمنى العالم عند سماعه لمزيد حيائه من الجهلة نزوله إلى الأرض السفلى فاقنع بما جاء في الآثار ولا يثنينك عنه شبه الفلاسفة إذا صح سنده فإنها كسراب بقيعة والذي أظنه أنه ليس أحد من الكفار فضلا عن المؤمنين يشك في أن لله تعالى خلقا لا نعلمهم ليحتاج إلى إيراد الشواهد على ذلك ويجوز أن يكون المراد بهذا الخلق الخلق في الجنة أي ويخلق في الجنة غير ما ذكر من النعم الدنيوية ما لا تعلمون أي ما ليس من شأنكم أن تعلموه وهو ما أشير إليه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم حكابة عن الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وعلى الله قصد السبيل القصد مصدر بمعنى الفاعل يقال : سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك ولا يعدل عنه فهو نحو نهر جار وطريق سائر و على للوجوب مجازا والكلام على حذف مضاف أي متحتم عليه تعالى متعين كالأمر الواجب لسبق الوعد بيان وقيل : هداية الطريق المستقيم الموصل لمن سلكه إلى الحق الذي هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه أو هو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل على على حالها المار إلا أنه لا حاجة إلى تقدير المضاف أي عليه سبحانه تقويم السبيل وتعديلها أي جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق على حد صغر البعوضة وكبر الفيل وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب
وجوز أن يكون القصد بمعنى القاصد أي المستقيم كما في التفسير الأول و على ليست للوجوب واللزوم والمعنى أن قصد للسبيل ومستقيمه موصل إليه تعالى ومار عليه سبحانه وفيه تشبيه ما يدل على الله عز و جل بطريق مستقيم شأنه ذلك وقد ذكر نحو هذا ابن عطية وهو كما ترى وأل في السبيل للجنس عند كثير فهو شامل للمستقيم وغير وإضافة القصد بمعنى المستقيم إليه من إضافة العام إلى الخاص وإضافة الصفة إلى الموصوف خلاف الظاهر على ما قيل وقيل : أل للعهد والمراد سبيل الشرع وقوله تعالى : ومنها جائر أي عادل عن المحجة منحرف عن الحق لا يوصل سالكه إليه ظاهر في إرادة الجنس إذ البعضية إنما تتأتى على ذلك فإن الجائر على إرادة العهد ليس من ذلك بل قسيمه ومن أراده أعاد الضمير على المطلق الذي في ضمن ذلك المقيد أو على المذكور بتقدير مضاف أي ومن جنسها جائر وقال ابن عطية : يحتمل أن يعود على سبيل الشرع والمراد بهذا البعض فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو جائر عن قصد السبيل وزعم بعضهم أن الضمير يعود على الخلائق أي ومن الخلائق جائر عن الحق وأيد بقراءة عيسى ورويت عن ابن مسعود ومنكم وأخرجها ابن الأنباري في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه لكن بالفاء بدل الواو وليس بذاك والتأنيث لأن السبيل تؤنث وتذكر والجار والمجرور قيل خبر مقدم و جائر مبتدأ مؤخر وقيل : هو في محل رفع بالإبتداء إما باعتبار مضمونه وإما بتقدير الموصوف أي بعض السبيل
(14/103)

أو بعض من السبيل جائر والجملة على ما اختاره بعض المحققين اعتراضية جيء بها لبيان الحاجة إلى البيان أو التعديل بنصب الأدلة والإرسال والإنزال الأمور المذكورة سابقا وإظهار جلالة قدر النعمة في ذلك وذلك هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهداية المستلزمة للإهتداء إليه فإن ذلك ليس على الله سبحانه أصلا بل هو مخل بحكمته كما يشير إليه قوله تعالى : ولو شاء لهداكم أجمعين
9
- قال فإن معناه ولو شاء هدايتكم إلى ما ذكر من التوحيد هداية مستلزمة للإهتداء إليه لفعل ولكن لم يشأ لأن مشيئته تابعة للحكمة ولا حكمة في تلك المشيئة لما أن الذي يدور عليه فلك التكليف إنما هو الإختيار الذي عليه ترتب الأعمال التي بها يرتبط الجزاء وقيد أجمعين للمنفي لا للنفي فيكون المراد سلب العموم لا عموم السلب وذكر بعضهم أنه كان الظاهر أن يقال : وعلى الله قصد السبيل وجائرها أو عليه جائرها إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأن الضلالة لا يضاف إليه تعالى تأدبا فهو كقوله تعالى : الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم
وزعم الزمخشري أن المخالفة بين أسلوبي الجملتين للإيذان بما يجوز إضافته من السبيلين إليه تعالى وما لا يجوز وعنى الإشارة إلى ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من عدم جواز إضافة الضلال إليه سبحانه لأنه غير خالقه وجعلوا الآية للمخالفة حجة لهم في هذه المخالفة وأجاب بعض الجماعة بأن المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم بيان الدين الحق والمذهب الصحيح فأما بيان كيفية الإغواء والإضلال فليس عليه سبحانه وبحث فيه بأنه كما أن بيان الهداية وطريقها متحتم فكذا ضده وليس إرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب إلا لذلك
وقال ابن المنير : إن المخالفة بين الأسلوبين لأن سياق الكلام لإقامة الحجة على الخلق بأنه تعالى بين السبيل القاصد والجائر وهدى قوما اختاروا الهدى وأضل آخرين اختروا الضلالة وقد حقق أن كل ما فعل صدر على يد العبد فله اعتبار أن هو من حيث كونه موجودا مخلوق لله تعالى ومضاف إليه سبحانه بهذا الإعتبار وهو من حيث كونه مقترنا باختيار العبد له وتيسره عليه يضاف إلى العبد وأن تعدد هذين الإعتبارين ثابت في كل فعل فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له والحاصل أنه ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر ليناسب ذلك إقامة الحجة ألا لله الحجة البالغة وأنكر بعض المحققين أن يكون هناك تغيير الأسلوب لأمر مطلوب بناء على أن ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكا معينا ولكن يعدل عن ذلك لنكتة أهم منه وليس المراد من بيان قصد السبيل مجرد إعلام أنه مستقيم حتى يصح إسناده أنه جائر إليه فيحتاج إلى الإعتذار عن عدم ذلك على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوب نكتة وقد بين ذلك في مواضع غير معدودة بل المراد نصب الأدلة للهداية إليه ولا إمكان لإسناد مثله إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال : وجائرها حتى يصرف ذلك الإسناد منه تعالى إلى غيره سبحانه لنكتة ولا يتوهمه متوهم حتى يقتضي الحال دفع ذلك بأن يقال لا جائرها ثم يغير سبك النظم عنه لداعية أقوى منه وذكر أن الجملة اعتراضية حسبما نقلناه سابقا وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق بيد أن لقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يراد ببيان السبيل المستقيم وببيان السبيل الجائر نصب الأدلة الدالة على حقية الأول ليهتدي إليه وبطلان الثاني ليحذر ولا يعول عليه وهذا غير مجرد الأعلام الذي ذكره ونسبته إليه تعالى بل بعضهم : إن الحق أن المعنى على الله تعالى بيان طريق الهداية ليهتدوا إليه وبيان غيرها ليحذروه ولكن اكتفى بأحدهما للزوم الآخر له
(14/104)

وفي الكشف أن تغاير الأسلوبين على أصل أهل السنة واضح أيضا إذ لا منكر أن الأول هو المقصود لذاته فبيان طريق الضلالة إجمالا قدر ما يمتاز قصد السبيل منه في ضمن بيان قصد السبيل ضرورة وبيانه التفصيلي ليس مما لا بد من وقوعه ولا أن الوعد جرى به على مذهب أه فليتأمل ثم إن الآية منادية على خلاف ما زعمه المعتزلة ومنهم الزجاج من عدم استلزام تعلق مشيئته بشيء وجوده وقد التجأوا إلى التزام تفسيرها بالقسرية وقال أبو علي منهم : المعنى لو شاء لهداكم إلى الثواب أو إلى الجنة بغير استحقاق وكل ذلك خلاف الظاهر كما لا يخفى
هو الذي أنزل من السماء ماء شروع في نوع آخر من النعم الدالة على توحيده سبحانه والمراد من الماء نوع منه هو المطر ومن السماء أما السحاب على الإستعارة أو المجاز المرسل وأما الجزم المعروف والكلام على حذف مضاف أي من جانب السماء أو جهتها وحملها على ذلك بدون هذا يقتضيه ظاهر بعض الأخبار ولا أقول به و من على كل تقدير ابتدائية وهو متعلق مما عنده وتأخير المفعول الصريح عنه ليظمأ الذهن إليه فيتمكن أتم تمكن عند وروده عليه وقوله تعالى : لكم يحتمل أن يكون خبرا مقدما وقوله سبحانه : منه في موضع الحال من قوله عز و جل : شراب أي ما تشربون وهو مبتدأ مؤخر أو هو فاعل بالظر الأول والجملة صفة لماء و من تبعيضية وليس في تقديمها إيهام حصر ومن توهمه قال : لا بأس به لأن جميع المياه العذبة المشروبة بحسب الأصل منه كما ينبيء عنه قوله تعالى : فسلكه ينابيع في الأرض وقوله سبحانه : فأسكناه في الأرض ويحتمل أن يكون متعلقا بما عنده ومن شراب مبتدأ وخبر أو شراب فاعل بالظرف والجملة من كما تقدم
وتعقب بأن توسيط المنصوب بين المجرورين وتوسيط الثاني منهما بين الماء وصفته مما لا يليق بجزالة النظم الجليل وهو كذلك ومنه شجر أي نبات مطلقا سواء كان له ساق أم لا كما نقل عن الزجاج وهو حقيقة في الأول ومن استعماله في الثاني قول الراجز : نعلفها اللحم إذا عز الشجر والخيل في إطعامها اللحم ضرر فإنه قيل : الشجر فيه بمعنى الكلأ لأنه الذي يعلف وكذا فسره في النهاية بذلك في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت ولعل ذلك لأنه جاء في الحديث النهي عن منع فضل الماء كمنع فضل الكلأ وتشارك الناس في الماء والكلأ والنار وأبقاه بعضهم على حقيقته ولم يجعله مجازا شاملا و من إما للتبعيض مجازا لأن الشجر لما كان حاصلا بسقيه جعل كأنه منه كقوله :
أسنمة الأبال في ربابه
يعني به المطر الذي ينبت به ما تأكله الإبل فتسمن أسنمتها وأما للإبتداء أي وكائن منه شجر والأول أولى بالنسبة إلى ما قبله
وقال أبو البقاء هي سببية أي وبسببه إنبات شجر ودل على ذلك ينبت لكم به الزرع وجوز ابن الأنباري الوجهين الأولين على ما يقتضيه ظاهر قوله : الكلام على تقدير مضاف إما قبل الضمير أي من جهته أو من سقيه شجر
(14/105)

وأما قبل شجر أي ومنه شراب شجر كقوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل أي حبه أه وهو بعيد وإن قيل : الإضمار أولى من المجاز لا العكس الذي ذهب إليه البعض وصحح المساواة لاحتياج كل منهما إلى قرينة
فيه تسيمون
10
- أي ترعون يقال : أسام الماشية وسومها جعلها ترعى وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت وأصل ذلك ما قال الزجاج السومة وهي كالسمة العلامة لأن المواشي تؤثر علامات في الأرض والأماكن التي ترعاها وقا زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما تسيمون بفتح التاء فإن سمع سام متعديا كان هو وأسام بعمنى وإلا فتأويل ذلك أن الكلام على حذف مضاف أي تسيم مواشيكم ينبت أي الله عز و جل يقال نبت الشيء وأنبته الله تعالى فهو منبوت وقياس هذا منبت وقيل : يقال أنبت الشجر لازما وانشد الفراء
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل أي نبت وكان الأصمعي ينكر مجيء أنبت بمعنى نبت وقرأ أبو بكر ننبت بنون العظمة والزهري ينبت بالتشديد وهو للتكثير في قول واستظهر أبو حيان أنه تضعيف التعدية وقرأ أبي ينبت بفتح الياء ورفع المتعاطفات بعد على الفاعلية وجملة ينبت لكم به أي بما أنزل من السماء الزرع والزيتون والنخيل والأعناب يحتمل أن تكون صفة أخرى الماء وأن تكون مستأنفة اسنئنافا بيانيا كأنه قيل : وهل له منافع أخر فقيل : ينبت لكم به الخ وإيثار صيغة الإستقبال للدلالة على التجدد والإستمرار وأن الإنبات سنته سبحانه الجارية على ممر الدهور أو لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما أشرنا إليه آنفا مع ما في تقديم أولهما من الإهتمام به لإدخال المسرة ابتداء وتقديم الزرع ما عداه قيل : لأنه أصل الأغذية وعمود المعاش وقوت أكثر العالم وفيه مناسبة للكلأ المرعى ثم الزيتون لما فيه من الشرف من حيث أنه أدام من وجه وفاكهة من وجه وقد ذكر الأطباء له منافع جمة وذكر غير يسير منها في التذكرة والظاهر من كلام اللغويين أنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة وأنه يطلق على الشجر المخصوص وعلى ثمرته
واستظهر أن المراد به هنا الأول وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك وأكثر ما ينبت في المواضع التي زاد عرضها على الميل واشتد بردها وكانت جبلية ذات تربة بيضاء أو حمراء ثم النخيل على الأعناب لظهور دوامها بالنسبة إليها فإن الواحدة منها كثيرا ما تتجاوز سنة وشجرة العنب ليست كذلك نعم الزيتون أكثر دواما منهما فإن الشجرة منه قد تدوم ألف سنة مع أن ثمرتها كثيرا ما يقتات بها حتى جاء في الخبر ما جاع بيت وفيه تمر وأكثر ما تنبت في البلاد الحارة اليابسة التي يغلب عليها الرمل كالمدينة المشرفة والعراق وأطراف مصر وهي على ما قال الراغب جمع نخل وهو يطلق على الواحد والجمع ويقال للواحدة نخلة وأما الأعناب فجمع عنبة بكسر العين وفتح النون والباء وقد جاءت ألفاظ مفردة على هذا الوزن غير قليلة
وقد ذكر في القاموس عدة منها ونسب الجوهري إلى قلة الإطلاع في قوله : إن هذا البناء في الواحد نادر وجاء منه العنبة والتولة والحبرة والطيبة والخيرة ولا أعرف غير ذلك وذكر الجوهري أنه إن أردت جمعه في أدنى العدد جمعته بالتاء وقلت عنبات وفي الكثير عنب وأعناب أه ولينظر هذا مع عدهم أفعالا من جموع القلة ويطلق العنب كما قال الراغب على ثمرة الكرم وعلى الكرم نفسه والظاهر أن المراد هو الثاني
(14/106)

وذكر أبو حيان في وجه تأخير الأعناب إن ثمرتها فاكهة محضة وفيه أنه أراد بثمرتها العنب ما دام طريا قبل أن يتزبب فيمكن أن يسلم وإن أراد به المتزبب فغير مسلم وفي كلام كثير من الفقهاء في بحث زكاة الفطر أن في الزبيب اقياتا بل ظاهر كلامهم أنه في ذلك بعد التمر وقبل الإرز والبحاث في هذا لا ينفي الأقتيات كما لا يخفى على الواقف على البحث وفي جمع النخيل والأعناب إشارة إلى أن ثمارها مختلفة الأصناف ففي التذكرة عند ذكر التمر أنه مختلف كثير الأنواع كالعنب حتى سمعت أنه يزيد على خمسين صنفا وعند ذكر العنب أنه يختلف بحسب الكبر والإستطالة وغلظ القشر وعدم العجم وكثرة الشحم واللون والطعم وغير ذلك إلى أنواع كثيرة كالتمر أه وأنا قد سمعت من والدي عليه الرحمة أنه سمع في مصر حين جاءها بعد عوده من الحج لزيارة أخيه المهاجر إليها لطلب العلم أن في نواحيها من أصناف التمر ما يقرب من ثلثمائة صنف والعهدة على من سمع منه هذا وللعلامة أبي السعود هنا ما يشعر ظاهره بالغفلة وسبحان من لا يغفل وكان الظاهر تقديم غذاء الإنسان لشرفه على غذاء ما يسام لكن قدم ذاك على ما قال الإمام للتنبيه على مكارم الأخلاق وأن يكون اهتمام الإنسان بمن تحت يده أقوى من اهتمامه بنفسه والعكس في قوله تعالى : كلوا وأرعوا أنعامكم للإيذان بأن ذلك ليس بلازم وإن كان من الأخلاق الحميدة وهو على طبق ما ورد في الخبر ابدأ بنفسك ثم بمن تعول وقيل : لأن ذلك مما لا دخل للخلائق فيه ببذر وغرس فالإمتنان به أقوى وقيل : لأن أكثر المخاطبين من أصحاب المواشي لهم زرع ولا شيء مما ذكره وقال شهاب الدين في وجه ذلك ولك أن تقول لما سبق ذكر الحيوانات المأكولة والمركوبة ناسب تعقيبها بذكر مشربها ومأكلها لأنه أقوى في الإمتنان بها إذ خلقها ومعاشها لأجلهم فإن من وهب دابة مع علفها كان أحسن كما قيل : من الظرف هبة الهدية مع الظرف أه ولا يخلو عن حسن
والأولى عليه أن يراد من قوله تعالى : لكم منه شراب ما يشرب وأما ما قيل : إن ما قدم من الغذاء غذاء للإنسان أيضا لكن بواسطة فإنه غذائه لغذائه الحيواني فلا يدفع السؤال لأنه يقال بعد : كان ينبغي تقديم ما كان غذاء له بغير واسطة لا يقال : هذا السؤال إنما يحسن إذا كان المراد من المتعاطفات المذكورات ثمراتها لا ما يحصل منها الثمرات لأن ذلك ليس غذاء الإنسان لأنا نقول : ليس المقصود من ذكرها إلا الإمتنان بثمراتها إلا أنها ذكرت على نمط سابقها المذكور في غذاء الماشية ويرشد إلى أن الإمتنان بثمراتها قوله سبحانه : ومن كل الثمرات وإرادة الثمرات منها من أول الأمر بارتكاب نوع من المجاز في بعضها لهذا إهمال لرعاية غير أمر يحسن له حملها على ما قلنا دون ذلك منه ينبت إذ ظاهره يقتضي التعلق بنفس الشجرة لا بثمرتها فليعمل بما يقتضيه في صدر الكلام وإن اقتضى آخره اعتبار نحو ما قيل في
غلفتها تبنا وماء باردا
كذا قيل وفيه تأمل ومنع بعضهم كون الإنبات مما يقتضي التعلق المذكور فقد قال سبحانه : فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبنا وفاكهة وأبا وجوز أن لا يكون الملحوظ فيما عد مجرد الغذائية بل ما يعمها وغيرها على معنى ينبت به لنفعكم ما ذكره والنفع يكون بما فيه غذاء وغيره و من للتبعيض والمعنى وينبت لكم بعض كل الثمرات وإنما قيل ذلك لما في الكشاف وغيره من أن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كل للتذكرة وقال بعض الأجلة : المراد بعض مما في بقاع الأماكن من ثمر القدرة الذي لم تجنه راحة الوجود وهو أظهر وأشمل وأنسب بما تقدم لأنه سبحانه كما عقب ذكر الحيوانات المنتفع
(14/107)

بها على التفصيل بقوله تعالى : ويخلق ما لا تعلمون عقب ذكر الثمرات المنتفع بها بمثله إن في ذلك المذكور من إنزال الماء وإنزال ما فصل لآية عظيمة دالة على تفرده تعالى بالإلهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة لقوم يتفكرون
11
- فإن من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في الأرض وربما انبسطت فيها وإن كانت صلبة وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع فيخرج منها ساق فينمو فيخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال واللوان والخواص والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الماء والأرض والهواء وغيرها بالنسبة إلى الكل علم أن هذه آثاره لا يمكن أن يشبه شيء في شيء من صفات الكمال فضلا عن أن يشاركه في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة أخس الأشياء كالجماد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولله تعالى در من قال : تأمل في رياض الورد وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات على أهدابها ذهب سبيك على قضب الزبر جد شاهدات بأن الله ليس له شريك وحيث كان الإستدلال بما ذكر لاشتماله على أمر خفي محتاج إلى التفكر والتدبر لمن له نظر سديد ختم الآية بالتفكر وسخر لكم الليل والنهار يتعاقبان خلفة لمنامكم واستراحتكم وسعيكم في مصالحكم من الأسامة وتعهد حال الزرع ونحو ذلك والشمس والقمر يدأبان في سيرهما وإنارتهما إصالة وخلافة وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزروع وإنضاج الثمرات وتلوينها وغير ذلك من التأثيرات المترتبة عليهما بإذن الله تعالى حسبما يقوله السلف في الأسباب والمسببات وليس المراد بتسخير ذلك للمخاطبين تمكينهم من التصرف به كيف شاؤا كما في قوله تعالى : سبحان الذي سخر لنا هذا ونحوه بل تصريفه سبحانه حسبما يترتب عليه منافعهم ومصالحهم كأن ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب إرادتهم قاله بعض المحققين
وقال آخرون : إن أصل التسخير السوق قهرا ولا يصح إرادة ذلك لأن القهر والغلبة مما لا يعقل فيما لا شعور له من الجمادات كالشمس والقمر وعدم تعقله في نحو الليل والنهار أظهر من ذلك فهو هنا مجاز على الإعداد والتهيئة لما يراد من الإنتفاع وفي ذلك إيماء إلى ما في المسخر من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين
وذكر الإمام في المراد من التسخير نحو ما ذكر أولا ثم ذكر وجها آخر قال فيه : إنه لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب الهيئة وهو أنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق فالله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب فكانت هذه الحركة قسرية فلذا ورد فيها لفظ التسخير وذكر أيضا أن حدوث الليل والنهار ليس إلا بسبب حركة الفلك الأعظم دون حركة الشمس وأما حركتها فهي سبب لحدوث السنة ولذا لم يكن ذكر الليل والنهار مغنيا عن ذكر الشمس أه ولا يعترض عليه بأن ما ذكره من قوله : إن حدوث الليل والنهار إلى آخره لا يتأتى عرض تسعين لأن الليل والنهار لا يحصلان إلا بغروب الشمس وطلوعها وهي هناك لا تغرب ولا تطلع بحركة الفلك الأعظم بل بحركتها الخاصة ولذا كانت
(14/108)

السنة يوما وليلة لما أن ذكر العرض غير مسكون وكذا ما يقرب منه فلا يدخل في حيز الإمتنان في كلامه عند المتمسكين بإذيان الشريعة غير ذلك فلينظر وفي كون الشمس والقمر مما لا شعور لهما خلاف بين العلماء فذهب البعض إلى أنهما عالمان وهو الذي تقتضيه الظواهر وإليه ذهب الصوفية والفلاسفة ولم أشعر بوقوع خلاف في أن الليل والنهار مما لا يشعور لهما نعم رأيت في البهجة القادرية عن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره العزيز أن الشهر أو الأسبوع يأتيه في صورة فيخبره بما يحدث فيه من الحوادث ولعل هذا على نحو ظهور القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب وقوله لمن كان يحفظه أنا الذي أسهرتك في الدياجي وأظمأتك في الهواجر وظهور الموت في صورة كبش أملح وذبحه بين الجنة والنار يوم القيامة كما جاء في الخبر وعليك بالإيمان بما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم وأنت في الإيمان بغيره بالخيار وإيثار صيغة الماضي قيل للدلالة على أن ذلك التسخير أمر واحد مستمر وإن تجددت آثاره والنجوم مسخرات بأمره مبتدأ وخبر أي وسائر النجوم البيبانية وغيرها في حركاتها وأوضاعها المتبدلة وغير المتبدلة وسائر أحوالها مسخرات لها خلقت له بخلقه تعالى وتدبيره الجاري على وفق مشيئته فالأمر واحد الأمور وجوز أن يكون واحد الأوامر ويراد منه الأمر التكويني عند من لا يقول بإدراك النجوم والمعنى أنها مسخرة لما خلقت له بقدرته تعالى وإيجاده قيل : وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من الجديدين والنيرين لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الإختصاص بل ذكر على وجه يفيد أنها تحت ملكوته عز و جل من غير دلالة على شيء آخر لذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث إلى الإسمية المفيدة للدوام والإستمرار وقرأ ابن عامر برفع الشمس والقمر أيضا فيكون المبتدأ الشمس والبواقي معطوفة عليه و مسخرات خبر عن الجميع ولا يتأتى على هذه القراءة ما قيل في وجه عدم نسبة تسخير ذلك إليهم بأداة الإختصاص كما لا يخفى واعتبار عدم كون ظهور المنافع بمثابة السابق بالنظر إلى المجموع كما ترى ومن الناس من قال في ذلك : إن المراد بتسخير الليل والنهار لهم نفعهم بهما من حيث أنهما وقتا سعى في المصالح واستراحة ومن حيث ظهور ما يترتب عليه منافعهم مما نيط به صلاح المكونات التي من جملتها ما فصل وأجمل مثلا كالشمس والقمر فيهما ويؤل ذلك بالآخرة إلى النفع بذلك وهو معنى تسخيره لهم فيكون تسخير الليل والنهار لهم متضمنا لتسخير ذلك لهم فحيث أعاده الكلام أولا استغنى عن التصريح به ثانيا وصرح بما هو أعظم شأنا منه وهو أن تلك الأمور لم تزل ولا تزال مقهورة تحت قدرته منقادة لإرادته ومشيئته سواء كنتم أو لم تكونوا فليتدبر وقرأ الجمهور والنجوم و مسخرات بالنصب فيهما وكذا فيما تقدم وخرج ذلك على أن النجوم مفعول أول لفعل محذوف ينبيء عنه الفعل المذكور و مسخرات مفعول ثان له أي وجعل النجوم مسخرات وجوز جعل جعل بمعنى خلق المتعدي لمفعول واحد فمسخرات حال واستظهر أبو حيان كون النجوم معطوفا على ما قبله بلا إضمار و مسخرات حينئذ قيل حال من الجميع على أن التسخير مجاز عن النفع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات لما خلقت له مما هو طريق لنفعكم وإلا فالحمل على الظاهر دال على أن التسخير في حال التسخير بأمره ولا كذلك لتأخر الأول وقيل : لذلك أيضا : إن المراد مستمرة على التسخير بأمره الإيجادي لأن الإحداث لا يدل على الإستمرار وجوز بعض أجلة المعاصرين أن يكون حالا مؤكدة بتقدير بأمره متعلقا بسخر والكلام من باب التنازع وقبوله مفوض إليك وقيل : هو مصدر
(14/109)

ميمي كمسرح منصوب على أنه مفعول مطلق لسخر المذكور أولا وسخرها مسخرات على منوال ضربته ضربات وجمع إشارة إلى اختلاف الأنواع وفي إفادة تسخير ما ذكر إيذان بالجواب عما عسى يقال : إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فإن ذلك إن سلم فلا ريب في أنها ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة فلا بد من موجد ضرورة احتياج الممكن في وجوده إلى مخصص لئلا يلزم من الوقوع على بعض الوجوه مع احتمال غيره ترجيح بلا مرجح مختار لما أن الإيجاب ينافي الترجيح واجب الوجود دفعا للدور أو التسلسل كذا قاله بعض الأجلة واعترضه المولى العمادي بأنه مبني على حسبان ما ذكر أدلة الصانع تعالى وقدرته واختياره وليس الأمر كذلك فإنه مما لا ينازع فيه الخصم ولا يتعلثم في قبوله قال تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون وقال سبحانه : ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحي به الأرض بعد موتها ليقولن الله الآية وإنما ذلك أدلة التوحيد من حيث أن من هذا شأنه لا يتوهم أن يشاركه شيء في شيء فضلا أن يشاركه الجماد في الألوهية أه وتعقب بأن كون ما ذكر أدلة التوحيد لا يأبى أن يكون فيه إيذان بالجواب عما عسى يقال وأي ضرر في أن يساق شيء لأمر ويؤذن بأمر آخر ولعمري لهذا الإعتراض وجها بهد قول القائل في ذلك إيذان بالجواب عما عسى يقال الخ حيث لم يبت القوم وأقحم عسى في البين لكن للقائل كلام يدل دلالة ظاهرة على أنه اعتبر الأدلة المذكورة أدلة على وجود الصانع عن شأنه أيضا وقد سبقه في ذلك الإمام
إن في ذلك أي التسخير المتعلق بما ذكر لآيات باهرة متكاثرة على ما يقتضيه المقام لقوم يعقلون
12
- وحيث كانت هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جمع الآيات وعلقت بمجرد العقل من غير تأمل وتفكر كأنها لمزيد ظهورها مدركة ببداهة العقل بخلاف الآثار السفلية في ذلك كذا قالوا وهو ظاهر على تقدير كون الإستدلال على الوحدانية لا على الوجود أيضا وأما إذا كان الإستدلال على ذلك ففي دعوى الظهور المذكور بحث لانجرار الكلام على ذلك إلى إبطال التسلسل فكيف تكون الدلالة ظاهرة غير محوجة إلى فكر وأجيب عنه بأن الإستدلال بالدور أو التسلسل إنما هو بعد التفكر في بدء أمرها وما نشأ منه اختلاف أحوالها فافهم
وجوز أن يكون المراد لقوم يعقلون ذلك والمشار إليه نهاية تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية الإدراك من أساطين علماء الحكمة وحينئذ قطع الآية بقوله سبحانه هنا : يعقلون للإشارة إلى احتياج ذلك إلى التفكر أكثر من غيره والأول أولى كما لا يخفى وما ذرأ أي خلق ومنه الذرية على قول والعطف عند بعض على النجوم رفعا ونصبا أنه مفعول لجعل و ما موصولة أي والذي ذرأكم لكم في الأرض من حيوان ونبات وقيل : من المعادن ولا بأس في التعميم فما أرى حال كونه مختلفا ألوانه أي أصنافه كما قال جمع من المفسرين وهو مجاز معروف في ذلك قال الراغب : الألوان يعبر بها عن الأجناس والأنواع يقال : فلان أتى بالوان من الحدبث والطعام وكان ذلك لما أن اختلافها غالبا يكون باختلاف اللون وقيل : المراد المعنى الحقيقي أي مختلفا ألوانه
(14/110)

من البياض والسواد وغيرهما والأول أبلغ أي ذلك مسخر لله تعالى أو لما خلق له من الخواص والأحوال والكيفيات أو جعل ذلك مختلف الألوان والأصناف لتتمتعوا بأي صنف شئتم منه وذهب بعضهم إلى أن الموصوف معطوف على الليل وقيل عليه : إن في ذلك شبه التكرار بناء على أن اللام في لكم للنفع وقد فسر سخر لكم لنفعكم فمآل المعنى نفعكم بما خلق لنفعكم فالأولى جعله في محل نصب بفعل محذوف أي خلق أو أنبت كما قاله أبو البقاء ويجعل مختلفا حالا من مفعوله واعتذر بأن الخلق للإنسان لا يستلزم التسخير لزوما عقليا فإن الغرض قد يتخلف مع أن اإعادة لطول العهد لا تنكر ورد بأنه غفلة عن كون المعنى نفعكم وما ذكر علاوة مبني على كون لكم متعلقة بسخر أيضا وهي عند ذلك الذاهب متعلقة كما هو الظاهر بذر أو في الحواشي الشهابية أن هذا ليس بشيء لأن التكرار لما ذكر وللتأكيد أمر سهل وكون المعنى نفعكم لا يأباه مع أن هذه الآية سيقت كالفذلكة لما قبلها ولذا ختمت بالتذكر وليس لمن يميز بين الشمال واليمين أن يقول : ما مبتدأ و مختلفا حال من ضميره المحذوف وجملة قوله تعالى : إن في ذلك لآية لقوم يذكرون
13
- خبره والرابط اسم الإشارة على حد ما قيل في قوله تعالى : ولباس التقوى ذلك خير كأنه قيل وما ذرأه لكم من الأرض إن فيه لآية وحاصله إن فيما ذرأ لآية لظهور مخالفة الآية عليه السباق والسياق بل عدم لياقته لأن يكون محملا لكلام الله تعالى الجليل أظهر من أن ينبه عليه و ألوانه على ألوان الإحتمالات مرفوع بمختلفا وقدر بعضهم ليصح رفعه به موصوفا وقال : أي صنفا مختلفا ألوانه وهو مما لا حاجة إليه كما يخفى على من له أدنى تدرب في علم النحو ثم إن المشار إليه ما ذكر من التسخير ونحوه وقيل : اختلاف الألوان وتنوين آية للتفخيم آية فخيمة بينة الدلالة على أن من هذا شأنه واحد لا ينبغي أن يشبه شيء في شيء وختم الآية بالتذكر إما لما في الحواشي الشهابية من أنها كالفذلكة لما قبلها وإما للإشارة إلى أن الأمر ظاهر جدا غير محتاج إلى تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم الضرورية وقال بعضهم : يذكرون أن اختلاف طبائع ما ذكر وهيآته وأشكاله مع اتحاد مادته يدل على الفاعل الحكيم المختار وهو ظاهر في أن ما ذكر دليل على إثبات وجود الصانع كما أنه دليل على وحدانيته وهو الذي إليه الإمام واقتدى به غيره ولم يرتضه شيخ الإسلام بناء على أن الخصم لا ينازع في الوجود وإنما ينازع في الوحدانية فجيء بما هو مسلم عنده من صفات الكمال للإستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالة أن يشاركه شيء في الألوهية وقال بعضهم : لا مانع من أن يكون المراد الإستدلال بما ذكر من الآيات على مجموع الوجود الوحدانية والخصم ينكر ذلك وإن لم ينكر الوجود وكان في أخذ الوجود في المطلوب إشارة إلى أن القول به مع زعم الشركة في الألوهية مما لا يتعد به وليس بينه وبين عدم القول به كثير نفع فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك وهو الذي سخر البحر شروع في نوع آخر من النعم متعلق بالبحر اثر تفصيل النوع المتعلق بالبر وجعله بعضهم عديلا لقوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم فلذا جاء على أسلوبه جملة إسمية معرفة الجزئين وما وقع في البين إما مترتب على ذلك الماء المنزل وإما متضمن لمصلحة ما يترتب عليه والبحر على ما في البحر يشمل الملح والعذب والمعنى جعل لكم ذلك بحيث تتمكنون من الإنتفاع به بالركوب والغوص والإصطياد لتأكلوا منه لحما طريا وهو السمك والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانا للإشارة إلى قلة عظامه وضعفها في أغلب ما يصطاد للأكل بالنسبة إلى الأنعام الممتن بالأكل منها فيما سبق وقيل : للتلويح بانحصار الإنتفاع به في الأكل
(14/111)

و من متعلق بتأكلوا أو حال مما بعده وهي ابتدائية وجوز أن تكون تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي من حيوانه وحينئذ يجوز أن من اللحم الطري لحم السمك كما يجوز أن يراد منه السمك والطري فعيل من طرو بطرو طرواوة مثل سرو يسرو سراوة وقال الفراء : من طرى يطرى طراء وطراوة كشقي يشقى شقاء وشقاوة والطراوة ضد اليبوسة ووصفه بذلك للإشعار بلطافته والتنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله فإنه لكونه رطبا مستعد للتغير فيسرع إليه الفساد والإستحالة وقد قال الأطباء : أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ففيه إدماج لحكم طبي وهذا على ما قيل لا ينافي تقديمه وأكله محللا كما توهم وفي جعل البحر مبتدأ أكله على أحد الإحتمالين إيذان بالمسارعة أيضا
وزعم بعضهم أن في الوصف إيذانا أيضا بكمال قدرته تعالى في خلقه عذبا طريا في ماء مر لا يشرب وفيه شيء لا يخفى ولا يؤكل عندنا من حيوان البحر إلا السمك ويؤيده تفسير اللحم به المروي عن قتادة وغيره وعن مالك وجماعة من أهل العلم إطلاق جميع ما في البحر واستثنى بعضهم الخنزير والكلب والإنسان وعن الشافعي أنه أطلق ذلك كله ويوافقه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : هو السمك وما في البحر من الدواب نعم يكره عندنا أكل الطافي منه وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجه الماء لحديث جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما نضب الماء عنه فكلوا وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا وهو مذهب جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وميتة البحر في خبر هو الطهور ماؤه الحل ميتته ما لفظه ليكون موته مضافا إليه لا ما مات فيه من غير آفة وما قطع بعضه فمات يحل أكل ما أبين وما بقي لأن موته بآفة وما أبين من الحي فهو ميت وإن كان ميتا فميتته حلال ولو وجد في بطن السمكة سمكة أخرى تؤكل لأن ضيق المكان سبب موتها وكذا إذا قتلها طير الماء وغيره أو ماتت في حب ماء وكذا إن جمع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منه وهو يقدر على أخذه بغير صيد فمات فيها وإن كان لا يؤخذ بغير صيد فلا خير في أكله لأنه لم يظهر لموته سبب وإذا ماتت السمكة في الشبكة وهي لا تقدر على التخلص منها أو أكلت شيئا ألقاه في الماء لتأكل منه فماتت منه وذلك معلوم فلا بأس بأكلها لأن ذلك في معنى ما انحسر عنه الماء وفي موت الحر والبرد روايتان إحداهما وهي مروية عن محمد يؤكل لأنه مات بسبب حادث وكان كما لو ألقاه الماء غلى اليبس والأخرى ورويت عن الإمام أنه لا يؤكل لأن الحر والرد صفتان من صفة الزمان وليسا من أسباب الموت في الغالب ولا بأس بأكل الجريث والمار ما هي واشتهر عن الشيعة حرمة أكل الأول فليراجع واستدل قتادة كما أخرج ابن أبي شيبة عنه بالآية على حنث من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لما فيها من إطلاق اللحم عليه وروي ذلك عن مالك أيضا وأجيب بأن مبني الإيمان على ما يتفاهمه الناس في عرفهم لا على الحقيقة اللغوية ولا على استعمال القرآن ولذا لما أفتى الثوري بالحنث في المسئلة المذكورة للآية وبلغ أبا حنيفة عليه الرحمة قال للسائل : ارجع واسأله عمن حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض هل يحنث لقوله تعالى : جعل لكم الأرض بساطا فقال له : كأنك السائل أمس فقال : نعم فقال : لا يحنث في هذا ولا في ذاك ورجع عما أفتى به أولا والظاهر أن متمسك الإمام قد كان العرف وهو الذي ذهب إليه ابن الهمام لا ما في الهداية كما قال
(14/112)

من أن القياس الحنث ووجه الإستحسان أن التسمية القرآنية مجازية لأن منشأ اللحم الدم ولا دم في السمك لسكونه الماء مع انتقاضه بالألية فإنها تنعقد من الدم ولا يحنث بأكلها
واعترض بأنه يجوز أن يكون في السئلة دليلان ليس بينهما تناف وما ذكر من النقض مدفوع بأن المذكور كل لحم ينشأ من الدم ولا يلزم عكسه الكلبي وتعقب بأن إطلاق اللحم على السمك لغة لا شبهة فيه فينتقض الطرد والعكس فمراد المعترض الرد عليه بزيادة في الإلزام نعم قد يقال : مراده بالمجاز المذكور أنه مجاز عرفي كالدابة إذا أطلقت على الإنسان فيرجع كلامه إلى ما قاله الإمام وحينئذ لا غبار عليه وما ذكره بيان لوجه الإستعمال العرفي فلا يرد عليه شيء وهو كما ترى وعلى طرز ما قاله الإمام يقال فيمن حلف لا يركب دابة فركب كافرا أنه لا يحنث مع أن الله سبحانه سمى الكافر دابة في قوله تعالى : إن شر الدواب عند الله الذين كفروا وفي الكشاف بيانا لعدم إطلاق اللحم على السمك عرفا أنه إذا قال واحدا لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار عليه أي وهو دليل على عدم إطلاق اللحم عليه في العرف فحيث كانت الإيمان مبنية على العرف لم يحنث بأكله واعترض بأنه لو قال لغلامه : اشتر لحما فاشترى لحم عصفور كان حقيقا بالإنكار مع الحنث بأكله وتعقب بأن الإنكار إنما جاء من ندرة اشتراء مثله لأنه غير متعارف وفيما نحن فيه اشتراء السمك ولحمه متعارف فليس محل الإنكار إلا عدم إطلاق اللحم عليه وتستخرجوا منه حلية كاللؤلؤ والمرجان تلبسونها أي تلبسها نساءكم وجهه ذلك بأنه أسند إلى الرجال لاختلاطهم بالنساء وكونهم متبوعين أو لأنهم سبب لتزينهن فإنهن يتزين ليحسن في أعين الرجال فكان ذلك زينتهم ولباسهم
قال ابن المنير : ولله تعالى در مالك رضي الله تعالى عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من ما لها وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن حتى جعل كحظ المرأة من مالها وزينتها فعبر عن حظه في لبسها بلبسه كما يعبر عن حظها سواء مؤيدا بالحديث المروي في الباب أه ويفهم منه جواز اعتبار المجاز في الطرف وصرح بذلك بعضهم وفسر تلبسون بتتمتعون وتتلذذون ويجوز أن يكون المجاز في النقص وما أظهر في التفسير مراد في النظم وقيل : الكلام على التغليب أو من باب بنو فلان قتلوا زيدا ففيه إسناد ما للبعض إلى الكل وتعقيب بأنه وجه لكلا الوجهين أما الأول فلعدم التلبس بالمسند وهو اللبس وأما الثاني فلأنه لا يتم بدون المجاز في الطرف فلا وجه للعدول عن إعتباره على النحو السابق إلى هذا وقال بعضهم : لا حاجة إلى كل ذلك فإنه لا مانع من تزين الرجال باللؤلؤ وتعقب بأنه بعد تسليم أنه لا مانع منه شرعا مخالف للعادة المستمرة فيأباه لفظ المضارع الدال على خلافه ولا يصح ما يقال : إن في البحر زمردا بحريا وبفرض الصحة يجيء هذا أيضا ولعله لما أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم أخفى التصريح بنسبة اللبس إليهن ليكون اللفظ كالمعنى واستدل أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة بالآية على أن اللؤلؤ يسمى حليا حتى لو حلف لا يلبس حليا فلبسه حنث وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول : لا يحنث لأن اللؤلؤ وحده لا يسمى حليا في العرف وبائعه لا يقال له بائع الحلي كذا في أحكام الجصاص واستدل بعضهم بالآية على أنه لا زكاة في حلي النساء فأخرج ابن جرير عن أبي جعفر أنه سئل هل في حلي النساء صدقة قال : لا هي كما قال الله تعالى : حلية تلبسونها وهو كما ترى ثم أن اللحم الطري يخرج من البحر العذب والبحر
(14/113)

الملح والحلية إنما تخرج من الملح وقيل : إن العذب يخرج من لؤلؤ أيضا إلا أنه لا يلبس إلا قليلا والكثير التداوي به ولم نر من ذكر ذلك في أكثر الكتب المصنفة لذكر مثل ذلك
وأخرج البزاز عن أبي هريرة قال : كلم الله تعالى البحر الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للبحر الغربي : إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم قال : أغرقهم قال بأسك في نواحيك وحرمه الحلية والصيد وكلم هذا البحر الشرقي فقال : إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم قال : أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها فاثابه سبحانه الحلية والصيد وأخرج نحو ذلك ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص عن كعب الأحبار والله تعالى أعلم بصحة ذلك وظاهر كلام الأكثرين حمل البحر في الآية على البحر الملح وهو مملوء من السمك بل قيل إن السمك يطلق على كل ما فيه من الحيوانات ولا يكون اللؤلؤ إلا في مواضع مخصوصة منه
وترى الفلك السفن مواخر فيه جواري فيه جمع ماخرة بمعنى جارية وأصل المخر الشق يقال : مخر الماء الأرض إذا شقها وسميت السفن بذلك لأنها تشق الماء بمقدمها وقال الفراء : هو صوت جري الفلك بالرياح ولتبتغوا عطق على تستخرجوا وما عطف عليه وما بينهما اعتراض لتمهيد مباديء الإبتغاء ودفع كونه باستخراج الحلية وعدل عن نمط الخطاب السابق واللاحق أعني خطاب الجمع إلى خطاب المفرد المراد به كل من يصلح للخطاب إيذانا بأن ذاك غير مسروق مساقهما وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفا على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا وأن يكون متعلقا بفعل محذوف أي فعل ذلك لتبتغوا وهو تكلف يغني الله تعالى عنه
ومن فضله من سعة رزقه بركوبها للتجارة ولعلكم تشكرون
14
- تقومون بحق نعم الله تعالى بالطاعة والتوحيد ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر لأنها أقوى في باب الأنعام من حيث أنه جعل ركوب البحر مع كونه مظنة الهلاك لأن راكبيه كما قال عمر رضي الله تعالى عنه دود على عود سببا للإنتفاع وحصول المعاش وهو من كمال النعمة لقطع المسافة الطويلة في زمن قصير مع عدم الإحتياج إلى الحل والترحال والحركة مع الإستراحة والسكون وما أحسن ما قيل في ذلك : وإنا لفي الدنيا كركب سفينة نظن وقوفا والزمان بنا يسري وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الإبتغاء والشكر قيل للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا
واستدل بالآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة وإليه ذهب جماعة وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث غاز أو حاج أو معتمر وألقى في الأرض رواسي أي جبالا ثوابت وقد مر تمام الكلام في ذلك أن تميد بكم أي كراهة أن تميد أو لئلا تميد والميد اضطراب الشيء العظيم ووجه كون الإلقاء مانعا عن اضطراب الأرض بأنها كسفينة على وجه الماء والسفينة إذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى شيء وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة تستقر فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت فالجبال بالنسبة إليها كالأجرام الثقيلة الموضوعة في السفينة بالنسبة إليها
وتعقبه الإمام لوجوه الأول على مذهب الحكماء القائلين بأن حركة الأجسام أو سكونها لطبائعها أن الأرض أثقل من الماء فيلزم أن تغوص فيه لا أن تطفو أو ترسى بالجبال وهذا بخلاف السفينة فإنها متخذة من الخشب
(14/114)

وبين أجزائه هواء يمنعه من السكون ويفضي به إلى الميد لولا الثقيل والثاني على مذهب أهل الحق القائلين بأنه ليس للأجسام طبائع تقتضي السكون أو الحركة فما سكن ساكن وما تحرك متحرك في بر وبحر إلا بمحض قدرة الله تعالى وحده والثاني أن إرساء الأرض بالجبال لئلا تميد وتقي واقفة على وجه الماء إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت على وجهه ساكنا وحينئذ يقال : إن قيل إن سبب سكونه في حيزه المخصوص طبيعته المخصوصة فلم لا يقال في سكون الأرض في هذا الحيز أنه بسبب طبيعتها المخصوصة أيضا وإن قلنا : إنه بمحض قدرته سبحانه فلم لم يقل : إن سكون الأرض أيضا كذلك فلا يعقل الإرساء بالجبال على التقديرين والثالث أنه يجوز أن تميد الأرض بكليتها ولا تظهر حركتها ولا يشعر بها أهلها ويكون ذلك نظير حركة السفينة من غير شعور راكبها بها ولا يأبى ذلك الشعور بحركتها عند احتقان البخار فيها لأن ذلك يكون في قطعة صغيرة منها وهو يجري مجرى الإختلاج الذي يحصل في عضو معين من البدن ثم قال : والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال : ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة وثبت أن هذه الجبال على سطح الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة وحينئذ نقول لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت ملساء خالية عنها لصارت بحيث تتحرك على الإستدارة كالفلاك لبساطتها أو تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت هذه الجبال وكانت كالخشونات على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لمنعها إياها عن الحركة المستديرة أه وقد تابع الإمام في هذا الحل العلامة البيضاوي واعترض عليه بأنه لا وجه لما ذكره على مذهب أهل الحق ولا على مذهب الفلاسفة أما الأول فلأن ذات شيء لا تقتضي تحركه وإنما ذلك بإرادة الله تعالى وأما الثاني فلأن الفلاسفة لم يقولوا : إن حق الأرض أن تتحرك بالإستدارة لأن في الأرض ميلا مستقيما وما هو كذلك لا يكون فيه مبدأ ميل مستدير على ما ذكروا في الطبيعي وأورد أيضا على منع الجبال لها من الحركة أنه قد ثبت في الهندسة أن أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى قطر الأرض نسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ولا ريب في أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج تلك الكرة عن الإستدارة بحيث يمنعها عن الحركة وكذا حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض ثم قيل : الصحيح أن يقال خلق الله تعالى الأرض مضطربة لحكمة لا يعلمها إلا هو ثم أرساها بالجبال على جريان عادته في جعل الأشياء منوطة بالأسباب وقال بعض المحققين في الجواب : إن المقصود أن الأرض من حيث كونها كرة حقيقية بسيطة مع قطع النظر عن كونها عنصرا كان حقها أحد الأمرين لأنها من تلك الحيثية إما ذو ميل مستدير كالأفلاك فكان حقها حينئذ أن تتحرك مثلها على الإستدارة وإما ذو ميل مستقيم فحقها السكون لكنها تتحرك بأدنى قاسر أما السكون فلأن الجسم الحاصل في الحيز الطبيعي لما يترك حركة طبيعية آنية لاستلزامها الخروج عن الحيز الطبيعي ولا يتصور من الأرض الحركة الإرادية لكونها عديمة الشعور وأما التحرك بأدنى قاسر فيحكم به بالضرورة من له تخيل صحيح واستوضح ذلك من كرة حقيقية على سطح حقيقي فإنها لا تماسه إلا بنقطة فبأدنى شيء ولو نفخة تتدحرج عن مكانها نعم الواقع في نفس الأمر أحد الأمرين معينا وذكرهما توسيع للدائرة وهو أمر شائع فيما بينهم فيندفع قوله : وأما الثاني فلأن الفلاسفة الخ وأما قوله : إنه قد ثبت في الهندسة الخ فجوابه أنهم قد صرحوا في كتب الهيئة بأن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر فنسبة كل جبل وإن كانت كالنسبة المذكورة لكن يجوز أن يكون مجموعها مانعا عن حركتها كالحبل المؤلف من الشعرات المخالف
(14/115)

حكمه حكم شعرة على أن تلك النسبة باعتبار الحجم ومنعها عن حركتها باعتبار الثقل وثقل هذه الجبال يكاد أن يقاوم ثقل الأرض لأن الجبال أجسام صلبة حجرية والأرض رخوة متخلخلة كالكرة الخشبية التي ألزقت عليها حبات من حديد وما يقال : من أن فيه غير ذلك ابتناء على قواعد الفلسفة فلا يطعن فيه لأن ذلك الإبتناء غير مضر إن لم يخالف القواعد الشرعية كما فيما نحن فيه واعترض على ما ادعى المعترض صحته بأنه يرد عليه ما أورده وظني أنه بعد الوقوف على مراده لا يرد عليه شيء مما ذكر ونحن قد أسلفنا نحوه وأطنبنا الكلام في هذا المقام ومنه يظهر ما هو الأوفق بقواعد الإسلام ثم ما ذكره المجيب من أن المصرح به في كتب الهيئة أن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر خلاف المشهور وهو أن في الإقليم الأول عشرين وفي الثاني سبعة وعشرين وفي الثالث ثلاثة وثلاثين وفي الرابع خمسة وخمسين وفي الخامس ثلاثين وفي كل من السادس والسابع أحد عشر والمجموع مائة وسبعة وثمانون جبلا على أن كلامه لا يخلو من مناقشة فتدبر ومعنى ألقى على ما نقل ابن عطية على التأويل خلق وجعل واختار هو أنه أخص من ذلك وذلك أنه يقتضي أن الله سبحانه أوجد الجبال من محض قدرته واختراعه لا من الأرض ووضعها عليها وأيد بأخبار رووها في هذا المقام وقد تقدم بعضها ولم يعد بعلي كما في قوله تعالى : وألقيت عليك محبة مني للإشارة إلى كمال الجبال ورسوخها وثباتها في الأرض حتى كأنها مسامير في ساجة وانظر هل تعد من الأرض فيحنث من حلف لا يجلس على الأرض إذا جلس عليها أم لا فلا يحنث لم يحضرني من تعرض لذلك والظاهر الأول لعد العرف إياها منها وإن كان ظاهر هذه الآية كغيرها عدم العد وقوله تعالى : وأنهارا عطف على رواسي والعامل فيه ألقى إلا أن تسلطه عليه باعتبار ما فيه من معنى الجعل والخلق أو تضمينه إياه وعلى التقديرين لا إضمار وهو الذي اختاره غير واحد وجوز أن يكون مفعولا به لفعل مضمر وليس إجماعا خلافا لابن عطية أي وجعل أو خلق أنهارا نظير ما قيل في قوله
علفتها تبنا وماء باردا
وقدر أبو البقاء شق والعطف حينئذ من عطف الجمل وكأنه لما كان أغلب منابع الأنهار من الجبال ذكر الأنهار بعد ما ذكر الجبال وقوله تعالى : وسبلا عطف على أنهارا أي وجعل طرقا لمقاصدكم لعلكم تهتدون
15
- لهل فالتعليل بالنظر إلى قوله تعالى : وسبلا كما هو الظاهر ويجوز أن يكون تعليلا بالنظر إلى جميع ما تقدم لأن تلك الآثار العظام تدل على بطلان الترك وقيل : تدل على وجود فاعل حكيم ففي قوله تعالى : تهتدون تورية حينئذ وعلامات معالم يستدل بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب فقد حكى أن من الناس من يشم التراب فيعرف بشمه الطريق وأنها مسلوكة أو غير مسلوكة ولذا سميت المسافة مسافة أخذا لها من السوف بمعنى الشم وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها معالم الطرق بالنهار وعن الكلبي أنها الجبال وعن قتادة أنها النجوم وقال ابن عيسى : المراد منها الأمور التي يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة والظاهر ما ذكر أولا وأغرب ما فسرت به وأبعده أن المراد منها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تكون في بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن سميت بذلك لأنها إذا ظهرت كانت علامة للوصول إلى بلاد الهند وأمارة للنجاة وبالنجم هم يهتدون
16
- بالليل في البر والبحر والمراد بالنجم الجنس فبش ما الخنس وغيرها مما يهتدي به وعن السدي تخصيص ذلك بالثريا والفرقدين وبنات نعش والجدي وعن الفراء
(14/116)

تخصيصه بالجدي والفرقدين وعن بعضهم أنه الثريا فإنه علم بالغلبة لها ففي الحديث إذا طلح النجم ارتفعت العاهة وقال الشاعر : حتى إذا ما استقر النجم في غلس وغودر البقل ملوي ومحصور وعن ابن عباس أنه سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال : هو الجدي ولو صح هذا لا يعدل عنه والجدي هو جدي الفرقد وهو على ما في المغرب بفتح الجيم وسكون الدال والمنجمون يصغرونه فرقا بينه وبين البرج وقيل : إنه كذلك لغة واستدل على إرادة ما يعم ذلك بما في اللوامح عن الحسن أنه قرأ والنجم بضمتين وعن ابن وثاب أنه قرأ بضم فسكون فإن ذلك في القراءتين جمع كسقف وسقف ورهن ورهن والتسكين قيل للتخفيف وقيل : لغة والقول بأن ذلك جمع على فعل أولى مما قيل : إن أصله النجوم فحذفت الواو وزعم ابن عصفور أن قولهم : النجم من ضرورة الشعر وأنشد : إن الذي قضى بذا قاض حكم أن يرد الماء إذا غاب النجم وهو نظير قوله :
حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق
والضمير يحتمل أن يكون عاما لكل سالك في البر والبحر من المخاطبين فيما تقدم وتغيير التعبير للإلتفات وتقديم الجار والمجرور للفاصلة والضمير المنفصل للتقوى ويحتمل أن يكون الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين للإهتداء في مسايرهم بالنجم وأخرج الكلام عن سنن الخطاب وتقديم الجار والضمير والضمير للتخصيص كأنه قيل : وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون فالإعتبار بذلك والشكر عليه بالتوحيد ألزم لهم وأوجب عليهم وجعل بعضهم الآية أصلا لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق فلا بأس بتعلم ما يفيد تلك المعرفة ولكن معرفة عين القبلة على التحقيق بالنجوم متعسر بل متعذر كما أفاده العلامة الرباني أبو العباس أحمد بن البناء لأنه إن اعتبر ذلك بما يسامت رؤس أهل مكة من النجوم فليس مسقط العمود منه على بسيط مكة هو العمود الواقع منه على بسيط غيرها من المدن وإن اعتبر بالجدي فلا يلزم من أن يكون في مكة على الكتف أو على المنكب أن يكون في غيرها كذلك إلا لمن يكون في دائرة السمت المارة برؤس أهل مكة والبلد الآخر وذلك مجهول لا يتوصل إليه إلا بمعرفة ما بين الطولين والعرضين وهو شيء اختلف في مقداره ولم يتعين الصحيح فيه وقول من قال : إن ذلك يعرف بجعل المصلي مثلا الشمس بين عينيه إذا استوت في كبد السماء أطول يوم في السنة فمتى فعل ذلك فقد استقبل البيت إن أراد بكبد السماء فيه كبد سماء بلده فليس بصحيح لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في بلدين متنائيين كثيرا وإن أراد به كبد سماء مكة فلا يعلم ذلك في بلد آخر إلا بمعرفة ما بين البلدين في الطول وقد سمعت ما في ذلك من الإختلاف ويقال نحو هذا فيما يشبه ما ذكر بل قال قدس سره : إن معرفة ذلك على التحقيق بما يذكرونه من الدائرة الهندية ونحوها متعذر أيضا لأن مبنى جميع ذلك على معرفة الأطوال والعروض ودون تحقيق ذلك خرط القتاد فلا ينبغي أن يكون الواجب على المصلي إلا تحري الجهة ومعرفة الجهة تحصل بالنجوم وكذا بغيرها مما هو مذكور في محله أفمن يخلق ما ذكر من المخلوقات البديعة أو يخلق كل شيء يريده كمن لا يخلق شيئا ما جليلا أو حقيرا وهو تبكيت للكفرة وإبطال لإشراكهم وعبادتهم غيره تعالى شأنه من الأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينه سبحانه وبينه بعد تعداد ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرا
(14/117)

وتعقيب الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المشابهة المذكورة على ما فعل سبحانه من الأمور العظيمة الظاهرة الإختصاص به تعالى شأنه المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يؤذن به غير آية والإقتصار على ذكر الخلق من بين ما تقدم لكونه أعظمه وأظهره واتتباعه إياه أو لكون كل من ذلك خلقا مخصوصا أي أبعد ظهور اختصاصه سبحانه بمبدئية هذه الشؤن الواضحة الدالة على وحدانيته تعالى وتفرده بالألوهية واستحقاق العبادة يتصور المشابهة بينه وبين ما هو بمعزل عن ذلك بالمرة كما هو قضية أشراككم وكان حق الكلام بحسب الظاهر في باديء النظر أفمن لا يخلق كمن يخلق لكن قيل : حيث كان التشبيه نسبة تقوم بالمنتسبين اختير ما عليه النظم الكريم مراعاة لحق سبق الملكة على العدم وتفاديا عن توسيط عدمها بينها وبين جزئياتها المفصلة قبلها وتنبيها على كمال قبح ما فعلوه من حيث أن ذلك ليس مجرد رفع أصنامهم عن محلها بل هو حط لمنزلة الربوبية إلى مرتبة الجماد ولا ريب أنه أقبح من الأول والمراد بمن لا يخلق كل ما هذا شأنه من ذوي العلم كالملائكة وعيسى عليهم السلام وغيرهم كالأصنام وأتى بمن تغليبا لذوي العلم على غيرهم مع ما فيه من المشاكلة أو ذوو العلم خاصة ويعرف منه حال غيرهم بدلالة النص فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة ذوي العلم فما ظنك بالجماد وقيل : المراد به الأصنام خاصة والتعبير بمن إما للمشاكلة أو بناء على ما عند عبدتهما والأولى ما تقدم ودخول الأصنام في حكم عدم المشابهة إما بطريق الإندراج أو بطريق الإنفهام بدلالة النص على الطريق البرهاني قاله بعض المحققين واستدل بالآية على بطلان مذهب المعتزلة في زعمهم أن العباد خالقون لأفعالهم
وقال الشهاب بعد أن قرر تقدير المفعول عاما على طرز ما ذكرنا : وجوز أن يكون العموم فيه مأخوذا من تنزيل الفعل منزلة اللازم أنه علم من هذا عدم توجيه الإحتجاج بها على المعتزلة في إبطال قولهم بخلق العباد أفعالهم كما وقع في كتب الكلام لأن السلب الكلي لا ينافي الإيجاب الجزئي أه حسبما وجدناه في النسخ التي بأيدينا ولعلها سقيمة وإلا فلا أظن ذلك إلا كبوة جواد وهو ظاهر أفلا تذكرون
17
- أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لجلائه لا يحتاج إلى شيء سوى التذكر وهو مراجعة ما سبق تصوره وذهل عنه وقدر بعضهم المفعول عدم المساواة وذكر أنه لعدم سبقه حتى يتصور فيه حقيقة التذكر بأن يتصور ويذهل عنه جعل التذكر استعارة تصريحية للعلم به وقيل : الإستعارة مكنية في المفعول المقدر وإثبات التذكر تخييل فتذكر
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها تذكير إجمالي لنعمه تعالى بعد تعداد طائفة منها وفصل ما بينهما بقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق كما قيل للمبادرة إلى إلزام الحجة وإلقام الحجر إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل التي هي أدلة التوحيد ودلالتها عليه وإن لم تكن مقصودة على حيثية الخلق ضرورة ظهور دلالتها عليه من حيثية الأنعام أيضا لكنها حيث كانت من مستتبعات الحيثية الأولى استغنى عن التصريح بها ثم بين حالها بطريق الإجمالي أي إن تعدوا نعمه تعالى الفاضلة عليكم مما ذكر ومما يذكر لا تطيقوا حصرها وضبط عددها فضلا عن القيام بشكرها وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك حسبما من الله تعالى به إن الله لغفور حيث يستر ما فرط منكم من كفرانها والإخلال بالقيام بحقوقها ولا يعاجلكم بالعقوبة على ذلك رحيم
18
- حيث يفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بما تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان
(14/118)

التي من جملتها المساواة بين الخالق وغيره وكل من ذينك الستر والإفاضة نعمة وأيما نعمة فالجملة تعليل للحكم بعدم الإحصاء وتقديم المغفرة على الرحمة لتقدم التخلية على التحلية والله يعلم ما تسرون أي تضمرونه من العقائد والأعمال وما تعلنون
19
- أي تظهرونه منهما وحذف العائد لمراعاة الفواصل أي يستوي بالنسبة إلى عمله سبحانه المحيد الأمران وفي تقديم الأول على الثاني تحقيق للمساواة على أبلغ وجه وفي ذلك من الوعيد والدلالة على اختصاصه تعالى بصفات الإلهية ما لا يخفى أما الأول فلأن علم الملك القادر بمخالفة عبده يقتضي مجازاته وكثيرا ما ذكر علم الله تعالى وقدرته وأريد ذلك وأما الثاني فبناء على ما قيل : إن تقديم المسند إليه في مثل ذلك يفيد الحصر ومن هنا قيل : إنه سبحانه أبطل شركهم للأصنام أولا بقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق وأبطله ثانيا بقوله تبارك اسمه : والله يعلم الخ كأنه قيل : إنه تعالى عالم بذلك دون ما تشركون به فإنه لا يعلم ذلك بل لا يعلم شيئا أصلا فكيف يعد شريكا لعالم السر والخفيات
وفي الكشف أن في الجملة الأولى إشعارا بأنه تعالى وما كلفهم حق الشكر لعدم الإمكان وتجاوز سبحانه عن الممكن إلى السهل الميسور وفي الثانية ما يشعر بأنهم قصروا في هذا الميسور أيضا فاستحقوا العتاب
والذين يدعون شروع في تحقيق أن آلهتهم بمعزل عن استحقاق العبادة وتوضيحه بحيث لا يبقى فيه شائبة ريب بتعداد أحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة وكأنها إنما شرحت مع ظهورها للتنبيه على كمال حماقة المشركين وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح أي والآلهة الذين تعبدونهم أيها الكفار من دون الله سبحانه لا يخلقون شيئا من الأشياء أصلا أي ليس من شأنهم ذلك وذكر بعض الأجلة أن ذكر هذا بعد نفي التشابه والمشاركة للإستدلال على ذلك فكأنه قيل : هم لا يخلقون شيئا ولا يشارك من يخلق من لا يخلق فينتج من الثالث هم لا يشاركون من يخلق ويلزمه أن من يخلق لا يشاركهم فلا تكرار وقيل عليه : إنه مبني على أن من يخلق ومن لا مجرى على غير معين ويفهم من سابق كلام هذا البعض أنه بني الكلام على أن الأول هو الله تعالى والثاني الأصنام ويقتضي تقريره هناك عدم الحاجة إلى هذه المقدمة للعلم بها وكونها مفروغا عنها فالوجه أن التكرار لمزاوجة قوله تعالى وهم يخلقون
20
- وتعقب بأن المصرح به العموم في الموضعين وأما التخصيص فيهما بما ذكر فلأن من يخلق عندنا مخصوص به تعالى في الخارج اختصاص الكوكب النهاري بالشمس وإن عم باعتبار مفهومه ومن لا يخلق وإن عم ذهنا وخارجا فتفسيره بمن عبد لاقتضاء المقام له ومقتضى التقرير ليس عدم الحاجة إلى المقدمة بل هو كونها في غاية الظهور بحيث لا يحتاج إلى إثباتها وهذا مصحح لكونها جزأ من الدليل وإذا ظهر المراد بطل الإيراد أه ولعل الأوجه في توجيه الذكر ما أشرنا إليه أولا وحيث أنه لا تلازم أصلا بين نفي الخالقية وبين المخلوقية أثبت ذلك لهم صريحا على معنى شأنهم أنهم يخلقون إذ المخلوقية مقتضى ذواتهم لأنها ممكنة مفتقرة في وجودها وبقائها إلى الفاعل وبناء الفعل للمفعول كما قال بعض الأجلة لتحقيق التضاد والمقابلة بين ما أثبت لهم وما نفي عنهم من وصف الخالقية والمخلوقية وللإيذان بعدم الحاجة إلى بيان الفاعل لظهور اختصاص بفاعله جل جلاله ولعل تقديم الضمير هنا لمجرد التقوى والمراد بالخلق منفيا ومثبتا المعنى المتبادر منه
(14/119)

وجوز أن يراد من الثاني النحت والتصوير بناء على أن المراد من الذين يدعونهم الأصنام والتعبير عنهم بما يعبر عنه عن العقلاء لمعاملتهم إياهم معاملتهم والتعبير عن ذلك بالخلق لرعاية المشاكلة وفي ذلك من الإيماء بمزيد ركاكة عقول المشركين ما فيه حيث أشركوا بخالقهم مخلوقيهم وإرادة هذا المعنى من الأول أيضا ليست بشيء إذ القدرة على مثل ذلك الخلق ليست مما يدور عليه إستحقاق العباده أصلا وقرأ الجمهور بالتاء المثناة من فوق في تسرون وتعلنون وتدعون وهي قراءة مجاهد والأعرج وشيبة وأبي جعفر وهبيرة عن عاصم وفي المشهور عنه أنه قرأ بالياء آخر الحروف في الأخير وبالتاء في الأولين وقرئت الثلاثة بالياء في رواية عن أبي عمرو وحمزة وقرأ الأعمش والله يعلم اليذ تبدون وما تكتمون والذين تدعون الخ بالتاء من فوق في الأفعال الثلاث وقرأ طلحة ما تخفون وما تعلنون وتدعون بالتاء كذلك وحملت القراءتان على التفسير لمخالفتهما لسواد المصحف وقرأ محمد اليماني يدعون بضم الياء وفتح العين مبنيا للمفعول أي يدعونهم الكفار ويعبدونهم أموات خبر ثان للموصول أو خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات وصرح بذلك لما أن إثبات المخلوقية لهم غير مستدع لنفي الحياة عنهم لما أن بعض المخلوقين أحياء والمراد بالموت على أن يكون المراد من المخبر عنه الأصنام عدم الحياة بلا زيادة عما من شأنه أن يكون حيا
وقوله سبحانه : غير أحياء خبر بعد خبر أيضا أو صفة أموات وفائدة ذكره التأكيد عند بعض وأختير التأسيس وذلك أن بعض ما لا حياة فيه قد تعتريه الحياة كالنطفة فجيء به للإحتراز عن مثل هذا البعض فكأنه قيل : هم أموات حالا وغير قابلين للحياة آلا وجوز أن يكون المراد من المخبر عنه بما ذكر ما يتناول جميع معبوداتهم من ذوي العقول وغيرهم فيرتكب في أموات عموم المجاز ليشمل ما كان له حياة ثم مات كعزير أو سيموت كعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام وما ليس من شأنه الحياة أصلا كالأصنام
و غير أحياء على هذا إذا فسر بغير قابلين للحياة يكون من وصف الكل بصفة البعض ليكون تأسيسا في الجملة وإذا اعتبر التأكيد فالأمر ظاهر وجوز أن من أولئك المعبودين الملائكة عليهم الصلاة والسلام وكان أناس من المخاطبين يعبدونهم ومعنى كونهم أمواتا أنهم لا بد لهم من الموت وكونهم غير أحياء غير تامة حياتهم والحياة التامة هي الحياة الذاتية التي لا يرد عليها الموت وجوز في قراءة والذين يدعون بالياء آخر الحروف أن يكون الأموات هم الداعين وأخبر عنهم بذلك تشبيها لهم بالأموات لكونهم ضلالا غير مهتدين ولا يخفى ما فيه من البعد وما يشعرون أيان يبعثون
21
- الضمير الأول للآلهة والثاني لعبدتها والشعور العلم أو مباديه وقال الراغب : يقال شعرت أي أصبت الشعر ومنه أستعير شعرت كذا أي علمت علما في الدقة كإصابة الشعر قيل : وسمى الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته ثم ذكر أن الشاعر الحواس وأن معنى لا تشعرون لا تدركون بالحواس وأن لو قيل في كثير مما جاء فيه لا تشعرون ولا تعقلون لم يجز إذ كثير مما لا يكون محسوسا يكون معقولا و أيان عبارة عن وقت الشيء ويقارب معنى متى وأصله عند بعضهم أي أو إن أي أي وقت فحذف الألف ثم جعل الواو ياء وأدغم هو كما ترى
وقرأ أبو عبد الرحمن إيان بكسر الهمزة وهي لغة قومه سليم والظاهر أنه معمول ليبعثون والجملة في موضع نصب بيشعرون لأنه معلق عن العمل أي ما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم وهذا من باب التهكم بهم
(14/120)

بناء على إرادة الأصنام لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الإستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير وفي البحر أن فيه تهكما بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم ولعل هذا جار على سائر الإحتمالات في الآلهة وفيه تنبيه على أن البعث من لوازم التكليف لأنه للجزاء والجزاء للتكليف فيكون هو له وأن معرفة وقته لا بد منه في الألوهية وقيل : ضميرا يشعرون ويبعثون للآلهة ويلزم من نفى شعورهم بوقت بعثهم نفي شعورهم بوقت بعث عبدتهم وهو الذي يقتضيه الظاهر ومن جوز أن يكون المراد من الأموات الكفرة الضلال جعل ضميري الجمع هنا لهم والكلام خارج مخرج الوعيد أي وما يشعر أولئك المشركون متى يبعثون إلى التعذيب وقيل : الكلام تم عند قوله تعالى : وما يشعرون و أيان يبعثون ظرف لقوله سبحانه : إلهكم إله واحد على معنى أن الإله واحد يوم القيامة نظير مالك يوم الدين قال أبو حيان : ولا يصح هذا القول لأن أيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفا إما استفهاما أو شرطا وتتمحض للظرفية بمعنى وقت مضافا للجملة بعده نحو وقت يقوم زيد أقوم على أن هذا التعلق في نفسه خلاف الظاهر والظاهر أن قوله سبحانه : إلهكم تصريح بالمدعي وتخليص للنتيجة غب إقامة الحجة فالذين لا يؤمنون بالآخرة وأحوالها التي من جملتها البعث وما يعقبه من الجزاء قلوبهم منكرة للواحدانية جاهدة لها أو للآيات الدالة عليها وهم مستكبرون
22
- عن الإعتراف بها أو عن الآيات الدالة عليها والفاء للإيذان بأن إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الإستكبار وقع موقع النتيجة للدلائل الظاهرة والبراهين القطعية فهي للسببية كما في قولك : أحسنت إلى زيد فإنه أحسن إلي والمعنى أنه قد ثبت بما قرر من الدلائل والحجج اختصاص الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الإستكبار وبناء الحكم على الموصول للأشعار بعلية ما في حيز الصلة له فإن الكفر بالآخر وبما فيها من البعث والجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب يؤدي إلى قصر النظر على العاجل وعدم الإلتفات إلى الدلائل الموجب لإنكارها وإنكار موداها والإستكبار عن اتباع الرسول عليه الصلاة و السلام والإيمان به وأما الإيمان بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى الإلتفات إلى الدلائل والتأمل فيها رغبة ورهبة فيورث ذلك يقينا بالوحدانية وخضوعا لأمر الله تعالى قاله بعض المحققين
ومن الناس من قال : المراد وهم مستكبرون عن الإيمان برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واتباعه فيكون الإنكار إشارة إلى كفرهم بالله تعالى والإستكبار إشارة إلى كفرهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والأول أظهر وإسناد الإنكار إلى القلوب لأنها محله وهو أبلغ من إسناده إليهم ولعله إنما لم يسلك في إسناد الإستكبار مثل ذلك لأنه أثر ظاهر كما تشير إليه الآية بعد وقد قال بعض العلماء : كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان لا جرم أي حق أو حقا أن الله يعلم ما يسرون من الإنكار وما يعلنون من الإستكبار وقال يحيى بن سلام والنقاش : المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي عليه الصلاة و السلام وهو كما ترى وأياما كان فالمراد من العلم بذلك
(14/121)

الوعيد بالجزاء عليه وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع بلا جرم بناء على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه والجمهور من أنها اسم مركب مع لا تركيب خمسة عشر وبعد التركيب صار معناها معنى فعل وهو حق فهي مؤولة بفعل وأبو البقاء يؤولها بمصدر قائم مقامه وهو حقا وقيل : مرفوع بجرم نفسها على أنها فعل ماض بمعنى ثبت ووجب و لا نافية لكلام مقدر تكلم به الكفرة كقوله سبحانه : لا أقسم على وجه وذهب الزجاج إلى أنه منصوب على المفعولية لجرم على أنها فعل أيضا لكن بمعنى كسب وفاعلها مستتر يعود إلى ما فهم من السياق ولا كما في قالول السابق وقيل : إنه خبر لا حذف منه حرف الجر و جرم اسمها والمعنى لا صدأ ولا منع في أن الله يعلم الخ وقد مر تمام الكلام في ذلك
وقرأ عيسى الثقفي إن بكسر الهمزة على الإستئناف والقطع مما قبله على ما قال أبو حيان ونقل عن بعضهم أنه قد يغني لا جرم عن القسم تقول : لا جرم لآتينك وحينئذ فتكون الحملة جواب القسم إنه جل جلاله لا يحب المستكبرين
23
- أي مطلقا ويدخل فيه من استكبر عن التوحيد أو عن الآيات الدالة عليه دخولا أوليا وجوز أن يراد به أولئك المستكبرون والأول أولى وأياما كان فالإستفعال ليس للطلب مثله فيما تقدم وجوز كونه عاما مع حمل الإستفعال على ظاهرة من الطلب أي لا يحب من طلب الكبر فضلا عمن اتصف به وقد فرق الراغب بين الكبر والتكبير والإستكبار بعد القول بأنها متقاربة والحق أنه قد يستعمل بعضها موضع بعض وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك آنفا وأظنه قد تقدم أيضا والجملة تعليل لما تضمنه الكلام السابق من الوعيد والمراد من نفي الحب البغض وهو عند البعض مؤول بنحو الإنتقام والتعذيب والأخبار الناطقة بسوء حال المتكبر يوم القيامة كثيرة جدا
وإذا قيل لهم أي لأولئك المستكبرين وهو بيان لإضلالهم غب بيان ضلالهم وقيل : الضمير لكفار قريش الذين كانوا كما روي عن قتادة يقعدون بطريق من يغدو على النبي صلى الله عليه و سلم ليطلع على جلية أمره فإذا مر بهم قال لهم : ماذا أنزل ربكم على محمد عليه الصلاة و السلام قالوا أساطير الأولين
24
- أي ما كتبه الأولون كما قالوا : اكتتبها فهي تملي عليه فالأساطير جمع أسطار جمع سطر فهو جمع الجمع وقال المبرد : جمع أسطورة كأرجوحة وأراجيح ومقصودهم من ذلك أنه لا تحقيق فيه وقيل : القائل لهم بعض المسلمين ليعلموا ما عندهم وقيل : القائل بعضهم على سبيل التهكم وإلا فهو لا يعتقد إنزال الشيء ومثل هذا يقال في الجواب عن تسميته بالمنزل في الجواب بناءا على تقدير المبتدأ فيه ذلك ويجوز أن يسموه بما ذكر على الفرض والتسليم ليردوه كقوله : هذا ربي وقيل : قدروه منزلا مجاراة ومشاكلة
وفي الكشاف أن ماذا منصوب بأنزل أي أي شيء أنزل ربكم أو مرفوع بالإبتداء بمعنى أي شيء أنزله ربكم فإذا نصبت فمعنى أساطير الأولين ما تدعون نزوله ذلك وإذا رفعت فالمعنى المنزل ذلك كقوله تعالى : ماذا ينفقون قل العفو فيمن رفع أه وقد خفى تحقيق مرامه على بعض المحققين فقد قال صاحب الفرائد : الوجه أن يكون مرفوعا بالإبتداء بدليل رفع أساطير فإن جواب المرفوع مرفوع وجواب المنصوب منصوب ولم يقرأ أحد هنا بالنصب
(14/122)

وقال صاحب التقريب : إن في كلام الزمخشري نظرا وبينه بما بينه وأجاب بما أجاب وأطال الطيبي الكلام في ذلك وقد أجاد صاحب الكشف في هذا المقام فقال : إن قوله مرفوع بالإبتداء بمعنى أي شيء أنزله إيضاح وإلا فالمعنى ما الذي أنزله على المصرح به في المفصل إذ لا وجه لحذف الضمير من غير استطالة مع أن اللفظ يحتمل النصب والرفع احتمالا سواء وعلى ذلك يلوح الفرق بين التقديرين ظهور أبينا فإن المنصوب وإن دل على ثبوت أصل الفعل وأن السؤال على المفعول متقاعد عن دلالة المرفوع فقد علم أن الجملة التي تقع صلة للموصول حقها أن تكون معلومة للمخاطب وأين الحكم المسلم المعلوم من غيره وإذا ثبت ذلك فليعلم أنه على تقديرين لم يطابق به الجواب لقوله في قالوا خيرا طوبق به الجواب بخلاف أساطير وقوله هنا كقوله تعالى : ماذا ينفقون إلى آخره فيمن رفع تشبيه في العدول إلى الرفع لا وجهه فإن الجواب هنالك طبق السؤال بخلاف ما نحن فيه وإنما قدر ما تدعون نزوله على تقدير النصب لأن السائل لم يكن معتقدا لإنزال محقق بل سئل عن تعيين ما سمع نزوله في الجملة فيكفي في رده إلى الصواب ما تدعون نزوله أساطير وأما على تقدير الرفع فلما دل على أن الإنزال عنده محقق مسلم لا نزاع فيه وإنما السؤال عن التعيين للمنزل أجيب بأن ذلك المحقق عند أساطير تهكما إذ من المعلوم أن المنزل لا يكون أساطير فبولغ في رده إلى الصواب بالتهكم به وأنه بت الحكم بالتحقيق في غير موضعه فأرى السائل أنه طوبق ولم يطابق في الحقيقة بل بولغ في الرد ويشبه أن يكون الأول جوابا للسؤال فيما بينهم أو الوافدين والثاني جوابا عن سؤال المسلمين على ما ذكر من الإحتمالين لا العكس على ما ظن هذا هو الأشبه في تقرير قوله الموافق لما ذكره من بعد على ما مر
وجعل ما ذكره هنالك وجها ثالثا وأنه طوبق به الجواب ههنا وتوجيه اختلاف التقديرين ادعاء ونزولا بما مهدناه وإن ذهب إليه الجمهور تكلف عنه غني أه وقريء أساطير بالنصب كما نص عليه أبو حيان وغيره فإنكار صاحب الفرائد من قلة الإطلاع ليحملوا متعلق بقالوا كما هو الظاهر أي قالوا ذلك لأن يحملوا أوزارهم أي آثارهم الخاصة بهم وهي آثارهم ضلالهم وهو جمع وزر ويقال للثقل تشبيها بوزر الجبل ويعبر بكل منهما عن الإثم كما في هذه الآية وقوله تعالى ليحملوا أثقالهم : كاملة لم ينقص منها شيء ولم يكفر بنحو نكبة تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين وقال الإمام : معنى ذلك أنه لا يخفف من عذابهم شيء بل يوصل إليهم بكليته وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة وحمل الأوزار مجاز عن العقاب عليها وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أن الكافر يتمثل عمله في صورة أقبح ما خلق الله تعالى وجها وأنتنه ريحا فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده وكلما يخاف شيئا زاده خوفا فيقول : بئس الصاحب أنت ومن أنت فيقول : وما تعرفني فيقول : لا فيقول : أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا وكان منتنا فلذلك تراني منتنا طاطيء إلى أركبك فطالما ركبتني في الدنانير كبه وهو قوله تعالى : ليحموا أوزارهم كاملة يوم القيامة ظرف ليحملوا ومن أوزار الذين يضلونهم أي وبعض أوزار من ضل
(14/123)

بإضلالهم على معنى ومثل بعض أوزارهم فمن تبعيضية لأن مقابلته لقوله تعالى : كاملة يعين ذلك
والمراد بهذا البعض حصة التسبب فالمضل والضال شريكان هذا يضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر وللضال أوزار غير ذلك وليست تلك محمولة وقال الأخفش : أن من زائدة أي أوزار الذين يضلونهم على معنى أنهم يعاقبون عقابا يكون مساويا لعقاب كل من اقتدى بهم وإلى الزيادة ذهب أبو البقاء واعترض على التبعيض بأنه يقتضي أن المضل غير حامل كل أوزار الضال وهو مخالف للمأثور من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا وفيه أن المأثور يدل على التبعيض لا أن بينهما مخالفة كما لا يخفى ولتوهم هذه المخالفة قال الواحدي : إن من للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الإتباع وتعقبه أبو حيان بأن من التي لبيان الجنس لا تقدر بما ذكر وإنما تقدر بقولنا الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم فيؤل من حيث المعنى إلى قول الأخفش وإن اختلفا في التقدير ولام ليحملوا للعاقبة لأن الحمل مترتب على فعلهم وليس باعثا ولا غرضا لهم وعن أبي عطية أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا أي قدر صدور ذلك ليحملوا ويجيء حديث تعليل أفعال الله تعالى باإراض وأنت تدري أن فيه خلافا
وجوز في البحر كونها لام الأمر الجازمة على معنى أن ذلك الحمل متحتم عليهم فيتم الكلام عند قوله سبحانه : أساطير الأولين والظاهر العاقبة وصيغته الإستقبال في يضلونهم للدلالة على استمرار الإضلال أو باعتبار حال قولهم لا حال الحمل
بغير علم حال من المفعول كأنه قيل : يضلون من لا يعلم أنهم ضلال على الباطل وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على ذي لب وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء وفيه زيادة تعبير لهم وذم إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم وقيل : إنه حال من الفاعل أي يضلون غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال وقيل : المعنى حينئذ يضلون جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد هلى ذلك الإضلال ونقل القول بالحالية عن الفاعل بنحو هذا المعنى عن الواحدي وزعم بعضهم أنه الوجه لا الحالية من المفعول وأريد بأن التذييل بقوله تعالى : ألا ساء ما يزرون وقوله سبحانه : من حيث لا يشعرون يقويه وليس بذاك وما ذكر ظن من هذا المؤيد أنه إذا جعل حالا من المفعول لم يكن له تعلق بما سيق له الكلام من حال المضلين وقد هديت إلى وجهه
ورحجه أبو حيان بأن المحدث عنه هو المسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية فاعتباره ذا الحال أولى ويرد عليه مع ما يعلم مما ذكر أن القرب يعارضه فلا يصلح مرجحا وقيل : هو حال من ضمير الفاعل في قالوا على معنى قالوا ذلك غير عالمين بأنهم يحملون يوم القيامة أوزار الضلال والإضلال وأيد بقوله تعالى : وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون من حيث أن حمل ما ذكر من أوزار الضلال والإضلال من قبيل إتيان العذاب من حيث لا يشعرون ويرده أن الحمل المذكور كما هو صريح الآية إنما هو يوم القيامة والعذاب المذكور إنما هو العذاب الدنيوي كما ستسمعه إن شاء الله تعالى وجوز أن يكون حالا من الفاعل والمفعول كما قال ذلك ابن جني في قوله : فأتت به قومها تحمله وهو خلاف الظاهر واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث ويميز بين المحق والمبطل ولا يعذر بالجهل وهو ظاهر على ما قدمناه من الوجه إلا وجه ألا ساء ما يزرون
25
- أي بئس شيئا يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور
(14/124)

قد مكر الذين من قبلهم وعيد لهم برجوع غائلة مكرهم عليهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجل والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وهو ههنا على ما قيل مجاز عن مباشرة أسبابه وترتيب مقدماته لأن ما بعد يدل على أنه لم يحصل الصرف وجوز أن يرتكب فيه التجريد أي سووا منصوبا وحيلا ليخدعوا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام فأتى الله بنيانهم من القواعد أنى من جهة الدعائم والعمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت فمن ابتدائية والبنيان اسم مفرد مذكر ونقل الراغب عن بعض اللغويين أنه جمع بنيانة مثل شعير وشعيرة وتمر وتمرة ونخل ونخلة وإن هذا النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه وأصل الإتيان كما قال المجيء بسهولة وهو مستحيل بظاهره في حقه سبحانه ولذلك احتاج بعضهم إلى تقدير مضاف أي أمر الله تعالى وروي ذلك عن قتادة وجعل ذلك في الكشاف من قبيل أتى عليه الدهر بمعنى أهلكه وأفناه وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف وقريء بنيتهم وهو بمعنى بنائهم يقال بنيت أبني أبناء وبنية وبنى نعم كثيرا ما يعبر بالبنية عن الكعبة وقرأ جعفر بيتهم والضحاك بيوتهم فخر عليهم السقف من فوقهم أي سقط عليهم سقف بنايتهم إذ لا يتصور له القيام بعد تهدم قواعده ومن متعلق بخرو وهي لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف على أنه حال من السقف مؤكدة وقال ابن عطية وابن الأعرابي أن من فوقهم ليس بتأكيد لأن العرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا انهدم في ملك القائل وإن لم يقع عليه حقيقة فهو لبيان أنهم كانوا تحته حين هدم ومن الناس من زعم أن على بمعنى عن وهي للتعليل والكلام على تقدير مضاف أي خر من أجل كفرهم السقف وجيء بقوله تعالى : من فوقهم مع خر لدفع توهم أن يكون قد خروهم ليسوا تحته ولا يخفى أنه تطويل من غيل طائل بل كلام لا ينبغي أن يتفوه به فاضل والكلام تمثيل يعني أن حالهم في تسويتهم المنصوبات والحيل ليمكروا بها رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وإبطال الله تعالى إياها وجعلها سببا لهلاكهم كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضت فسقط عليهم السقف وهلكوا تحته ووجه الشبه أن ما نصبوه وخيلوه سبب التحصن والإستيلاء صار سبب البوار والفانء فالأساطين بمنزلة المنصوبات وإنقلابها عليهم مهلكة كانقلاب تلك الحيل على أصحابها والبنيان ما كان زوروه وروجوا فيه تلك المنصوبات وتواطئوا عليه من الرأي المدعم بالمكائد ويشبه ذلك قولهم من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا
ويقرب من هذا ما قيل إن المراد أحبط الله تعالى أعمالهم وقيل : الأمر مبني على الحقيقة وذلك أن نمرود بن كنعان بنى صرحا ببابل ليصعد بزعمه إلى السماء ويعرف أمرها ويقاتل أهلها وأفرط في علوه فكان طوله في السماء على ما حكى النقاش وروي عن كعب فرسخين وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب كان ارتفاعه خمسة آلاف ذراع وعرضه ثلاثة آلاف ذراع فبعث الله تعالى عليه ريحا فهدمته وخر سقفه عليه وعلى أتباعه فهلكوا وقيل : هدمه جبريل عليه السلام بجناحه لما سقط تبلبلت الناس من الفزع فتكلموا يومئذ بثلاث وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية ولا يخفى ما في الخبر من المخالفة للمشهور لأن موجبه أن هلاك نمرود كان بما ذكر والمشهور أنه هاش بعد قصة الصرح وأهلكه الله تعالى ببعوضة وصلت لدماغه إظهارا لكمال خسته وعجزه وجازاه سبحانه من جنس عمله لأنه صعد إلى جهة السماء بالنسور فأهلكه الله تعالى بأخس الطيور وما ذكر في وجه تسمية المكان المعروف ببابل هو المشهور وفي معجم البلدان أن مدينة بابل بوراسف
(14/125)

الجبار واشتق اسمها من المشتري لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري وأخر بها الإسكندر وما ذكر من أن اللسان كان قبل ذلك السريانية ذكره البغوي ونظر فيه الخازن بأن صالحا عليه السلام وقومه كانوا قبل وكانوا يتكلمون بالعربية وكان قبائل قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس يتكلمون بالعربية أيضا وقد يدفع بالعناية
وقال الضحاك الآية إشارة إلى قوم لوط عليه السلام وما فعل بهم وبقراهم والكلام أيضا مبني على الحقيقة واختار جماعة بناءه على التمثيل حسبما سمعت وعليه فالمراد على المختار من الذين كفروا من قبل ما يشمل جميع الماكرين الذين هدم عليهم بنيانهم وسقط في أيديهم وقرأ الأعرج السقف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ومجاهد السقف بضم السين فقط وكلاهما جمع سقف وفعل وفعل على ما قال أبو حيان محفوظان في جمع فعل وليسا مقيسين فيه ويجمع على سقوف وهو القياس وقرأت فرقة السقف بفتح السين وضم القاف وهي لغة في السقف وذكر أن الأصل مضموم القاف وساكنه مخففه وكثر استعماله على عكس قولهم رجل بفتح فضم ورجل بفتح فسكون وهي لغة تميمية وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون
26
- بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون والمراد به العذاب العاجل وفي عطف هذه الجملة على ما تقدم تهويل لأمر هلاكهم ويدل على أن المراد به العاجل قوله سبحانه : ثم يوم القيامة يخزيهم أي يذلهم والظاهر أن ضمائر الجمع للذين مكروا من قبل كأنه قيل : قد مكر الذين من قبلهم فعذبهم الله تعالى في الدنيا ثم يعذبهم في العقبى و ثم للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما تدل عليه من التراخي الزماني وتقديم الظرف على الفعل قيل لقصر الأخزاء على يوم القيامة والمراد به ما بين بقوله سبحانه : ويقول أي لهم تفضيحا وتوبيخا أين شركائي إلى آخره ولا شك أن ذلك لا يكون إلا في ذلك اليوم وقال بعض المحققين ليس التقديم لذلك بل لأن الإخبار بجزائهم في الدنيا مؤذن بأن لهم جزاء أخرويا فتبقى النفس مترقبة إلى وروده سائلة عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلام على وجه يؤذن بأن المقصود بالذكر جزاؤهم لا كونه في الآخرة وذكر أيضا أن الجملة المذكورة عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي هذا الذي فهم من التمثيل من عذاب هؤلاء الماكرين القائلين في القرآن العظيم أساطير الأولين أو ما هو أعم منه ومما ذكر من عذاب أولئك الماكرين من قبل جزاؤهم في الدنيا ويوم القيامة يخزيهم إلى آخره ثم قال : والضمير إما للمغترين في حق القرآن الكريم أولهم ولمن مثلوا بهم من الماكرين وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق أه
وفيه ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه فليتأمل وفسر بعضهم الأخزاء بما هو روادف التعذيب بالنار لأنه الفرد الكامل وقد قال تعالى : إنك من تدخل النار فقد أخزيته وقيل عليه : إن قوله سبحانه : أين شركائي إلى آخره يأباه لأنه قبل دخولهم النار وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب وأنت تعلم أن الأولى مع هذا حمله على مطلق الإذلال وإضافة الشركاء إلى نفسه عز و جل لأدنى ملابسة بناء على زعمهم أنهم شركاء لله سبحانه عما يشركون فتكون الآية كقوله تعالى : أين كركائكم الذين تزعمون
وجوز أن يكون ما ذكر حكاية منه تعالى لإضافتهم فإنهم كانوا يضيفون ويقولون : شركاء الله تعالى
(14/126)

وفي ذلك زيادة في توبيخهم ليست في أين أصنامكم مثلا لو قيل ولا يخفى أن هذا خزي وإهانة بالقول فإذا فسر الأخزاء فيما تقدم بالتعذيب بالنار كانت الآية مشيرة إلى خزيين فعلى وقولي وأشير إلى الأول أولا لأنه أنسب بسابقه وقرأ الجمهور شركائي ممدودا مهموزا مفتوح الياء وفرقة كذلك إلا أنهم سكنوا الياء فتسقط في الدرج لالتقاء الساكنين والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه بالقصر وفتح الياء وأنكر ذلك جماعة وزعموا أن هذه القراءة غير مأخوذ لأن قصر الممدود لا يجوز إلا ضرورة وليس كما قالوا فإنه يجوز في السعة وقد وجه أيضا بأن الهمزة المكسورة قبل الياء حذفت للتخفيف وليس كقصر الممدود مطلقا مع أنه قد روي عن ابن كثير قصر التي في القصص و ورائي في مريم وعن قنبل قصر أن رآه استغنى في العلق فكيف يعد ذلك ضرورة
نعم قال أبو حيان : إن وقوعه في الكلام قليل فاعرف ذلك فقد غفل عنه كثير من الناس
الذين كنتم تشاقون فيهم أي تخاصمون وتنازعون الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم في شأنهم وتزعمون أنهم شركاء حقا حين بيتوا لكم ضد ذلك وفسر بعضهم المشاقة بالمعاداة وتفسيرها بالمخاصمة ليظهر تعلق فيهم به ولا يحتاج إلى جعل في للسببية أولى وقيل : للمخاصمة مشاقة أخذا من شق العصا أو لكون كل من المتخاصمين في شق والمراد بالإستفهام استحضارها للشفاعة على طريق الإستهزاء والتبكيت فإنهم كانوا يقولون : إن صح ما تقولون فالأصنام تشفع لنا والأسفار عن مكانتهم لا يوجب غيبتهم حقيقة بل يكفي في ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون به فليس هناك شركاء ولا أماكنها
وقيل : إن ذلك يوجب الغيبة ويقال : إنه يحال بينهم وبين شركائهم حينئذ ليتفقدوهم في ساعة علقوا الرجاء بها فيهم أو أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب ولا يحتاج إلى هذا بعدما علمت على أنه أورد على قوله ليتفقدوهم إلى آخره أنه ليس بسديد فإنه قد تبين للمشركين حقيقة الأمر فرجعوا عن ذلك الزعم الباطل فكيف يتصور منهم التفقد وأجيب بأنه يجوز أن يغفلوا لعظم الهول عن ذلك فيتفقدوهم ثم إن ما ذكر يقتضي حشر الأصنام وهو الذي يدل عليه كثير من الآيات كقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم وقوله سبحانه : وقودها الناس والحجارة على قول ولا أرى ما نعا من حمل الشركاء على معبوداتهم الباطلة بحيث تشمل ذوي العقول أيضا وقرأ الجمهور تشاقون بفتح النون ونافع بكسرها ورويت عن الحسن ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم وقرأت فرقة بتشديدها على أنه أدغم نون الرفع في نون الوقاية والكسر على حذف ياء المتكلم والإكتفاء به أي تشاقونني على أن مشاقة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم كمشاقة الله تعالى شأنه ولو لا ذلك لم يصح تعليق المشاقة به سبحانه أما إذا كانت بمعنى المخاصمة فظاهر أنهم لم يخاصموا الله تعالى وأما إذا كانت بمعنى العداوة فلأنهم لا يعتقدون أنهم أعداء لله تعالى : وأما قوله تعالى لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء يعني المشركين فمؤول أيضا بغير شبهة قال الذين أوتوا العلم من أهل الموقف وهم الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم واقتصر يحيى بن سلام على المؤمنين والأمر فيه سهل وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم الملائكة عليهم السلام ولم نقف على تقييده إياهم وعن مقاتل أنهم الحفظة منهم ويشعر كلام بعضهم بأنهم ملائكة
(14/127)

الموت حيث أورد على القول بأنهم الملائكة أن الواجب حينئذ يتوفونهم مكان تتوفاهم الملائكة وأنه يلزم منه الإبهام في موضع التعيين والتعيين في موضع الإبهام وهو كما قال الشهاب في غاية السقوط وقيل : المراد كل من اتصف بهذا العنوان من ملك وأنسي وغير ذلك والذي يميل إليه القلب السليم القول الأول أي يقول أولئك توبيخا للمشركين وإظهارا للشماتة بهم وتقريرا لما كانوا يعظونهم وتحقيقا لما أعودوهم به وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقيق وقوعه وتحتمه حسبما هو المعهود في أخباره تعالى كقوله سبحانه : ونادى أصحاب الجنة
إن الخزي الذال والوان وفسره الراغب بالذال الذي يستحي منه اليوم منصوب بالخزي على رأى من يرى أعمال المصدر باللام كقوله : ضعيف النكاية أعداءه
أو بالإستقرار في الظرف الواقع خبرا لإن وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا أنه مغتفر في الظرف وأل للحضور أي اليوم الحاضر وإيراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق والسوء العذاب من الخزي به جعل ذكر هذا للتأكيد على الكافرين
27
- بالله تعالى وآياته ورسله عليهم السلام الذين تتوفاهم الملائكة بتأنيث الفعل وقرأ حمزة والأعمش يتوفاهم بالتذكير هنا وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى والوجهان شائعان في أمثال ذلك
وقريء بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها ويجتلب في مثله حينئذ همزة وصل في الإبتداء وتسقط في الدرج وإن لم يعهد همزة وصل في أول فعل مضارع وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين وفي الموصول أوجه الإعراب الثلاثة الجر على أنه صفة الكافرين أو بدل منه أو بيان له والنصب والرفع على القطع للذم وجوز ابن عطية كونه مرتفعا بالإبتداء وجملة فألقوا خبره وتعقبه أبو حيان بأن زيادة الفاء في الخبر لا تجوز هنا إلا على مذهب الأخفش في إجازته وزيادتها في الخبر مطلقا نحو زيد فقام أي قام ثم قال : ولا يتوهم أن هذه الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولا وضمن معنى الشرط لأنها لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح أداة الشرط فلا يجوز مع ما ضمن معناه أه بلفظه ونقل شهاب عنه أنه قال : إن المنع مع ما ضمن معناه أولى وتعقيبه بأن كونه أولى غير مسلم لأن امتناع الفاء معه لأنه لقوته لا يحتاج إلى رابط إذا صح مباشرته للفعل وما تضمن معناه ليس كذلك وكلامه الذي نقلناه لا يشعر بالأولوية فلعله وجد له كلاما آخر يشعر بها
واستظهر هو الجر على الوصفية ثم قال : فيكون ذلك داخلا في القول فإن كان القول يوم القيامة يكون تتوفاهم بصيغة المضارع حكاية للحال الماضة وإن كان في الدنيا أي لما أخبر سبحانه أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول جل وعلا لهم ما يقول قال أهل العلم : إن الخزي اليوم الذي أخبر الله تعالى أنه يخزيهم فيه والسوء على الكافرين يكون نتوفاهم على بابه ويشمل من حيث المعنى من توفته ومن تتوفاه وعلى ما ذكره ابن عطية يحتمل إن يكون الذين إلى آخره من كلام الذين أوتوا العلم وأن يكون إخبارا منه تعالى والظاهر أن القول يوم القيامة فصيغة المضارع لاستحضار صورة توفي الملائكة إياهم كما قيل آنفا لما فيها من الهول وفي تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره وفيه تنديم لهم لا يخفى أي الكافرين المستمرين على الكفر إلا أن تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم أي حال كونهم مستمرين على الشرك الذي هو ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المقيم فألقوا السلم أي الإستسلام كما قاله الأخفش
(14/128)

وقال قتادة : الخضوع ولا بعد بين القولين والمراد عليهما أنهم أظهروا الإنقياد والخضوع وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهارهم الإنقياد وأشعارا بغاية خضوعهم وانقيادهم وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب والجملة قيل عطف على قوله تعالى : ويقول أين شركائي وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقا لما حاق بهم من الخزي على رؤس الأشهاد وكان الظاهر فيلقون إلى آخره إلا أنه عبر بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي يقول لهم سبحانه ذلك فيستسلمون وينقادون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدنيا من الكبر وشدة الشكيمة ولعله مراد من قال : إن الكلام قد تم عند قوله تعالى : أنفسهم ثم عاد إلى حكاية حالهم يوم القيامة وقيل : عطف على قال الذين وجوز أبو البقاء وغيره العطف على تتوفاهم واستظهره أبو حيان لكن قال الشهاب : إنه إنما يتمشى على كون تتوفاهم بمعنى الماضي وقد تقدم لك القول بأن الجملة خبر الذين مع ما فيه واعترض الأول بأن قوله تعالى : ما كنا نعمل من سوء إما أن يكون منصوبا بقول مضمر وذلك القول حال من ضمير ألقوا أي ألقوا السلم قائلين ما كنا إلى آخره أو تفسيرا للسلم الذي ألقوه بناء على أن المراد به القول الدال عليه بدليل الآية الأخرى فألقوا إليهم القول وأياما كان فلذلك العطف فذلك العطف يقتضي وقوع هذا القول منهم يوم القيامة وهو كذب صريح ولا يجوز وقوعه يومئذ
وأجيب بأن المراد ما كنا عاملين السوء في اعتقادنا أي كان اعتقادنا أن عملنا غير سيء وهذا نظير ما قيل في تأويل قولهم والله ربنا ما كنا مشركين وقد تعقب بأنه لا يلائمه الرد عليهم ببلى إن الله إلى آخره لظهور أنه لإبطال النفي ولا يقال : الرد على من جحد واستيقنت نفسه لأنه يكون كذبا أيضا فلا يفيد التأويل ومن الناس من قال يجواز وقوع الكذب يوم القيامة وعليه فلا إشكال ولا يخفى أن هذا البحث جار على تقدير كون العطف على قال الذين أيضا إذ يقتضي كالأول وقوع القول يوم القيامة وهو مدار البحث
واختار شيخ الإسلام عليه الرحمة العطف السابق وقال : إنه جواب عن قوله سبحانه : أين شركائي وأرادوا بالسوء الشرك منكرين صدوره عنهم وإنما عبروا عنه بما ذكر اعترافا بكونه سيئا إنكارا لكونه كذلك مع الإعتراف بصدوره عنهم ونفى أن يكون جوابا عن قول أولي العلم ادعاء لعدم استحقاقها لما دهمهم من الخزي والسوء ولعله متعين على تقدير العطف على قال الذين إلى آخره وإذا كان العطف على تتوفاهم الملائكة كان الغرض من قولهم هذا الصادر منهم عند معاينتهم الموت استعطاف الملائكة عليهم السلام بنفي صدور ما يوجب استحقاق ما يعانونه عند ذلك وقيل : المراد بالسوء الفعل السيء أعم من الشرك وغيره ويدخل فيه الشرك دخولا أوليا أي ما كنا نعمل سوأ ما فضلا عن الشرك و من على كل حال زائدة و سوء مفعول لنعمل بلى رد عليهم من قبل الله تعالى أو من قبل أولي العلم أو من قبل الملائكة عليهم السلام ويتعين الأخير على كون القول عند معاينة الموت ومعاناته أي بلى كنتم تعملون ما تعملون
إن الله عليم بما كنتم تعملون
28
- فهو يجازيكم عليه وهذا أو أنه فادخلوا أبواب جهنم خطاب لكل صنف منهم أن يدخل بابا من أبواب جهنم والمراد بها إما المنفذ أو الطبقة ولا يجوز أن يكون خطابا لكل فرد لئلا يلزم دخول الفرد من الكفار من أبواب متعددة أو يكون لجهنم أبواب بعدد الأفراد وجوز أن يراد
(14/129)

بالأبواب أصناف العذاب فقد جاء إطلاق الباب على الصنف كما يقال : فلان ينظر في باب من العلم أي صنف منه وحينئذ لا مانع في كون الخطاب لكل فرد وأبعد من قال : المراد بتلك الأبواب قبور الكفرة المملوأة عذابا مستدلا بما جاء القبر روضة من رياض الجنة أو حفر من حفر النار خالدين فيها حال مقدرة إن أريد بالدخول حدوثه ومقارنة أن أريد به مطلق الكون وضمير فيها قيل : للأبواب بمعنى تطبقات وقيل : لجهنم والتزم هذا وكون الحال مقدرة من أبعد وحمل الخلود على المكث الطويل للإستغناء على هذا الإلتزام وإن كان كان واقعا في كلامهم خلاف المعهود في القرآن الكريم فلبئس مثى المتكبرين
29
- أي عن التوحيد وذكرهم بعنوان التكبر للإشعار بعليته لثوابهم فيها وقد وصف سبحانه الكفار فيما تقدم بالإستكبار وهنا بالتكبر وذكر الراغب أنهما والكبر تتقارب فالكبر الحاللة التي يتخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه والإستكبار على وجهين : أحدهما أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيرا وذلك متى ما يحب وفي المكان الذي يحب وفي الوقت الذي يحب وهو محمود والثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له وهو مذموم والتكبر على وجهين أيضا الأول أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزوائد على محاسن غيره وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا وذلك في وصف عامة الناس والتكبر على الوجه الأول محمود وعلى الثاني مذموم والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم أو أبوابها إن فسرت بالطبقات والفاء عاطفة واللام جيء بها للتأكيد اعتناء بالذم لما أن القوم ضالون مضلون كما ينبيء عنه قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم وللتأكيد اعتناء بالمدح جيء باللام أيضا فيما بعد من قوله سبحانه : ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين لأن أولئك القوم على ضد هؤلاء هادون مهديون وكأنه لعدم هذا المقتضى في آيتي الزمر والمؤمن لم يؤت باللام وقيل : فبئس مثوى المتكبرين وقيل : التأكيد متوجه لما يفهم من الجملة من أن جهنم مثواهم وحيث أنه لم يفهم من الآيات قبل هنا فهمه منها قبل آيتي تينك السورتين جيء بالتأكيد هناك ولم يجيء به هنا اكتفاء بما هو كالصريح في إفادة أنها مثواهم مما ستسمعه إن شاء الله تعالى هناك
وقيل للذين اتقوا أي المؤمنين وصفوا بذلك إشعارا بأن ما صدر عنهم من الجواب ناشيء من التقوى
ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا أي أنزل خيرا فماذا اسم واحد مركب للإستفهام بمعنى أي شيء محله النصب بأنزل و خيرا مفعول لفعل محذوف وفي اختيار ذلك دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة حيث عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء نعم قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما خير بالرفع فما اسم إستفهام و ذا إسم موصول بمعنى الذي أي أي شيء الذي أنزله ربكم و خير خبر مبتدأ محذوف فيتوافق جملتا الجواب والسؤال في كون كل منهما جملة إسمية وجعل ماذا منصوبا على المفعولية كما مر ورفع خير على الخبرية لمبتدأ جائز إلا أنه خلاف الأولى وفي الكشف أنه يظهر من الوقوف على مراد صاحب الكشاف في هذا المقام أن فائدة النصب مع أن الرفع أقوى دفع الإلتباس ليكون نصا في المطلوب كما أوثر النصب في
(14/130)

وله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر لذلك وينحل مراده من ذلك بالرجوع إلى ما نقلناه عنه سابقا والتأمل فيه فتأمل فإنه دقيق
هذا ولم نجد في السائل هنا خلافا كما في السائل فيما تقدم والذي رأيناه في كثير مما وقفنا عليه من التفاسير أن السائل الوفد الذي كان سائلا أولا في بعض الأقوال المحكية هناك وذكر أنه السائل في الموضعين كثير منهم ابن أبي حاتم فقد أخرج عن السدي قال اجتمعت قريش فقالوا : إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من طريق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فينزل بهم قالوا له : يا فلان ابن فلان فيعرفه بنسبه ويقول : أنا أخبرك عن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله تعالى : وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين فإذا كان الوافد ممن عز الله تعالى له على الرشاد فقالوا مثل ذلك قال : بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيقولون : خيرا الخ نعم يجوز عقلا أن يكون السائل بعضهم لبعض ليقوى ما عنده بجوابه أو لنحو ذلك كالإستلذاذ بسماع الجواب وكثيرا ما يسأل المحب عما يعلمه من أحوال محبوبه استلذاذا بمدامة ذكره وتشنيفا لسمعه بسنى دره ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر بل يجوز أيضا أن يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم للذين أحسنوا أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة في هذه الدار الدنيا حسنة مثوبة حسنة جزاء إحسانهم والجار والمجرور متعلق بما بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا والمراد بها على ما روي عن الضحاك النصر والفتح وقيل : المدح والثناء منه تعالى وقال الإمام : يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى وقيل : متعلق بما قبله وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير مثله متعلقا بما بعد أولا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة لإحسانهم في الدنيا في الآخرة واقتصر بعضهم على هذا الإحتمال والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا واختبر كونه متعلقا بما بعد لأنه الأوفق بقوله سبحانه : ولدار الآخرة خير والكلام كما يشعر به كلام غير واحد حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب
وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة ولنعم دار المتقين
30
- أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية والزجاج وابن الأنباري وغيرهم وهذا كلام مبتدأ عدة منه تعالى للذين اتقوا على قولهم وهو في الوعد ههنا نظير ليحملوا أوزارهم في الوعيد فيما مر وجوز أن يكون خيرا
(14/131)

مفعول قالوا لأنه في معنى الجملة كقال قصيده أو صفة مصدر أي قولا خيرا وهذه الجملة بدل منه فحملها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من الإعراب وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة للذين أحسنوا العمل إلا أن الله سبحانه سماه خيرا ثم حكاه كما تقول : قال فلان جميلا من قصدنا وجب حقه علينا وعلى ما ذكر لا يكون دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث شهادة الله تعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما الكشف مفعول أنزل ويكون تسميته خيرا من الله تعالى كما في قوله سبحانه : ليقولن خلقهن العزيز العليم ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى فهم معناه وأما قولهم : للذين أحسنوا أي قالوا أنزل هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى وزعم بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوبا بأنزل لأن هذا القول ليس منزلا من الله تعالى وفيه تموت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشيء من قلة التدبر وفي البحر الظاهر أن للذين الخ مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله تعالى في الوحي وظاهره أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضا ولعل اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب للسائل والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه الوجه
جنات عدن خبر مبتدأ محذوف كما اختاره الزجاج وابن الأنباري أي هي جنات وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي لهم جنات أو هو المخصوص بالمدح يدخلونها نعت لجنات عند الحرفي بناء على أن عدن نكرة وكذلك تجري من تحتها الأنهار وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم وجوز أن يكون جنات مبتدأ وجملة يدخلونها خبره وجملة تجري الخ حال وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات بالنصب على الإشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها قال أبو حيان : وهذه القراءة تقوى كون جنات مرفوعا مبتدأ والجملة بعده خبره وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ولتعمة دار المتقين بتاء مضمومة ودار محفوظة فيكون نعمة مبتدأ مضافا إلى دار وجنات خبره وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع يدخلونها بالياء على الغيبة والفعل مبني للمفعول ورويت عن أبي جعفر وشيبة لهم فيها أي في تلك الجنات ما يشاءون الطرف الأول خبر لما والثاني حال منه والعامل ما في الأول من معنى الحصول والأستقرار أو متعلق به لذلك أي حاصل لهم فيها ما يشاؤن من أنواع المشتهيات وتقديمه للإحراز عن توهم تعلقه بالمشيئة أو لما مر غير مرة من أن تأخير ما حقه التقدم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده فضل تمكن وذكر بعضهم أن تقديم فيها للحصر وما للعموم بقرينة المقام فيفيد أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة فتأمله والجملة في موضع الحال نظير ما تقدم وزعم أن لهم متعلق بتجري من تحتها الأنهار لنفعهم وفيها ما يشاؤن مبتدأ وخبر موضع الحال لا يخفى حاله عند ذوي التمييز كذلك مثل ذلك الجزاء إلا وفي يجزي الله المتفين
31
- أي جنسهم فيشمل كل من يتقي من الشرك والمعاصي وقيل من الشرك ويدخل فيه المتقون المذكورون دخولا أوليا ويكون فيه بعث لغيرهم على التقوى أو المذكورين فيكون فيه تحسير للكفرة قيل : وهذه الجملة تؤيد كون قوله سبحانه للذين أحسنوا عدة فإن جعل ذلك جزاء لهم ينظر إلى الوعد به من الله تعالى وإذا كان مقول
(14/132)

القول لا يكون من كلامه تعالى حتى يكون وعدا منه سبحانه وقيل : إنها تؤيد كون جنات خبر مبتدأ محذوف لا مخصوصا بالمدح لأنه إذا كان مخصوصا بالمدح يكون كالصريح في أن جنات عدن جزاء للمتقين فيكون كذلك الخ تأكيدا بخلاف ما إذا كان خبر مبتدأ محذوف فإنه لم يعلم صريحا أن جنات عدن جزاء للمتقين وفيه نظر وكذا في سابقه إلا أن في التعبير بالتأييد مايهون الأمر الذين تتوفاهم الملائكة نعت للمتقين وجوز قطعه وقوله سبحانه : طسبين حال من ضميرهم ومعناه على ما روي عن أبي معاذ طاهرين من دنس الشرك وهو المناسب لجعله في مقابلة ظالمي أنفسهم في وصف الكفرة بناء على أن المراد بالظلم أعظم أنواعه وهو الشرك لكن قيل عليه : إن ذكر الطهارة عن الشرك وحده لا فائدة فيه بعد وصفهم بالتقوى
وأجيب بأن فائدة ذلك الإشارة إلى أن الطهارة عن الشرك هي الأصل الأصيل وفي إرشاد العقل السليم بعد تفسير الظلم بالكفر وتفسير طيبين بطاهرين عن دنس الظلم وجعله حالا قال : وفائدته الإيذان بأن ملاك الأمر في التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم حث للمؤمنين على الإستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله
وقال مجاهد : المراد بطيبين زاكية أقوالهم وأفعالهم وهو مراد من قال : طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وإلى هذا ذهب الراغب حيث قال : الطيب من الإنسان من تعرى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال وتحلى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال وإياهم قصد بقوله سبحانه : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين
وانتصر لذلك بأن وصفهم بأنهم متقون موعودون بالجنة في مقابلة الأعمال يقتضي ما ذكر وحملوا الظلم فيما مر على ما يعم الكفر والمعاصي لأن ذلك مجاب بقولهم : ما كنا نعمل من سوء فلا تفوت المناسبة في جعل هذا مقابلا لذاك لكن في الإستدلال بما ذكر في الجواب على إرادة العام ما لا يخفى والكثير على تفسير الطيب بالطاهر عن قاذورات الذنوب في مطابق الذي لا خبث فيه وقيل : المعنى فرحين ببشارة الملائكة عليهم السلام إياهم ويقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس فالمراد بالطيب طيب النفس وطيبها عبارة عن القبول مع انشراح الصدر يقولون حال من الملائكة وجوز أن يكون الذين مبتدأ خبره هذه الجملة أي قائلين أو قائلون لهم : سلام عليكم لا يحيقكم بعد مكروه
قال القرطبي : وروي نحوه البيهقي عن محمد بن كعب القرظي إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت عليه السلام فقال : السلام عليك يا ولي الله إن الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة ادخلوا الجنة التي أعدها الله تعالى لكم ووعدكم إياها وكأنها إنما لم توصف لشهرة أمرها
وفي إرشاد العقل السليم اللام للعهد أي جنات عدن الخ ولذلك جردت عن النعت وهو كما ترى والمراد دخولهم فيها بعد البعث بناء على أن المتبادر الدخول بالأرواح والأبدان والمقصود من الأمر بذلك قبل مجيء وقته البشارة بالجنة على أتم وجه ويجوز أن يراد الدخول حين التوفي بناء على حمل الدخول على الدخول بالأرواح كما يشير إليه خبر القبر روضة من رياض الجنة وكون البشارة بذلك دون البشارة بدخول الجنة على المعنى الأول لا يمنع عن ذلك على أن لقائل أن يقول : إن البشارة بدخول الجنة بالأرواح متضمنة للبشارة بدخولها بالأرواح والأبدان عند وقته وكون هذا القول كسابقه عند قبض الأرواح هو المروي عن ابن مسعود وجماعة
(14/133)

من المفسرين وقال مقاتل والحسن : إن ذلك يوم القيامة والمراد من التوفي وفاة الحشر أعني تسليم أجسادهم وإصالها إلى موقف الحشر من توفي الشيء إذا أخذه وافيا وجوز حمل التوفي على المعنى المتعارف مع كون القول يوم القيامة إما يجعل الذين تتوفاهم الملائكة يقولون مبتدأ وخبر أو يجعل يقولون حالا مقدرة من الملائكة والذين على حاله أو لا وحال ذلك لا يخفى بما كنتم تعملون
32
- أي بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة بالذي كنتم تعملونه من ذلك والباء للسببية العادية وهي فيما في الصحيحين من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لن يدخل الجنة أحدكم بعمله الحديث للسببية الحقيقية فلا تعارض بين الآية والحديث وبعضهم جعل الباء للمقابلة دفعا للتعارض هل ينظرون أي ما ينتظر كفار مكة المار ذكرهم إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم كما روي عن قتادة ومجاهد وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش يأتيهم بالياء أخر الحروف أو يأتي أمر ربك أي يوم القيامة كما روي عمن تقدم أيضا وقال بعضهم : المراد به العذاب الدنيوي دونها لا لأن انتظارها يجامع انتظار إتيان الملائكة فلا يلائمه العطف بأولا لأنها ليست نصا في العناد إذ يجوز أن يعتبر منع الخلو ويراد بإيرادها كفاية كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي إن شاء الله تعالى : ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم الآية صريح في أن المراد به ما أصابهم من العذاب الدنيوي وفيه منع ظاهر ويؤيد إرادة الأول التعبير بيأتي دون يأتيهم وقيل : المراد بإتيان الملائكة إتيانهم للشهادة بصدق النبي صلى الله عليه و سلم أي ما ينتظرون في تصديقك إلا أن تنزل الملائكة تشهد بنبوتك فهو كقوله تعالى : لو لا أنزل عليه ملك والجمهور على الأول وجعلوا منتظرين ولذلك مجازا لأنه يلحقهم لحوق الأمر المنتظر كما قيل
واختير أن ذلك لمباشرتهم أسباب العذاب الموجبة له المؤدية إليه فكأنهم يقصدون إيتاءه ويتصدون لوروده ولا يخفى ما في التعبير بالرب وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه و سلم من اللطف به عليه الصلاة و السلام وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى وجه ربط الآيات كذلك أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب فعل الذين خلوا من قبلهم من الأمم وما ظلمهم الله إذا أصابهم جزاء فعلهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
33
- بالإستمرار على فعل القبائح المؤدي لذلك قيل : وكان الظاهر أن يقال : ولكن كانوا هم الظالمين كما في سورة الزخرف لكنه أوثر ما عليه النظم الكريم لإفادة أن غائلة ظلمهم آيلة إليهم وعاقبته مقصورة عليهم مع استلزامهم اقتصار ظلم كل أحد على نفسه من حيث الوقوع اقتصاره عليه من حيث الصدور فأصابهم سيئات ما عملوا أي أجزية أعمالهم السيئة على طريقة إطلاق اسم السبب على المسبب إيذانا بفظاعته وقيل : الكلام على حذف المضاف
وتعقب بأنه يوهم أن لهم أعمالا غير سيئة والتزم ومثل ذلك بنحو صلة الأرحام ولا يخفى أن المعنى ليس على التخصيص والداعي إلى ارتكاب أحد الأمرين أن الكلام بظاهره يدل على أن ما أصابهم سيئة وليس بها
وقد يستغنى عن ارتكاب ذلك لما ذكر بأن ما يدل عليه الظاهر من باب المشاكلة كما في قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها كما في الكشاف وحاف بهم أي أحاط بهم وأصل معنى الحيق الإحاطة مطلقا ثم خص في الإستعمال بإحاطة الشر فلا يقال : أحاطت به النعمة بل النقمة وهذا أبلغ وأفضع من أصابهم ما كانوا به يستهزؤن
34
- أي من العذاب كما قيل علي أن ما موصولة عبارة عن العذاب وليس في الكلام حذف ولا ارتكاب مجاز على
(14/134)

نحو ما مر آنفا وقيل : ما مصدرية وضمير به للرسول عليه الصلاة و السلام وإن لم يذكر والمراد أحاط بهم جزاء استهزائهم بالرسول صلى الله عليه و سلم أو موصولة عامة للرسول عليه الصلاة و السلام وغيره وضمير به عائد عليها والمعنى على الجزاء أيضا ولا يخفى ما فيه وإياما كان فبه متعلق بيستهزئون قدم للقاصلة هذا ثم أن قوله تعالى : هل ينظرون الخ على ما في الكشف رجوع إلى عد ما هم فيه من العناد والإستشراء في الفساد وأنهم لا يقلعون عن ذلك كأسلافهم الغابرين إلى يوم التناد وما وقع من أحوال أضدادهم في البين كان لزيادة التحسير والتبكيت والتخسير وفيه دلالة على أن الحجة قد تمت وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أدى ما عليه من البلاغ المبين وقوله تعالى : فأصابهم عطف على فعل الذين من قبلهم مترتب إذ المعنى كذلك التكذيب والشرك فعل أسلافهم وأصابهم ما أصابهم وفيه تحذير مما فعله هؤلاء وتذكير لقوله سبحانه : قد مكر الذين من قبلهم ولا يخفى حسن الترتب على ذلك لأن التكذيب والشرك تسببا لإصابة السيئات لمن قبلهم وقوله سبحانه : وما ظلمهم الله اعتراض واقع حاق موقعه وجعل ذلك راجعل إلى المفهول من قوله تعالى : هل ينظرون أي كذلك كان من قبلهم مكذبين لزمتهم الحجة منتظرين فأصابهم ما كانوا منتظرين سديد حسن إلا أن معتمد الكلام الأول وهو أقرب مأخذا ودلالة فعل عليه أظهر فهذه فذلكة ضمنت محصل ما قابلوا به تلك النعم والبصائر وأدمج فيها تسليته صلى الله تعالى عليه وسلم والبشرى بقلب الدائرة على من تربص به وبأصحابه عليه الصلاة و السلام الدوائر وختمت بما يدل على أنهم أنطقوا فاحتجوا بآخر ما يحتج به المحجوج يتقلب عليه فلا يبصر إلا وهو مثلوج مشجوج وهو ما تضمنه قوله تعالى : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء فهو من تتمة قوله سبحانه : هل ينظرون ألا ترى كيف ختم بنحوه آخر مجادلاتهم في سورة الأنعام في قوله سبحانه : سيقول الذين أشركوا وكذلك في سورة الزخرف ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخزال الحجة وقالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ويكفي في الإنقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه : قل فلله الحجة البالغة وفي إرشاد العقل السليم أن هذه الآية بيان لفن آخر من كفر أهل مكة فهم المراد بالوصول والعدول عن الضمير إليه لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر والمعنى لو شاء الله تعالى عدم عبادتنا لشيء غيره سبحانه كما تقول ما عبدنا ذلك نحن ولا آباؤنا الذين نهتدي بهم في ديننا ولا حرمنا من دونه من شيء من السوائب والبحار وغيرها فمن الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الإستغراق وكذا الثالثة ونحن لتأكيد ضمير عبدنا لا لتصحيح العطف لوجود الفاصل وإن كان محسنا له وتقدير مفعول شاء عدم العبادة مما صرح به بعضهم وكأن الظاهر أن يضم إليهم عدم التحريم واعترض تقدير ذلك بأن العدم لا يحتاج إلى المشيئة كما ينبيء عند قوله صلى الله عليه و سلم : ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن حيث لم يقل عليه الصلاة والصلام ما شاء الله تعالى كان وما شاء عدم كونه لم يكن بل يكفي فيه عدم مشيئة الوجود وهو معنى قولهم : علة العدم عدم علة الوجود فالأولى أن يقدر المفعول وجوديا كالتوحيد والتحليل وكامتثال ما جئت به والأمر في ذلك سهل
وفي تخصيص الإشراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه وغرضهم من ذلك كما قال بعض المحققين تكذيب الرسول عليه الصلاة و السلام والطعن في الرسالة رأسا فإن حاصله إن ما شاء الله تعالى يجب والم يشأ يمتنع فلو أنه سبحانه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئا ونحلل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا كما تقول الرسل
(14/135)

وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر منا شاء من التوحيد ونفي الإشراك وتحليل ما أحله وعدم تحريم شيء من ذلك وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك بل شاء ما نحن عليه وتحقق أن ما تقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم ورد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه عز و جل : كذلك أي مثل ذلك الفعل الشنيع فعل الذين من قبلهم من الأمم أي أشركوا بالله تعالى وحرموا من دونه ما حرموا وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق فهل على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات الله تعالى وعزائم أمره ونهيه
إلا البلاغ المبين
35
- أي ليست وظيفتهم إلا بلاغ للرسالة الموضح طريق الحق والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاؤا أو أبو كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي يدور عليها فلك التكاليف حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقية الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئة الله تعالى بذلك فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لا بد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الإختيارية وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطررا بين والفاء على هذا للتعليل كأنه قيل كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسل عليهم السلام ليس شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي لا تحقيق مضمونها قسرا وإلجاء أه وكأني بك لا تبريه من تكلف
وهو متضمن للرد على الزمخشري فقد سلك في هذا المقام الغلو في المقال وعدل عن سنن الهدى إلى مهواة الضلال فذكر أن هؤلاء المشركين فعلوا ما فعلوا من القبائح ثم نسبوا فعلهم إلى الله تعالى وقالوا : لو شاء الله إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوه على ربهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق وأن الله سبحانه لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال ولعمري أنه فسر الآيات على وفق هواه وهي عليه لا له لو تدبر ما فيها وحواه وقد رد عليه غير واحد من المحققين وأجلة المدققين وبينوا أن الآية بمعزل عن أن تكون دليلا لأهل الإعتزال كما أن الشرطية لا تنتج مطلوب أولئك الضلال وقد تقدم نبذه من الكلام في ذلك ثم إن كون غرض المشركين من الشرطية تكذيب الرسل عليهم السلام هو أحد احتمالين في ذلك قال المدقق في الكشف في نظير الآية : إن قولهم هذا إما لدعوى مشروعية ما هم عليه ردا للرسل عليهم السلام أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون والأول باطل لأنه المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى والثاني على ما فيه حصول المقصود وهو الإعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك
(14/136)

ومثله في التحريم فهو يؤكد دفع العذر لا أنه يحققه وذكر أن معنى فهل على الرسل أن الذي على الرسل أن يبلغوا ويبينوا معالم الهدى بالإرشاد إلى تمهيد قواعد النظر والإمداد بأدلة السمع والبصر ولا عليهم من مجادلة من يريد أن يدحض ببطله الحق إلا بلج إذ بعد ذلك التبيين يتضح الحق للناظرين ولا تجدى نفعا مجادلة المعاندين وجوز أن يكون قولهم هذا منعا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيهما أو إنكار لقبح ما أنكر عليهم من الشرك والتحريم محتجين بأن ذلك لو كان مستقبحا لما شاء الله تعالى صدوره عنا أو لشاء خلافه ملجأ إليه وأشير إلى وجوب الشبهة الأولى بقوله سبحانه : فهل على الرسل إلى آخره كأنه قيل : إن فائدة البعثة البلاغ الموضح للحق فإن ما شاء الله تعالى وجوده أو عدمه لا يجب ولا يمتنع كما زعمتم بل قد يجب أو يمتنع بتوسط أسباب قدرها سبحانه ومن ذلك البعثة فإنها تؤدي إلى هدى من شاء الله تعالى على سبيل التوسط وأما الشبهة الثانية فقد أشير إلى جوابها في قوله تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة من الأمم الخالية رسولا أن اعبدوا الله وحده واجتنبوا الطاغوت هو كل ما يدعو إلى الضلالة وقال الحسن : هو الشيطان والمراد من اجتابه اجتناب ما يدعو إليه
فمنهم أي من أولئك الأمم من هدى الله إلى الحق من عبادته أو اجتناب الطاغوت بأن وفقهم لذلك ومنهم من حفت عليه الضلالة ثبتت ووجبت إذ لم يوفقهم ولم يرد هدايتهم ووجه الإشارة أن تحقق الضلال وثباته من حيث أنه وقع قسيما للهداية التي هي بإرادته تعالى ومشيئته كان هو أيضا كذلك
وأما أن إرادة القبيح قبيحة فلا يجوز اتصاف الله سبحانه بها فظاهر الفساد لأن القبيح كسب القبيح والإتصاف به لا إرادته وخلقه على ما تقرر في الكلام وأنت تعلم أن كلتا الإشارتين في غاية الخفاء ولينظر أي حاجة إلى الحصر وما المراد به على جعل فهل على الرسل إلى آخره مشيرا إلى جوانب الشبهة الأولى
وقال الإمام : إن المشركين أرادوا من قولهم ذلك أنه لما كان الكل من الله تعالى كان بعثه الأنبياء عليهم السلام عبثا فنقول : هذا اعتراض على الله تعالى وجار مجرى طلب العلة في أحكامه تعالى وأفعاله وذلك باطل إذ لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذاك
والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله سبحانه : ولقد بعثنا إلى آخره حيث بين فيه أن سنته سبحانه في عباده إرسال الرسل إليهم وأمرهم بعبادته ونهيهم عن عبادة غيره وأفاد أنه تعالى وإن أمر الكل ونهاهم إلا أنه جل جلاله هدى البعض وأضل البعض ولا شك أنه إنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين فكان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله المتعال فثبت أن الله تعالى إنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك وهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب ومعنى فهل على الرسل إلى آخره أنه تعالى أمر الرسل عليهم السلام بالتبليغ فهو الواجب عليهم وأما أن الإيمان هل يحصل أو لا يحصل فذاك لا تعلق للرسل به ولكن الله تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه أه وهو كما ترى
(14/137)

ونقل الواحدي في الوسيط عن الزجاج أنهم قالوا ذلك على الهزو ولم يرتضه كثير من المحققين وذكر بعضهم أن حمله على ذاك لا يلائم الجواب نعم قال في الكشف عند قوله تعالى : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم إنهم دفعوا قول الرسل عليهم السلام بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة وهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم إلى العباد وشاء جحودهم وشاء دخولهم النار فاإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة وقال في موضع آخر عند نظير الآية أيضا : أنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن العلم وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله تعالى فرع العلم بذاته والإيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون وأطال الكلام في هذا المقام في سورة الزخرف
وذكر أن في كلامهم تعجيز الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا أمر به ولا ينهى إلا وهو لا يريده وهذا تعجيز من وجهين إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم القدرية أه ويجوز أن يقال : إن المشركين إنما قالوا ذلك إلزاما بزعمهم حيث سمعوا من المرسلين وأتباعهم أن ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإلا فهم أجهل الخلق بربهم جل شأنه وصفاته إن هم كالأنعام بل هم أضل ومرادهم إسكات المرسلين وقطعهم عن دعوتهم إلى ما يخالف ما هم عليه والإستراحة عن معارضتهم فكأنهم قالوا : إنكم تقولون ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فما نحن عليه مما شاءه الله تعالى وما تدعونا إليه مما لم يشأه وإلا لكان واللائق بكم عدم التعرض لخلاف مشيئة الله تعالى فإن وظيفة الرسول الجري على إرادة المرسل لأن الإرسال إنما هو لتنفيذ تلك الإرادة وتحصيل المراد بها وهذا جهل منهم بحقيقة الأمر وكيفية تعلق المشيئة وفائدة البعثة وذلك لأن مشيئته تعالى إنما تتعلق وفق علمه إنما يتعلق وفق ما عليه الشيء في نفسه فالله تعالى ما شاء شركهم مثلا إلا بعد أن علم ذلك وما علمه إلا وفق ما هو عليه في نفس الأمر فهم مشركون في الأزل ونفس الأمر إلا أنه سبحانه حين أبرزهم على وفق ما علم فيهم لو تركهم وحالهم كان لهم الحجة عليه سبحانه إذا عذبهم يوم القيامة إذ يقولون حينئذ : ما جاءنا من نذير فأرسل جل شأنه الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فليس على الرسل إلا تبليغ الأوامر والنواهي لتقوم الحجة البالغة لله تعالى فالتبليغ مراد الله تعالى من الرسل عليهم السلام لإقامة حجته تعالى على خلقه به وليس مراده من خلقه إلا ما هم عليه في نفس الأمر خيرا كان أو شرا وفي الخبر يقول الله تعالى : يا عبادي إنما أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ولا منافاة بين الأمر بشيء وإرادة غيره منه تعالى لأن الأمر بذلك حسبما يليق بجلاله وجماله والإرادة حسبما يستدعيه في الآخرة الشيء في نفسه وقد قرر الجماعة إنفكاك الأمر عن الإرادة في الشاهد أيضا وذكر بعض الحنابلة الإنفكاك أيضا لكن عن الإرادة التكوينية لا مطلقا والبحث مفصل في موضعه وإذا علم ذلك فاعلم أن قوله سبحانه : فهل على الرسل إلا البلاغ يتضمن الإشارة إلى ردهم كأنه قيل : ما أشرتم إليه من أن اللائق بالرسل ترك الدعوة إلى خلاف ما شاءه الله تعالى منا والجري على المشيئة والسكوت عنا باطل لأن وظيفتهم والواجب عليهم هو التبليغ وهو مراد الله تعالى منهم لتقوم به حجة الله تعالى عليكم لا السكوت وترك الدعوة وفي قوله سبحانه : ولقد بعثنا الخ إشارة
(14/138)

يتفطن لها من له قلب إلى أن المشيئة حسب الإستعداد الذي عليه الشخص في نفس الأمر فتأمل فإن هذا الوجه لا يخلو عن بعد ودغدغة والذي ذكره القاضي في قوله تعالى : ولقد بعثنا الخ أنه بين فيه أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببا لهدى من أراد سبحانه اهتداءه وزيادة لضلال من ااد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه
وفي إرشاد العقل السليم أنه تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه فلك الثواب والعقاب من الأفعال الإختيارية والمعنى أنا بعثنا في كل أمة رسولا يأمرهم بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت فأمروهم فتفرقوا فمنهم من هداه الله تعالى بعد صرف قدرته واختياره الجزئي إلى تحصيل ما هدى إليه ومنهم من ثبت على الضلالة لعناده وعدم صرف قدرته إلى تحصيل الحق والفاء في فمنهم فصيحة كما أشير إليه وكان الظاهر في القسم الثاني ومنهم من أضل الله إلا أنه غير الأسلوب إلى ما في النظم الكريم للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى : وإذا مرضت فهو يشفين و أن يحتمل أن تكون مفسرة لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر أي بأن اعبدوا الله فسيروا أيها المشركون المكذبون القائلون : لو شاء الله ما عبدنا من دونه في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
36
- من عاد وثمود ومن سار سيرهم ممن حقت عليه الضلالة وقال كما قلتم لعلكم تعتبروم وترتيب الأمر بالسير على مجرد الأخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأن ذلك غني عن البيان وفي عطف الأمر الثاني بالفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والإستدلال المنقذين من الضلال إن تحرص على هداهم خطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والحرص فرط الإرادة وقرأ النخعي وإن بزيادة واو وهو والحسن وأبو حيوة تحرص بفتح الراء مضارع حرض بكسرها وهي لغة والجمهور تحرص بكسر الراء مضارع حرص بفتحها وهي لغة الحجاز فإن الله لا يهدي من يضل جواب الشرط على معنى فاعلم ذلك أو علة للجواب المحذوف أي أن تحرص على هداهم لم ينفع حرصك شيئا فإن الله تعالى لا يهدي من يضل والمراد بالموصول قريش المعبر عنهم فيما مر بالذين أشركوا ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلالة وللإشعار بعلة الحكم ويجوز أن يراد به ما يشملهم ويدخلون فيه دخولا أولياء ومعنى الآية على ما قيل : أنه سبحانه لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره ولا بد من نحو هذا التأويل لأن الحكم بدون ذلك مما لا يكاد يجهل و من على هذا مفعول يهدي كما هو الظاهر وقيل إن يهدي مضارع هدى بمعنى اهتدى فهو لازم و من فاعله وضمير الفاعل في يضل لله تعالى والعائد محذوف أي من يضله وقد حكى مجيء هدى بمعنى اهتدى الفراء وقرأ غير واحد من السبعة والحسن والأعرج وجاهد وابن سيرين والعطاردي ومزاحم الخراساني وغيرهم لا يهدي بالبناء للمفعول فمن نائب الفاعل والعائد وضمير الفاعل كما مر وهذه القراءة أبلغ من الأولى لأنها تدل على أن من أضله الله تعالى لا يهديه كل أحد بخلاف الأولى فإنها تدل على أن الله تعالى لا يهديه فقط وإن كان من لم يهد الله فلا هادي له وهذا على ما قيل إن لم نقل بلزوم هدى وأما إذا
(14/139)

قلنا به فهما بمعنى إلا أن هذه صريحة في عموم الفاعل بخلاف تلك مع أن المتعدي هو الأكثر وقرأت فرقة منهم عبد الله لا يهدي بفتح الياء وكسر الهاء والدال وتشديدها وأصله يهتدي فأدغم كقولك في يختصم يخصم
وقرأت فرقة أخرى لا يهدي بضم الياء وكسر الدال قال ابن عطية : وهي ضعيفة وتعقبه في البحر بأنه إذا ثبت هدى لازما بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية فالمعنى لا يجعل مهتديا من أضله
وأجيب بأنه يحتمل أن وجه الضعف عنده عدم اشتهار أهدي المزيد وقريء يضل بفتح الياء وفي مصحف أبي فإن الله لا هادي لمن أضل وما لهم من ناصرين
37
- ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذاب عنهم وهو تتميم بإبطال ظن أن آلهتهم تنفعهم شيئا وضمير لهم عائد على معنى من وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع تفيد إنقسام الآحاد على الآحاد لأن المراد نفي طائفة من الناصرين من كل منهم
ثم إن أول هذه الآيات ربما يوهم نصرة مذهب الإعتزال لكن آخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة كما قال الإمام الدالة على نصرة مذهب أهل الحق ولعل الأمر غني عن البيان ولله تعالى الحمد على ذلك وأقسموا بالله شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث وهو على ما في الكشاف وغيره عطف على قوله تعالى : وقال الذين أشركوا قيل : ولتضمن الأول إنكار التوحيد وهذا إنكار البعث وهما أمران عظيمان من الكفر والجهل حسن العطف بينهما والضمير لأهل مكة أيضا أي حلفوا بالله جهد أيمانهم مصدر منصوب على الحال أي جاهدين في أيمانهم لا يبعث الله من يموت وهو مبني على أن الميت يعدم ويفنى وأن البعث إعادة له وأنه يستحيل إعادة المعدوم وقد ذهب إلى هذه الإستحالة الفلاسفة ولم يوافقهم في دعوى ذلك أحد من المتكلمين إلا الكرامية وأبو الحسين البصري من المعتزلة واحتجوا عليها بما رده المحققون وبعضهم ادعى الضرورة في ذلك وأن ما يذكر في بيانه تنبيهات عليه فقد نقل الإمام عن الشيخ أبي علي بن سينا أنه قال : كل من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والتعصب شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة وفي قسم هؤلاء الكفار على عدم البعث إشارة كما قال في التفسير إلى أنهم يدعون العلم الضروري بذلك
وأنت تعلم أنه جوز إعادة المعدوم بعينه كما هو رأى جمهور المتكلمين فلا إشكال في البعث أصلا وأما أن قلنا بعدم جواز الإعادة لقيام القاطع على ذلك فقد قيل : نلتزم القول بعدم انعدام شيء من الأبدان حتى يلزم في البعث إعادة المعدوم وإنما عرض لها التفرق ويعرض لها في البعث الإجتماع فلا إعادة لمعدوم وفيه بحث وإن أيد بقصة إبراهيم عليه السلام ومن هنا قال المولى مير زاجان : لا مخلص إلا بأن يقال ببقاء النفس المجردة وأن البدن المبعوث مثل البدن الذي كان في الدنيا وليس عينه بالشخص ولا ينافي هذا قانون العدالة إذ الفاعل هو النفس ليس إلا والبدن بمنزلة السكين بالنسبة إلى القطع فكما أن الأثر المترتب على القطع من المدح والذم والثواب والعقاب إنما هو للقاطع لا للسكين كذلك الأثر المترتب على أفعال الإنسان إنما هو للنفس وهي المتلذذة والمتألمة تلذذا أو تألما عقليا أو حسيا فليس يلزم خلاف العدالة وأما الظواهر الدالة على عود ذلك الشخص بعينه فمؤولة لفرض القاطع الدال على الإمتناع وذلك بأن يقال : المراد إعادة مادته مع صورة كانت
(14/140)

أشبه الصور إلى الصورة الأولى فتدبر وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس تحقيق هذا المطلب على أتم وجه
ونقل عن ابن الجوزي وأبي العالية أن هذه الآية نزلت لأن رجلا من المسلمين تقاضى دينا على رجل من المشركين فكان فيما تكلم به المسلم والذي أرجوه بعد الموت فقال المشرك : وإنك لتبعث بعد الموت وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فقص الله تعالى ذلك ورده أبلغ رد بقوله سبحانه : بلى لإيجاب النفي أي بلى يبعثهم وعدا مصدر مؤكد لما دل عليه بلى إذ لا معنى له سوى الوعد بالبعث والإخبار عنه ويسمى نحو هذا مؤكدا لنفسه وجوز أن يكون مصدرا لمحذوف أي وعد ذلك وعدا عليه صفة وعدا والمراد وعدا ثابتا عليه إنجازه وإلا فنفس الوعد ليس ثابتا عليه وثبوت الإيجاز لامتناع الخلف في وعده أو لأن البعث من مقتضيات الحكمة
حقا صفة أخرى لوعدا وهي مؤكدة إن كان بمعنى ثابتا متحققا ومؤسسة إن كان بمعنى غير باطل أو نصب على المصدرية بمحذوف أي حق حقا ولكن أكثر الناس لجهلهم بشؤون الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه وعلى أن البعث مما تقتضيه الحكمة لا يعلمون
38
- أنه تعالى يبعثهم ونعى عليهم عدم العلم بالبعث دون العلم بعدمه الذي يزعمونه على ما يقتضيه ظاهر قسمهم ليعلم منه نعي ذاك بالطريق
وجوز أن يكون للإيذان بأن ما عندهم بمعزل عن أن يسمى علما بل هو توهم صرف وجهل محض وتقدير مفعول يعلمون ما علمت هو الأنسب بالسياق وجوز أن يكون التقدير لا يعلمون أنه وعد عليه حق فيكذبونه قائلين : لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ليبين لهم متعلق بما دل عليه بلى وهو يبعثهم والضمير لمن يموت الشامل للمؤمنين والكافرين إذ التبيين يكون للمؤمنين أيضا فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل علمهم إلى مرتبة عين اليقين أي يبعثهم ليبين لهم بذلك وبما يحصل لهم بمشاهدة الأحوال كما هي ومعاينتها بصورها الحقيقية الشأن الذي يختلفون فيه من الحق الشامل لجميع ما خالفوه مما جاء به الرسل المبعوثون فيهم ويدخل فيه البعث دخولا أوليا والتعبير عن ذلك بالموصول للدلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلة للنبيين وتقديم الجار والمجرور لرعاية رؤس الآي وليعلم الذين كفروا بالله تعالى بالإشراك وإنكار البعث الجسماني وتكذيب الرسل عليهم السلام أنهم كانوا كاذبين
39
- في كل ما يقولونه ويدخل فيه قولهم : لا يبعث الله من يموت دخولا أوليا
ونقل في البحر القول بتعلق ليبين الخ بقوله تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه وأنهم كانوا على الضلالة قبل بعثه مفترين على الله سبحانه الكذب ولا يخفى بعد ذلك وتبادر ما تقدم وجعل التبيين والعلم المذكورين غاية للبعث كما في إرشاد العقل السليم باعتبار وروده في معرض الرد على المخالفين وإبطال مقالة المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويأخذ بهم إلى الأذعان للحق فإن الكفرة إذا علموا أن تحقق البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان أزجر لهم عن إنكاره
(14/141)

وادعى إلى الإعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمة على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلي لأصلين رغما لأنفك وإظهارا لكذبك ولأن تكرر الغايات أدل على وقوع المغيابها وإلا فالغاية الأصلية للبعث باعتبار ذاته إنما هو الجزاء الذي هو الغاية القصوى للخلق المغيا بمعرفته عز و جل وعبادته وإنما لم يذكر ذلك لتكرر ذكره في مواضع وشهرته وفيه أنه إنما لم يدرج علم الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال مثلا : وأن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما يتعلق به التبيين الذي هو عبارة عن إظهار ما كان مبهما قبل ذلك بأن يخبر به فيختلف فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون وأما كذب الكافرين فليس من هذا القبيل ويستفاد من تحقيقه في نظير ما هنا أنه لما كان مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وكان معنى تبيين الصدق إظهار ذلك المدلول وقطع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له احتمالا عقليا ناسب أن يعلق التبيين بالذي فيه يختلفون من الحق وليس بين الصدق والحق كثير فرق ولما كان الكذب أمرا حادثا لا دلالة الخبر عليه حتى يتعلق به التبيين والإظهار بل هو نقيض مدلوله فما يتعلق به يكون علما مستأنفا ناسب أن يعلق العلم بأنهم كانوا كاذبين فليتدبر
قيل : ولكون العلم بما ذكر من روادف ذلك التبيين قيل وليعلم الذين كفروا دون وليجعل الذين كفروا عالمين وخص الإسناد بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الذين كفروا كانوا كاذبين تنبيها على أن الأهم علمهم وقيل : لم يقل ذلك لأن علم المؤمنين بما ذكر حاصل قبل ذلك أيضا وتعقب بأن حصول مرتبة من مراتب العلم لا يأبى حصول مرتبة أعلا منها فلم لم يقل ذلك إيذانا بحصول هذه المرتبة من العلم لهم حينئذ ولعل فيه غفلة عن مراد القائل وجوز أن يراد من علم الكفرة بأنهم كانوا كاذبين تعذيبهم على كذبهم فكأنه قيل : ليظهر للمؤمنين والكافرين الحق وليعذب الكافرون على كذبهم فيما كانوا يقولونه من أنه تعالى لا يبعث من يموت ونحوه وهذا كما يقال للجاني : غدا تعلم جنايتك وحينئذ وجه تخصيص الإسناد بهم ظاهر وهو كما ترى وزعم بعض الشيعة أن الآية في علي كرم الله تعالى وجهه والأئمة من بنيه رضي الله تعالى عنهم وأنها من أدلة الرجعة التي قال بها أكثرهم وهو زعم باطل والقول بالرجعة محض سخافة لا يكاد يقول بها من يؤمن بالبعث وقد بين ذلك على أتم وجه في التحفة الإثني عشرية ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى بيانه وما أخرجه ابن مردوية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : أن قوله تعالى وأقسموا بالله الآية نزلت في غير مسلم الصحة وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على ما يزعمونه من الرجعة بأن يقال : إنه رضي الله تعالى عنه أراد أنها نزلت بسببي ويكون رضي الله تعالى عنه هو الرجل الذي تقاضى دينا له على رجل من المشركين فقال ما قال كما مر عن ابن الجوزي وأبي العالية وأخرجه عن أبي العالية عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم واستنبط الشيخ بهاء الدين من الآية دليلا على أن الكذب مخالفة الواقع ولا عبرة بالإعتقاد وهو ظاهر فافهم
إنما قولنا استئناف لبيان التكوين على الإطلاق ابتداء أو إعادة بعد التنبيه على أنية البعث ومنه يعلم كيفيته فما كافة و قولنا مبتدأ وقوله تعالى : لشيء متعلق به واللام للتبليغ كما في قولك : قلت لزيد قم فقام وقال الزجاج : هي لام السبب أي لأجل إيجاد شيء وتعقب بأنه ليس بواضح والمتبادر من الشيء
(14/142)

هنا المعدوم وهو أحد إطلاقاته وقد برهن الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة على أن إطلاق الشيء على المعموم حقيقة كإطلاقه على الموجود وألف في ذلك رسالة جليلة سماها جلاء الفهوم ويعلم منها أن القول بذلك الإطلاق ليس خاصا بالمعتزلة كما هو المشهور ولهذا أول هنا من لم يقف على التحقيق من الجماعة فقال : إن التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى به لا أنه كان شيئا قبل ذلك
وفي البحر نقلا عن ابن عطية أن في قوله تعالى : لشيء وجهين أحدهما أنه لما كان وجوده حتما جاز أن يسمى شيئا وهو في حال العدم والثاني أن ذلك تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها وأن ما كان منها موجودا كان مرادا وقيل له كن فكان فصار مثالا لما يتأخر من الأمور بما تقدم وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئا أه وفيه من الخفاء ما فيه وأياما كان فالتنوين للتنكير أي لشيء أي شيء كان مما عز وهان إذا أردناه ظرف لقولنا أي وقت تعلق إرادتنا بإيجاده أن نقول له كن في تأويل مصدر خبر للمبتدأ واللام في له كاللام في لشيء فيكون
40
- إما عطف على مقدر يفصح عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول ذلك فيكون وإما جواب لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون وقيل : إنه بعد تقدير هو تكون الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أي ما أردناه فهو يكون وكان في الموضعين تامة والذي ذهب إليه أكثر المحققين وذكره مقتصرا عليه شيخ الإسلام أنه ليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال : إنه يلزم أحد المحالين إما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل أو يقال : إنما مستدعية انحصاره وقوله تعالى في قوله تعالى : كن وليس يلزم منه انحصار أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله سبحانه : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فإن المراد بالأمر الشأن الشامل للقول والفعل ومن ضرورة انحصاره في كلمة كن انحصار أسبابه على الإطلاق في ذلك بل إنما هو تمثيل لسهولة تأتي المقدورات حسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في ذلك من طاعة المأمور المطيع لأمر الآمر المطاع فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق مشيئتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون ولما عبر عنه بالأمر الذي هو قول مخصوص وجب أن يعبر عن مطلق الإيجاد بالقول المطلق
وقيل : إن الكلام على حقيقته وبذلك جرت العادة الإلهية ونسب إلى السلف وأجيب لهم عن حديث لزوم أحد المحذورين تارة بأن الخطاب تكويني ولا ضير في توجهه إلى المعدوم وتعقب بأنه قول بالتمثيل وتارة بأن المعدوم ثابت في العلم ويكفي في صحة خطابه ذلك حتى أن بعضهم قال بأنه مرئي له تعالى في حال عدمه وتعقب بما يطول وأما حديث الا نحصل فقالوا أن الأمر فيه هين وقد مر بعض الكلام في هذا المقام
واحتج بعض أهل السنة بالآية بناء على الحقيقة على قدم القرآن قال : إنها تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فلو كان كن حادثا لزم التسلسل وهو محال فيكون قديما ومتى قيل بقدم البعض فليقل بقدم الكل وتعقب بأن كلمة إذا لا تفيد التكرار ولذا إذا قال لامرأته : إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرات لا تطلق إلا طلقة واحدة فلا يلزم أن يكون كل محدث محدثا بكلمة كن فلا يلزم التسلسل على أن القول بقدم كن ضروري البطلان لما فيه من ترتب الحروف وكذا يقال في سائر الكلام اللفظي
وقال الإمام : إن الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه : الأول أن قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أرادناه يقتضي كون القول واقعا بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث والثاني أنه علق القول بكلمة إذا
(14/143)

ولا شك أنها تدخل للإستقبال والثالث أن قوله تعالى : أن نقول لا خلاف في أنه بنبيء عن الإستقبال والرابع أن قوله سبحانه : كن فيكون كن فيه مقدمة على حدوث المكون ولو بزمان واحد والمقدم على المحدث كذلك محدث فلا بد من القول بحدوث الكلام نعم إنها تشعر بحدوث الكلام اللفظي الذي يقول به الحنابلة ومن وافقهم ولا تشعر بحدوث الكلام النفسي والأشاعرة في المشهور عنهم لا يدعون إلا قدم النفسي وينكرون قدم اللفظي وهو بحث أطالوا الكلام فيه فليراجع وما ذكر من دلالة إذا و نقول على الإستقبال هو ما ذكره غير واحد لكن نقل أبو حيان عن ابن عطية أنه قال : ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الإستقبال والإستئناف إنما هو راجع إلى المراد لا إلى الإرادة وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا إرادة ذلك ولا في الأمر به لأن ذينك قديمان فمن أجل المراد عبر بإذا ونقول وأنت تعلم أنه لا كلام في قدم الإرادة لكنهم اختلفوا في أنها هل لهل تعلق حادث أم لا فقال بعضهم بالأول وقال آخرون : ليس لها إلا تعلق أزلي لكن بوجود الممكنات فيما لا يزال كل في وقته المقدر له فالله تعالى تعلقت إرادته في الأزل بوجود زيد مثلا في يوم كذا وبوجود عمرو في يوم كذا وهكذا ولا حاجة إلى تعلق حادث في ذلك اليوم وأما الأمر فالنفسي منه قديم واللفظي حادث عن القائلين بحدوث الكلام اللفظي وأما الزمان فكثيرا ما لا يلاحظ في الأفعال المستندة إليه تعالى واعتبر كان الله تعالى ولا شيء معه وخلق الله تعالى العالم ونحو ذلك ولا أرى هذا الحكم مخصوصا فيما إذا فسر الزمان بما ذهب إليه الفلاسفة بل يطرد في ذلك وفيما إذا فسر بما ذهب إليه المتكلمون فتأمل والله تعالى الهادي
وجعل غير واحد الآية لبيان إمكان البعث وتقريره أن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد وإلا لزم التسلسل وكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده وظاهره أنه قول بإعادة المعدوم وظواهر كثير من النصوص أن البعث بجمع الأجزاء المتفرقة وسيأتي تحقيق ذلك كما وعدناك آنفا إن شاء الله تعالى
وقرأ ابن عامر والكسائي ههنا وفي يس فيكون بالنصب وخرجه الزجاج على العطف على نقول أي فإن يكون أو على أن يكون جواب كن وقد رد هذا الرضي وغيره بأن النصب في جواب الأمر مشروط بسببية مصدر الأول للثاني وهو لا يمكن هنا لاتحادهما فلا يستقيم ذاك ووجه بأن مراده أنه نصب لأنه مشابه لجواب الأمر لمجيئه بعده وليس بجواب له من حيث المعنى لأنه لقولك قلت لزيد اضرب تضرب
وتعقب بأنه لا يخفى ضعفه وأنه يقتضي إلغاء الشرط المذكور ثم قيل : والظاهر أن يوجه بأنه إذا صدر مثله عن البليغ على قصد التمثيل لسرعة التأثير بسرعة مبادرة المأمور إلى الإمتثال يكون المعنى لن أقل لك اضرب تسرع إلى الإمتثال فيكون المصدر المسبب عنه مسبوكا من الهيئة لا من المادة ومصدر الثاني من المادة أو محصل المعنى وبه يحصل التغاير بين المصدرين ويتضح السبيية والمسببية وقال بعضهم : إن مراد من قال إن النصب للمشابهة لجواب الأمر أن فيكون كما في قراءة الرفع معطوف على ما ينسحب عليه الكلام أو هو بتقدير فهو يكون خبر لمبتدأ محذوف إلا أنه نصب لهذه المشابهة وفيه ما فيه والذين هاجروا في الله أي في حقه ففي على ظاهرها ففيه إشارة إلى أنها هجرة متمكنة تمكن الظرف من مظروفه فهي ظرفية مجازية أو لأجل رضاه ففي للتعليل كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن امرأة دخلت النار في هرة والمهاجرة في الأصل مصارمة
(14/144)

الغير ومتاركته واستملت في الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان أي والذين هاجروا أوطانهم وتركوها في الله تعالى وخرجوا من بعد ما ظلموا أي من بعد ظلم الكفار إياهم أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : هم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ظلمهم أهل مكة فخرجوا من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ثم بوأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك حسبما وعد سبحانه بقوله جل وعلا : لنبوئنهم في الدنيا حسنة أي مباءة حسنة حاصلة لننزلهم في الدنيا منزلا حسنا وعن الحسن دارا حسنة والتقدير الأول أظهر لدلالة الفعل عليه والثاني أوفق بقوله تعالى تبوؤ الدار وأياما كان فحسنة صفة محذوف منصوب نصب الظروف وجوز أن يكون مفعولا ثانيا لنبؤئنهم على معنى لنعطينهم منزلة حسنة وفسر ذلك بالغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة وقيل : هي ما بقي لهم في الدنيا من الثناء وما صار لأولادهم من الشرف وعن مجاهد أن التقدير معيشة حسنة أي رزقا حسنا وقيل : التقدير عطية حسنة والمراد بالعطية المعطى ويفسر ذلك بكل شيء حسن ناله المهاجرون في الدنيا وقدر بعضهم تبوئة حسنة فهو صفة مصدر محذوف وقد تعتبر هذه التبوئة بحيث تشتمل إعطاء كل شيء حسن صار للمهاجرين على نحو السابق وفي البحر أن الظاهر أن إنتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر لأن معنى لنبوئنهم لنحسنن إليهم فحسنة بمعنى إحسانا وعلى جميع التقادير الذين هاجروا مبتدأ وجملة لنبوئنهم خبره
وجوز أبو البقاء أن يكون الذين منصوب بفعل محذوف يفسره المذكور والأول متعين عند أبي حيان قال : وفيه دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبر للمبتدأ خلافا لثعلب والذي ذهب إليه بعض المحققين أن الخبر في مثل ذلك إنما هو جملة الجواب المؤكدة بالقسم وهي إخبارية لا إنشائية واعترض على أبي البقاء في الوجه الثاني بأنه لا يجوز النصب بالفعل المحذوف إلا حيث يجوز للمذكور أن يعمل في ذلك المنصوب حتى يصح أن يكون مفسرا وما هنا ليس كذلك فإنه لا يجوز زيدا لأضربن فلا يجوز زيدا لأضربنه والجار والمجرور متعلق بما عنده وقيل : بمحذوف وقع حالا من حسنة هذا
ونقل عن ابن عباس أن الآية نزلت في صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير وأبي جندل ابن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام فأما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بما له وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال : ربح البيع يا صهيب وقال عمر رضي الله تعالى عنه : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه والجمهور على ما روي عن قتادة بل قال ابن عطية : إنه الصحيح ولم نجد لهذا الخبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سندا يعول عليه وذكر العلامة الشيخ بهاء الدين السبكي في شرح التلخيص كغيره من المحدثين مثل الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحيم العراقي وولده الفقيه الحافظ أبي زرعة وغيرهما فيما نسب لعمر رضي الله تعالى عنه فيه من قوله : نعم العبد صهيب إلى آخره إنا لم نجده في شيء من كتب الحديث بعد الفحص الشديد وهذا يوقع شبهة قوية في صحة ذلك نعم في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هؤلاء الذين هاجروا : هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد
(14/145)

ظلمهم ثم قال : وظالمهم الشرك لكن يقتضي هذا بظاهره أنه رضي الله تعالى عنه كان يقرأ ظلموا بالبناء للفاعل
وأورد على الخبرين أنه قيل : إن السورة مكية إلا ثلاث آيات في أخرها فإنها مدنية ويلتزم إذا صح الخبر الذهاب إلى أن فيها مدنيا غير ذلك أو القول بأن المراد من المكي ما نزل في حق أهل مكة أو أن هذه الآية لم تنزل بالمدينة وأن المكي ما نزل بغيرها أو القول بأن ذلك من الإخبار بالشيء قبل وقوعه والكل كما ترى ولا يرد على القول الأول الذي عليه الجمهور أنه مخالف للقول المشهور في السورة لأن هجرة الحبشة كانت قبل هجرة المدينة فلا مانع من كون الآية مكية بالمعنى المشهور عليه لكن قيل : إن قتادة القائل بما تقدم قائل بأن هذه الآية إلى آخر السورة مدنية وهو آب عما ذكر ومن هنا حمل بعضهم ما تقل عنه سابقا على أن نزولها كان بين الهجرتين بالمدنية ولا يمكن الجمع بين هذه الأقوال أصلا والذي ينبغي أن يعول عليه أن السورة مكية إلا آيات ليست هذه منها بل هي مكية نزلت بين الهجرتين فيمن ذكره الجمهور والله تعال أعلم بحقيقة الحال وقال بعضهم : إن الذين هاجروا عام في المهاجرين كئنا من كان فيشمل أولهم وآخرهم وكان هذا من قائله اعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما هو المقرر عندهم وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله رضي الله تعالى عنه ونعيم بن ميسرة والربيع بن خثيم لنثوينهم بالثاء المثلثة من أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه قال في البحر وانتصاب حسنة على تقدير أثواءة حسنة أو على نزع الخافض أي في حسنة أي دار حسنة أو منزلة حسنة ولا مانع على ما قيل من اعتبار تضمين الفعل معنى نعطيهم كما أشير إليه أولا واستدل بالآية على أحد الأقوال على شرف المدينة وشرف إخلاص العمل لله تعالى ولأجر الآخرة أي أجر أعمالهم المذكورة في الدار الآخرة أكبر مما يجعل لهم في الدنيا أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر ابن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجري عطاء يقول له : خذ بارك الله تعالى لك هذا ما وعدك تعالى في الدنيا وما أخر لك في الآخرة أفضل ثم يقرأ هذه الآية وقيل : المراد أكبر من أن يعلمه أحد قبل مشاهدته ولا يخفى ما في مخالفة أسلوب هذا الوعد لما قبله من المبالغة لو كانوا يعلمون
41
- الضمير للكفرة الظالمين أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين وقيل : هو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في الإجتهاد ولما تألموا لما أصابهم من المهاجرة وشدائدها ولازدادوا سرورا وفي المعالم لا يجوز ذلك لأن المهاجرين يعلمونه ودفع بأن المراد على المشاهدة وليس الخبر كالمعاينة أو المراد العلم التفصيلي
وجوز أن يكون الضمير للمتخلفين عن الهجرة يعني لو علم المتخلفون عن الهجرة ما للهجرة من الكرامة لوافقوهم
والذين صبروا على ما نالهم من المظالم ولم يرجعوا القهقري وعلى مفارقة الوطن وهو حرم الله سبحانه المحبوب لكل مؤمن فضلا عمن كان مسقط رأسه وعلى احتمال الغربة بين أناس أجانب في النسب لم يألفهم وعلى غير ذلك ومحل الموصول النصب بتقدير أعني أو الرفع بتقدير هم ويجوز أن يكون للذين هاجروا بدلا أو بيانا أو نعتا وعلى ربهم يتوكلون
42
- منقطعين إليه معرضين عمن سواه مفوضين إليه الأمر كله كما يفيده حذف متعلق التوكل وقيل : تقديم الجار والمجرور والمؤذن بالحصر وكونه لرعاية الفواصل غير متعين وصيغة الإستقبال إما للإستمرار أو لاستحضار تلك الصورة البديعة والجملة إما معطوفة على الصلة أو حال من ضمير صبورا
(14/146)

وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم رد لقريش حيث أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه و سلم وقالوا : الله تعالى أعظم أن يكون رسوله بشرا هلا بعث إلينا ملكا أي جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا نبعث للدعوة العامة إلا بشرا نوحي إليهم بواسطة الملك في الأغلب الأوامر والنواهي ليبلغوها ويحترز بالدعوة العامة عن بعث الملك للأنبياء عليهم السلام للتبليغ أو لغيرهم كبعثه لمريم للبشارة وبالأغلب بعض أقسام الوحي مما لم يكن بواسطة الملك كما يشير إليه قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء وقرأ الجمهور يوحي بالياء وفتح الحاء وفرقة بالياء وكسرها وعبد الله والسلمي : وطلحة وحفص بالنون وكسرها وفي ذلك من تعظيم أمر الوحي ما لا يخفى ولما كان المقصود من الخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تنبيه الكفار على مضمونه صرف الخطاب إليهم فقيل : فاسألوا أهل الذكر أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى قاله ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم وتسمية الكتاب تعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى وعن مجاهد تخصيصه بالتوراة لقوله تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر فأهله اليهود
قال في البحر والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب لأنهم الذين لا يتهمون عند أهل مكة في أخبارهم بأن الرسل عليهم السلام كانوا رجالا فإخبارهم بذلك حجة عليهم والمراد كسر حجتهم وإلزامهم وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج فيه إلى إخبار هؤلاء وقد أرسل المشركون بعد نزولها إلى أهل يتثرب يسألونهم عن ذلك وقال الأعمش وابن عيينة وابن جبير : المراد من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما وغيرهما
ويضعفه أن قول من أسلم لا حجة فيه على الكفار ومنه يعلم ضعف ما قال أبو جعفر وابن زيد من أن المراد من الذكر القرآن لأن الله تعالى سماه ذكرا في مواضع منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا وأهل الذكر على هذا المسلمون مطلقا وخصهم بعض الإمامية بالأئمة أهل البيت احتجاجا بما رواه جابر ومحمد بن مسلم منهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه قال : نحن أهل الذكر وبعضهم فسر الذكر بالنبي صلى الله عليه و سلم لقوله تعالى : ذكرا رسولا على قول ويقال على مقتضى ما في البحر : كيف يقنع كفار أهل مكة بخبر أهل البيت في ذلك وليسوا بأصدق من رسول الله صلى الله عليه و سلم عندهم وهو عليه الصلاة و السلام المشهور فيما بينهم بالأمين ولعل ما رواه ابن مردويه منا موافقا بظاهره لمن زعمه البعض من الإمامية عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الرجل ليصلي ويصوم ويحج ويعتمر وأنه لمنافق قيل : يا رسول الله بماذا دخل الجنة عليه النفاق قال : يطعن على إمامه وأمامه من قال الله تعالى في كتابه : فاسألوا أهل الذكر إلى آخره مما لا يصح وأنا أقول يجوز أن يراد من أهل الذكر أهل القرآن وإن قال أبو حيان ما قال وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى المنان وقال الرماني والزجاج والأزهري : المراد بأهل الذكر علماء أخبار الأمم السالفة كائنا من كان فالذكر بمعنى الحفظ كأنه قيل : اسألوا المطلعين على أخبار الأمم يعلموكم بذلك لإن كنتم لا تعلمون
43
- وجواب إن إما محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فاسألوا وإما نفس ما قبله بناء على جواز تقدم الجواب على الشرط واستدل بالآية على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا صبيا ولا ينافيه نبوة عيسى عليه السلام في المهد فإن النبوة أعم من الرسالة ولا يقتضي صحة القول بنبوة مريم أيضا لأن غايته نفي رسالة المرأة ولا يلزم من ذلك إثبات نبوتها وذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحح ذلك ابن السيد ولا ينافي ما دلت عليه الآية من نفي إرسال الملائكة عليهم السلام قوله تعالى : جاعل الملائكة رسلا لأن المراد جاعلهم
(14/147)

رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم السلام لا للدعوى العامة وهو المدعي كما علمت فالرسول إما بالمعنى المصطلح أو بالمعنى اللغوي وقال الجبائي : إن الملائكة عليهم السلام لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم السلام إلا ممثلين بصور الرجال ورد بما روى أن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين وهو وارد على الحصر المقتضي للعموم فلا يرد عليه أنه لا دلالة فيما روى على رؤية من قبل نبينا عليه الصلاة والصلام لجبريل عليه السلام على صورته مع أنه إذا ثبت ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يثبت أنه من خصوصياته عليه الصلاة و السلام فلا مانع من ثبوته لغيره قاله الشهاب وذكر أنه ثقل الإمام عن القاضي أن مراد الجبائي أنهم لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بحضرة أممهم إلا وهم على صور الرجال كما روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمحضر من أصحابه في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وفي صورة أعرابي لم يعرفوه واستدل بها أيضا على وجوب المراجعة للعلماء فيما لا يعلم
وفي الإكليل للجلال السيوطي أنه استدل بها على جواز تقليد العامي في الفروع وأنظر التقييد بالفروع فإن الظاهر العموم لا سيما إذا قلنا إن المسئلة المأمورين بالمراجعة فيها والسؤال عنها من الأصول ويؤيد ذلك ما نقل عن الجلال المحلي أنه يلزم غير المجتهد عاميا كان أو غيره التقليد للمجتهد لقوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون والصحيح أنه لا فرق بين المسائل الإعتقادية وغيرها وبين أن يكون المجتهد حيا أو ميتا أه
وصحح هو وغيره امتناع التقليد على المجتهد مطلقا سواء كان له قاطع أو لا وسواء كان مجتهدا بالفعل أو له أهلية الإجتهاد ومقتضى كلامهم أنه لا فرق بين تقليد أحد أئمة المذاهب الأربع وتقليد غيره من المجتهدين نعم ذكر العلامة ابن حجر وغيره أنه يشترط في تقليد الغير أن يكون مذهبه مدونا محفوظ الشروط والمعتبرات فقول السبكي : إن مخالف الأربعة كمخالف الإجماع محمول على مالم يحفظ ولم تعرف شروطه وسائر معتبراته من المذاهب التي انقطع حملتها وفقدت كتبها كمذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وغيرهم ثم إن تقليد الغير بشرطه إنما يجوز في العمل وأما للإفتاء والقضاء فيتعين أحد المذاهب الأربع واستشكل الفرق العلامة ابن قاسم العبادي وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الفرق أنه يحتاط فيهما لتعديهما ما لا يحتاط في العمل فيتركان لأدنى محذور ولو محتملا ونظير ذلك ما ذكره بعض الشافعية في القولين المتكافئين أنه لا يفتي ولا يقضي بكل منهما لاحتمال كونه مرجوحا ويجوز العمل به وذكر الإمام أن من الناس من جوز التقليد للمجتهد لهذه الآية فقال : لما لم يكن أحد المجتهدين عالما وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم لقوله تعالى : فاسألوا الآية فإن لم يجب فلا أقل من الجواز وأيد ذلك بأن بعض المجتهدين نقلوا مذاهب بعض الصحابة وأقروا الحكم عليها والصحيح ما سمعت أولا وما ذكر ليس بتقليد بل هو من باب موافقة الإجتهاد الإجتهاد واحتج بها أيضا نفاة القياس فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالما يحكمها لم يجز له القياس وإلا وجب عليه سؤال من كان عالما بها بظاهر الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه السؤال لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر الآية فوجب أن لا يجوز وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع أقوى من هذا الدليل
وقال بعضهم : إذا كان المكلف ممن يقدر على القياس كان ممن يعلم فلا يجب عليه السؤال فتأمل
بالبينات والزبر أي بالمعجزات والكتب والأولى للدلالة على الصدق والثانية لبيان الشرائع والتكاليف
(14/148)

وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف والجار والمجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وقع جوابا عن سؤال من قال : بم أرسلوا فقيل : أرسلوا بالبينات والزبر
وجوز الزمخشري والحرفي تعلقه بأرسلنا السابق داخلا تحت حكم الإستثناء مع رجالا أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات وهو في معنى قولك : ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا رجالا بالبينات ومثله ما ضربت إى زيدا بسوط وهو مبني على ما جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة شيآن دون عطف وأنه يجري في الإستثناء المفرغ وأكثر النحاة على منعه كما صرح به صاحب التسهيل وغيره
وقال في الكشف : والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس أو وجوب أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصورا وأن يجب نحو ما ضرب إلا زيدا عمرا إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون فرق بين هذا وذاك وكل ذلك ظاهر الإنتفاء والزمخشري جوز ذلك وصرح به مواضع من كشافه واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا زيدا بسوط ضربت زيدا بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا تأكيد فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه وهو حسن لولا أن الإستعمال والقياس آبيان وقال بعضهم : إنه متعلق به من غير دخوله مع رلاجالا تحت حكم الإستثناء على أن أصله وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا
وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع بعد إلا إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا وما ظن من غير الثلاثة معمولا لما قبل إلا قدر له عامل وأجاز الكسائي أن يقع معمولا لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمرا ومخفوض كما مر إلا زيد بعمر ولا يعذب إلا الله بالنار وموفوع كما ضرب إلا زيدا عمرو ووافقه ابن الأنباري في المرفوع والأخفش في الظرف والجار والحار فما ذكر مبني على مذهب الكسائي والأخفش لكن قال الشهاب : أنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الإنتظام وأكثر النحاة على أنه ممنوع وجوز أن يكون متعلقا بما رفع صفة لرجالا أي رجالا ملتبسين بالبينات ولم يقع حالا منه وقيل : لأنه نكرة متقدمة نعم قيل : يجواز وقوعه حالا من ضمير الرجال في إليهم وقيل : يجوز كونه حالا من رجالا لأنه نكرة موصوفة واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرا قياسا ونقله عن سيبويه وإن كان دون الإتباع في القوة
وجوز أيضا تعلقه بنو حي وقوله سبحانه : فاسئلوا أهل الذكر اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول وتصدير الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره وما نقل من منعه ليس بثبت ثم إذا كان اعتراضا متخللا بين مقصوري حرف الإستثناء فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون إنا أرسلنا رجالا بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم رجال متلبسون بالبينات وعلى هذا يقدر الإعتراض مناسبا لما تخلل بينهما وأشبه الأوجه أن يكون على كلامين ليقع الإعترض موقعه اللائق به لفظا ومعنى قاله في الكشف
وجوز أن يتعلق بتعلمون فلا اعتراض وفي الشرط معنى التبكيت والإلزام كما في قول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي فإن الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما يعمل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل فهو في ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلا إياه فكذا ما هنا لا يشك أن قريشا لم يكونوا من علم البينات والزبر في شيء فيقول : إن كون الرسل عليهم السلام رجالا أمر مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن تكونوا من أهله يبين لكم يريد أن إنكاركم
(14/149)

وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما السبيل أن تسئلوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم فإنكارهم مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت من حيث الإعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره قاله في الكشف أيضا ثم قال : ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين ليشمل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه ولو خص لجاز لأنهم موافقون في ذلك فإنكارهم إنكارهم ثم التبكيت متوجه إلى العدول عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولا انتهى ومنه يعلم جواز أن يراد بأهل الذكر أهل القرآن وما ذكره أبو حيان في تضعيفه من أنه لا حجة في أخبرهم ولا إلزام ناشيء من عدم الوقوف على التحقيق الأنيق وهذا ظاهر على تقدير تعلق بالبينات بيعلمون والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند بعض وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك وإنزلنا إليك الذكر أي القرآن وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر أو لأنه سبب له ومنه يعلم تسمية التوراة ونحوها ذكرا وقيل : المراد بالذكر العلم وليس بذاك لتبين للناس كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا ما نزل إليهم في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم السلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبيء عنه صيغة التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الأفعال وعن مجاهد أن المراد بهذا التبيين تفسير المجمل وشرح ما أشكل إذ هما المحتاجان للتبيين وأما النص والظاهر فلا يحتاجان إليه
وقيل : المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلوه التي لا تكاد تحصى ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية واستأنس له بما أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال : قام فينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقاما أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه وهذا في معنى ما ذكره غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار الإلهية ولعل قوله عز و جل : ولعلهم يتفكرون
44
- إشارة إلى ذلك أي وطلب إن يتأملوا فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب وقال بعض المعتزلة : أي وإرادة إن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال وفيه دلالة على أن الله تعالى أراد من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى معرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب ومن قدرها منا أراده منها وإلا ورد عليه تأمل البعض ولعله الأكثر وهي لا ينفعك المراد عنها على المذهب فلا بد من العدول عنه إلى مقابله وقيل : أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد أفأمن الذين مكروا السيئات هم عند أكثر المفسرين أهل مكة مكروا برسول الله صلى الله عليه و سلم وراموا ضد أصحابه رضي الله تعالى عنهم عن الإيمان وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد
(14/150)

أنهم نمروذ بن كنعان وقومه وعمم بعضهم فقال : هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم السلام وتعقب بأن المراد تحذير أهل مكة عن إصابة مثل ما أصاب الأولين من فنون العذاب المعدودة فالمعول عليه ما عند الأكثر و السيآت نعت لمصدر محذوف أي مكروا المكرات السيآت التي قصت عنهم أو مفعول به للفعل المذكر على تضمينه معنى فعل متعد كعمل أي عملوا السيآت ماكرين فقوله تعالى أن يخسف الله بهم الأرض مفعول لأمن أو السيآت مفعول لأمن بتقدير مضاف أو تجوز أي عقاب السيآت أو على أن السيآت بمعنى العقوبات التي تسوءهم و أن يخسف بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه الذي من جملته أنباء الأمم المهلكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيآت الخ على توجيه الإنكار المعطوفين أو اتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى المعطوف وقيل : هو للعطف على مقدر ينبيء عنه الصلة أي أمكروا فأمن الذين مكروا السيآت الخ وخسف يستعمل لازما ومتعديا يقال : كما قال الراغب خسفه الله تعالى وخسف هو وكلا الإستعمالين محتمل هنا فالباء إما للتعدية أو للملابسة و الأرض إما مفعول به أو نصب بنزع الخافض أي فأمن الذين مكروا السيآت أن يغيبهم الله تعالى في الأرض أو يغيبها بهم كما فعل بقارون أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون
45
- أي من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها كجهة مأمنهم أو الجهة التي يرجون إتيان ما يشتهون منها وقال البيضاوي أي بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط وكأن التخصيص بجانب السماء لأن ما يجيء منه لا يشعر به غالبا بخلاف ما يجيء من الأرض فإنه محسوس في الأكثر ولعل اعتباره أوفق بالمقابلة ويحتمل أن يكون مراده بما من جانب السماء ما لا يكون على يد مخلوق سواء نشأ من الأرض أو السماء كما قيل
دعها سماوية تجري على قدر
فيكون مجازا لكن قيل عليه : إنه لا يلائم المثال وإن كان لا يخصص أو يأخذهم أي العذاب أو الله تعالى ورجح الأول بالقرب والثاني بكثرة إسناد الأخذ إليه تعالى في القرآن العظيم مع أنه جل شأنه هو الفاعل الحقيقي له
في تقلبهم أي حركتهم إقيالا وأدبارا والمراد على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن قتادة وروي عن ابن عباس في أسفارهم وحمله على ذلك قال الإمام : مأخوذ من قوله تعالى : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد أو المراد في حال ما يتقلبون في قضاء مكرهم والسعي في تنفيذه وقيل : المراد في حال تقلبهم على العرش يمينا وشمالا وهو في معنى ما جاء في رواية عن ابن عباس أيضا في منامهم ولا أراه يصح
وقال الزجاج : المراد ما يعم سائر حركاتهم في أمورهم ليلا أو نهارا والجمهور على الأول والأخذ في الأصل حوز الشيء وتحصيله والمراد به القهر والإهلاك والجار والمجرور إما في موضع الحال أو متعلق بالفعل قبله والأول أولى نظرا إلى أنه الظاهر في نظيره الآتي إن شاء الله تعالى لكن الظاهر فيما قبله الثاني فما هم بمعجزين
46
- بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار على ما يوهمه حال التقلب والسير أو ما هم بممتنعبن كما يوهمه مكرهم وتقلبهم فيه والفاء قيل : لتعليل الأخذ أو لترتيب عدم الإعجاز عليه دلالة على شدته وفظاعته حسبما قال صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته والجملة الإسمية للدلالة على دوام النفي والتأكيد يعود إليه أيضا
أو يأخذهم على تخوف أي مخافة وحذر من الهلاك والعذاب بأن يهلك قوما قبلهم أو يحدث حالات
(14/151)

يخاف منها غير ذلك كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل فيتخوفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون ويروي نحوه عن الضحاك وهو على ما قال الزمخشري ويقتضيه كلام ابن بحر خلاف قوله تعالى : من حيث لا يشعرون
وقال غير واحد من الأجلة : على أن ينقصهم شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته وروي تفسيره بذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أيضا
وذكر الهيثم بن عدي أن التنقص بهذا المعنى لغة أزد شنوءة ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر ما تقولون فيها أي الآية والتخوف منها فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال هذه لغتنا التخوف التنقص فقال : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها فقال : نعم قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته : تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر رضي الله تعالى عنه : عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا : وما ديواننا قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم والجار والمجرور قال أبو البقاء : في موضع الحال من الفاعل أو المفعول في يأخذهم وقال الخفاجي : الظاهر أنه حال من المفعول وكأنه أراد على تفسيري التخوف ويتخوف من الجزم به على التفسير الثاني والمراد من ذكر هذه المتعاطفات بيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم بأي وجه كان لا الحصر ثم إن بعضهم اعتبر في التقابل بينهما أن المراد بخسف الأرض بهم إهلاكهم من تحتهم وبإتيان العذاب من حيث لا يشعرون إهلاكهم من فوقهم وحيث قوبلا بإهلاكهم في تقلبهم وأسفارهم كان المعتبر فيهما سكونهم في مساكنهم وأوطانهم والمقابلة بين أخذهم على تخوف على المعنى الأول والأخذ بغتة المشعر به من حيث لا يشعرون ظاهرة واعتبر عدم الشعور في الأخذ في التقلب والخسف لقرينة الأخذ على تخوف على ذلك المعنى وحمل سائرها على عذاب الإستئصال دون الأخذ على تخوف المعنى الثاني ومجمل القول في ذلك أنه اعتبر في كل اثنين من الأربعة منع الجمع لكن بعد أن يراد بالعام منهما للمقابلة ما عدا الخاص سواء كان بين الإثنين عموم من وجه أو مطلقا
وذكر الإمام وابن الخازن في حاصل الآية أنه تعالى خوفهم بخوف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تأتي قليلا قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم وكان الظاهر في الآية أن يقال : أو يعذبهم من حيث لا يشعرون ليناسب ما قبله وما بعده بناء على أن إسناد الفعل فيهما إليه تعالى وما قبله فقط بناء على أن إسناد الفعل فيما بعد إلى العذاب مع كونه أخصر مما في النظم الجليل لكنه عدل عنه إلى ذلك لكونه أبلغ في التجويف وأدل على استحقاق العذاب من حيث أن فيه إشعارا بأن هناك عذابا موجودا مهيئا لا يحتاج إلا إلى الإتيان دون الإحداث وليس في يعذبهم إشعار كذلك على أن ما في النظم الجايل أبعد من أن يتوهم فيه معنى غير صحيح كما يتوهم في البدل المقرر المفروض حيث يتوهم فيه كذلك أنه سبحانه يعذبهم من حيث لا يشعرون بالعذاب وهو كما ترى وحيث كانت حالتا التقلب والتخوف مظنة للهرب عبر عن إصابة العذاب فيهما بالأخذ وعن إصابته حالة الغفلة المنبئة عن السكون بالإتيان وجيء بفي مع التقلب وبعلي مع التخوف قيل : لأن في التقلب حركتين فكان الشخص المتقلب بينهما ولا كذلك
(14/152)

التخوف وقيل : لما كان التقلب شاغلا الإنسان بسائر جوارحه حتى كأنه محيط به وهو مظروف فيه جيء بقي معه والتخوف أي المخالفة إنما يقوم بعضو من أعضائه فقط وهو القلب المحيط به بدن الإنيان فلذا جيء بعلي معه وقيل : إن على بمعنى مع كما في قوله تعالى : وآتى المال على حبه أي يأخذهم مصاحبين لذلك ولما كان التخوف نفسه نوعا من العذاب لما فيه من تألم القلب ومشغولية الذهن وكان الأخذ مشيرا إلى نوع آخر من العذاب أيضا جيء بعلى التي بمعنى مع ليكون المعنى يعذبهم مع عذابهم ولم يعتبر ذلك مع التقلب مرادا به الإقبال والإدبار 0 في الأسفار والمتاجر مع أنه جاء السفر قطعة من العذاب لأنهم لا يدعون ذلك عذابا وفي القلب من هذا شيء فتدبر وتأمل فأسرار كتاب الله تعالى لا تحصى فإن ربكم لرؤف رحيم
47
- جعله ابن بحر تعليلا للأخذ على تخوف بناء على أن المراد به أخذهم على حدوث حالات يخاف منها كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل لا بغتة فإن في ذلك امتداد وقت ومهلة يمكن فيها التلافي فكأنه قيل : يأخذهم على تخوف ولا يفاجئهم لأنه سبحانه رءوف رحيم وذلك أنسب برأفته ورحمته جل وعلا وجوز أن يكون تعليلا لذلك على المعنى الأخير فإن في تنقصهم شيئا بعد شيء دون أخذهم دفعة إمهالا في الجملة وهو مطلقا من آثار الرحمة وقيل : هو تعليل لما يفهم من الآية من أنه سبحانه قادر على إهلاكهم بأي وجه لكنه تعالى لم يفعل وقيل : هو كالتعليل للأمر المستفهم عنه والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير الخطاب من آثار رحمته جل شأنه
أو لم يروا الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام والرؤية بصرية مؤدية إلى التفكر والضمير للذين مكروا السيئات أي ألم ينظر هؤلاء الماكرون ولم يروا متوجهين إلى ما خلق الله
وقيل : الضمير للناس الشامل لأولئك وغيرهم والإنكار بالنسبة إليهم وقرأ السلمي والأعرج والإخوان أو لم تروا بتاء الخطاب جريا على أسلوب قوله تعالى : فإن ربكم كما أن الجمهور قرءوا بالياء جريا على أسلوب قوله تعالى : أفأمن الذين مكروا وذكر الخفاجي وغيره أن قراءة التاء على الإلتفات أو تقدير قل أو الخطاب فيها عام للخلق و ما موصولة مبهمة وقوله تعالى : من شيء بيان لها لكن باعتبار صفته وهي قوله تعالى : يتفيؤا ظلاله فهي المبينة في الحقيقة والموصوف توطئة لها وإلا فأي بيان يحصل به نفسه والتفيؤ تفعل من فاء يفيء فيئا إذا رجع وفاء لازم وإذا عدى فبالهمزة أو التضعيف كأفاءه الله تعالى وفيأه فتفيأ وتفيا مطلوع له لازم وقد استعمله أبو تمام متعديا في قوله من قصيدة يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني : طلبت ربيع ربيعه الههمي لها وتفيأت طلا له ممدودا ويحتاج ذلك إلى نقل من كلام العرب والظلال جمع ظل وهو في قول ما يكون بالغداة وهو مالم تنله الشمس وألفيء بالعشيء وهو ما انصرفت عنه الشمس وأنشدوا له قول حميد بن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة : فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق ونقل ثعلب عن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فيء وظل وما لم تكن عليه فهو ظل فالظل أعم من الفيء وقيل : هما مترادفان يطلق كل منهما على ما كان قبل الزوال وعلى خلافه وأنشد أبو زيد
(14/153)

للنابغة الجعدي : فسلام الإله يغدو عليهم وفيوء الفردوس ذات الظلال والمشهور أن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال ومن هنا قال الأزهري : إن تفيء الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار وقال أبو حيان : إن الإعتبار من أول النهار إلى آخره وإضافة الظلال إلى ضمير المفرد لأن مرجعه وإن كان مفردا في اللفظ لكنه كثير في المعنى ونظير ذلك أكثر من أن يحصى والمعنى أو لم يروا الأشياء التي ترجع وتتنقل ظلالها عن اليمين والشمائل والمراد بها الأشياء الكثيفة من الجبال والأشجار وغيرها سواء كان جمادا أو إنسانا على ما عليه بعض المفسرين وخصها بعضهم بالجمادات التي لا يظهر لظلالها أثر سوى التفيء بواسطة الشمس على ما ستعمله إن شاء الله تعالى دون ما يشمل الحيوان الذي يتحرك ظله بتحركه وكلا القولين على تقدير كون من بيانية كما سمعت وذهب بعض المحققين إلى العموم ولكنه جعل من ابتدائية متعلقة بخلق والمراد بما خلقه من شيء عالم الأجسام المقابل لعالم الروح والأمر الذي لم يخلق من شيء بل وجد بأمره كن كما قال سبحانه ألا له الخلق والأمر ولا يخفى بعده واعترض أيضا بأن السماوات والجن من عالم الأجسام والخلق ولا ظل لها ومقتضى عموم ما أنه لا يخلو شيء منها عنه بخلاف ما إذا جعلت من بيانية و يتفيؤ صفة شيء مخصصة له ورد بأن جملة يتفيؤ حينئذ ليست صفة لشيء إذ المراد إثبات ذلك لما خلق من شيء لا له وليس صفة لما لتخالفهما تعريفا وتنكيرا بل هي مستأنفة لإثبات أن له ظلالا متفيئة وعموم ما لا يوجب أن يكون المعنى لكل منه هذه الصفة
وتعقب بأنه إن أريد أنه لا يقتضي العموم ظاهرا فممنوع وإن أريد أنه يحتمل فلا يرد ردا لأنه مبني على الظاهر المتبادر والمراد باليمين والشمائل على ما قيل جانبا الشيء استعارة من يمين الإنسان وشماله أو مجازا من إطلاق المقيد على المطلق أي ألم يروا الأشياء التي لها ظلال متفيئة عن جانبي كل واحد منها ترجع من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإن لها مشارق ومغارب بحسب مداراتها اليومية حال كون تلك الظلال سجدا لله أي منقادة له تعالى جارية على ما أراد من الإمتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه سبحانه فيما سخرها له وهو المراد بسجودها وقد يفسر باللصوق في الأرض أي حال كونها لاصقة بالأرض على هيئة الساجد وقوله تعالى : وهم داخرون
48
- حال من ضمير ظلاله الراجع إلى شيء والجمع باعتبار المعنى وصح مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزاء وإيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخول من خصائصهم فإنه التصاغر والذل قال ذو الرمة : فلم يبق إلا داخر في مخيس ومنحجر في غير أرضك في حجر فالكلام على استعارة أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب ووجه التعبير بهم يعلم مما ذكر ويجوز أن يعتبر وجهه أولا ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة له أي والحال أن أصحاب تلك الظلال ذليلة منقادة لحكمه تعالى ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به وجوز كون سجدا والجملة حالين من الضمير أي ترجع ظلال تلك الأجرام حال كون تلك الأجرام منقادة له تعالى داخرة فوصفها بهما مغن عن وصف ظلالها بهما
والمراد بالسجود أيضا الإنقياد سواء كان بالطبع أو بالقسر أو بالإرادة فلا يرد على احتمال أن يكون المراد بما خلق شاملا للعقلاء وغيرهم كيف يكون سجدا حالا من ضميره وسجوده العقلاء غير سجود غيرهم
(14/154)

وحاصل ما أشرنا إليه أن ذلك من عموم المجاز والأمر على احتمال أن يراد من ذاك الجمادات ظاهر وزعم بعضهم أن السجود حقيقة مطلقا وهو الوقوع على الأرض على قصد العبادة ويستدعى ذلك الحياة والعلم لتقصد العبادة وليس بشيء كما لا يخفى ثم إن قلنا على هذا الوجه : إن الواو حالية كما أشير إليه فالحالان مترادفان وتعدد الحال جائز عند الجمهور ومن لم يجوز جعل الثانية بدل اشتمال أو بدل كل من كل كما فصله السمين وإن قلنا : أنها عاطفة فلا تكون الحال مترادفة بل متعاطفة وقال أبو البقاء : سجدا حال من الظلال وهم داخرون حال من الضمير في سجدا ويجوز أن يكون حالا ثانية معطوفة أه وفيه القول بالتداخل وهو محتمل على تقدير كون سجدا حالا من ضمير ظلاله والوجه الأول هو المختار عند الزمخشري وحجه في الكشف فقال : إن انقياد الظل وذي الظل مطلوب ألا ترى إلى قوله تعالى : وظلالهم بالغدو والآصال فجاعلهما حالا من الضمير في ظلاله مقصر وفيه تكميل حسن لما وصف الظلال بالسجود وصف أصحابها بالدخول الذي هو أبلغ لأنه انقياد قهري مع صفة المنقاد ولم يجعل حالا من الراجع إلى الموصول في خلق الله إذا المعنى على تصوير سجود الظل وذيه وتقارنهما في الوجود لا على مقارنة الخلق والدخول والعامل في الحال الثاني يتفيؤ على ما قال أين مالك في قوله تعالى : بل ملة إبراهيم حنيفا أه ومنه يعلم ما في إعراب أبي البقاء نعم أن في هذا الوجه بعدا لفظيا والأمر فيه هين وأما جعل وهم داخرون حالا من ضمير يروا فما لا يصح بحال كما لا يخفى
هذا وذكر الإمام في اليمين والشمال قولين غير ما تقدم الأول أن المراد بهما المشرق والمغرب تشبيها لهما بيمين الإنسان وشماله فإن الحركة اليومية آخذة من المشرق وهوى الجانبين فهو اليمين الجانب الآخر الشمال فالظلال في أول النهار تبتديء من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتديء من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها والثاني يمين البلد وشماله وذلك أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل الكلي وهو كجل يز أو كحله على اختلاف الإرصاد فإن في الصيف تحصل الشمس على يمين تلك البلدة وحينئذ تقع الأظلال على يسارها وفي الشتاء بالعكس ولا يخفى ما في الثاني فإنه مختص بقطر مخصوص والكلام ظاهر في العموم وقيل : المراد باليمين والشمال يمين مستقبل الجنوب وشماله و عن كما قال الحوفي متعلقة يتفيؤ وقال أبو البقاء : متعلقة بمحذوف وقع حالا وقيل : هي اسم بمعنى جانب فتكون في موضع نصب على الظرفية ولهم في توحيد اليمين وجمع الشمائل وهو جمع غير قياسي كلام طويل
فقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ المفرد كقوله تعالى : جعل الظلمات والنور ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وقيل : إذا فسرنا اليمين بالمشرق كان النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين واحدة وأما الشمائل فهي عبارة عن الإنحرافات الواقعة في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع وقيل : اليمين مفرد لفظا لكنه جمع معنى فيطابق الشمائل من حيث المعنى وقال الفراء : إنه يحتمل أن يكون مفردا وجمعا فإن كان مفراد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإن كان جمعا ذهب إلى كلها لأن ما خلق الله لفظه واحد ومعناه الجمع وقال الكرماني : يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف لأن الظل يفيء من الجهات كلها فبدأ باليمين لأن ابتداء التفيء منها أو تيمنا بذكرها ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين الشمال واليمين من التضاد ونزل الخلف والقدام
(14/155)

منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف وهو قريب من الأول وتعقب بأن فيه جمع اللفظ باعتبار حقيقته ومجازه وفي صحته مقال وقيل : المراد باليمين يمين الواقف مستقبل المشرق ويسمى الجنوب وبالشمال شماله فكأنه قيل : يتفيؤ ظلاله عن الجنوب إلى الشمال وعن الشمال إلى الجنوب ولما كان غالب المعمورة شمالي وظلالها كذلك جمع الشمال ولم يجمع اليمين وهو كما ترى ونقل أبو حيان عن إستاذه أبي الحسن علي بن الصائغ أنه أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة وهو في العشي على العكس لا ستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان هذا من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجمع الثاني ليطابق سجدا المجاور له شمالا كما أفرد الأول ليطابق ضمير ظلاله المجاور له يمينا ولا يخفى ما في التقديم والتأخير من حسن رعاية الأصل والفرع أيضا فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى وملاحظتهما معا وتلك الغاية في الإعجاز ويخطر لي وجه آخر في الإفراد والجمع مبني على أن المراد باليمين جهة المشرق وبالشمال جهة المعرب وهو أنه لما كانت الجهة الأولى مطلع النور والجهة الثانية مغربه ومظهر الظلمة أفرد ما يدل على الجهة الأولى كما أفرد النور في كل القرآن وجمع ما يدل على الجهة الثانية كما جمع الظلمة كذلك وإفراد النور وجمع الظلمة تقدم الكلام فيهما وقد يقال : إن جمع الظلال مع إفراد ما قبله وما بعده لأن الظل ظلمة حاصلة من حجب الكثيف الشمس مثلا عن أن يقع ضوؤها على ما يقابله فجمعت الظلال كما جمعت الظلمات ولا يعكر على هذا أنه جمعت المشارق في القرآن كالمغارب إذ كثيرا ما يرتكب أمر لنكتة في مقام ولا يرتكب لها في مقام آخر وآخر أيضا وهو أنه لما كان اليمين عبارة عن جهة المشرق وهو مبدأ الظل وحده مناسبة لتوحيد المبدأ الحقيقي وهو الله تعالى ولا كذلك جهة المغرب ولا يناسب رعاية نحو هذا في الشمال كما يرشدك إلى ذلك و كلتا يديه يمين ويعين على ملاحظة المبدئية نسبة الخلق إليه تعالى وآخر أيضا وهو أن الظل الجائي من جهة المشرق لا يتعلق به أمر شرعي والجائي من جهة المغرب يتعلق به ذلك فإن صلاة الظهر يدخل وقتها بأول حدوثه من تلك الجهة بزوال الشمس عن وسط السماء ووقت العصر بصيرورته مثل الشاخص أو مثليه بعد ظل الزوال إن كان كما في الآفاق المائلة ووقت المغرب بشموله البسيطة بغروب الشمس وما ألطف وقوع سجدا بعد الشمائل على هذا وآخر أيضا وهو أوفق بباب الإشارة وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى الفتاح وبعد لمسلك الذهن اتساع فتأمل فلعل ما ذكرته لا يرضيك
وقد بين الإمام أن اختلاف الظلال دليل على كونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره سبحانه ثم قال : فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلافها معلل باختلاف الشمس قلنا : قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركا لذاته فلا بد أن يكون تحركه من غيره ولا بد من الإستناد بالآخرة إلى واجب الوجود جل شأنه فيرجع أمر اختلاف الظلال إليه تعالى على هذا التقدير
وأنت تعلم أنه لا ينبغي أن يتردد في أن السبب الظاهري للظلال هو الشمس ونحوها وكثافة الشاخص نعم في كون ذلك مستندا إليه تعالى في الحقيقة ابتداء أو بالواسطة خلاف ومذهب السلف غير خفي عليك فقد أشرنا إليه غير مرة فتذكره إن لم يكن على ذكر منك ثم الظاهر أن المراد بالظلال المبسوطة وتسمى المستوية ويجوز أن يراد بها ما يشمل الظلال المعكوسة فإنها أيضا تتفيؤ عن اليمين والشمائل فاعرف ذلك ولا تغفل وقرأ أبو عمرو وعيسى ويعقوب تتفيؤ بالتاء على التأنيث وأمر التأنيث والتذكير في
(14/156)

الفعل المسند لمثل الجمع المذكور ظاهره
وقرأ عيسى ظلله وهو جمع ظلة كحلة وحلل قال صاحب اللوائح الظلة بالضم الغيم وأما بالكسر فهو الفيء والأول جسم والثاني عرض فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى وأما في العامة فعلى الإستعارة أه ويلوح منه القول بالقراءة بالرأي ومن الناس من فسر الظلال في قراءة العامة بالأشخاص لتكون على نحو قراءة عيسى وأنشدوا لاستعمال الظلال في ذلك قول عبدة : إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية وفار للقوم باللح المراجيل فإنه إنما تنصب الأخبية لا الظل الذي هو الفيء وقول الآخر :
يتبع أفياء الظلال عشية
فإنه أراد أفياء الأشخاص وتعقب ذلك الراغب بأنه لا حجة فيما ذكر فإن قوله : رفعنا ظل أخيه معناه رفعنا الأخبية فرفعنا بها ظلها فكأنه رفع الظل وقوله : أفياء الظلال فالظلال فيه عام والفيء خاص والإضافة من إضافة الشيء إلى جنسه وقال بعضهم : المراد من الظلة في قراءة عيسى الظل الذي يشبه الظلة والمراد بها شيء كهيئة الصفة في الإنتفاع به وقيل : الكلام في تلك القراءة على حذف مضاف أي ظلال ظلل وتفسير الظلة بما هو كهيئة الصفة والمتبادر من الظل حينئذ الظل المعكوس ثم إنه تعالى بعد أن ذكر ما ذكر أردفه بما يفيده تأكيدا مع زيادة سجود ما لا ظل له فقال سبحانه : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض أو أنه سبحانه بعد ما بين سجود الظلال وذوبها من الأجرام السفلية الثانية في إحيازها ودخورها له سبحانه شرع في شأن سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أم لا فقال عز من قائل ما قال والمراد بالسجود على ما ذكره غير واحد الإنقياد سواء كان انقيادا لإرادته تعالى وتأثيره طبعا أو انقيادا لتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة أهل السماوات والأرض من غير جمع بين الحقيقة والمجاز ولكن الآية آية سجدة لا بد من دلالتها على السجود المتعارف ولو ضمنا والاسم الجليل متعلق بيسجد والتقديم لإفادة القصر وهو ينتظم القلب والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصر الإفراد كما يؤذن به قوله تعالى : وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين أي له تعالى وحده ينقاد ويخضع جميع ما في السماوات وما في الأرض من دابة بيان لما فيهما بناء على أن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كان في أرض أو سماء والملائكة أجسام لطيفة غير مجردة وتقييد الدبيب بكونه على وجه الأرض لظهوره أو لأنه أصل معناه وهو عام هنا بقرينة المبين وقوله سبحانه : والملائكة عطف على محل الدابة المبين به وهو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأن من البيانية لا تكون ظرفا لغوا وهو من عطف الخاص على العام إفادة لعظم شأن الملائكة عليهم السلام وجوز أن يكون من عطف المباين بناء على أن يراد بما في السماوات الجسمانيات ويلتزم القول يتجرد الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون فيما في السماوات لأن المجردات ليست في حيز وجهة وبعضهم استدل بالآية على تجرد الملائكة بناء على أن ما في السماوات وما في الأرض بين أحدهما بالدابة والآخر بالملائكة والأصل في التقابل التغاير والدابة المتحركة حركة جسمانية فلا يكون مقابلها من الأجسام لأن الجسم لا بد فيه من حركة جسمانية ولا يخفى أنه دليل إقناعي إذ يحتمل كونه تخصيصا بعد تعميم كما سمعت آنفا أو هو بيان لما في الأرض والدابة اسم لما يدب على الأرض و الملائكة عطف على ما في السماوات وهو تكرير له وتعيين إجلالا وتعظيما وذكر غير واحد أنه من عطف الخاص على العام لذلك أيضا وجوز أن يراد بما في السماوات الخلق الذين يقال لهم الروح
(14/157)

ويلتزم القول بأنهم الملائكة عليهم السلام فيكون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض والمراد بالملائكة عليهم السلام وملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام الكاتبين ولا يراد بالدابة ما يشملهم و ما إذا قلنا : أنها مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبز ابن الزبعري فاستعمالها هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب وأما إن قلنا : إن وضعها لأن تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي الذي لا يعرف أنه عاقل أو لا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر على ما قيل غير محتاج إلى تغليب وفي أنوار التنزيل أن ما لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا وفي الكشاف أنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب اختيار ما على من وحاصله على ما في الكشف إن من للعقلاء والتغليب مجاز فو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي التعميم فجيء بما يعم وهو ما وأراد أن لا دليل في اللفظ وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجوار تخصيصهم من البين بعد التعميم على أن اقتضاء المقام العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى
وقيل بناء على أن ما مختصة بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء : إن الإتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم الله تعالى من الإتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم وهم أي الملائكة مع علو شأنهم لا يستكبرون
49
- عن عبادته تعالى شأنه والسجود له وتقديم الضمير ليس للقصر والسين ليست للطلب وقيل : له على معنى لا يطلبون ذلك فضلا عن فعله ولإتصاف به وإذا قلنا إن صيغة المضارع للإستمرار التجددي فالمراد استمرار النفي والجملة إما حال من فاعل يسجد مسندا إلى الملائكة أو استئناف للإخبار عنهم بذلك وإنما لم يجعل الضمير لما لاختصاصه بأولي العلم وليس المقام مقام التغليب وخالف في ذلك بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه : يخافون ربهم وممن صرح بعود الضمير فيه على ما أبو سليمان الدمشقي وقال أبو حيان : أنه الظاهر وذهب ابن السائب ومقاتل إلى ما قلنا أي يخافون ما لك أمرهم من فوقهم إما متعلق بيخافون وخوف ربهم كناية عن خوف عذابه أو الكلام على تقدير مضاف هو العذاب على ما هو الظاهر أو متعلق بمحذوف وقع حالا من ربهم أي كائنا من فوقهم ومعنى كونه سبحانه فوقهم قهره وغلبته لأن الفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى ومذهب السلف قد أسلفنا لك وأظنه على ذكر منك
والجملة حال من الضمير في لا يستكبرون وجوز أن تكون بيانا لنفي الإستكبار وتقريرا له لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته واختاره ابن المنير وقال : إنه الوجه ليس إلا لئلا يتقيد الإستكبار وليدل على ثبوت هذه الصفة أيضا على الإطلاق ولا بد أن يقال على تقدير الحالية : إنها حال غير منتقلة وقد جاءت في الفصيح بل في أفصحه على الصحيح وفي اختيار عنوان الربوبية تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم ويفعلون ما يؤمرون
50
- أي ما يؤمرون من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه واستدل بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر وأما على الخوف فهو أظهر من أن يخفي وأما على الرجاء فلاستلزام الخوف له على ما قيل وقيل : إن اتصافهم بالرجاء لأن من خدم أكرم
(14/158)

الأكرمين كان من الرجاء بمكان مكين وزعم بعضهم أن خوفهم ليس إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب ويرده قوله تعالى : وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ولا ينافي ذلك عصمتهم وقال الإمام : الأصح أن ذلك الخوف من خوف الإجلال وذكر أنه نقل عن ابن عباس واستدل له بقوله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء وفي القلب منه شيء والحق أن الآية لا تصلح دليلا لكون الملائكة أفضل من البشر واستدل بها فرقة على ذلك من أربعة أوجه ذكرها الإمام ولم يتعقبها بشيء لأنه ممن يقول بهذه الأفضلية وموضع ذلك كتب الكلام
هذا ومن باب الإشارة في الآيات أتى أمر الله وهو القيامة الكبرى التي يرتفع فيها حجب التعينات ويضمحل السوى ولما كان صلى الله تعالى عليه وسلم مشاهدا لذلك في عين الجمع قال أتى ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر للكل لا يكون إلا بعد حين قال : فلا تستعجلوه لأن هذا ليس وقت ظهوره ثم أكد شهوده لوجه الله تعالى وفناء الخلق في القيامة بقوله : سبحانه وتعالى عما يشركون بإثبات وجود الغير ثم فصل ما شاهد في عين الجمع لكونه في مقام الفرق بعد الجمع لا يحتجب بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس فقال : ينزل الملائكة بالروح وهو العلم الذي تحيا به القلوب على من يشاء من عباده وهم المخلصون له أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون وقال بعضهم : أي خوفوا الخلق من الخواطر الرديئة الممزوجة بالنظر إلى غيري وخوفهم من عظيم جلالي وهذا وحي تبليغ وهو مخصوص بالمرسلين عليهم السلام وذكروا أن الوحي إذا لم يكن كذلك غير مخصوص بهم بل يكون للأولياء أيضا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وقد روي عن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة تزاحمهم في مجالسهم ثم أنه تعالى عدد الصفات وفصل النعم فقال : خلق السماوات والأرض بالحق الخ وفي قوله سبحانه : ويحمل أثقالكم الخ إشارة كما نقل عن الجنيد قدس سره إلى أنه ينبغي لمن أراد البلوغ إلى مقصده أن يكون أول أمره وقصده الجهد والإجتهاد ليوصله بركة ذلك إلى مقصوده وذكروا أن المحمولين من العباد إلى المقاصد أصناف وكذا المحمول عليه فمحمول بنور الفعل ومحمول بنور الصفة ومحمول بنور الذات فالمحمول بنور الفعل يكون بلده مقام الخوف والرجاء ومحلته صدق اليقين وداره مربع الشهود والمحمول بنور الصفة يكون بلده مقام المعرفة ومحلته صفو الخلة وداره دار المودة والمحمول بنور الذات يكون بلده التوحيد ومحلته الفناء وداره البقاء وهذه الأصناف للسالك وأما المجذوب فمحمول على مطية الفضل إلى بلد المشاهدة وفي قوله سبحانه : ويخلق ما لا تعلمون تحيير للإفهام وتعجيز أي تعجيز عن أن تدرك الملك العلام وقال بعضهم : إن فيها تعليما للوقوف عندما لا يدركه العقل من آثار الصنع وفنون العلم وعدم مقابلة ذلك بالإنكار حيث أخبر سبحانه أنه يخلق ما لا يعلم بمقتضى القوى البشرية المعتادة وإنما بقوة إلهية وعناية صمدية ألا ترى الصوفية الذين من الله تعالى عليهم بما من كيف علموا عوالم عظيمة نسبة عالم الشهادة إليها كنسبة الذرة إلى الجبل العظيم وممن زعم الإنتظار في سلكهم كالكفشية الملقبين أنفسهم بالكشفية من ذكر من ذلك أشياء لا يشك العاقل في أنها لا أصل لها بل لو عرض كلامهم في ذلك على الأطفال أو المجانين لم يشكوا في أنه حديث خرافة صادر عن محض التخيل وأنا أسأل الله تعالى أن لا يبتلي مسلما بمثل ما ابتلاهم وقد عزمت حين رأيت بعض كتبهم التي ألفها بعض معاصرينا منهم مما اشتمل على ذلك على أن أصنع نحو ما صنعوا
(14/159)

مقابلة للباطل بمثله لكن منعني الحياء من الله تعالى والإشتغال بخدمة كلامه سبحانه والعلم بأن تلك الخرافات لا تروج إلا عند من سلب من الإدراك والتحق بالجمادات وقال الواسطي في الآية : المعنى يخلق فيكم من الأفعال ما لا تعلمون أنها لكم أم عليكم وعلى الله قصد السبيل أي السبيل القصد وهو التوحيد ومنها جائر وهو ما عدا ذلك ولو شاء لهداكم أجمعين لكنه لم يشأ لعدم استعدادكم ولتظهر صفات جماله وجلاله سبحانه : وألقى في الأرض رواسي وهم الأوتاد أرباب التمكين أن تميد بكم أي تضطرب ومن الكلام المشهور على الألسنة لو خلت قلبت وأنهارا وهم العلماء الذين تحيا بفرات علومهم أشجار القلوب وسبلا وهم المرشدون الداعون إليه تعالى وعلامات وهي الآيات الآفاقية الأنفسية وبالنجم هم يهتدون وهي الأنوار التي تلوح للسالك من عالم الغيب
وقال بعضهم : ألقى في أرض القلوب رواسي العلوم الغيبية والمعارف السرمدية وأجرى فيها أنهار أنوار المعرفة والمكاشفة والمحبة والشوق والعشق والحكمة والفطنة وأوضح سبلا للأرواح والعقول والأسرار فسبيل الأرواح إلى أنوار الصفات وسبيل العقول إلى أنوار الآيات وسبيل الأسرار إلى أنوار الذات والسبل في الحقيقة غير متناهية ومن كلامهم الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق والعلامات في الظاهر أنوار الأفعال للعموم وأخص العلامات في العالم الأولياء والنجوم أهل المعارف الذين يسبحون في أفلاك الديمومة بأرواحهم وقلوبهم وأسرارهم من اقتدى بهم يهتدي إلى مقصوده الأبدي وفي الحديث أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديتم اهتديتم والمراد بهم خواصهم ليتأتى الخطاب ويجوز أن يراد كلهم والخطاب لنا ولا مانع من ذلك على مشرب القوم والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ما أعظمها آية في النعي على من يستغيث بغير الله تعالى من الجمادات والأموات ويطلب منه ما لا يستطيع جلبه لنفسه أو دفعه عنها
وقال بعض أكابر الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم : إن الإستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه بل من حيث ظهور الحث فيه فإن ذلك غير محظور لأنه استغاثة بالحق حينئذ وأنا أقول إذا كان الأمر كذلك فما الداعي للعدول عن الإستغاثة بالحق من أول الأمر وأيضا إذا ساغت الإستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له من تلك الحيثية أيضا ولعل القائل بذلك قائل بهذا بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيح ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره فالطريق المأمون عند كل رشيد قصر الإستغاثة والإستعانة على الله عز و جل فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده فإياك والإنتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ذكروا أن السابقين الموحدين يتوفاهم الله تعالى بذاته وأما الأبرار والسعداء فقسمان فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرد ووصل إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفاهم ملك الموت ومن كان في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهاد والمتشرعين لم يتجردوا عن علائق البدن بالتحلية والتخلية تتوفاهم ملائكة الرحمة وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم الملائكة أيضا ولكن ملائكة العذاب ويتشكلون لهم على صورة أخلاقهم الذميمة كما يتشكل ملائكة الرحمة لمن تقدم على صورة أخلاقهم الحسنة الذين تتوفاهم الملائكة طيبين طابت نفوسهم في خدمة مولاها وطابت قلوبهم في محبة
(14/160)

سيدها وطابت أرواحهم بطيب مشاهدة ربها وطابت أسرارهم بطيب الأنوار وقيل : طيبة أبدانهم وأرواحهم بملازمة الخدمة وترك الشهوات
وقيل : طيبة أرواحهم بالموت لكونه باب الوصال وسبب الحياة الأبدية وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء قالوه إلزاما بزعمهم للموحدين وما دروا أنه حجة عليهم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما عليه الشيء في نفسه فلو لا أنهم في نفس الأمر مشركون ما شاء الله تعالى ذلك فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون هم أهل القرآن المتخلقون بأخلاقه القائمون بأمره ونهيه الواقفون على ما أودع فيه من الأسرار والغيوب وقليل ما هم فالمراد بالذكر القرآن كما في قوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لم يظهر مكنونات أسرار كتابه إلا لنبيه صلى الله عليه و سلم فهو عليه الصلاة و السلام الأمين المؤتمن على الأسرار وقد أشار سبحانه له عليه الصلاة و السلام بتبيين ذلك وقد فعل ولكن على حسب القابليات لا تمنعوا الحكمة عن أهلها فتظلموهم ولا تمنحوها غير أهلها فتظلموها ولا تودع الأسرار إلا عند الأحرار وذلك لأنها أمانة وإذا أودعت عند غيرهم لم يؤمن عليها من الخيانة وخيانتها إفشاؤها وإفشاؤها خطر عظيم ولذا قيل : من شاوروه فأبدى السر مشتهرا لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا وجانبوه فلم يسعد بقربهم وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا لا يصطفون مذيعا بعض سرهم حاشا ودادهم من ذاكم حاشا أو لم يروا ما خلق الله من شيء أي ذات وحقيقة مخلوقة أية ذات كانت يتفيؤ ظلاله قيل : أي يتمثل صوره مظاهره عن اليمين جهة الخير الشمائل جهات الشرور ولما كانت جهة اليمين إشارة إلى جهة الخير الذي لا ينسب إلا إليه تعالى وحد اليمين ولما كانت جهة الشمال إشارة إلى جهة الشر الذي لا ينبغي أن ينسب إليه تعالى كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه و سلم : والشر ليس إليك ولكن ينسب إلى غيره سبحانه وكان في الغير تعدد ظاهر جمع الشمال وقيل في وجه الإفراد والجمع : أن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفيء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات ولا تكاد تشترك في شر كذلك فما تفيء عنه من الشر لا يكون إلا متعددا فلذا جمع الشمال ولا كذلك ما تفيء عنه من الخير فلذا أفرد اليمين فليتأمل ولله يسجد ينقاد ما في السماوات وما في الأرض من دابة أي موجود يدب ويتحرك من العدم إلى الوجود والملائكة وهم لا يستكبرون لا يمتنعون عن الإنقياد والتذلل لأمره يخافون ربهم من فوقهم لأنه القاهر المؤثر فيهم ويفعلون ما يؤمرون طوعا وانقيادا والله تعالى الهادي سواء السبيل
ثم أنه تعالى بعد ما بين أن جميع الموجودات خاضعة منقادة له تعالى أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقال عز قائلا : وقال الله عطفا على قوله سبحانه : ولله يسجد وجوز أن يكون معطوفا على وأنزلنا إليك الذكر وقيل : إنه معطوف على ما خلق الله على أسلوب
علفتها تبنا وماء باردا
أي أو لم يروا ما خلق الله ولم يسمعوا إلى ما قال الله ولا يخفى تكلفه وإظهار الفاعل وتخصيص لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه تعالى متعين الألوهية وإنما المنهي عنه هو الإشراك به لا أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ إلهين بحيث يتحقق الإنتهاء عنه برفض أيهما كان ولم يذكر المقول لهم للعموم أي
(14/161)

قال تعالى لجميع المكلفين بواسطة الرسل عليهم السلام : لا تتخذوا إليهين اثنين المشهور أن اثنين وصف لإلهين وكذا واحد في قوله سبحانه : إنما هو إله واحد صفة لإله وجيء بهما للإيضاح والتفسير لا للتأكيد وإن حصل وتقرير ذلك أن لفظ إلهين حامل لمعنى الجنسية أعني الإلهية ومعنى العدد أعني الأثنينية وكذا لفظ إله حامل لمعنى الجنسية والوحدة والغرض المسوق له الكلام في الأول النهي عن اتخاذ الإثنين من الإله لا عن اتخاذ جنس الإله وفي الثاني إثبات الواحد من الإله لا إثبات جنسه فوصف إلهين باثنين وإله بواحد إيضاحا لهذا الغرض وتفسيرا له فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو نعم الرجل زيد وكذا المثنى كقوله : فإن النار بالعودين تذكي وأن الحرب أولها الكلام وإلى هذا ذهب صاحب الكشاف وما يفهم منه أنه تأكيد فمعناه أنه محقق ومقرر من المتبوع فهو تأكيد لغوي لا أنه مؤكد أمر المتبوع في النسبة أو الشمول ليكون تأكيدا صناعيا كيف وهو إنما يكون بتقرير المتبوع بنفسه أو بما يوافقه معنى أو بألفاظ محظوظة فما قيل : أن مذهبه إن ذلك من التأكيد الصناعي ليس بشيء إذ لا دلالة في كلامه عليه وقد أورد الكسائي الآية في باب عطف البيان مصرحا بأنه من هذا القبيل فتوهم منه بعضهم أنه قائل بأن ذلك عطف بيان صناعي وهو الذي اختاره العلامة القطب في شرح المفتاح نافيا وصفا واستدل على ذلك بأن معنى قولهم : الصفة تابع يدل على معنى في متبوعه أنه تابع ذكر ليدل على معنى في متبوعه على ما نقل عن ابن الحاجب ولم يذكر إثنين وواحد للدلالة على الإثنينية والوحدة اللتين في متبوعهما فيكونا وصفين بل ذكرا للدلالة على أن القصد من متبوعهما إلى أحد جزئيه أعني الأثنينية والوحدة دون الجزء الآخر أعني الجنسية فكل منهما تابع غير صفة يوضح متبوعه فيكون عطف بيان لا صفة
وقال العلامة الثاني : ليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن كان وصفا صناعيا ويكون إيراده في ذلك المبحث مثل إيراد كل رجل عارف وكل إنسان حيوان في بحث التأكيد ومثل ذلك عادة له وتعقب العلامة الأول بأنه إن أريد أنه لم يذكر إلا ليدل على معنى في متبوعه فلا يصدق التعريف على شيء من الصفة لأنها البتة تكون لتخصيص أو تأكيد أو مدح أو نحو ذلك وإن أريد أنه ذكر ليدل على هذا المعنى ويكون الغرض من دلالته عليه شيئا آخر كالتخصيص والتأكيد وغيرهما فيجوز أن يكون ذكر اثنين وواحد للدلالة على الأثنينية والوحدة ويكون الغرض من هذا بيان المقصود وتفسيره كما أن الدابر في أمس الدابر ذكر ليدل على معنى الدبور والغرض منه التأكيد بل الأمر كذلك عند التحقيق ألا ترى أن السكاكي جعل من الوصف ما هو كاشف وموضع ولم يخرج بهذا عن الوصفية وأجيب بأنا نختار الشق الثاني ونقول : مراد العلامة من قوله : ذكر ليدل على معنى في متبوعه أن يكون المقصود من ذكره الدلالة على حصول المعنى في المتبوع ليتوسل بذلك إلى التخصيص أو التوضيح أو المدح أو الذم إلى غير ذلك وذكر إثنين وواحد ليس للدلالة على حصول الأثنينية والوحدة في موصوفيهما بل تعيين المقصود من جزئيهما فلا يكونان صفة وذكر الدابر ليدل على حصول الدبور في الأمس ثم يتوسل بذلك إلى التأكيد وكذا في الوصف الكاشف بخلاف ما نحن فيه فتدبره
(14/162)

فإنه غامض : ولم يجوز العلامة الأول البدلية فقال : وأما إنه ليس ببدل فظاهر لأنه لا يقوم مقام المبدل منه
ونظر فيه العلامة الثاني بأنا لا نسلم أن البدل يجب صحة قيامه مقام المبدل منه فقد جعل الزمخشري الجن في قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن بدلا من شركاء ومعلوم أنه لا معنى لقولنا وجعلوا لله الجن ثم قال : بل لا يبعد أن يقال : الأولى أنه بدل لأنه المقصود بالنسبة إذ النهي عن اتخاذ الإثنين من الإله على ما مر تقريره وتعقب بأن الرضي قد ذكر أنه لما لم يكن البدل معنى في المتبوع حتى يحتاج إلى المتبوع كما احتاج الوصف ولم يفهم معناه من المتبوع كما فهم ذلك في التأكيد جاز اعتباره مستقلا لفظا أي صالحا لأن يقوم مقام المتبوع أه
ولا يخفى أن صحة إقامته بهذا المعنى لا تقتضي أن يتم معنى الكلام بدونه حتى يرد ما أورد وقيل : إن ذكر اثنين للدلالة على منافاة الأثنينية للألوهية وذكر الوحدة للتنبيه على أنه من لوازم الألوهية
وجعل ذلك بعضهم من روادف الدلالة على كون ما ذكر مساق النهي والإثبات وهو ظاهر وإن قيل فيه ما قيل
وزعم بعضهم أن تتخذوا متعد إلى مفعولين وأن إثنين مفعوله الأول وإلهين مفعوله الثاني والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين وقيل : الأول مفعول أول والثاني ثان وقيل : إلهين مفعوله الأول واثنين باق على الوصفية والتوكيد والمفعول الثاني محذوف أي معبودين ولا يخفى ما في ذلك وإثبات الوحدة له تعالى مع أن المسمى المعين لا يتعدد بمعنى أنه لا مشارك له في صفاته وألوهيته فليس الحمل لغوا ولا حاجة لجعل الضمير للمعبود بحق المفهوم من الجلالة على طريق الإستخدام كما قيل وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة الإخلاص وفي التعبير بالضمير الموضوع للغائب التفات من التكلم إلى الغيبة على رأي السكاكي المكتفي بكون الأسلوب الملتفت عنه حق الكلام وإن لم يسبق الذكر على جهة الوجه وأما قوله تعالى : فإياي فارهبون
51
- ففيه التفات من الغيبة إلى التكلم على مذهب الجمهور أيضا والنكتة فيه بعد النكتة العامة أعني الإيقاظ وتطرية الإصغاء المبالغة في التخويف والترهيب فإن تخويف الحاضر مواجهة أبلغ من تخويف الغائب سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المتتضية للعظمة والقدرة التامة على الإنتقام
والفاء في فإياي واقعة في جواب شرط مقدر و إياي مفعول لفعل محذوف يقدر مؤخرا يدل عليه فارهبون أي إن رهبتم شيئا فإياي ارهبون وقول ابن عطية : أن إياي منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ذهول عن القاعدة النحوية وهي أنه إذا كان المعمول ضميرا منفصلا والفعل متعد إلى واحد هو الضمير وجب تأخر الفعل نحو إياك نعبد ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله :
إليك حتى بلغت إياكا
وعطف المفسر المذكور على المفسر المحذوف بالفاء لأن المراد رهبة بعد رهبة وقيل : لأن المفسر حقه أن يذكر بعد المفسر ولا يخفى فصل الضمير وتقديمه من الحصر أي ارهبوني لا غير فأنا ذلك الإله الواحد القادر على الإنتقام وله ما في السماوات والأرض عطف على قوله سبحانه : إنما هو إله واحد أو على الخبر أو مستأنف جيء به تقريرا لعلة انقياد ما فيهما له سبحانه خاصة وتحقيقا لتخصيص الرهبة به تعالى وتقديم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى التخصيص وكذا يقال فيما بعد أي له تعالى وحده ما في السماوات والأرض خلقا وملكا وله وحده الدين أي الطاعة والإنقياد كما هو أحد معانيه ونقل عن ابن عطية وغيره واصبا أي واجبا لازما لا زوال له لما تقرر أنه سبحانه الإله
(14/163)

وحده الحقيق بأن يرهب وتفسير واصبا بما ذكر مروي عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد والضحاك وجماعة وأنشدوا لأبي الأسود الدؤلي لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهمر أجمع واصبا وقال ابن الأنباري : هو من الوصب بمعنى التعب أو شدته وفاعل للنسب كما في قوله :
وأضحى فؤادي به فاتنا
أي ذا وصب وكلفة ومن هنا سمي الدين تكليفا وقال الربيع بن أنس : واصبا خالصا ونقل ذلك أيضا عن الفراء وقيل : الدين الملك والواصب الدائم ويبعد ذلك قول أمية بن الصلت : وله الدين واصبا وله الملك وحمد له على كل حال وقيل : الدين الجزاء والواصب كما في سابقه أي له تعالى الجزاء دائما لا ينقطع ثوابه للمطيع وعقابه للعاصي وأيا ما كان فنصب واصبا على أنه حال من ضمير الدين المستكن في الظرف والظرف عامل فبه أوحال من الدين والظرف هو العامل على رأي من يرى جواز اختلاف العامل في الحال والعامل في صاحبها واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى أفغير الله تتقون
52
- الهمزة للإنكار والفاء للتعقيب أي أبعد ما تقرر من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كامله سبحانه ونهيه عن اتخاذ الإلهين وكون الدين له واصبا المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به تعالى تتقون غيره والمنكر تقوى غير الله تعالى لا مطلق التقوى ولذا قدم الغير وأولى الهمزة لا للإختصاص حتى يرد أن إنكار تخصيص التقوى بغيره سبحانه لا ينافي جوازها وقيل : يصح أن يعتبر الإختصاص بالإنكار فيكون التقديم لاختصاص الإنكار لا لإنكار الإختصاص وفي البحر أن هذا الإستفهام يتضمن التوبيخ والتعجب أي بعد ما عرفتم من وحدانيته سبحانه وأن ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره وما بكم من نعمة فمن الله أي أي شيء يلابسكم ويصاحبكم من نعمة أي نعمة كانت فهي منه تعالى فما موصوله مبتدأ متضمنة معنى الشرط و من الله خبرها والفاء زائدة في الخبر لذلك التضمن و من نعمة بيان للموصول و بكم صلته وأجاز الفراء وتبعه الحوفي أن تكون ما شرطية وفعل الشرط محذوف أي وما يكن بكم من نعمة الخ واعترضه أبو حيان بأنه لا يحذف فما الشرط إلا بعد إن خاصة في موضعين باب الإشتغال نحو وإن أحد من المشركين استجارك فأجره وأن تكون إن الشرطية متلوة بلا النافية وقد دل على الشرط ما قبله كقوله : فطلقها فلست لها بكفء وألا يعل مفرقك الحسام وحذفه في غير ما ذكر ضرورة كقوله : قالت بنات العم ياسلمى وإن كان فقيرا معدما قالت وإن وقوله :
أينما الريح تميلها تميل
وأجيب بأن الفراء لا يسلم هذا فما أجازه مبني على مذهبه واستشكل أمر الشرطية على الوجهين من حيث أن الشرط لا بد أن يكون سببا للجزاء كما تقول : إن تسلم تدخل الجنة فإن الإسلام سبب لدخول الجنة وهنا على العكس فإن الأول وهو استقرار النعمة بالمخاطبين لا يستقيم أن يكون سببا للثاني وهو كونها من الله من جهة كونه فرعا عنه وأجاب في إيضاح المفصل بأن الآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها أو شكوا فيه أو فهلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين فاستقرارها
(14/164)

مجهولة أو مشكوكة سبب للإخبار بكونها من الله تعالى فيتحقق أن الشرط والشروط فيها على حسب المعروف من كون الأول سببا والثاني مسببا وقد وهم من قال : إن الشرط قد يكون مسببا وفي الكشف أن الشرط والجزاء ليسا على الظاهر فإن الأول ليس سببا للثاني بل الأمر بالعكس لكن المقصود منه تذكيرهم وتعريفهم فالإتصال سبب العلم بكونها من الله تعالى وهذا أولى مما قدره ابن الحاجب من أنه سبب الإعلام بكونها منه لأنه في قوم استقرت بهم النعم وجهلوا معطيها أو شكوا فيه ألا ترى إلى ما بنى عليه بعد كيف دل على أنهم عالمون بأنه سبحانه المنعم ولكن بضطرون إليه عند الإلجاء ويفرون بعد الإنجاء انتهى وفيه أنه يدفع ما ذكره بأن علمهم نزل لعدم الإعتداد به وفعلهم ما ينافيه منزلة الجهل فأخبروا بذلك كما تقول لمن توبخه : أما أعطيتك كذا أما وأما ثم إذا مسكم الضر مساسا يسيرا فإليه تجئرون
53
- تتضرعون في كشفه لا إلى غيره كما يفيده تقديم الجار والمجرور والجؤار في الأصل صياح الوحش واستعمل في رفع الصوت بالدعاء والإستغاثة قال الأعشى يصف راهبا : يداوم من صلوات المليك طروا سجودا وطروا جؤرا وقرأ الزهري تجرون بحذف الهمزة والقاء حركتها على الجيم وفي ذكر المساس المنبيء عن أدنى إصابة وإيراده بالجملة الفعلية المؤذنة بالحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية الضر بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطبق عليه اسم الجنس مع إيراد النعمة بالجملة الإسمية المؤذنة بالدوام والتعبير على ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وإيراد ما المعربة عن العموم على احتماليها ما لا يخفى من الجزالة والفخامة
ولعل إيراد إذا دون أن للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب قاله المولى أبو السعود وفيه ما يعرف مع الجواب عنه بأدنى تأمل وكان الظاهر على ما قيل أن يقال بعد أفغير الله تتقون : وما يصيبكم ضر إلا منه ليقوي إنكار اتقاء غيره سبحانه لكن ذكر النفع يفهم بواسطته الضر واقتصر عليه إشارة إلى سبق رحمته وعمومها وبملاحظة هذا المعنى قيل : يظهر ارتباط وما بكم من نعمة فمن الله بما قبله وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك واستدل بالآية على أن لله تعالى نعمة على الكافر وعلى أن الإيمان مخلوق له تعالى
ثم إذا كشف الضر عنكم أي رفع ما مسكم من الضر إذا فريق منكم بربهم يشركون
54
- أي يتجدد إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه والخطاب في الآية إن كان عاما فمن للتبعيض والفريق الكفرة وإن كان خاصا بالمشركين كما استظهره في الكشف فمن للبيان على سبيل التجريد ليحسن وإلا فليس من مواقعه كما قيل والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون وجوز على هذا الإحتمال في الخطاب كون من تبعيضية أيضا لأن من المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضرا شديدا كما يدل عليه قوله تعالى : فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد على تقدير أن يفسر الإقتصاد بالتوحيد لا بعدم الغلو في الكفر و إذا الأولى شرطية والثانية فجائية والجملة بعدها جواب الشرط واستدل أبو حيان باقترانها بإذا الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها و بربهم متعلق بيشركون والتقديم لمراعاة وؤس الآي والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بمكال قبح ما ارتكبوه من الإشراك الذي هو غاية في الكفران و ثم قال في إرشاد العقل السليم : ليست لتمادي زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة
(14/165)

على تراخي رتبة ما يترتب عليه من مفاجآت الإشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال
وفي الكشف متعقبا صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله تعالى : ثم إذا مسكم ثم إذا كشف وهو على وجهين والله تعالى أعلم أحدهما أن يكون قوله سبحانه وما بكم من نعمة فمن الله من تتمة السابق على معنى إنكار اتقاء غير الله تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته فهو سبحانه القادر على سلبها ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالإتقاء ثم إشراكهم به تعالى كفرانا لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الإنكارين فإن اتقاء غير المنعم أقرب من الإغراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى هذا المكفور به وحده عند الحاجة وأبعد منه الإعراض ولم يجف قدمه من ندى النجاة
والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع و ثم في الأول لتراخي الزمان إشعارا بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه إلى وقت الإلجاء وفيه الإشعار بتراخي الرتبة أيضا على سبيل الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده أه وهو كلام نفيس وللطيبي كلام طويل في المقام إن أردته فارجع إليه
وقرأ الزهري ثم إذا كاشف وفاعل هنا بمعنى فعل وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجواز إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر لهم وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد لكنه أشد من الضلال القديم ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود إن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير : إياك ثم إياك أن تستغيث بالله تعالى إذا خطب دهان فإن الله تعالى لا يجعل في إغاثتك ولا يهمه سوء حالتك وعليك بالإستغاثة بالأولياء السالفين فأنهم يجعلون في تفريج كربك ويهمهم سوء ما حل بك فمج ذلك سمعي وهمي دمعي وسألت الله تعالى أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلال المبين ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك ليكفروا بما ءاتيناهم من نعمة الكشف عنهم فالكفر بمعنى كفران النعمة واللام لام العاقبة والصيرورة وهي استعارة تبعية فإنه لما لم ينتج كفرهم وإشراكهم غير كفران ما أنعم الله تعالى به عليهم جعل كأنه علة غائبة له مقصودة منه وجوز أن يكون الكفر بمعنى الجحود أي إنكار كون تلك النعمة من الله تعالى واللام هي اللام والمعنيان متقاربان فتمتعوا أمر تهديد كما هو أحد معاني الأمر المجازية عند الجمهور كما يقول السيد لعبده افعل ما تريد والإلتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط
وقرأ أبو العالية فيتمتعوا بضم الياء التحتية ساكن الميم مفتوح التاء مضارع متع مخففا مبنيا للمفعول وروي ذلك مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو معطوف يكفروا على أن يكون الأمران عرضا لهم من الإشراك ويجوز أن يكون لام ليكفروا لام الأمر والمقصود منه التهديد بتخليتهم وما هم فيه لخذلانهم فالفاء واقعة في جواب الأمر وما بعدها منصوب بإسقاط النون ويجوز جزمه بالعطف أيضا كما ينصب بالعطف إذا كانت اللام جارة فسوف تعلمون
55
- عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب وفيه وعيد شديد حيت لم يذكر المفعول إشعارا بأنه لا يوصف وقرأ أبو العالية أيضا يعلمون بالياء التحتية وروي ذلك مكحول عن أبي رافع أيضا ويجعلون قيل معطوف على يشركون وليس بشيء وقيل : لعله عطف على
(14/166)

ما سبق بحسب المعنى تعدادا لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون مما قص عليك ويجعلون لما لا يعلمون أي لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وأنها لا تضر ولا تنفع على أن ما موصولة والعائد محذوف وضمير الجمع للكفار أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء لأنها جماد على أن ما موصولة أيضا عبارة عن الآلهة وضمير يعلمون عائد عليه ومفعول يعلمون مترك لقصد العموم وجوز أن ينزل منزلة اللازم أي ليس من شأنهم العلم وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم ويجوز أن تكون ما مصدرية وضمير الجمع للمشركين واللام تعليلية لا صلة الجمع كما في الوجهين الأولين وصلته محذوفة للعلم بها أي يجعلون لآلهتهم لأجل جهلهم نصيبا مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرهما مما ذرأ تقربا إليها تالله لتسئلن سؤال توبيخ وتقريع في الآخرة وقيل : عند عذاب القبر وقيل : عند القرب من الموت عما كنتم تفترون
56
- من قبل بأنها آلهة حقيقية بأن يتقرب إليها وفي تصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبيء عن كمال الغضب من شدة الوعيد ما لا يخفى
ويجعلون لله البنات هم خزاعة وكنانة كانوا يقولون : الملائكة بنات الله تعالى وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها وقال الإمام : أظن أنهم أطلقوا عليها البنات لا ستتارها عن العيون كالنساء ولهذا لما كان قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر أطلقوا عليه لفظ التأنيث
ولا يرد على ذلك أن الجن كذلك لأنه لا يلزم في مثله الإطراد وقيل : أطلقوا عليها ذلك للاستتار مع كونها في محل لا تصل إليه الأغيار فهي كبنات الرجل اللاتي يغار عليهمن فيسكنهن في محل أمين ومكان مكين والجن وإن كانوا مستترين لكن لا على هذه الصورة وهذا أولى مما ذكره الإمام وأما عدم التوالد فلا يناسب ذلك
سبحانه تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قولهم ذلك أو تعجيب من جرامتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز
ولهم ما يشتهون
57
- يعني البنين و ما مرفوع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حاق موقعه وجوز الفراء والحوفي أنه في محل نصب معطوف على البنات كأنه قيل : ويجعلون لهم ما يشتهون واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد وعدم فلا يجوز زيد ضربه بمعنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أي هو بمفسه ويجوز زيد ظنه قائما وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان الضمير اسما ظاهرا كالنفس نحو زيد يضرب نفسه أو ضميرا منفصلا نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز فإذا عطف ما على البنات أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل وهو واو يجعلون إلى ضميره المتصل وهو هم المجرور باللام في غير ما استثنى وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان حقه أن يقال لأنفسهم وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل بمعنى وقوعه عليه أو ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس واقعا بالجاعلين بل بما يشتهون ومحصله كما قال الخفاجي المنع في المتعدي بنفسه
(14/167)

مطلقا والتفصيل في المتعدي بالحرف بين ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم ألف إيقاع المرء بنفسه وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة واضمم إليك جناحك والعلامة البيضاوي أجاب بوجه آخر وهو أن الإمتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولا لا ثانيا وتبعا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية وقال الخفاجي : هو قوي عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والإختيار وإذا بشر أحدهم بالأنثى أي أخبر بولادتها وأصل البشارة الإخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم حملت على مطلق الإخبار وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع الظر عن طونها أنثى وقيل : إنه بشارة حقيقية بالنظر إلى حال المبشر به في نفس الأمر وأياما كان فالكلام على تقدير مضاف كما أشرنا إليه ظل وجهه أي صار مسودا من الكآبة والحياء من الناس وأصل معنى ظل أقام نهارا على الصفة التي تسند إلى الاسم ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر إخبار المولود له إلى النهار خصوصا بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصف طول النهار واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم الفكرة والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى قيل : إذا قوى الفرح انبسط القلب من داخله ووصل إلى الأطراف لا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فيرى الوجه مشرقا متلألئا وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر في ظاهر الوجه فيربد ويتغير ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن إربداده واسوداده فلذلك كني عن الفرح بالإستنارة وعن الغم بالإسوداد ولو قيل بالمجاز لم يبعد بل قال بعضهم : إنه الظاهر والظاهر أن وجهه اسم ظل ومسودا خبره وجوز كون الاسم ضميرا لأحد ووجهه بدلا منه ولو رفع مسودا على أن وجهه مبتدأ وهو خبر له والجملة خبر ظل صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا وهو كظيم
58
- أي مملوء غيظا وأصل الكظم مخرج النفس يقال : أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه ومنه كظم الغيظ لإخفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه
وفعيل إما بمعنى مفعول كما أشير إليه أو صيغة مبالغة والظاهر أن ذلك الغيظ على المرأة حيث ولدت أنثى ولم تلد ذكرا ويؤيده ما روى الأصمعي أن امرأة ولدت بنتا سمتها الذلفاء فهجرها زوجها فأنشدت ما لأبي الذلفاء لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا يحرد أن لا نلد البنينا وإنما نأخذ ما يعطينا والفقير قد رأيت من طلق زوجته لأن ولدت أنثى والجملة في موضع الحال من الضمير في ظل وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من وجه وجوز غيره أيضا حاليته من ضمير مسودا يتوارى من القوم يستخفي من قومه من سوء ما بشر به عرفا وهو الأنثى والتعبير عنها بما لإسقاطها بزعمهم عن درجة العقلاء والجملة مستأنفة أو حال على الأوجه السابقة في وهو كظيم إلا كونه من وجهه والجاران متعلقان يتوارى و من الأولى ابتدائية والثانية تعليلية أي يتوارى من أجل ذلك ويروى أن بعض الجاهلية يتوارى في حال الطلق فإن
(14/168)

أخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبر فيها ما يصنع أيمسكه أيتركه ويربيه على هون أي ذل والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه أيمسكه مع رضاه بهوان نفسه وعلى رغم أنفه وقيل : حال من المفعول به أي أيمسك المبشر به وهو الأنثى مهانا ذليلا وجملة أيمسكه معمولة لمحذوف معلق بالإستفهام عنها وقع حالا من فاعل يتوارى أي محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه أم يدسه يخفيه في التراب والمراد يئده ويدفنه حيا حتى يموت وإلى هذا ذهب السدي وقتادة وابن جريج وغيرهم وقيل : المراد إهلاكه سواء كان بالدفن حيا أم بأمر آخر فقد كان بعضهم يلقى الأنثى من شاهق روى أن رجلا قال : يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت يا أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال صلى الله عليه و سلم : ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الإستغفار وكان بعضهم يغرقها وبعضهم يذبحها إلى غير ذلك ولما كان الكل أماتة تقضي إلى الدفن في التراب قيل : أم يدسه في التراب وقيل : المراد إخفاؤه عن الناس حتى لا يعرف كالمدسوس في التراب وتذكير الضميرين للفظ ما وقرأ الجحدري بالتأنيث فيهما عودا على قوله سبحانه : بالأنثى أو على معنى ما وقريء بتذكير الأول وتأنيث الثاني وقرأ الجحدري أيضا وعيسى هوان بفتح الهاء وألف بعد الواو وقريء على هون بفتح الهاء وإسكان الواو وهو بمعنى الذل أيضا ويكون بمعنى الرفق واللين وليس بمراد وقرأ الأعمش على سوء وهي عند أبي حيان تفسير لا قراءة لمخالفتها السواد ألا ساء ما يحكمون
59
- حيث يجعلون لمن تنزه عن الصاحبة والولد ما هذا شأنه عندهم والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله تعالى مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه وجوز أن يكون مداره التعكيس كقوله تعالى : تلك إذا قسمة ضيزي وقال ابن عطية : هذا استقباح منه تعالى شأنه لسوء فعلهم وحكمهم في بناتهم بالإمساك على هون أو الوأد مع أن رزق الجميع على الله سبحانه فكأنه قيل : ألا ساء ما يحكمون في بناتهم وهو خلاف الظاهر جدا وروي الأول عن السدي وعليه الجمهور والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الكفرة وقد أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه : وإذا بشر الخ هذا صنيع مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء المرء لنفسه ولعمري ما ندري أي خير لرب جارية خير لأهلها من غلام وإنما أخبركم الله عز و جل بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه واستدل القاضي بالآية على بطلان مذهب القائلين بنسبة أفعال العباد إليه تعالى لأن في ذلك إضافة فواحش لو أضيفت إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منها والتباعد عنها قال : فحكم هؤلاء القائلين مشابه لحكم هؤلاء المشركين بل أعظم لأن إضافة البنات إليه سبحانه إضافة لقبيح واحد وهو أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إليه عز و جل وأجيب عن ذلك بأنه لما ثبت بالدليل استحالة الصاحبة والولد عليه سبحانه أردفه عز و جل بذكر هذا الوجه الإقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح منه تعالى ألا ترى أن رجلا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهم وصورهن ثم بالغ في تقوية
(14/169)

الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع وبقي ينظر ما يحدث بينهم من الوقاع وغيره عد من أسفه السفهاء وعد صنيعه أقبح كل صنيع مع أن ذلك لا يقبح منه تعالى بل قد صنعه جل جلاله فعلم أن التعويل على مثل هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية وقد ثبت بها امتناع الولد عليه سبحانه فلا جرم حسنت تقويتها لهذه الوجوه الإقناعية وأما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لو لا سوء التعصب للذين لا يؤمنون بالآخرة ممن ذكرت فبائحهم مثل السوء صفة السوء التي هي كالمثل في القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم بعد موتهم ويبقى به ذكرهم وإيثار الذكور للإستظهار ووأد البنات لدفع العار أو خشية الإملاق على حسب اختلاف أغراض الوائدين المنادي كل واحد من ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ وعن ابن عباس مثل السوء النار وأظنه لا يصح عنه رضي الله تعالى عنه ومنع ابن عطية حمل المثل على الصفة وقال : إنه لا يضطر إليه لأنه خروج عن اللفظ بل هو على بابه وذلك أنهم إذا قالوا : إن البنات لله سبحانه فقد جعلوا لله عز و جل مثلا فإن البنات من البشر وكثرة البنات أمر مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء الذي أخبر الله تعالى بأنه لهم وليس في البنات فقط بل لما جعلوا له تعالى البنات جعله هو سبحانه لهم على الإطلاق في كل سوء ولا غاية أبعد من عذاب النار أه وهو أشبه شيء عندي بالرطانة كما لا يخفى ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة ولله المثل الأعلى أي الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقا وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الواسع والنزاهة عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوه تعالى عما يقول علوا كبيرا
وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله وهو رواية عن ابن عباس والذي أخرجه عنه البيهقي في الأسماء والصفات وغيره هو ليس كمثله شيء وهو العزيز المنفرد بكمال القدرة على كل شيء ومن ذلك مؤاخذتهم بقبائحهم وقيل : هو الذي لا يوجد له نظير الحكيم
60
- الذي يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة
ولو يؤاخذ الله الناس الظالمين مطلقا وقيل : بالكفر والمؤاخذة مفاعلة من فاعل بمعنى فعل وهو الظاهر وقال ابن عطية : هي مجاز كأن العبد يأخذ حق الله تعالى بمعصيته والله تعالى يأخذ منه بمعاقبته وكذا الحال في مؤاخذة الخلق بعضهم بعضا يظلمهم أي بسبب كفرهم ومعاصيهم بناء على أن الظلم فعل ما لا ينبغي ووضعه في غير موضعه وقد يخص بالكفر والتعدي على الغير ويدخل فيه ما عد من القبائح وهذا تصريح بما أفاده قوله تعالى : هو العزيز الحكيم وإيذان بأن ما أتاه هؤلاء الكفرة من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه ما ترك عليها أي على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله تعالى : من دابة بناء على شهرة كون الدبيب في الأرض أي ما ترك عليها شيئا من الدواب أصلا بل أهلكها بالمرة أما الظالم فبظلمه وأما غيره فبشؤم ذلك فقد قال سبحانه : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وأخرج البيهقي في الشعب وغيره عن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال : بلى والله إن الحباري لتموت هزلا
(14/170)

في وكرها من ظلم الظالم وأخرج أيضا هو فيه وغيره عن ابن مسعود قال : كاد الجعل أن يهذب في حجره بذنب ابن آدم ثم قرأ الآية وأخرج أحمد في الزهد عنه أنه قال : ذموب ابن آدم قتلت الجعل في حجره ثم قال : أي والله زمن غرق قوم نوح عليه السلام وقيل : المراد من دابة ظالمة على أن التنوين للنوع وهو مخصوص بالكفار والعصاة من الإنس وقيل : منهم ومن الجن وقيل : المراد الدابة الظالمة الفاعلة لما لا ينبغي شرعا أو عرفا فيدخل بعض الدواب إذا ضر غيره وقالت فرقة منهم ابن عباس : المراد بالدابة المشرك فقد فقال تعالى : إن شر الدواب عند الله الذين كفروا وقال الجبائي : الدابة على عمومها فتشمل سائر الحيوانات والمراد الظالمون مطلقا ووجه الملازمة أنه تعالى لو آخذهم بما كسبوا من كفر أو معصية لعجل هلاكهم وحينئذ لا يبقى لهم نسل ومن المعلوم أن لا أحد إلا وفي في آبائه من يستحق العقاب وإذا هلكوا جميعا وبطل نسلهم لا يبقى أحد من الناس وحينئذ يهلك الدواب لأنها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله تعالى : خلق لكم ما في الأرض جميعا وبتخصيص الناس يسقط الإستدلال بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام وقال بعض المحققين : لا حاجة إلى التخصيص في ذلك والآية من باب بنو تميم قتلوا قتيلا لتظاهر الأدلة والنصوص على عصمة الأنبياء عليهم السلام فلا يقال : الأصل الحمل على الحقيقة
واستدل بعضهم للتخصيص بقوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات وألا يفسد التقسيم وقد يقال : إنه ما أحد إلا وهو متصف بظلم إلا أن مرتبه مختلفة فحسنات الأبرار سيئات المقربين والعصمة التي تدعي للأنبياء عليهم السلام إنما هي العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى غيرهم وأما العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى مقامهم ومرتبتهم فلا تدعى لهم إذ قد وقع ذلك منهم كما يشهد به كثير من الآيات وأخرج ابن مردوية عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو أن الله تعالى يؤاخذني وعيسى ابن مريم بذنوبنا وفي لفظ بما جنت هاتان الإبهام والتي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئا نعم أنه لا يقال لنبي هو ظالم ولا للأنبياء عليهم السلام هم ظالمون ويقال الناس ظالمون وهذا نظير قولهم : لا يقال لله سبحانه خالق القردة والخنازير ويقال هو خالق كل شيء ورب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا وأمر التقسيم هين عند المتأمل فليتأمل ومن الناس من احتج بالآية على أن أصل المضار الحرمة إذ لو كان الضرر مشروعا فإما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء على جرم أو لا وكلا القسمين باطل أما الأول فللآية وذلك من وجهين
الأول أنها لمكان لو تقتضي أن تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة الثاني أن مقتضى المؤاخذة عدم ترك دابة على ظهرها ونحن نشاهد أنه سبحانه قد ترك كثيرا من الدواب فيجب القطع بأنه تعالى لم يؤاخذ بالظلم وأما الثاني فباطل بالإجماع فثبت بمقتضى الآية تحريم المضار ويؤكد ذلك آيات أخر وأخبار وحينئذ يقال : إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من جميع الوجوه فإن وجدنا نصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا قضينا بالحرمة بناء على الأصل الذي قرر واستدل بها المعتزلة على أن العباد خالقون لأفعالهم ووجه مع رده غني عن البيان ولكن لا يؤاخذهم بذلك بل يؤخرهم إلى أجل مسمى سماه سبحانه وعينه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا أو يكثر عذابهم فإذا جاء أجلهم المسمى لا يستأخرون عنه ساعة أقل مدة ولا يستقدمون
61
- عليه وقد مر الكلام في نظيرها ويجعلون لله أي يثبتون
(14/171)

له سبحانه وينسبون إليه بزعمهم ما يكرهون الذي يكرهونه لأنفسهم من البنات والتعبير بما عند أبي حيان على إرادة النوع وهذا على ما سمعت تكرير لما سبق تثنيته للتقريع وتوطئة لقوله تعالى : وتصف ألسنتهم الكذب أي يجعلون لله تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو أن لهم الحسنى أي العاقبة عند الله عز و جل ولا يتعين إرادة الجنة
وعن بعضهم أن المراد بها ذلك بناء على أن منهم من يقر بالبعث وهذا بالنسبة لهم أو أنه على الفرض والتقدير كما روي أنهم قالوا : إن كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم صادقا في البعث فلنا الجنة بما نحن عليه قيل : وهو المناسب لقوله تعالى الآتي : لا جرم أن لهم النار لظهور دلالته على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة فلا يرد أنهم كيف قالوا ذلك وهم منكرون بالبعث وعن مجاهد أنهم أرادوا بالحسنى البنين وليس بذاك وقال بعض المحققين : المراد بما يكرهون أعم مما تقدم فيشمل البنات وقد علم كراهتهم لها وإثباتها لله تعالى بزعمهم والشركاء في الرياسة فإن أحدهم لا يرضى أن يشرك في ذلك ويزعم الشريك له سبحانه والإستخفاف برسل الله تعالى عليهم السلام فإنهم يغضبون لو استخف برسول لهم أرسلوه في أمر لغيرهم ويستخفون برسل الله تعالى عليهم السلام وأراذل الأموال فإنهم كانوا إذا رأوا ما عينوه لله تعالى من أنعامهم أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها ولو فعل نحو ذلك معهم غضبوا وعلى هذا يفسرا لجعل بما يعم الزعم والإختيار و ما تعم القلاء وغيرهم ولا يخلو الكلام من نوع تكرير والمراد من تصف ألسنتهم الكذب يكذبون وهو من بليغ الكلام وبديعه ومثله قولهم : عينها تصف السحر أي ساحرة وقدها يصف الهيف أي هيفاء وقول أبي العلاء المعري : سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك والظاهر أن الكذب مفعول تصف و أن لهم بدل منه أو بتقدير بأن لهم ولما حذفت الباء صار في موضع نصب عند سيبويه وعند الخليل هو في موضع جر وجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف كما أشرنا إليه في بيان المعنى وجوز أبو البقاء كون الكذب بدلا مما يكرهون وهو كما ترى وقرأ الحسن ومجاهد باختلاف ألسنتهم بإسقاط التاء وهي لغة تميم واللسان يذكر ويؤنث قيل : ويجمع المذكر على ألسنة نحو وأحمرة والمؤنث على ألسن كذراع وأذرع وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام الكذب بثلاث ضمات وهو جمع كذوب كصبر وصبور وهو مقيس وقيل : جمع كاذب نحو شارف وشرف وهو غير مقيس ورفعه على أنه صفة الألسنة و أن لهم الحسنى حينئذ مفعول تصف لا جرم أي حقا أن لهم مكان ما زعموه من الحسنى النار التي ليس وراء عذابها عذاب وهي علم في السوأي وكلمة لا رد لكلام و جرم بمعنى كسب و أن لهم في موضع نصب على المفعولية أي كسب ما صدر منهم أن لهم ذلك
وإلى هذا ذهب الزجاج وقال قطرب : جرم بمعنى ثبت وجب و أن لهم في موضع رفع على الفاعلية له وقيل : لا جرم بمعنى حقا و أن لهم فاعل حق المحذوف وقد مر تمام الكلام في ذلك وحلا وقرأ الحسن وعيسى بن عمر إن لهم بكسر الهمزة وجعل الجملة جواب قسم أغنت عنه لا جرم وكذا قرءا بالكسر في قوله تعالى : وأنهم مفرطون
62
- أي مقدمون معجل بهم إليها على ما روي عن الحسن وقتادة من أفرطته إلى كذا قدمته إلى كذا قدمته
(14/172)

وهو معدي بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه ومنه أنا فرطكم على الحوض أي متقدمكم وكثيرا ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح نحو دلو فارط وفرط وأنشدوا للقطامي : واستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد وقال مجاهد وابن جبير وابن أبي هند : أي متركون في النار منسيون فيها أبدا من أفرطت فلانا خلفي إذا تركته ونسيته وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو رجاء وشيبة ونافع وأكثر أهل المدينة مفرطون بكسر الراء اسم فاعل من أفرط اللازم إذا تجاوز أي متجاوز الحد في معاصي الله تعالى وقرأ أبو جعفر مفرطون بتشديد الراء وكسرها من فرط في كذا إذا قصر أي مقصرون في طاعة الله تعالى وعنه أنه قرأ مفرطون بتشديد الراء وفتحها من فرطته المعدي بالتخفيف من فرط بمعنى تقدم أي مقدمون إلى النار
تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك تسلية للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عما كان يناله من جهالات قومه الكفرة ووعيد لهم على ذلك ولا يخفى ما في ذلك من عظيم التأكيد أي أرسلنا رسلا إلى أمم من قبل أمتك أو من قبل إرسالك إلى هؤلاء فدعوهم إلى الحق فزين لهم الشيطان أعمالهم القبيحة فلم يتركوها ولم يمتثلوا دعوة الرسل عليهم السلام وقد تقدم الكلام في نسبة التزيين إلى الشيطان فهو وليهم أي قرين الأمم وبئس القرين أو متولي إغوائهم وصرفهم عن الحق اليوم أي يوم زين الشيطان أعمالهم فيه وهو وإن كان ماضيا واليوم المعرف معروف في زمان الحال كالآن لكن صور بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها وسمي مثل ذلك حكاية الحال الماضية وهو استعارة من الحضورة الخارجي للحضور الذهني أو المراد باليوم مدة الدنيا لأنها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما أي فهو وليهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم
63
- وهو عذاب النار وقد ورد إطلاق اليوم على مدتها كثيرا فهو مجاز متعارف وليس فيه حكاية لما مضى أو يوم القيامة الذي فيه عذابهم لكن صور بصورة الحال استحضارا له كما في الوجه الأول إلا أنه حكاية حال آتية وهي الأول حكاية حال ماضية وليس من مجاز الأول والولي على هذا بمعنى الناصر أي لا ناصر لهم في ذلك غيره وهو نفي للناصر على أبلغ وجه على حد قوله : وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس ولا يجوز أن يكون بمعنى المتولي للإغواء إذ لا إغواء ثمة ولا بمعنى القرين لأنه في الدرك الأسفل من النار وجوزه بعضهم باعتبار أنه معهم في النار في الجملة ولا يضر اختلافهم في الدركات والظاهر أن ضمائر الجمع كلها للأمم كما أشرنا في بعضها وجوز الزمخشري أن يكون ضمير وليهم المضاف إليه لقريش لا للأمم و اليوم بمعنى الزمان الذي وقع فيه الخطاب أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم
وأن يكون الضمير للمتقدمين والكلام على حذف مضاف أي ولي أمثالهم والمراد من الأمثال قريش
وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه بعدا لاختلاف الضمائر من غير داع إليه ولا إلى تقدير المضاف ورد بأن لفظ اليوم داع إليه وقال الطيبي : إنه الوجه وعليه النظم الفائق لأن في تصدير القسمية بقوله تعالى :
(14/173)

تالله بعد إنكارهم الرسالة وتعداد قبائحهم الإشعار بأن ما ذكر كالتسلية للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فكأنه قيل : إن الأمم الخالية مع الرسل السالفة لم تزل على هذه الوتيرة تلك أسوة بالرسل عليهم السلام وقومك خلف لتلك الأمم فلا تهتم لذلك فإن ربك ينتقم لك منهم في الدنيا والآخرة فاشتغل أنت بتبليغ ما أنزل إليك وتقرير أنواع الدلائل المنصوبة على الوحدانية وبالتنبيه على إقامة الشكر على نعم الله تعالى المتظاهرة أه
وقال في الكشف : لا ترجيح لهذا الوجه من حيث التسلي إذ الكل مفيد لذلك على وجه بين وإنما الترجيح للوجه الصائر إلى استحضار الحال لما فيه من مزيد التشفي أه والحق أن ما ذكره الزمخشري غير ظاهر وما قيل : إن لفظ اليوم داع إليه ففي حيز المنع وقصارى ما يقال : وجود القرينة المصححة لا المرجحة هذا وذكر في الكشف في بيان ربط الآيات أن قوله سبحانه : ويجعلون لما لا يعلمون إلى هذا الموضع فن آخر من كفرانهم وتعداد قبائحهم وجاز أن يكون من تتمة سابقه على منوال وما بكم من نعمة فمن الله إلا أنه بني على الغيبة دلالة على أنه فن آخر وهذا قريب المتناول وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى : وأقسموا بالله فإن ما وقع من الكلام بعده من تتمته اعتراضا واستطرادا كأنه قيل : ذاك معقتدهم في المعاد وهذا في المبدأ وهم فيما بين ذلك متدينون بهذا الدين القويم ومع اختلاف العقيدة في المبدأ والمعاد يدعون أن لهم الحسنى فيحق لهم ضد ذلك حقا ثم قال : وقوله تعالى وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه شديد الملائمة على هذا الوجه لقوله سبحانه هنالك : ليبين لهم الذي يختلفون فيه ولقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وفيه أن من استبان له الهدى بهذا البيان استغنى عن ذلك البيان حيث لا ينفعه إلا العلم بكذبه وهذا أنسب لتأليف النظم أه
وأنت تعلم أن احتمال العطف بعيد والمراد بالكتاب القرآن فإنه الحقيقي بهذا الاسم والإستثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلة من العلل إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من البعث وقد كان فيهم من يؤمن به وأشياء من التحليل والإقرار والإنكار مقتضي رجوع الضمائر السابقة إلى الأمم السالفة أن يرجع ضمير إليهم و اختلفوا إليهم أيضا لكن منع عنه عدم تأتي تبيين الذي اختلفوا فيه لهم فمنهم من جعله راجعا إلى قريش لأن البحث فيهم ومنهم من جعله راجعا إلى الناس مطلقا لعدم اختصاص ذلك بقريش ويدخلون فيه دخولا أوليا
وهدى ورحمة عظيمين لقوم يؤمنون
64
- خصهم بالذكر لكونهم المغتنمين آثاره والإسمان قال أبو حيان : في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله والناصب أنزلنا ولما اتحد الفاعل في العلة والمعلول وصل الفعل لهما بنفسه ولما لم يتحد في لتبين لأن فاعل الإنزال هو الله تعالى لا الرسول عليه الصلاة و السلام وصلت العلة بالحرف
وقال الزمخشري : هما معطوفان على محل لتبين هو ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه ألا ترى أنه لو نصب لم يجز لاختلاف الفاعل أه وتعقب بأن معنى كونه في محل نصب أنه في محل لو خلا من الموانع ظهر نصبه وهو هنا كذلك لمن تأمل فقوله : ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا ليس على ما ينبغي
وقال الحلبي : إن ذلك ممنوع إذ لا خلاف في أن محل الجار والمجرور والنصب ولذا أجازوا مررت بزيد وعمرا بالعطف على المحل وللخفاجي ههنا كلام إن أردته فارجع إليه وراجع ولعله إنما قدمت علة التبيين على علتي الهدى والرحمة
(14/174)

لتقدمه في الوجود عليهما والله أنزل من السماء ماء تقدم الكلام في مثله وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيد لمضمونه وتوحيدا لما يعقبه من أدلة التوحيد فأحيا به الأرض بما أنبت به فيها من أنواع النباتات بعد موتها بعد يبسها فالإحياء والموت استعارة للإنبات واليبس وليس المراد إعادة اليابس بل إنبات مثله والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة ونظير ذلك تزوج فولد له ولد والآية دليل لمن قال : إن المسببات بالأسباب لا عندها ومن قال به أول إن في ذلك أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الميتة لآية وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته جل شأنه والإشارة بما يدل على العبد إما لتعظيم المشار إليه أو لعدم ذكره صريحا لقوم يسمعون
65
- قال المولى ابن الكمال : أريد بالسمع القبول كما في سمع الله لمن حمده أي لقول يتأملون فيها ويعقلون وجه دلالتها ويقبلون مدلولها وإنما خص كونها آية لهم لأن غيرهم لا ينتفع بها وهذا كالتخصيص في قوله تعالى هدى ورحمة لقوم يؤمنون وبما قررناه تبين وجه العدول عن يبصرون إلى يسمعون انتهى وقال الخفاجي : اللائق بالمقام ما ذكره الشيخان وبيانه أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل إلى الأمم السالفة رسلا وكتبا فكفروا بها فكان لهم خزي في الدنيا والآخرة عقبه بأنه أرسله صلى الله عليه و سلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة لمن أرسل إليه إشارة إلى أن مخالفة أمته لمن قبلهم تقربهم من سعادة الدارين وتبشير له عليه الصلاة و السلام بكثرة متابعيه وقلة مناويه وأنهم سيدخلون في دينه أفواجا أفواجا ثم أتبع ذلك على سبيل التمثيل لإنزاله تلك الرحمة التي أحيت من موتة الضلال إنزال الأمطار التي أحيت موات الأرض وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ولولا هذا لكان قوله تعالى : والله أنزل من السماء ماء كالأجنبي عما قبله وبعده وقوله سبحانه : أن في ذلك لآية الخ تتميم لقوله تعالى : وما أنزلنا الخ وللمقصود بالذات منه فالمناسب يسمعون لا يبصرون ولو كان تتميما لملاصقه من الإنبات لم يكن ليسمعون بمعنى يقبلون مناسبة أيضا ثم قال : ومن لم يقف على محط نظرهم قال في جوابه : يمكن أن يحمل على يسمعون قولي والله أنزل الخ فإنه مذكر وحامل على تأمل مدلوله انتهى وفي قوله عقبه : بأنه أرسله صلى الله عليه و سلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة إشارة الخ خفاء كما لا يخفى ومتى كان تتميما لقوله تعالى : وما أنزلنا الخ يظهر جعل المشار إليه ما سمعت وهو الظاهر وفي البحر أنه تعالى لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة للأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله سبحانه لقوم يؤمنون أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر سبحانه إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب بقائها ثم أشار سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى : أو من كان ميتا فأحييناه فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل ولذلك ختم تعالى بقوله سبحانه : يسمعون أي يسمعون هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع إنصاف وتدبر ولملاحظة هذا المعنى والله تعالى أعلم لم يختم سبحانه بلقوم يبصرون وإن كان إنزال المطر مما يبصرون ويشاهد انتهى
وفيه أيضا من التكلف ما فيه وأقول : لعل الأظهر أن المشار إليه ما ذكر من الإنزال والإحياء والسماء على ظاهره والكلام تتميم لملاصقه والعدول عن يبصرون إلى يسمعون للإشارة إلى ظهور هذا المعتبر فيه وأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط ويكفي في ربط الآية بما قبلها تشارك الكتاب والمطر
(14/175)

في الإحياء لكن ذاك إحياء القلوب وفي هذا إحياء الأرض الجدوب فتأمل وإن لكم في الأنعام لعبرة أي معبرا يعبر به من الجهل إلى العلم وأصل معنى العبر والعبور التجاوز من محل إلى آخر قال الراغب : العبور مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها والمشهور عمومه فإطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة نسقيكم استئناف بياني كأنه قيل كيف العبرة فيها فقيل : نسقيكم مما في بطونه ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه وضمير بطونه للأنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه ولذا جاء بالوجهين في القرآن وكلام العرب كذا قيل
ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفردا وكلامه رحمه الله تعالى متناقض ظاهرا فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه : وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت الواحد ألا ترى أنك تقول : أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد وأياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد إليه إذا فسر للجمع وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت ثم قال : وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس فإنك تخرجه إلى فعائل كما تقول جدود وجدائد وركوب وركائب ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء ويقوي ذلك أن بعض العرب تقول : أتى للواحد فيضم الألف وأما أفعال فقد يقع للواحد ومن العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه : نسقيكم مما في بطونه وقال أبو الخطاب : سمعت العرب تقول : هذا ثوب أكياس انتهى
وقال رحمه الله تعالى في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعال ولا أفعل ولا أفعال إلا أن تكسر عليه أسماء للجمع انتهى وقد اضطرب الناس في التوفيق بين كلاميه فذهب أبو حيان إلى تأويل الأول وإبقاء الثاني على ظاهره من أن أفعالا لا يكون من ابنيته المفرد فحمل قوله أولا وأما أفعال فقد يقع للواحد الخ : على أن بعض العرب قد يستعمله فيه مجازا كالأنعام بمعنى النعم كما قال الشاعر : تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي وليس مراده أنه مفرد صيغة ووضعا بدليل ما صرح به في الموضع الآخر من أنه لا يكون إلا جمعا واعترض عليه بأن مقصود سيبويه بما ذكره أولا الفرق بين صيغتي منتهى الجموع وأفعال وفعول حيث منع الصرف للأول دون الثاني بوجوه منها أن الأولين لا يقعان على الواحد بخلاف الآخيرين كما أوضحه فلو لم يكن وقوع أفعال على الواحد بالوضع لم يحصل الفرق فلا يتم المقصود نعم لا كلام في تدافع كلاميه وأيضا لو كان كذلك لم يختص بعضهم وأيضا أن التجوز بالجمع عن الواحد يصح في كل جمع حتى يصغتي منتهى الجموع وتعقبه الخفاجي بقوله : والحق أنه لا تدافع بين كلاميه فإنه فرق بين صيغتي منتهى الجموع والصيغتين الأخيرتين بأن الأوليتين لا تجمعان والأخيرتان تجمعان فاشبهتا الآحاد ثم قوى ذلك بأن قوما من العرب استعملت أتى وهو على وزن فعول مفردا حقيقة ومنهم من استعمل الأنعام وهو على وزن أفعال كذلك وقد أشار إلى أن ذلك لغة نادرة ببعض ومن وما ذكره بعد بناء اللغة المتداولة وقوله : إن مقصوده أولا الفرق بوجوه لا وجه له كما يعرفه
(14/176)

حملة الكتاب انتهى ويعلم منه أن رجوع الضمير المفرد المذكر إلى الأنعام عند سيبويه باعتبار أنه مفرد على لغة بعض العرب ومن قال : إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض أما المقدر أي بعض الأنعام أو المفهوم منها أو للأنعام باعتبار بعضها وهو الإناث التي يكون اللبن منها أو لواحده كما في قول ابن الحاجب : المرفوعات هو ما شتمل على علم الفاعلية أو له على المعنى لأن الجنسية تسوي بين المفرد والجمع في المعنى فيجوز عود ضمير كل منهما على الآخر وفي البحر أعاد الضمير مذكرا مراعاة الجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكرا كقولهم هو أحسن الفتيان وأبتله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه وقيل جمع التكثير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع فيعود الضمير عليه مفردا كقوله
مثل الفراخ نتفت حواصله
وقال الكسائي : أفرد وذكر على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كقوله : فيها خطوط من سواد وباق كأنه في الجلد توليع البهق وهو في القرآن سائغ ومنه قوله تعالى : إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازي فلا يجوز جاريتك ذهب واعترض بأنه كيف جمع نعم وهي تختص بالإبل والأنعام تقال للبقر والإبل والغنم مع أنه لو اختص كان مساويا وأجيب بأن من يراه جمعا له يخص الأنعام أو يعمم النعم ويجعل التفرقة ناشئة من الإستعمال ويجعل الجمع للدلالة على تعدد الأنواع
وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه والحسن وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن عامر ونافع وأبو بكر وأهل المدينة نسقيكم بفتح النون هنا وفي المؤمنين على أنه مضارع سقى وهو لغة في أسقى عند جمع وأنشدوا قول لبيد سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال وقال بعض : يقال سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه وقيل : سقاه بمعنى رواه بالماء وأسقاه بمعنى جعله معدا له وفيه كلام بعد فتذكر وقرأ أبو رحاء يسقيكم بالياء مضمومة والضمير عائد على الله تعالى
وقال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون عائدا على النعم وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث والمعنى وإن لكم في الأنعام نعما يسقيكم أي يجعل لكم سقيا وهو كما ترى وقرأت فرقة منهم أبو جعفر تسقيكم بالتاء الفوقية مفتوحة قال ابن عطية : وهي قراءة ضعيفة انتهى ولم يبين وجه ضعفها وكأنه والله تعالى أعلم به اجتماع التأنيث في تسقيكم والتذكير في بطونه وغفل أن مثل ذلك لا يعد ضعفا لأن للتأنيث والتذكير باعتبار وجهين
من بين فرث ودم لبنا الفرث على ما في الصحاح السرجين مادام في الكرش والجمع فروث وفي البحر كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعي و بين تقتضي متعددا وهو هنا الفرث والدم فيكون مقتضي النظم توسط اللبن بينهما وروي ذلك الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إن البهيمة إذا اعتلفت وأنضج العلف في كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما
وروي نحوه عن ابن جبير فالبينة على حقيقتها وظاهرها وتعقب ذلك الإمام الرازي بقوله : ولقائل أن يقول : اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحس فإن الحيوانات تذبح دائما ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده
(14/177)

لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل إلى معدته وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها وإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل في الكبد ينضج ويصير دما وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة والعروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم فيه إلى صورة اللبن لا يقال : إن هذه المعنى حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن لأنا نقول : الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فأوجبت أن يكون مزاج الذكر حارا يابسا ومزاج الأنثى باردا رطبا فإن الولد إنما يتولد في داخل بدن الأنثى فكان اللائق بها اختصاصها بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد فتتسع للولد ثم إن تلك الرطوبة بعد افصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لغذائه كما كانت كذلك قبل في الرحم ومن تدبير في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الإخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتستخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الإعتراف بكمال علمه سبحانه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته ورحمته حكم حارت البرية فيها وحقيق بأنها تحتار وحاصل ما ذكروه أنه إذا ورد الغذاء الكرش انطبخ فيه وتميزت منه أجزاء لطيفة تنجذب إلى الكبد فينطبخ فيها فيحصل الدم فتسري أجواء منه إلى الضرع ويستحيل لبنا بتدبير الحكيم العليم وحينئذ فالمراد أن اللبن إنما يحصل من بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل المراد بما روي عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يعذو البدن فإن عدم تكوينهما في الكرش مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس ولما ذكره الحكماء أهل الترشيح ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به من أثق به أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند المبالغة في الحلب والله تعالى أعلم و من الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما سمعت وهي متعلقة بنسقيكم و من الثانية ابتدائية وهي أيضا متعلقة بنسقيكم فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما و لبنا مفعول ثان لنسقيكم وتقديم ذلك عليه لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكنه عند وروده عليهما لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراآى ناراهما فإن ذلك يزيد الشوق والإستشراق في المؤخر وجوز أن يكون من بين حالا من لبنا قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة
وجوز أن تكون من الأولى ابتدائية كالثانية فيكون من بين بدل اشتمال مما تقدم خالصا مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه أو صافيا لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة الفرث سائغا للشاربين
66
(14/178)

سهل المرور في حلقهم لدهنيته أخرج ابن مردوية عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ما شرب أحد لبنا فشرق إن الله تعالى يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين
وقرأت فرقة سيغا بتشديد الياء وقرأ عيسى بن عمر سيغا مخففا من سيغ كهين المخفف من هين واستدل بالآية على طهارة لبن المأكول وإباحة شربه وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر على من جعله نجسا لجريه في مسلك البول بها أيضا وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرا وفي التفسير الكبير قال أهل التحقيق : اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار يدل على إمكان الحشر والنشر وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرا انقلب به لبنا ثم دبر تدبيرا آخر حدث من ذلك اللبن الدهن والجبن وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الإعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع
ومن ثمرات النخيل والأعناب متعلق بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه وقوله تعالى : تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا بيان وكشف عن كنة الإسقاء أو يتخذون و منه من تكرير الظرف للتأكيد كما في قولك زيد في الدار فيها أو خبر لمحذوف صفته تتخذون أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه وضمير منه عائد إما على المضاف المقدر أو على الثمرات المؤولة بالثمر لأنه جمع معرف أريد به الجنس وفائدة الصيغة الإشارة إلى تعداد الأنواع أو على ثمر المقدر و السكر الخمر قال الأخطل : بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر وهو في الأصل مصدر سكر سكرا وسكرا نحو وشد رشدا ورشدا واستشهد له بقوله : وجاؤنا بهم سكر علينا فأجلى اليوم والسكران صاحي وفسروا الرزق الحسن بالخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك وإليه ذهب صاحب الكشاف وقد ذكر في توجيه إعرابها ما ذكرناه وقدم الوجه الأول من أوجهه الثلاثة وهو ظاهر في ترجيحه وصرح به الطيبي وبينه بما بينه وأخر الثالث وهو ظاهر في أنه دون أخويه وفي الكشف بعد نقل كلامه في الوجه الأول فيه إضمار العصير وأنه لا يصلح عطفا في الظاهر على السابق لأنه لا يصلح بيانا للعبرة في الأنعام وفيه أن تتخذون لا يصلح كشفا عن كنه الإسقاء كيف وقد فسر الرزق الحسن بالتمر والزبيب أيضا وأي مدخل للعصير وأين هذا البيان من البيان بقوله تعالى : نسقيكم ليجعل مدركا لترجيحه فهذا وجه مرجوح مؤول بأنه عطف على مجموع السابق وأوثر الفعلية لمكان قربه من نسقيكم وقوله تعالى : تتخذون منه سكرا ثم البيان عنده ثم أتى بفائدة زائدة وأظهر الأوجه ماذكر آخر أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون ليكون عطفا للإسمية على الأسمية أعني قوله تعالى وإن لكم في الأنعام لعبرة ولما لم يكن العبرة فيه كالأول اكتفى بكونه عطفا على ما هو عبرة ولم يصرح وأفيد بالتبعيض
(14/179)

أن من ثمراتها ما يؤكل قبل الإدراك وما يتلف ويأكل الوحوش وغير ذلك أه وما ذكره في التأويل من بيان البيان عند سكرا محوج إلى جعل رزقا معمولا لعامل آخر ولا يخفى بعده والظاهر أنه لا ينكره وما ذكره من الوجه الأظهر ذكره الجوفي كصاحبه ولا يرد عليه أن فيه حذف الموصوف بالجملة لأن ذلك إذا كان الموصوف بعضا من مجرور من أوفى المقدم عليه مطرد نحو منا أقام ومنا ظعن أراد فريق وقد يحذف موصوفا بالجملة في غير ذلك كقول الراجز : مالك عندي غير سهم وحجر
وغير كبداء شديد الوتر
جادت بكفي كان من أرمي البشر أراد رجل نعم قال الطبري : التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه وتعقبه أبو حيان بأن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين وكأنه اعتبر ما موصولة وحذف الموصول مع إبقاء الصلة لا يجوز عنهم ولعلهم يفرقون بين الموصول والموصوف فيما ذكر وقال العلامة ابن كمال في بعض رسائله : لا وجه لما اختاره صاحب الكشاف يغني به تعليق الجار بنسقيكم محذوفا وتقدير العصر مضافا لأنه حينئذ لا يتناول المأكول وهو أعظم صنفي ثمراتهما يعني النخيل والأعناب والمقام والإمتنان ومقتضاه استيعاب الصنفين ثم قال : والعجب منه وممن اتبعه كالبيضاوي كيف اتفقوا على تفسير الرزق الحسن بما ينتظم التمر والزبيب ومع ذلك يقولون : إن المعنى ومن عصيرهما تتخذون سكرا ورزقا حسنا فإنه لا انتظام بين هذين الكلامين فالوجه أن يتعلق الجار بتتخذون ويكون منه تكرير الظرف للتأكيد أه وهو الذي استظهره أبو حيان وقد سبقت الإشارة إلى الإعتراض بما تعجب منه مع الجواب بما فيه بعد ونقل عنه أنه جعل متعلقا بما في الإسقاء من معنى الإطعام أي نطعمكم من ثمرات النخيل والأعناب لينتظم المأكول منهما والمشروب المتخذ من عصيرهما وفيه من البعد ما فيه
وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول عند من يراه لازم وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضا ولا يجوز عند المعترض واختار أبو البقاء تعليقه بخلق لكم أو جعل وليس بذاك وقيل : إنه معطوف على الإنعام على معنى ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة وتتخذون بيان لها وهو غير الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر في بدل من ضمير منه لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت خبرا بما قيل في ضمير بطونه وتفسير السكر بالخمر هو المروي عن ابن مسعود وابن عمر وأبي رزين والحسن ومجاهد والشعبي والنخعي وابن أبي ليسلى وأبي ثور والكلبي وابن جبير مع خلق آخرين والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة إتفاقا واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها وروي ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وابن جبير وقيل : نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن السكر المطعوم المتفكه به كالنقل وأنشد
جعلت إعراض الكرام سكرا
وتعقب بأن كون السكر في ذلك بمعنى الخمر أشبه منه بالطعام والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتمزيق الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة وكأنه لهذا قال الزجاج : إن قول أبي عبيدة لا يصح وفيه أن المعروف في الغيبة جعلها نقلا ولذا قيل : الغيبة فاكهة القراء وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا : المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الإمتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر
(14/180)

من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا هذا من السنة بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : حرم الله تعالى الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب أخرجه الدارقطني وإلى حل شرب النبيذ مالم يصل إلى الإسكار ذهب إبراهيم النخعي : وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه وسفيان الثوري وهو من تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره والبيضاوي بعد أن فسر السكر بالخمر تردد في أمر نزولها فقال : إلا أن الآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة ووجه دلالتها على الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابلة الحسن وهو مقتض لقبحها والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة واعترض عليه بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة البقرة حيث ساق الكلام على القطع على أنه جزم في أول هذه السورة بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها وفي الكشاف بعد أن فسر السكر أيضا بما ذكر قال : وفيه وجهان أحدهما أن تكون منسوخة والثاني أن يجمع بين العتاب والمنة ونقل الكشف أن القول بكونها منسوخة أولى الأقاويل ثم قال : وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة وعلى الأول يكون رمزا إلى أن السكر وإن كان مباحا فهو مما يحسن اجتنابه أه واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم بأن المقام لا يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على مادل عليه سياقه ولحاقه في تعداد النعم العظام وذكر أن كلام الزمخشري ومن تبعه ناشيء عن الغفلة عن هذا ولعل عدم وصف السكر بما وصف به ما بعده لعلم الله تعالى أنه سيكون رجسا يحكم الشرع بتحريمه وجوز الزمخشري أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل : تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي على أن العطف من عطف الصفات وأنت تعلم أن العطف ظاهرة المغايرة
وهذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه إضافه سبحانه لنفسه بقوله تعالى : نسقيكم بخلاف اتخاذ السكر وقد صرح بذلك في البحر فتأمل إن في ذلك لآية باهرة لقوم يعقلون
67
- يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات فالفعل منزلة اللازم قال أبو حيان : ولما كان مفتتح الكلام وإن لكم في الأنعام لعبرة ناسب الختم بقوله سبحانه : لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول وأنا أقول : إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث أن العقار كما قيل للعقول عقال : إذا دارها بالأكف السقاة لخطابها أمهروها العقولا فأفهم ذاك والله تعالى يتولى هداك وأوحى ربك إلى النحل ألهمها وألقى في روعها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير وفسر بعضهم الإحياء إليها بتسخيرها أريد منها ومنعوا أن يكون المراد حقيقة الإحياء لأنه إنما يكون للعقلاء وليس التحل منها نعم يصدر منها أفعال ويوجد فيها أحوال يتخيل بها أنها ذوات عقول وصاحبة تقصر عنه الفحول فتراها يكون بينها واحد كالرئيس هو أعظمها جثة يكون ناقد الحكم على سائرها والكل يخدمونه ويحملون عنه وسمي اليعسوب والأمير وذكروا أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت بجمعيتها إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا لها الطبول وآلات الموسيقى
(14/181)

ورودها بواسطة تلك الألحان إلى وكرها وهي تبني البيوت من أضلاع متساوية والعقلاء لا يمكنهم ذلك إلا بآلات مثل المسطرة والفرجار وتختارها على غيرها من البيوت المشكلة بأشكال أخر كالمثلثات والمربعات والمخمسات وغيرها وفي ذلك سر لطيف فإنهم قالوا : ثبت في الهندسة أنها لو كانت مشكلة بأشكال أخر يبقى فيما بينها بالضرورة فرج خالية ضائعة ولها أحوال كثيرة عجيبة غير ذلك قد شاهدها كثيرة من الناس وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى والصوفية على ما ذكره الشعراني في غير موضع لا يمنعون إرادة الحقيقة وقد أثبتوا في سائر الحيوانات رسلا وأنبياء والشرع يأبى ذلك وذهب بعض حكماء الإشراق إلى ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وأكاد أسلم لهم ذلك ولم نسمع عن أحد غير الصوفية القول بما سمعت عنهم والنحل جنس واحده نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال سبحانه : أن اتخذي وقرأ ابن وثاب النحل بفتحتين وهو يحتمل أن يكون لغة وأن يكون إتباعا لحركة النون و أن إما مصدرية بتقدير باء الملابسة أي بأن اتخذي أو تفسيرية وما بعدها مفسر للإيحاء لأن فيه باعتبار معناه المشهور معنى القول دون حروفه وذلك كاف في جعلها تفسيرية وقد غفل عن ذلك أبو حيان أو لم يعتبره فقال : إن في ذلك نظرا لأن الوحي هنا بمعنى الإلهام إجماعا وليس في الإلهام معنى القول من الجبال بيوتا أوكارا وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه تشبيها له بما يبنيه الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة كما سمعت : وقريء بيوتا بكسر الباء لمناسبة الياء وإلا فجمع فعل على فعول بالضم
ومن الشجر ومما يعرشون
68
- أي يعرشه الناس أي يرفعه من الكروم كما روي عن ابن زيد وغيره أو السقوف كما نقل عن الطبري أو أعم منهما كما قال البعض و من في المواضع الثلاثة للتبعيض بحسب الإفراد وبحسب الأجزاء فإن النحل لا يبنى في كل شجر وكل جبل وكل ما يعرش ولا في كل مكان من ذلك وبعضهم قال : إن من للتبعيض بحسب الإفراد فقط والمعنى الآخر معلوم من خارج لا من مدلول من إذ لا يجوز استعمالها فيهما ولمولانا ابن كمال تأليف مفرد في المسئلة فليراجع وأياما كان ففيه مع ما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى من البديع صنعة الطباق وتفسير البيوت بما تبنيه هو الذي ذهب إليه غير واحد وقال أبو حيان : الظاهر أنها عبارة عن الكوي التي تكون في الجبال وفي متجوف الأشجار والخلايا التي يصنعها ابن آدم للنحل والكوي التي تكون في الحيطان ولما كان النحل نوعين منه ما مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهد في الخلايا ونحوها شمل الأمر بالإتخاذ البيوت النوعين
ثم كلي من كل الثمرات أي من جميعها وهي جمع ثمرة محركة حمل الشجر وأخذ بظاهر ذلك ابن عطية فقال : إنما تأكل النوار من الأشجار وتقال الثمرة للشجرة أيضا كما في القاموس وقيل : وهو المناسب هنا إذا التخصيص بحمل الشجر خلاف الواقع لعموم أكلها للأوراق والأزهار والثمار وتعقب بأنه لا يخفي أن إطلاق الثمرة على الشجرة مجاز غير معروف وكونها تأكل من غيرها غير معلوم وغير مناف للإقتصار على أكل ما ينبت فيها والعموم في كل على ما يشير إليه كلام البعض عرفي وجوز أن يكون نخصوصا بالعادة أي كلي من كل ثمرة تشتهينها وقيل : كل للتكثير قال الخفاجي : ولو أبقى على ظاهره أيضا جاز لأنه لا يلزم
(14/182)

من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها لأن الأمر للتخلية والإباحة وأياما فمن للتبعيض
وقال الإمام : رأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء ظل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد تكون تلم الأجزاء لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث بجتمع منها أجزاء محسوسة وهذا مثل الترنجبين فإنه ظل ينزل من الهواء ويجتمع على الأطراف في بعض البلدان وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى النحل حتى تلتقطه من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتغتذي به فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت به إلى بيوتها ووضعته هناك كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها فالمجتمع من ذلك هو العسل ومن الناس من يقول : إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة أشياء ثم أنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا ثم تقيئه والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة للإستقراء فإن طبيعة الترنجبين قربية من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه ظل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا ههنا وأيضا فنحن نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل حتى إذا أخرجنا العسل من بيوتها تركنا لها بقية منه لغذائها وحينئذ فكلمة من لابتداء الغاية أه وأنت تعلم أن ظاهر كلي يؤيد القول الثاني وهو أشد تأييدا له من تأييد مشابهة الترنجبين للعسل في الطعم والشكل للقول الأول لا سيما وطبيعة العسل والترنجبين مختلفة فقد ذكر بعض أجلة الأطباء أن العسل حار في الثالثة يابس في الثانية والترنجبين حار في الأولى رطب في الثانية أو معتدل نعم لتلك المشابهة يطلق عليه اسم العسل فإن ترنجبين فارسي معناه عسل رطب لاطل الندا كما زعم وإن قالوا : هو في الحقيقة طل يسقط على العاقول بفارس ويجمع كالمن ويجلب من التكرور شيء يسمى بلسانهم طنيط أشبه الأشياء به في الصورة والفعل لكنه أغلظ والأمر في مشاهدة تغذيها بالعسل سهل فإنه ليس دائميا وينقل عن الطيور التي تمكن شتاء التغذي بالرجيع ويؤيد المشهور ما روي عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه في تحقير الدنيا أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحل وجاء عنه كرم الله تعالى وجهه أيضا أما العسل فونيم ذباب وحمله على التمثيل خلاف الظاهر وعلى ذلك نظمت الأشعار فقال المعري : والنحل يجني المر من زهر الربا فيعود شهدا في طريق رضا به وقال الحريري : تقول هذا محجاج النحل تمدحه وإن ترد ذمه قيء الزنابير وأخبرني من أثق به أنه شاهد كثيرا حملها لأوراق الأزهار بفمها إلى بيوتها وهو مما يستأنس به للأكل وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضا ما يؤيده فاسلكي سبل ربك أي طرقه سبحانه راجعة إلى بيوتك بعد الأكل فالمراد بالسبل مسالكها في العود ويحكي أنها ربما أجدب عليها ما حولها فانتجعت الأماكن البعيدة للمرعى ثم تعود إلى بيوتها لا تضل عنها وفي إضافة السبل إلى الرب المضاف إلى ضميرها إشارة إلى أنه سبحانه هو المهيء لذلك والميسر له والقائم بمصالحها ومعايشها وقيل : المراد من السبل طرق الذهاب إلى مظان ما تأكل منه وحينئذ فمعنى كلي اقصدي الأكل وقيل : السبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أي فاسلكي الطرق التي ألهمك ربك في عمل العسل وقيل : مجاز عن طرق إحالة الغذاء عسلا و اسلكي متعد من
(14/183)

سلكت الخيط في الإبرة سلكا لا لازم من سلك في الطريق سلوكا ومفعوله محذوف أي فاسلكي ما أكلت في مسالكه التي يستحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك
وتعقب بأن السلك في تلك المسالك ليس فيه لها اختيار حتى تؤمر به فلا بد أن يكون الأمر تكوينيا ورد بأنه ليس بشيء لأن الإدخال باختيارها فلا يضره كون الإحالة المترتبة عليه ليست اختيارية وهو ظاهر فليس كما زعم ذللا أي مذللة ذللها الله تعالى وسهلها لك فهو جمع ذلول حال من السبل وروي هذا عن مجاهد وجعل ابن عبد السلام وصف السبل بالذلل دليلا على أن المراد بالسبل مسالك الغذاء لا طرق الذهاب أو الإياب قال : لأن النحل تذهب وتؤب في الهواء وهو ليس طرقا ذللا لأن الدلول هو الذي يذلل بكثرة الوطء والهواء ليس كذلك وفيه نظر
وقال قتادة : أي مطيعة منقادة فهو حال من الضمير في فاسلكي يخرج من بطونها استئناف عدل به عن خطاب النحل إلى الكلام مع الناس لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنع الله تعالى التي هي موضع عبرتهم بعد ما أمرت بما أمرت شراب يعني العسل وسمي بذلك لأنه مما يشرب حتى قيل : إنه لا يقال : أكلت عسلا وإنما يقال : شربت عسلا وكأنه سبحانه إنما لم يعبر بالإخراج مسندا إليه تعالى اكتفاءا بإسناد الإيحاء بالمبادي إليه جل شأنه وفيه إيذان بعظيم قدرته عز و جل بحيث أن ما يشعر بإرادة الشيء كاف في حصوله
و من لابتداء الغاية وذكر سبحانه مبدأ الغاية الأولى وهي البطون ولم يذكر سبحانه مبدأ الغاية الأخيرة والجمهور على أنه يخرج من أفواهها وزعم بعضهم أنه أبلغ في القدرة وبيت الحريري على ذلك وكذا قول الحسن : لباب البر بلعاب النحل يخالص السمن ما عابه مسلم وقيل : من أدبارها وهو ظاهر ما روي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه
وقال آخرون : لا ندري إلا ما ذكره الله تعالى وحكى أن سليمان عليه السلام والإسكندر وأرسطو صنعوا لها بيوتا من زجاج لينظروا إلى كيفية صنيعها وهل يخرج العسل من فيها أم من غيره فلم تضع من العسل شيئا حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة وقال بعضهم : المراد بالبطون الأفواه وسمي الفم بطنا لأنه في حكمه ولأنه مما يبطن ولا يظهر وهذا تأويل من ذهب إلى أنها تلتقط الذراة الصغيرة من الطل وتدخرها في بيوتها وهو العسل وأنت تعلم أن الظاهر من البطن الجارحة المعروفة فالآية تؤيد القول المشهور في تكون العسل وفي الكشف أن في قوله تعالى : ثم كلي إشارة إلى أن لمعدة النحل في ذلك تأثيرا وهو المختار عند المحققين من الحكماء ومن جعل العسل نباتيا محضا وفسر البطون بأفواه النحل فليت شعري ماذا يصنع بقوله سبحانه : ثم كلي وأجيب بأنه يفسر الأكل بالإلتقاط وهو كما ترى أن دفع الفساد لا يدفع الإستبعاد ومن الناس من زعم أنها تجتني زهرا وطلا فالمجتني من الزهر نفسه يكون عسلا والمجتني نت الطل يكون موما والعقل يجوز العكس ولعله أقرب من ذلك مختلف ألوانه بالبياض والصفرة والحمرة والسواد إما لمحض إرادة الصانع الحكيم جل جلاله وإما لاختلاف المرعى أو لاختلاف
(14/184)

الفصل أو لاختلاف سن النحل فالأبيض لفتيها والأصفر لكهلها والأحمر لمسنها والأسود للطاعن في ذلك جدا
وتعقب بأنه مما لا دليل عليه وقد سألت جمعا ممن أثق بهم قد اختبروا أحوالها فذكروا أنهم قد استقرؤا وسبروا فرأوا أقوى الأسباب الظاهرة لاختلاف الألوان اختلاف السن بل قال بعضهم : ما علمنا لذلك سببا إلا هذا بالإستقراء وحينئذ يكون ما ذكر مؤيدا للقول المشهور في تكون العسل لا يخفى على من له أدنى ذوق
فيه شفاء للناس إما بنفسه كما في الأمراض البليغة أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ يكون معجون لا يكون فيه عسل فله دخل في أكثر ما به الشفاء من المعاجين والتراكيب وقيل عليه : إن دخوله في ذلك لا يقتضي أن يكون له دخل في الشفاء بل عدم الضرر إذ قيل : إن إدخاله في التراكيب لحفظها ولذا ناب عنه ذلك السكر والذي رأيناه في كثير من كتب الطب أنه يحفظ قوى الأدوية طويلا ويبلغها منافعها ولا يخفى على المنصف أن ما يحفظ القوي ويبلغ منافع الدواء يصدق عليه أن له دخلا في الشفاء ولم يشتهر أن السكر ينوب منابه في ذلك
وفي البحر أن العسل موجود كثيرا في أكثر البلاد وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث مصنوع للبشر ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأدوية والأشربة إلا العسل أه وفي شرح الشمائل أنه عليه الصلاة و السلام لم يأكل السكر وذكر غير واحد أنه ليس بالناس هنا العموم لأن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل كأمراض الصفراء فإنه مضر للصفراوي ولو يسلم أن السكنجبين الذي هو خل وعسل كما ينبيء عنه أصل معناه نافع له والنافع نوع آخر من السكنجبين فإنه ثقل إلى ما ركب من حامض وحلو وله أنواع كثيرة ألفت في جمعها الرسائل حتى قالوا بحرمة تناوله عليه وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل في أمراضهم والتنوين في شفاء إما للتعظيم أي شفاء ولإما للتبعيض أي فيه بعض الشفاء فلا يقتضي أن كل شفاء به ولا أن كل أحد يستشفى به
ولا يرد أن اللبن أيضا كذلك بل قلما يوجد شيء من العقاقير إلا وفيه شفاء للناس بهذا المعنى لما قيل : إن التنصيص على هذا الحكم فيه لإفادة ما يكاد يستبعد من اشتمال ما يخرج على اختلاف ألوانه من هذه الدودة التي هي أشبه شيء بذوات السموم ولعلها ذات سم أيضا فإنها تلسع وتؤلم وقد يرم الجلد من لسعها وهو ظاهر في أنها ذات سم على شفاء للناس ويفهم من ظاهر بعض الآثار أن الكلام على عمومه فقد أخرج حميد ابن زنجوية عن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلا فقلنا له : تداوي الدمل بالعسل فقال : أليس الله تعالى يقول فيه شفاء للناس وأنت تعلم لا بأس بمداواة الدمل بالعسل فقد ذكر الأطباء أنه ينقى الجروح ويدمل ويأكل اللحم الزائد والحق أنه لا مساغ للعموم إذ لا شك وجود مرض لا ينفع فيه العسل والآثار المشعرة بالعموم الله تعالى أعلم بصحتها وأما ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وابن مردوية عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه فقال : أسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جلم فقال : سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال : اذهب فاسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال : ما زاده إلا
(14/185)

استطلاقا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : صدق الله تعالى وكذب بطن بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه فبرأ فليس صريحا في العموم لجواز أن يكون عليه الصلاة و السلام قد علمه الله سبحانه أن داء هذا المستطلق مما يشفى بالعسل فإن بعض الإستطلاق قد يشفى بالعسل ففي طبقات الأطباء أنه إنما قال صلى الله عليه و سلم ذلك لأنه علم أن في معدة المريض رطوبات لزجة غليظة قد أزلقت معدته فكلما مر به شيء من الأدوية القابضة لم يؤثر فيها والرطوبات باقية على حالها والأطعمة تزلق عنها فيبقى الإسهال فلما تناول العسل جلا تلك الرطوبات وأحدرها فكثر الإسهال أولا بخروجها وتوالى ذلك حتى نفذت الرطوبة بأسرها فانقطع إسهاله وبريء فقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : صدق الله تعالى بالعلم الذي عرف نبيه عليه الصلاة و السلام به وقوله : كذب بطن أخيك يعني ما كان يظهر من بطنه من الإسهال وكثرته بطريق العرض وليس هو بإسهال ومرض حقيقي فكان بطنه كاذبا أه وقال بعضهم : المراد بصدق الله تعالى صدق سبحانه في أن العسل فيه الشفاء وقوله عليه الصلاة و السلام : كذب بطن أخيك من المشاكلة الضدية كقولهم : من طالت لحيته تكوسج عقله وهو على الأول استعارة مبنية على تشبيه البطن بالكاذب في كون ما ظهر من إسهالها ليس بأمر حقيقي وإنما هو لما عرض لها وعلى ذلك قول الأطباء : زحير كاذب وزحير صادق وأنكر بعضهم هذا النوع من من المشاكلة وقال : إنها ليست معروفة وإنه إنما عبر به لأن بطنه كأنه كذب قول الله تعالى بلسان حاله وهو ناشيء من قلة الإطلاع وقد وقع نظير هذه القصة في زمن المأمون وذلك أن ثمامة العبسي وكان من خواصه مرض بالإسهال فكان يقوم في اليوم والليلة مائة مرة وعجز الأطباء عن علاجه فعالجه يزيد بن يوحنا طبيب الكأمون بالمسهل أيضا فبريء وكان قد ظن الأطباء أنه يموت بسبب ذلك ولا يبقى لغده وذكر الطبيب حين سأله المأمون عن وجه الحكمة فيما فعل فذكر أنه كان في جوف الرجل كيموس فاسد فلا يدخله غذاء ولا دواء إلا أفسده فعلمت أنه لا علاج له إلا قلع ذلك بالإسهال ومنه يعلم أن ما فعله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان من معجزاته الدالة على علمه بدقائق الطب من غير تعليم وكذا يعلم أن ما طعن به بعض الملحدين ومن في قلبه مرض من أنه كيف يداوي الإسهال بالعسل وهو مسهل باتفاق الأطباء ناشيء عن الجهل بالدقائق وعدم الوقوف على الحقائق ونقل عن مجاهد والضحاك والفراء وابن كسيان وهو رواية عن ابن عباس والحسن أن ضمير فيه للقرآن والمراد أن في القرآن شفاء لأمراض الجهل والشرك وهدى ورحمة واستحسن ذلك ابن النحاس وقال القاضي أبو بكر بن العربي : أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر ورجوع الضمير للكتاب في قوله سبحانه : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه مما لا يكاد يقوله أمثال هؤلاء الكرام والعلماء الأعلام نعم كون القرآن شفاء مما لا كلام فيه وقد أخرج الطبراني وغيره عن ابن مسعود عليكم بالشفاءين العسل والقرآن هذا
وقدم سبحانه الأخبار عن إنزال الماء لما أن الماء أتم نفعا وأعظم شأنا وهو أصل أصيل لتكون اللبن وما بعده ثم ذكر اللبن لأنه يحتاج إليه أكثر من غيره مما ذكر بعده وقد يستغنى بشربه عن شرب الماء كما شاهدنا ذلك من بعض متزهدي زماننا فقد ترك شرب الماء عدة من السنين مكتفيا بشرب اللبن وسمعنا نحو ذلك عن بعض رؤساء الأعراب وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره صلى الله تعالى عليه وسلم حين أسري به وعرض عليه مع الخمر والعسل ثم الخمر لأنها أقرب إلى الماء من العسل فإنها ماء العنب ولم يعهد
(14/186)

جعلها إداما كالعسل فإنه كثيرا مايؤدم به الخبز ويؤكل وبينها وبين اللبن نوع مشابهة من حيث أن كلا منهما يخرج من بين أجزاء كثيفة وما أشبه ثفله بالفرث وإذا لوحظ السوغ في اللبن وعدمه في الخمر بناء على ما يقولون : إنها ليست سهلة المرور في الحلق ولذا يقطب شاربها عند الشرب وقد يغص بها كان بينهما نوع من التضاد ويحسن إيقاع الضد بعد الضد كما يحسن إيقاع المثل بعد المثل وإذا لوحظ مآل أمرهما شرعا رأيت أن الخمر لم يسغ شربها بعد نزول الآية فيه وشرب اللبن لم يزل سائغا وبذلك يقوي التضاد ويقويه أيضا أن اللبن يخرج من بطن حيوان ولا دخل لعمل البشر فيه والخمر ليست كذلك وأما ذكر الرزق الحسن بعد الخمر وتقديمه على العسل فالوجه فيه ظاهر جدا ولعل ما اعتبرناه في وجه تقديم الخمر على العسل وذكره بعد اللبن أقوى مما يصح اعتباره في العسل وجها لتقديمه على الخمر وذكره بعد اللبن فلا يرد أن في كل جهة تقديما فاعتبارها في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح وقد جاء ذكر الماء واللبن والخمر والعسل في وصف الجنة على هذا الترتيب قال تعالى : فيها أنهاء من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بأسرار كتابه
إن في ذلك المذكور من آثار قدرة الله تعالى لآية عظيمة لقوم يتفكرون
69
- فإن من تفكر في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة التي مرت الإشارة إليها وخروج هذا الشراب الحلو المختلف الألوان وتضمنه الشفاء جزم قطعا أن لها ربا حكيما قادرا ألهمها ما ألهم وأودع فيها ما أودع ولما كان شأنها في ذلك عجيبا يحتاج إلى مزيد تأمل ختم سبحانه الآية بالتفكر ومن بدع تأويلات الرافضة على ما في الكشاف أن المراد بالنحل علي كرم الله تعالى وجهه وقومه وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بمو هاشم يخرج من بطونهم العلم فقال له رجل : جعل الله تعالى طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهما وستسمع إن شاء الله تعالى ما يقوله الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في باب الإشارة ثم إنه سبحانه لما ذكر من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته بين ذلك فقال عز قائلا : والله خلقكم ثم يتوفاكم حسبما تقتضيه مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة بآجال مختلفة والقرينة على إرادة ذلك قوله سبحانه : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ولذا قيل : إنه مطوف على مقدر أي فمنكم من تعجل وفاته ومنكم الخ و أرذل العمر أخسه وأحقره وهو وقت الهرم الذي تنقص فيه القوي وتفسد الحواس ويكون حال الشخص فيه كحاله وقت الطفولية من ضعف العقل والقوة ومن هنا تصور الرد فهذا كقوله تعالى : ومن نعمره ننكسه في الحق ففيه مجاز وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة وعن قتادة أنه تسعون وقيل : خمس وتسعون واختار جمع تفسيره بما سبق وهو يختلف باختلاف الأمزجة فرب معمر لم تنتقص قواه ومنتقص الوى لم يعمر ولعل التقييد بسن مخصوص مبني على الأغلب عند من قيد
والخطاب أن للموجودين وقت النزول فالتعبير بالماضي والمستقبل فيه ظاهر وإن كان عاما فالمضي بالنسبة إلى وقت وجودهم والإستقبال بالنسبة إلى الخلق وعلى التقديرين الظاهر أن من يرد إلى أرذل العمر
(14/187)

يعم المؤمن مطلقا والكافر وقيل : إنه مخصوص بالكافر والمسلم لا يرد إلى أرذل العمر لقوله تعالى : ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة أنه قال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر والمشاهدة تكذب كلا القولين فكم رأيئا مسلما قاريء القرآن قد رد إلى ذلك والإستدلال بالآية على خلافه فيه نظر وكان من دعائه صلى الله عليه و سلم كما أخرجه البخاري وابن مردوية عن أنس أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات
لكي لا يعلم بعد علم شيئا اللام للصيرورة والعاقبة وهي في الأصل للتعليل وكي مصدرية والفعل منصوب بها والمنسبك مجرور باللام والجار والمجرور متعلق بيرد وزعم الحوفي أن اللام لام كي دخلت على كي للتوكيد وليس بشيء والعلم بمعنى المعرفة والكلام كناية عن غاية النسيان أي ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه من ساعته يقول لك : من هذا فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه وقيل : المراد لئلا يعلم زيادة علم على علمه وقيل : لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا فالعلم بمعنى العقل لا بمعناه الحقيقي كما في سابقه وفيه دلالة على وقوفه وأنه لا يقدر على علم زائد والوجه المعتمد الأول ونصب شيئا على المصدرية أو المفعولية وجوز فيه التنازع بين يعلم وعلم وكون مفعول علم محذوفا فالقصد العموم أي لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة إن الله عليم بكل شيء ومن ذلك وجه الحكمة في الخلق والتوفي والرد إلى أرذل العمر قدير
70
- على كل شيء ومنه ما يشاؤه سبحانه من ذلك وقيل : عليم بمقادير أعماركم قدير على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني وفيه تنبيه على أن تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم رتب الأبنية وعدل الأمزجة على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ هذا المبلغ وقيل : إنه تعالى لما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف الوي والقدرة وانتفاء العلم ذكر أنه جل شأنه مستمر على العلم الكامل والقدرة الكاملة لا يتغيران بمرو الأزمان كما يتغير علم البشر وقدرتهم ويفيد الإستمرار الجملة الجملة الأسمية والكال صيغة فعيل وقدم صفة العلم لتجاوز انتفاء العلم عن المخاطبين مع أن تعلق صفة العلم بالشيء أول لتعلقه صفة القدرة به ولا يخفى عليك ما هو الأولى من الثلاثة فتدبر
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضل مما أعطى مماليككم فما الذين فضلوا فيه على غيرهم وهم الملاك برادي أي بمعطي رزقهم الذي رزقهم إياه على ما ملكت أيمانهم على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية والمرزوقية فهم أي الملاك الذين فضلوا والمماليك فيه أي في الرزق سواء لا تفاضل بينهم والجملة الإسمية واقعة موقع فعل منصوب في جواب النفي أي لا يردونه عليهم فيستووا فيه ويشتركوا وجوز أن تكون في تأويل فعل مرفوع معطوف على قوله تعالى : برادي أي لا يردونه عليهم فلا يستوون والمراد بذلك توبيخ الذين يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته وتقريعهم والتنبيه على كمال فعلهم كأنه قيل : أنكم لا ترضون بشركة عبيدكم لكم بشيء لا يختص بكم بل يعمكم وإياهم من الرزق الذي هو أسوة لكم في استحقاقه وهم أمثالكم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانه فما بالكم تشركون به سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به جل وعلا من الألوهية
(14/188)

والمعبودية الخاصة بذاته تعالى لذاته بعض مخلوقاته الذي هو بمعزل عن درجة الإعتبار وهو على ما صرح به جماعة على شاكلة قوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء يعنون بذلك أنه مثل ضرب لكمال قباحة ما فعلوه وفي قوله تعالى : أفبنعمة الله يجحدون
71
- قرينة كما قيل على ذلك وكذا في قوله تعالى : فلا تضربوا الله الأمثال والمهزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر وهي داخلة في الحقيقة على الفعل أعني يجحدون ولتضمن الجحود معنى الكفر جيء بالباء في معموله المقدم عليه عليه للإهتمام أو لإيهام الإختصاص مبالغة أو لرعاية رؤس الآي والمراد بالنعمة قيل الرزق وقيل ولعله الأولى : ما يشمله وغيره من النعم الفاضلة عليهم منه سبحانه أي يشركون به تعالى فيجحدون نعمته تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا ما أفيض عليهم من الله تعالى من النعم إلى شركائهم ويجحدوا كونها من عنده جل وعلا وجوز كون المراد بنعمة الله تعالى ما أنعم سبحانه به من إقامة الحجج وإيضاح السبل وإرسال الرسل عليهم السلام ولا نعمة أجل من ذلك فمعنى جحودهم ذلك إنكاره وعدم الإلتفات إليه وصيغة الغيبة لرعاية فما الذين وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه تجحدون بالتاء على الخطاب رعاية لبعضكم هذا وجوز أن يكون معنى الآية أن الله تعالى فضل بعضا على بعض في الرزق وإن المفضلين لا يردون من رزقهم على من دونهم شيئا وإنما أنا رازقهم فالمالك والمملوك في أصل الرزق سواء وإن تفاوتا كما وكيفا والمراد النهي عن الإعجاب والمن اللذين هما مقدمتا الكفران
والعطف على مقدر أيضا أي أيعجبون ويمنون فيجحدون نعمة الله تعالى عليهم وقيل : التقدير ألا يفهمون فيجحدون واختار في الكشاف أن المعنى أنه سبحانه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم وكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تساووا في الملبس والمطعم كما يحكى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره من غير تفاوت وحاصله أن الله تعالى فضلكم على أمثالكم فكان عليكم أن تردوا من ذلك الفضل عليهم شكرا لنعمته تعالى لتكونوا سواء في ذلك الفضل ويبقى لكم فضل الإفضال والتفضل
فالآية حث على حسن الملكة وأدمج أنهم وعبيدهم مربوبون بنعمته تعالى ذلك مع تقلبهم فيها ليكون تمهيدا لكفرانهم نعمه سبحانه السوابغ إلى أن جعلوا له عز و جل أندادا لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا فعبدوها عبادته تعالى أو أشد وأسد وفي ذلك من البعد ما فيه والعطف فيه على مقدر أيضا كألا يعرفون ذلك فيجحدون
والله جعل لكم من أنفسكم أي من جنسكم ونوعكم وهو مجاز في ذلك والأشهر من معاني النفس الذات ولا يستقيم هنا كغيره فلذا ارتكب المجاز وهو إما في الفرد أو الجمع واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح من الجن أزواجا لتأنسوا بها وتقيموا بذلك مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم
وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذا خلق آدم وحواء عليهما السلام فإن حواء خلقت من نفسه عليه السلام وتعقب بأنه لا يلائمه جمع الأنفس والأزواج وحمله على التغليب تكلف غير مناسب للمقام وكذا كون المراد منهما بعض الأنفس وبعض الأزواج وجعل لكم من أزواجكم أي منها فوضع الظاهر
(14/189)

موضع الضمير للإيذان بأن المراد جعل لكل منكم من زوجه لا من زوج غيره بنين وبأن نتيجة لأزواج هو التوالد وحفدة جمع حافد ككاتب وكتبة وهو من قولهم : حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا إذا أسرع في الخدمة والطاعة وفي الحديث إليك نسعى ونحفد وقال جميل : حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال وقد ورد الفعل لازما ومتعديا كقوله : يحفدون الضيف في أبياتهم كرما ذلك منهم غير ذل وجاء في لغة كما قال أبو عبيدة أحفد أحفادا وقيل : الحفد سرعة القطع وقيل : مقاربة الخطو والمراد بالحفدة على ما روي عن الحسن والأزهري وجاء في رواية عن ابن عباس واختاره ابن العربي أولاد الأولاد وكونهم من الأزواج حينئذ بالواسطة وقيل : البنات عبر عنهن بذلك إيذانا بوجه المنة فإنهن في الغالب يخدمن في البيوت أتم خدمة وقيل : البنون والعطف لاختلاف الوصفين البنوة والخدمة وهو منزل منزلة تغاير الذات وقد مر نظيره فيكون ذلك امتنانا بإعطاء الجامع لهذه الوصفين الجليلين فكأنه قيل : وجعل لكم منهن أولادا هم بنون وهم حافدون أي جامعون بين هذين الأمرين ويقرب منه ما روي عن ابن عباس من أن البنين صغار الأولاد والحفدة كبارهم وكذا ما نقل عن مقاتل من العكس وكأن ابن عباس نظر إلى أن الكبار أقوى على الخدمة ومقاتل نظر إلى أن الصغار أقرب للإنقياد لها وامتثال الأمر بها واعتبر الحفد بمعنى مقاربة الخط وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأول وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه والبخاري في تاريخه والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم على ما قيل أزواج البنات ويقال لهم أصهار وأنشدوا فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير ولكنها نفس على أبية عيوني لأصهار اللئام تدوم والنصب على هذا بفعل مقدر أي وجعل لكم حفدة لا بالعطف على بنين لأن القيد إذا تقدم يعلق بالمتعاطفين وأزواج البنات ليسوا من الأزواج وضعف بأنه لا قرينة على تقدير خلاف الظاهر وفيه دغدغة لا تخفى وقيل : لا مانع من العطف بأن يراد بالأختان أقارب المرأة كأبيها وأخيها لا أزواج البنات فإن إطلاق الأختان عليه إنما هو عند العامة وأما عند العرب فلا كما في الصحاح وتجعل من سببية ولا شك أن الأزواج سبب لجعل الحفدة بهذا المعنى وهو كما ترى وتعقب تفسيره بالأختان والربائب بأن السياق للإمتنان ولا يمتن بذلك
وأجيب بأن الإمتنان باعتبار الخدمة ولا يخفى أنه مصحح لا مرجح وقيل : الحفدة هم الخدم والأعوان وهو المعنى المشهور له لغة والنصب أيضا بمقدار أي وجعل لكم خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم في أموركم
وقال ابن عطية بعد نقل عدة أقوال في المراد من ذلك : وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجته بنون وحفدة ولا يخفى أنه باعتبار الغالب ويحتمل أن يحمل قوله تعالى : من أزواجكم على العموم والإشتراك أي جعل من أزواج البشر البنين والحفدة ويستقيم على هذا إجراء الحفدة على مجراها في اللغة إذ
(14/190)

البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة أه وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعدا وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر غير مرة من التشويق وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمدادا للتشويق وتقوية له
ورزقناكم من الطيبات أي اللذائذ وهو معناها اللغوي وجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو الحلال وتعقبه أبو حيان بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام وأيضا هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه و من للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان وقيل : المراد بها ما أتى من غير نصب وقيل : الغنائم وليس بشيء
أفبالباطل وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا إمارة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : يؤمنون وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن وبنعمت الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان هم يكفرون
72
- أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم وقيل : الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم والآية على هذا ظاهرة التعلق بقوله سبحانه : ورزقكم من الطيبات فقط دون ما قبله أيضا والظاهر تعلقها بهما ومن ذلك يظهر حال ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لا سيما وقد حصروا وأيضا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم بمنزلة المتيقن وبالعكس والفناء التي للتعكيس شديدة للدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في الكشف وفيه رد على ما قيل أن في كلا التركيبين تأكيدا وتخصيصا أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفا على تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير بفيد التأكيد وأما التأكيد في الثاني فمن بناء يكفرون على هم المفيد لتقوي الحكم وجعل كلام الزمخشري مشيرا إلى كله فتدبر وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح غير واحد والعلامة البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفا
ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالباطل كان إيمانهم بغيره بمنزلة
(14/191)

العدم وإن النعم كلها من الله تعالى إما بالذات أو بالواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل لا يشكر الله من لا يشكر الناس بقي المخالفة وأجيب بأنه إذا نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائيا وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف وجوز أن يكون التقديم للإهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق الكلام تعلق كفرانهم بنعمة الله تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان والكفران وان يكون لرعاية الفواصل هو دون النكتتين والإلتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجبا لهم مما فعلوه وفي البحر أن السلمى قرأ تؤمنون بالتاء على الخطاب وأنه روى ذلك عن عاصم والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في البحر مجردا عن الكفرة غير مندرج التقريع هذا بقى أنه في العنكبوت أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون بدون ضمير ووقع هنا ما سمعت بالضمير وبين الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى : أفبنعمة الله يجحدون أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكرارا بحسب الظاهر فأتى بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقيا في الذم بعيدا عن اللغوية ثم قال : وقيل إنه أجرى على عادة العباد إذا أخبروا عن أحد بمنكر يجحدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام آكد من الأول ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل : أفبالباطل يؤمنون بدون ضمير وقيل : وبنعمة الله هم يكفرون به وأما في الفرق بين ما هنا وما هناك فلا وقيل : آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب وتخصيص هذه بالزيادة دون أفبالباطل يؤمنون مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة الفاصلة الأولى على الثانية واعترض عليه بأنه لا يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير
وقد يقال : إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير ويبني الفعل عليه إفادة للتقوى استغناء بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع قربه من تلك الآية عن ذلك على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك قوله تعالى : والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ولما لم تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جيء فيها بما يفيد التقوى أو يقال : إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في وصولها إليهم والإمتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما يفيد كفرهم بها على وجه يشعر باستبعاد وقوعه منهم فجيء بالضمير فيه ولما لم يكن ما هنالك كذلك لم يؤت فيه بما ذكر ولعل التعبير هنا بيكفرون وفيما قبل يجحدون لأن ما قبل كان مسبوقا على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق بذلك لما أن كمال القلح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا قيل فافهم والله تعالى بأسرار كتابه أعلم ويعبدون من دون الله قال أبو حيان : هو استئناف إخبار عن حالهم في عبادة الأصنام وفيه تبيين لقوله تعالى : أفبالباطل يؤمنون وقال بعض أجلة المحققين : لعله عطف على يكفرون داخل تحت الإنكار التوبيخي أي يكفرون بنعمة الله ويعبدون من دونه سبحانه ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا أي ما لا يقدر أن يرزقهم شيئا لا من السماوات مطرا ولا من
(14/192)

الأرض نباتا فرزقا مصدر و شيئا نصب على المفعولية له وإلى ذلك ذهب أبو علي وغيره وتعقبه ابن الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن والمصدر إنما هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن ورد عليه بأن مكسور الراء مصدر أيضا كالعلم وسمع ذلك فيه أن يعمل في المفعول وقيل : هو اسم مصدر والكوفي يجوز عمله في المفعول فشيئا مفعول على رأيهم وجوز أن يكون بمعنى مرزوق و شيئا بدل منه أي لا يملك لهم شيئا وأورد عليه السمين وأبو حيان أنه غير مفيد إذ من المعلوم أن الرزق من الأشياء والبدل يأتي لأحد شيئين البيان والتأكيد وليسا بموجودين هنا وأجيب بأن تنوين شيئا للتقليل والتحقير فإن كان تنوين رزقا كذلك فهو مؤكد وإلا فمبين وحينئذ فيصح فيه أن يكون بدل بعض أو كل ولا إشكال
وجوز أن يكون شيئا مفعولا مطلقا ليملك أي لا يملك شيئا من الملك و من السماوات إما متعلق بقوله تعالى : لا يملك أو بمحذوف وقع صفة لرزقا أي رزقا كائنا منهما وإطلاق الرزق على المطر لأنه ينشأ عنه
ولا يستطيعون
73
- جوز أن يكون عطفا على صلة ما وأن يكون مستأنفا للإخبار عن حال الآلهة واستطاع متعد ومفعوله محذوف وهو ضمير الملك أي لا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم فالكلام تتميم لسابقه وفيه من الترقي ما فيه فلا يكون نفي استطاعة الملك بعد نفي ملك الرزق غير محتاج إليه وإن جعل المفعول ضمير الرزق كما جوزه في الكشاف يكون هذا النفي تأكيد لما قبله وأورد عليه أنه قد قرر في المعاني أن حرف العطف لا يدخل بين المؤكد والمؤكد لما بينهما من كمال الإتصال ودفع بأن ذلك غير مسلم عند النحاة وليس مطلقا عند أهل المعاني ألا ترى قوله تعالى : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون نعم يرد عليه حديث أن التأسيس خير من التأكيد ويجوز ولعله الأولى أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم فيكون المراد نفي الإستطاعة عنهم مطلقا على حد يعطي ويمنع فالمعنى أنهم أموات لا قدرة لهم أصلا فيكون تذييلا للكلام السابق وفيه ما فيه على الوجه الأول وزيادة
وجمع الضمير فيه وتوحيده في لا يملك لرعاية جانب اللفظ أولا والمعنى ثانيا فإن ما مفرد بمعنى الآلهة ومثل هذه الرعاية وارد في الفصيح وإن أنكره بعضهم لما يلزمه من الإجمال بعد البيان المخالف للبلاغة فإنه مردود كما بين في محله وقد روعي أيضا في التعبير حال معبوداتهم في نفس الأمر فإنها أحجار وجمادات فعبر عنها بما الموضوعة في المشهور لغير العالم وحالها باعتبار اعتقادهم فيها أنها آلهة فعبر عنها بضمير الجمع الموضوع لذوي العلم هذا إذا كان المراد بما الأصنام ولا يخفى عليك الحال إذا كان المراد بها المعبودات الباطلة مطلقا ملكا كانت أو بشرا أو حجرا أو غيرها
وجوز أن يكون ضمير الجمع عائدا على الكفار كضمير يعبدون و ما على المعنى المشهور فيها على معنى أنهم كونهم أحياء متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئا فكيف بالجماد الذي لا حس له فجملة لا يستطيعون معترضة لتأكيد نفي الملك عن الآلهة والمفعول محذوف كما أشير إليه وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكنه سالم عن مخالفة المشهور في العود على المعنى بعد مراعاة اللفظ فلا تضربوا لله الأمثال التفات إلى الخطاب للإيذان بلإهتمام بشأن النهي والفاء للدلالة على ترتيب النهي على ما عدد من النعم
(14/193)

الفائضة عليهم منه تعالى وكون آلهتهم بمعزل من أن يملكوا لهم رزقا فضلا عما فضل والأمثال جمع مثل كعلم والمراد من الضرب الجعل فكأنه قيل : فلا تجعلوا لله تعالى الأمثال والإكفاء فالآية كقوله تعالى : فلا تجعلوا لله أندادا وهذا ما يقتضيه ظاهر كلام ابن عباس فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضى الله تعالى عنه أنه قال في الآية : يقول سبحانه لا تجعلوا معي إلها غيري فإنه لا إله غيري
وجعل كثير الأمثال جمع مثل بالتحريك والمراد من ضرب المثل لله سبحانه والإشراك والتشبيه به جل وعلا من باب الإستعارة التمثيلية ففي الكشف أن الله تعالى جعل المشرك به الذي يشبهه تعالى بخلقه بمنزلة ضارب المثل فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة وذاتا بذات كما أن ضارب المثل كذلك فكأنه قيل : ولا تشركوا بالله سبحانه وعدل عنه إلى المنزل دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفا وذاتا وفي لفظ الأمثال لمن لا مثال له أصلا نعي عظيم عليهم بسوء فعلهم وفيه إدماج أن الأسماء توقيفية وهذا هو الظاهر لدلالة الفاء وعدم ذكر ضرب مثل منهم سابقا وهذا الوجه الذي اختاره الزمخشري وكلام الحبر رضي الله تعالى عنه لا يأباه فقوله تعالى : إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون
74
- تعليل للنهي أي أنه تعالى يعلم كنه ما تفعلون وعظمه وهو سبحانه معاقبكم عليه أعظم العقاب وأنتم لا تعلمون كنهه وكنه عقابه فلذا صدر منكم وتجاسرتم عليه
وجوز أن يكون المراد النهي عن قياس الله تعالى على غيره يجعل ضرب المثل استعارة للقياس فإن القياس إلحاق شيء بشيء وهو عند التحقيق تشبيه مركب بمركب والفرق بينه وبين الوجه السابق قليل وأمر التعليل على حاله وجوز الزمخشري وغيره أن يكون المراد النهي عن ضرب الأمثال لله سبحانه حقيقة والمعنى فلا تضربوا لله الأمثالالتي يضربها بعضكم لبعض إن الله تعالى يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ووجه التعليل ظاهر واللام على سائر الأوجه متعلقة بتضربوا وزعم ابن المنير تعلقها بالأمثال فيما إذا كان المراد التمثيل للإشراك والتشبيه ثم قال : كأنه قيل فلا تمثلوا الله تعالى ولا تشبهوه وتعلقها بتضربوا على هذا الوجه ثم قال كأنه قيل فلا تمثلوا لله تعالى الأمثال فإن ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير العالم ليبين له ما خفى عنه والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة وليس بشيء والمعنى الذي ذكره على تقدير تعلقه بالفعل خلاف ما يقتضيه السياق وإن كان التعليل عليه أظهر ومن هنا قال العلامة المدقق في الكشف في ذلك بعد أن قال إنه نهى عن ضرب الأمثال حقيقة : كأنه أريد المبالغة في أن لا يلحدوا في أسمائه تعالى وصفاته فإنه إذا لم يجز ضرب المثل والإستعارات يكفي فيها شبه ما والإطلاق لتلك العلامة كاف فعدم جواز إطلاق الأسماء من غير سبق تعليم منه تعالى وإثبات الصفات أولى وأولى ووجه ربط قوله تعالى : ضرب الله مثلا الخ على هذا عند المدقق أنه تعالى بعد أن نهاهم عن ضرب الأمثال له سبحانه ضرب مثلا دل به على أنهم ليسوا أهلا لذلك وأنهم إذا كانوا على هذا الحد من المعرفة والتقليد أو المكابرة فليس لهم إلى ضرب الأمثال المطابقة المستدعى ذكاء وهداية سبيل وقال غيره في ذلك ولعله أظهر منه : أنه تعالى لما ذكر أنه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنهم لا يعلمون علمهم كيف تضرب الأمثال في هذا الباب فقال تعالى : ضرب الخ
ووجه الربط على ما تقدم من أن النهي عن الإشراك أنه سبحانه لما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك عقبه بالكشف لذي البصيرة عن فساد ما ارتكبوه بقوله سبحانه : ضرب الخ أورد وذكروا ما يستدل به على
(14/194)

تباين الحال بين جناحيه تعالى شأنه وبين ما أشركوه به سبحانه وينادي بفساد ما هم عليه نداء جليا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء بدل من مثلا وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام وبحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لا شتراكهما في كونهما عبدا الله تعالى وقد أدمج فيه على ما قيل أن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدر لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة وفي إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر ما لا يخفى من الجزالة ومن رزقناه من نكرة موصولة على ما ستظهره الزمخشري ليطابق عبدا فإنه أيضا نكرة موصوفة وإلى ذلك ذهب أبو البقاء وقال الحوفي : هو موصولة واستظهره أبو حيان وزعم بعضهم أن ذلك لكون استعمالها موصولة أكثر من استعمالها موصوفة والأول مختار الأكثرين أي حرا رزقناه بطريق الملك والإلتفات إلى التكلم للإشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق وفي اختيار ضمير العظمة تعظيم لأمر ذلك الرزق ويزيد ذلك تعظيما قوله سبحانه : منا أي من جنابنا الكبير المتعالي رزقا حسنا حلالا طيبا أو مستحسنا عند الناس مرضيا ويؤخذ منه على ما قيل كونه كثيرا بناء على أن القلة التي هي أخت العدم لا حسن في ذاتها فهو ينفق منه تفضلا وإحسانا والفاء لترتب الإنفاق على الرزق كأنه قيل : ومن رزقناه منا رزقا حسنا فأنفق وإيثار المنزل من الجملة الإسمية الفعلية الخبر للدلالة على ثبات الإنفاق واستمراره التجددي سرار وجهرا أي حال السر وحال الجهر أو إنفاق سر وإنفاق جهر والمراد بيان عموم إنفاقه للأوقات وشمول إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهرا
وجوز أن يكون وصفه بالكثرة مأخوذا من هذا بناء أن المراد منه كيف يشاء وهو يدل على أنحاء التصرف وسعة المتصرف منه وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه وقد مر الكلام في ذلك والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال : وحرا مالكا للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لما في إرشاد العقل السليم من توخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضا تحت ربقة عبوديته تعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين هل يستون جمع الضمير وأن تقدمه اثنان وكان الظاهر يستويان للإيذان بأن المراد بما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما وإن أخرج ابن عساكر وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في بني هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سرا وجهرا وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان ينهاه والله تعالى أعلم بصحته وقيل نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وعبد له ولا يصح إسناده كما في البحر وفيه أنه يحتمل أن يكون الجمع باعتبار أن المراد بمن الجمع وأن يكون باعتبار عود الضمير على العبيد والأحرار وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة عبد مملوك ومن رزقناه عليهما والمعول عليه ما ذكره أولا والمعنى هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده ولا تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل
(14/195)

أذل منه وهو الأصنام وقيل : إن هذا تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق شبه الأول بمملوك لا تصرف له لأنه لاحباط عمله وعدم الإعتداد بأفعاله واتباعه لهواه كالعبد المنقاد الملحق بالبهائم بخلاف المؤمن الموفق وجعله تمثيلا لذلك مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة ولا تعيين أيضا وإن قيل : إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأبي جهل على أن أبا حيان قال إنه لا يصح إسناد ذلك هذا ثم اعلم أنهم اختلفوا في العبد هل يصح له ملك أم لا قال في الكشاف : المذهب الظاهر أنه لا يصح وبه قال الشافعي وقال ابن المنير على ما لخصه في الكشف من كلام طويل إنه يصح له الملك عند مالك : وظاهر الآية تشهد له لأنه أثبت له العجز بقوله تعالى مملوكا ثم نفى القدرة العارضة بتمليك السيد بقوله سبحانه : لا يقدر على شيء وليس المعنى القدرة على التصرف لأن مقابله ومن رزقناه منا رزقا حسنا والحمل على إخراج المكاتب مع شذوذه إيجاز مع إخلال كما قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى في أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها الحمل على المكاتبة بعيد لا يجوز والمأذون لم يخرج لما مر من أن المراد بالقدرة ما هو وليس لقائل أن يقول : إنه صفة لازمة موضحة فالأصل في الصفات التقييد أه
وتعقبه المدقق بقوله : والجواب أن المعنى على نفي القدرة على التصرف فالآية واردة في تمثيل حال الأصنام به تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكلما بولغ في حال عجز المشبه به وكمال المقابل دل في المشبه به أيضا على ذلك فالذي يطابق المقام القدرة على التصرف وهو في المقابلة قوله تعالى : ينفق منه سرا وجهرا وما ذكره لا حاصل له ولا إخلال في إخراج المكاتب لشمول اللفظ مع أن المقام مقام مبالغة فما يتوهم دخوله بوجه ينبغي أن ينفي وأين هذا مما نقله عن إمام الحرمين أه واستدل بالآية أيضا على أن العبد لا يملك الطلاق أيضا وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : ليس للعبد طلاق إلا بإذن سيده وقرأ الآية وقد فصلت أحكام العبيد في حكم الفقه على أتم وجه الحمد لله أي كله له سبحانه لا يستحقه أحد غيره تعالى لأنه جل شأنه المولي للنعم وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائط فضلا عن استحقاق العبادة
وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق فيما ذكر راجع إليه تعالى كما لوح به رزقناه وقال غير واحد هذا حمد على ظهور المحجة وقوة هذه الحجة بل أكثرهم لا يعلمون
75
- ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها أو لا يعلمون ظهور ذلك وقوة ما هنالك فيبقون على شركهم وضلالهم ونفى العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لم يعملوا بموجبه عنادا وقيل : المراد بالأكثر الكل فكأنه قيل : هم لا يعلمون وقيل : ضمير هم للخلق والأكثر هم المشركون وكلا القولين خلاف الظاهر
وضرب الله مثلا أي مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح وأبهم ثم بين بقوله تعالى : رجلين أحدهما أبكم لما تقدم والبكم الخرس المقارن للخلقة ويلزمه الصمم فصاحبه لا يفهم لعدم السمع ولا يفهم غيره لعدم النطق والإشارة لا يعتد بها لعدم تفهيمها حق التفهيم لكل أحد فكأنه قيل : أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم لا يقدر على شيء من الأشياء المتعلقة بنفسه أو غيره بحدس أو فراسة لسوء فهمه وإدراكه وهو كل ثقيل وعيال على مولاه على من يعوله ويلي أمره وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته مطلقا وقوله سبحانه :
(14/196)

أينما يوجهه لا يأت بخير أي حيثما يرسله مولاه لا يأت بنجح وكفاية مهم بيان لعدم قدرته على مصالح مولاه وقرأ عبد الله في رواية توجهه على الخطاب وقرأ علقمة وابن وئاب ومجاهد وطلحة وهي رواية أخرى عن عبد الله يوجه بالبناء للفاعل والجزم وخرج على أن الفاعل يعود على المولى والمفعول محذوف وهو ضمير الأبكم أي يوجهه ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الأبكم ويكون الفعل لازم وجه بمعنى توجه وعلى ذلك جاء قول الأضبط بن قريع السعدي :
أينما أوجه ألق سعدا
وعن علقمة وطلحة وابن وثاب أيضا توجه بالجزم والبناء للمفعول وفي رواية أخرى عن علقمة وطلحة أنهما قرءا يوجه بكسر الجيم وضم الهاء قال صحاب اللوامح : فإن صح ذلك فالهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارا من التضعيف أو لم يرد بأينما الشرط والمراد أينما هو يوجه وقد حذف منه ضمير المفعول به فيكون حذف الياء من آخر يأت للتخفيف وتعقبه أبو حيان بأن أين لا تخرج عن الشرط أو الإستفهام ونقل عن أبي حاتم أن هذه القراءة ضعيفة لأن الجزم لازم ثم قال : والذي توجه به هذه القراءة أن أينما شرط حملت على إذا بجامع ما اشتركا فيه من الشرط ثم حذفت ياء يأت تخفيفا أو جزم على توهم أنه جيء بأينما جازمة كقراءة من قرأ إنه من يتقي ويصير في أحد الوجهين ويكون معنى يتوجه كما مر آنفا هل يستوي هو أي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات المذكورة ومن يأمر بالعدل ومن مو منطيق فهم ذو رأي ورشد يكفي الناس في مهماتهم وينفعهم بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل وهو في نفسه مع ما ذكر من نفعه الخاص والعام على سراط مستقيم
76
- لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي فالجملة حالية مبينة لكماله في نفسه ولما كان ذلك مقدما على تكميل الغير أتى بها إسمية فإنها تشعر بذلك مع الثبوت إلى مقارنة ذي الحال فلا يقال الأنسب تقديمها في النظم الكريم ومقابلة تلك الصفات الأربع بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلهما ونهايته فاختير آخر صفات الكامل المستدعية لما ذكر وأزيد حيث جعل هاديا مهديا وتغير الأسلوب حيث لم يقل : والآخر يأمر بالعدل الآية لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين الفريقين ويقال هنا كما قيل في المثل السابق : إنه حيث لم يستو الفريقان في الفضل والشرف مع استوائهما في الماهية والصورة فلأن يحكم بأن الصنم الذي لا ينطق ولا يسمع وهو عاجز لا يقدر على شيء كل كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويمسح عنه الأذى إذا وقع عليه ويخدمه وإن وجهه إلى مهم من مهماته لا ينفعه ولا يأت له به لا يساوي رب العالمين وهو هو في استحقاق المعبودية أحرى وأولى وقيل : هذا تمثيل للمؤمن والكافر فالأبكم هو الكافر ومن يأمر بالعدل هو المؤمن وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإياما كان فليس المراد برجلين رجلان معينان بل رجلان متصفان بما ذكر من الصفات مطلقا وما روي من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار أو الأبكم أبي ابن خلف والآمر عثمان بن مظعون فقال أبو حيان : لا يصح إسناده وما أخرج ابن جرير وابن عساكر وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية وضرب الله مثلا رجلين الخ في عثمان بن عفان ومولى له كافر وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكلفه ويكفيه المؤنة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما فبعد تحقق
(14/197)

صحته لا يضرنا في إرادة الموصوفين مطلقا بحيث يدخل فيهما من ذكر فقد صرحوا بأن خصوص السبب لا ينافي العموم
هذا وقد اقتصر شيخ الإسلام على كون الغرض من التمثيلين نفي المساواة بينه جل جلاله وبين ما يشركون وهو دليل على أنه مختاره ثم قال : اعلم أن كلا الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقبيه ولا يبعد أن يقال : إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك للإستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وتعالى وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضي أه ولا يخفى أنه لا كلام في حسن اختياره لكن في النفس من قوله لا يبعد شيء
ولله تعالى خاصة لا لأحد فيره استقلالا ولا اشتراكا غيب السماوات والأرض أي جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين بحيث لا سبيل لهم إلى إدراكها حسا ولا إلى فهمها عقلا ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما إما باعتبار الوقوع فيهما حالا أو مآلا وأما باعتبار الغيبة عن أهلهما ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف والمراد بيان الإختصاص به تعالى من حيث المعلومية حسبما ينبيء عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقية والمملوكية وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر وفيه كما في إرشاد العقل السليم إشعار بأن علمه تعالى حضوري وأن تحقق الغيوب في نفسها بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ولذلك لم يقل تعالى : ولله علم غيب السماوات والأرض وقيل : المراد بغيب السماوات والأرض ما في قوله سبحانه : أن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الآية وقيل : يوم القيامة ولا يخفى أن القول بالعموم أولى
وما أمر الساعة التي هي أعظم ما وقع فيه المماراة من الغيوب المتعلقة بالسماوات والأرض من حيث الغيبة عن أهلها أو ظهور آثارها فيهما عند وقوعها أي وما شأنها في سرعة المجيء إلا كلمح البصر أي كرجع الطرف من أعلا الحدقة إلى أسفلها وفي البحر اللمح النظر بسرعة يقال : لمحه لمحا ولمحانا إذا نظره بسرعة أو من أي من أمرها أقرب أي من ذلك وأسرع بأن يقع في بعض أجزاء زمانه فإن رجع الطرف من أعلا الحدقة إلى أسفلها وإن قصر حركة أينية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان له هو كذلك قابل للإنقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضا بل بأن يقع فيما يقال له آن وهو جزء غير منقسم من أجزاء الزمان كآن ابتداء الحركة و أو قال الفراء : بمعنى بل ورده في البحر بأن بل للإضراب وهو لا يصح هنا بقسميه أما الأبطال فلأنه يؤل إلى أن الحكم السابق غير مطابق فيكون الإخبار به كذبا والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك وأما الإنتقال فلأنه يلزمه التنافي بين الأخبار بكونه مثل لمح البصر وكونه أقرب فلا يمكن صدقهما معا ويلزم الكذب المحال أيضا وأجيب باختيار الثاني ولا تنافي بين تشبيه في السرعة بما هو غاية ما يتعارفه الناس في بابه وبين كونه في الواقع أقرب من ذلك وهذا بناء على أن الغرض من التشبيه بيان سرعته لا بيان مقدار زمان وقوعه وتحديده وأجيب أيضا بما يصححه بشقيه وهو أنه ورد على عادة الناس يعني أن أمرها إذا سئلتم عنها أن يقال فيه : هو كلمح البصر ثم يضرب عنه ما هو أقرب وقيل : هو للتخيير ورده في البحر أيضا بأنه إنما يكون في المحظورات كخذ من مالي دينارا أو درهما أو في درهما أو في التكليف كآية الكمارات وأجيب بأن هذا مبني على مذهب ابن مالك من أن أو تأتي للتخيير وأنه غير مختص بالوقوع
(14/198)

بعد الطلب بل يقع في الخبر ويكثر في التشبيه حتى خصه بعضهم به وفي شرح الهادي أعلم أن التخيير والإباحة مختصان بالأمر إذ لا معنى لهما في الخبر كما أن الشك والإبهام مختصان بالخبر وقد جاءت الإباحة في غير الأمر كقوله تعالى : كمثل الذي استوقد نارا إلى قوله سبحانه : أو كصيب من السماء أي بأي هذين شبهت فأنت مصيب وكذا إن شبهت بهما جميعا ومثله في الشعر كثير وقيل : إن المراد تخيير المخاطب بعد فرض الطلب والسؤال فلا حاجة إلى البناء على ما ذكر وهو كما ترى وزعم بعضهم أن التخيير مشكل من جهة أخرى وهي أن أحد الأمرين من كونه كلمح البصر أو أقرب غير مطابق للواقع فكيف يخير الله تعالى بين ما لا يطابقه وفيه أن المراد التخيير في التشبيه وأي ضرر في عدم وقوع المشبه به بل قد يستحسن فيه عدم الوقوع كما في قوله أعلام ياقوت نشرن
على رماح زبرجد : وقال ابن عطية : هي للشك على بابها على معنى أنه لو اتفق أن يقف على أمرها شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هو كلمح البصر أو أقرب وتعقبه في البحر بأن الشك بعيد لأن هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة والشك مستحيل عليه سبحانه أي فلا بد أن يكون ذلك بالنسبة إلى غير المتكلم وفي ارتكابه بعد ويدل على أن هذا مراده تعليله البعد بالإستحالة فليس اعتراضه مما يقتضي منه العجب كما توهم وقال الزجاج : هي للإبهام وتعقب بأنه لا فائدة في إبهام أمرها في السرعة وإنما الفائدة في إبهام وقت مجيئها وأجيب بأن المراد أنه يستبهم على من يشاهد سرعتها هل هي كلمح البصر أو أقل فتدبر والمأثور عن ابن جريج أنها بمعنى بل وعليه كثيرون والمراد ثمثيل سرعة مجيئها واستقرابه على وجه المبالغة وقد كثر في النظم مثل هذه المبالغة ومنه قول الشاعر : قالت له البرق وقالت له الريح جميعا وهما ما هما أأنت تجري معنا قال أن نشطت أضحكتكما منكما إن ارتداد الطرف قد فته إلى المدى سبقا فمن أنتما وقيل : المعنى وما أمر إقامة الساعة المختص علمها سبحانه وهي إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا يدخل تحت دائرة الإمكان في سرعة وسهولة التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الأقوال في أو إن الله على كل شيء قدير
77
- ومن جملة الأشياء أن يجيء بها في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك وتقول على الثاني : ومن جملة ذلك أمر إقامتها فهو سبحانه قادر عليه فالجملة في موضع التعليل وفي الكشف على تقدير عموم الغيب وشموله لجميع ما غاب في السماوات والأرض أن قوله تعالى : وما أمر الساعة كالمستفاد من الأول وهو كالتمهيد له أي يختص به علم كل غيب الساعة وغيرها فهو الآتي بها للعلم والقدرة ولهذا عقب بقوله سبحانه : إن الله الخ وأما إذا أريد بالغيب الساعة فهو ظاهر أه ولا يخفى الحال على القول بأن المراد بالغيب ما في قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الآية وعلى القول الأخير في الغيب يكون ذكر الساعة من وضع الظاهر موضع الضمير لتقوية مضمون الجملة
والله أخرجكم من بطون أمهاتكم عطف على قوله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا
(14/199)

منتظم معه في سلك أدلة التوحيد ويفهم من قول العلامة الطيبي أنه تعالى عقب قوله سبحانه : إن الله على كل شيء قدير بقوله جل وعلا : والله أخرجكم الخ معطوفا بالواو إيذانا بأن مقدوراته تعالى لا نهاية لها والمذكور بعض منها أن العطف على قوله سبحانه : إن الله الخ والذي تنبسط له النفس هو الأول
والأمهات بضم الهمزة وفتح الهمزة جمع أم والهاء فيه مزيدة وكثر زيادتها فيه وورد بدونها والمعنى في الحالين واحد ذو الزيادة للأناسي والعاري عنها للبهائم ووزن المفرد فعل لقولهم الأمومة وجاء بالهاء كقول قصي بن كلاب عليهما الرحمة :
أمهتي خنذف وإلياس أبي
وهو قليل وأقل من ذلك زيادة الهاء في الفعل كما قيل في إهراق وفيه بحث فارجع إلى الصحاح وغيره
وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميم هنا وفي الزمر والنجم والروم والكسائي بكسر الميم فيهن والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم قال أبو حاتم : حذف الهمزة رديء ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب وكانت كذلك على ما في البحر لأن كسر الميم إنما هو لإتباعها حركة الهمزة فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الإتباع بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقر الميم على حركتها لا تعلمون شيئا في موضع الحال و شيئا منصوب على المصدرية أو مفعول تعلمون والنفي منصب عليه والعلم بمعنى المعرفة أي غير عارفين شيئا أصلا من حق المنعم وغيره وقيل : شيئا من منافعكم وقيل : مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة وقيل : مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم والظاهر العموم ولا داعي إلى التخصيص وعن وهب يولد المولود خدرا إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألما
وادعى بعضهم أن النفس لا تخلو في مبدأ الفطرة عن العلم الحضوري وهو علمها بنفسها إذ المجرد لا يغيب عن ذاته أصلا فقد قال الشيخ في بعض تعليقاته عند إثبات تجرد النفس : إنك لا تغفل عن ذاتك أصلا في حال من الأحوال ولو في حال النوم والسكر ولو جوز مجوز أن يغفل عن ذاته في بعض الأحوال حتى لا يكون بينه وبين الجماد في هذه الحالة فرق فلا يجدي هذا البرهان معه وقال بهمنيار في التحصيل في فصل العقل والمعقول : ثم إن النفس الإنسانية تشعر بذاتها فيجب أن يكون وجودها عقليا فيكون نفس وجودها نفس إدراكها ولهذا لا تعزب عن ذاتها البتة ومثله في الشفاء وأنت تعلم أن عدم الخلو مبني على مقدمات خفية كتجرد النفس الذي أنكره الطبيعيون عن آخرهم وأن كل مجرد عالم ولا يتم البرهان عليه وأيضا ما نقل من أن علم النفس بذاتها عين ذاتها لا ينافي أن يكون لكون الذات علما بها شرط فما لم يتحقق ذلك الشرط لم تكن الذات علما بها كما أن لكون المبدأ الفياض خزانة لمعقولات زيد مثلا شرطا إذا تحقق تحقق وإلا فلا ويؤيد ذلك أن علم النفس بصفاتها أيضا عندهم ومع ذلك يجوز الغفلة عن الصفة في بعض الأحيان كما لا يخفى
وأيضا إذا قلنا : إن حقيقة الذات غير غائبة عنها وقلنا : إن ذلك علم يلزم أن يكون حقيقة النفس المجردة معلومة لكل أحد ومن البين أنه ليس كذلك على أن المحقق الطوسي قد منع قولهم : إنك لا تغفل عن ذاتك أبدا وقال : إن المغمى عليه ربما غفل عن ذاته في وقت الإغماء ومثله كثير من الأمراض النفسانية ومن العجائب أن بعض الأجلة ذكر أن المراد بخلوها في مبدإ الفطرة خلوها حال تعلقها بالبدن وقال : إنه لا ينافي
(14/200)

ذلك ما قاله الشيخ من أن الطفل يتعلق بالثدي حال التولد بإلهام فطري لأن حال التعلق سابق على ذلك وذلك بعد أن ذكر أن الخلو في مبدإ الفطرة يظهر لذوي الحدس بملاحظة حال الطفل وتجارب أحواله ووجه العجب ظاهر فافهم ولا تغفل
وتفسير العلم بالمعرفة مما ذهب إليه غير واحد وفي أمالي العز لا يجوز أن يجعل باقيا على بابه ويكون شيئا مصدرا أي لا تعلمون علما لوجهين الأول أنه يلزم حذف المفعولين وهو خلاف الأصل الثاني أنه لو كان باقيا على بابه لكان الناس يعلمون المبتدأ الذي هو أحد المفعولين قبل الخروج من البطون وهو محال لاستحالة العلم على من لم يولد بيان ذلك أنا إذا قلنا : علمت زيدا مقيما يجب أن يكون العلم بزيد متقدما قبل هذا العلم وهذا العلم إنما يتعلق بإقامته وكذلك إذا قلت : ما علمت زيدا مقيما فالذي لم يعلم هو إقامة زيد وأما هو فمعلوم وذلك مستفاد من جهة الوضع فحيث أثبت العلم أو نفي فلا بد أن يكون الأول معلوما فيتعين حمل العلم على المعرفة أه
ويعلم منه استقامة جعل العلم على بابه و شيئا مفعوله الأول والمفعول الثاني محذوف وقوله تعالى : وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة يحتمل أن يكون جملة ابتدائية ويحتمل أن يكون معطوفا على الجملة الواقعة خبرا والواو لا تقتضي الترتيب ونكتة تأخيره أن السمع ونحوه من آلات الإدراك إنما يعتد به إذا أحس وأدرك وذلك بعد الإخراج وجعل إن تعدي لواحد بأن كان بمعنى خلق فلكم متعلق به وإن تعدى لاثنين بأن كان بمعنى صير فهو مفعوله الثاني وتقديم الجار والمجرو على المنصوبات لما مر غير سرة
والمعنى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس فيحصل لكم علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم السكسبية وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في هذا المقام ومستمد ما ذهب إليه الكثير من الحكماء من أن النفس في أول أمرها خالية عن العلوم فإذا استعملت الحواس الظاهرة أدركت بالقوة الوهمية أمورا جزئية بمشاركات ومباينات جزئية بينها فاستعدت لأن يفيض عليها المبدأ الفياض المشاركات الكلية ويثبتوا للنفس أربع مراتب مرتبة العقل الهيولاني ومرتبة العقل بالملكة ومرتبة العقل بالفعل ومرتبة العقل المستفاد ويزعمون أن النفس لا تدرك الجزئي المادي ولهم في هذا المقام كلام طويل وبحث عريض
وأهل السنة يقولون : إن النفس تدرك الكلي والجزئي مطلقا باستعمال المشاعر وبدونه كما فصل في محله وتحقيق هذا المطلب بماله وما عليه يحتاج إلى بسط كثير وقد عرض والمستعان بالحي القيوم جل جلاله وعم نواله من الحوادث الموجبة لاختلال أمر الخاصة والعامة ما شوش ذهني وحال بين تحقيق ذلك وبيني أسأل الله سبحانه أن يمن علينا بما يسر الفؤاد وييسر لنا ما يكون عونا على تحصيل المراد بالجملة المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية أنه قال : يريد سبحانه أنه جعل لكم ذلك لتسمعوا مواعظ الله تعالى وتبصروا ما أنعم الله تعالى به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم إلى أن صرتم رجالا وتقلوا عظمته سبحانه وقيل المعنى جعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة التي هي دلائل سمعية لتستدلوا على ما يصلحكم في أمر دينكم والإبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته تعالى وغرائب مخلوقاته سبحانه فتستدلوا بها على وحدانيته
(14/201)

جل وعلا والأفئدة لتقلوا بها معاني الأشياء التي جعلها سبحانه دلائل لكم والسمع والأبصار على هذين القولين على ظاهرهما ولم نر من جوز إخراجهما عن ذلك
وجوز أن يراد بهما الحواس الظاهرة على الأول والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب كالقلب من الصدر وهذا الجمع على ما في الكشاف من جموع القلة الجارية مجرى الكثرة والقلة إذ لم يرد في السماع غيرها كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير فجرى ذلك المجرى وقال الزجاج : لم يجمع فؤاد على أكثر العدد وربما قيل : أفئدة وفئدان كما قيل : أغربة وغربان في جمع غراب وفي التفسير الكبير لعل الفؤاد إنما جمع على بناء القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثير وأما الفؤاد فقليل لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليس لهم ذلك بل يكونون مشتغلين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن فؤادهم ليس بفؤاد فلذا ذكر في جمعه جمع القلة أه ويرد عليه الإبصار فإنه جمع قلة أيضا وفي البحر بعد نقله أنه قول مذياني ولولا جلالة قائله لم نسطره في الكتب وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري مما ذكر سابقا إلا أن قوله : لم يجيء في جمع شسع إلا شسوع ليس بصحيح بل جاء فيه اشساع جمع قلة على قلة أه فاحفظ ولا تغفل
وزعم بعضهم أن الفؤاد إنما يدرك ما ليس بمحدود بنو أين وكيف وكم وغير ذلك وإن لكل مدرك قوة مدركة له تناسبه لا يمكن أن يدرك بغيرها على نحو المحسوسان الظاهرة من الأصوات والأوان والطعوم ونحوها والحواس الظاهرة من السمع والبصر والذوق إلى غير ذلك وهو كما ترى
وإفراد السمع باعتبار أنه مصدر في الأصل وقيل : إنما أفرد وجمع الإبصار للإشارة إلى أن مدركاته نوع واحد ومدركات البصر أكثر من ذلك وتقديمه لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر وقيل : لأن مدركاته أقل من مدركاته والخلاف في الأفضل منهما شهير وقد مر وتقديمها على الأفئدة المشار بها إلى العقل لتقدم الظاهر على الباطن أو لأن لهما مدخلا في إدراكه في الجملة بل هما من خدمه والخدم تتقدم بين يدي السادة وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة أو لأن مدركاتهما أقل قليل بالنسبة إلى مدركاته كيف لا ومدركاته لا تكاد تحصى وإن قيل : إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا كذلك واستأنس بعضهم بذكر ما يشير إليه فقط دون ضم ما يشير إلى سائر المشاعر الباطنية إليه لنفي الحواس الخمس الباطنة التي أثبتها الحكماء بما لا يخلو عن كدر وتفصيل الكلام في محله لعلكم تشكرون
78
- كي تعرفوا ما أنعم سبحانه عليكم طورا غب طور فتشكروه وقيل : المعنى جعل ذلك كي تشكروه تعالى باستعمال ما ذكر فيما خلق لأجله ألم يروا وقرأ حمزة وابن عامر وطلحة والأعمش وابن هرمز ألم تروا بالتاء الفوقية على أنه خطاب العامة والمراد بهم جميع الخلق المخاطبون قبل في قوله تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا على أن المخاطب من وقع في قوله تعالى : ويعبدون من دون الله بتلوين الخطاب لأنه المناسب للإستفهام الإنكاري ولذا جعل قراءة الجمهور بياء الغيبة باعتبار غيبة يعبدون ولم يجعلوا ذلك التفاتا وحينئذ فالإنكار باعتبار اندراجهم في العامة والرؤية بصرية أي ألم ينظروا إلى الطير جمع طائر كركب وراكب ويقع على الواحد أيضا وليس بمراد ويقال في الجمع أيضا طيور وأطيار مسخرات مذللات للطيران وفيه إشارة إلى أن طيرانها ليس بمقتضى طبعها
(14/202)

في جو السماء أي في الهواء المتباعد من الأرض والروح والسكال أبعد منه وقيل : الجو مسافة ما بين السماء والأرض والجوة لغة فيه وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمال القدرة وعن السدي تفسير الجو بالجوف وفسرت السماء على هذا بجهة العلو والطير قد يطير في هذه الجهة حتى يغيب عن النظر ولم يعلم منتهى ارتفاعه في الطيران إلا الله تعالى وعن كعب أن الطير لا ترتفع أكثر من اثني عشر ميلا
ما يمسكهن في الجو عن الوقوع إلا الله عز و جل بقدرته الواسعة فإن ثقل جسدها ورقة الهواء يقتضيان سقوطها ولا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها والجملة إما حال من الضمير المستتر في مسخرات أو من الطير وإما مستأنفة أن في ذلك الذي ذكر من التسخير في الجو والإمساك فيه وقيل : المشار إليه ما اشتملت عليه هذه الآية والتي قبلها لآيات دالة على كمال قدرته جل شأنه لقوم يؤمنون
79
- أي من شأنهم أن يؤمنوا وخص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به واقتصر الإمام على جعل المشار إليه ما في هذه الآية قال : وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه فإنه جل شأنه خلق الطائر خلقة معها يمكنه الطيران إن أعطاه جناحا يبسطه مرة ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولو لا ذلك لما كان الطبراني ممكنا أه
وكذا المولى أبو السعود قال : إن في ذلك الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك وجعل أجسادها من الخفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها لا يطيق ثقلها أن يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخترق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير لآيات ظاهرة وذكر أن تسخيرها بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المساعدة وتعقب ذلك أبو حيان بقوله : والذي نقوله أنه كان يمكن الطائر أن يطير ولو لم يخلق له جناح وإنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ولا نقول : إنه لو لا الجناح ولطف الجو والآلات ما أمكن الطيران أه وأنا لا أظن أن أحدا ينفي الإمكان الذاتي للطيران بدون الجناح مثلا لكن لا يبعد نفيه بدون لطف المطار والكثيف متى خرق كان المطار لطيفا فافهم واستدل بالآية على أن العبد خالق لأفعاله وأولها القاضي وهو ارتكاب لخلاف الظاهر لغير دليل
والله جعل لكم معطوف على ما مر وتقديم لكم على ما بعده للتشويق والإيذان من أول الأمر بأن هذا الجعل لمنفعتهم وقوله تعالى من بيوتكم تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة وتأكيد لما سبق من التشويق والإضافة للعهد أي من بيوتكم المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر والأخشاب سكنا فعل بمعنى مفعول كنقض وأنشد الفراء
جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا يلوج نفسي من حفر القراميص وليس بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية أي موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم وجوز أن يكون المعنى تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعض بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به
وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا أي بيوتا أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة وهي القباب المتخذة من
(14/203)

الأدم والظاهر أنه لا يندرج في هذه البيوت البيوت المتخذة من الشعر والصوف والوبر وقال ابن سلام وغيره : بالإندراج لأنها من حيث أنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها واعترض بأن من على الأول تبعيضية وعلى إرادة البيوت التي من الشعر ونحوه ابتدائية فإذا عمم ذلك يلزم استعمال المشتركة في معنييه وأجيب بأن القائل بذلك لعله يرى جواز هذا الإستعمال وممن قال بذلك البيضاوي وهو شافعي وقيل : الجلود مجاز عن المجموع تستخفونها أي تجدونها خفيفة سهلة المأخذ فالسين ليست للطلب بل للوجدان كأحمدته وجدته محمودا يوم ظعنكم وقت ترحالكم في النقض والحمل ويوم إقامتكم ووقت نزولكم وإقامتكم في مسايركم حسبما يتفق في الضرب والبناء وجوز أن يكون المعنى تجدونها خفيفة في أوقات السفر وفي أوقات الحضر واختار ابن المنير الأول وقال : إنه التفسير لأن المنة في خفتها في السفر أتم وأقوى إذ لا يهم المقيم أمرها قال في الكشف : وهو حق وقال بعض الفضلاء : ينبغي أن يكون الثاني أولى للعموم فإن حالتي السفر اندرجتا في يوم ظعنكم حيث أريد به مقابل الحضر والخفة على المقيم نعمة في حقه أيضا فإنه يضربها وقد ينقلها من مكان قريب لداع يدعو إليه فالأولى أن لا تخلو الآية عن التعرض لذلك أه ولا يخفى أن الإندراج ظاهر إن أريد بالظعن مقابل الحضر واما إذا أريد به مقابل النزول كما سمعت فغير ظاهر
نعم يجوز إرادة ذلك وقرأ الحرميان وأبو عمرو ظعنكم بفتح العين وباقي السبعة سكونها وهما لغتان والفتح على ما في المعالم أجزلهما وقيل : الأصل الفتح والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق كالشعر والشعرة
ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها عطف على قوله تعالى : ومن جلود والضمير للأنعام على وجه التنويع أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أثاثا أي متاع البيت كالفرش وغيرهما كما قال المفضل قال الفراء : لا واحد له من لفظه كما أن المتاع كذلك ولو جمعت قلت : أثثة في القليل وأثث في الكثير وقال أبو زيد واحده أثاثة وأصله كما قال الخليل من قولهم : أثث النبات والشعر وهو أثيث إذا كثر قال امرؤ القيس : وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل ونصبه على أنه معطوف على بيوتا مفعول جعل فيكون مما عطف فيه جاز ومجرور مقدم ومنصوب على مثلهما نحو ضربت في الدار زيدا وفي الحجرة عمرا وهو جائز وليس بمستقبح كما زعم في تلإيضاح
وجوز أن يكون نصبا على الحال فيكون من عطف الجار والمجرور فقط على مثله أي وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها حال كونها أثاثا وتعقبه السمين بأن المعنى ليس على هذا وهو ظاهر
ومتاعا أي شيئا يتمتع به وينتفع في المتجر والمعاش قاله المفضل وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المتاع الزينة وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد والعطف لتنزيل تغاير اللفظ منزلة تغاير المعنى كما في قوله :
وألفى قولها كذبا ومينا
والأول أولى إلى حين
80
- إلى انقضاء حاجاتكم منه وعن مقاتل إلى بلى ذلك وفناءه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى الموت والكلام في ترتيب المفاعيل مثله فيما مر غير مرة
(14/204)

والله جعل لكم مما خلق من غير صنع منكم ظلالا أشياء تستظلون بها من الغمام والشجر والجبال وغيرها وهو الذي يقتضيه الظاهر وروي ذلك عن قتادة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد الإقتصار على الغمام وعن الزجاج وقتادة أيضا الإقتصار على الشجر وعن ابن قتيبة الإقتصار على الشجر والجبال ولعل كل ذلك من أرباب التمثيل وعن السائب أن المراد ظلال البيوت وهو كما ترى ومن سبحانه بما ذكر لأن تلك الديار كانت غالبة الحرارة وجعل لكم من الجبال أكنانا مواضع تستكنون فيها من الغيران ونحوها والواحد كن وأصله السترة من أكنه وكنه أي ستره ويجمع على أكنان وأكنة
وجهل لكم سرابيل جمع سربال وهو كل ما يلبس أي جعل لكم لباسا من القطن والكتان والصوف وغيرها تقيكم الحر خصه بالذكر كما قال المبرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر أعني البرد ولم يخص هو بالذكر اكتفاء لأن وقاية الحر أهم عندهم لما مر آنفا
وقال بعضهم : من الرأس خص الحر بالذكر لأن وقايته أهم وتعقب دعوى الأهمية بأنه يبعدها ذكر وقاية البرد سابقا في قوله تعالى : لكم فيها دفء ثم قيل : وهذا وجه الإقتصار على الحر هنا لتقدم ذكر خلافه ثمت
واعترض بأنا لا نسلم أن إثبات الدفء هناك يبعد دعوى الأهمية بل في تغاير الأسلوبين ما يشعر بهذه الأهمية وقال الزجاج : خص الحر بالذكر لأن ما يقي من الحر يقي من البرد وذكر ذلك الزمخشري بعد ذكر الأهمية وقال في الكشف : هو الوجه وتخصيص الحر بالذكر لما قدمه في الوجه الأول يعني الأهمية وما قيل من أولوية الأول لقوله تعالى : مما خلق ظلالا فليس بشيء لأنه تعالى عقبه بقوله سبحانه : من الجبال أكنافا كيف وهو في مقام الإستيعاب أه وصاحب القيل هو ابن المنير وقد اعترض أيضا على قوله : إن ما يقي من الحر يقي من البرد بأنه خلاف المعروف فإن المعروف أن وقاية الحر رقيق القمصان ورفيعها ووقاية البرد ضده ولو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين القيظ والشتاء لباس الآخر لعد من الثقلاء أه فتدبر
وسرابيل من الجواشن والدروع تقيكم بأسكم أي البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحروب من الضرب والطعن وقال بعضهم : أصل البأس الشدة وأريد هنا الحرب والكلام على حذف مضاف أي أذى بأسكم وعلى الأول لا حاجة إليه وقد رجح لذلك كذلك أي مثل ذلك الإتمام للنعمة في الماضي يتم نعمته عليكم في المستقبل ومن هنا قيل : كما أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقى أو مثل هذا الإتمام البالغ يتم نعمته عليكم وإفراد النعمة إما لأن المراد بها المصدر أو أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل وقرأ ابن عباس تتم بتاء مفتوحة و نعمته بالرفع على الفاعلية وإسناد التمام إليها على الإتساع وعنه أيضا رضي الله تعالى عنه نعمه بصيغة الجمع لعلكم تسلمون
81
- أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوا به تعالى وحده تذروا ما كنتم به تشركون على أن الإسلام بمعناه المعروف أي رديف الإيمان ويجوز أن يكون بمعناه اللغوي وهو الإستسلام والإنقياد أي لعلكم تستسلمون له سبحانه وتنقادون لأمره عز و جل وأيا ما كان فهو موضوع موضع سببه كما أشير إليه أو مكنى به عنه
(14/205)

وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تسلمون بفتح التاء واللام من السلامة أي تشكرون فتسلمونمن العذاب أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك وقيل : تسلمون من الجراح بلبس تلك السرابيل ولا بأس أن يفسر ذلك بالسلامة من الآفات مطلقا ليشمل آفة الحر والبرد والأقرب إلى معنى قراءة الجمهور التفسير الثاني
هذا وفي بعض الآثار أن أعرابيا سمع قوله تعالى : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا إلى آخر الآيتين فقال عند كل نعمة : اللهم نعم فلما سمع قوله سبحانه : لعلكم تسلمون اللهم هذا فلا فنزلت فإن تولوا فعل ماضي على طريقة الإلتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تسلية له عليه الصلاة و السلام أي فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من البينات فأنما عليك البلاغ المبين
82
- فلا يضرك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب وقال ابن عطية : تقدير المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما عليك البلاغ لا خلق الإيمان وجوز أن يكون تولوا مضارعا حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه : إنه لا يظهر ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه بعض المحققين وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله تعالى والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة يعرفون نعمت الله استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة الله سبحانه أصلا فإنهم يعرفونها أنها من الله تعالى ثم ينكرونها بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلا وذلك كفران منزل منزلة الإنكار
وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال : إنكارهم إياها قولهم : ورثناها من آبائنا وأخرج هو وغيره أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال : إنكارهم إياها أن يقول الرجل : لو لا فلان أصابني كذا وكذا ولو لا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى الأسباب وقيل : قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى وحكى صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء وقيل : يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم
وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة و السلام نبي بالمعجزات ثم ينكرون ذلك ويجحدونه عنادا وفي لفظ ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : هو نبي
ومعنى ثم الإستعباد الإنكار بعد المعرفة لن حق من عرف النعمة الإعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسناد حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر قوله سبحانه وأكثرهم الكافرون
83
- أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر والحكم عليهم بمطلق الكفر المؤذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية كذا قيل وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن وقيل : المعنى وأكثرهم الجاحدون عنادا والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في الأدلة نظرا يؤدي
(14/206)

إلى المطلوب أو لأنه لم يقم عليه الحجة لكونه لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه وإما لأنه يقام مقام الكل فتأمل
ويوم نبعث من كل أمة جماعة من الناس شهيدا يشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان والمراد به كما روى ابن المنذر وغيره عن قتادة نبي تلك الأمة ثم لا يؤذن للذين كفروا أي في الإعتذار كما قال سبحانه : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون والظاهر أنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم ويحتمل أنهم لا استئذان منهم ولا إذن إذ لا حجة لهم حتى تذكر ولا عذر حتى يعتذر وقفال أبو مسلم : المعنى لا يسمع كلامهم بعد شهادة الشهداء ولا يلتفت إليه كما في قول عدي بن زيد : في سماع يأذن الشيخ له وحديث مثل ما ذي مشار وقيل : لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا والأول مروي عن ابن عباس وأبي العالية وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بعدم الأذن المنبيء عن الإقناط الكلي وذلك عندما يقال لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام فهي للتراخي الرتبي ولا هم يستعتبون
84
- أي لا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة والعمل الصالح إذ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون وقول الزمخشري : أي لا يقال لهم : ارضوا ربكم تفسير باللازم وقيل : المعنى ولا يطلب رضاهم في أنفسهم بالتلطف بهم من استعتبه كأعتبه إذا أعطاه العتبي وهي الرضا وأياما كان فالمراد استمرار النفي لا نفي الإستمرار وانتصاب الظرف على ما قال الحوفي وغيره بمحذوف تقديره اذكر وقدره بعضهم خوفهم وهو في ذلك مفعول به وقيل : وهو نصب على الظرفية بمحذوف أي يوم نبعث يحيق بهم ما يحيق وقال الطبري : هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه ينكرونها أي ثم ينكرونها اليوم ويوم نبعث من كل أمة شهيدا فيشهد عليهم ويكذبهم وليس بشيء وتجري هذه الإحتمالات في قوله تعالى : وإذا رأى الذين ظلموا العذاب أي الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم والمراد من الذين ظلموا الذين كفروا وكان الظاهر الضمير إلا أنه أقيم المظهر مقامه للنعي عليهم بما ذكر في حيز الصلة وتعليق الرؤية بالعذاب للمبالغة وقيل : المراد به جهنم نفسها مجازا ويراد بضميره في قوله تعالى : فلا يخفف عنهم معناه الحقيقي على سبيل الإستخدام وليس بذاك وهذه الجملة قيل : مستأنفة وقيل : جواب إذا بتقدير فهو لا يخفف لأن المضارع مثبتا كان أو منفيا إذا وقع جواب إذا لا يقترن بالفاء واستظهره ذلك أبو حيان ونقل عن الحوفي القول بأنه جواب وأنه العامل في إذا ثم قال : وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في إذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط وإن كان ليس قول الجمهور وتعقب الخفاجي القول بالجوابية بأنه محتاج إلى ما سمعت من التقدير وهو مع كونه خلاف الأصل مناف للغرض في تغاير الجملتين في النظم يعني قوله تعالى : فلا يخفف عنهم العذاب وقوله سبحانه : ولا هم ينظرون
85
- أي يمهلون وهو أن عدم التخفيف واقع بعد رؤية العذاب فلذا لم يؤت بجملة اسمية بخلاف عدم الإمهال فإنه ثابت لهم في تلك الحالة أه
وفي كلام الزمخشري كما في الكشف إشعار بأن الناصب المحذوف لإذا بغتهم وإنه هو الجواب حيث قال بعد أن بين وجه انتصاب اليوم وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون كقوله تعالى : بل تأتيهم بغتة فتبهتهم الآية وفيه إشعار أيضا بأن عدم التخفيف والإنظار يدل على أثقاله
(14/207)

ومباغتته كما صرح به في الآية الأخرى حيث أبت الإتيان بغته والبهت الذي هو الأثقال وزيادة ورتب عليه فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ومثل هذه الفاء فصيحة عنده فافهم وفي التفسير الكبير قال المتكلمون إن العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع وهو المراد بقوله تعالى : لا يخفف عنهم ويجب أن يكون دائميا وهو المراد من قوله سبحانه : ولا هم ينظرون وفيه نظر
وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم الذين كانوا يزعمونهم شركاء لله سبحانه وتعالى ويعبدونهم معه عز و جل والمراد بهم كل من اتخذوه شريكا له جل وعلا من صنم ووثن وشيطان وآدمي وملك وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الإتخاذ وقيل : أريد بهم معبوداتهم الباطلة كما تقدم والإضافة إليهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم واقتصر بعضهم على الأصنام ولعل التعميم أولى وقال الحسن شركاؤهم الشياطين شركوهم في الأموال والأولاد وقيل : شركوهم في الكفر أي كفروا مثل كفرهم وقيل : شركوهم في وبال ذلك حيث جملوهم عليه قالوا أي بألسنتهم وقيل : ختم الله تعالى على أفواههم وأنطق جوارحهم فقالت عنهم ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك أي نعبدهم ونطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعا في توزيع العذاب بينهم واعترض بأنه لا يناسب تفسير الشركاء بالأصنام وفيه أنها تجيء على حالة يعقل معها عذابها فلا بأس في ذلك سواء فسرت الشركاء بالأصنام فقط أو بما يعمها وغيرها وقال أبو مسلم : مقصودهم من ذلك إحالة الذنب على الشركاء ظنا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم شيئا
وتعقبه القاضي بأنه بعيد لأن الكفار يعلمون علما ضروريا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ولا نصرة ولا فدية ولا شفاعة أورد نحوه على ما ذكرنا بناء على أنهم يعلمون علما ضروريا أيضا أنه لا يحمل أحد من عذابهم شيئا
وأجيب بأنه على تقدير تسليم حصول العلم الضروري لهم بذلك إذ ذاك يجوز أن يدهشوا فيغفلوا عن ذلك فيقولوا ما يقولون طامعين فيما ذكر وهو نظير قولهم : ربنا خفف عنا يوما من العذاب يا مالك ليقض علينا ربك ربنا أخرجنا نعمل صالحا إلى غير ذلك مما لهم علم ضروري عند بعضهم بأنه لا يكون وقيل : إن القوم مع علمهم بأن ما يرجونه ويطمعون فيه لا يحصل لهم أصلا وعدم غفلتهم عن ذلك تغلبهم أنفسهم بمقتضى الطبيعة لشدة ما هم فيه والعياذ بالله تعالى حتى تعلق آمالها بالمحال وقيل : قالوا ذاك اعترافا بأنهم كانوا مخطئين في عبادتهم وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى : من دونك وفيه تأمل نعم قوله تعالى : فألقوا أي شركاؤهم إليهم القول إنكم لكاذبون
86
- أظهر ملاءمة للأول فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ظاهر في كونه للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه والظاهر أن التكذيب راجع إلى دعوى أنهم كانوا يعبدونهم أو يطيعونهم من دون الله تعالى ومرادهم على ما قيل : أنكم ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أشياء تصورتموها بأذهانكم الفاسدة وزعمتم أنا هاتيك الأشياء وهيهات هيهات ليس بيننا وبينها جهة جامعة ولا علاقة نافعة وقيل : إنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم السلام : بل كانوا يعبدون الجن يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر
(14/208)

والإلجاء كما قال إبليس : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فكأنهم قالوا : ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم وقيل : يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في إخبارهم بكذب من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله : أني كفرت بما أشركتموني من قبل وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى أنهم شركاء الله سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في ذلك الموقف وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين من الشركاء فافهم والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك وجوز على التعميم أن يكون القائل بعضهم وهو من يعقل منهم وكان الظاهر فقالوا لهم إنكم لكاذبون إلا أنه عدل إلى ما في النظم الكريم للإشارة إلى أنهم قالوا ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن غيره وفيه من الإشعار بالحرص على تكذيبهم ما فيه ويؤيد ذلك تأكيدهم الجملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون وألقوا أي الذين أشركوا وقيل : هم وشركاؤهم جميعا والأكثرون على الأول إلى الله يومئذ السلم الإستسلام والإنقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والإستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع وروي يعقوب عن أبي عمرو أنه قرأ السلم بإسكان اللام وقرأ مجاهد السلم بضم السين واللام وضل عنهم ضاع وبطل ما كانوا يفترون
87
- من أن لله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين ما سمعوا
هذا ومن باب الإشارة في الآيات
ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه ليكفروا بما آتيناهم من النعمة بالغفلة عن منعمها فتمتعوا فسوف تعلمون وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء ويجعلون لما لا يعلمون فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي نصيبا مما رزقناهم فيقولون هو أعطاني كذا ولم لم يعطني لكان كذا وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين والإشارة في قوله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا على ما فيه أيضا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والإنس الآخذة بها إلى حضيرة القدس : ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت لعادت إليه الروح وانتعش الجسم وأوحى ربك إلى النحل قيل أي نحل الأرواح أن اتخذي من الجبال أي جبال أنوار الذات بيوتا مقار لتسكنين فيها ومن الشجر أي ومن أشجار الصفات ومما يعرشون أنوار عروش الأفعال ثم كلي من كل الثمرات أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الأفعالية فاسلكي سبل ربك وهي صحاري قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه ذللا منقادة لما أمرت به يخرج من بطونها شراب وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه مختلف
(14/209)

ألوانه باختلاف التمرات فيه شفاء للناس لكل مريض المحبة وسقيم الألفة ولديغ الشوق وقيل بالإشارة بالنحل إلى الذين هم في مباديء السلوك من أرباب الإستعداد ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره حين سئل عنه : نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولا أن يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ الثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التعشب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروش في الإرتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لا سيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي
وقال أبو بكر الوراق : النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبل ربها على ما أمرت به جعل لعابها شفاء للناس كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه عز و جل جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق فمن نظر إليه اعتبر ومن سمع كلامه اتعظ ومن جالسه سعد انتهى وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى قد يودع الشخص الحقير الشيء العزيز فإنه سبحانه أودع النحل وهي من أحقر الحيوانات وأضعفها العسل وهو من ألذ المذوقات وأحلاها فلا ينبغي التقيد بالصور والإحتجاب بالهيآت وفي الحديث رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأدبره وعن يعسوب المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال والله فضل بعضكم على بعض في الرزق قيل : الإشارة فيه إلى تفاوت أرزاق السالكين فرزق بعضهم طاعات وبعض آخر مقامات وبعض حالات وبعض مكاشفات وبعض مشاهدات وبعض معرفة وبعض محبة وبعض توحيد إلى غير ذلك وذكروا أن رزق الأشباح العبودية ورزق الأرواح رؤية أنوار الربوبية ورزق العقول الأفكار ورزق القلوب الإذكار ورزق الأسرار حقائق العلوم الغيبية المكشوفة لها في مجالس القرب ومشاهدة الغيب فلا تضربوا لله الأمثال لتقدسه تعالى عن الأوهام والإشارات والعبارات وتنزهه سبحانه عن درك الخليقة فإن الخلق لا يدرك إلا خلقا ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه : إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها فلا يعرف الله تعالى إلا الله عز و جل وعلل النهي بقوله تعالى : إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ضرب الله مثلا عبدا مملوكا محبا لغير الله تعالى ولا شك أن المحب أسير بيد المحبوب لا يقدر على شيء لأنه مقيد بوثاق المحبة ومن رزقناه منا رزقا حسنا فجعلناه محبا لنا مقبلا بقلبه علينا متجردا عما سوانا وآتيناه من لدنا علما فهو ينفق منه سرا وذلك من النعم الباطنة وجهرا وذلك من النعم الظاهرة وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا استعداد فيه للنطق وهو مثل المشرك لا يقدر على شيء لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده وهو كل على مولاه لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجة أينما يوجهه لا يأت بخير لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو العدم هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو الموحد القائم بالله تعالى الفاني عن غيره والعدل على ما قيل : ظل الوحدة في عالم الكثرة وهو على سراط مستقيم صراط العزيز الحميد الذي عليه خاصته تعالى من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع ولله غيب السماوات والأرض علم مراتب الغيوب أو ما غاب من حقيقتهما أو ما خفى فيهما من أمر
(14/210)

القيامة الكبرى وما أمر الساعة أي القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية إلا كلمح البصر أو هو أقرب وهو بناء على التمثيل وإلا فقد قيل : إن أمر الساعة ليس بزماني وما كان كذلك يدركه من يدركه لا في الزمان إن الله على كل شيء قدير ومن ذلك أمر الساعة والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا الآية قال في أسرار القرآن : أخبر سبحانه أنه أخرجهم من بطون الأقدار وأرحام العدم وأصلاب المشيئة على نعت الجهل لا يعلمون شيئا من أحكام الربوبية وأمور العبودية وأوصاف الأزل فألبسهم إسماعا من نور سمعه وكساهم أبصارا من نور بصره وأودع في قلوبهم علوم غيبته لعلهم يشكرونه انتهى وهو ظاهر في أن المراد بالأفئدة القلوب
وذكر بعض من أدركناه من المرتاضين في كتابه الفوائد وشرحه أن مشاعر الإنسان الصدر والمراد به الخيال والنفس الكلية التي هي محل الصور العلمية كلية أو جزئية فهو محل العلم المقابل للجهل والقلب وهو محل المعاني واليقين بالنسب الحكيمة ويقابله الشك والريب والفؤاد وهو محل المعارف الإلهية المجرد عن جميع الصور والنسب والأوضاع والإشارات والجهات والأوقات ويقابلها الإنكار وهو أعلى المشاعر ونور الله تعالى المشار إليه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى وهو الوجود لأنه الجهة العليا من الإنسان أعني وجهه من جهة ربه وبه يعرف الله تعالى وهو في الإنسان بمنزلة الملك في المدينة والقلب بمنزلة الوزير له انتهى وله أيضا كلام في الأم وكذا في الأب غير ما ذكر وذلك أنه يطلق الأب على المادة والأم على الصورة وزعم أن قول الصادق رضي الله تعالى عنه : أن الله تعالى خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه أبوه النور وأمه الرحمة إشارة إلى ذلك وأن ما اصطلح عليه المتقدمون والحكماء من أن الأب هو الصورة والأم هي المادة وأن الصورة إذا نكحت المادة تولد عنهما الشيء توهما منهم أن النشور والخلق في بطن المادة بعيد من جهة المناسبة إلى آخر ما قال فتفطن وإياك أن تعدل عن الطريق السوي ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح ما يمسكهن من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل إلا الله عز و جل والله جعل لكم مما خلق ظلالا وهو ما يستظل به من وهج نار الحاجة فالماء ظل للعطشان والطعام ظل للجيعان وكل ما يقوم بحاجة شخص ظل له وفي الخبر السلطان ظل الله تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم وقيل : الظلال الأولياء يستظل بهم المريدون من شدة حر الهجران ويأوون إليهم من قهر الطغيان وقد يؤل قوله تعالى : وجعل لكم من الجبال أكنانا بنحو هذا فما أشبه الأولياء بالجبال وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر فيه إشارة إلى ما جعل للعارفين من سرابيل روح الأنس لئلا يحترقوا بنيران القدس وأشار تعالى بقوله جل جلاله : وسرابيل تقيكم ابأسكم إلى ما من به من المعرفة والمحبة ليدفع بذلك كيد الشياطين والنفوس كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون تنقادون لأمره سبحانه في العبودية وتخضعون لعز الربوبية قال ابن عطاء : تمام النعمة السكون إلى المنعم وقال حمدون : تمامها في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية وقال أبو محمد الحريري : تمامها خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة
(14/211)

النفس من الرياء والسمعة يعرفون نعمة الله وهي هداية النبي أو وجوده بقوة الفطرة ثم ينكرونها لعنادهم وغلبة صفات نفوسهم وأكثرهم الكافرون لشهادة فطرهم بحقيقته ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا في الإعتذار عن التخلف عن دعوته إذ لا عذر لهم ولا هم يستعتبون لأنهم قد حق عليهم القول بمقتضى استعدادهم نسأل الله تعالى العفو والعافية وألقوا إلى الله يومئذ السلم قيل : هذا في الموقف الثاني حين تضعف غواشي أنفسهم المظلمة وترق حجبها الكثيفة وأما في الموقف الأول حين قوة هيآت الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة فلا يستسلمون كما يشير إليه قوله تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم وقيل : المستسلمون بعض والحالفون بعض فافهم والله تعالى أعلم
الذين كفروا في أنفسهم وصدوا غيرهم عن سبيل الله بمنع من يريد الإسلام عنه وبحمل من استخفوه على الكفرة فالصد عن السبيل أعم من المنع عنه ابتداء وبقاء كذا قيل : والظاهر الأول والظاهر أن الموصول مبتدأ وقوله تعالى : زدناهم عذابا فوق عذابهم خبره وجوز ابن عطية كون الموصول بدلا من فاعل يفترون ويكون زدناهم مستأنفا وجوز بعضهم كون الأول نصبا على الذم أو رفعا عليه فيضمر الناصب والمبتدأ وجوبا و زدناهم بحاله وهذه الزيادة إما بالشدة أو بنوع آخر من العذاب والثاني هو المأثور فقد أخرج ابن مردوية والخطيب عن البراء أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن ذلك فقال : عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم وروي نحوه الحاكم وصحه والبيهقي وغيره عن ابن مسعود
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنهن البغال الدهم وأفاعي كأنهم البخاتى فتضربهم فذلك الزيادة وعن ابن عباس أنها أنهار من صفر مذاب يسيل من تحت العرش يعذبون بها وعن الزجاج يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار بما كانوا يفسدون
88
- متعلق بزدناهم أي زدناهم عذابا فوق العذاب الذي يستحقونه بكفرهم بسبب استمرارهم على الإفساد وهو الصد عن السبيل وجوز أن يفسر ذلك بما هو أعم من الكفر والصد والمعنى زدناهم عذابا فوق عذابهم الذي يستحقونه بمجرد الكفر والصد بسبب استمرارهم على هذين الأمرين القبيحين ووجه ذلك أن البقاء على المعصية يومين مثلا أقبح من البقاء عليها يوما والبقاء ثلاثة أيام أقبح من البقاء يومين وهكذا ومن هنا قالوا : الإصرار على الصغيرة كبيرة وقيل : إن أهل جهنم يستحقون من العذاب مرتبة مخصوصة هي ما يكون لهم أول دخولها والزيادة عليها إنما لحفظها إذ لو لم تزد لألفوها وطابت أنفسهم بها كمن وضع يده في ماء حار مثلا فإنه يجد أول زمان وضعها ما لا يجده بعد مضي ساعة وهو كما ترى
ويوم نبعث في كل أمة شهيدا وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نبيهم الذي بعث فيهم في الدنيا ومعنى كونه من أنفسهم أنه منهم وذلك ليكون أقطع للمعذرة ولا يرد لوط عليه السلام فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم أيضا وقال ابن عطية : يجوز أن يبعث الله تعالى شهداء من الصالحين مع الأنبياء عليهم السلام وقد قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم : إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن
(14/212)

أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة وذكر الإمام في الآية قولين الأول أن كل نبي شاهد على قومه كما تقدم والثاني إن كل قرن وجمع يحصل في الدنيا فلا بد أن يحصل فيهم من يكون شهيدا ولا بد أن لا يكون جائز الخطأ وإلا لاحتاج إلى آخر وهكذا فيلزم التسلسل ووجود الشهيد كذلك في عصر النبي صلى الله عليه و سلم ظاهر وأما بعده فلا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وهم قائمون مقام الشهيد المعصوم ثم قال : وهذا يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة انتهى وإلى أنه لا بد في كل عصر ممن يكون قوله حجة على أهل عصره ذهب الجبائي وأكثر المعتزلة قال الطبرسي في مجمع البيان : ومذهبهم يوافق مذهب أصحابنا يعني الشيعة وإن خالفه في أن ذلك الحجة من هو وأنت تعلم أن الإستدلال بالآية على هذا المطلب ضعيف وتحقيق الكلام في ذلك يطلب من محله
وقال الأصم : المراد بالشهيد أجزاء من الإنسان وذلك أنه تعالى ينطق عشرة أجزاء منه وهي الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان فتشهد عليه لأنه سبحانه قال في صفة الشهيد من أنفسهم
وتعقبه القاضي وغيره بأن كونه شهيدا على الأمة يقتضي أن يكون غيرهم وأيضا قوله تعالى : من كل أمة يأبى ذلك إذ لا يصح وصف آحاد الأعضاء بأنها من الأمة : وأيضا مقابلة ذلك بقوله سبحانه : وجئنا بك شهيدا على هؤلاء يبعد ما ذكر كما لا يخفى والمراد بهؤلاء أمته صلى الله عليه و سلم عند أكثر المفسرين ولم يستبعد أن يكون المراد بهم ما يشتمل الحاضرين وقت النزول وغيرهم إلى يوم القيامة فإن أعمال أمته عليه الصلاة و السلام تعرض عليه بعد موته
فقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ومماتي خير لكم تعرضون على أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله تعالى عليه وما رأيت من شر استغفرت الله تعالى لكم بل جاء أن أعمال العبد تعرض على أقاربه من الموتى فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تفضحوا أمواتكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور وأخرج أحمد عن أنس مرفوعا إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا وأخرجه أبو داود من حديث جابر بزيادة وألهمهم أن يعملوا بطاعتك
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء أنه قال إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ويساؤن فكان أبو الدرداء يقول عند ذلك : اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي عبد الله بن رواحة إذا لقيته يقول ذلك في سجوده والنبي صلى الله عليه و سلم لأمته بمنزلة الوالد بل أولى ولم أقف على ما عرض أعمال الأمم السابقة على أنبيائهم بعد الموت ولم أر من تعرض لذلك لانفيا ولا إثباتا فإن قيل : إنها تعرض فأمر الشهادة مما لا غبار عليه في نبي لم يبعث في أمته بعد خلوهم عنه نبي آخر وإن قيل : إنها لا تعرض احتاج أمر الشهادة إلى الفحص عن وجود أمر يفيد العلم المحصص لها أو التزام أن الشهيد ليس هو النبي وحده كما سمعت فيما سبق ثم إن حديث العرض على نبينا عليه الصلاة و السلام يشكل عليه حديث ليذادن عن الحوض أقوام الخبر وقد ذكر ذلك المناوي ولم يجب عنه وقد أجبت عنه في بعض تعليقاتي فتأمل وقيل : المراد بهم شهداء الأمم وهم الأنبياء عليهم السلام لعلمه عليه الصلاة و السلام بعقائدهم واستجماع شرعه لقواعدهم لا الأمة لأن كونه صلى الله تعالى عليه وسلم شهيدا على أمته علم مما تقدم فالآية مسوقة لشهادته عليه الصلاة و السلام على الأنبياء صلى الله عليه و سلم فتخلو عن التكرار ورد بأن المراد بشهادته عليه الصلاة و السلام على أمته تزكيته وتعديله لهم بعد أن يشهدوا على تبليغ الأنبياء عليهم السلام حسبما علموه من كتابهم
(14/213)

وهذا لم يعلم مما مر ليكون تكرارا وهو الوارد في الحديث وقد ذكره غير واحد في تفسير قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا و على لا مضرة فيها وإن ضرت فالضرر مشترك نعم لم يفهم مما قبل شهادة هذه الأمة على تبليغ الأنبياء عليهم السلام ليظهر كون هذه الشهادة للتزكية كما في آية البقرة ولعل الأمر في ذلك سهل وفي إرشاد العقل السليم قوله تعالى : ويوم نبعث تكرير لما سبق تثنية للتهديد والأمر بهؤلاء الأمم وشهداؤهم وإيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع انتهى
وتعقب بأن حمل هؤلاء على ما ذكر خلاف الظاهر وجوز أن يكون إيثار المجيء على البعث للإيذان بالمغايرة بين الشهادتين بناء على أن شهادته صلى الله تعالى عليه وسلم على أمته للتزكية ولا كذلك شهادة سائر الأنبياء عليهم السلام على أممهم
والظرف معمول لمحذوف كما مر والمراد به يوم القيامة ونزلنا عليك الكتاب الكامل في الكتابية الحقيقي بأن يخص به اسم الجنس وهذا على ما في البحر استئناف إخبار وليس داخلا مع ما قبله لاختلاف في الزمانين
وجوز غير واحد كونه حالا بتقدير قد وذكر بعض الأفاضل أن قوله تعالى : وجئنا بك الخ إن كان كلاما مبتدأ غير معطوف على قوله سبحانه : نبعث و شهيدا حالا مقدرة فلا إشكال في الحالية وإن كان عطفا عليه والتعبير بالماضي لما عرف في أمثاله فمضمون الجملة الحالية متقدم بكثير فلا يتمشى التأويل الذي ذكروه في تصحيح كون الماضوية حالا هنا ففي صحة كونه حالا كلام إلا أن يبنى على عدم جريان الزمان عليه سبحانه وتعالى وتعقب بأنه ليس شيء لأن قوله سبحانه : تبيانا لكل شيء يدخل فيه العقائد والقواعد بالدخول الأولى وذلك مستمر إلى البعث وما بعده ولا حاجة إلى ما قيل من أن المعنى بحيث أو بحال أنا كنا نزلنا عليك وتلك الحيثية ثابتة له سبحانه وتعالى الأبد انتهى وفيه نظر
وزعم بعضهم أن الجملة حال من ضمير الرفع في الفعل العامل في الظرف أي خوفهم ذلك اليوم وقد نزلنا عليك الكتاب وهو كما ترى والأسلم الإستئناف والتبيان مصدر يدل على التكثير على ما روي ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين قال سلامة الأنباري في شرح المقامات : كل ما ورد من المصادر عن العرب على تفعال فهو بفتح التاء إلا لفظتين وهما تبيان وتلقاء وقال ابن عطية : هو اسم وليس بمصدر وهذه الصيغة أيضا في الأسماء قليلة فعن ابن مالك أنه قال في نظم الفرائد : جاء على تفعال بالكسر وهو غير مصدر رجل تكلام وتلقام وتلعاب وتمساح للكذاب وتضراب للناقة القريبة بضراب الفحل وتمراد لبيت الحمام وتلفاف لثوبين ملفوفين وتجفاف لما تجلل به الفرس وتهواء لجزاء ماض من الليل وتنبال للقصير اللئيم وتعشار وتبراك لموضعين وزاد ابن جعوان تمثال وتيفاق لموافقة الهلال واقتصر أبو جعفر النحاس في شرح المقامات على أقل من ذلك فقال : ليس في كلام العرب على تفعال إلا أربعة أسماء وخامس مختلف فيه يقال تبيان ويقال لقلادة المرأة تقصار وتعشار وتبراك والخامس تمساح وتمسح أكثر وأفصح انتهى والمعروف أن تبيانا مصدر وليس باسم وإن قيل : إنه قول أكثر النحويين وجوز الزجاج فيه الفتح في غير القرآن والمراد من كل شيء على ما ذهب إليه جمع ما يتعلق بأمور الدين أي بيانا بليغا لكل شيء يتعلق بذلك ومن جملته أحوال الأمم مع أنبيائهم عليهم السلام وكذا ما أخبرت به هذه الآية من بعث الشهداء وبعثه عليه الصلاة و السلام فانتظام
(14/214)

الآية بما قبلها ظاهر والدليل على تقدير الوصف المخصص للشيء المقام وأن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي لبيان الدين ولذا أجيب السؤال عن الأهلة بما أجيب وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أنتم أعلم بأمور دنياكم وكون الكتاب تبيانا لذلك باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة حيث أمر باتباع النبي صلى الله عليه و سلم وقيل فيه : وما ينطق عن الهوى وحثا على الإجماع في قوله سبحانه : ويتبع غير سبيل المؤمنين الآية فإنها على ما روي عن الشافعي وجماعة دليل الإجماع وقد رضى صلى الله تعالى عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال عليه الصلاة و السلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤا طرق الإجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب وقال بعض : كل للتكثير والتفخيم كما في قوله تعالى : تدمر كل شيء بأمر ربها إذ يأتي الإحاطة والتعميم ما في التبيان من المبالغة في البيان وأن من أمور الدين تخصيصا لا يقتضيه المقام ورد الثاني بما سمعت آنفا والأول بأن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية كما قيل في قوله تعالى : وما ربك بظلام للعبيد إنه من قولك : فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده ومنه قوله سبحانه : وما للظالمين من أنصار وقال بعضهم : لكل من القولين وجهة والمرجح للأول إبقاء كل على حقيقتها في الجملة وتعقب بأنه يرجح الثاني إبقاء شيء على العموم وسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل ومن المجاز على قول نعم ذهب أكثر المفسرين إلى اعتبار التخصيص وروي ذلك عن مجاهد
وقال الجلال المحلي في الرد على من لم يجوز تخصيص السنة بالكتاب : إنه يدل على أن الجواز قوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وإن خص من عمومه بغير القرآن وتوجيه كونه تبيانا لكل ما يتعلق بالدين بما تقدم هو الذي يقتضيه كلام غير واحد من الأجلة فعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال مرة بمكة : سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور فقال : بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وحدثنا سفيان عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق ابن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه أمر بقتل المحرم الزنبور وروي البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : لعن الله تعالى الواشمات والمنوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى فقالت له امرأة في ذلك فقال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قالت : بلى قال : فإنه عليه الصلاة و السلام قد نهى عنه
وذهب بعضهم إلى ما يقتضيه ظاهر الآية غير قائل بالتخصيص ولا بأن كل للتكثير فقال : ما من شيء من أمر الدين والدنيا إلا يمكن استخراجه من القرآن وقد بين فيه كل شيء بيانا بليغا واعتبر في ذلك مراتب الناس في الفهم فرب شيء يكون بيانا بليغا لقوم ولا يكون كذلك لآخرين بل قد يكون بيانا لواحد ولا يكون بيانا لآخر فضلا عن كون البيان بليغا أو غير بليغ وليس هذا إلا لتفاوت قوى الأبصار ونظير ذلك اختلاف مراتب الإحساس لتفاوت قوى الإبصار وقيل : معنى كونه تبيانا أنه كذلك في نفسه وهو لا يستدعي وجود مبين
(14/215)

له فضلا عن تشارك الجميع في تحقق هذا الوصف بالنسبة إليهم بأن يفهموا حال كل شيء منه على أتم وجه ونظير ذلك الشمس فإنها منيرة في حد ذاتها وإن لم يكن هناك مستنير أو ناظر ويغني عن هذا الإعتبار اعتبار أن المبالغة بحسب الكمية إلا الكيفية ويؤيد القول بالظاهر أن الشيخ الأكبر قدس سره وغيره قد استخرجوا منه ما لا يحصى من الحوادث الكونية وقد رأيت جدولا حرفيا منسوبا إلى الشيخ كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل المحشر وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل الجنة وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل النار وكل ذلك على ما يزعمون مستخرج من الكتاب الكريم ومثل هذا الجفر الجامع المنسوب إلى أمير المؤمنين علي كرك الله تعالى وجهه فإنهم قالوا : إنه جامع لما شاء الله تعالى من الحوادث الكونية وهو أيضا مستخرج من القرآن العظيم
وقد نقل الجلال السيوطي عن المرسى أنه قال : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به صم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلاما استأثر به سبحانه ثم وردت عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن عباس وابن مسعود حتى قال الأول : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه وقيل : لا يخلو الزمان من عارف بجميع ذلك وهو الوارث المحمدي ويسمى الغوث وقطب الأقطاب والمظهر الأتم ومظهر الاسم الأعظم إلى غير ذلك ويرد على هؤلاء القائلين حديث التأثير وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أنتم أعلم بأمور دنياكم وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك منه صلى الله عليه و سلم قبل نزول ما يعلم منه عليه الصلاة و السلام حال التأبير ويحتمل أن يكون بعد النزول وقال ذلك صلى الله عليه و سلم قبل الرجوع إليه والنظر فيه ولو رجع ونظر لعلم فوق ما علموا فأعلميتهم بأمور دنياهم إنما جاءت لكون علمهم بذلك لا يحتاج إلى الرجوع والنظر وعلمه عليه الصلاة و السلام يحتاج إلى ذلك وهذا كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم لو استقبلت ما استدبرت لما سقت الهدى مع أن سوق الهدى من الأمور الدينية وقد قالوا : إن القرآن العظيم تبيان لها وهذا يرد عليهم لولا هذا الجواب فتأمل فالبحث بعد غير خال عن القيل والقال وقال بعضهم : إن الأمور إما دينية أو دنيوية والدنيوية لا اهتمام للشارع بها إذ لم يبعث لها والدينية إما أصلية أو فرعية والإهتمام بالفرعية دون الإهتمام بالأصلية فإن المطلوب أولا بالذات من بعثة الأنبياء عليهم السلام وهو التوحيد وما أشبهه بل المطلوب من خلق العباد هو معرفته تعالى كما يشهد له سبحانه : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون بناء على تفسير كثير العبادة بالمعرفة وقوله تعالى في الحديث القدسي المشهور على الألسنة المصحح من طريق الصوفية : كنت منزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف والقرآن العظيم قد تكفل ببيان الأمور الدينية الأصلية على أتم وجه فليكن المراد من كل شيء ذلك ولا يحتاج هذا إلى توجيه كونه تبيانا إلى ما احتاج إليه حمل كل شيء على أمور الدين مطلقا من قولنا : إنه باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة الخ واختار بعض المتأخرين أن كل شيء على ظاهره إلا أن المراد بالتبيان التبيان على سبيل الإجمال وما من شيء إلا بين في الكتاب حاله إجمالا ويكفي في ذلك بيان بعض أحواله والمبالغة باعتبار الكمية لا الكيفية على ما علمت سابقا ولو حمل التبيان على
(14/216)

ما يعم الإجمال والتفصيل مع اعتبار مراتب المبين لهم واعتبر التوزيع جاز أيضا فليتدبر ونصب تبيانا على الحال كما قال أبو حيان
وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي نزلنا عليك الكتاب لأجل التبيان وهدى ورحمة للجميع بقرينة قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وحرمان الكفرة من جهة تفريطهم وبشرى للمسلمين
89
- خاصة وجوز صرف الجميع لهم لأنهم المنتفعون بذلك أو لأنه الهداية الدلالة الموصلة والرحمة الرحمة التامة
إن الله يأمر أي فيما نزله عليك تبيانا لكل شيء وإيثار صيغة الإستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجدد والإستمرار بالعدل أي بمراعاة التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وهو رأس الفضائل كلها يندرج تحته فضيلة العقلية الملكية من الحكمة المتوسطة بين الجربزة والبلادة وفضيلة القوة الشهوية البهيمية من العفة المتوسطة بين الخلاعة والجمود وفضيلة القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهور والجبن
فمن الحكم الإعتقادية التوحيد المتوسط بين التعطيل ونفي الصنائع كما تقوله الدهرية والتشريك كما تقوله الثنويه والوثنية وعليه اقتصر ابن عباس في تفسير العدل على ما رواه عنه البيهقي في الأسماء والصفات وابن جرير وابن المنذر وغيرهم وضم إليه بعضهم القول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر ومن الحكم العملية التعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة وترك العمل لزعم أنه لا فائدة فيه إذ الشقي والسعيد متعينان في الأزل كما ذهب إليه بعض الملاحدة والترهب بترك المباحات تشبيها بالرهبان ومن الحكم الخلقية الجود المتوسط بين البخل والتبذير وعن سفيان بن عيينة أن العدل استواء السريرة والعلانية في العمل وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي : صف لي العدل فقلت بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنا وللمثل منهم أخا وللنساء كذلك وعاقب الناس على قدر ذنوبهم وعلى قدر أجسادهم ولا تضربن لغضبك سوطا واحدا فتكون من العادين ولعل اختبار ذلك لأنه الأوفق بمقام السائل وإلا فما تقدم في تفسيره أولى والإحسان أي إحسان الأعمال والعبادة أي الإتيان بها على الوجه اللائق وهو إما بحسب الكيفية كما يشير إليه ما رواه البخاري من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك أو بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل الجابرة لما في الواجبات من النقص وجوز أن يراد بالإحسان الإحسان المتعدي بإلى لا المتعدي بنفسه فإنه يقال : أحسنه وأحسن إليه أي الإحسان إلى الناس والتفضل عليهم فقد أخرج ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه قال : مر علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه بقوم يتحدثون فقال : فيم أنتم فقالوا : نتذاكر المروة فقال : أو ما كفاكم الله عز و جل ذاك في كتابه إذ يقول : إن الله يأمر بالعدل والإحسان فالعدل الإنصاف والإحسان التفضل فما بقي بعد هذا وأعلى مراتب الإحسان على هذا الإحسان إلى المسيء وقد أمر به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : قال عيسى ابن مريم عليه الصلاة و السلام : إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعدما فسر
(14/217)

العدل بالتوحيد فسر الإحسان بإداء الفرائض وفيه اعتبار الإحسان متعديا بنفسه وقيل : العدل أن ينصف وينتصف والإحسان أن ينصف ولا ينتصف وقيل : العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال
وإيتايء ذي القربى أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر وهذا داخل في العدل أو الإحسان وصرح به اهتماما بشأنه والظاهر أن المراد بذي القربى ما يعمم سائر الأقارب سواء كانوا من جهة الأم أو من جهة الأب وهذا هو المراد بذوي الأرحام الذين حث الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم على صلتهم على الأصح وقيل : ذوو الأرحام الأقارب من جهة الأم وذكر الطبرسي أن المروي عن جعفر أن المراد من ذي القربي هنا قرابته صلى الله تعالى عليه وسلم المرادون في قوله سبحانه : فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى
وينهى عن الفحشاء الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا مثلا وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفحشاء به ولعله تمثيل لا تخصيص والمنكر ما ينكر على متعاطيه من الإفراط في إظهار القوة الغضبية وعن ابن عباس ومقاتل تفسيره بالشرك وعن ابن السائب أنه ما وعد عليه بالنار وعن ابن عيينة أنه مخالفة السريرة للعلانية وقيل : ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن يوجب العذاب في الآخرة
وقال الزمخشري : ما تنكره العقول وتعقبه ابن المنير فقال : إنه لفتة إلى الإعتزال ولو قال : المنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق لكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل وقال في الكشف بعد قوله : ما تنكره العقول أي بعد رده إلى قوانين الشرع فالإنكار بالعقل بالضرورة وإنما الخلاف في مأخذه والمقصود أن ما يمكن أن يجري على المذهبين لا يحق المحاقة فيه وهو كالتعريض بابن المنير واستظهر أبو حيان أن المنكر أعم من الفحشاء قال : لاشتماله على المعاصي والرذائل وعلى أولا الأمر كذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى والبغي الإستعلاء والإستيلاء على الناس والتجهيز عليهم وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانية التي هي حاصلة من رذيلتي القوتين المذكورتين الشهوانية والغضبية وأصل معنى البغي الطلب ثم اختص بطلب التطاول بالظلم والعدوان ومن ثم فسر بما فسر وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتخصيص كل من المتعاطفات الثلاثة المنهي عنها بالإشارة إلى قوة من القوى الثلاث مما ذهب إليه غير واحد
واعترض بأن ذلك مما لا دليل عليه وقال بعضهم : المنكر أعم الثلاثة باعتبار أن المراد به ما ينكره الشرع وقبحه من الأقوال أو الأفعال سواء عظم قبحه ومفسدته أم لا وسواء كان متعديا إلى الغير أم لا وأن المراد بالفحشاء ما عظم قبحه من ذلك ومنه قيل لمن عظم قبحه في البخل فاحش وعلى ذلك حمل الراغب قول الشاعر : أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد والبغي التطاول بالظلم والعدوان ففي الآية عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام وقيل : المراد بالفحشاء مقابل العدل ويفسر بما خرج عن سنن الإعتدال إلى جانب الإفراط وبالمنكر ما يقبل ما فيه الإحسان ويفسر بما أتي به على غير اللائق بل على وجه ينكر ويستقبح بالبغي ما يقابل إيتاء ذي القربى
(14/218)

ويفسر بما يكون قد قوبل في الآية الأمر بالنهي وكل من المأمور به بكل من المنهي عنه وجمع بين الأمر والنهي مع أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده لمزيد الإهتمام والإعتناء والإمام الرازي قد أطال الكلام في هذا المقام وذكر أن ظاهر الآية يقتضي المغايرة بين الثلاثة المأمور بها ويقتضي أيضا المغايرة بين الثلاثة المنهي عنها وشرع في بيان المغايرة بين الأول ثم قال : والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحسب الإستغراق في شهود مقام العبودية والربوبية ويدخل في تفسيره التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه ومن الظاهر أن الشفقة على الخلق أقسام كثيرة أشرفها وأجلها صلة لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر ثم شرع في بيان المغايرة بين الأخيرة وقال : تفصيل القول في ذلك أنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية وهذه الأخيرة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها لأنها من جوهر الملائكة عليهم السلام ونتائج الأرواح القدسية العلوية وإنما المحتاج إلى التهذيب الثلاثة قبلها ولما كانت الأولى أعني القوى الشهوانية إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وكان هذا النوع مخصوصا باسم الفحش ألا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة أشار إلى تهذيبها بقوله سبحانه : وينهى عن الفحشاء المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة ولما كانت الثانية أعني القوة الغضبية السبعية تسعى أبدا في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس أشار سبحانه إلى تهذيبها بنهيه تعالى عن المنكر إذ لا شكر أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية ولما كانت الثالثة أعني القوة الوهمية الشيطانية تسعى أبدا في الإستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم أشار سبحانه إلى تهذيبها بالنهي عن البغي إذ لا معنى له إلا التطاول والترفع على الناس ثم قال : ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا : أخس هذه القوى الثلاث الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ سبحانه بذكر الفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هي نتيجة القوة الوهمية أه وما تقدم عن غير واحد مأخوذ من هذا ولينظر هل يثبت بما قرره دليل التخصيص فيندفع الإعتراض السابق أم لا ثم إن الظاهر عليه أن عطف البغي على ما قبله كعطف إيتاء ذي القربى على ما قبله
وبالجملة أن الآية كما أخرج البخاري في الأدب والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم وصححه عن ابن مسعود أجمع آية للخير والشر وأخرج البيهقي عن الحسن نحو ذلك وأخرج الباوردي وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال : بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فاتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالا : نحن رسل أكتم يسألك من أنت وما جئت به فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية إن الله يأمر الخ قالوا : ردد علينا هذا القول فردده عليه الصلاة و السلام عليهم حتى حفظوه فأتيا أكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال : إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مذاقها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا وقد صارت هذه الآية أيضا كما أخرج أحمد والطبراني والبخاري في الأدب عن ابن عباس سبب استقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبته للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولجمعها ما جمعت أقامها عمر بن عبد العزيز حين آلت
(14/219)

الخلافة إليه مقام ما كان بنو أمية غضب الله تعالى عليهم يجعلونه في أواخر خطبهم من سب علي كرم الله تعالى وجهه ولعن كل من بغضه وسبه وكان ذلك من أعظم مآثره رضي الله تعالى عنه وقال غير واحد : لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى ولعل إيرادها عقيب قوله تعالى : ونزلنا عليك الكتاب للتنبيه عليه فإنها إذا نظر إلى أنها قد جمعت ما جمعت مع وجازتها استيقظت عيون البصائر وتحركت للنظر فيما عداها وأخرج أحمد بن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره فقال أتاني : جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع إن الله يأمر الخ
واستدل بها على صيغة أمر تتناول الواجب والمندوب وموضعها القدر المشترك وتحقيق ذلك في الأصول
يعظكم أي ينبهكم بما يأمر وينهى سبحانه أحسن تنبيه وهو إما استئناف وإما حال من الضمير في الفعلين لعلكم تذكرون
90
- طلبا لأن تتعظوا وتنتبهوا وأوفوا بعهد الله قال قتادة ومجاهد : نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر أنها نزلت في بيعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان من أسلم بايع على الإسلام وظاهره أنها في البيعة على الإسلام مطلقا فالمراد بعهد الله تلك البيعة كما نص عليه غير واحد واعترض بأن الظاهر أنه عام في كل موثق وهو الذي يقتضيه كلام ميمون بن مهران وسبب النزول ليس من المخصصات ولذا قالوا : الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأجيب بأن قرينة التخصيص قوله تعالى فيما قبل : إن الذين كفروا الآية وفيه نظر وقال الأصم : المراد به الجهاد وما فرض في الأموال من حق ولا يلائمه قوله تعالى : إذا عاهدتم وقيل : المراد به النذر وقيل : اليمين : وتعقب ذلك الإمام بأنه حينئذ يكون قوله تعالى ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها تكرارا لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك وإذا حمل العهد على العموم بحيث دخل تحته اليمين كان هذا من باب تخصيص بعض الأفراد بالذكر للإعتناء به وبعض من فسر العهد بالبيعة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حمل الأيمان على ما وقع عند تلك البيعة وجوز بعضهم حملها على مطلق الأيمان
وفي الحواشي السعدية إن الظاهر أن المراد بها الأشياء المحلوف عليها كما في قوله عليه الصلاة و السلام : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه لأنه لو كان المراد ذكر اسم الله تعالى كان عين التأكيد لا المؤكد فلم يكن محل ذكر العطف كما تقرر في المعاني ورد بأن بها العقد لا المحلوف عليه لأن النقض إنما يلائم العقد ولا ينافي في ذلك قوله تعالى : بعد توكيدها لأن المراد كون العقد مؤكدا بذكر الله تعالى لا بذكر غيره كما يفعله الجهلة فالمعنى أن ذلك النهي لما ذكر لا عن نقض الحلف بغير الله تعالى وقال الواحدي : إن قوله سبحانه : بعد توكيدها لإخراج لغو اليمين نحو لا والله بلى والله بناء على أن المعنى بعد توكيد بالعزم والعقد ولغو اليمين ليست كذلك ثم إذا حمل الإيمان على مطلقها فهو كما قال الإمام عام دخله التخصيص بالحديث السابق الدال على أنه متى كان الصلاح في نقض اليمين جاز نقضها وتعقب بان فيه تأملا لأن الحظر لو لم يكن باقيا لما احتيج إلى الكفارة السائرة للذنب وأجيب بان وجوب الكفارة بطريق الزجر إذ أصل الإيمان الانعقاد ولو محظورة فلا ينافي لزوم موجبها وجوز أن يقال : إن ذلك للإقدام على الحلف بالله
(14/220)

تعالىتعالى في غير محله فليتأمل والتوكيد التوثيق ومنه أكيد بقلب الواو همزة على ما هذب إليه الزجاج وغيره من النحاة وذهب آخرون إلى أن وكد وأكد لغتان أصليتان لأن الاستعمالين في المادة متساويان فلا يحسن القول بأن الواو بدل من الهمزة كما في الدر المصون وهو الذي اختاره أبو حيان
وقد جعلتم الله عليكم كفيلا أي شاهدا رقيبا فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب عليه واستعمال الكفيل في ذلك إما من باب الإستعارة أو المجاز المرسل والعلاقة اللزوم
والظاهر أن جعلهم مجاز أيضا لأنهم لما فعلوا ذلك والله تعالى مطلع عليهم فكأنهم جعلوه سبحانه شاهدا قاله الخفاجي ثم قال : ولو أبقى الكفيل على ظاهره وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله كما يقال : من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب لكان معنى بليغا جدا فتدبر والظاهر أن الجملة في موضع الحال من فاعل تنقضوا وجوز أن تكون حالا من فاعل المصدر وإن كان محذوفا وقوله سبحانه : إن الله يعلم ما تفعلون
91
- أي من النقض فيجازيكم على ذلك في موضع التعليل للنهي السابق وقال الخفاجي : إنه كالتفسير لما قبله ولا تكونوا فيما تصنعون من النقض كالتي نقضت غزلها مصدر بمعنى المفعول أي مغزولها والفعل منه غزل يغزل بكسر الزاي والنقص ضد الإبراء وهو في الجرم فك أجزائه بعضها من بعض وقوله تعالى من بعد قوة متعلق بنقضت على أنه طرف له لا حال و من زائدة مفطرة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه
أنكاثا جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله وانتصابه قيل على أنه حال مؤكدة من غزلها وقيل : على أنه مفعول ثان لنقض لتضمنه معنى جعل وجوز الزجاج كون النصب على المصدرية لأن نقضت بمعنى نكثت فهو ملاق لعامله في المعنى
وقال في الكشف : إن جعله مفعولا على التضمين أولى من جعله حالا أو مصدرا وفي الإتيان به مجموعا مبالغة وكذلك في حذف الموصوفة ليدل على الخرقاء الحمقاء وما أشبه ذلك وفي الكشاف ما يشير إلى اعتبار التضمين حيث قال : أي لا تكونوا كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته فجعلته أنكاثا وفي قوله بأنحت على ما قال القطب إشارة إلى أن نقضت مجاز عن أريادت النقض على حد قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة وذكر أنه فسر بذلك جمعا بين القصد والفعل ليدل على حماقتها واستخقاقها اللوم بذلك فإن نقضها لو كان من غير قصد لم تستحق ذلك ولأن التشبيه كلما كان أكثر تفصيلا كان أحسن ولا يخفى ما في اعتبار التضمين وهذا المجاز من التكلف وكأنه لهذا قيل : إن اعتبار القصد لأن المتبارد من الفعل الإختياري وفي الكشف خرج ذلك المعنى من قوله تعالى : من بعد قوة فإن نقض المبرم لا يكون إلا بعد إنحاء بالغ وقصد تام ولم يرد بالوصول إمرأة بعينها بل المراد من هذه صفته ففي الآية تشبيه حال الناقض بحال الناض في أخس أحواله تحذيرا منه وإن ذلك ليس من فعل العقلاء وصاحبه داخل في عداد حمقى النساء وقيل : المراد امرأة معلومة عند المخاطبين كانت تغزل فإذا برمت غزلها تنقضه وكانت تسمى خرقاء مكة قال ابن الأنباري : كان اسمها ربطة بنت عمرو والمرية تلقب الحفراء وقال الكلبي ومقاتل : هي امرأة من قريش اسمها ربطة بنت سعد التيمي اتخذت
(14/221)

مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجوارها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينضن ما غزلن وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال : كانت سعيدة الأسيدة مجنونة تجمع الشعر والليف فنزلت هذه الآية ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها وروي ابن مردوية عن عطاء أنها شكت جنونها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وطلبت أن يدعو لها بالمعافاة فقال لها عليه الصلاة و السلام إن شئت دعوت فعافاك الله تعالى وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة فاختارت الصبر والجنة وذكر عطاء ابن أبي عباس أراه إياها وعن مجاهد هذا فعل نساء نجد تنقض أحداهن غزلها ثم تنفشه فتغزله بالصوف وإلى عدم التعيين ذهب قتادة عليه الرحمة تتخذون أيمانكم دخلا بينكم حال من الضمير في لا تكونوا أو في الجار والمجرور الواقع موقع الخبر
وجوز أن يكون خبر تكونوا و كالتي نقضت في موضع الحال وهو خلاف الظاهر وقال الإمام : الجملة مستأنفة على سبيل الإستفهام الإنكاري أي أتتخذون والدخل في الأصل ما يدخل الشيء ولم يكن منه ثم كني به عن الفساد والعداوة المستنبطة كالدغل وفسره قتادة بالغدر والخيانة ونصبه على أنه مفعول ثان وقيل : على المفعولية من أجله وفائدة وقوع الجملة حالا الإشارة إلى وجه الشبه أي لا تكونوا مشبهين بامرأة هذا شأنها متخذين أيمانكم وسيلة للغدر والفساد بينكم أن تكون أمة أي بأن تكون جماعة هي أربى أي أزيد عددا وأوفر مالا من أمة أي من جماعة أخرى والمعنى لا تغدروا بقوم بسبب كثرتكم وقلتهم بل حافظوا على أيمانكم معهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد أنه قال : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلفهم ويحالفون الذين هم أعز فنهوا عن ذلك فالمعنى لا تغدروا بجماعة بسبب أن تكون جماعة أخرى أكثر منها وأعز بل عليكم الوفاء بالإيمان والمحافظة عليها وإن قل من خلفتم له وكثر الآخر وجوز في تكون أن تكون تامة وناقصة وفي هي أن يكون مبتدأ وعمادا فأربى مرفوع أو منصوب وأنت تعلم أن البصريين لا يجوزون كون هي عماد التنكير أمة وزعم بعض الشيعة أن هذه الآية قد حرفت وأصلها أن تكون أئمة هي أزكى من أئمتكم ولعمري قد ضلوا سواء السبيل إنما يبلوكم الله به الضمير المجرور عائد إما على المصدر المنسبك من أن تكون أو على المصدر المنفهم من أربى وهو الربو بمعنى الزيادة وقول ابن جبير وابن السائب ومقاتل يعني بالكثرة مرادهم منه هذا واكتفوا ببيان حاصل المعنى وظن ابن الأنباري أنهم أرادوا أن الضمير راجع إلى نفس الكثرة لكن لما كان تأنيثها غير حقيقي صح التذكير وهو كما ترى وقيل : إنه لأربى لتأويله بالكثير وقيل للأمر بالوفاء المدلول عليه بقوله تعالى وأوفوا الخ ولا حاجة إلى جعله منفهما من النهي عن الغدر بالعهد واختار بعضهم الأول لأنه أسرع تبادرا أي يعاملكم معاملة المختبر بذلك الكون لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله تعالى وبيعة رسوله عليه الصلاة و السلام أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون
92
- فيجازيكم بأعمالكم ثوابا وعقابا ولو شاء الله لجعلكم أيها الناس أمة واحدة متفقة على الإسلام ولكن لا يشاء ذلك رعاية للحكمة بل يضل من يشاء إضلاله بأن يخلق فيه الضلال حسبما يصرف اختياره التابع
(14/222)

لاستعداده له ويهدي من يشاء هدايته حسبما يصرف اختياره التابع لاستعداده لتحصيلها ولتسألن جميعا يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة لا سؤال استفسار وتفهم عما كنتم تعملون
93
- تستمرون على عمله في الدنيا بقدركم المؤثرة بإذن الله تعالى والآية ظاهرة في أن مشيئة الله تعالى لإسلام الخلق كلهم ما وقعت وأنه سبحانه إنما شاء منهم الإفتراق والإختلاف فأيمان وكفر وتصديق وتكذيب ووقع الأمر كما شاء جل وعلا والمعتزلة ينكرون كون الضلال بمشيئته تعالى ويزعمون أنه سبحانه إنما شاء من الجميع الإيمان ووقع خلاف ما شاء عز شأنه وأجاب الزمخشري عن الآية بأن المعنى لو شاء على طريقة الإلجاء والفسر لجعلكم أمة واحدة مسلمة فإنه سبحانه قادر على ذلك لكن اقتضت الحكمة ان يضل ويخذل من يشاء ممن علم سبحانه أنه يختار الكفر ويصمم عليه ويهدي من يشاء بأن يلطف ممن علم أنه يختار الإيمان والحاصل أنه تعالى بنى الأمر على الإختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء ولو كان العبيد مضطرين للهداية والضلال لما أثبت سبحانه لهم عملا يسئلون عنه بقوله : ولتسألن عما كنتم تعملون أه وللعسكري نحوه وقدمنا لك غير مرة أن المذهب الحق على ما بينه علامة المتأخرين الكوراني وألف فيه عدة رسائل أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا إنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية ولا أن له قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعرية ولا أن له قدرة مؤثرة وإن لم يؤذن لله تعالى كما يقول المعتزلة وأن له اختيار أعطيه بعد طلب استعداده الثابت في علم الله تعالى له فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه بمعنى أنه لا بد أنه من أن يكون له لأن استعداده الأزلي الغير المجعول قد طلبه من الجواد المطلق والحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الإستعداد للخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك نحو دلالة الأثر على المؤثرة والغاية على ذي الغاية وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ومن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
وقال ابن المنير : أن أهل السنة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختبارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون الله تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة وقدرة العبد مقارنة فحسب وبذلك يميز بين الإختياري والقسري وتقوم حجة الله تعالى على عباده أه وهذا هو المشهور مذهب الأشعرية وهو كما ترى وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام وما فيه من النقض والإيرام
ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم قالوا هو تصريح بالنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بعد التضمين لأن الإتخاذ المذكور فيما سبق وقع قيدا للمنهي عنه فكان منبها عنه ضمنا تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي عنه وتمهيدا لقوله تعالى : فتزل قدم عن محجة الحق بعد ثبوتها عليها ورسوخها فيها بالإيمان وقيل ما تقدم كان نهيا عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة وما هنا نهي عن الدخل في الأيمان التي يراد بها اقتطاع الحقوق فكأنه قيل : لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم لتتوصلوا بذلك إلى قطع حقوق المسلمين
وقال أبو حيان : لم يتكرر النهي فإن ما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص وهو أن تكون أمة هي أربى أمة وجاء النهي المستأنف الإنشائي عن اتخاذ الأيمان دخلا على العموم فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك ورد بأن قيد المنهي عنه منهي عنه فليس إخبارا صرفا
(14/223)

ولا عموم في الثاني لأن قوله تعالى : فتزل الخ إشارة إلى العلة السابقة إجمالا على أنه قد يقال إن الخاص مذكور في ضمن العام أيضا فلا محيص عن التكرار أيضا ولو سلم ما ذكره فتأمل ونصب تزل بأن مضمرة في جواب النهي لبيان ما يترتب عليه ويقتضيه قال في البحر : وهو استعارة للوقوع في أمر عظيم لأن القدم إذا زلت انقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر وتوحيد القدم وتنكيرها كما قال الزمخشري للإيذان بأن زلل قدم واحدة أي قدم عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام وقال أبو حيان : إن الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع وتارة يلحظ فيه كل فرد فرد وفي الأول يكون الإسناد معتبرا فيه الجمعية وفي الثاني يكون الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا فيجمع ما أسند إليه ومطابقا لكل فرد فيفرد كقوله تعالى وأعتدت لهن متكأ فأفرد المتكأ لما لوحظ في لهن كل واحدة منهن ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله : فإني وجدت الضامرين متاعهم يموت وينفي فارضخي من وعائيا أي كل ضامر ولذا فرد الضمير في يموت ويفنى ولما كان المعنى هنا لا يتخذ كل واحد منكم جاء فتزل قدم مراعاة لهذا المعنى ثم قال سبحانه : وتذوقوا السوء مراعاة للجمع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير إذا قلنا : إن الإسناد لكل فرد فرد فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد ودل على ذلك بإفراد قدم وجمع الضمير في وتذوقوا وتعقب بأن ما ذكره الزمخشري نكتة سرية وهذا توجيه للإفراد من جهة العربية فلا ينافي النكتة المذكورة والمراد من السوء العذاب الدنيوي من القتل والأسر والنهب والجلاء غير ذلك مما يسوء ولا يخفى ما في تذوقوا من الاستعارة بما صددتم بسبب صدودكم وإعراضكم أو غيركم ومنعه عن سبيل الله الذي ينتظم الوفاء بالعهود والأيمان فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره يتبعه فيها من بعده من أهل الشقاء والإعراض عن الحق فيكون صادا عن السبيل
وجعل هذا بعضهم دليلا أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو كما ترى ولكم في الآخرة عذاب عظيم
94
- لا يعلم عظمه إلا الله تعالى ولا تشتروا بعهد الله المراد به عند كثير بيعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الإيمان والإشتراء مجاز عن الإسبتدال لمكان قوله تعالى : ثمنا قليلا فإن الثمن مشتري ولا مشترى به أي لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى عوضا يسيرا من الدنيا قال الزمخشري : كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ولما كانوا يعدونهم من المواعيد أن رجعوا أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فثبتهم الله تعالى بهذه الآية ونهاهم عن أن يستبدلوا ذلك بما وعدوهم به من عرض الدنيا وقال ابن عطية : هذا نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله أو فعل ما يجب عليه تركه فالمراد بعهد الله تعالى ما يعمم ما تقدم وغيره ولا يخفى حسنه إنما عند الله أي ما أخبأه وأدخره لكم في الدنيا والآخرة هو خير لكم من ذلك الثمن القليل إن كنتم تعلمون
95
- أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز فالفعل منزل منزلة اللازم وقيل : متعد والمفعول محذوف وهو فضل ما بين الوضعين والأول أبلغ ومستغن عن التقدير وفي التعبير
(14/224)

بأن ما لا يخفى والجملة تعليل للنهي على طريقة التحقيق كما أن قوله تعالى : ما عندكم الخ تعليل للخيرية بطريق الإستئناف أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا بل الدنيا وما فيها جميعا ينفد ينقضي ويفنى وإن جم عدده وطال مدده يقال : نفد بكسر العين ينفد بفتحها نفادا إذا ذهب وفنى وأما نفذ بالذال المعجمة فبفتح العين ومضارعه ينفذ بضمها وما عند الله من خزائن رحمته الدنيوية والآخروية باق لا نفاد له أما الآخروية فظاهر وأما الدنيوية فحيث كانت موصولة بالآخروية ومستتبعة لها فقد انتظمت في سلك الباقيات الصالحات وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المراد بما عند الله في الموضعين الثواب الأخروي واختاره بعض الأئمة وفي إيثار الاسم على صيغة المضارع من الدلالة على الدوام ما لا يخفى ورد بالآية على جهم بن صفوان حيث زعم أن نعيم الجنة منقطع وقوله تعالى : ولنجزين بنون العظمة وهي قراءة عاصم وابن كثير على طريقة الإلتفات من الغيبة إلى التكلم تكرير للوعد المستفاد من قوله سبحانه : إن ما عند الله هو خير لكم على نهج التوكيد القسمي مبالغة في الحمل على الثبات على العهد وقرأ باقي السبعة بالياء فلا التفات
والعدول عما يقتضيه ظاهر الحال من أن يقال : ولنجزينكم بالنون أو الياء أجركم بأحسن ماكنتم تعملون للتوسل إلى التعرض لأعمالهم والإشعار بعليتها للجزاء أي والله لنجزين الذين صبروا على العهد أو على أذية المشركين ومشاق الإسلام التي من جملتها الوفاء بالعهود وإن وعد المعاهدون على نقضها بما وعدوا أجرهم مفعول لنجزين أي لنعطينهم أجرهم الخاص بهم بمقابلة صبرهم بأحسن ما كانوا يعملون
96
- وهو الصبر فإنه من الأعمال القلبية والكلام على حذف مضاف أي لنجزينهم بجزاء صبرهم وكان الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه فهو رأسها قاله أبو حيان وفي إرشاد العقل السليم إنما أضيف الأحسن إلى ما ذكر للإشعار بكمال حسنه كما في قوله تعالى : وحسن ثواب الآخرة لا لإفادة قصر الجزاء على الأحسن منه دون الحسن فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد لا سيما بعد قوله تعالى : أجرهم فالإضافة للترغيب
وجوز أن يكون المعنى لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم أي لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل لا أنا نعطي بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالحسن والأحسن بالأحسن وفيه ما لا يخفى من العدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزع ونظمه في سلك الصبر الجميل وأن يكون أحسن صفة جزاء محذوفا والإضافة على معنى من التفضيلية أي لنجزينهم بجزاء أحسن من أعمالهم وكونه أحسن لمضاعفته وقيل : المراد بالأحسن ما ترجح فعله على تركه كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركه أيضا كالمحرمات والمكروهات والحسن مالم يترجح فعله ولا تركه وهو لا يثاب عليه وتعقبة في الإرشاد بأنه لا يساعده مقام الحث على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنة المخصوصة والترغيب في تحصيل ثمراتها بل التعرض لإخراج بعض أعمالهم من مدارية الجزاء من قبيل تحجير الرحمة الواسعة في مقام توسيع حماها وقيل : المراد بالأحسن النفل وكان
(14/225)

أحسن لأنه لم يحتم بل يأتي الإنسان به مختارا غير ملزم وإذا علمت المجازاة على النفل الذي هو أحسن علمت المجازاة على الفرض الذي هو حسن ولا يخفى أنه ليس بحسن أصلا من عمل صالحا أي عملا صالحا أي عمل كان وهذا كما قيل شروع في تحريض كافة المؤمنين على كل عمل صالح غب ترغيب طائفة منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالح مخصوص دفعا لتوهم الأجر الموفور بهم بعلمهم وقوله تعالى : من ذكر أو أنثى دفع لتوهم تخصيص من بالذكور لتبادرهم من ظاهر لفظ من فإنه مذكر وعاد عليه ضميره وإن شمل النوعين وضعا على الأصح واستدل عليه بما رواه الترمذي من قوله صلى الله عليه و سلم : من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه وقول أم سلمة : فكيف تصنع النساء بذيولهن الحديث فإن أم سلمة رضي الله تعالى عنها فهمت دخول النساء في من وأقرها على ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبأنهم أجمعوا على أنه لو قال : من دخل داري فهو حر فدخلها الإماء عتقن وبعضهم يستدل على ذلك أيضا بهذه الآية إذ لولا تناوله الأنثى وضعا لما صح أن يبين بالنوعين وفي الكشف كان الظاهر تناوله للذكور من حيث أن الإناث لا يدخلن في أكثر الأحكام والمحاورات وإن كان التناول على طريق التعميم والتغليب حاصلا لكن لما أريد التنصيص ليكون أغبط للفريقين ونصا في تناولهما بين بذكر النوعين أه والقول الأصح أن التناول لا يحتاج إلى التغليب وتمام الكلام في ذلك في كتب الأصول وقوله تعالى : وهو مؤمن في موضع الحال من فاعل عمل وقيد به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة الصالحة في استحقاق الثواب إجماعا واختلف في ترتب تخفيف العقاب عليها فقال بعضهم : لا يترتب أيضا لقوله تعالى : وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم وقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا
وقال الإمام : إن إفادة العمل الصالح لتخفيف العقاب غير مشروطة بالإيمان لقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره وحديث أبي طالب أنه أخف الناس عذابا لمحبته وحمايته النبي صلى الله عليه و سلم وفي البحر أن قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره مخصص بهذه الآية ونحوها أو يراد بمثقال ذرة مثقال ذرة من إيمان كما جاء فيمن يخرج من النار من عصاة المؤمنين وقال الكرماني : إن تخفيف العذاب عن أبي طالب ليس جزاء لعمله بل هو لرجاء غيره أو هو من خصائص نبينا عليه الصلاة و السلام وقال بعضهم : الإيمان شرط لترتب التخفيف على الأعمال الصالحة إذا كانت مما يتوقف صحتها على النية التي لا تصح من كافر وليس شرطا للترتيب عليها إذا لم تكن كذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام وإيثار الجملة الإسمية لإفادة وجوب دوام الإيمان ومقارنته للعمل الصالح في ترتب قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة الخ والمراد بالحياة الطيبة الحياة التي تكون في الجنة إذ هناك حياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاوة أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال : ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة وروي نحوه عن مجاهد وقتادة وابن زيد ولله تعالى رد من قال : لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بأدكار الموت والهرم وقال شريك : هي حياة تكون في البرزخ فقد جاء القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار
(14/226)

وقال غير واحد : هي في الدنيا وأريد بها حياة تصحبها القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى له وقدره فقد أخرج البيهقي في الشعب والحاكم وصححه وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسرها بذلك وقال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف علي كل غائبة لي بخير وجاء القناعة مال لا ينفد
وقال أبو بكر الوراق : هي حياة تصحبها حلاوة الطاعة وأخرج عبد الرزاق وغيره عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال : الحياة الطيبة الرزق الحلال وروي عن الضحاك ووجه بعضهم طيب هذه الحياة بأنه لا يترتب عليها عقاب بخلاف الحياة بالرزق الحرام فقد جاء إيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به وهو كما ترى وقيل : غير ذلك وأولى الأقوال على تقدير أن يكون ذلك في الدنيا تفسيرها بما يصحبه القناعة
قال الواحدي : إن تفسيرها بذلك حسن مختار فإنه لا يطيب في الدنيا إلا عش القانع وأما الحريص فإنه أبدا في الكد والعناء وقال الإمام : إن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه
الأول أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى وأنه سبحانه محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضيا بكل ما قضاه وقدره وعرف أن مصلحته في ذلك وأما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبدا في الحزن والشقاء
الثاني أن المؤمن يستحضر أبدا في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها ويجد نفسه راضة بذلك فعند الوقوع لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه غافل عن ترك المعارف فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه
الثالث أن المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءا بالمعرفة لم يتسع للحزان الواقعة سبب أحوال الدنيا وأما الجاهل فقلبه خال عن المعرفة متفرغ للأحزان من المصائب الدنيوية
الرابع أن المؤمن عارف أن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها ولا غمه بفقدانها والجاهل لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فيعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها
الخامس أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة الزوال ولولا تغيرها وانقلابها ما وصلت إليه فعند وصولها إليه لا يتعلق بها قلبه ولا يعانقها معانقة العاشق فلا يحزنه فواتها والجاهل بخلاف ذلك أه وللبحث فيه مجال وأورد على التفسير المختار أن بعض من عمل صالحا وهو مؤمن لم يرزق القناعة بل قد ابتلى بالقنوع وأجيب بأن المراد بالمؤمن من كمل إيمانه أو يقال : المراد بمن عمل صالحا من كان جميع عمله صالحا
وقال البيضاوي في بيان ترتب إحيائه حياة طيبة : إنه إن كان معسرا فظاهر وإن كان موسرا فطيب عيشه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة أي على تخلف بعض مراداته عنه وضنك عيشه فقال الخفاجي : إن هذه الأمور لا بد من وجود بعضها في المؤمن والأخير يعني توقع الأجر في الآخرة عام شامل لكل مؤمن فلا يرد عليه أن هذا لا يوجد في كل من عمل صالحا حتى يؤول المؤمن بمن كمل إيمانه إلى آخر ما سمعت وتعقب بأن القناعة هي الرضا بالقسم كما في القاموس وغيره وتوقع الأجر العظيم لا يوجد بدون ذلك وكيف يحصل الأجر على تخلف المراد وضنك العيش مع الجزع وعدم الرضا وكلامه ظاهر في تحقق هذا التوقع وإن لم يكن هناك قناعة ورضا ولا يكاد يقع هذا من مؤمن عارف فلا بد من التأويل
وبحث بعضهم فيه أيضا بأن كمال الإيمان لا يكون بدون الرضا وكذا كون جميع الأعمال صالحة لا يوجد بدونه لأن الأعمال تشمل القلبية والقالبية والرضا من النوع الأول والمراد من لنحيينه حياة طيبة
(14/227)

لنعطيه ما تطيب به حياته فيؤول معنى الآية حينئذ على تقدير أن يراد القناعة والرضا من رضى بالقسمة وفعل كذا وكذا وهو مؤمن أو من عمل صالحا وهو راض بالقسمة متصف بكذا وكذا مما فيه كمال الإيمان فلنعطينه الرضا بالقسمة الذي تطيب به حياته ويتضمن من رضي بالقسمة فللنعطينه الرضا بالقسمة الذي تطيب به حياته وهو كما ترى وفيه ما لا يخفى نعم تفسير الحياة الطيبة بما يكون في الجنة سالم عن هذا القيل والقال ويراد بها ما سلمت من توهم الموت والرهم وحلول اللم والسقم فيكون قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة إشارة إلى درء المفاسد وقوله سبحانه : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون
97
- إشارة إلى جلب المصالح ولكون الأول أهم قدم فليتأمل وكأن المراد ولنجزينهم الخ حسبما يفعل بالصابرين فليس في الآية شائبة تكرار كما زعم الطبرسي والجمع في الضمائر العائدة إلى الموصول لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ وإيثار ذلك على العكس بناءا على كون الأحياء حياة طيبة في الدنيا وجزاء الأجر في الآخرة لما أن وقوع الجزاء بطرق الإجتماع المناسب للجمعية ووقوع ما في حيز الصلة وما يترتب عليه بطريق الإفتراق والتعاقب الملائم للإفراد وقيل بناءا على كون ذلك في الآخرة : إن الجمع والإفراد لما تقدم وكذا إيثار ذلك على العكس فيما عدا ضمير لنحيينه وأما في ضميره فلما أن الإحياء حياة طيبة بمعنى ما سلمت مما تقدم أمر واحد في الجميع لا يتفاوت فيه أهل الجنة فكأنهم في ذلك شيء واحد ولما لم يكن الجزاء كذلك وكان أهل الجنة فيه متفاوتين جيء بضمير الجمع معه فتأمل كل ذلك وروي عن نافع أنه قرأ وليجزينهم بالياء على الإلتفات من التكلم إلى الغيبة
قال أبو حيان : وينبغي أن يكون ذلك على تقدير قسم ثان لا معطوفا على فلنحيينه فيكون من عطف جمله قسمية على مثلها وكلتاهما محذوفتان ولا يكون من عطف جواب على مثله لتغاير الإسناد وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه إخبار الغائب وذلك لا يجوز وعلى هذا لا يجوز زيد قال لأضربن هند أو لينفينها تريد ولينفينها زيد فإن جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي وقال زيد لينفينها لأن لك في هذا التركيب حكاية المعنى وحكاية اللفظ ومن الثاني وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ومن الأول يحلفون بالله ما قالوا ولو حكى اللفظ قيل ما قلنا أه واستدل بالآية على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح مغايرة الشرط للمشروط
هذا وإذا قد انتهى الأمر إلى مدار الجزاء وهو صلاح العمل وحسنه رتب عليه بالفاء الإرشاد إلى ما به يحسن العمل الصالح ويخلص عن شوب الفساد فقيل : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله أي إذا أردت قراءة القرآن فاسأله عز جاره أن يعيذك من وساوس الشيطان الرجيم
98
- كيلا يوسوسك في القراءة فالقراءة مجاز مرسل عن إرادتها إطلاقا فالاسم المسبب على السبب وكيفية الإستعاذة عند الجمهور من القراء وغيرهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتظافر الروايات على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يستعيذ كذلك
وروي الثعلبي والواحدي أن ابن مسعود قرأ عليه عليه الصلاة و السلام فقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم : يا ابن أم عبد قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ نعم أخرج أبو داود والبهقي عن عائشة رضي الله عنها في ذكر الإفك قالت جلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكشف عن وجهه وقال : أعوذ بالله السميع
(14/228)

العليم من الشيطان الرجيم إن الذين جاؤا بالإفك الآية وأخرجا عن سعيد أنه قال كان رسول الله عليه الصلاة و السلام إذا قام من الليل فاستفتح الصلاة قال : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم الخ وبذلك أخذ من استعاذ كذلك وفي الهداية الأولى أن يقول : أستعيذ بالله ليوافق القرآن ويقرب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أه والمختار ما سمعت أولا لأن لفظ أستعذ طلب العوذ وقوله : أعوذ امتثال مطابق لمقتضاه والقرب من اللفظ مهدر ويكفي لأولوية ما عليه الجمهور مج في المأثور : وقال بعض أصحابنا لا ينبغي أن يزيد المتعوذ السميع العليم لأنه ثناء وما بعد التعوذ محل القراءة ومحل الثناء وفيه أن هذا بعد تسليم الخبرين السابقين غير سديد على أنه ليس في ذلك إتيان بالثناء بعد التعوذ بل إتيان به في أثنائه كما لا يخفى والأمر بها للندب عندهم وأخرج عبد الرزاق المصنف وابن المنذر عن عطاء وروي عن الثوري أنها واجبة لكل قراءة في الصلاة أو غيرها لهذه الآية فحملا الأمر فيها على الوجوب نظرا إلى أنه حقيقة فيه وعدم صلاحية كونها لدفع الوسوسة في القراءة صارفا عنه بل يصح شرع الوجوب معه وأجيب بأنه خلاف الإجماع ويبعد منهما أن يبتدعا قولا خارقا من بعد علمهما بأن ذلك لا يجوز فالله تعالى أعلم بالمصارف على قول الجمهور وقد يقال : هو تعليمه صلى الله تعالى عليه وسلم الأعرابي الصلاة ولم يذكرها عليه الصلاة و السلام
وقد يجاب بأن تعليمه إياها بتعليمه ما هو من خصائصها وهي ليست من واجباتها بل من واجبات القراءة أو إن كونها تقال عند القراءة كان ظاهرا معهودا فاستغنى عن ذكرها وفيه أنه لا يتأتى على ما ستسمع قريبا إن شاء الله تعالى من قول أبي يوسف عليه الرحمة وقال الخفاجي : إن حمل الأمر على الندب لما روي من ترك النبي صلى الله عليه و سلم لها وإذا ثبت هذا كفى صارفا ومذهب ابن سيرين والنخعي وهو أحد قولي الشافعي أنه مشروعة في القراءة في كل ركعة لأن الأمر معلق على شرط فيتكرر بتكرره كما في قوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا وأيضا حيث كانت مشروعة في الركعة الأولى فهي مشروعة في غيرها من الركعات قياسا للإشتراك في العلة ومذهب أبي حنيفة وهو القول الآخر للشافعي أنها مشروعة في الأولى فقط لأن قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة وقيل : إنها عند الإمام أبي حنيفة للصلاة ولذا لا تكرر والمذكور في الهداية وغيرها أنها عند الإمام ومحمد للقراءة دون الثناء حتى يأتي بها المسبوق دون المقتدي وقال أبو يوسف : إنها للثناء وفي الخلاصة أنه الأصح وتظهر ثمرة الخلاف في ثلاثة مسائل ذكرت فيها فما ذكره صاحب القيل لم نعثر عليه في كتب الأصحاب ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في غيرها كقيام رمضان والمروي عنه في غير الصلاة فيما سمعت من بعض مقلديه وعن أبي هريرة وابن سيرين وابن داود وحمزة من الفراء أن الإستعاذة عقب القراءة أخذا بظاهر الآية
وللجمهور ما رواه أئمة القراءة مسندا عن نافع عن جبير بن مطعم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول قبل القراءة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : قال في الكشف دل الحديث على أن التقديم هو السنة فبقي سببية القراءة لها والفاء في فاستعذ دلت على السببية فلتقدر الإرادة ليصح وأيضا الفراغ عن العمل لا يناسب الإستعاذة من العدو وإنما يناسبها الشروع فيه والتوسط فلتقدر ليكونا أي القراءة والإستعاذة مسببتين عن سبب واحد لا يكون بينهما مجرد الصحبة الإتفاقية التي تنافيها الفاء وإليه أشار صاحب المفتاح بقوله بقرينة الفاء والسنة المستفيضة انتهى
ومنه يعلم أن ما قيل من أن الفاء لا دلالة فيها على ما ذكر وأن إجماعهم على صحة هذا المجاز يدل على أن القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ليس بشرط فيه ليس بشيء وكذا القول بالفرق بين هذه الآية وقوله
(14/229)

تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا الخ بأن ثمة دليلا قائما على المجاز فترك الظاهر له بخلاف ما نحن فيه والظاهر أن المراد بالشيطان إبليس وأعوانه وقيل : هو عام في كل متمرد عات من جن وإنس وتوجيه الخطاب إلى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالإستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره عليه الصلاة و السلام وفي سائر الأعمال الصالحة أهم فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم حيث أمر به عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فما الظن بمن عداه عليه الصلاة والصلام فيما عدا القراءة من الأعمال إنه الضمير للشأن أو للشيطان ليس له سلطان تسلط واستيلاء على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون
99
- أي إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه يفوضون أمورهم به ويعوذون فالمراد نفي التسلط بعد الإستعاذة فتكون الجملة تعليلا للأمر بها أو لجوابه المنوي أي أن يعذك ونحوه
وقال البعض : المراد نفي ذلك مطلقا قال أبو حيان : وهو الذي يقتضيه ظاهر الإخبار وتعقب بأنه إذا لم يكن له تسلط فلم أمروا بالإستعاذة منه وأجيب بأن المراد نفي ما عظم من التسلط وقد أخرج ابن جرير وغيره عن سفيان الثوري أنه قال في الآية : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم والإستعاذة من المحتقرات فهم لا يطيعون أوامره ولا يقلبون وساوسه إلا فيما يحتقرونه على ندور وغفلة فأمروا بالإستعاذة منه لمزيد الإعتناء بحفظهم وقد ذهب إلى هذا البيضاوي ثم قال : فذكر السلطة بعد الأمر بالإستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطانا
وفي الكشف أن هذه الجملة جارية مجرى البيان للاستعاذة المأمور بها وأنه لا يكفي فيها مجرد القول الفارغ عن اللجأ إلى الله تعالى واللجأ إنما هو بالإيمان أولا والتوكل ثانيا وأياما كام فوجه ترك العطف ظاهر وإيثار صيغة الماضي في الصلة الأولى للدلالة على التحقيق كما أن اختيار صيغة الإستقبال في الثانية لافادة الإستمرار التجددي وفي التعرض لوصف الربوبية تأكيد لنفي السلطان عن المؤمنين المتوكلين
إنما سلطانه على الذين يتولونه أي يجعلونه واليا عليهم فيحبونه ويطيعونه ويستجيبون دعوته فالمراد بالسلطان التسلط والولاية بالدعوة المستتبعة للإستجابة لا ما يعم ذلك والتسلط بالقسر والإلجاء فإن في جعل التولي صلة ما يفصح بنفي إرادة التسلط القسري فإن المقسور بمعزل عنه بهذا المعنى وقد نفى هذا أيضا عن الكفرة في قوله تعالى حكاية عن اللعين : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي والذين هم به أي بسبب الشيطان وإغوائه إياهم مشركون
100
- بالله تعالى وقيل : أي بإشراكهم الشيطان مشركون بالله تعالى وجوز أن يكون الضمير للرب تعالى شأنه والباء للتعدية وروي ذلك عن مجاهد ورجح الأول باتحاد الضمائر فيه مع تبادره إلى الذهن وفي إشارة العقل السليم ما يشعر باختيار الأخير وذكر فيه أيضا أن قصر سلطان اللعين على المذكورين غب نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليل على أنه لا واسطة في الخارج بين التوكل على الله تعالى وتولي الشيطان وإن كان بينهما واسطة في المفهوم وأن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظم في سلك من يتولى الشيطان من حيث لا يحتسب إذ به يتم التعليل ففيه مبالغة في الحمل على التوكل والتحذير عن مقابله
وإيثار الجملة الفعلية الإستقبالية في الصلة الأولى لما مر آنفا والإسمية في الثانية للدلالة على الثابت وتكرير الموصول للإحتراز عن توهم كون الصلة حالية مفيدة لعدم دخول غير المشركين من أولياء الشيطان تحت سلطانه
(14/230)

وتقديم الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارنة بينها وبين ما يقابلها من التوكل على الله تعالى ولو روعي الترتيب السابق لانفصل كل من القرينتين عما يقابلها أه وقيل : لما كان كل من الإيمان والتولي منشأ لما بعده قدم عليه وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل وإذا بدلنا آية مكان آية أي إذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها والظاهر على ما في البحر أن المراد نسخ اللفظ والمعنى ويجوز أن يراد نسخ المعنى مع بقاء اللفظ والله أعلم بما ينزل من المصالح فكل من الناسخ والمنسوخ منزل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة تنقلب مفسدة في وقت آخر لانقلاب الأمور الداعية إليها ونرى الطبيب الحاذق قد يأمر المريض بشربة ثم بعد ذلك ينهاه عنها ويأمره بضدها وما الشرائع إلا مصالح للعباد وأودية لأمراضهم المعنوية فتختلف حسب اختلاف ذلك في الأوقات وسبحان الحكيم العليم والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه عن فساد رأيهم وفي الإلتفات إلى الغيبة مع الإسناد إلى الاسم الجليل ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الإعتراض أو حالية كما قال أبو البقاء وغيره وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل من الإنزال قالوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ إنما أنت مفتر متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وقد بالغوا قاتلهم الله تعالى في نسبة الإفتراء لإلى حضرة الصادق المصدوق صلى الله تعالى عليه وسلم حيث وجهوا الخطاب إليه عليه الصلاة و السلام وجاؤا بالجملة الإسمية مع التأكيد بإنما وحكاية هذا القول عنهم ههنا للإيذان بأنه كفرة ناشئة من نزعات الشيطان وأنه وليهم وفي الكشف أن وجه ذكره عقيب الأمر بالإستعاذة عند القراءة أنه باب عظيم من أبوابه يفتن به الناقصين يوسوس إليهم البداء والتضاد وغير ذلك بل أكثرهم لا يعلمون
101
- أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن التبديل المذكور حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى أكثرهم لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكر عنادا والآية دليل على نسخ القرآن بالقرآن وهي ساكنة عن نفي نسخه بغير ذلك مما فصل في كتب الأصول قل نزله أي القرآن المدلول عليه بالآية وقال الطبرسي : أي الناسخ المدلول عليه بما تقدم روح القدس يعني جبريل عليه السلام وأطلق عليه ذلك من حيث أنه ينزل بالقدس من الله تعالى أي مما يطهر النفوس من القرآن والحكمة والفيض الإلهي وقيل : لطهره من الأدناس البشرية والإضافة عند بعض للإختصاص كما في رب العزة وجعلها بعض المحققين من إضافة الموصوف للصفة على جعله نفس القدس مبالغة نحو خبر سوء ورجل صدق على ما ارتضاه الرضي ومثل ذلك حاتم الجود وسحبان الفصاحة وخالف في ذلك صاحب الكشف مختارا أنها للإختصاص ولا يخفى ما في صيغة التفعيل بناء على القول بأنها تفيد التدريج من المناسبة لمقتضى المقام لما فيها من الإشارة إلى أنه أنزل دفعات على حسب المصالح من ربك في إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه و سلم من الدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية عليه عليه الصلاة و السلام ما ليس في لإضافته إلى المتكلم المنبئة عن التلقين المحض كما في إرشاد العقل السليم وكأنه اعتناء بأمر هذه الدلالة لم يقل من ربكم على أن في ترك خطابهم من حط قدرهم ما فيه و من لابتداء الغاية مجازا بالحق أي ملتبسا بالحكمة المقتضية له بحيث لا يفارقها ناسخا كان أو منسوخا ليثبت الذين ءامنوا أي على الإيمان بما يجب الإيمان لما فيه
(14/231)

من الحجج القاطعة والأدلة الساطعة أو على الإيمان بأنه كلامه تعالى فافهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح رسخت عقائدهم واطمأنت به قلوبهم وأول بعضهم الآية على هذا الوجه بقوله : ليبين ثباتهم وتعقب بأنه لا حاجة إليه إذا التثبيت بعد النسخ لم يكن قبله فإن نظر إلى مطلق الإيمان صح وقريء ليثبت من الأفعال
وهدى وبشرى للمسلمين
102
- عطف على محل ليثبت عند الزمخشري ومن تابعه وهو نظير زرتك لأحدثك وإجلالا لك أي تثبيتا وهداية وبشارة وتعقب بأنه إذا اعتبر الكل فعل المنزل على الإسناد المجازي لم يكن للفرق بإدخال اللام في البعض والترك في البعض وجه ظاهر وكذا إذا اعتبر فعل الله تعالى كما هو كذلك على الحقيقة وإذا اعتبر البعض فعل المنزل ليتحد فاعل المصدر وفاعل الفعل المعلل به فيترك اللام له والبعض الآخر فعل الله تعالى ليختلف الفاعل فيؤتى باللام لم يكن لهذا التخصيص وجه ظاهر أيضا ويفوت به حسن النظم
وقال الخفاجي يوجه ترك اللام في المعطوف دون المعطوف عليه مع وجود شرط الترك فيهما بأن المصدر المسبوك معرفة على ما تقرر في العربية والمفعول له الصريح وإن لم يجب تنكيره كما عزى للرياشي فخلافه قليل كقوله : واغفر عوراء الكريم إدخاره
ففرق بينهما تفننا وجريا على الأفصح فيهما والنكتة فيه أن التثبيت أمر عارض بعد حصول المثبت عليه فاختير فيه صيغة الحدوث مع ذكر الفاعل إشارة إلى أنه فعل لله تعالى مختص به بخلاف الهداية والبشارة فإنهما يكونان بالواسطة وقيل : إن وجود الشرط مجوز لا موجب والإختيار مرجح مع ما في ذلك من فائدة بيان جواز الوجهين وفيه أنه لا يصح وجها عند التحقيق وقد اعترض أبو حيان هنا بما تقدم في الكلام على قوله تعالى : ليبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة وذكر أنه لا يمتنع أن يكون العطف على المصدر المنسبك لأنه مجرور فيكون هدى وبشرى مجرورين وجوز أبو البقاء أن يكونا مرفوعين على أنهما خبرا مبتدأ محذوف أي وهو هدى وبشرى والجملة في موضع الحال من الهاء في نزله
والمراد بالمسلمين الذين آمنوا والعدول عن ضميرهم لمدحهم بكلا العنوانين وفسر بعضهم الإسلام بمعناه اللغوي فقيل : إن ذلك ليفيد بعد توصيتهم بالإيمان والظاهر أن للمسلمين قيد للهدى والبشرى ولم أر من تعرض لجواز كونه قيدا للبشرى فقط كما تعرض لذلك في قوله تعالى : هدى ورحمة وبشرى للمسلمين على ما سمعت هناك
وفي هذه الآية على ما قالوا تعريض لحصول أضداد الأمور المذكور لمن سوى المذكورين من الكفار من حيث أن قوله تعالى : قل نزله جواب لقولهم : إنما أنت مفتر فيكفي فيه قل نزله روح القدس فالزيادة لمكان التعريض وقال الطيبي إن نزله روح القدرس بدل نزله الله فيه زيادة تصوير في الجواب وزيد قوله تعالى بالحق لينبه على دفع الطعن بألطف الوجوه ثم نعى قبيح أفعالهم بقوله تعالى : ليثبت الخ تعريضا بأنهم متزلزلون ضالون موبخون منذرون بالخزي والنكال واللعن في الدنيا والآخرة وأن عذابهم في خلاف ذلك ليزيد في غيضهم وحنقهم وفي الكلام ما هو قريب من الأسلوب الحكيم أه فتأمل
ولقد نعلم أنهم يقولون غير ما نقل عنهم من المقالة الشعناء إنما يعلمه أي يعلم النبي صلى الله عليه و سلم القرآن وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام قتادة ومجاهد : وغيرهما واختير كون الضمير للقرآن ليوافق ضمير أنزله أي يقولون إنما يعلم القرءان النبي عليه الصلاة و السلام بشر على طريق البت مع ظهور أنه نزوله روح القدس عليه عليه الصلاة و السلام وتأكيد الجملة لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد وصيغة الإستقبال لإفادة استمرار العلم
(14/232)

بحسب الإستمرار التجددي في متعلقه فإنهم مستمرون على التفوه بتلك العظيمة وفي البحر أن المعنى على المضي فالمراد علمنا وعنوا بهذا البشر قيل : جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي وكان قد قرأ التوراة والإنجيل وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة فقالوا ما قالوا
وروي ذلك عن السدي وقيل : مولى لخويطب بن عبد العزي اسمه عائش أو يعيش كان يقرأ الكتب وقد أسلم وحسن إسلامه قال الفراء والزجاج وقيل : أبا فكيهة مولى لامرأة بمكة قيل اسمه يسار وكان يهوديا قاله مقاتل وابن جبير إلا أنه لم يقل كان يهوديا وأخرج آدم بن أبي إياس والبيهقي وجماعة عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال : كان لنا عبدان نصرانيان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار وللآخر جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرءان الإنجيل فربما مر بهما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهما يقرءان فيقف ويستمع فقال المشركون : إنما يتعلم منهما وفي بعض الروايات أنه قيل لأحدهما إنك تعلم محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لا بل هو يعلمني وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كان بمكة غلام أعجمي رومي لبعض قريش يقال : له بلعام وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمه الإسلام فقالت قريش : هذا يعلم محمدا عليه الصلاة و السلام من جهة الأعاجم وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك أنه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه وضعف هذا بأن الآية مكية وسلمان أسلم بالمدينة وكونها إخبارا بأمر مغيب لا يناسب السباق ورواية أنه أسلم بمكة واشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقه بها قيل ضعيفة لا يعول عليها كاحتمال أن هذه الآية مدنية
وقد أخبرني من أثق به عن بعض النصارى أنه قال له : كان نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم يتردد إليه في غار حراء رجلان نصراني ويهودي يعلمانه ولم أجد هذا عن أحد من المشركين وهو كذب بحت لا منشأ له وبهت محض لا شبهة فيه وإنما يصرح باسم من زعموا أنه يعلمه عليه الصلاة و السلام مع أنه أدخل في ظهور كذبهم للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلى الله تعالى عليه وسلم إلى التعلم من شخص معين بل من البشر كائنا من كان مع كونه عليه الصلاة و السلام معدنا لعلوم الأولين والآخرين لسان الذي يلحدون إليه أعجمي اللسان مجاز مشهور عن التكلم والإلحاد الميل يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد ومنه لحد القبر لأنه حفرة مائلة عن وسطه والملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها والأعجمي الغير البين قال أبو الفتح الموصلي : تركيب ع ج م في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد البيان والإيضاح ومنه قولهم : رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان وعجم الزبيب سمي بذلك لاستتاره واختفائه ويقال للبهيمة العجماء لأنه لا توضح ما في نفسها وسموا صلاتي في الظهر والعصر العجماوين لأن القراءة فيهما سر وأما قولهم : أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته كأشكيت زيدا أزلت شكواه والأعجمي والأعجم الذي في لسانه عجمة من العجم كان أو من العرب ومن ذلك زياد الأعجم وكان عربيا في لسانه لكنة وكذلك حبيب الأعجمي تلميذ الحسن البصري قدس الله تعالى سرهما على ما رأيته في بعض التواريخ
والمراد من الذي على القول بتعدد من زعموا نسبة التعليم إليه الجنس ومفعول يلحدون محذوف أي تكلم الذي يميلون قولهم عن الإستقامة إليه أي ينسبون التعليم إليه غير بين لا يتضح المراد منه
وظاهر كلام ابن عطية أن اللسان على معناه الحقيقي وهو الجارحة المعروفة وقرأ الحسن اللسان الذي بتعريف
(14/233)

اللسان بآل وصفه بالذي وقرأ حمزة والكسائي وعبد الله بن طلحة والسلمي والأعمش يلحدون بفتح الياء والحاء من لحد وألحد ولحد لغتان فصيحتان مشهورتان وهذا القرآن الكريم لسان عربي مبين
103
- ذو بيان وفصاحة على ما يشعر به وصفه بمبين بعد وصفه بعربي والكلام على حذف مضاف عند ابن عطية أي سرد لسان أو نطق لسان والجملتان مستأنفتان عند الزمخشري لإبطال طعنهم وجوز أبو حيان أن يكونا حالين من فاعل يقولون ثم قال : وهو أبلغ في الإنكار أي يقولون هذا والحال أن علمهم بأعجمية هذا البشر وعربية هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم عن مثل تلك المقالة كقولك : أتشتم فلانا وهو قد أحسن إليك وإنما ذهب الزمخشري إلى الإستئناف لأن مجيء الإسمية حالا بدون واو شاذ عنده وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء إذ مجيئها كذلك في كلام العرب أكثر من أن يحصى أه وتقرير الإبطال كما قال العلامة البيضاوي يحتمل وجهين أحدهما أن ما يسمعه من ذلك البشر كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي وتفهمونه بأدنى تأمل فكيف يكون ما تلقفه منه وثانيهما هب أنه منه المعنى باستماع كلامه ولكن لم يلقف منه اللفظ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاوله فكيف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع بعض المنقولات بكلمات أعجمية لعله لم يعرف معناها وحاصل ذلك منع تعلمه عليه الصلاة و السلام منه مع سنده ثم تسليمه باعتبار المعنى إذ لفظه مغاير للفظ ذلك بديهية فيكفي دليلا له ما أتى به من اللفظ المعجز ويمكن تقريره بنحو هذا على سائر الأقوال السابقة في البشر وقال الكرماني : المعنى أنتم أفصح الناس وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا وقد عجزتم وعجز جميع العرب عن الإتيان بمثله فكيف تنسبوه إلى أعجمي ألكن وهو كما ترى وبالجملة التشبت في أثناء الطعن بمثل هذه الخرافات الركيكة دليل قوي على كمال عجزهم فقد راموا اجتماع اليوم والأمس واستواء السها والشمس
فدعهم يزعمون الصبح ليلا أيعمى الناظرون عن الضياء إن الدين لا يؤمنون بآيات الله أي يصدقون بأنها من عنده تعالى بل يقولون فيها ما يقولون يسمونها تارة افتراء وأخرى أساطير معلمة من البشر وقيل : المراد بالآيات المعجزات الدالة على صدق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويدخل فيها الآيات القرآنية دخولا أولياء والأول على ما قيل أوفق بالمقام
لا يهديهم الله قيل : أي إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار كما يشير إليه قوله تعالى : ولهم عذاب أليم
104
- وقال بعض المحققين : المعنى لا يهديهم إلى ما ينجيهم من الحق لما يعلم من سوء استعدادهم وقال في البحر : أي لا يخلق الإيمان في قلوبهم وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى وقال الجلبي : المعنى أن سبب عدم إيمانهم هو أنه تعالى لا يهديهم لختمه على قلوبهم أو لا يهديهم سبحانه مجازاة لعدم إيمانهم بأن تلك الآيات من عنده تعالى وقال العسكري : يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا والمراد بلا يهديهم الله لا يهتدون فإنه إنما يقال هدى الله تعالى فلانا على الإطلاق غذا اهتدى هو وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال فيه : إن الله تعالى هداه فلم يهتد كما قال تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى وقيل : المعنى إن الذين لا يصرفون اختيارهم إلى الإيمان بآيته تعالى لا يخلقه سبحانه في قلوبهم وقال ابن عطية : المفهوم من الوجود أن
(14/234)

الذين لا يهديهم الله تعالى لا يؤمنون بآياته ولكنه قدم وأخر تتميما لتقبيح حالهم وللتشنيع بخطئهم كما في قوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ويؤدي مؤدي التقديم والتأخير ما ذكره الجلبي أولا والأكثر لا يخلوا عن دغدغة
وقال القاضي : أقوى ما قيل في الآية ما ذكر أولا وكونه تفسيرا للمعتزلة مناسبا لأصولهم فيه نظر وأياما كان فالمراد من الآية التهديد والوعيد لأولئك الكفرة على ما هم عليه من الكفر بآيات الله تعالى ونسبة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الإفتراء والتعلم من البشر بعد إماطة شبهتهم ورد طعنهم وقوله سبحانه : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله تمهيد لكونهم هم المفترين وقلب عليهم بعد أن حقق بالبيان البرهاني براءة ساحته صلى الله عليه و سلم عن لوث الإفتراء وقوله تعالى : وأولئك هم المكذبون
105
- إشارة إلى قريش القائلين : إنما أنت مفتر وهو تصريح بعد التعريض ليكون كالوسم عليهم وهذا الأسلوب أبلغ من أن يقال : أنتم معشر قريش مفترون لما أشير إليه وإقامة الدليل على أنهم كذلك وأن من زنوه به لا يجوز أن يتعلق بذليله نشب منه أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يرتقب عقابا عليه وقريش كذلك فهم الكاذبون أو إشارة إلى الذين لا يؤمنون فيستمر الكلام على وتيرة واحدة والمعنى أن الكاذب بالحقيقة هذا الكاذب على ما قرروه في قوله تعالى : وأولئك هم المفلحون واللام للجنس وهو شهادة عليهم بالكمال في الإفتراء فالكذب في الحقيقة مقيد بالكذب بآيات الله تعالى و وأطلق أشعارا لا يكذب فوقه ليكون كالحجة على كمال الإفتراء أو الكذب غير مقيد على هذا الوجه على معنى أنهم الذين عادتهم الكذب فلذلك اجترؤا على تكذيب آيات الله تعالى دلالة على أن ذلك لا يصدر غلا ممن لهج بالكذب قيله ويدل على اعتبار هذا المعنى التعبير بالجملة الإسمية ولذا عطفت على الفعلية وفيه قلب حسن وإشارة إلى ان قريشا لما كان من عادتهم الكذب أخذوا يكذبون بآيات الله تعالى ومن أتى بها ثم لم يرضوا بذلك حتى نسبوا من شهدوا بالأمانة والصدق إلى الإفتراء
وموضع الحسن الإيماء إلى سبق حالتي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقريش أو الكذب مقيد على هذا الوجه أيضا بما نسبوا إليه عليه الصلاة و السلام من الإفتراء و الذين لا يؤمنون على هذا المراد به قريش من إقامة الظاهر مقام المضمر وإيثار المضارع على الماضي دلالة على استمرار عدم إيمانهم وتجدده عقب نزول كل آية واستحضار لذلك وهذا الوجه جوح بالنسبة إلى السوابق وقد ذكر هذه الأوجه صاحب الكشاف وقد حررها بما ذكر المولى المدقق في كشفه والحصر في سائرها غير حقيقي ولا استدراك في الآية لا سيما على الأول منها وهي من الكلام المنصف في بعضها وتعلقها بقوله سبحانه حكاية عنهم : إنما أنت مفتر لأنها كما سمعت لرده وتوسيط ما وسط لما لا يخفى من شدة اتصاله بالرد الأول من كفر بالله أي بكلمة الكفر من بعد إيمانه به تعالى وهذا بحسب الظاهر ابتداء كلام لبيان حال من كفر بآيات الله تعالى بعد ما آمن بها بعد بيان حال من لم يؤمن بها رأسا و من موصولة محلها الرفع على الإبتداء والخبر محذوف لدلالة فعليهم غضب الآتي عليه وحذف مثل ذلك كثير في الكلام وجوز أيضا الرفع وكذا النصب على القطع لقصد الذم أي هم أو أذم من كفر والقطع للذم والمدح وإن تعورف في النعت و من لا يوصف بها لكن لا مانع من اعتباره في غيره كالبدل وقد نص عليه سيبويه نعم قال أبو حيان : إن النصب على الذم بعيد وأجاز الحوفي والزمخشري كونها بدلا من الذين لا يؤمنون بآيات الله وقوله تعالى : وأولئك هم الكاذبون اعتراض بينهما واعترضه أبو حيان
(14/235)

وغيره بأنه يقتضي أن لا يفتري الكذب إلا من بعد إيمانه والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن مطلقا وهم أكثر المفترين وأيضا البدل هو المقصود والآية سيقت للرد على قريش وهم كفار أصليون ووجه ذلك الطيبي بأن يراد بقوله تعالى : من بعد إيمانه من بعد تمكنه منه كقوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وذكر أن فيه ترشيحا لطريق الإستدراج وتحسيرا لهم على ما فاتهم من التصديق وما اقترفوه من نسبة الصلاة والسلام إلى الإفتراء وفيه كما في الكشف أن قوله سبحانه : إلا من أكره لا يساعد عليه وحمل التمكن منه على ما هو أعم من التمكن في إحداثه وبقائه لا يخفى ما فيه وقال المدقق : الأولى في التوجيه أن يجعل المعنى من وجد الكفر فيما بينهم تعبيرا على الإرتداد أيضا وأن من وجد فيهم هذه الخصلة لا يبعد منهم الإفتراء ويجعل ذلك ذريعة إلى أن ينعى عليهم ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين من المثلة ويدمج فيه الرخصة بإجراء كلمة الكفر على اللسان على سبيل الإكراه وتفاوت ما بين صاحب العزيمة والرخصة ولا يخفى ما فيه أيضا وأنه غير ملائم لسبب النزول وقال الخفاجي : لك أن تقول : الأقرب أن يبقى الكلام على ظاهره من غير تكلف وأن هذا تكذيب لهم على أبلغ وجه كما يقال لمن قال : إن الشمس غير طالعة في يوم صاح هذا ليس بكذب لأن الكذب يصدر فيما قد تقلبه العقول ويكون هذا على تقدير أن يكون المراد في لا يهديهم الله لا يهديهم إلى الحق فالله تعالى لما يهديهم إلى الحق والصدق وختم على حواسهم نزلوا منزلة من لم يعرفه حتى يساعده لسانه على النطق به فقبح إنكارهم له أجل من أن يسمى كذبا وإنما يكذب من تعمد ذلك ونطق به مرة فتكون الآية الأولى للرد على قريش صريحا والأخرى دلالة على أبلغ وجه انتهى ولعمري إنه نهاية في التكلف ومثل هذا الإبدال الإبدال من أولئك والإبدال من الكاذبون وقد جوزهما الزمخشري أيضا وجوز الحوفي الأخير أيضا ولم يجوز الزجاج غيره
وجوز غير واحد كون من شرطية مرفوعة المحل على الإبتداء واستظهره في البحر والجواب محذوف لدلالة الآتي عليه كما سمعت في الوجه الأول والكلام في خبر من الشرطية مشهور وظاهر صنيع الزمخشري اختيار الإبدال وهو عندي غريب منه وفي الكشف أن كون من شرطية مبتدأ وجه ظاهر السداد إلا أن الذي حمل جار الله على إيثار كون من بدل طلب الملاءمة بين أجزاء النظم الكريم لا أن يكون ابتداء بيان حكم ولا يخفى ما في العذر من الوهن والظاهر أن استظهار من أكره أي على التلفظ بالكفر بأمر يخاف منه على نفسه أو عضو من أعضائه ممن كفر استثناء متصل لأن الكفر التلفظ بما يدل عليه سواء طابق الإعتقاد أو لا
قال الراغب : يقال كفر فلان إذا اعتقد الكفر ويقال إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد فيدخل هذا المستثنى في المستثنى منه المذكور وقيل : مستثنى من الخبر الجواب المقدر وقيل : مستثنى مقدم من قوله تعالى فعليهم غضب وليس بذاك والمراد إخراجه من حكم الغضب والعذاب أو الذم وقوله سبحانه : وقلبه مطمئن بالإيمان حال من المستثنى والعامل كما في إرشاد العقل السليم هو الكفر الواقع بإلاكراه لا نفس الإكراه لأن مقارنة اطمئنان القلب بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعا وإنما مقارنته للكفر والواقع به إلا من كفر بإكراه أو إلا من أكره فكفروا والحال أن قبله مطمئن بالإيمان لم يتغير عقيدته وأصل معنى الإطمئنان سكون بعد انزعاج والمراد هنا السكون والثبات على ما كان عليه بعد إزعاج الإكراه وإنما لم
(14/236)

يصرح بذلك العامل إيماء إلى أنه ليس بكفر حقيقة
واستدل بالآية على أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار ليس ركنا فيه كما قيل واعترض بأن من جعله ركنا لم يرد أنه ركن حقيقي لا يسقط أصلا بل أنه دال على الحقيقة التي هي التصديق إذ لا يمكن الإطلاع عليها فلا يضره عند سقوطه لنحو الإكره والعجز فتأمل
ولكن من شرح بالكفر صدرا أي اعتقده وطاب به نفسا و صدرا على معنى صدره إذ البشر في عجز عن شرح غيره ونصبه كما قال الإمام على أنه مفعول به لشرح وجوز بعضهم كونه على التمييز و من إما شرطية أو موصولة لكن إذا جعلت شرطية قال أبو حيان لا بد من تقدير مبتدأ قبلها لأن لكن لا تليها الجمل الشرطية والتقدير هنا ولكن هم من شرح بالكفر صدرا أي منهم ومثله قوله :
ولكن متى تسترفد القوم أرفد
أي ولكن أنا متى تسترفد الخ وتعقب بأنه تقدير غير لازم وقوله تعالى : فعليهم غضب جواب الشرط على تقدير شرطية من وهي على التقديرين مبتدأ وهذا خبرها على تقدير الموصولية وكذا على تقدير الشرطية في رأي والخلاف مشهور وجعله بعضهم خبرا لمن هذه ولمن الأولى للإتحاد في المعنى إذ المراد بمن كفر النصف الشارح بالكفر صدرا وتعقبه في البحر بأن ههنا جملتين شرطيتين وقد فصل بينهما بأداة الإستدراك فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على حدة فتقدير الحذف أحرى في صناعة الإعراب
وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في إدعائه أن قوله تعالى : فسلام لك من أصحاب اليمين وقوله سبحانه : فروح وريحان جواب لأما ولأن هذا وهما أداتا شرط تلي إحداهما الأخرى ويبعد بهذا عندي جعله خبرا على تقدير الموصولة والإستدراك من الإكراه على ما قيل ووجه بأن قوله تعالى : إلا من أكره يوهم أن الكره مستثنى مما تقدم وقوله سبحانه : وقلبه مطمئن بالإيمان لا ينفي ذلك الوهم فاحتيج إلى الإستدراك لدفعه وفيه بحث ظاهر وقيل : المراد مجرد التأكيد كما في نحو قولك : لو جاء زيد لأكرمتك لكنه لم يجيء وأنت تعلم ما في ذلك فتأمل جدا وتنوين غضب للتعظيم أي غضب عظيم لا يكتنه كنهه كائن من الله جل جلاله ولهم عذاب عظيم
106
- لعظم جرمهم فجوزوا من جنس عملهم وفي اختيار الاسم الجليل من تربية المهابة وتقوية تعظيم العذاب ما فيه والجمع في الضميرين المجرورين لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد المستكن في الصلة لرعاية جانب اللفظ روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسر وسمية على الإرتداد فأبوا فربطوا سمية بين بعيرين ووجيء بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله عليه الصلاة و السلام وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يمسح عينيه وقال : مالك إن عادوا فعد لهم بما قلت وفي رواية أنهم أخذوه فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله عليه الصلاة والصلام قال : ما وراءك قال : شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم 15
(14/237)

بسم الله الرحمن الرحيم سورة
بني إسرائيل
17 - وتسمى الإسراء وسبحان أيضا وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور وقال صاحب الغنيان بإجماع وقيل إلا آيتين وإن كادوا ليفتنونك وإن كادوا ليستفزونك وقيل إلا أربعا هاتان وقوله تعالى : وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وقوله سبحانه : وقل رب أدخلني مدخل صدق وزاد مقاتل قوله سبحانه : إن الذين أوتوا العلم من قبله الآية
وعن الحسن إلا خمس آيات ولا تقتلوا النفس الآية ولا تقربوا الزنا الآية أولئك الذين يدعون الآية أقم الصلاة الآية وآت ذا القربى حقه الآية وقال قتادة : إلا ثماني آيات وهي قوله تعالى : وإن كادوا ليفتنونك إلى آخرهن وقيل غير ذلك وهي مائة وعشر آيات عند الجمهور وإحدى عشرة عند الكوفيين وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم عن عائشة يقرؤها والزمر كل ليلة وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال في هذه السورة والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادي وهذا وجه في ترتيبها ووجه اتصال هذه بالنحل كما قال الجلال السيوطي أنه سبحانه كما قال في ءاخرها إنما جعل على السبت على الذين اختلفوا فيه ذكر في هذه شريعة أهل السبت التي شرعها سبحانه لهم في التوراة فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إن التوراة كلها في خمس عشرة ءاية من سورة بني إسرائيل وذكر تعالى فيها عصيانهم وإفسادهم وتخريب مسجدهم واستفزازهم النبي وإرادتهم إخراجه من المدينة وسؤالهم إياه عن الروح ثم ختمها جل شأنه بآيات موسى عليه السلام التسع وخطابه مع فرعون وأخبر تعالى أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض فأهلك وورث بنو إسرائيل من بعده وفي ذلك تعريض بهم أنهم سينالهم ما نال فرعون حيث أرادوا بالنبي ما أراد هو بموسى عليه السلام وأصحابه ولما كانت هذه السورة مصدرة بقصة تخريب المسجد الأقصى افتتحت بذكر إسراء المصطفى تشريفا له بحلول ركابه الشريف جبرا لما وقع من تخريبه
وقال أبو حيان في ذلك : إنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة و السلام بالصبر ونهاه عن الحزن على الكفرة وضيق الصدر من مكرهم وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه وحاشاه به عقب ذلك بذكر شرفه وفضله وعلو منزلته عنده عز شأنه وقيل : وجه ذلك اشتمالها على ذكر نعم منها خاصة ومنها عامة وقد ذكر في سورة النحل من النعم ما سميت لأجله سورة النعم واشتمالها على ذكر شأن القرآن العظيم كما اشتملت تلك وذكر سبحانه هناك في النحل يخرج من بطونها شراب مختلف
(15/2)

ألوانه فيه شفاء للناس وذكر ههنا في القرآن وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين وذكر سبحانه في تلك أمره بإيتاء ذي القربى وأمر هنا بذلك مع زيادة في قوله سبحانه : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا وذلك بعد أن أمر جل وعلا بالإحسان بالوالدين اللذين هما منشأ القرابة إلى غير ذلك مما لا يحصى فليتأمل والله تعالى الموفق
بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الذي أسرى بعبده سبحان هنا على ما ذهب إليه بعض المحققين مصدر سبح تسبيحا بمعنى نزه تنزيها لا بمعنى قال سبحان الله نعم جاء التسبيح بمعنى القول المذكور كثيرا حتى ظن بعضهم أنه مخصوص بذلك وإلى هذا ذهب صاحب القاموس في شرح ديباجة الكشاف وجعل سبحان مصدر سبح مخففا وليس بذاك وقد يستعمل علما للتنزيه فيقطع عن الإضافة لأن الأعلام لا تضاف قياسا ويمنع من الصرف للعلمية والزيادة واستدل على ذلك بقول الأعشى : قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر وقال الرضي : لا دليل على علميته لأنه أكثر ما يستعمل مضافا فلا يكون علما وإذا قطع فقد جاء منونا في الشعر كقوله : سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجودي والجمد وقد جاء باللام كقوله :
سبحانك اللهم ذو السبحان
ولا مانع من أن يقال في البيت الذي استدلوا به : حذف المضاف إليه وهو مراد للعلم به وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله أي التجرد عن التنوين كقوله :
خالط من سلمى خياشيم وفا
انتهى وظاهر كلام الزمخشري أنه علم للتسبيح دائما وهو علم جنس لأن علم الجنس كما يوضع للذوات يوضع للمعاني فلا تفصيل عنده وانتصر له صاحب الكشف فقال : إن ما ذهب إليه العلامة هو الوجه لأنه إذا ثبتت العلمية بدليلها فالإضافة لا تنافيها وليست من باب زيد المعارك لتكون شاذة بل من باب حاتم طي وعنترة عبس وذكر أمه يدل على التنزيه البليغ وذلك من حيث الاشتقاق من السبح وهو الذهاب والابعاد في الأرض ثم ما يعطيه نقله إلى التفعيل ثم العدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وما فيه من قيامه قام المصدر مع الفعل فإن انتصابه بفعل متروك الإظهار ولهذا لم يجز استعماله إلا فيه تعالى أسماؤه وعظم كبرياؤه وكأنه قيل : ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلا حكمة وصوابا انتهى
وأرورد على ما ذكره أولا أن من منع إضافة العلم قياسا لم يفرق بين إضافة وإضافة فإن ادعى أن بعض الأعلام اشتهرت بمعنى كحاتم بالكرم فيجوز في نحوه الاضافة لقصد التخصيص ودفع العموم الطاريء فما نحن فيه ليس من هذا القبيل كما لا يخفى وما ذكر من دلالته عن التنزيه من جميع النقائص هو الذي يشهد له المأثور ففي العقد الفريد عن طلحة قال : سألت رسول الله عن تفسير سبحان الله فقال : تنزيه لله تعالى عن كل سوء وقال الطيبي في قول الزمخشري : إنه دل على التنزيه البليغ عن جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله تعالى إن ذلك مما يأباه مقام الإسراء إباه العيوف الورود وهو مزيف بل معناه التعجب كما قال في النور الأصل في ذلك أن يسبح الله تعالى عند رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه وليس
(15/3)

بشيء ففي الكشف أن التنزيه لا ينافي التعجب كما توهم واعترض وجعله مدارا والتعجب تبعا ههنا هو الوجه بخلاف آية النور وذكر بعضهم أن الظاهر من كلام الكشاف في مواضع أنه لا يرتضى الجمع بين التنزيه والتعجب للمنافاة بينهما بل لأن كلا منهما معنى مستقل فالجمع بينهما جمع بين معنى المشترك وعلى الجمع فالوجه ما ذكر أنه الوجه فأفهم وقيل إن سبحان ليس علما أصلا بلا تفصيل ففيه ثلاثة مذاهب وذكر بعضهم أنه في الآية على معنى الأمر أي نزهوا الله تعالى وبرئوه من جميع النقائص ويدخل فيها العجز عما بعد أو من العجز عن ذلك والمتبادر اعتبار المضارع والاسراء السير بالليل خاصة كالسرى فأسرى وسرى بمعنى وليست همزة أسرى للتعدية كما قال أبو عبيدة وقال ابن عطية : الهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي أسرى ملائكته بعبده قال في البحر : وإنما احتاج إلى هذه الدعوى لاعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد فإذا قلت : قمت بزيد يلزم منه قيامك وقيام زيد عنده وإذا جعلت الباء كالهمزة لا يلزم ذلك كما لا يخفى وقال أيضا : يحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل أسرى ملائكته وهو مبني على ذلك الاعتقاد أيضا وقال الليث : يقال أسرى لأول الليل وسرى لآخره وأما سار فالجمهور على أنه عام لا اختصاص له بليل أو نهار وقيل إنه مختص بالنهار وليس مقلوبا من سرى وإيثار لفظة العبد للايذان بتمحضه في عبادته سبحانه وبلوغه في ذلك غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية حسبما يلوح به مبدأ الاسراء ومنتهاه والعبودية على ما نص عليه العارفون أشرف الأوصاف وأعلى المراتب وبها يفتخر المحبون كما قيل : لا تدعني إلابيا عبدها فإنه أشرف أسمائي وقال آخر : بالله إن سألوك عني قل لهم عبدي وملك يدي وما أعتقته وعن أبي القاسم سليمان الأنصاري أنه قال : لما وصل النبي إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة أوحى الله تعالى إليه يا محمد بم نشرفك قال : بنسبتي إليك بالعبودية فأنزل الله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده وجاء قولوا عبد الله ورسوله وقيل إن في التعبير به هنا دون حبيبه مثلا سدا لباب الغلو فيه كما وقع للنصارى في نبيهم عليه السلام وذكروا أنه لم يعبر الله تعالى عن أحد بالعبد مضافا إلى ضمير الغيبة المشار به إلى الهوية إلا النبي وفي ذلك من الإشارة ما فيه ومن تأمل أدنى تأمل ما بين قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده وقوله تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا ظهر له الفرق التام بين مقام الحبيب ومقام الكليم وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا في هذه السورة ما يفهم منه الفرق أيضا فلا تغفل وإضافة سبحان إلى الموصول المذكور للاشعار بعلية ما في حيز الصلة للمضاف فإن ذلك من أدلة كمال قدرته وبالغ حكمته وغاية تنزهه تعالى عن صفات النقص وقوله تعالى ليلا ظرف لأسرى وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الاسراء وأنها بعض من أجزاء الليل ولذلك قرأ عبد الله وحذيفة من الليل أي بعضه كقوله تعالى ومن الليل فتهجد
واعترض بأن البعضية المستفادة من التبعيضية هي البعضية في الأجزاء والبعضية المستفادة من التنكير البعضية
(15/4)

في الأفراد والجزيئات فكيف يستفاد من التنكير أن الاسراء كان في بعض من أجزاء الليل فالصواب أن تنكيره لدفع توهم أن الاسراء كان في ليال أو لافادة تعظيمه كما هو المناسب للسياق والسباق أي ليلا أي ليل دنا فيه المحب إلى المحبوب وفاز في مقام الشهود بالمطلوب وأجاب عن ذلك بعض الكاملين بما لا يخفى نقصه وقال بعض المحققين : إن ما ذكر قد نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز ولا يرد عليه الاعتراض ابتداء
وتحقيقه على ما صرح به الفاضل اليمني نقلا عن سيبويه وابن مالك أن الليل والنهار إذا عرفا كانا معيارا لتعميم وظرفا محدودا فلا تقول صحبته الليلة وأنت تريد ساعة منها إلا أن تقصد المبالغة كما تقول أتاني أهل الدنيا لناس منهم بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك فلما عدل عن تعريفه هنا علم أنه لم يقصد استغراق السرى له وهذا هو المراد من البعضية المذكورة ولا حاجة إلى جعل الليل مجازا عن بعضه كما إنك إذا قلت جلست في السوق وجلوسك في بعض أماكنه لا يكون فيه السوق مجازا كما لا يخفى وقد أشار إلى هذا المدقق في الكشف وقيل : المراد بتنكيره أنه وقع في وسطه ومعظمه كما يقال جاءني فلان بليل أي في معظم ظلمته فيفيد البعضية أيضا وينافيه ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث وزعم أنه ذكر ليلا للتأكيد أو تجريد الاسراء وإرادة مطلق السير منه ناشيء من قلة البضاعة كما لا يخفى وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان حكمة كون الاسراء ليلا من المسجد الحرام
الظاهر أن المراد به المسجد المشهور بين الخاص والعام بعينه وكان إذ ذاك في الحجر منه فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال : قال رسول الله بينا أنا في الحجر وفي رواية في الحطيم بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه فاستخرج قلبي فغسله ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه الحديث وفي بعض الروايات أنه جاءه جبريل وميكائيل عليهما السلام وهو مضطجع في الحجر بين عمه حمزة وابن عمه جعفر فاحتملته الملائكة عليهم السلام وجاؤا به إلى زمزم فألقوه على ظهره وشق جبريل صدره من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه بغير آلة ولا سيلان دم ولا وجود ألم ثم قال لميكائيل : ائتني بطست من ماء زمزم فأتاه به فاستخرج قلبه الشريف وغسله ثلاث مرات ثم أعاده إلى مكانه وملأه إيمانا وحكمة وختم عليه ثم خرج إلى باب المسجد فإذا بالبراق مسرجا ملجما فركبه الخبر ويعلم منه الجمع بين ما ذكر من أنه عليه الصلاة و السلام كان إذ ذاك في الحجر وما قيل إنه كان بين زمزم والمقام وقيل : المراد به الحرم وأطلق عليه لاحاطته به فهو مجاز بعلاقة المجاورة الحسية والإحاطة أو لأن الحرم كله محل للسجود ومحرم ليس يحل فهو حقيقة لغوية والنكتة في هذا التعبير مطابقة المبدأ المنتهي
وكان إذ ذاك في دار فاختة أم هانيء بنت أبي طالب فقد أخرج النسائي عن ابن عباس وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير من حديثها أنه كان نائما في بيتها بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة عليها وقال مثل لي النبيون فصليت بهم ثم خرج إلى المسجد وأخبر به قريشا فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد أناس ممن آمن به عليه الصلاة
(15/5)

والسلام وسعى رجال إلى أبي بكر فقال : إن كان قال ذلك فقد صدق قالوا أتصدقه على ذلك قال إني أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة فسمي الصديق وكان في القوم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه إياه فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا : أما النعت فقد أصاب فيه فقالوا : أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئا قال : نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ووضعته كما كان فاسألوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا قالوا : هذه آية قال : ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان راكبان قعودا فنفر بعيرهما مني فانكسر فاسألوهما عن ذلك قالوا : هذه آية أخرى ثم سألوه عن العدة والأحمال والهيئات فمثلت له العير فأخبرهم عن كل ذلك وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان قالوا وهذه آية أخرى فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه إذ قال قائل هذه الشمس قد طلعت وقال آخر : هذه العير قد أقبلت يقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال فلم يؤمنوا وقالوا هذا سحر مبين قاتلهم الله أنى يؤفكون وفي بعض الآثار أن أم هانيء قالت فقدته وكان نائما عندي فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش ويقال إنه تفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه ووصل العباس إلى ذي طوى وهو ينادي يا محمد يا محمد فأجابه فقال : يا ابن أخي أعييت قومك أين كنت قال : ذهبت إلى بيت المقدس قال : من ليلتك قال : نعم قال : هل أصابك الأخير قال : ما أصابني الأخير وقيل : غير ذلك
وكما اختلف في مبدأ الاسراء اختلف في سنته فذكر النووي في الروضة أنه كان بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر وفي الفتاوى أنه كان سنة خمس أو ست من النبوة ونقل عنه الفاضل الملا أمين العمري في شرح ذات الشفاء الجزم بأنه كان في السنة الثانية عشرة من المبعث وعن ابن حزم دعوى الاجماع على ذلك وضعف ما في الفتاوى بأن خديجة رضي الله عنها لم تصل الخمس وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل كان قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر وقيل ثلاثة أشهر ووقع في حديث شريك بن أبي نمرة عن أنس أنه كان قبل أن يوحى إليه وقد خطأه غير واحد في ذلك ونقل الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين حديث شريك الواقع فيه ذلك بطوله ثم قال هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى بألفاظ غير معروفة
وقد روى حديث الإسراء عن أنس جماعة من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث
وأجاب عن ذلك محيي السنة وغيره بما ستسمعه إن شاء الله تعالى وكذا اختلف في شهره وليلته فقال النووي في الفتاوى : كان في شهر ربيع الأول وقال في شرح مسلم تبعا للقاضي عياض : إنه في شهر ربيع الآخر وجزم في الروضة بأنه في رجب وقيل في شهر رمضان وقيل : في شوال وكان على ما قيل الليلة السابعة والعشرين من الشهر وكانت ليلة السبت كما نقله ابن الملقن عن رواية الواقدي وقيل : كانت ليلة الجمعة لمكان فضلها وفضل الإسراء ورد بأن جبرائيل عليه السلام صلى بالنبي أول يوم بعد الإسراء الظهر ولو كان يوم الجمعة لم يكن فرضها الظهر قاله محمد بن عمر السفيري وفيه أن العمري ذكر في شرح ذات الشفاء
(15/6)

أن الجمعة والجنازة وجبتا بعد الصلوات الخمس وفي شرح المنهاج للعلامة ابن حجر إن صلاة الجمعة فرضت بمكة ولم تقم بها لفقد العدد أو لأن شعارها الاظهار وكان بها مستخفيا وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة
ونقل الدميري عن ابن الأثير أنه قال : الصحيح عندي أنها كانت ليلة الاثنين واختاره ابن المنير وفي البحر قيل إن الإسراء كان في سبع عشرة من شهر ربيع الأول والرسول ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما وحكى أنها ليلة السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر عن الجرمي وهي على ما نقل السفيري عن الجمهور أفضل الليالي حتى ليلة القدر مطلقا وقيل هي أفضل بالنسبة إلى النبي وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى أمته عليه الصلاة و السلام ورد بأن ما كان أفضل بالنسبة إليه فهو أفضل بالنسبة إلى أمته عليه الصلاة و السلام فهي أفضل مطلقا نعم لم يشرع التعبد فيها والتعبد في ليلة القدر مشروع إلى يوم القيامة والله تعالى أعلم واختلف أيضا أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه في المنام
وروي ذلك عن عائشة ومعاوية رضي الله تعالى عنهما ولعله لم يصح عنها كما في البحر وكانت رضي الله تعالى عنها إذ ذاك صغيرة ولم تكن زوجته عليه الصلاة و السلام وكان معاوية كافرا يومئذ واحتج لذلك بقوله تعالى وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس لأن الرؤيا تختص بالنوم لغة ووقع في حديث شريك المتقدم ما يؤيده وذهب الجمهور إلى أنه في اليقظة ببدنه وروحه والرؤيا تكون بمعنى الرؤية في اليقظة كما في قول الراعي يصف صائدا : وكبر للرؤيا وهش فؤاده وبشر قلبا كان جما بلاله وقال الواحدي : إنها رؤية اليقظة ليلا فقط وخبر شريك لا يعول عليه على ما نقل عن عبد الحق وقال النووي : وأما ما وقع في رواية عن شريك وهو نائم وفي أخرى عنه بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ولا حجة فيه إذ قد يكون أول وصول الملك إليه وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما في القصة كلها واحتج الجمهور لذلك بأنه لو كان مناما ما تعجب منه قريش ولا استحالوه لأن النائم قد يرى نفسه في السماء ويذهب من المشرق إلى المغرب ولا يستبعده أحد وأيضا العبد ظاهر في الروح والبدن وذهبت طائفة منهم القاضي أبو بكر والبغوي إلى تصديق القائلين بأنه في المنام والقائلين بأنه في اليقظة وتصحيح الحديثين في ذلك بأن الإسراء كان مرتين إحداهما في نومه قبل النبوة فأسري بروحه توطئة وتيسيرا لما يضعف عنه قوى البشر وإليه الإشارة فبقوله تعالى وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ثم أسري بروحه وبدنه بعد النبوة قال في الكشف : وهذا هو الحق وبه يحصل الجمع بين الأخبار
وحكى المازري في شرح مسلم قولا رابعا جمع بين القولين فقال : كان الإسراء بجسده في اليقظة إلى بيت المقدس فكانت رؤية عين ثم أسري بروحه الشريفة عليه الصلاة و السلام منه إلى ما فوقه فكانت رؤيا قلب ولذا شنع الكفار عليه عليه الصلاة و السلام قوله : أتيت بيت المقدس في ليلتي هذه ولم يشنعوا عليه قوله فيما سوى ذلك ولم يتعجبوا منه لأن الرؤيا ليست محل التعجب وليس معنى الإسراء
(15/7)

بالروح الذهاب يقظة كالانسلاخ الذي ذهب إليه الصوفية والحكماء فإنه وإن كان خارقا للعادة ومحلا للتعجب أيضا إلا أنه أمر لا تعرفه العرب ولم يذهب إليه أحد من السلف والأكثر على أن المعراج كالإسراء بالروح والبدن ولا استحالة في ذلك فقد ثبت بالهندسة أن مساحة قطر جرم الأرض ألفان وخمسمائة وخمسة وأربعون فرسخا ونصف فرسخ وأن مساحة قطر كرة الشمس خمسة أمثال ونصف مثل لقطر جرم الأرض وذلك أربعة عشر ألف فرسخ وأن طرف قطرها المتأخر يصل موضع طرفه المتقدم في ثلثي دقيقة فتقطع الشمس بحركة الفلك الأعظم أربعة عشر ألف فرسخ في ثلثي دقيقة من ساعة مستوية
وذكر الإمام في الأربعين أن الأجسام متساوية في الذوات والحقائق فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على غيره من الأعراض لأن قابلية ذلك العرض إن كان من لوازم تلك الماهية فأينما حصلت حصل لزم حصول تلك القابلية فوجب أن يصح على كل منها ما يصح عن الآخر وإن لم يكن من لوازمها كان من عوارضها فيعود الكلام فإن سلم وإلا دار أو تسلسل وذلك محال فلا بد من القول بالصحة المذكورة والله تعالى قادر على جميع الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي أو فيما يحمله وقال العلامة البيضاوي : الاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية إلى آخر ما قال وما ذكرناه هو الصواب في التعبير فإن المقدمتين اللتين ذكرهما ممنوعتان أما الأولى بأن النسبة التي ذكرها إنما هي نسبة جرم الشمس إلى جرم الأرض كما برهنوا عليه في باب مقادير الأجرام والأبعاد من كتب الهيئة لكنهم قالوا جرم الشمس مثل جرم الأرض مائة وستة وستين مرة وربع مرة وثمن مرة
والعلامة جعل ذلك نسبة القطر إلى القطر لأنه المتبادر مما بين الطرفين وإرادة الجرم منه خلاف الظاهر جدا وكان يكفيه لو أراد ذلك أن يقول : قرص الشمس ضعف كرة الأرض فأي معنى لما زاده وأما الثانية فإن أراد بالثانية الثانية من الدرجة الفلكية التي هي ستون دقيقة فمنعها بما حرره العلامة القطب الشيرازي في نهاية الإدراك حيث قال : مقدار الدرجة الواحدة من مقعر الفلك الأطلس بالأميال 3953439 ميلا فالفلك الأعلى يقطع فيما مقداره من الزمان جزء واحد من خمسة عشر جزءا من ساعة مستوية وهو ثلث خمسها هذا المقدار من الأميال فإذا تحرك مقدار دقيقة وهي جزء من تسعمائة جزء من ساعة مستوية كان قدر قطعه من المسافة 817551 ميلا وسدس ميل وخمس ربع و ربع خمس ميل ولأن حين ما يبدو قرن الشمس إلى أن تطلع بالتمام يكون بقدر ما يعد واحد من واحد إلى ثلثمائة فبمقدار ما يعد ثلاثين يتحرك الفلك 817551 ميلا وهو ألف وسبعمائة واثنان وثلاثون فرسخا من مقعره والله تعالى أعلم بما يتحرك محدبه حينئذ فسبحان الله تعالى ما أعظم شأنه ا ه
وحاصل ذلك أن الفلك الأعظم يتحرك من ابتداء طلوع جرم الشمس إلى أن يطلع بتمامه سدس درجة وهو عشر دقائق من ستين دقيقة من درجة فلكية ومقدار مساحة هذه الدقائق 006915 أي خمسمائة ألف وتسعة عشر ألفا وستمائة فرسخ وإذا جعلنا هذه الدقائق ثواني كانت ستمائة ثانية فأين الأقل من ثانية
وإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الساعة التي هي ربع الدرجة الفلكية فسدس الدرجة ههنا يكون ثلثي دقيقة وإذا جعلنا ثلثي الدقيقة ثواني كانا أربعين ثانية وهذه الثواني هي الثواني الستمائة بعينها إلا أن المنجمين لما
(15/8)

جعلوا الساعة ستين دقيقة تسهيلا للحساب والساعة عبارة عن خمسة عشر درجة فلكية اقتضى أن تكون الدرجة الفلكية وكل ثانية من ثواني دقيقة الساعة بخمسة عشر ثانية من ثواني دقيقة الدرجة الفلكية فالخلاف بين ثواني دقائق الدرجة الفلكية وثواني دقيقة الساعة اعتبار لفظي وأجاب عبد الرحمن الكردي الشهير بالفاضل بأن الثانية جزء من ستين جزءا من دقيقة والدقيقة قد تطلق على جزء من ستين جزءا من درجة وقد تطلق على جزء من ستين جزءا من ساعة وقد تطلق على جزء من ستين جزءا من يوم بليلته ومراد العلامة البيضاوي من الثانية الثانية الثالثة لا الثانية الأولى وهو ظاهر ولا الثانية الثانية كما ذهب إليه سعدي جلبي وتبعه ابن صدر الدين وفيه أنه يفهم منه أن الفلكيين قد يقسمون اليوم بليلته إلى ستين دقيقة كما يقسمونها إلى الساعات والدرجات والدقائق قسمة يتميز بها أجزاء الزمان ولم يقل بذلك أحد منهم وإنما ذكر ذلك بعضهم تسهيلا لمعرفة الكسر الزائد على الأيام التامة من السنة لتعرف منه السنة الكبيسة في ثلاث سنين أو أربع سنين بمعزل عما نحن فيه من قطع المسافة البعيدة بالزمان القليل ولو سلمنا ما زعمه كان ناقصا من مدة حركة الفلك الأعظم من ابتداء طلوع قرص الشمس إلى انتهائه وهو ثلثا دقيقة هما أربعون ثانية وذلك جزء من تسعين جزءا من ساعة مستوية كما حرره العلامة الشيرازي وما ذكره من أن الثانية من دقيقة اليوم بليلته عبارة عن أربعة وعشرين ثانية من ثواني دقيقة الساعة وهي أقل من ثلثي دقيقة بستة عشر ثانية خطأ على خطأ تلك إذن قسمة ضيزى نعم قد أصاب في الرد على الفاضلين وقد أخطأ الفاضل الأول في غير ذلك في هذا المقام كما لا يخفى على من وقف على كلامه وكان له أدنى اطلاع على كتب القوم ولتداول هذا المبحث بين الطلبة وعدم وجدانهم من يبل غليلهم تعرضنا له بما نرجوا أن يبل به الغليل هذا والعلماء درجات والله تعالى الموفق لفهم الدقائق فتأمل مرة وثانية وثالثة فلعل الله سبحانه أن يفتح عليك غير ذلك وما ذكر من تساوي الأجسام مبني على ما قيل على تركبها من الجواهر الفردة وفيه خلاف النظام والفلاسفة والبحث في ذلك طويل ولا يستدل على الإستحالة بلزوم الخرق والالتئام وقد برهنوا على استحالة ذلك لأنا نقول : إن برهانهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت كما بين في محله ولم تتعرض الآية لأنه كان في الإسراء محمولا على شيء لكن صحت الأخبار بأنه عليه الصلاة و السلام أسري به على البراق إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس ووصفه بالأقصى أي الأبعد بالنسبة إلى من بالحجاز وقال غير واحد : إنه سمي به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد الحرام وبينهما نحو من أربعين ليلة وقيل : لأنه ليس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها وقال ابن عطية : يحتمل أن يراد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين ما سواه وهو بعيد في نفسه للزائرين وقيل المراد بعده عن الأقذار والخبائث واختلف في ركوب جبريل عليه السلام معه فقيل : ركب خلفه عليه الصلاة و السلام والصحيح أنه لم يركب بل أخذ بركابه وميكائيل يقود البراق واختلف أيضا في استمراره عليه عليه الصلاة و السلام في عروجه إلى السماء فقيل : عرج عليه والصحيح أنه نصب له معراج فعرج عليه وجاء في وصفه وعظمه ما جاء ووهم الحافظ ابن كثير كما قال الحلبي القائلين ومنهم صاحب الهمزية إن عروجه على البراق ومن الأكاذيب المشهورة أنه لما أراد العروج صعد على صخرة بيت المقدس وركب البراق فمالت الصخرة وارتفعت لتلحقه فأمسكتها الملائكة ففي طرف منها أثر قدمه الشريف وفي الطرف الآخر أثر أصابع الملائكة عليهم السلام فهي واقفة في الهواء
(15/9)

قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض سبحانه وتعالى وذكر العلائي في تفسيره أنه كان للنبي عليه الصلاة و السلام ليلة الإسراء خمسة مراكب الأول البراق إلى بيت المقدس والثاني المعراج منه إلى السماء الدنيا الثالث أجنحة الملائكة منها إلى السماء السابعة الرابع جناح جبريل عليه السلام منها إلى سدرة المنتهى الخامس الرفرف منها إلى قاب قوسين ولعل الحكمة في الركوب إظهار الكرامة وإلا فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يوصله إلى أي موضع أراد في أقل من طرفة عين وقيل لم يكن إلا البراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والمعراج منه إلى حيث شاء الله تعالى وقد كان له عشر مرافي سبعة إلى السموات والثامن إلى السدرة والتاسع إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام والعاشر إلى العرش والله تعالى أعلم
ومن العجائب ما سمعته عن الطائفة الكشفية والعهدة على الراوي أن للروح جسدين جسد من عالم الغيب لطيف لا دخل للعناصر فيه وجسد من عالم الشهادة كثيف مركب من العناصر والنبي حين عرج به ألقى كل عنصر من عناصر الجسد العنصري في كرته فما وصل إلى تلك القمر حتى ألقى جميع العناصر ولم يبق معه إلا الجسد اللطيف فرقى به حيث شاء الله تعالى ثم لما رجع عليه الصلاة و السلام رجع إليه ما ألقاه واجتمع فيه ما تفرق منه ولعمري إنه حديث خرافة لا مستند له شرعا ولا عقلا
وذكر مولانا عبد الرحمن الدشتي ثم الجامي أن المعراج إلى العرش بالروح والجسد وإلى ما وراء ذلك بالروح فقط وأنشد بالفارسية
جورفرف شد مشرف أزوجودش كرفت ازدست رفرف عرش زودش بدست عرش تنجون خرقه بكذاشت علم برلا مكان بي خرقه افراشت كلي برد ندا زين دهليزه يست بدان دركاه والا دست بردست جهت رامهره از ششدر رهانيد مكانرا مركب ازتنكي جهانيد مكاني يافت خالي از مكان نيز كه تن محرم نبودا نجا وجان نيز ولم أقف على مستند له من الآثار وكأنه لاحظ أن العروج فوق العرش بالجسد يستدعي مكانا وقد تقرر عند الحكماء أن ما وراء العرش لا خلا ولا ملا وبه تنتهي الأمكنة وتنقطع الجهات وقال بعضهم : أمر المعراج أجل من أن يكيف وماذا عسى يقال سوى أن المحب القادر الذي لا يعجزه شيء دعا حبيبه الذي خلقه من نوره إلى زيارته وأرسل إليه من أرسل من خواص ملائكته فكان جبريل هو الآخذ بركابه وميكائيل الآخذ بزمام دابته إلى أن وصل إلى ما وصل ثم تولى أمره سبحانه بما شاء حتى حصل فأي مسافة تطول على ذلك الحبيب الرباني وأي جسم يمتنع عن الخرق لذلك الجسد النوراني جز بحزوي فثم عالم لطف من بقايا أجساده الأرواح ومن تأمل في العين وإحساسها بالقريب والبعيد ولو كان فاقدها وذكر له حالها لأنكر ذلك إنكارا ما عليه مزيد وكذا في غير ذلك من آثار قدرة الله تعالى الظاهرة في الأنفس والآفاق والواقع على جلالة قدرها الاتفاق لم يسعه إلا تسليم ما نطقت به الآيات وصحت به الروايات ويشبه كلام هذا البعض ما قاله بعض شعراء الفرس إلا أن فيه ميلا إلى مذهب أهل الوحدة وهو قوله :
(15/10)

قصة بيرنك معراج ازمن بيدل مبرس قطره دريا كشت وبيغمرنميدانم جه شد والظاهر أن المسافة التي قطعها عليه الصلاة و السلام في مسيره كانت باقية على امتدادها ويؤيد ذلك ما ذكره الثعلبي في تفسيره في وصف البراق أنه إذا أتى واديا طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أتى عقبة طالت رجلاه وقصرت يداه وكانت المسافة في غاية الطول ففي حقائق الحقائق كانت المسافة من مكة إلى المقام الذي أوحى الله تعالى فيه إلى نبيه عليه الصلاة و السلام ما أوحى قدر ثلثمائة ألف سنة وقيل : خمسين ألفا وقيل غير ذلك وأنه ليس هناك طي مسافة على نحو ما يثبته الصوفية وبعض الفقهاء للأولياء كرامة وجهل بعض الحنفية مثبتيه لهم وكفرهم آخرون وليس له وجه ظاهر وربما يلزم مثبتيه القول بتداخل الجواهر والفلاسفة والمتكلمون سوى النظام يحيلونه ويبرهنون على استحالته وادعى بعضهم الضرورة في ذلك وقالوا : المنع مكابرة وقد أثبت الصوفية للأولياء نشر الزمان ولهم في ذلك حكايات عجيبة والله تعالى أعلم بصحتها ولم أر من تعرض لذلك من المتشرعين وهو أمر وراء عقولنا المشوبة بالأوهام ومثله في ذلك قول من قال : الأزل والأبد نقطة واحدة الفرق بينهما بالاعتبار وليس لفهم ذلك عندي إلا المتجردون من جلاليب أبدانهم وقليل ما هم وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة حكاية إنكار طي المسافة أيضا وذكر ما فيه والله تعالى الموفق
وإنما أسري به ليلا لمزيد الاحتفال به عليه الصلاة و السلام فإن الليل وقت الخلوة والاختصاص ومجالسة الملوك ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلا إلا من هو خاص عنده وقد أكرم الله تعالى فيه قوما من أنبيائه عليهم السلام بأنواع الكرامات وهو كالأصل للنهار وأيضا الاهتداء فيه للمقصد أبلغ من الاهتداء في النهار وأيضا قالوا : إن المسافر يقطع في الليل ما لا يقطع في النهار ومن هنا جاء عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار وأيضا أسرى به ليلا ليكون ما يعرج إليه من عالم النور المحض أبعد عن الشبه بما يعرج منه من عالم الظلمة وذلك أبلغ في الإعجاب
وقال ابن الجوزي في ذلك : إن النبي سراج والسراج لا يوقد إلا ليلا وبدر وكذا مسير البدر في الظلم إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها إلا الله تعالى ثم إن الآية ليست نصا في دخوله عليه الصلاة و السلام المسجد الأقصى إلا أن الأخبار الصحيحة نص في ذلك وقوله سبحانه : الذي بركنا حوله صفة مدح وفيها إزالة اشتراك عارض وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء عليهم السلام وقبله لهم وكثرة الأنهار والأشجار حوله وفي الحديث أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس وقيل : بركته أن جعل سبحانه مياه الأرض كلها تتفجر من تحت صخرته والله تعالى أعلم بصحة ذلك وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال والأربع التي يمنع دخولها الدجال فقد أخرج أحمد في المسند أن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد : مسجد المدينة ومسجد مكة والأقصى والطور والصلاة فيه مضاعفة فقد أخرج أحمد أيضا وأبو داود وابن ماجة عن ميمونة مولاة رسول الله أنها قالت : يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس قال : أرض المحشر والمنشر ائتوه وصلوا فيه فإن صلاة فيه بألف صلاة
وفي رواية لأحمد عن بعض نسائه عليه الصلاة و السلام أنها قالت : يا رسول الله فإن لم تستطع إحد أنا أن تأتيه قال : إذا لم تستطع أحداكن أن تأتيه فلتبعث إليه زيتا يسرج فيه فإن من بعث إليه بزيت يسرج فيه
(15/11)

كان كمن صلى فيه وروى بعضه أبو داود وهو ثاني مسجد وضع في الأرض لخبر أبي ذر قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا قال : المسجد الحرام قلت : ثم أي قال : المسجد الأقصى قلت : كم بينهما قال : أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة فصل فإن الفضل فيه وقد أسسه يعقوب عليه السلام بعد بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة بما ذكر في الحديث وجدده سليمان أو أتم تجديد أبيه عليهما السلام بعد ذلك بكثير والكلام فيما يتعلق بذلك مفصل في محله لنريه من ءاياتنا أي لنرفعه إلى السماء حتى يرى ما يرى من العجائب العظيمة فقد صح أنه عرج به من صخرة بيت المقدس كما تقدم واجتمع في كل سماء مع نبي من الأنبياء عليهم السلام كما في صحيح البخاري وغيره واطلع عليه الصلاة و السلام على أحوال الجنة والنار ورأى من الملائكة ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى
ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة و السلام رأى ليلة المعراج في مملكة الله تعالى خلقا كهيئة الرجال على خيل بلق شاكين السلاح طول الواحد منهم ألف عام والفرس كذلك يتبع بعضهم بعضا لا يرى أولهم ولا آخرهم فقال يا جبريل من هؤلاء فقال : ألم تسمع قوله تعالى وما يعلم جنود ربك إلا هو فأنا أهبط وأصعد أراهم هكذا يمرون لا أدري من أن يجيئون ولا إلى أين يذهبون وقد صلى بالأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس قال في العقائق : وكانت صلاته عليه الصلاة و السلام بهم ركعتين قرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون وفي الثانية الإخلاص قال بعضهم : كانت دعاء وذكر أن الأنبياء كانوا سبعة صفوف ثلاثة منهم مرسلون وأن الملائكة عليهم السلام صلت معهم وهذا من خصائصه عليه الصلاة و السلام كما قال القاضي زكريا في شرح الروض والحكمة في ذلك أن يظهر أنه إمام الكل عليه الصلاة و السلام وهل صلى بأرواحهم خاصة أو بها خاصة أو بها مع الأجساد فيه خلاف وكذا اختلف في أنه صلى بهم قبل العروج أو بعده فصحح الحافظ ابن كثير أنه يعده وصحح القاضي عياض وغيره أنه قبله وجاء في رواية أنه عليه الصلاة و السلام صلى في كل سماء ركعتين يؤم أملاكها وكان الإسراء والعروج في بعض ليلة واحدة وكان رجوعه على ما كان ذهابه عليه ولم يعين مقدار ذلك البعض وكيفما كان فوقوع ما وقع فيه من أعجب الآيات وأغرب الكائنات وفي بعض الآثار أنه لما رجع وجد فراشه لم يبرد من أثر النوم وقيل : إن غصن شجرة أصابه بعمامته في ذهابه فلما رجع وجده بعد يتحرك وزعم بعضهم أن ليلة الإسراء غير ليلة المعراج وظاهر الآية على ما سمعت يقتضي أنهما في ليلة واحدة وإنما أسري به أولا إلى بيت المقدس وعرج به ثانيا منه ليكون وصوله إلى الأماكن الشريفة على التدريج فإن شرف بيت المقدس دون شرف الحضرة التي عرج إليها على ما قيل وقيل : توطينا له عليه الصلاة و السلام لما في المعراج من الغرابة العظيمة التي ليست في الإسراء وإن كان غريبا أيضا وقيل : لتتشرف به أرض المحشر ذهابا وإيابا وقيل : لأن باب السماء الذي يقال مصعد الملائكة عليهم السلام على مقابلة صخرة بيت المقدس فقد نقل عن كعب الأحبار أنه قال : إن لله تعالى بابا مفتوحا من سماء الدنيا إلى بيت المقدس ينزل منه كل يوم سبعون ألف ملك يستغفرون لمن أتى بيت المقدس وصلى فيه فأسرى به إلى هناك أولا ثم عرج به ليكون صعوده على الاستواء وقيل : إن اسطوانات المسجد قالت ربنا حصل لنا من كل نبي حظ وقد اشتقنا إلى
(15/12)

محمد فارزقنا لقاءه فبديء بالإسراء به إلى المسجد تعجيلا للإجابة وقيل : غير ذلك
وعبر بمن الدالة على التبعيض لأن أراءة جميع آيات الله تعالى لعدم تناهيها مما لا تكاد تقع ولو قيل آياتنا لتبادر الكل وربما يستعان بالمقام على إرادته واستشكل بأنه كيف يرى نبينا بعض الآيات ويرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض كما نطق به قوله تعالى وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وفرق بين الحبيب والخليل وأجيب بأن بعض الآيات المضافة إليه تعالى أشرف وأعظم من ملكوت السموات والأرض كما قال الله تعالى لقد رأى من آيات ربه الكبرى وقال الخفاجي : السؤال غير وارد لأن ما رآه إبراهيم عليه السلام ما فيها من الدلائل والحجج وليس ذلك مقاوما للمعراج فتأمل
موقال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى الآية لنري محمدا للناس آية من آياتنا أي ليكون عليه الصلاة و السلام آية في أنه يصنع الله تعالى ببشر هذا الصنع ويندفع بهذا السؤال المذكور إلا أنه احتمال في غاية البعد ثم لا يخفى أنه ليس في الآية إشارة إلى أنه رأى ربه ليلة الإسراء إذ لا يصدق عليه تعالى أنه من آياته بل لا يصدق سبحانه أنه آية نعم مثبتو الرؤية يحتجون بغير ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى وكذا ليست الآية لصافي المعراج بل هي نص في الإسراء دونه إذ يجوز حمل بعض الآيات على ما حصل له في الإسراء فقط بل قال بعضهم : ليس في الآيات مطلقا ما هو نص في ذلك من هنا قالوا : الإسراء إلى بيت المقدس قطعي ثبت بالكتاب فمن أنكره فهو كافر والمعراج ليس كذلك فمن أنكره فليس بكافر بل مبتدع وكأنه سبحانه إنما لم يصرح به كما صرح بالإسراء رحمة بالقاصرين على ما قيل وفي التفسير الخازني أن فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط دون السماء أنه لو ذكر صعوده عليه الصلاة و السلام لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسري به إلى بيت المقدس وبأن لهم صدقه فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بمعراجه إلى السماء فكان الإسراء كالتوطئة للمعراج اه وهذا ظاهر في الخبر الوارد في هذا الباب لا في الآية لأنه لم يخبرفيها بالمعراج كما أخبر فيها بالإسراء دلالة وقيل : إن الإشارة بعد ذلك للتصريح كافية فتدبر وصرف الكلام من الغيبة التي في قوله سبحانه سبحان الذي أسرى بعبده إلى صيغة المتكلم المعظم في باركنا ونريه آياتنا لتعظيم البركات والآيات لأنها كما تدل على تعظيم مدلول الضمير تدل على عظم ما أضيف إليه وصدر عنه كما قيل إنما يفعل العظيم العظيم وقد ذكروا لهذا التلوين نكتة خاصة وهي أن قوله تعالى الذي أسرى بعبده ليلا يدل على مسيره عليه الصلاة و السلام من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فهو بالغيبة أنسب وقوله تعالى باركنا حوله دل على إنزال البركات فيناسب تعظيم المنزل والتعبير بضمير العظمة متكفل بذلك وقوله سبحانه لنريه على معنى بعد الاتصال وعن الحضور فيناسب التكلم معه وأما الغيبة فلكونه إذ ذاك ليس من عالم الشهادة ولذا قيل إن فيه إعادة إلى مقام السر والغيبوبة من هذا العالم والغيبة بذلك أليق وقوله تعالى من آياتنا عود إلى التعظيم كما سبقت الإشارة إليه وأما الغيبة في قوله عز و جل : إنه هو السميع البصير 1 على تقدير كون الضمير له تعالى كما هو الأظهر وعليه الأكثر فليطابق قوله تعالى بعبده ويرشح ذلك الاختصاص بما يوقع هذا الالتفات أحسن مواقعه وينطبق عليه التعليل أتم انطباق إذ المعنى قربه وخصه بهذه الكرامة لأنه سبحانه مطلع على أحواله عالم باستحقاقه لهذا المقام قال الطيبي : أنه هو السميع
(15/13)

لأقوال ذلك العبد البصير بأفعاله بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الهوى مقرونة بالصدق والصفا مستأهلة للقرب والزلفى وأما على تقدير كون الضمير للنبي كما نقله أبو البقاء عن بعضهم وقال : أي السميع لكلامنا البصير لذاتنا وقال الجلبي : إنه لا يبعد والمعنى عليه إن عبدي الذي شرفته بهذا التشريف هو المستأهل له فإنه السميع لأوامري ونواهي العامل بهما البصير الذي ينظر بنظرة العبرة في مخلوقاتي فيعتبر أو البصير بالآيات التي أريناه إياها كقوله تعالى ما زاغ البصر وما طغى فقيل لمطابقة الضمائر العائدة عليه وكذا لما عبر به عنه من قوله سبحانه عبده وقيل : للإشارة إلى اختصاصه بالمنح والزلفى وغيبوبة شهوده في عين بي يسمع وبي يبصر ولا سمتنع إطلاق السميع والبصير على غيره تعالى كما توهم لا مطلقا ولا هنا قال الطيبي : ولعل السر في مجيء الضمير محتملا للأمرين الإشارة إلى أنه إنما رأى رب العزة وسمع كلامه به سبحانه كما في الحديث المشار إليه آنفا فافهم تسمع وتبصر وتوسيط ضمير الفصل إما لأن سماعه تعالى بلا أذن وبصره بلا عين على نحو لا يشاركه فيه تعالى أحد وإما للإشعار باختصاصه بتلك الكرامة
وزعم ابن عطية أن قوله تعالى إنه هو السميع البصير وعيد للكفار على تكذيبهم النبي في أمر الإسراء أي إنه هو السميع لما تقولون أيها المكذبون البصير بما تفعلون فيعاقبكم على ذلك
وقرأ الحسن ليريه بياء الغيبة ففي الآية حينئذ أربع التفاتات وءاتينا موسى الكتاب أي التوراة وجعلناه أي الكتاب وهو الظاهر أو موسى عليه السلام هدى عظيما لبني إسرائيل متعلق بهدى أو بجعل واللام تعليلية والواو استئنافية أو عاطفة على جملة سبحان الذي أسرى لا على أسرى كما نقله في البحر عن العكبري وحكى نظيره عن ابن عطية لبعده وتكلفه وعقب آية الإسراء بهذه استطرادا تمهيدا لذكر القرآن والجامع أن موسى عليه السلام أعطى التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه لأنه منح ثمت التكليم وشرف باسم الكليم وطلب الرؤية مدمجا فيه تفاوت ما بين الكتابين ومن أنزلا عليه وإن شئت فوازن بين أسرى بعبده وآتينا موسى وبين هدى لبني إسرائيل ويهدي للتي هي أقوم ألا تتخذوا أي أي لا تتخذوا على أن أن تفسيرية ولا ناهية والتفسير كما قال أبو البقاء لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي وقيل لمحذوف أي آتينا موسى كتابة شيء هو لا تتخذوا والكتاب وإن كان المراد به التوراة فهو مصدر في الأصل ولا يخفى أنه خلاف الظاهر
وجوز في البحر أن تكون أن مصدرية والجار قبلها محذوف ولا نافية أي لئلا تتخذوا وقيل يجوز أن تكون أن وما بعدها في موضع البدل من الكتاب وجوز أبو البقاء أن تكون زائدة و لا تتخذوا معمول لقول محذوف ولا فيه للنهي أي قلنا لا تتخذوا وتعقبه أبو حيان بأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة أن
وكذا جوز أن تكون لا زائدة كما في قوله تعالى : ما منعك أن لا تسجد والتقدير كراهه أن تتخذوا ولا يخفى ما فيه
وقرأ ابن عباس ومجاهد وعيسى وأبو رجاء وأبو عمرو من السبعة أن لا تتخذوا بياء الغيبة وجعل غير واحد أن على ذلك مصدرية ولم يذكروا فيها احتمال كونها مفسرة وقال الشيخ زاده : لا وجه لأن تكون أن مفسرة على القراءة بياء الغيبة لأن ما في حيز المفسرة مقول من حيث المعنى والذي يلقى إليه القول لابد أن يكون مخاطبا كما لا وجه لكونها مصدرية على قراءة الخطاب لأن بني إسرائيل غيب فتأمل والجار
(15/14)

عندهم على كونها مصدرية محذوف أي لأن لا يتخذوا من دوني وكيلا أي ربا تكلون إليه أموركم غيري فالوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكول إليه أي المفوض إليه الأمور وهو الرب قال ابن الجوزي : قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤن عباده لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل و من سيف خطيب ودون بمعنى غير وقد صرح بمجيئها كذلك في غير موضع وهي مفعول ثان لتتخذوا و وكيلا الأول
وجوز أن تكون من تبعيضية واستظهر الأول والمراد النهي عن الإشراك به تعالى ذرية من حملنا مع نوح نصب على الاختصاص أو على النداء والمراد الحمل على التوحيد بذكر إنعامه تعالى عليهم في تضمن إنجاء آبائهم من الغرق في سفينة نوح عليه السلام حين ليس لهم وكيل يتوكلون عليه سواه تعالى وخص مكي النداء بقراءة الخطاب قال : من قرأ يتخذوا بياء الغيبة يبعد معه النداء لأن الياء للغيبة والنداء للخطاب فلا يجتمعان إلا على بعد ونعم ما قال وقول بعضهم : ليس كما زعم إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصا ويخبر عن أحد فيقول : يا زيد ينطلق بكر وفعلت كذا يا زيد ليفعل عمرو كيت وكيت إن كما زعم لا يدفع البعد الذي ادعاه مكي
وجوز أن يكون أحد مفعولي تتخذوا و وكيلا الآخر وهو لكونه فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد المذكر وغيره فلا يرد أنه كيف يجوز أن يكون مفعولا ثانيا والمفعول الثاني خبر معنى وهو غير مطابق هنا ومن دوني حال منه و من يجوز أن تكون ابتدائية
وجوز أيضا أن يكون بدلا من وكيلا لأن المبدل منه ليس في حكم الطرح من كل الوجوه أي لا تتخذوا من دوني ذرية من حملنا والمراد عن اتخاذ عزير وعيسى عليهما السلام ونحوهما أربابا وفي التعبير بما ذكر إيماء إلى علة النهي من أوجه أحدهما تذكير النعمة في إنجاء آبائهم كما ذكر والثاني تذكير ضعفهم وحالهم المحوج إلى الحمل والثالث أنهم أضعف منهم لأنهم متولدون منهم وفي إيثار لفظ الذرية الواقعة على الأطفال والنساء في العرف الغالب مناسبة تامة لما ذكر وجوز أبو البقاء كونه بدلا من موسى وهو بعيد جدا وقرأت فرقة ذرية بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ذرية ولا بعد فيه كما توهم أو على البدل من ضمير يتخذوا قال أبو البقاء : على القراءة بياء الغيبة وقال ابن عطية : ولا يجوز هذا على القراءة بتاء الخطاب لأن ضمير المخاطب لا يبدل من الاسم الظاهر وتعقبه أبو حيان في البحر بأن المسئلة تحتاج إلى تفصيل وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة إن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف أيضا نحو مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في لسان العرب وقد استدل على صحته في شرح التسهيل وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان وزيد بن علي ومجاهد في رواية بكسر ذال ذرية وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قرأ بفتحها وعن زيد بن ثابت أيضا أنه قرأ ذرية بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعيلة كمطية إنه أي نوحا عليه السلام كان عبدا شكورا 3 كثير الشكر في مجامع حالاته
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن سلمان الفارسي قال : كان نوح عليه السلام إذا لبس ثوبا أو طعم طعاما حمد الله تعالى فسمي عبدا شكورا وأخرج عبد الله ابن أحمد في
(15/15)

زوائد الزهد عن إبراهيم قال : شكره عليه السلام أن يسمي إذا أكل ويحمد الله تعالى إذا فرغ
وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي قال : إنما سمى الله تعالى نوحا عبدا شكورا لأنه كان إذا أمسى وأصبح قال : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون وأخرج البهقي وغيره عن عائشة عن النبي قال : إن نوحا لم يقم عن خلاء قط إلا قال : الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في منفغته وأذهب عني أذاه وهذا من جملة شكره عليه السلام
وفي هذه الجملة إيماء بأن إنجاء من معه عليه السلام كان ببركة شكره وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفر وهذا وجه ملاءمتها لما تقدم وقال الزمخشري : يجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد وحينئذ فلا يطلب ملاءمته مع ما سبق له الكلام إلا من حيث أنه كان من شأن من ذكر أعني نوحا عليه السلام وقيل ضمير إنه عائد على موسى عليه السلام والجملة مسوقة على وجه التعليل إما لايتاء الكتاب أو لجعله عليه السلام هدى بناء على أن ضمير جعلناه له أو للنهي عن الاتخاذ وفيه بعد فتدبر
وقضينا إلى بني إسرائيل أخرج بن جرير وغيره عن ابن عباس أي أعلمناهم وزاد الراغب وأوحينا إليهم وحيا جزما وصرح غير واحد يتضمن القضاء معنى الإيحاء ولهدا عدي بالي والوحي إليهم إعلامهم ولو بالواسطة وقيل إلى بمعنى على وروى ذلك أيضا عن ابن عباس : قال أي قضينا عليهم في الكتاب أي التوراة أو الجنس بدليل قراءة أبي العالية وابن جبير الكتب بصيغة الجمع والظاهر الأول على الأول أو اللوح المحفوظ على الأخير وأخرج ابن المنذر والحاكم عن طاوس قال : كنت عند ابن عباس ومعنا رجل من القدرية فقلت : إن أناسا يقولون لاقدرة قال : أو في القوم أحد منهم قلت : لو كان ما كنت تصنع به قال : لو كان فيهم أحد منهم لأخذت برأسه ثم قرأت عليه وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض جواب قسم محذوف وحذف متعلق القضاء أيضا للعلم به والتقدير وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم وعلوهم والله لتفسدن الخ ويكون هذا تأكيدا لتعلق القضاء ويجوز جعله جواب قضينا بإجراء القضاء مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به نحو قضاء الله تعالى لأفعلن كذا والمراد بالأرض الجنس أو أرض الشام وبيت المقدس
وقرأ ابن عباس ونصر بن علي وجابر بن زيد لتفسدن بضم التاء وفتح السين مبنيا للمفعول أي يفسدكم غيركم فقيل من الضلال وقيل من الغلبة وقرأ عيسى لتفسدن بفتح التاء وضم السين على معنى لتفسدن بأنفسكم بارتباك المعاصي مرتين منصوب على أنه مصدر لتفسدن من غير لفظه والمراد فسادتين أولاهما على ما نقل السدي عن أشياخه قتل زكريا عليه السلام وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا ولم يسمعوا من زكريا فقال الله تعالى له : قم في قومك أوح على لسانك فلما فرغ مما أوحى عليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ هدية من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسط الشجرة حتى قطعوه في وسطها
وقيل سبب قتله أنهم اتهموه بمريم عليها السلام قيل قالوا : حين حملت ضيع بنت سيدنا حتى زنت فقطعوه بالمنشار في الشجرة وقال ابن إسحق هي قتل شعيا عليه السلام وقد بعث بعد موسى عليه السلام فلما بلغهم
(15/16)

الوحي أرادوا قتله فهرب فقتل وهو صاحب الشجرة وزكريا عليه السلام مات موتا ولم يقتل وفي الكشاف أولاهما قتل زكريا وحبس أرميا والآخرة قتل يحيى وقصد قتل عيسى عليهما السلام وهذا فيمن جعل هلاك زكريا قبل يحيى عليهما السلام وهو رواية ابن عساكر في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه ثم ضم ذلك مع حبس أرميا في قرن غير سديد لأن آرميا كان في زمن بختنصر وبينه وبين زكريا أكثر من مائتي سنة
واختار بعضهم وقيل : إنه الحق أن الأولى تغيير التوراة وعدم العمل بها وحبس أرميا وجرحه إذ وعظهم وبشرهم بنبينا وهو أول من بشر به عليه الصلاة و السلام بعد بشارة التوراة والأخرى قتل زكريا ويحيى عليهما السلام ومن قال : إن زكريا مات في فراشه اقتصر على يحيى عليه السلام واختلف في سبب قتله فعن ابن عباس وغيره أن سبب ذلك أن ملكا أراد أن يتزوج من لا يجوز له تزوجها فنهاه يحيى عليه السلام وكان الملك قد عود تلك المرأة أن يقضي لها كل عيد ما تريد منه فعلمتها أمها أن تسأله دم يحيى عليه السلام فسألته فأبى فألحت عليه فدعا بطست فذبحه فيه فبدرت قطرة على الأرض فلم تزل تغلي حتى قتل عليها سبعون ألفا
وقال الربيع بن أنس : إن يحيى عليه السلام كان حسنا جميلا جدا فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبى فقالت لابنتها : سلي أباك رأس يحيى فسألته فأعطاها إياه وقال الجبائي : إن الله تعالى ذكر فسادهم في الأرض مرتين ولم يبين ذلك فلا يقطع بشيء مما ذكر ولتعلن علوا كبيرا 4 لتستكبرن عن طاعة الله تعالى أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان وتفرطن في ذلك إفراطا مجاوزا للحد وأصل معنى العلو الارتفاع وهو ضد السفل وتجوز به عن التكبر والاستيلاء على وجه الظلم وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما عليا كبيرا بكسر العين واللام والياء المشددة قال في البحر : والتصحيح في فعول المصدر أكثر بخلاف الجمع فإن الاعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو لهو ومهو خلافا للفراء إذ جعل ذلك قياسا فإذا جاء وعد أوليهما أي أولى مرتي الإفساد
والوعد بمعنى الموعود مراد به العقاب كما في البحر وفي الكلام تقدير أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود وقيل الوعد بمعنى الوعيد وفيه تقدير أيضا وقيل بمعنى الوعد الذي يراد به الوقت أي فإذا حان موعد عقاب أولاهما بعثنا عليكم أرسلنا لمؤاخذتكم بتلك الفعلة عبادا لنا وقال الزمخشري : خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم وفيه دسيسة اعتزال وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون الله تعالى أرسل إلى ملك أولئك العباد رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر منه تعالى وقرأ الحسن وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم عبيدا أولي بأس شديد ذوي قوة وبطش في الحروب وقال الراغب : البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية ومن هنا قيل : إن وصف البأس بالشديد مبالغة كأنه قيل : ذوي شدة شديدة كظل ظليل ولا بأس فيه وقيل إنه تجريد وهو صحيح أيضا واختلف في تعيين هؤلاء العباد فعن ابن عباس وقتادة هم جالوت الجزري وجنوده وقال ابن جبير وابن إسحاق هم سنجاريب ملك بابل وجنوده وقيل هم العمالقة وفي الأعلام للسهيلي هم بختنصر عامل لهراسف أحد ملوك الفرس الكيانية على بابل والروم وجنوده بعثوا عليهم حين كذبوا أرميا وجرحوه وحبسوه قيل وهو الحق
(15/17)

فجاسوا خلال الديار أي ترددوا وسطها لطلبكم قال الراغب : جاسوا الديار توسطوها وترددوا بينها ويقاربه حاسوا وداسوا وقرأ حاسوا بالحاء أبو السمال وطلحة وقريء أيضا تجوسوا بالجيم على وزن تكسروا
وقال أبو زيد : الجوس والحوس طلب الشيء باستقصاء و خلال اسم مفرد ولذا قرأ الحسن خلل ويجوز أن يكون خلال جمع خلل كجبال جمع جبل ويشير كلام أبي السعود إلى اختياره وكلام البيضاوي إلى اختيار الأول
وكان أي وعد أولاهما وعدا مفعولا 5 محتم الفعل فضمير كان للوعد السابق وقيل : للجوس المفهوم من جاسوا والجمهور على أن في هذه البعثة خرب هؤلاء العباد بيت المقدس ووقع القتل الذريع والجلاء والأسر في بني إسرائيل وحرقت التوراة وعن ابن عباس ومجاهد أنه لم يكن ذلك وإنما جاس الغازون خلال الديار وانصرفوا بدون قتال ثم رددنا لكم الكرة أي الدولة والغلبة وأصل معنى الكر العطف والرجوع وإطلاق الكرة على ما ذكر مجاز شائع كما يقال تراجع الأمر ولام لكم للتعدية وقيل : للتعليل وقوله تعالى عليهم أي الذين فعلوا بكم ما فعلوا متعلق بالكرة لما فيها من معنى الغلبة أو حال منها وجوز تعلقه برددنا وهذا على ما في البحر إخبار منه تعالى في التوراة لبني إسرائيل إلا أنه جعل رددنا موضع نرد لتحقق الوقوع وكان بين البعث والرد على ما قيل مائة سنة وذلك بعد أن تابوا ورجعوا عما كانوا عليه واختلف في سبب ذلك فروي أن أزدشير بهمن بن اسفنديار بن كشتاسف بن لهراسف لما ورث الملك من جده كشتاسف ألقى الله تعالى في قلبه الشفقة على بني إسرائيل فرد أسراءهم الذين أتى بهم بختنصر إلى بابل وسيرهم إلى أرض الشام وملك عليهم دانيال فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر وجعل بعضهم من آثار هذه الكرة قتل بختنصر ولم يتبت
وفي البحر أن ملكا غزا أهل بابل وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وأبقى عنده بقية في بابل فلما غزاهم ذلك الملك وغلب عليهم تزوج امرأة من بني إسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى ديارهم ففعل وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا وقيل : رد الكرة بأن سلط الله تعالى داود عليه السلام فقتل جالوت وتعقب بأنه يرده قوله تعالى وليدخلوا المسجد الخ فإن المراد به بيت المقدس وداود عليه السلام ابتدا بنيانه بعد قتل جالوت وايتائه النبوة ولم يتمه وأتمه سليمان عليه السلام فلم يكن قبل داود عليه السلام مسجد حتى يدخلوه أول مرة ودفع بأن حقيقة المسجد الأرض لا البناء أو يحمل قوله تعالى دخلوه على الاستخدام وهو كما ترى والحق أن المسجد كان موجودا قبل داود عليه السلام كما قدمنا
وأمددناكم بأموال كثيرة بعد ما نهبت أموالكم وبنين بعد ما سبيت أولادكم وجعلناكم أكثر نفيرا 6 مما كنتم من قبل أو من أعدائكم والنفير على ما قال أبو مسلم كالنافر من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته وقال الزجاج : يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو وقيل : هو مصدر أي أكثر خروجا إلى الغزو كما في قول الشاعر : فأكرم بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا ويروى بالحميريين أكرم نفيرا وصحح السهيلي أنه اسم جمع لغلبته في المفردات وعدم اطراد مفرده
إن أحسنتم أعمالكم سواء كانت لازمة لأنفسكم أو متعدية للغير أي علمتموها على الوجه المستحسن اللائق
(15/18)

أو فعلتم الإحسان أحسنتم لأنفسكم أي لنفعها بما يترتب على ذلك من الثواب وإن أسأتم أعمالكم لازمة كانت أو متعدية بأن عملتموها على غير الوجه اللائق أو فعلتم الاساءة فلها أي فالإساءة عليها لما يترتب على ذلك من العقاب فاللام بمعنى على كما في قوله
فخر صريعا لليدين والفم
وعبر بها لمشاكله ما قبلها
وقال الطبري : هي بمعنى إلى على معنى فإساءتها راجعة إليها وقيل : إنها للإستحقاق كما في قوله تعالى لهم عذاب أليم
وفي الكشاف أنها للاختصاص وتعقب بأنه مخالف لما في الآثار من تعدي ضرر الإساءة إلى غير المذنب اللهم إلا أن يقال : إن ضرر هؤلاء القوم من بني إسرائيل لم يتعدهم وفيه أنه تكلف لا يحتاج إليه لأن الثواب والعقاب الأخرويين لا يتعديان وهما المراد هنا وقيل : اللام للنفع كالأولى لكن على سبيل التهكم وتعميم الإحسان ومقابله بحيث يشملان المتعدي واللازم هو الذي استظهره بعض المحققين وفسر الإحسان بفعل ما يستحسن له ولغيره والإساءة بضد ذلك وقال : إنه أنسب وأتم ولذا قيل إن تكرير الإحسان في النظم الكريم دون الإساءة إشارة إلى أن جانب الإحسان أغلب وأنه إذا فعل ينبغي تكراره بخلاف ضده وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلا الآية ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال القطب أنه لما عصوا سلط الله تعالى عليهم من قصدهم بالنهب والأسر ثم لما تابوا وأطاعوا حسنت حالهم فظهر أن إحسان الأعمال وإساءتها مختص بهم والآية تضمنت ذلك وفيها من الترغيب بالإحسان والترهيب من الإساءة لا يخفى فتأمل
فإذا جاء وعد المرة الآخرة من مرتي إفسادكم ليسوءا متعلق بفعل حذف لدلالة ما سبق عليه وهو جواب إذا أي بعثناهم ليسوؤا وجوهكم أي ليجعل العباد المبعوثون آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم فإن الأعراض النفسانية تظهر فيها فيظهر بالفرح النضارة والإشراق وبالحزن والخوف الكلوح والسواد فالوجوه على حقيقتها قيل ويحتمل أن يعبر بالوجه عن الجملة فإنهم ساؤهم بالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها ويؤيده قوله تعالى وإن أسأتهم فلها ويحتمل أن يراد بالوجوه ساداتهم وكبراؤهم ا ه و هو كما ترى
واختير هذا على ليسوؤكم مع أنه أخصر وأظهر إشارة إلى أنه جمع عليه ألم النفس والبدن المدلول عليه بقوله تعالى وليتبروا الخ وقيل : فإذا جاء هنا مع كونه من تفصيل المجمل في قوله سبحانه لتفسدن في الأرض مرتين فالظاهر فإذا جاء وإذا جاء للدلالة على أن مجيء وعد عقاب المرة الآخرة لم يتراخ عن كثرتهم واجتماعهم دلالة على شدة شكيمتهم في كفران النعم وأنهم كلما ازدادوا عدة وعدة زادوا عدوانا وعزة إلى أن تكاملت أسباب الثروة والكثرة فاجأهم الله عز و جل على الغرة نعوذ بالله سبحانه من مباغتة عذابه
وقرأ أبو بكر وابن عامر وحمزة ليسؤ على التوحيد والضمير لله تعالى أو للوعد أو للبعث المدلول عليه بالجزاء المحذوف والاسناد مجازي على الأخيرين وحقيقي على الأول ويؤيده قراءة علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي والكسائي لنسوء بنون العظمة فإن الضمير لله تعالى لا يحتمل غير ذلك وقرأ أبي لنسوءن بلام الأمر ونون العظمة أوله ونون التوكيد الخفيفة آخره ودخلت لام الأمر على فعل المتكلم كما في قوله تعالى ولنحمل خطاياكم وجواب إذا على هذه القراءة هو الجملة الإنشائية على تقدير الفاء لأنها لا تقع جوابا بدونها وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا لنسوءن وليسوءن بالنون والياء أولا ونون التوكيد الشديدة آخرا واللام في ذلك
(15/19)

لام القسم والجملة جواب القسم سادة مساد جواب إذا واللام في قوله تعالى وليدخلوا المسجد لام كي والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله ومتعلق ببعثنا المحذوف أيضا وجوز أن يتعلق بمحذوف غيره فيكون العطف من عطف جملة على أخرى وعلى القراءة بلام الأمر أو لام القسم فيما تقدم يجوز أن تكون اللام لام الأمر وأن تكون لام كي والمراد بالمسجد بيت المقدس وهو مفعول يدخلون وفي الصحاح أن الصحيح في نحو دخلت البيت إنك تريد دخلت إلى البيت فحذف حرف الجر فانتصب البيت انتصاب المفعول به وتحقيقه في محله كما دخلوه أي دخولا كائنا كدخولهم إياه أول مرة فهو في موضع النعت لمصدر محذوف وجوز أن يكون حالا أي كائنين كما دخلوه و أول منصوب على الظرفية الزمانية والمراد من التشبيه على ما في البحر أنهم يدخلونه بالسيف والقهر والغلبة والإذلال وفيه أيضا أن هذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتال ولا قتل ولا نهب وليتبروا أي يهلكوا وقال قطرب : يهدموا وأنشد قول الشاعر : وما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع وقال بعضهم : الهدم إهلاك أيضا وأخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أن التتبير كله نبطية
ما علوا أي الذي غلبوه واستولوا عليه فما اسم موصول والعائد محذوف وهو إما مفعول أو مجرور على ما قيل وجوز أن تكون ما مصدرية ظرفية أي ليتبروا مدة دوامهم غالبين قاهرين تتبيرا 7 فظيعا لا يوصف
واختلف في تعيين هؤلاء العباد المبعوثين بعد أن ذكروا قتل يحيى عليه السلام في إفساد الأخير فقال غير واحد : إنهم بختنصر وجنوده وتعقبه السهيلي بأنه لا يصح لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى عليهما السلام وبختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل وقيل الاسكندر وجنوده وتعقبه أيضا بأن بين الاسكندر وعيسى عليه السلام نحوا من ثلثمائة سنة ثم قال لكنه إذا قيل : إن إفسادهم في المرة الأخيرة بقتل شعيا جاز أن يكون المبعوث عليهم بختنصر ومن معه لأنه كان حينئذ حيا وروي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أن الذي غزاهم ملك خردوش وتولى قتلهم على دم يحيى عليه السلام قائد له فسكن وفي بعض الآثار أن صاحب الجيش دخل مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال : ما صدقتموني فقتل عليه ألوفا منهم فلم يهدأ الدم ثم قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا فقالوا بأنه دم يحيى عليه السلام فقال : بمثل هذا ينتقم ربكم منكم ثم قال : يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ واختار في الكشف وقال هو الحق إن المبعوث عليهم في المرة الثانية بيردوس من ملوك الطوائف وكأنه هو خردوش الذي مر آنفا فقد ذكر أنه ملك بابل من ملوك الطوائف
وقيل : اسمه جوزور وهؤلاء الملوك ظهروا بعد قتل الإسكندر دارا واستيلائه على ملك الفرس وكان ذلك بصنع الإسكندر متبعا فيه رأي معلمه أرسطو وعدتهم تزيد على سبعين ملكا ومدة ملكهم على ما في بعض التواريخ خمسمائة واثنتا عشرة سنة وحصل اجتماع الفرس بعد هذه المدة على أردشير بن بابك طوعا وكرها وكان أحد ملوك الطوائف على اصطخر وعلى هذا يكون الملك المبعوث لفساد بني إسرائيل بقتل يحيى عليه
(15/20)

السلام من أواخر ملوك الطوائف كما لا يخفى ويكون بين هذا البعث والبعث الأول على القول بأن المبعوث بختنصر وأتباعه مدة متطاولة ففي بعض التواريخ أن قتل الإسكندر دارا بعد بختنصر بأربعمائة وخمس وثلاثين سنة وبعد مضي نحو من ثلثمائة سنة من غلبة الإسكندر ولد المسيح عليه السلام ولا شك أن قتل يحيى عليه الصلاة و السلام بعد الولادة بزمان والبعث بعد القتل كذلك فيكون بين البعثين ما يزيد على سبعمائة وخمس وثلاثين سنة والذي ذهب إليه اليهود أن المبعوث أولا بختنصر وكان في زمن آرميا عليه السلام وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام كما نطق به كتابه فحبسوه في بئر وجرحوه وكان تخريبه لبيت المقدس في السنة التاسعة عشر من حكمه وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلثمائة وثماني وثلاثين سنة وبقي خرابا سبعين سنة ثم إن أسبيانوس قيصر الروم وجه وزيره طوطوز إلى خرابه فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ونعم ما قيل إن معرفة الأقوام المبعوثين بأعيانهم وتاريخ البعث ونحوه مما لا يتعلق به كبير غرض إذ المقصود أنه لما كثرت معاصيهم سلط الله تعالى عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى
وظاهر الآية يقتضي اتحاد المبعوثين أولا وثانيا ومن لا يقول بذلك يجعل رجوع الضمائر للعباد على حد رجوع الضمير للدرهم في قولك : عندي درهم ونصفه فافهم
عسى ربكم أن يرحمكم بعد البعث الثاني إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي وإن عدتم للإفساد بعد الذي تقدم منكم عدنا للعقوبة فعاقبناكم في الدنيا بمثل ما عاقبناكم به في المرتين الأوليين وهذا من المقتضى لهم في الكتاب أيضا وكذا الجملة الآتية وقد عادوا بتكذيب النبي وقصدهم قتله فعاد الله تعالى بتسليطه عليه الصلاة و السلام عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير وضرب الجزية على الباقين وقيل عادوا فعاد الله تعالى بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الأتاوة ونحو ذلك والأول مروي عن الحسن وقتادة والتعبير بأن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يعودوا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا 8 قال ابن عباس وغيره : أي سجنا وأنشد في البحر قول لبيد : ومقامة غلب الرقاب كأنهم جن على باب الحصير قيام فإن كان اسما للمكان المعروف فهو جامد لا يلزم تأنيثه وتذكيره وإن كان بمعنى حاصر أي محيط بهم وفعيل بمعنى فاعل يلزم مطابقته فعدم المطابقة هنا إما لأنه على النسب كلاين وتامر أي ذات حصر وعلى ذلك خرج قوله تعالى السماء منفطر به
أي ذات انفطار أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول وقيل التذكير على تأويل جهنم بمذكر وقيل لأن تأنيثها ليس بحقيقي نقل ذلك أبو البقاء وهو كما ترى
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن أنه فسر ذلك بالفراش والمهاد وقال الراغب : كأنه جعل الحصير المرمول وأطلق عليه ذلك لحصر بعض طاقاته على بعض فحصير على هذا بمعنى محصور وفي الكلام التشبيه البليغ وجاء الحصير بمعنى السلطان وأنشد الراغب في ذلك البيت السابق ثم قال : وتسميته بذلك إما لكونه محصورا نحو محجب وإما لكونه حاصرا أي مانعا لمن أراد أن يمنعه من الوصول إليه ا ه وحمل ما في الآية
(15/21)

على ذلك مما لم تعرض له والحمل عليه في غاية البعد فلا ينبغي أن يحمل عليه وإن تضمن معنى لطيفا يدرك بالتأمل وكان الظاهر أن يقال لكم بدل للكافرين إلا أنه عدل عنه تسجيلا على كفرهم بالعود وذما لهم بذلك وإشعارا بعلة الحكم إن هذا القرآن الذي آتيناكه وهذا متعلق بصدر السورة كما مرت الإشارة إليه وفي الإشارة بهذا تعظيم لما جاء به النبي المجتبى يهدي أي الناس كافة لا فرقة مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى عليه السلام للتي أي للطريقة التي هي أقوم أي أقوم الطرق وأسدها أعني ملة الإسلام والتوحيد فللتي صفة لموصوف حذف اختصارا وقدره بعضهم الحالة أو الملة وأيما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في الإبهام من الدلالة على أنه جرى الوادي وطم على القرى و أقوم أفعل تفضيل على ما أشار إليه غير واحد
وقال أبو حيان : الذي يظهر من حيث المعنى أنه لا يراد به التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يهدي لها القرآن وغيرها من الطرق في مبدأ الاشتقاق لتفضل عليه فالمعنى للتي هي قيمة أي مستقيمة كما قال الله تعالى فيها كتب قيمة وذلك دين القيمة ا ه وإلى ذلك ذهب الإمام الرازي ويبشر المؤمنين بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع
وقرأ عبد الله وطلحة وابن وثاب والإخوان ويبشر بالتخفيف مضارع بشر المخفف وجاء بشرته وبشرته وأبشرته الذين يعملون الأعمال الصالحات التي شرحت فيه أن لهم أي بأن لهم مقابلة أعمالهم أجرا كبيرا 9 بحسب الذات وبحسب التضعيف عشرا فصاعدا وفسر ابن جريج الأجر الكبير وكذا الرزق الكريم في كل القرآن بالجنة وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة وأحكامها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاء من الثواب والعقاب الروحانيين والجسمانيين وتخصيص الآخرة بالذكر من بين سائر ما لم يؤمن به الكفرة لكونها معظم ما أمروا الإيمان به ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها الذي أنبأ عنه قوله تعالى أعتدنا لهم عذابا أليما 01 وهو عذاب جهنم أي أعددنا وهيأنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا مؤلما وهو أبلغ من الزجر لما أن إيتان العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع ولعل أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم لأنهم لا يقولون بالجزاء الجسماني ويعتقدون في الآخرة أشياء لا أصل لها فلم يؤمنوا بالآخرة وأحكامها المشروحة في هذا القرآن حقيقة الإيمان فافهم
والعطف على أن لهم أجرا كبيرا فيكون إعداد العذاب الأليم للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشرا به كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ومصيبة العدو سرور يبشر به فكأنه قيل يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم ويجوز أن تكون البشارة مجازا مرسلا بمعنى مطلق الأخبار الشامل للأخبار بما فيه سرور وللاخبار بما ليس كذلك وليس فيه الجمع بين معنى المشترك أو الحقيقة والمجاز حتى يقال : إنه من عموم المجاز وإن كان راجعا لهذا أو العطف على يبشر أو يهدي بإضمار يخبر فيكون من عطف الجملة على الجملة ولا يخفى ما في الآية من ترجيح الوعد على الوعيد
(15/22)

ونبه سبحانه على ما في البحر بوصف المؤمنين بالذين يعملون الصالحات على الحالة الكاملة لهم ليتحلى المؤمن بذلك وأنت تعلم أنه إن فسر الأجر الكبير بالجنة فهو ثابت للمؤمن العامل وللمؤمن المفرط إذ أصل الإيمان متكفل بدخول الجنة فضلا من الله تعالى ورحمة نعم ما أعد للعامل في الجنة أعظم مما أعد للمفرط وإن فسر بما أعده الله تعالى في الآخرة من الجنة والدرجات العلى وأنواع الكرامات فيها التي لا يتكفل بها مجرد الإيمان فظاهر أن ذلك غير ثابت للمؤمن المفرط فلا بد من التوصيف ولا يلزم منه عدم دخول المفرط الجنة نعم يلزم منه أن لا يثبت له الأجر الكبير بالمعنى السابق والآيات التي يفهم منها دخوله الجنة كثيرة ولعل هذه الآية يفهم منها ذلك واقتضى المقام عدم التصريح بحكمه وفي الكشاف أنه تعالى ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة لأن الناس حينئذ إما مؤمن تقي وإما مشرك وأصحاب المنزلة بين المنزلتين إنما حدثوا بعد ذلك
وتعقبه أبو حيان بأنه مكابرة فقد وقع في زمان الرسول من بعض المؤمنين هفوات وسقطات بعضها مذكور في القرآن وبعضها مذكور في الأحاديث الصحيحة ا ه والمقرر في الأصول لأن الأكثر على عدالة الصحابة ومن طرأ له منهم قادح كسرقة وزنا عمل بمقتضاه ثم ما ذكره من المنزلة بين المنزلتين الظاهر أنه أراد به ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وإذا مات من غير توبة خلد في النار وقد ورد ذلك في علم الكلام فتدبر
وقوله تعالى ويدع الإنسان بالشر قال شيخ الإسلام : بيان الحال المهدي إثر بيان حال الهادي وإظهار لما بينهما من التباين والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده وهو الكافر وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه كما يقتضيه ما روي عن الحسن ومجاهد فالمعنى على الأول أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم وهو أي بعض أفراده أعني الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ومن قال فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين إلى غير ذلك مما حكي عنهم وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه الموجبة له مجازا كما هو ديدن كلهم وبعضهم جعل الدعاء باللسان مجازا أيضا عن الاستعجال استهزاء
دعاءه أي دعائه فحذف الموصوف وحرف التشبيه وانتصب المجرور على المصدرية وهو مراد من قال : مثل دعائه بالخير المذكور فرضا لا تحقيقا فإنه بمعزل عن الدعاء به وفيه رمز إلى أنه اللائق بحاله
وكان الإنسان أي من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده عجولا 11 يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا على ضرره أو مبالغا في العجلة يستعجل الشر والعذاب وهو آتيه لا محالة ففيه نوع تهكم به وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم تجعل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال والمعنى على الثاني أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير وهو في بعض أحيانه كما عند الغضب يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله ومالهبما هو شر وكان الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه
أخرج الواقدي في المغازي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي دخل عليها بأسير وقال لها : احتفظي به
(15/23)

قالت : فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر فدخل النبي فسأل عنه فقلت : والله لا أدري وغفلت عنه فخرج فقال : قطع الله يدك ثم خرج إلى الصلاة والسلام فصاح في طلبه حتى وجدوه ثم دخل علي فرآني وأنا أقلب يدي فقال : مالك قلت أنتظر دعوتك فرفع يديه وقال : اللهم أنا بشر آسف وأغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوتك عليه بدعوة فاجعلها له زكاة وطهرا أو يدعو بما هو شر ويحسبه خيرا وكان الإنسان عجولا غير مستبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به وهو شر جدير بالاستعاذة منه ا ه مع بعض زيادة وتغيير
واختارإرادة الكافر من الإنسان الأول بعض المحققين وذكر في وجه ربط الآيات أنه تعالى لما شرح ما خص به نبيه من الإسراء وإيتاء موسى عليه السلام التوراة وما فعله بالعصاة المتمردين من تسليط البلاء عليهم كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله تعالى توجب كل خير وكرامة ومعصيته سبحانه توجب كل بلية وغرامة لا جرم قال : إن هذا القرآن يهدي الخ ثم عطف عليه وجعلنا الليل الخ بجامع دليل العقل والسمع أو نعمتي الدين والدنيا وأما اتصال قوله تعالى ويدع الإنسان الخ فهو أنه سبحانه لما وصف القرآن حتى بلغ به الدرجة القصو في الهداية أتى بذكر من أفرط في كفران هذه النعمة العظمى قائلا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الخ
ومثل هذا ما قيل إنه تعالى بعد إن وصف القرآن بما وصف ذم قريشا بعدم سؤالهم الهداية به وطلبهم إنزال الحجارة عليهم أو إيتاء العذاب الأليم إن كان حقا وفي الكشف أن قوله تعالى ويدع الإنسان الخ بيان أن القرآن يهديهم للتي هي أقوم ويأبون إلا التي هي ألوم وهو وجه للربط مطلقا وكل ما ذكروه في ذلك متقارب
ويرد على حمل الدعاء على الدعاء بالأعمال والعجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال خلاف المتبادر كما لا يخفى وفسر بعضهم الإنسان الثاني بآدم عليه السلام لما أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن سلمان الفارسي قال : أول ما خلق الله تعالى من آدم عليه السلام رأسه فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه فلما كان بعد العصر قال : يا رب أعجل قبل الليل فذلك قوله تعالى وكان الإنسان عجولا وروي نحوه عن مجاهد وروى القرطبي والعهدة عليه أنه لما وصلت الروح لعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهاها فوثب عجلا إليها فسقط و وجه ارتباط وكان الإنسان الخ على هذا القول أفادته أن عجلته بالدعاء لضجره أو لعدم تأمله من شأنه وأنه موروث له من أصله وشنشنة يعرفها من أخزم فهو اعتراض تذييلي وكلام تعليلي والأولى إرادة الجنس وإن كان ألفاظ الآية لا تنبو عن إرادة آدم عليه السلام كما زعم أبو حيان ثم أن الباء في الموضعين على ظاهرها صلة الدعاء وقيل : إنها بمعنى في والمعنى يدعو في حالة الشر والضر كما كان يدعو في حالة الخير فالمدعو به ليس الشر والخير وقيل : إنها للسببية أي يدعو بسبب ذلك وكلا القولين مخالفين للظاهر لا يعول عليهما واستدل بالآية على بعض الاحتمالات على المنع من دعاء الرجل على نفسه أو على ماله أو على أهله وقد جاء النهي عن ذلك صريحا في بعض الأخبار فقد أخرج أبو داود والبزار عن جابر قال : قال رسول الله لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لاتدعوا على أموالكم لئلا توافقوا من الله تعالى ساعة فيها إجابة
(15/24)

فيستجيب لكم وبه يرد على ما قيل من أن الدعاء بذلك لا يستجاب فضلا من الله تعالى وكرما واستشكل بأن النبي دعا على أهله كما سمعت من حديث الواقدي وأجيب عن ذلك بأنه كان للزجر وإن كان وقت الغضب وقد اشترط على ربه سبحانه في مثل ذلك أن يكون رحمة فقد صح أنه عليه الصلاة و السلام قال : إني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة وذكر النووي في جواب ما يقال : إن ظاهر الحديث أن الدعاء ونحوه كان بسبب الغضب ما قال المازري من أنه يحتمل أنه أراد أن دعاءه وسبه ونحوهما كان مما يخير فيه بين أمرين أحدهما هذا الذي فعله والثاني زجره بأمر آخر فحمله الغضب لله تعالى على أحد الأمرين المخير فيهما وليس ذلك خارجا عن حكم الشرع والمراد من قوله عليه الصلاة و السلام ليس لها بأهل ليس لها بأهل عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب لذلك وقد يستدل على ذلك بإمارات شرعية وهو مأمور بالحكم الظاهر والله تعالى يتولى السرائر وقيل : إن ما وقع منه عليه الصلاة و السلام من الدعاء ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلانية كتربت يمينك وعقرى حلقى لكن خاف أن يصادف شيء من ذلك أجابه فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك زكاة وقربة نعم في ذكر حديث الواقدي ونحوه كالحديث الذي ذكره البيضاوي في المقام الذي ذكر فيه لا يخلو عن شيء فتأمل ثم إن القياس إثبات الواو في يدع الإنسان إذ لا جازم تحذف له لكن نقل القرآن العظيم كما سمع ولم يتصرف فيه الناقل بمقدار فهمه وقوة عقله وجعلنا اليل والنهار ءايتين هذا على ما قيل شروع في بيان بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية التي كل واحدة منها برهان نير لا ريب فيه ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه فإن الجعل المذكور وما عطف عليه وإن كانا من الهدايات التكوينية لكن الأخبار بذلك من الهدايات القرآنية المنبهة على تلك الهدايات
وذكر الإمام في وجه الربط وجوها الأول أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه بيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال سبحانه : وجعلنا الخ وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه كذلك الزمان مشتمل على الليل والنهار وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل والثاني أنه تعالى وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة بين أن كل أحوال العالم كذلك وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد الثالث نحو ما نقلناه أولا ولعله الأولى وتقديم الليل لمراعاة الترتيب الوجودي إذ منه ينسلخ النهار وفيه تظهر غرر الشهور العربية ولترتيب غاية النهار عليها بلا واسطة ومما يزيد تقديم الليل حسنا افتتاح السورة بقوله سبحانه سبحان الذي أسرى بعبده ليلا والجعل على ما نقل عن السمين بمعنى التصيير متعد لاثنين أو بمعنى الخلق متعد لواحد و آيتين حال مقدرة
واستشكل الأول الكرماني بأنه يستدعي أن يكون الليل والنهار موجودين على حالة ثم انتقلا منها إلى
(15/25)

أخرى وليس كذلك ودفع بأنه من باب ضيف فم الركية وهو مجاز معروف واستظهر هذا أبو حيان والمعنى جعلنا الملوين بهيآتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر على وتيرة عجيبة آيتين تدلان على أن لهما صانعا حكيما قادرا عليما ويهديان إلى ما هدى إليه القرآن الكريم من الإسلام والتوحيد
فمحونا آية الليل الإضافة هنا وفيما بعد إما بيانية كما في إضافة العدد إلى المعدود نحو أربع نسوة أي محونا الآية التي هي الليل أي جعلنا ممحو الضوء مطموسه مظلما لا يستبين فيه شيء كما لا يستبين ما في اللوح الممحو وإلى ذلك ذهب صاحب الكشاف
وروي عن مجاهد وهو على نحو ضيق فم الركية والفاء تفسيرية لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقيب جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتمماته وقيل معنى محو الليل إزالة ظلمته بالضوء ورجح بأن فيه إبقاء المحو على حقيقته وهو إزالة الشيء الثابت وليس فيما ذكره الزمخشري ذلك و لا ينبغي العدول عن الحقيقة بلا ضرورة وتعقب بأنه يكفي ما بعده قرينة على تلك الإرادة فإن محو الليل في مقابلة جعل النهار مبصرا وعلى ما ذكر من المعنى الحقيقي لا يتعلق بمحو الليل فائدة زائدة على ما بعده وقيل عليه إن الظلمة هي الأصل والنور طاريء فيكون الليل مخلوقا مطموس الضوء مفروغ عنه فالمراد بيان أن الله تعالى خلق الزمان ليلا مظلما ثم جعل بعضه نهارا بإحداث الإشراق لفائدة ذكرها سبحانه وكون محو الليل في مقابلة جعل النهار مضيئا لا يوجب حمله على المجاز لفائدة بيان إبقاء بعض الزمان على إظلامه وجعل بعضه مضيئا ا ه ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن المقام لا يلائمه فالمعول عليه ما في الكشاف
وجعلنا آية النهار أي الآية التي هي النهار مبصرة أي مضيئة فهو مجاز بعلاقة السببية أو الإسناد مجازي كما في نهاره صائم والمراد يبصر أهلها أو الصيغة للنسب أي ذات إبصارهم أو هي من أبصره المتعدي أي جعله مبصرا ناظرا والإسناد إلى النهار مجازي أيضا من الإسناد إلى السبب العادي والفاعل الحقيقي هو الله تعالى أو من باب أفعل المراد به غير من أسند إليه كأضعف الرجل إذا كانت دوابه ضعافا وأجبن إذا كان أهله جبناء فأبصرت الآية بمعنى صار أهلها بصراء
وروي ذلك عن أبي عبيدة وهو معنى وضعي لا مجازي وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما مبصرة بفتح الميم والصاد وهو مصدر أقيم مقام غيره وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كأرض مسبعة ومكان مضبة وإما إضافة لامية وآيتا الليل والنهار نيراهما القمر والشمس ويحتاج حينئذ في قوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين إلى تقدير مضاف في الأول والثاني أي جعلنا نيري الليل والنهار آيتين أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين أن جعل جعل متعديا إلى مفعولين والليل والنهار هو المفعول الأول وآيتين الثاني فإن عكس كما استظهره أبو حيان وجعل الليل والنهار نصبا على الظرفية في موضع المفعول الثاني أي جعلنا في الليل والنهار آيتين وهما النيران لا يحتاج إلى تقدير كما إذا جعل الجعل متعديا لواحد والليل والنهار منصوبان على الظرفية كما جوزه المعربون ومحو آية الليل وهي القمر على ما تدل عليه الآثار إزالة ما ثبت لها من النور يوم خلقت فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية أنه قال : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس وهو آية الليل فمحي فالسواد الذي في القمر أثر ذلك المحو
(15/26)

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عكرمة أنه قال : خلق الله تعالى نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر سبعين جزءا فمحى من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : كانت الشمس بالليل وشمس بالنهار فمحى الله تعالى شمس الليل فهو المحو الذي في القمر وأخرج البيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر عن سعيد المقبري أن عبد الله بن سلام سأل النبي عن السواد الذي في القمر فقال : كانا شمسين وقال قال الله تعالى وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل فالسواد الذي رأيت هو المحور وفي حديث طويل أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند واه عن ابن عباس مرفوعا أن الله تعالى خلق شمسين من نور عرشه فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور وذلك قوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين الآية إلى غير ذلك من الآثار والفاء على هذا للتعقيب وجعل آية النهار وهي الشمس مبصرة على نحو ما تقدم فتبصر وقيل محو القمر إما خلقه كمدا مطموس النور غير مشرق بالذات على ما ذكره أهل الهيئة من أنه غير مضيء في نفسه بل نوره مستفاد من ضوء الشمس فالفاء تفسيرية كما مر وإما نقص ما استفاد من الشمس شيئا فشيئا بحسب الرؤية والإحساس إلى أن ينمحق على ما هو معنى المحو فالفاء للتعقيب وذكر الإمام في محوه قولين أحدهما نقص نوره قليلا قليلا إلى المحلق وثانيهما جعله ذا كلف ثم قال : حمله على الوجه الأول أولى لأن اللام في الفعلين بعد متعلق بما هو المذكور قبل وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله تعالى إذا حملنا محو القمر على زيادة نور القمر ونقصانه لأن سبب حصول هذه الآية مختلف باختلاف أحوال نور القمر وأهل التجارب أثبتوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه مثل أحوال البحار في المد والجزر ومثل أحوال البحرانات على ما يذكره الأطباء في كتبهم وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه أنه يحصل الشهور وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الهلال كما قال سبحانه ولتعلموا الخ أ ه
وأنت تعلم أنه متى دل أثر صحيح عن رسول الله على ما ذكرناه أولا لا ينبغي أن يدعى أن غيره أولى وهو لعمري وجه لا كلف فيه عند من له عين مبصرة و الفلاسفة في هذا المحو المرئي في وجه القمر كلام طويل لا بأس بأن تحيط به خيرا فنقول : ذكر الإمام في المباحث المشرقية أن امتناع بعض المواضع في وجه القمر عن قبول الضوء التام إما أن يكون بسبب خارج عن جرم القمر أو غير خارج عنه فإن كان بسبب خارج فإما أن يكون لمثل ما يعرض للمرايا من وقوع أشباح الأشياء فيها فإذا رؤيت تلك الأشياء لم تر براقة فكذلك القمر لما تصورت فيه أشباح الجبال والبحار وجب أن لا ترى تلك المواضع في غاية الاستنارة وإما أن يكون ذلك بسبب ساتر والأول باطل أما أولا فلأن الأشباح لا تتحفظ هيآتها مع حركة المرآة وبتقدير سكونها لا تستقر تلك الأشباح فيها عند اختلاف مقامات الناظرين والآثار التي في وجه القمر ليست كذلك وأما ثانيا فلأن القمر ينعكس الضوء عنه إلى البصر وما كان كذلك لم يصلح للتخييل وأما ثالثا فلأنه كان يجب أن تكون تلك الآثار كالكرات لأن الجبال في الأرض كتضريس أو خشونة في سطح كرة وليس لها من المقدار قدر ما يؤثر في كرية الأرض فكيف لأشباحها المرئية في المرآة
(15/27)

وأما إن كان ذلك بسبب سائر فذلك السائر إما أن يكون عنصريا أو سماويا والأول باطل وأما أولا فلأنه كان يجب أن يكون المواضع المتسترة من جرم القمر مختلفة باختلاف مقامات الناظرين وأما ثانيا فلأن ذلك الساتر لا يكون هواء صرفا ولا نارا صرفة لأنهما شفافان فلا يحجبان بل لا بد وأن يكون مركبا إما بخارا وإما دخانا وذلك لا يكون مستمرا وأما إن كان الساتر سماويا فهو الحق وذلك إنما يكون لقيام أجسام سماوية قريبة المكان جدا من القمر وتكون من الصغر بحيث لا يرى كل واحد منها بل جملتها على نحو مخصوص من الشكل وتكون إما عديمة الضوء أو لها ضوء أضعف من ضوء القمر فترى في حالة إضاءته مظلمة وأما إن كان ذلك بسبب عائد إلى ذات القمر فلا يخلو إما أن يكون جوهر ذلك الموضع مساويا لجواهر المواضع المستنيرة من القمر في الماهية أو لا يكون فإن لم يكن كان ذلك لارتكاز أجرام سماوية مخالفة بالنوع للقمر في جرمه كما ذكرناه قبل وهو قريب منه
وإما أن تكون تلك المواضع مساوية الماهية لجرم القمر فحينئذ يمتنع اختصاصها بتلك الآثار إلا بسبب خارجي لكنه قد ظهر لنا أن الأجرام السماوية لا تتأثر بشيء عنصري وبذلك أبطل قول من قال : إن ذلك المحو بسبب انسحاق عرض القمر من مماسة النار أما أولا فلأن ذلك يوجب أن يتأدى ذلك في الأزمان الطويلة إلى العدم والفساد بالكلية والأرصاد التوالية مكذبة لذلك وأيضا القمر غير مماس للنار لأنه مفرق في فلك تدويره الذي هو في حامله الذي بينه وبين النار بعد بعيد بدليل أن النار لو كانت ملاقية لحامله لتحركت بحركته إلى المشرق وليس كذلك لأن حركات الشهب في الأكثر لا تكون إلا إلى جهة المغرب وتلك الحركة تابعة لحركة النار والحركة المستديرة ليست للنار بذاتها فإنها مستقيمة الحركة فذلك لها بالعرض تبعا لحركة الكل فبطل ما قالوه ا ه
وذكر الآمدي في أبكار الأفكار زيادة على ما يفهم مما ذكر من الأقوال وهي أن منهم من قال : إن ما يرى خيال لا حقيقة له ورده بأنه لو كان كذلك لاختلف الناظرون فيه ومنهم من قال : إنه السواد الكائن في القمر في الجانب الذي لا يلي الشمس ورده بأنه لو كان كذلك لما رؤى متفرقا ومنهم من قال : إنه وجه القمر فإنه مصور بصورة وجه الإنسان وله عينان وحاجبان وأنف وفم ورده بأنه مع بعده يوجب أن يكون فعل الطبيعة عندهم معطلا عن الفائدة لأن فائدة الحاجبين عندهم دفع أذى العرق عن العينين وفائدة الأنف الشم وفائدة الفم دخول الغذاء وليس للقمر ذلك وقد رد عليهم رحمة الله تعالى عليه سائر ما ذكروه
وذكر الإمام في التفسير أن آخر ما ذكره الفلاسفة في ذلك أنه ارتكن في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر لا جرم شوهدت في وجهه كالكلف في وجه الإنسان وفي ارتكازها في بعض أجزائه دون بعض مع كونه متشابه الأجزاء عندهم دليل على الصانع المختار كما أن في تخصيص بعض أجزائه بالنور القوي وبعضها بالنور الضعيف مع تشابه الأجزاء دليلا على ذلك
ومثل هذا التخصيص في الدلالة تخصيص بعض جوانب الفلك الذي هو عندهم أيضا جرم بسيط متشابه الأجزاء بارتكاز الكواكب فيه دون البعض الآخر
وزعم بعض أهل الآثار أنه مكتوب في وجه القمر لا إله إلا الله وقيل لفظ جميل وقيل غير ذلك
(15/28)

وأن المحو المرئي هو تلك الكتابة ولا يعول على شيء من ذلك نعم مكتوب على كل شيء لا إله إلا الله وكذا جميل ولكن ذلك بمعنى آخر كما لا يخفى
ونقل لي عن أهل الهيئة الجديدة أنهم يزعمون أن القمر كالأرض فيه الجبال والوهاد والأشجار والبحار وأنهم شاهدوا ذلك في أرصادهم وأن المواضع التي لا يرى فيها محو هي البحار والتي فيها محو هي أرض غير مستوية وزعموا أنه لو وصل أحد إلى القمر لرأى الأرض كذلك ومن هنا قالوا : لا يبعد أن يكون معمورا بخلائق و عمارة الأرض بل قالوا : إن جميع الكواكب مثله في ذلك قياسا عليه وإن كانت لا يرى فيها لمزيد بعدها ما يرى فيه وبعيد من الحكمة أن يعمر الله تعالى الأرض بالخلق على صغرها ويترك أجساما عظيمة أكثرها أعظم من الأرض خالية بلا خلق على كبرها وهم منذ غرهم القمر تشبثوا بحباله في عمل الحيل للعروج إليه فصنعوا سفنا زئبقية فعرجوا فيها فقبل أن يصلوا إلى كرة البخار انتفخت أجسامهم وضلت كما ضلت من قبل أفهامهم فانقلبوا صاغرين وهبطوا خاسيئن وأنت تعلم أن كلامهم في هذا الباب مخالف لأصول الفلسفة ولا برهان لهم عليه سوى السفه ومنشؤه محض أنهم رأوا شيئا في القمر ولم يتحققوه وظنوه ما ظنوه وأي مانع من أن يكون قد جعل الله تعالى المحو على وجه يتخيل فيه ذلك بل لا مانع على أصولنا من أن يقال : قد جعل الله تعالى في القمر أجراما تشبه ما حسبوه لكن لم يرد في ذلك شيء عن الصادق وهو الذي عرج به إلى قاب قوسين أو أدنى وما ذكروه من أنه بعيد من الحكمة أن يعمر الله تعالى الأرض الخ يلزم عليه أن يكون ما بين الكواكب ككواكب الدب الأكبر مثلا معمورا بالخلائق كالأرض أيضا فإنه أوسع منها بأضعاف مضاعفة وهم لا يقولون به على أنا نقول قد جاء أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد فيجوز أن يكون على جرم القمر ملائكته يعبدون الله تعالى بما شاء الله تعالى بما شاء وكيف شاء بل يجوز أن يكون عند كل ذرة من ذراته ملك كذلك وهذا نوع من العمارة بالخلق والأحسن عند من عز عليه وقته عدم الالتفات إلى مثل هذه الخرافات وتضييع الوقت في ردها والله سبحانه الموفق ثم ما تقدم من أن المحو نقص ما استفاده القمر من الشمس شيئا فشيئا فيه القول بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس وقد عد الجل من العلماء ذلك في الحدسيات وذكروا أن الشمس مضيئة بنفسها وكلا الأمرين مما ذكره الفلاسفة وليس له في الشرع مستند يعول عليه وقد نقله الآمدي وتعقبه فقال : ذكروا أن الشمس نيرة بنفسها وما المانع من كونها سوداء الجرم والله تعالى يخلق فيها النور في أوقات مشاهدتنا لها وأن تكون مستنيرة من كواكب أخرى فوقها وهي مستورة عنا ببعض الأجرام السماوية المظلمة كما يحدث للشمس في حالة الكسوف وإن سلمنا أنها نيرة بنفسها فلا نسلم أن نور القمر مستفاد منها وأما المانع من كون الرب تعالى يخلق فيه النور في وقت دون وقت أو أن يكون مع كونه مركوزا في فلكه دائرا على مركز نفسه واحد وجهيه نير والآخر مظلم كما كان بعض أجزاء الفلك شفافا وبعضها نيرا وهو متحرك بحركة مساوية لحركة فلكه ويكون وجهه المضيء عند مقابلة الشمس وهو الذي يلينا ويكون الزيادة والنقصان فيما يظهر لنا على حسب بعده وقربه من الشمس فلا يكون مستنيرا من الشمس ا ه
وأورد أنه إذا ضم الخسوف إلى الزيادة والنقصان قربا وبعدا لا يتم ما ذكره وصح ما ذكروه من الاستفادة
(15/29)

وأوجب بأنه المانع من أن يكون الخسوف لحيلولة جرم علوي بيننا وبينه لا لحيلولة الأرض بينه وبين الشمس فلا بد لنفي ذلك من دليل فافهم والله تعالى أعلم وهو المتصرف في ملكه كيفما يشاء لتبتغوا متعلق بقوله تعالى وجعلنا آية النهار وفي الكلام مقدر أي جعلنا آية النهار مبصرة لتطلبوا لأنفسكم فيه
فضلا من ربكم أي رزقا إذ لا يتسنى ذلك في الليل وفي التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرض لصفة الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئا فشئيا دلالة كما قال شيخ الإسلام : على أن ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب وإنما الاعطاء إلى الله سبحانه لا بطريق الوجوب عليه تعالى بل تفضلا بحكم الربوبية ومعنى تأثير الطلب على نحو تأثير الأسباب العادية فإنه من جملتها ولا توقف حقيقة للرزق عليه وفي الخبر يطلبك رزقك كما يطلبك أجلك ولله تعالى در القائل : لقد علمت وما الاشراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعيبني تطلبه ولو قعدت أتاني لا يعنيني ولتعلموا متعلق كما قيل : كلا الفعلين أعني محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة لا بأحدهما فقط إذ لا يكون ذلك بانفراده مدادا للعلم المذكور أي لتعلموا بتفاوت الجديدين أو نيريهما ذاتا من حيث الاظلام والإضاءة مع تعاقبهما أو حركاتهما وأوضاعهما وسائر أحوالهما عدد السنين التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية والحساب أي الحساب المتعلق بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهر والليالي والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة ونفس السنة من حيث تحققها بما ينتظمه الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من حيثية التحقق والتحصل من عدة أشهر حصل كل واحد منها من عدة أيام حصل كل واحد منها من طائفة من الساعات مثلا فإن ذلك من وظيفة علم الحساب بل من حيث إنها فرد من طائفة السنين المعدودة بعدها أي نفسها من غير أن يعتبر في ذلك تحصيل شيء معين كما حقق ذلك شيخ الإسلام
وقيل المعنى لتعلموا باختلافها وتعاقبها على نسق واحد أو بحركاتهما عدد السنين الخ المراد بالحساب جنسه أي الجاري في المعاملات كالاجارات والبيوع المؤجلة وغير ذلك وذكر بعضهم أن الظاهر المناسب أن المراد لتعلموا بالليل فإن عدد السنين الشرعية والحساب الشرعي يعلمان به غالبا أو بالقمر لقوله تعالى في الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وأنت تعلم أن السنين شمسية وقمرية وبكل منهما العمل فلو قيل إحدى الآيتين مبينة لأحدهما والأخرى للآخر لا محذور فيه وكون الشرع معولا على أحدهما لا يضر وتقديم العدد على الحساب من أن الترتيب بين متعلقيهما على ما سمعت أولا وجودا وعدما على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا أو لأن العلم المتعلق بالأول أقصى المراتب فكان جديرا بالتقديم في مقام الامتنان أو لأن العدد نازل من الحساب منزلة البسيط من المركب بناء على ما حقق من أن الحساب إحصاء ماله كمية منفصلة بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص وحكم مستقل والعدد إحصاؤه
(15/30)

بمجرد تكرير أمثاله من غير أن يتحصل شيء كذلك ولهذا وكون السنين بما لم يعتبر فيها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل أضيف أضيف إليها العدد وعلق الحساب بما عداها فتدبر
وكل شيء يفتقرون إليه في معاشكم ومعادكم سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية وهو منصوب بفعل يفسره قوله تعالى فصلناه تفصيلا 21 وهذا من باب الاشتغال ورجع النصب لتقدم جملة فعلية وجوز أن يكون معطوفا على الحساب وجملة فصلناه صفة شيء وهو بعيد معنى
والتفصيل من الفصل بمعنى القطع والمراد به الإبانة التامة وجيء بالمصدر للتأكيد فالمعنى بينا كل شيء في القرآن الكريم بيانا بليغا لا التباس معه كقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بينا
وكل إنسان منصوب على حد كل شيء أي وألزمنا كل إنسان مكلف ألزمناه طائره أي عمله الصادر منه باختياره حسبما قدر له خير أكان أو شرا كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر وفي الكشاف أنهم كانوا يتفاءلون بالطير ويسمونه زجرا فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحا بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وإن بارحا بأن مر من جهة اليمين إلى الشمال تشاءموا ولذا سمي تطيرا فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير استعارة تصريحية لما يشبههما من قدر الله تعالى وعمل العبد لأنه سبب للخير والشر
ومنه طائر الله تعالى لا طائرك أي قدر الله جل شأنه الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن وقد كثر فعلهم ذلك حتى فعلوه بالظباء أيضا وسائر حيوانات الفلا وسموا كل ذلك تطيرا كما في البحر وتفسيره بالعمل هنا مروي عن ابن عباس ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد وذهب إليه غير واحد وفسره بعضهم بما وقع للعبد في القسمة الأزلية الواقعة حسب استحقاقه في العلم الأزلي من قولهم : طار إليه سهم كذا ومن ذلك فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي ألزمنا كل إنسان نصيبه وسهمه الذي قسمناه في الأزل في عنقه تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط وعلى ذلك جاء قوله : إن لي حاجة إليك فقال : بين أذني وعاتقي ما تريد وتخصيص العنق لظهور ما عليه وينسب إليه التقدم والشرف ويعبر به عن الجملة وسيد القوم فالمعنى ألزمناه غله بحيث لا يفارقه أبدا بل يلزمه لزوم القلادة والغل لا ينفك عنه بحال
واخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد سمعت رسول الله يقول : إن النطفة التي يخلق منها النسمة تطير في المرأة أربعين يوما وأربعين ليلة فلا يبقى منها شعر ولا بشر ولا عرق ولا عظم إلا دخلته حتى أنها لتدخل بين الظفر واللحم فإذا مضى أربعون ليلة وأربعون يوما أهبطها الله تعالى إلى الرحم فكانت علقة أربعين يوما وأربعين ليلة ثم تكون مضغة أربعين يوما وأربعين ليلة فإذا تمت لها أربعة أشهر بعث الله تعالى إليها ملك الأرحام فيخلق على يده لحمها ودمها وشعرها وبشرها ثم يقول سبحانه صور فيقول : يا رب أصور أزائد أم ناقص أذكر أم أنثى أجميل أم ذميم أجعد أم سبط أقصير أم طويل أأبيض أم آدم أسوي أم غير سوي
(15/31)

فيكتب من ذلك ما يأمر الله تعالى به ثم يقول : أي رب أشقي أم سعيد فإن كان سعيدا نفخ فيه بالسعادة في آخر أجله وإن كان شقيا نفخ فيه بالشقاوة في آخر أجله ثم يقول : أكتب أثرها ورزقها ومصيبتها وعملها بالطاعة والمعصية فيكتب من ذلك ما يأمره الله تعالى ثم يقول الملك : يا رب ما أصنع بهذا الكتاب فيقول : سبحانه علقه في عنقه إلى قضائي عليه فذلك قوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه
ولا يخفى أن الظاهر من هذا الخبر أن دكر العنق ليس للتصوير المذكور وأن الطائر عبارة عن كتاب الذي كتب فيه ما كتب
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس أنه فسره بذلك صريحا وباب المجاز واسع ونحن نؤمن بالحديث إذا صح ونفوض كيفية ما دل عليه إلى اللطيف الخبير جل جلاله والظاهر منه أيضا عدم تقييد الإنسان بالمكلف ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داؤد في كتاب القدر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية : ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد وآخر الآية ظاهر في التقييد
وقرأ مجاهد والحسن وأبو رجاء طيره وقريء عنقه بسكون النون ونخرج له يوم القيامة والبعث للحساب كتابا هي صحيفة عمله ونصبه على أنه مفعول نخرج وجوز أن يكون حالا من مفعول لنخرج محذوف وهو ضمير عائد على الطائر أي نخرجه له حال كونه كتابا ويعضد ذلك قراءة يعقوب ومجاهد وابن محيصن ويخرج بالياء مبنيا للفاعل من خرج يخرج ونصب كتابا فإن فاعله حينئذ ضمير الطائر وكتابا حال منه والأصل توافق القراءتين وكذا قراءة أبي جعفر ويخرج بالياء مبنيا للمفعول من أخرج ونصب كتابا أيضا ووجه كونها عاضدة أن في يخرج حينئذ ضميرا مستترا هو ضمير الطائر وقد كان مفعولا واحتمال أن يكون له نائب الفاعل فلا تعضد لا يلتفت إليه لأن إقامة غير المفعول مع وجوده مقام الفاعل ضعيفة وليس ثمت ما يكون كتابا حالا منه فيتعين ما ذكر كما قاله ابن يعيش في شرح المفصل وعنه أيضا أنه قريء يخرج بالبناء للمفعول أيضا ورفع كتاب على أنه نائب الفاعل وقرأ الحسن يخرج بالبناء للفاعل من الخروج ورفع كتاب على الفاعلية وقرأت فرقة ويخرج بالياء من الإخراج مبنيا للفاعل وهو ضمير الله تعالى وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن هرون قال في قراءة أبي بن كعب وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه يقرأه يوم القيامة كتابا يلقيه أي يلقى الإنسان أو يلقاه الإنسان منشورا 31 غير مطوي لتمكن قراءته وفيه إشارة إلى أن ذلك أمر مهييء له غير مغفول عنه وجملة يلقاه صفة كتابا و منشورا حال من ضميره وجوز أن يكونا صفتين له وفيه تقدم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو خلاف الظاهر وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف عنه يلقاه بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقيته كذا أي يلقى الإنسان إياه
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك في قبرك حتى تجيء يوم القيامة فتخرج لك اقرأ كتابك بتقدير يقال له ذلك وهذه الجملة إما صفة أو حال أو مستأنفة والظاهر أن جملة
(15/32)

قوله تعالى كفى بنفسك اليوم عليك حسيب 41 من جملة مقول القول المقدر وكفى فعل ماض وبنفسك فاعله والياء سيف خطيب وجاء إسقاطها ورفع الاسم كما في قوله : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وقوله : ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدى عما غيب المرء مخبرا ولم تلحق الفعل علامة التأنيث وإن كان مثله تلحقه كقوله تعالى : ما ءامنت قبلهم من قرية وما تأتيهم من آية قيل لأن الفاعل مؤنث مجازي ولا يشفي الغليل لأن فاعل ما ذكر من الأفعال مؤنث مجازي مجرور بحرف زائد أيضا وقد لحق فعله علامة التأنيث وغاية الأمر في مثل ذلك جواز الإلحاق وعدمه ولم يحفظ كما في البحر الإلحاق في كفى إذا كان الفاعل مؤنثا مجرورا بالباء الزائدة ومن هنا قيل إن فاعل كفى ضمير يعود على الاكتفاء أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك وقيل هم اسم فعل بمعنى اكتف والفاعل ضمير المخاطب والباء على القولين ليست بزائدة ومرضي الجمهور ما قدمناه والتزام التذكير عندهم على خلاف القياس
ووجه بعضهم ذلك بكثرة جر الفاعل بالباء الزائدة حتى إن إسقاطها منه لا يوجد إلا في أمثلة معدودة فانحطت رتبته عن رتبة الفاعلين فلم يؤنث الفعل له وهذا نحو ما قيل في مر بهند وقيل غير ذلك و اليوم ظرف لكفى و حسيبا تمييز كقوله تعالى : وحسن أولئك رفيقا وقولهم : لله تعالى دره فارسا وقيل : حال وعليك متعلق به قدم لرعاية الفواصل وعدي بعلي لأنه بمعنى الحاسب والعاد وهو يتعدى بعلي كما تقول عدد عليه قبائحه وجاء فعيل الصفة من فعل يفعل بكسر العين في المضارع كالصريم بمعنى الصارم وضريب القداح بمعنى ضار بها إلا أنه قليل أو بمعنى الكافي فتجوز به عن معنى الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه فعدى بعلي كما يعدى الشهيد وقيل هو بمعنى الكافي من غير تجوز لكنه عدي تعدية الشهيد للزوم معناه له كما في أسد علي وهو تكلف بارد وتذكيره وهو فعيل بمعنى فاعل وصف للنفس المؤنثة معنى لأن الحساب والشهادة مما يغلب في الرجال فأجرى ذلك على أغلب أحواله فكأنه قيل كفى بنفسك رجلا حسيبا أو لأن النفس مؤولة بالشخص كما يقال ثلاثة أنفس أو لأن فعيل المذكور محمول على فعيل بمعنى فاعل والظاهر أن المراد بالنفس الذات فكأنه قيل كفى بك حسيبا عليك
وجعل بعضهم في ذلك تجريدا فقيل : إنه غلط فاحش وتعقب بأن فيه بحثا فإن الشاهد يغاير المشهود عليه فإن اعتبر كون الشخص في تلك الحال كأنه شخص آخر كان تجريدا لكنه لا يتعلق به غرض هنا
وعن مقاتل أن المراد بالنفس الجوارح فإنها تشهد على العبد إذا أنكر وهو خلاف الظاهر
وعن الحسن أنه كان إذا قرأ الآية قال : يا ابن آدم أنصفتك والله من جعلك حسيب نفسك والظاهر أنه يقال ذلك للمؤمن والكافر وما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي من أن الكافر يخرج له يوم القيامة كتاب فيقول : رب إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك الآية لا يدل على أنه خاص بالكافر كما لا يخفى ويقرأ في ذلك اليوم كما روي عن قتادة من لم يكن قارئا في الدنيا
وجاء أن المؤمن يقرأ أولا سيآته وحسناته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف ولا يراها هو فيغبطونه عليها فإذا استوفى في قراءة السيآت وظن أنه قد هلك رأى في آخرها هذه سيآتك قد غفرناها لك فيتبلج وجهه ويعظم سروره ثم يقرأ حسناته فيزداد نورا وينقلب إلى أهله مسرورا ويقول هاؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه
وأما الكافر فيقرأ أولا حسناته وسيآته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف فيتعوذون من ذلك فإذا استوفى قراءة
(15/33)

الحسنات وجد في آخرها هذه حسناتك قد رددناها عليك وذلك قوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا فيسود وجهه ويعظم كربه ثم يقرأ سيآته فيزداد بلاء على بلاء وينقلب بمزيد خيبة وشقاء ويقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه جعلنا الله تعالى ممن يقرأ فيرقى لا ممن يقرأ فيشقى بمنه وكرمه هذا وفسر بعضهم الكتاب بالنفس المتنفسة بآثار الأعمال ونشره وقراءته بظهور ذلك له ولغيره وبيانه أن ما يصدر عن الإنسان خيرا أو شرا يحصل منه في الروح أثر مخصوص وهو خفي ما دامت متعلقة بالبدن مشتغلة بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقتها قامت قيامته لانكشاف الغطاء باتصالها بالعالم العلوي فيظهر في لوح النفس نقش أثر كل ما عمله في عمره وهو معنى الكتابة والقراءة ولا يخفى أن هذا منزع صوفي حكمي بعيد من الظهور قريب من البطون وفيه حمل القيامة على القيامة الصغرى وهو خلاف الظاهر أيضا والروايات ناطقة بما يفهم من ظاهر الآية نعم ليس فيها نفي انتقاش النفس بآثار الأعمال وظهور ذلك يوم القيامة فلا ما نع من القول بالأمرين ومن هنا قال الإمام : إن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضا والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل ونعم ما قال غير أن كون ذلك الاحتمال ظاهرا غير ظاهر وقال الخفاجي : ليس في هذا ما يخالف النقل وقد حمل عليه ما روي عن قتادة من أنه يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئا ولا وجه لعده مؤيدا له وأنت تعلم أن حمل كلام قتادة على ذلك تأويل أيضا ولعل قتادة وأمثاله من سلف الأمة لا يخطر لهم أمثال هذه التأويلات ببال والكلام العربي كالجمل الأنوف والله تعالى أعلم بحقائق الأمور وفي كيفية النظم ثلاثة أوجه ذكرها الإمام
مالأول أنه تعالى لما قال وكل شيء فصلناه تفصيلا تضمن أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد قد صار مذكورا وإذا كان كذلك فقد أزيحت الأعذار وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه الثاني أنه تعالى لما بين أنه سبحانه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما فكأنه كان منعما عليهم بوجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته تعالى وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة يكون مسئولا عن أقواله وأعماله والثالث أنه تعالى بين أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته كما قال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل كان إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته هل أتى بتلك الطاعة أو تمرد وعصى ا ه وقد يقال وجه الربط أن فيما تقدم شرح حال كتاب الله تعالى المتضمن بيان النافع والضار من الأعمال وفي هذا شرح حال كتاب العبد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من تلك الأعمال إلا أحصاها وحسنه وقبحه تابع للأخذ بما في الكتاب الأول وعدمه فمن أخذ به فقد هدي ومن أعرض عنه فقد غوى وقوله تعالى : من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه فذلكة لما تقدم من كون القرءان هاديا للتي هي أقوم وللزوم الأعمال لأصحابها أي من اهتدى بهدايته وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة الاهتداء به إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد ومن ضل عما يهتديه إليه فإنما يضل عليها أي فإنما وبال ضلاله
(15/34)

عليها لا على من لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل صاحبه ولا تزر وازرة وزر أخرى تأكيد للجملة الثانية أي لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم وخص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم
وروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة لما قال : اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم ولا ينافي هذه الآية ما يدل عليه قوله تعالى من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وقوله تعالى ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته لأنه في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له وإنما يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال قاله شيخ الإسلام ولهذه الآية طعنت عائشة رضي الله عنها في صحة خبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إن الميت يعذب ببكاء أهله فإن فيه أخذ الإنسان بجرم غيره وهو خلاف ما أنطقت به الآية
وأجيب بأن الحديث محمول على ما إذا أوصى الميت بذلك فيكون ذلك التعذيب من قبيل جزاء الإضلال وقيل : المراد بالميت المحتضر مجازا وبالتعذيب التعذيب في الدنيا أي أن المحتضر يتألم ببكاء أهله عليه فلا ينبغي أن يبكوا ولها أيضا منع جماعة من قدماء الفقهاء صرف الدية على العاقلة لما فيه من مؤاخذة الإنسان بفعل غيره وأجيب بأن ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء وإلا فالمخطيء نفسه ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل فكيف يؤاخذ غيره عليه واستدل بها الجبائي على أن أطفال المشركين لا يعذبون وإلا كانوا مؤاخذين بذنب آبائهم وهو خلاف ظاهر الآية وزعم بعضهم أنها نزلت فيهم وليس بصحيح نعم أخرج ابن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف عن عائشة قالت : سألت خديجة رسول الله عن أولاد المشركين فقال : هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال : الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت ولا تزر وازرة وزر أخرى فقال : هم على الفطرة أو قال في الجنة والمسئلة خلافية وفيها مذاهب فقال الأكثرون : هم في النار تبعا لآبائهم واستدل لذلك بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة أيضا قالت سألت النبي عن ولدان المسلمين أين هم قال : في الجنة وسألته عن ولدان المشركين أين هم قال : في النار قلت : يا رسول الله لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام قال : ربك أعلم بما كانوا عاملين والذي نفسي بيده إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وفيه أن هذا الخبر قد ضعفه ابن عبد البر فلا يحتج به نعم صح أنه سئل عن أولاد المشركين فقال : الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وليس فيه تصريح بأنهم في النار وحقيقة لفظه الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ
وأخرج الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم عن ابن عباس قال : حدثني الصعب بن جثامة قلت : يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين قال : هم منهم وهو عند المخالفين محمول على أنهم منهم في الأحكام
(15/35)

الدنيوية كالاسترقاق
وتوقفت طائفة فيهم ومن هؤلاء أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وقيل : فيهم من يدخل الجنة وفيهم من يدخل النار لما أخرج الحكيم الترمذي في النوادر عن عبد الله بن شداد أن رسول الله أتاه رجل فسأله عن ذراري المشركين الذين هلكوا صغارا فوضع رأسه ساعة ثم قال : أين السائل فقال : ها أنذا يا رسول الله فقال : إن الله تبارك وتعالى إذا قضى بين أهل الجنة والنار ولم يبق غيرهم عجوا فقالوا : اللهم ربنا لم تأتنا رسلك ولم نعلم شئيا فأرسل إليهم ملكا والله تعالى أعلم بما كانوا عاملين فقال : إني رسول ربكم إليكم فانطلقوا فاتبعوا حتى أتوا النار فقال إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا فيها فاقتحمت طائفة منهم ثم خرجوا من حيث لا يشعر أصحابهم فجعلوا في السابقين المقربين ثم جاءهم الرسول فقال إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فاقتحمت طائفة أخرى ثم أخرجوا من حيث لا يشعرون فجعلوا في أصحاب اليمين ثم جاء الرسول فقال : إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فقالوا : ربنا لا طاقة لنا بعذابك فأمر بهم فجمعت نواصيهم وأقدامهم ثم ألقوا في النار
وذهب المحققون إلى أنهم من أهل الجنة وهو الصحيح ويستدل له بأشياء منها الآية على ما سمعت عن الجبائي ومنها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي في الجنة وحوله أولاد الناس قالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين رواه البخاري في صحيحه ومنها ما أخرجه الحكيم الترمذي أيضا في النوادر وابن عبد البر عن أنس قال : سألنا رسول الله عن أولاد المشركين فقال : هم خدام أهل الجنة
ومنها الآية الآتية حيث أفادت أن لا تعذيب قبل التكليف ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول عليه الصلاة و السلام حتى يبلغ ولم يخالف أحد في أن أولاد المسلمين في الجنة إلا بعض من لا يعتد به فإنه توقف فيهم لحديث عائشة توفي صبي من الأنصار فقلت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال : أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا وهم في أصلاب آبائهم وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة و السلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله : اعطه إني لأراه مؤمنا قال أو مسلما الحديث ويحتمل أنه قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ذلك في قوله ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم إلى غير ذلك من الأحاديث وقال القاضي : دلت الآية على أن الوزر ليس من فعله تعالى لأنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره ولأنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلا لأن الوازر إنما يوصف بذلك إذا كان مختارا يمكنه التحرز ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بذلك وأنت تعلم أن هذا إنما ينتهض على الجبرية لا على الجماعة القائلين لا جبر ولا تفويض وما كنا معذبين بيان للعناية الربانية إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابهما وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائنا السابق أن نعذب أحدا بنوع ما من العذاب دنيويا كان أو أخرويا على فعل شيء أو ترك شيء أصليا كان أو فرعيا حتى نبعث إليه رسولا يهدي إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع أو حتى نبعث
(15/36)

رسولا كذلك تبلغه دعوته سواء كان مبعوثا إليه أم لا على ما ستعمله إن شاء الله تعالى من الخلاف وهذا غاية لعدم صحة وقوع العذاب في وقته المقدر له لعدم وقوعه مطلقا كيف والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث الدنيوي لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق والعصيان ألا يرى إلى قوم نوح عليه السلام كيف تأخر عنهم ما حل بهم زهاء ألف سنة وألزم المعتزلة القائلون بالوجوب بشرط ترك الواجب عندهم إذ لا يجوزون العفو فينتفى الوجوب قبل البعثة لانتفاء لازمه ومحصوله أنه لو كان وجوب عقلي لثبت قبل البعثة ولا شبهة في أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات حينئذ فيلزم أن يكونوا معذبين قبلها وهو باطل بالآية
وتعقب بأنه إنما يتم إذا أريد بالعذاب ما يشمل الدنيوي والأخروي كما أشير إليه لكن المناسب لما بعد أن يراد عذاب الاستئصال في الدنيا ولا يلزم من انتفاء العذاب الدنيوي قبل البعث انتفاء الوجوب لأن لازم الوجوب عندهم هو العذاب الأخروي وأجيب بعد تسليم أن المناسب لما بعد أن يراد العذاب الدنيوي بأن الآية لما دلت على أنه لا يليق بحكمته إيصال العذاب الأدنى على ترك الواجب قبل التنبيه ببعثة الرسول فدلالتها على عدم إيصال العذاب الأكبر على تركه قبل ذلك أولى وأورد الأصفهاني في شرح المحصول على من استدل بالآية على نفي الوجوب العقلي قبل البعثة أمورا الأول أن المراد بالرسول فيها العقل الثاني أنا سلمنا أن المراد النبي المرسل لكن الآية دلت على نفي تعذيب المباشرة قبل البعثة ولا يلزم منه نفي مطلق التعذيب
الثالث أنا سلمنا ذلك لكن ليس في الآية دلالة على نفي التعذيب قبلها عن كل الذنوب الرابع أنا سلمنا الدلالة لكن لا يلزم من نفي المؤاخذة انتفاء الاستحقاق لجواز سقوط المؤاخذة بالمغفرة ثم أجاب عن الأول بأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة وعن الثاني بأن من شأن عظيم القدر التعبير عن نفي التعذيب مطلقا بنفي المباشرة وعن الثالث بما أشرنا إليه من أن تقدير الكلام وما كنا معذبين أحدا ويلزم من ذلك انتفاء تعذيب كل واحد من الناس وذلك هو المطلوب لأن الخصم لا يقول به
وعن الرابع بأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة وانتفاؤه قبلها ظاهرا يدل على عدم الوجوب قبلها فمن ادعى أن الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز بالمغفرة فعليه البيان ا ه وأنت تعلم أنه إذا كان الاستدلال إلزاميا كما قال به غير واحد لا يرد الأمر الرابع أصلا لأن المعتزلة لا يجوزون العفو عن تارك الواجب العقلي وقد أشرنا إلى ذلك نعم قال المراغي في شرح منهاج الأصول للقاضي : لا حاجة إلى جعل الدليل إلزاميا بل يجوز إتمامه على تقدير جواز العفو أيضا بأن يقال وقوع العذاب وإن لم يكن لازما للوجوب لكن عدم الأمن من وقوعه لازم له ضرورة إذ يجوز العقاب على ترك الواجب عندنا وإن لم يجب وهذا اللازم أعني عدم إلا من منتف لدلالة الآية على عدم وقوعه فينتفي الملزوم
ورد ذلك أولا بمنع أن عدم الأمن من وقوع العذاب من لوازم ترك الواجب مطلقا بل عدم الأمن إذا لم يتيقن عدم وقوع العذاب بدليل آخر وأما ثانيا فبأن انتفاء عدم الأمن إنما هو بالآية إذ قبل ورودها كان العقاب جائزا ولا شك أن انتفاءه بالعفو لأن معنى العفو عدم العقاب والآية تدل عليه فلم يتم الدليل على تقدير جواز العفو وهو كما ترى وقيل : نجعل اللازم جواز العقاب فيتم الدليل تحقيقا لأن جواز العفو
(15/37)

لا ينافي جواز العقاب ورد بأن الملازمة القائلة لو كان الوجوب ثابتا قبل الشرع لعذب تارك الواجب وإن كانت مسلمة حينئذ لكن بطلان التالي ممنوع لأن الآية إنما تدل على نفي وقوع العذاب لا على نفي جوازه
وفيه معنى ما كنا معذبين ما سمعت وهو يدل على نفي الجواز وقد كثر استعمال هذا التركيب في ذلك كقوله تعالى : وما كنا ظالمين وما كنا لاعبين إلى غير ذلك ولو أريد نفي الوقوع لقيل وما نعذب حتى نبعث رسولا
وضعف الإمام الاستدلال بالآية بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي البتة وهذا باطل فذاك باطل قال : بيان الملازمة من وجوه أحدها أنه إذا جاء الشارع وادعى كونه نبيا من عند الله تعالى وأظهر المعجزة فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة وإن وجب فإما أن يجب بالشرع أو بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي وإن وجب بالشرع فهو باطل لأن ذلك الشارع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن يقول ذلك الرجل الدليل : على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قبول قولي وهذا إثبات للشيء بنفسه وإن كان غيره كان الكلام فيه كما في الأول ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان وثانيهما أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم إلا أن يقول لو تركت كذا أو فعلت كذا لعاقبتك فنقول : إما لأن يجب بالعقل أو بالسمع فإن وجب بالعقل فهو المقصود وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال
وثالثها أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى العفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب فلم يبق إلا أن يقال : إن ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب وهذا الخوف حاصل بمحض العقل فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف وإن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل فلزم أن يقال : الوجوب حاصل بمجرد العقل فإن قالوا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الذم قلنا : إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم فعلى هذا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه ا ه
وتعقبه العبادي بأنه يمكن الجواب عن الأول بأنه إذا أظهر المعجزة على دعواه أنه رسول ثبت صدقه كما تقرر في محله فيجب قبول قوله في كل ما يخبر عن الله تعالى من غير لزوم محذور من إثبات الشيء بنفسه أو الدور أو التسلسل وإن كان ثبوت ما أخبر بالشرع بمعنى أن ثبوته بإخبار من ثبتت رسالته بالمعجزة عن الله تعالى بذلك وليس حاصل الكلام على هذا أنه يقول : الدليل على أنه يجب قبول قولي أن أقول يجب قولي حتى يلزم ما يلزم بل حاصله أنه يقول : يجب قبول قولي لأنه ثبت أني رسول الله تعالى فيجب صدقي وتصديقي في كل ما أدعيه وليس في هذا شيء من المحاذير السابقة وقد صرح السيد السند في شرح الواقف بأنه يثبت الشرع وتجب المتابعة بمجرد دعوى الرسالة مع اقتران المعجزة وتمكن المبعوث إليه العاقل من النظر وإن لم ينظر وذكر أنه حينئذ لا يجوز للمكلف الاستمهال ولو استمهل لم يجب الامهال لجريان العادة بإيجاب العلم عقيب النظر الذي هو متمكن منه فعلم أنه بمجرد دعوى الرسالة مع ما ذكر يثبت الوجوب بإخباره
(15/38)

وهو ثبوت الشرع لأن معنى الثبوت به هو الثبوت بالأخبار عن الله تعالى حقيقة أو حكما وعلى هذا لا يتأتى الترديد الذي ذكره بقوله لأن ذلك الشرع إما أن يكون الخ فليتأمل وعن الثاني بأن وجوب الاحتراز عن العقاب ليس أمرا أجنبيا عن وجوب كذا حتى يتوجه عليه الترديد الذي ذكره بل هو نفس وجوب كذا أو لازمه فوجوبه بوجوبه فلا يلزم الترديد المذكور وعن الثالث بأنه إن أراد بقوله إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب أن حصول الواجب في الخارج بالاتيان به إنما هو بسبب حصول الخوف فليس الكلام فيه ومع ذلك إنا لا نسلم أن الاتيان بالواجب متوقف على حصول الخوف وإن أراد أن تحقق وجوب الواجب أي تعلق وجوبه بالمكلف الذي هو التكليف التنجيزي متوقف على حصول الخوف المذكور فهو ممنوع كما هو ظاهر ا ه فتدبر
وأنت تعلم بأن الاستدلال بالآية على تقدير تمامه لا يختص بالمعتزلة بل يشاركهم في ذلك أحد فريقي الحنفية من أهل السنة وهم الماتريدية وعامة مشايخ سمرقند لأنهم وإن لم يقولوا كالمعتزلة بأن العقل حاكم بالحسن والقبح اللذين أثبتوهما جميعا لكنهم قالوا : إن العقل آلة للعلم بهما فيخلقه الله تعالى عقيب نظر العقل نظرا صحيحا وأوجبوا الإيمان بالله تعالى وتعظيمه وحرموا نسبة ما هو شنيع إليه سبحانه حتى روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لو لم يبعث الله تعالى رسولا لوجب على الخلق معرفته وقد صرح غير واحد من علمائهم بأن العقل حجة من حجج الله تعالى ويجب الاستدلال به قبل ورود الشرع واحتجوا في ذلك بما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله لأبيه وقومه إني أراك وقومك في ضلال مبين حيث قال ذلك ولم يقل أوحي إلي من استدلاله بالنجوم ومعرفة الله تعالى بها وجعلها حجة على قومه وكذلك كل الرسل حاجوا قومهم بحجج العقل كما ينبيء عنه قوله تعالى قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض الآية وبقوله تعالى ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية حيث لم يقل ومن يدع مع الله إلها آخر بعد ما أوحي إليه أو بلغته الدعوة وبقوله سبحانه خبرا عن أهل النار وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير حيث أخبروا أنهم صاروا في النار لتركهم الانتفاع بالسمع والعقل
وفيه أنهم لو انتفعوا بالعقول في معرفة الصنائع قبل ورود الشرع لم يصيروا في النار وبأن الحجج السمعية لم تكن حججا إلا باستدلال عقلي وبأن المعجزة بعد الدعوة لا تعرف إلا بدليل عقلي وآيات الأنفس والآفاق أدل على الصانع من دلالة المعجزة على أنها من الله تعالى فلما كان بالعقل كفاية معرفة المعجزة كان به كفاية معرفة الله تعالى من طريق الأولى وبأن دعاء جميع الكفرة إلى دين الإسلام واجب على الأمة ومعلوم أن الدهرية لا يحتج عليهم بكلام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام فلم يبق إلا حجج العقول إلى غير ذلك وحينئذ يقال لهم : لو وجب على الخلق معرفة الله تعالى والإيمان به قبل بعثة رسول لزم تعذيب الكافر قبلها لإخباره تعالى بأنه لا يغفر الشرك به وقد نفى التعذيب في الآية فلا وجوب ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم على نهج ما فعل مع المعتزلة والإمام الرازي بعد أن ضعف الاستدلال بالآية وأثبت الوجوب العقلي ذكر في الآية وجهين الأول حمل الرسول على العقل والثاني تخصيص العموم بأن يقال المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى
(15/39)

معرفتها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع ثم قال : والذي ترتضيه وتذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به وترك ما يتضرر به ويمتنع أن يحكم العقل عليه تعالى بوجوب فعل أو ترك فعل ا ه
ؤانت تعلم ما قيل من حمل الرسول على العقل وهو خلاف استعمال القرآن الكريم ويبعده توبيخ الخزنة الكفار بقولهم أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ولم يقولوا أو لم تكونوا عقلاء وحمل الرسول فيه على العقل مما لا يرتضيه العقل واعتذر هو عن التخصيص بأنه وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه إذا قام الدليل عليه وقد قام بزعمه
وأبو منصور الماتردي ومتبعوه حملوا الآية على نفي تعذيب الاستئصال في الدنيا وذهب هؤلاء إلى تعذيب أهل الفترة بترك الإيمان والتوحيد وهم كل من كان بين رسولين ولم يكن الأول مرسلا إليهم ولا أدركوا الثاني واعتمد القول بتعذيبهم النووي في شرح مسلم فقال : إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل عليهم السلام والظاهر أن النووي يكتفي في وجوب الإيمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل وإن لم يكن مرسلا إليه فلا منافاة بين حكمه بأنهم أهل فترة بالمعنى السابق وحكمه بأن الدعوة بلغتهم خلافا للابي في زعمه ذلك نعم إنما تلزم المنافاة لو ادعى أن من تقدمهم من الرسل مرسل إليهم وليس فليس
وإلى ذلك ذهب الحليمي فقال في منهاجه : إن العاقل المميز إذا سمع آية دعوة كانت إلى الله تعالى فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر كان بذلك معرضا عن الدعوة فكفر ويبعد أن يوجد شخص لم يبلغه خبر أحد من الرسل على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق ولو أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلها ولا نرى أن ذلك يكون فأمره على الاختلاف في أن الإيمان هل يجب بمجرد العقل أو لابد من انضمام النقل وهذا صريح في ثبوت تكليف كل أحد بالإيمان بعد وجود دعوة أحد من الرسل وإن لم يكن رسولا إليه وبالغ بعضهم في اعتماد ذلك حتى قال : فمن بلغته دعوة أحد من الرسل عليهم السلام بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر من أهل النار فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة من أخبار النبي بأن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار ا ه والذي عليه الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء أن أهل الفترة لا يعذبون وأطلقوا القول في ذلك وقد صح تعذيب جماعة من أهل الفترة وأوجب بأن أحاديثهم آحاد لا تعارض القطع بعدم التعذيب قبل البعثة وبأنه يجوز أن يكون تعذيب من صح تعذيبه منهم لأمر مختص به يقتضي ذلك علمه الله تعالى ورسوله نظير ما قيل في الحكم بكفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه وقيل إن تعذيب هؤلاء المذكورين في الأحاديث مقصور على غير وبدل من أهل الفترة بما لا يعذر به كعبادة الأوثان
(15/40)

وتغيير الشرائع كما فعل عمرو ابن لحي ولا يخفى أن هذا لا يوافق إطلاق هؤلاء الأئمة ولا القول بأنه لا وجوب إلا بالشرع ولو أمكن أن يكون من ثبت تعذيبه من اتباع من بقي شرعه إذ ذاك كعيسى عليه السلام ولم يبق إشكال أصلا واستدل بعض من يقول بتعذيبهم مطلقا بما أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله قال : يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا فيقول الممسوخ عقلا : يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني ويقول الهالك في الفترة : يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني ويقول الهالك صغيرا : يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني فيقول لهم الرب تبارك وتعالى : فاذهبوا فادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا فتخرج عليهم قوابص من نار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء فيرجعون سراعا ويقولون : يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أن قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك ويقولون كذلك فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي وإلى علمي تصيرون يا نار ضميهم فتأخذهم النار وبعض الأخبار يقتضي أن منهم من يعذب ومنهم من لا يعذب
فقد أخرج أحمد وابن راهويه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي قال : أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول رب جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول فيأخذ سبحانه مواتيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها وأخرج قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس قال : قال رسول الله : يؤتى يوم القيامة بأربعة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الهرم الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم : ابرزي ويقول لهم : إني كنت أبعث عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم فيقول لهم : ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء : يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفر وأما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيقول الرب تعالى قد عاينتموني فعصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار إلى غير ذلك من الأخبار ويحتج بها من قال بانقسام ذراري المشركين بل وذراري المؤمنين وفي القلب من صحتها شيء وإن قال في الإصابة : إنها وردت من عدة طرق وعلى تقدير صحتها فمعارضها أصح منها والذي يميل إليه القلب أن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدته وتنزهه عن الولد سبحانه قبل ورود الشرع للأدلة السابقة وغيرها وإن كان في بعضها ما يقال وإرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة منه تعالى أو أن ذلك لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات والحدود فلا يرد أنه لو كان العقل حجة ما أرسل الله تعالى رسولا ولاكتفى به وقيل في جوابه : لما كان أمر البعث والجزاء مما يشكل مع العقل وحده إلا بعظيم تأمل فيه حرج يعذر الإنسان بمثله ولا إيمان بدونه بعث الله تعالى الرسل عليهم السلام لبيان ما به تتمة الدين لا لنفس معرفة الخالق فإنها تنال ببداية العقول فالبعرة
(15/41)

تدل على البعير والأثر على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير
وأيضا إن الله تعالى لم يدعنا ورسولا من أول الأمر إلى آخره والحجة كانت قائمة بالواحد كما بقيت بمحمد إلى يوم القيامة ولم يدل ذلك على أن الأول لم يكن حجة كافية وكذلك لم يدعنا سبحانه والبيان بآية واحدة بل من علينا جل شأنه بآيات متكررة ولا يدل ذلك أن الآية الواحدة لم تكن حجة كافية
وقوله تعالى خبرا عن قول الخزنة لأهل النار : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات توبيخ بالأظهر وهو لا يدل على أن الأخر ليس بحجة وقوله تعالى : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل على معنى لئلا يكون لهم احتجاج بزعمهم بأن يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا وقوله تعالى : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى وأهلها غافلون محمول على الإهلاك بعذاب الاستئصال في الدنيا على تكذيب الرسل وأما جزاء الكفر فالنار في العقبى وكذا يقال في الآية التي نحن فيها لكثرة ما يدعو إليه فلا عذر لمن لم يعرف ربه سبحانه من أهل الفترة إذا كان عاقلا مميزا متمكنا من النظر والاستدلال لا سيما إذا بلغته دعوة رسول من الرسل عليهم السلام ولا يكاد يوجد من لم تبلغه كما سمعت عن الحليمي وقيل : بوجوده في أمريقا وهي المسماة بيكي دنيا قبل أن يظفر بها في حدود الألف بعد الهجرة كرشتوفيل المشهور بقلوبنو فإن أهلها على ما بلغنا إذ ذاك لم يسمعوا بدعوة رسول أصلا ثم المفهوم من كلام الأجلة أن النزاع إنما هو بالنسبة لأحكام الإيمان بالله تعالى بخلاف الفروع فلا خلاف في أنها لا تثبت إلا في حق من بلغته دعوة من أرسل إليه وهو الظاهر نعم ما اتفق عليه الملل من الفروع هل هو كالإيمان حتى يجري فيه النزاع المتقدم فيه نظر وأما الإيمان بنبينا فليس بواجب على من لم تبلغه دعوته إذ ليس للعقل في ذلك مجال كما لا يخفى على ذي عقل بل قال حجة الإسلام الغزالي الناس بعد بعثته عليه الصلاة و السلام أصناف صنف لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا فأولئك مقطوع لهم بالجنة وصنف بلغتهم دعوته وظهور المعجزة على يده وما كان عليه من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا فأولئك مقطوع لهم بالنار وصنف بلغتهم دعوته عليه الصلاة و السلام وسمعوا به لكن كما يسمع أحدنا بالدجال وحاشا قدره الشريف على ذلك فهؤلاء أرجو لهم الجنة إذ لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به ا ه ولعل القطع بالجنة للأولين ورجاءها للآخرين إنما يكونان إذا كانوا مؤمنين بالله تعالى وأما إذا لم يكونوا كذلك فهم على الخلاف ثم إن مسألة عدم الوجوب قبل ورود الشرع إنما يتم الاستدلال عليه بالآية عند المستدلين بها كما قال الأصفهاني إذا كان المقصود تحصيل غلبة الظن فيها فإن كانت علمية فلا يمكن إثباتها بالدلائل الظنية وفيها عندهم نوع اكتفاء أي وما كنا معذبين ولا مثيبين حتى نبعث رسولا قالوا : واستغني عن ذكر الثواب بذكر مقابله من العذاب ولم يعكس لأنه أظهر منه في تحقق معنى التكليف فتأمل
وإذا أردنا أن نهلك قرية بيان لكيفية وقوع العذاب بعد البعثة وليس المراد بالإرادة الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد في وقته المقدر له أصلا إذ لا يقارنها الجزاء الآتي ولا تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنه المراد بل دنو وقته كما في قوله تعالى أتى أمر الله أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاكها بأن نعذب أهلها بما ذكر من عذاب
(15/42)

الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين أمرنا بالطاعة كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها مترفيها متنعميها وجباريها وملوكها وخصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم بأتباعهم ولأن توجه الأمر إليهم آكد ويدل على تقدير الطاعة أن فسق وعصى متقاربان بحسب اللغة وإن خص الفسق في الشرع بمعصية خاصة وذكر الضد يدل على الضد كما أن ذكر النظير يدل على النظير فذكر الفسق والمعصية يدل على تقدير الطاعة كما قيل في قوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر فيكون نحو أمرته فأساء إلى أي أمرته بالإحسان بقرينة المقابلة بينهما المعتضدة بالعقل الدال على أنه لا يؤمر بالإساءة كما لا يؤمر بالفسق والنقل كقوله تعالى : إن الله لا يأمر بالفحشاء وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم كما في يعطي ويمنع أي وجهنا الأمر
ففسقوا فيها أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا واختار الزمخشري أن الأصل أمرناهم بالفسق ففسقوا إلا أنه يمتنع إرادة الحقيقة للدليل فيحمل على المجاز إما بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الإستعارة التصريحية التبعية بأن يشبه إفاضة النعم المبطرة لهم وصبها عليهم بأمرهم بالفسق وبجامع الحمل عليه والتسبب له ويتمم أمر الإستعارة في الصورتين بما لا يخفى وقيل : الأمر استعارة للحمل والتسبب لاشتراكهما في الإفضاء إلى الشيء وآثر أن تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا غير جائز لزعمه أنه حذف ما لا دليل عليه بل الدليل قائم على خلافه لأن قولهم أمرته فقام وأمرته فقعد لا يفهم منه إلا الأمر بالقيام والقعود ولو أردت خلاف ذلك كنت قد رمت من مخاطبك علم الغيب ولا نقض بنحو قولهم : أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأنه لما كان منافيا للأمر علم أنه لا يصلح قرينه للمحذوف فيكون الفعل في ذلك من باب يعطي ويمنع واعترض بأنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل أمرته فعصاني لما سمعت من تقارب فسق وعصى وبأن قرينة إن الله لا يأمر بالفحشاء لم لا تكفي في تقدير وجهنا الأمر فوجد منهم الفسق لا أن يقدر متعلق الأمر ثم لم لا يجوز أن يكون التعقيب بالضد قرينة للضد الآخر ونحوه أكثر من أن يحصى وأجاب في الكشف عن ذلك فقال : الجواب عن الأولين أن صاحب الكشاف منع أن يراد أمرنا بالطاعة وأما أن يراد توجيه الأمر فلم يمنعه من هذا المسلك بل المانع أن تخصيص المترفين حينئذ يبقى غير بين الوجه وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك فإن أمره تعالى واقع في كل زمان ولكل أحد ولظهوره لم يتعرض له وعن الثالث أن شهرة الفسق في أحد معنييه تمنع من عده مقابلا بمعنى العصيان على أن ما ذكرنا من نبو المقام على الإطلاق قائم في التقييد بالطاعة وفيه قول بسلامة الأمير ونظر بعين الرضا وغفلة عن وجه التخصيص الذي ذكرناه وهو بين لا غبار عليه وكذا وجه التقييد بالزمان المذكور والحق أن ما ذكره الزمخشري من الحمل وجه جميل إلا أن عدم ارتضائه ما روته الثقات عن ترجمان القرآن وغيره من تقدير الطاعة مع ظهور الدليل ومساعدة مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء لا وجه له كما لا يخفى على من له قلب
(15/43)

وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أن أمرنا بمعنى كثرنا واختاره الفارسي واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في مسنديهما والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة أي كثير النتاج وأمر كما قيل من باب ما لزم وعدى باختلاف الحركة فيقال أمرته بفتح الميم فأمر بكسرها وهو نظير شتر الله تعالى عينه فشترت وجدع أنفه فجدع وثلم سنه فثلمت وقيل : إن المكسور يكون متعديا أيضا وأمه قرأ به الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة وحكى ذلك النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس وأن رد الفراء له غير ملتفت إليه لصحة النقل وفي الكشف أن أمر بمعنى كثر كثير وأما أمرته المتعدي فقال الزمخشري في الفائق ما معناه : ما عول هذا القائل إلا على ما جاء في الخبر أعني مهرة مأمورة وما هو إلا من الأمر الذي هو ضد النهي وهو مجاز أيضا كما في الآية كأن الله تعالى قالها كوني كثيرة النتاج فكانت فهي إذن مأمورة على خلاف منهية وقيل : أصله مأمورة فعدل عنه إلى مأمورة لطلب الازدواج مثل قوله مأزورات غير مأجورات حيث لم يقل موزورات
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن أبي إسحق وأبو رجاء وعيسى بن عمرو وعبد الله بن أبي زيد والكلبي آمرنا بالمد وكذلك جاء عن ابن عباس والحسن وقتادة وأبي العالية وابن هرمز وعاصم وابن كثير وابن عمرو ونافع وهو اختيار يعقوب ومعناه عند الجميع كثرنا وبذلك أيد التفسير السابق على القراء المشهورة
وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدي وزيد بن علي وأبو العالية أمرنا بالتشديد وروي ذلك أيضا عن علي والحسن والباقر رضي الله تعالى عنهم وعاصم وأبي عمرو ومعناه على هذه القراءة قيل كثرنا أيضا وقيل : بمعنى وليناهم وجعلناهم أمراء واللازم من ذلك أمر بالضم إلحاقا له بالسجايا أي صار أميرا والمراد به من يؤمر ويؤتمر به سواء كان ملكا أم لا على أنه محذور لو أريد به الملك أيضا خلافا للفارسي لأن القرية إذا ملك عليها مترف ففسق ثم آخر ففسق ثم آخر ففسق وهكذا كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم فحق عليها القول أي كلمة العذاب السابق بحلوله أو بظهور معاصيهم أو بإنهماكهم فيها فدمرناها تدميرا 61 لا يكتنه كنهه ولا يوصف والتدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه وإهلاك جميعهم لصدور الفسق منهم جميعا فإن غير المترف يتبعه عادة لا سيما إذا كان المترف من علماء السوء ومن هنا قيل : المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها واتبعهم غيرهم فحق عليها القول الآية وقيل : هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وصح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي دخل عليها فزعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها قالت زينب : قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث هذا والظاهر أن أمرنا جواب إذا ولا تقديم ولا تأخير في الآية والإشكال المشهور فيها على هذا التقدير من أنها تدل على أنه سبحانه يريد إهلاك قوم ابتداء فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم وإرادة ضرر الغير ابتداء من غير استحقاق الاضرار كالاضرار كذلك مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة قد مرت الإشارة إلى جوابه وأجاب
(15/44)

عنه بعضهم بأن في الآية تقديما وتأخيرا والأصل إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا إهلاكها فحق عليها القول ونظيره على ما قيل قوله تعالى وإذا كنت فيهم وأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وآخرون بأن قوله تعالى أمرنا الخ في موضع الصفة لقرية وجواب إذا محذوف للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه كما قيل في قوله تعالى حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها إلى قوله تعالى ونعم أجر العاملين وقرأ الهذلي وهو آخر قصيدة : حتى إذا أسلكوهم في قتادة شلا كما تطرد الجمالة الشردا وقيل في الجواب عن ذلك غير ذلك فتدبر
م وكم أهلكنا أي كثيرا ما أهلكنا من القرون تمييز لكم والقرن على ما قال الراغب القوم المقترنون في زمان واحد وعن عبد الله بن أبي أوفى هو مدة مائة وعشرين سنة وعن محمد بن القاسم المازني وروي مرفوعا أنه مائة سنة وجاء أنه دعا لرجل فقال : عش قرنا فعاش مائة سنة أو مائة وعشرين وعن الكلبي أنه ثمانون سنة وعن ابن سيرين أنه أربعون سنة من بعد نوح من بعد زمنه عليه السلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت أحوالهم في القرآن العظيم ومن لم تقص وخص نوح عليه السلام بالذكر ولم يقل من بعد آدم لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب ففيه تهديد وإنذار للمشركين ولظهور حال قومه لم ينظموا في القرون المهلكة على أن ذكره عليه السلام رمز إلى ذكرهم ومن الأولى للتبيين لا زائدة والثانية لابتداء الغاية فلذا جاز اتحاد متعلقهما وقال الحوفي : من الثانية بدل من الأولى وليس بجيد
وكفى بربك أي كفى ربك وقد تقدم الكلام مفصلا آنفا في مثل هذا التركيب بذنوب عباده خبيرا بصيرا 71 محيطا بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها وتقديم الخبير لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مباديء الأعمال الظاهرة تقدما وجوديا وقيل تقدما رتيبا لأن العبرة بما في القلب كما يدل عليه إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم وإنما الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله إلى غير ذلك أو لعمومه من حيث يتعلق بغير المبصرات أيضا والجار والمجرور متعلق بخبيرا بصيرا على سبيل التنازع
وقال الحوفي : متعلق بكفى وهو وهم وفي تذييل ما تقدم بما ذكر إشارة على ما قيل إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما هن فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه وفي الكشاف أنه سبحانه نبه بقوله تعالى وكفى بربك الخ على أن الذنوب هي الأسباب المهلكة لا غير وبيانه كما في الكشف أنه جل شأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتم دل على أنه تعالى جازاهم بها وإلا لم ينتظم الكلام وأما الحصر فلأن غيرها لو كان له مدخل كان الظاهر ذكره في معرض الوعيد ثم لا يكون السبب تاما ويكون الكلام ناقصا عن أداء المقصود فلزم الحصر وهو المطلوب ولا أرى كلامه خاليا عن دسيسة اعتزال تظهر بالتأمل ولعله لذلك لم يتعرض له العلامة البيضاوي من كان يريد أي بعلمه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك العاجلة فقط من غير أن
(15/45)

يريد معها الآخرة كما ينبيء عنه الاستمرار المستفاد من زيادة كان هنا مع الاقتصار على مطلق الإرادة في قسيمه وقيل لو لم يقيد صدق على مريد العاجلة والآخرة والقسمة تنافي الشركة ودلالة الإرادة على ذلك لأنها عقد القلب بالشيء وخلوص همه فيه ليس بذاك والمراد بالعاجلة الدار الدنيا كما روى الضحاك أيضا وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى : من كان يريد حرث الدنيا وجوز أن يراد الحياة العاجلة كقوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ورجح الأول بأنه أنسب بقوله تعالى : عجلنا له فيها أي في تلك العاجلة فإن تلك الحياة واستمرارها من جملة ما عجل فالأنسب في ذلك كلمة من كما في قوله عز و جل ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ما نشاء أي ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد
لمن نريد تعجيل ما نشاء له وقال أبو إسحق الفزاري : أي لمن نريد هلكته ولا يدل عليه لفظ في الآية والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق أعني له فلا يحتاج إلى رابط لأنه في بدل المفردات أو المجرور بدل من الضمير المجرور بإعادة العامل وتقديره لمن نريد تعجيله له منهم والضمير راجع إلى من وهي موصولة أو شرطية وعلى التقديرين هي منبئة عن الكثرة فهو بدل بعض من كل وعن نافع أنه قرأ ما يشاء بالياء فقيل الضمير فيه لله تعالى فيتطابق القراءتان وقيل هو لمن فيكون مخصوصا بمن أراد الله تعالى به ذلك كشمروذ وفرعون ممن ساعده الله تعالى على ما أراده استدراجا له واستظهر هذا بأنه يلزم أن يكون على الأول التفات ووقوع الالتفات في جملة واحدة إن لم يكن ممنوعا فغير مستحسن كما فصله في عروس الأفراح وتقييد المعجل ولمعجل له بما ذكر من المشيئة والارادة لما أن الحكمة التي يدور عليها فلك التكوين ولا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه وليس المراد بأعمالهم في قوله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أعمال كلهم ولا كل أعمالهم وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر وذكر المشيئه في أحدهما والارادة في الآخر إن قيل بترادفهما تفنن
ثم جعلنا له مكان ما عجلنا له جهنم يصليها يقاسي حرها كما قال الخليل أو يدخلها كما قيل والجملة كما قال أبو البقاء حال من الهاء في له وقال أبو حيان : إنها حال من جهنم وهي مفعول أول لجعلناه و له الثاني
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وقال صاحب الغينان : مفعول جعلنا الثاني محذوف والتقدير مصيرا أو جزاء ولا حاجة إلى ذلك مذموما حال من فاعل يصلى وهو من الذم ضد المدح وفعله ذم وذمته ذيما ودأمته دأما بمعناه مدحورا 81 أي مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى قال الإمام : إن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن المنفعة فقوله تعالى جعلنا له جهنم يصلاها إشارة إلى البعد والطرد من رحمته تعالى فيفيد ذلك أن تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص ا ه ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الآية تدل على الخلود وحينئذ يتعين عندنا أن يكون ذلك المريد من الكفرة وفي إرشاد العقل السليم من كان يريد أي بأعماله التي يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول الكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثاني أهل الرياء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة وأنت تعلم أن إدراج
(15/46)

الفاسق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة إذا كان مؤمنا في التمثيل على القول بدلالة الآية على الخلود مما لا يستقيم على أصولنا نعم يصح على أصول المعتزلة وقد أدرج الزمخشري الفاسق في ذلك ودسائس الاعتزال منه عامله الله تعالى بعدله أكثر من أن تحصى وظاهر كلام أبي حيان اختيار كون المريد من الكفرة حيث قال : العاجلة هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ولابد من تقدير محذوف دل عليه المقابل في قوله تعالى ومن أراد الآخرة إلخ أي من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وقيل المراد من كان يريد العاجلة بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمجاهد للغنيمة والذكر والمهاجر للدنيا إلى آخر ما قال فحكى غير القول الأول والذي يكون يتعين عليه كون المريد من الكفرة بعد أن قدمه بقيل ويؤيده تفسير كثير من كان يريد العاجلة بمن كان همه مقصورا عليها لا يريد غيرها أصلا فإن ذلك مما لا يكاد يصدق على مؤمن فاسق فإنه لو لم يكن له إرادة للآخرة ما آمن بها وعلى القول بدخول الفاسق ونحوه ممن لا يحكم له عندنا بالخلود يمنع القول بدلالة الآية على الخلود ويقال لمن أدخل النار مبعد من رحمة الله تعالى ما دام فيها فيصدق على الفاسق مادام فيها كما يصدق على الكافر المخلد
وزعم بعضهم أن المريد هو المنافق الذي يغزو مع المسلمين للغنيمة لا للثواب فإن الآية نزلت فيه وفيه أنه يأبى ذلك ما سبق من أن السورة مكية غير آيات معينة ليست هذه منها على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فافهم ومن أراد الظاهر على طبق ما مر عن الضحاك أن يراد بعمله أيضا الآخرة أي الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم وسعى لها سعيها أي الذي يحق ويليق بها كما تنبيء عنه الإضافة الاختصاصية سواء كان السعي مفعولا به على أن المعنى عمل عملها أو مصدرا مفعولا مطلقا ويتحقق ذلك بالاتيان بما أمر الله تعالى والانتهاء عما نهى سبحانه عنه فيخرج من يتعبد من الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها وفائدة اللام سواء كانت للأجل أو للإختصاص اعتبار النية والاخلاص لله تعالى في العمل واختار بعضهم ولا يخلو عن حسن أنه لا حاجة إلى ما اعتبره الضحاك بل الأولى عدم اعتباره لمكان وسعى لها سعيها وحينئذ لا يعتبر فيما سبق أيضا ويكون في الآية على هذا من تحقير أمر الدنيا وتعظيم شأن الآخرة ما لا يخفى على من تأمل
وهو مؤمن إيمانا صحيحا لا يخالطه قادح وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيز من فلا تنفع إرادة ولا سعي بدونه وفي الحقيقة هو الناشيء عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب وعن بعض المتقدمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا هذه الآية فأولئك إشارة إلى من بعنوان اتصافه بما تقدم وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماء إلى الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أي فأولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان كان سعيهم مشكورا 91 مثابا عليه مقبولا عنده تعالى بحسن القبول وفسر بعضهم السعي ههنا بالعمل الذي يعبر عنه بفعل فيشمل جميع ما تقدم وهذا غير السعي السابق وقال بعضهم : هو هو وعلق المشكورية به دون قرينيه إشعارا بأنه العمدة فيها وأصل السعي كما قال الراغب المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد
(15/47)

في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثر ما يستعمل في الفعال المحمودة قال الشاعر : إن أجز علقمة بن سعد سعيه لا أجزه ببلاء يوم واحد كلا التنوين فيه على المشهور عند النحاة عوض عن المضاف إليه لا تنوين تمكين أي كل الفريقين وهو مفعول نمد مقدم عليه أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددا للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمكشكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلا على ما سبق تصريحا وتلويحا واتكالا على ما لحق عبارة وإشارة وقوله تعالى : هؤلاء وهؤلاء بدل من كلا بدل كل على وجهة التفصيل أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين للمضاف إليه المحذوف دفعا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم المفعول وقوله تعالى : من عطاء ربك أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له فهو اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول متعلق بنمد مغن عن ذكر ما به الامداد ومنبه على أن الامداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل بل بمحض التفضل كما قيل : وما كان عطاء ربك أي دنيويا كان أو أخرويا
والإظهار في موضع الإضمار لمزيد الاعتناء بشأنه والإشعار بعليته للحكم محظورا 02 ممنوعا عمن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبنية على الحكمة وإن وجد فيه ما يقتضي الحظر كالكفر وهذا في معنى التعليل لشمول الامداد للفريقين والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بمبدئيتها لكل من الامداد وعدم الحظر
أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض كيف في محل النصب بفضلنا على الحال وليست مضافة للجملة كما توهم والجملة بتمامها في محل نصب بانظر وهو معلق هنا والمراد كما قال شيخ الإسلام توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم من العطايا العاجلة فمن وضيع ورفيع وظالع وضليع ومالك ومملوك وموسر وصعلوك تعرف بذلك مراتب العطايا الآجلة وتفاوت أهلها على طريقة الاستدلال بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا 12 أي أكبر من درجات الدنيا وتفضيلها لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية لا يقادر قدرها ولا يكتنه كنهها
وفي بعض الآثار أن النبي قال : إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله تعالى الجميع فما يغبط أحد أحدا وعن الضحاك الأعلى يرى فضله على ما هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا وصح أن الله تعالى أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الحسن قال : حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله تعالى عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي وكان أحد الأشراف في الجاهلية وأبو سفيان بن حرب وأولئك المشايخ من قريش فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم فقال أبو سفيان : ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل : وكان أعقلهم أيها القوم إني والله قد
(15/48)

أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم دعى القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تنافسون عليه وفي الكشاف أنه قال : إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله تعالى لهم في الجنة أكبر وقريء أكثر تفضيلا بالثاء المثلثة هذا وجوز أن يراد بما به الامداد العطايا العاجلة فقط وحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصولهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثاني إرادة وصولا مما يوهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد ممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة الخ وإلى نحو هذا ذهب الحسن وقتادة فقد روي عنهما أنهما قالا : في معنى الآية إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق وذكر الرزق من بين ما به الامداد قيل على سبيل التمثيل وقيل تخصيص لدلالة السياق
وجوز أن يكون المراد به معناه اللغوي فيتناول الجاه ونحوه كما يقال السعادة أرزاق واعتبر الجمهور عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقا لشمول الامداد له حيث قالوا : لا يمنعه من عاص لعصيانه واعترض بأنه يقتضي كون القصر لدفع توهم اختصاص الامداد الدنيوي بالفريق الثاني مع أنه لم يسبق في الكلام ما يوهم ثبوته له فضلا عن إيهام اختصاصه وفيه تأمل وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى من عطاء ربك من الطاعات ويمد بها مريد الآخرة والمعاصي ويمد بها مريد العاجلة فيكون العطاء عبارة عما قسم الله تعالى للعبد من خير أو شر وأنت تعلم أنه يبعد غاية البعد إرادة المعاصي من العطاء ولعل نسبة ذلك للحبر غير صحيحة فلا تغفل واعلم أن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر والتقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدههما معا أو يرد شيئا والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين وفي قبول العمل في القسم الأول بحث عند الإمام قال : يحتمل عدم القبول لما روي عن رب العزة جل شأنه أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه
ويمكن أن يقال : إذا كانت إرادة الآخرة راجحة على إرادة الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الرائد خالصا للآخرة فيجب كونه مقبولا وإلى عدم القبول ذهب العز بن عبد السلام ومال إلى القول بأصل الثواب حجة الإسلام الغزالي حيث قال : لو كان اطلاع الناس مرجحا أو مقويا لنشاطه ولو فقد لم تترك العبادة ولو انفرد قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب وهذا ظاهر في أن الرياء ولو محرما لا يمنع أصل الثواب عنده إذا كان باعث العبادة أغلب وذكر ابن حجر أن الذي يتجه ترجيحه أنه متى كان المصاحب بقصد العبادة رياء مباحا لم يقتض إسقاط ثوابها من أصله بل يثاب على مقدار قصد العبادة وإن ضعف أو محرما اقتضى سقوطه من أصله للاخبار وقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره قد لا يعكر على ذلك لأن تقصيره بقصد المحرم
(15/49)

اقتضى سقوط قصد الأجر فلم تبق له ذرة من خير فلم تشمله الآية واتفقوا على عدم قبول ما ترجح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين وخص الغزالي الأحاديث الدالة بظاهرها على عدم القبول مطلقا بهذين القسمين وتمام الكلام في هذا المقام في الزواجر عن اقتراف الكبائر وأما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث والله تعالى أعلم
ومن باب الإشارة في الآيات سبحان الذي أسرى بعبده ليلا فيه أربع إشارات إشارة التقديس بسبحان فهو تنزيه له تعالى عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية وعن جميع ما يرتسم في الأذهان وإشارة الغيرة بعدم ذكر الاسم الظاهر من أسمائه الحسنى عزت أسماؤه وكذا بعدم ذكر اسمه وأشارة الغيب بذكر ضمير الغائب وإشارة السر بذكر الليل فإنه محل السر والنجوى وعن بعض الأكابر لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وذكر غير واحد أن في اختيار عنوان العبودية إشارة إلى أنها أعلى المقامات وقد أشير إلى ذلك فيما سلف وأصلها الذل والخضوع وحيث أن الذل لشيء لا يكون إلا بعد معرفته دلت العبودية لله تعالى على معرفته سبحانه وكمالها على كمالها ومن هنا فسر ابن عباس قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون بقوله : إلا ليعرفون وهي تسعة وتسعون سهما بعدد الأسماء الإلهية التي من أحصاها دخل الجنة لكل اسم إلهي عبودية مختصة به يتعبد له من يتعبد من المخلوقين ولم يتحقق بهذا المقام على كماله مثل رسول الله فكان عبدا محضا زاهدا في جميع الأحوال التي تخرجه عن مرتبة العبودية وشهد الله تعالى له بأنه عبد مضاف إليه من حيث هويته هنا واسمه الجامع في قوله سبحانه وإنه لما قام عبد الله ولما أمر بتعريف مقامه يوم القيامة قيد ذلك فقال عليه الصلاة و السلام أنا سيد ولد آدم ولا فخر بالراء أو الزاي على اختلاف الروايتين وهي لما علمت من معناها لا يمكن أن تكون نعتا إلهيا أصلا بل هي صفة خاصة لا اشتراك فيها فقد قال أبو يزيد البسطامي : ما وجدت شيئا يتقرب به إليه تعالى إذ رأيت كل نعت يتقرب به للألوهية فيه مدخل فقلت : يا رب بماذا أتقرب إليك قال : تقرب إلي بما ليس لي قلت : يا رب وما الذي ليس لك قال : الذلة والافتقار
وذكر أن العبد مع الحق في حال عبوديته كالظل مع الشخص في مقابلة السراج كلما قرب إلى السراج عظم الظل ولا قرب من الله تعالى إلا بما هو لك وصف أخص لا له سبحانه وكلما بعد عن السراج صغر الظل فإنه ما يبعدك عن الحق إلا خروجك عن صفتك التي تستحقها وطمعك في صفته تعالى وكذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وهما صفتان لله تعالى و ذق إنك أنت العزيز الكريم وهما كذلك وإلى هذا أشار بقوله أعوذ بك منك وأول بعضهم الليل بظلمة الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية وقال : إن الترقي والعروج لا يكون إلا بواسطة البدن وقد صرحوا بأنه أسري به وكذا عرج يقظة لم يفارق بدنه إلا أن العارف الجامي قال : إن ذلك إلى المحدد ثم ألقى البدن هناك وقد تقدم ذلك وفي أسرار القرآن أنه عليه الصلاة و السلام أسري به من رؤية أفعاله إلى رؤية صفاته ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته فرأى الحق بالحق وكانت صورته روحه وروحه عقله وعقله قلبه وقلبه سره وكأنه أراد أنه حصل له هذا الإسراء وإلا فإرادة أن الإسراء الذي في الآية هو هذا مما لا ينبغي
ولا يخفى أن الإسراء غير المعراج نعم قد يطلقون الإسراء على المعراج بل قيل إنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا
(15/50)

افترقا اجتمعا وقد ذكروا أن لجميع الوارثين معراجا إلا أنه معراج أرواح لا أشباح وإسراء أسرار لا أسوار ورؤية جنان لا عيان وسلوك ذوق وتحقيق لا سلوك مسافة وطريق إلى سموات معنى لا مغنى وهذا المعراج متفاوت حسب تفاوت مراتب الرجال وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس الله سره في معراجه ما يحير الألباب ويقضي منه العجب العجاب ولم يستبعد ذلك منه بناء على أنه ختم الولاية المحمدية عندهم ومن عجائب ما اتفق في زماننا أن رجلا يدعى بعبد السلام نائب القاضي في بغداد وكان جسورا على الحكم بالباطل شرع في ترجمة معراج الشيخ قدس الله سره بالتركية مع شرح بعض مغلقاته ولم يكن من خبايا هاتيك الزوايا فقبل أن يتم مرامه ابتلي والعياذ بالله تعالى بآكلة في فمه فأكلته إلى أذنيه فمات وعرج بروحه إلى حيث شاء الله تعالى نسأل الله سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة ونقل عن الشيخ قدس سره أن الإسراء وقع له ثلاثين مرة وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن أسراآته عليه الصلاة و السلام كانت أربعا وثلاثين واحد منها بجسمه والباقي بروحه وقد صرحوا أن الأول من خصائصه وفي الخصائص الصغرى وخص عليه الصلاة و السلام بالإسراء وما تضمنه من خرق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وأن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير مما يكون كرامة للولي والمشهور تسمية ذلك بطي المسافة وهو من أعظم خوارق العادات وأنكر ثبوته للأولياء الحنفية ومنهم ابن وهبان قال : ومن لولي قال طي مسافة يجوز جهول ثم بعض يكفر وهذا منهم مع قولهم إذا ولد من امرأته المشرقية مثلا يلحق به وإن لم يلتقيا ظاهرا غريب والكتب ملأى من حكايات الثقات هذه الكرامة لكثير من الصالحين وكأن مجهل قائلها بني تجهيله على أن في ذلك قولا بتداخل الجواهر وقد أحاله المتكلمون خلافا للنظام وبرهنوا على استحالته بما لا مزيد عليه وادعى بعضهم الضرورة في ذلك وأنت تعلم أن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير لا يتوقف على تداخل الجواهر لجواز أن يكون بالسرعة كما قالوا في الإسراء فليثبت للأولياء على هذا النحو على أن الكرامات كالمعجزات مجهولة الكيفية فنؤمن بما صح منها ونفوض كيفيته إلى من لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى ومثل طي المسافة ما يحكونه من نشر الزمان وأنا مؤمن ولله تعالى الحمد بما يصح نقله من الأمرين والمكفر جهول والمجهل ليس برسول والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب وأول المسجد الحرام بمقام القلب المحترم عن أن يطوف مشركو القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها والمسجد الأقصى بمقام الروح الأبعد من العالم الجسماني لنريه من ءاياتنا أي ءايت صفاتنا من جهة أنها منسوبة إلينا ونحن المشاهدون بها والأفاصل مشاهدة الصفات في مقام القلب عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا قال سهل : أي إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغفرة وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم وإن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطريق عليكم لترجعوا إلينا
وقال الوراق : إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى التيسير والقبول وقيل : غير ذلك إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الآية أي إن هذا القرآن يعرف أهله بنوره أقوم الطرق إلى الله تعالى وهو طريق الطاعة والاقتداء بمن أنزل عليه عليه الصلاة و السلام فإنه لا طريق يوصل إلى ذلك ولله تعالى در من قال : وأنت باب الله أي امريء أتاه من غيرك لا يدخل وذكروا أن القرآن يرشد بظاهره إلى معاني باطنه وبمعاني باطنه إلى نور حقيقته وبنور حقيقته إلى أصل
(15/51)

الصفة وبالصفة إلى الذات فطوبى لمن استرشد بالقرآن فإنه يدله على الله تعالى وقد أحسن من قال : إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى لمطايانا بنورك هاديا ويبشر أهله الذين يتبعونه أن لهم أجر المشاهدة وكشفها بلا حجاب ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا فيه إشارة إلى أدب من آداب الدعاء وهو عدم الاستعجال فينبغي للسالك أن يصبر حتى يعرف ما يليق بحاله فيدعو به وقال سهل : أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار لأن في الذكر الكفاية وربما يسأل الإنسان ما فيه هلاكه ولا يشعر وفي الأثر يقول الله تعالى شأنه من شغله ذكري عن مسألته أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وجعلنا الليل أي ليل السكون وظلمة البدن والنهار أي نهار الإبداع والروح آيتين يتوصل بهما إلى معرفة الذات والصفات فمحونا ءاية الليل بالفساد والفناء وجعلنا ءاية النهار مبصرة منيرة باقية بكمالها تبصر بنورها الحقائق لتبتغوا فضلا من ربكم وهو كمالكم الذي تستعدونه ولتعلموا عدد السنين والحساب أي لتحصوا عدد المراتب والمقامات من بدايتكم إلى نهايتكم بالترقي فيها وحساب أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم فتبدلوا السيء من ذلك بالحسن وكل شيء من العلوم والحكمة فصلناه بنور عقولكم الفرقانية الحاصلة لكم عند الكمال تفصيلا لا إجمال فيه كما في مرتبة العقل القرآني الحاصل عند البداية وكل إنسان ألرمناه طائره في عنقه الآية تقدم ما يصلح أن يكون من باب الإشارة فيها وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا للصوفية في هذا الرسول كغيرهم قولان فمنهم من قال إنه رسول العقل ومنهم من قال رسول الشرع وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها الآية إشارة إلى أنه سبحانه إذا أراد أن يخرب قلب المريد سلط عليه عساكر هوى نفسه وجنوده وشياطينه فيخرب بسنابك خيول الشهوات وآفات الطبعيات نعوذ بالله تعالى من ذلك من كان يريد العاجلة لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما عن ذوي العقول مدحورا في سخط الله تعالى وقهره ومن أراد الآخرة لصفاء استعداده وسلامة فطرته وسعى لها سعيها اللائق بها وهو السعي على سبيل الاستقامة وما ترتضيه الشريعة وقال بعضهم : السعي إلى الدنيا بالأبدان والسعي إلى الآخرة بالقلوب والسعي إلى الله تعالى بالهمم وهو مؤمن ثابت الإيمان لا تزعزعه عواصف الشبه فأولئك كان سعيهم مشكورا مقبولا مثابا عليه وعن أبي حفص أن السعي المشكور ما لم يكم مشوبا برياء ولا بسمعة ولا برؤية نفس ولا بطلب عوض بل يكون خالصا لوجهه تعالى لا يشاركه في ذلك شيء فلا تغفل كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك لا تأثير لارادتهم وسعيهم في ذلك وإنما هي معرفات وعلامات لما قدرنا لهم من العطاء ورأيت في الفتوحات المكية أن هذه الآية نحو قوله تعالى فألهمها فجورها وتقواها وهو نحو ما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد سمعت ما فيه وما كان عطاء ربك محظورا عن أحد مطيعا كان أو عاصيا لأن شأنه تعالى شأنه الإفاضة حسبما تقتضيه الحكمة انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض في الدنيا بمقتضى المشيئة والحكمة وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا فهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر رزقنا الله تعالى وإياكم ذلك إنه سبحانه الجواد المالك لا تجعل مع الله إلها آخر الخطاب للرسول والمراد به أمته على حد إياك أعني فاسمعي يا جاره أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب على حد ولو ترى إذ وقفوا فتقعد بالنصب على النهي والقعود قيل بمعنى المكث كما تقول هو قاعد في أسوأ حال أي ماكث ومقيم سواء كان
(15/52)

قائما أم جالسا وقيل بمعنى العجز والعرب تقول : ما أقعدك على المكارم أي ما أعجزك عنها وقيل : بمعنى الصيرورة من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أي صارت وتعقب هذا أبو حيان بأن مجيء قعد بمعنى صار مقصور عند الأصحاب على هذا المثل ولا يطرد وقال بعضهم : إن أطرد فإنما يطرد في مثل الموضع الذي استعملته العرب فيه أو لا يعني القول المذكور فلا يقال : قعد كاتبا بمعنى صار بل قعد كأنه سلطان لكونه مثل قعدت كأنها حربة ولعل من فسر القعود هنا بمعنى الصيرورة ذهب مذهب الفراء فإنه كما قال أبو حيان وغيره يقول باطراد ذلك وجعل منه قول الراجز المذكور في البحر والحواشي الشهابية ولا حجة فيه
وحكى الكسائي قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها واستعمال البغداديين على هذا ثم إنهم اختلفوا في القعود بمعنى العجز فقيل هو مجاز من القعود ضد القيام كالمقعد بمعنى العاجز عن القيام ثم تجوز به عن مطلق العجز وقيل هو كناية عن العجز فإن من أراد أخذ شيء يقوم له ومن عجز قعد وأما القعود بمعنى الزمان فحقيقة والاقعاد مجاز كأن مرضه أقعده وجعل هذا القعود بمعنى المكث حقيقة وتعقب بأن فيه نظرا إلا أن يريد حقيقة عرفية لا لغوية لأنه ضد القيام وإذا جعل القعود هنا بمعنى العجز فالفعل لازم متعلقة محذوف أي فتعجز عن الفوز بالمقصود مثلا و مذموما مخذولا 22 إما خبر أن لتقعد على القول الأخير وإما حالان مترادفان أي فتقعد جامعا على نفسك الخذلان من الله تعالى والذم من الملائكة والمؤمنين أو من ذوي العقول حيث اتخذت محتاجا مفتقرا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلها ونسبت إليه ما لا يصلح له وجعلته شريكا لمن له الكمال الذاتي وهو الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك على ما عداه وجوز أبو حيان أن يراد بالقعود حقيقته لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا متفكرا وهو من باب التعبير بالحال الغالبة وفي الآية إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة وقضى ربك أخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : أي أمر ألا تعبدوا إلا إياه أي بأن لا تعبدوا الخ على أن أن مصدرية والجار قبلها مقدر ولا نافية والمراد النهي ويجوز أن تكون ناهية كما مر ولا ينافيه التأويل بالمصدر كما أسلفناه أو أي لا تعبدوا الخ على أن أن مفسرة لتقدم ما تضمن معنى القول دون حروفه ولا ناهية لا غير وجوز بعضهم أن تكون أن مخففة وإسمها ضمير شأن محذوف ولا ناهية أيضا وهو كما ترى وجوز أن البقاء أن تكون أن مصدرية ولا زائدة والمعنى ألزم ربك عبادته وفيه أن الاستثناء يأبى ذلك وفي الكشاف تفسير قضى بأمر أمرا مقطوعا به وجعل ذلك غير واحد من باب التضمين وجعل المضمن أصلا والمتضمن قيدا وقال بعضهم : أراد أن القضاء مجاز عن الأمر المبتوت الذي لا يحتمل النسخ ولو كان ذلك من التضمين لكان متعلق القضاء الأمر دون المأمور به وإلا لزم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى فيحتاج إلى تخصيص الخطاب بالمؤمنين فيرد عليه بأن جميع أوامر الله تعالى بقضائه فلا وجه للتخصيص وتعقب بأن ما ذكر متوجه لو أريد بالقضاء أخو القدر أما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع المشار إليه فلا يرد ما ذكره ثم إن لزوم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى ادعاه ابن عباس فيما يروى للقضاء من غير تفصيل فقد أخرج أبو عبيد وابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : أنزل الله تعالى هذا الحرف على لسان نبيكم ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه فلصقصت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس وقضى ربك ولو نزلت
(15/53)

على القضاء ما أشرك به أحد وأخرج مثل ذلك عن جماعة من طريق سعيد بن جبير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما أيضا وهذا إن صح عجيب من ابن عباس لاندفاع المحذور بحمل القضاء على الأمر ولا أقل كما هو مروي عنه أيضا نعم قيل إن ذلك معنى مجازي للقضاء وقيل إنه حقيقي وفي مفردات الراغب القضاء فصل الأمر قولا كان أو فعلا وكل منهما إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه أي أمر ربك إلى آخر ما قال ثم إن هذا الأمر عند البعض بمعنى مطلق الطلب ليتناول طلب ترك العبادة لغيره تعالى ويغني عن هذا التجوز كما قيل إن معنى لا تعبدوا غيره اعبدوه وحده فهو أمر باعتبار لازمه وإنما اختير ذلك للإشارة إلى أن التخلية بترك ما سواه مقدمة مهمة هنا وأمر سبحانه أن ألا يعبدوا غيره تعالى لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا لمن كان في غاية العظمة منعما بالنعم العظام وما غير الله تعالى كذلك وهذا وما عطف عليه من الأعمال الحسنة كالتفضيل للسعي للآخرة
وبالوالدين إحسانا أي وبأن تحسنوا بهما أو أحسنوا بهما إحسانا ولعله إذا نظر إلى توحيد الخطاب فيما بعد قدر وأحسن بالتوحيد أيضا والجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ومنع تعلقه بالمصدر لأن صلته لا تتقدم عليه وعلقه الواحدي به فقال الحلبي : إن كان المصدر منحلا بأن والفعل فالوجه ما ذهب إليه الزمخشري وإن جعل نائبا عن الفعل المحذوف فالوجه ما قاله الواحدي ومذهب الكثير من النحاة جواز تقديم معموله إذا كان ظرفا مطلقا لتوسعهم في الجار والمجرور أخوه
إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما إما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة لتأكيدهما
قال الزمخشري : ولذا صح لحوق النون المؤكدة للفعل ولو أفردت إن لم يصح لحوقها واختلف في لحاقها بعد الزيادة فقال أبو إسحق بوجوبه وعن سيبويه القول بعدم الوجوب ويستشهد بقوله أبي حية النميري : فإما ترى لمتى هكذا فقد أدرك الفتيات الخفارا وعليه قول ابن دريد : أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى ومعنى عندك في كنفك وكفالتك وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخير عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان و أحدهما فاعل للفعل وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه و كلاهما معطوف عليه
وقرأ حمزة والكسائي إما يبلغان فأحدهما على ما في الكشاف بدل من ألف الضمير لا فاعل والألف علامة التثنية على لغة أكلوني البراغيث فإنه رد بأن ذلك مشروط بأن يسند الفعل المثنى نحو قاما أخواك أو لمفرق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه نحو قاما زيد وعمرو وما هنا ليس كذلك واستشكلت البداية بأن أحدهما على ذلك بدل بعض من كل لا كل من كل لأنه ليس عينه و كلاهما معطوف عليه فيكون بدل كل من كل لكنه خال عن الفائدة على أن عطف بدل الكل على غيره مما لم نجده وأجيب بأنا نسلم أمه لم يفد البدل
(15/54)

زيادة على المبدل منه لكنه لا يضر لأنه شأن التأكيد ولو سلم أنه لابد من ذلك ففيه فائدة لأنه بدل مقسم كما قاله ابن عطية فهو كقوله : فكنت كذي رجلين رجل صحيحة وأخرى رمى فيها الزمان فشلت وتعقب بأنه ليس من البدل المذكور لأنه شرطه العطف بالواو وأن لا يصدق المبدل منه على أحد قسميه وهما قد صدق على أحدهما وبالجملة هذا الوجه لا يخلو عن القيل والقال وعن أبي علي الفارسي أن أحدهما بدل من ضمير التثنية و كلاهما تأكيد للضمير وتعقيب بأن التأكيد لا يعطف على البدل كما لا يعطف على غيره وبأن أحدهما لا يصلح تأكيدا للمثنى ولا غيره فكذا ما عطف عليه وبأن بين إبدال البعض منه وتوكيده تدافعا لأن التأكيد يدفع إرادة البعض منه ومن هنا قال في الدر المصون : لا بد من إصلاحه بأن يجعل أحدهما بدل بعض من كل ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية و كلاهما توكيد له والتقدير أو يبلغان كلاهما وهو من عطف الجمل حينئذ لكن فيه حذف المؤكد وإبقاء تأكيده وقد منعه بعض النحاة وفيه كلام في مفصلات العربية ولعل المختار إضمار فعل لم يتصل به ضمير التثنية وجعل كلاهما فاعلا له فإنه سالم عما سمعت في غيره ولذا اختاره في البحر وتوحيد ضمير الخطاب في عندك وفيما بعده مع أن ما صرح به فيما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد وهو نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما فإنه لو قوبل الجمع بالجمع أو التثنية بالتثنية لم يحصل ذلك وذكر أنه وحد الخطاب في ولا تجعل للمبالغة وجمع في أن لا تعبدوا إلا إياه لأنه أوفق لتعظيم أمر القضاء فلا تقل لهما أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع أف هو اسم صوت ينبيء عن التضجر أو اسم فعل هو أتضجر واسم الفعل بمعنى المضارع وكذا بمعنى الماضي قليل والكثير بمعنى الأمر وفيه نحو من أربعين لغة والوارد من ذلك في القراآت سبع ثلاث متواترة وأربع شاذة فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين وهو للتنكير فالمعنى أتضجر تضجرا ما وإذا لم ينون دل على تضجر مخصوص وقرأ ابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين والباقون بالكسر دون تنوين وهو على أصل التقاء الساكنين والفتح للخفة ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء وقرأ نافع في رواية عنه بالرفع والتنوين وأبو السمال بالضم للاتباع من غير تنوين وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه بالنصب والتنوين وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالسكون ومحصل المعنى لا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الايذاء قياسا جليا لأنه يفهم بطريق الأولى ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا أو كثيرا وخص بعض أنواع الايذاء بالذكر في قوله تعالى ولا تنهرهما للاعتناء بشأنه والنهر كما قال أراغب الزجر بإغلاظ وفي الكشاف النهي والنهر والنهم أخوات أي لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك
وقال الإمام : المراد من قوله تعالى ولا تقل لهما أف المنع من إظهار الضجر القليل والكثير والمراد من قوله سبحانه ولا تنهرهما المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما ولذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا فتأمل
م وقل لهما بدل التأفيف والنهر قولا كريما 32 أي جميلا لا شراسة فيه قال الراغب : كل شيء يشرف
(15/55)

في بابه فإنه يوصف بالكرم وجعل ذلك بعض المحققين من وصف الشيء باسم صاحبه أي قولا صادرا عن كرم ولطف ويعود بالآخرة إلى القول الجميل الذي يقتضيه الأدب ويستدعيه النزول عن المروءة مثل أن يقول يا أبتاه ويا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وليس القول الكريم مخصوصا بذلك كما يوهمه اقتصار الحسن فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم عليه فإنه من باب التمثيل وكذا ما أخرج عن زهير بن محمد أنه قال فيه : إذا دعواك فقل لبيكما وسعديكما
وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر عن أبي الهداج أنه قال : قلت لسعيد بن المسيب كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من بر الوالدين فقد عرفته إلا قوله سبحانه : وقل لهما قولا كريما ما هذا القول الكريم فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ
واخفض لهما جناح الذل أي تواضع لهما وتذلل وفيه وجهان الأول أن يكون على معنى جناحك الذليل ويكون جناح الذل بل خفض الجناح تمثيلا في التواضع وجاز أن يكون استعارة في المفرد وهو الجناح ويكون الخفض ترشيحا تبعيا أو مستقلا الثاني أن يكون من قبيل قول لبيد : وغداة ريح قد كشفت وقرة إذا أصبحت بيد الشمال زمامها فيكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بأن يشبه الذل بطائر منحط من علو تشبيها مضمرا ويثبت له الجناح تخييلا والخفض ترشيحا فإن الطائر إذا أراد الطيران والعلو نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع فإذا ترك ذلك خفضهما وأيضا هو إذا رأى جارحا يخافه لصق بالأرض وألصق جناحيه وهي غاية خوفه وتذلله وقيل المراد بخفضهما ما يفعله إذا ضم فراخه للتربية وأنه أنسب بالمقام وفي الكشف أن في الكلام استعارة بالكناية ناشئة من جعل الجناح الذل ثم المجموع كما هو مثل في غاية التواضع ولما أثبت لذله جناحا أمره بخفضه تكميلا وما عسى يختلج في بعض الخواطر من أنه لما أثبت لذله جناحا فالأمر برفع ذلك الجناح أبلغ في تقوية الذل من خفضه لأن كمال الطائر عند رفعه فهو ظاهر السقوط إذا جعل المجموع تمثيلا لأن الغرض تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس وأما على الترشيح فهو وهم لأن جعل الجناح المخفوض للذل يدل على التواضع وأما جعل الجناح وحده فليس بشيء ولهذا جعل تمثيلا فيما سلف
وقرأ سعيد بن جبير من الذل بكسر الذال وهو الانقياد وأصله في الدواب والنعت من ذلول وأما الذل بالضم فأصله في الإنسان وهو ضد العز والنعت منه ذليل من الرحمة أي من فرط رحمتك عليهما فمن ابتدائية على سبيل التعليل قال في الكشف : ولا يحتمل البيان حتى يقال لو كان كذا لرجعت الاستعارة إلى التشبيه إذ جناح الذل ليس من الرحمة أبدا بل خفض جناح الذل جاز أن يقال إنه رحمة وهذا بين واستفادة المبالغة من جعل جنس الرحمة مبدأ للتذلل فإنه لا ينشأ إلا من رحمة تامة وقيل من كون التعريف للاستغراق وليس بذاك وإنما احتاجا إلى ذلك لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة فيحتاج إلى أشد رحمة ولله تعالى در الخفاجي حيث يقول : يا من أتى يسأل عن فاقتي ما حال من يسأل من سائله ما ذلة السلطان إلا إذا أصبح محتاجا إلى عامله
(15/56)

وقل رب ارحمهما وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية وهي رحمة الآخرة ولا تكتف برحمتك الفانية وهي ما تضمنها الأمر والنهي السالفان وخصت الرحمة الأخروية بالارادة لأنها الأعظم المناسب طلبه من العظيم ولأن الرحمة الدنيوية حاصلة عموما لكل أحد وجوز أن يراد ما يعم الرحمتين وأيا ما كان فهذه الرحمة التي في الدعاء قيل إنها مخصوصة بالأبوين المسلمين وقيل عامة منسوخة بآية النهي عن الاستغفار وقيل عامة ولا نسخ لأن تلك الآية بعد الموت وهذه قبله ومن رحمة الله تعالى لهما أن يهديهما للإيمان فالدعاء بها مستلزم للدعاء به ولا ضير فيه والقول بالنسخ أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما ربياني الكاف للتشبيه والجار والمجرور صفة مصدر مقدر أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة وجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل : رب ارحمهما وربهما كما رحماني وربياني صغيرا 42 وفيه بعد
وجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي وتعقب بأنه مخالف لمعناها المشهور مع إفادة التشبيه ما أفاده التعليل وقال الطيبي إن الكاف لتأكيد الوجود كأنه قيل رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله تعالى : مثل ما أنكم تنطقون قال في الكشف وهو وجه حسن وأما الحمل على أن ما المصدرية جعلت حينا أي ارحمهما في وقت أحوج ما يكونان إلى الرحمة كوقت رحمتهما علي في حال الصغر وأنا كلحم علي وضم وليس ذلك إلا في القيامة والرحمة هي الجنة والبت بأن هذا هو التحقيق فليت شعري الاستقامة وجهه في العربية ارتضاه أم لطباقه للمقام وفخامة معناه ا ه وهو كما أشار إليه ليس بشيء يعول عليه والظاهر أن الأمر للوجوب فيجب على الولد أن يدعو لوالديه بالرحمة ومقتضى عدم إفادة الأمر التكرار أنه يكفي في الامتثال مرة واحدة وقد سئل سفيان كم يدعو الانسان لوالديه في اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة فقال : نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في آخر التشهدات كما أن الله تعالى قال يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه فكانوا يرون التشهد يكفي في الصلاة على النبي وكما قال سبحانه : واذكروا الله تعالى في أيام معدودات ثم يكبرون في أدبار الصلاة هذا وقد بالغ عز و جل في التوصية بهما من وجوه لا تخفى ولو لم يكن سوى أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمهما في سلك القضاء بهما معا لكفى وقد روى ابن حبان والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم عن النبي قال : رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخط الله تعالى في سخط الوالدين وصح أن رجلا جاء يستأذن النبي في الجهاد معه فقال : أحي والداك قال : نعم قال : ففيهما فجاهد وجاء أنه عليه الصلاة و السلام قال : لو علم الله تعالى شيئا أدنى من الأف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار ورأى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال : يا ابن عمر أتراني جزيتها قال : لا ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيرا
(15/57)

وروى مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال : جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي عليه الصلاة و السلام : فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي فقال : إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول : إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي : ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله قال : سله يا رسول الله هل أنفقته إلا على عماته وخالاته أو على نفسي فقال النبي : ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال الشيخ : والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي فقال : قل وأنا أسمع فقال : قلت غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجنى عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتملل كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيها أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه برد على أهل الصواب موكل قال : فحينئذ أخذ النبي بتلابيب ابنه وقال : أنت ومالك لأبيك والأم مقدمة في البر على الأب فقد روى الشيخان يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال : أمك قال : ثم من قال : أمك قال : ثم من قال : أمك قال : ثم من قال : أبوك ولا يختص البر بالحياة بل يكون بعد الموت أيضا فقد روى ابن ماجة يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما قال : نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة قال الرجل : ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال : فاعمل به
وأخرج البيهقي عن أنس قال : قال رسول الله إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى بارا وأخرج عن الأوزاعي قال : بلغني أن من عق والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستسب لهما كتب بارا ومن بر والديه في حياتهما ثم لم يقض دينا إن كان عليهما ولم يستغفر لهما واستسب لهما كتب عاقا وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي قال : من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برا
وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار فقلت له : أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال : إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله يقول إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه
(15/58)

وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله تعالى عنه قال : قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال : أتدري لم أتيتك قال : قلت لا قال : سمعت رسول الله يقول : من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك وقد ورد في فضل البر ما لا يحصى كثرة من الأحاديث وصح عد العقوق من أكبر الكبائر وكونه منها هو ما اتفقوا عليه وظاهر كلام الأكثرين بل صريحه أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الوالدان كافرين وإن يكونا مسلمين والتقييد بالمسلمين في الحديث الحسن أنه سئل عن الكبائر فقال : تسع أعظمهن الإشراك وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين إما لأن عقوقهما أقبح والكلام هناك في ذكر الأعظم على أحد التقديرين في عطف وقتل المؤمن وما بعده وإما لأنهما ذكرا للغالب كما في نظائر أخر
وللحليمي ههنا تفصيل مبني على رأي له ضعيف وهو أن العقوق كبيرة فإن كان معه نحو سب ففاحشة وإن كان عقوقه هو استثقاله لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجههما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فصغيرة فإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا فيتركا أمره ونهيه ويلحقهما من ذلك ضرر فكبيرة
وبينهم في حد العقوق خلاف ففي فتاوى البلقيني مسئلة قد ابتلي الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل المقصود إذ الناس تحملهم أغراضهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفا فلابد من مثال ينسج على منواله وهو أنه مثلا لو كان له على أبيه حق شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه ولو حبسه فهل يكون ذلك عقوقا أو لا أجاب هذا الموضع قال فيه بعض الأكابر : إنه يعسر ضبطه وقد فتح الله تعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسنا فأقول : العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذيه بما لو فعله مع غيره كان محرما من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إليه إلى الكبائر أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل منه الخوف على الولد من فوت نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب فيه أو فيه وقيعة في العرض لها وقع
وبيان هذا الضابط أن قولنا : أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرما فمثاله لو شتم غير أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة وخرج بقولنا : أن يؤذي ما لو أخذ فلسا أو شيئا يسيرا من مال أحد والديه فإنه لا يكون كبيرة وإن كان لو أخذه من مال غير والديه بغير طريق معتبرا كان حراما لأن أحد الوالدين لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو فإن أخذ مالا كثيرا بحيث يتأذى المأخوذ منه من الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي فكذلك هنا لكن الضابط فيما يكون حراما صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين وخرج بقولنا : ما لو فعله مع غير أحد الوالدين كان محرما نحو ما إذا طالب بدين فإن هذا لا يكون عقوقا لأنه إذا فعله مع غير الوالدين لا يكون محرما فأفهم ذلك فإنه من النفائس وأما الحبس فإن فرعناه على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق وإن فرعنا على منع حبسه المصحح عند آخرين
(15/59)

فالحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيب إليه ولا يكون الولد بطلب ذلك عاقا إذا كان معتقدا الوجه الأول فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لا عسار ونحوه فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقا لأنه لو فعله مع غير والده حيث لا يجوز كان حراما وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء وقد شكا بعض ولد الصحابة إلى رسول الله ولم ينهه عليه الصلاة و السلام وهو الذي لا يقر على باطل وأما إذا نهر أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير الوالدين وكان محرما كان في حق أحد الوالدين كبيرة وإن لم يكن محرما وكذا أف فإن ذلك يكون صغيرة في حق أحد الوالدين ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر وقولنا أن يخالف أمره ونهيه فيما يدخل منه الخوف الخ أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك وقد ثبت عن النبي من حديث عبد الله بن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي للجهاد أنه عليه الصلاة و السلام قال له : أحي والداك قال : نعم قال : ففيهما فجاهد وفي رواية ارجع إليهما ففيهما المجاهدة وفي أخرى جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال : ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما وفي إسناده عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه وروى أبو سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى رسول الله فقال : هل لك أحد باليمن قال : أبواي قال : أذنا لك قال : لا قال : فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما ورواه أبو داود وفي إسناده من اختلف في توثيقه وقولنا : ما لم يتهم الولد في ذلك أخرجنا به ما لو كان الوالد كافرا فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حرا أو عبدا وقولنا : أو أن يخالفه في سفر الخ أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب البحر يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه أنه لا يجب الإستئذان ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيدا وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في بلده خلافا لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ قلب وإرشاد أستاذ ونحو ذلك فإن لم يتوقع شيئا من ذلك احتاج إلى الإستئذان وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره تضييع للواجب فللوالد المنع وأما إذا كان الولد بسفره يحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف من سفره تهمة فإنه يمنع من ذلك وذلك في الأنثى أولى وأما مخالفة أمره ونهيه فيما لا يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية وإنما هو مجرد إرشاد للولد فلا تكون عقوقا وعدم المخالفة أولى ا ه كلام البلقيني وذكر بعض المحققين أن العقوق فعل ما يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفا ويحتمل أن العبرة بالمتأذي لكن لو كان الوالد مثلا في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقا لا يفسق ولده بمخالفته حينئذ لعذره وعليه فلو كان متزوجا بمن يحبها فأمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره لا إثم عليه نعم الأفضل طلاقها امتثالا لأمر والده فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال : إن أبي لم يزل بي حتى زوجني امرأة وأنه الآن يأمرني بفراقها قال : ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله سمعته يقول : الولد أوسط أبواب الجنة فحافظ
(15/60)

على ذلك إن شئت أو دع وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله فذكر ذلك فقال رسول الله : طلقها وكذا سائر أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها متساهلا فيها ولرأوا أنه لا إيذاء بمخالفتها ثم قال : هذا هو الذي يتجه في تقرير الحد وتعقب ما نقل عن البلقيني بأن تخصيصه العقوق بفعل المحرم الصغيرة بالنسبة للغير فيه وقفة بل ينبغي أن المدأر على ما ذكر من أنه لو فعل معه ما يتأذى به تأذيا ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم إليه ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ إيذاء عظيما فتأمل
ثم إن السبب في تعظيم أمر الوالدين أنهما السبب الظاهري في إيجاده وتعيشه ولا يكاد تكون نعمة أحد من الخلق على الولد كنعمة الوالدين عليه لا يقال عليه : إن الوالدين إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام لهما عليه وقد حكى أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة وقي لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد : ما نكتب على قبرك فقال : اكتبوا عيه
هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج وعدم الولد : وتركت فيهم نعمة العدم التي سبقت وصدت عن نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة ترمي بهم في موبقات الآجل وقال ابن رشيق : قبح الله لذة لشقانا نالها الأمهات والآباء نحن لولا الوجود لم نألم الفق د فإيجادنا عليه بلاء وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم منه عليك أم والدك فقال : الأستاذ أعظم منه لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عن تعليمي حتى أوقفني على نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد لأنا نقول : هب أنه في أول الأمر كان المطلوب لذة الوقاع إلا أن الاهتمام لإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد على الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات وقد يقال : لو كان الادخال في عالم الكون والفساد والتعريض للإكدار والإنكار دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق الله تعالى لأنه سبحانه الفاعل الحقيقي وأيضا يعارض ذلك التعريض التعريض للنعيم المقيم والثواب العظيم كما لا يخفى على ذي العقل السليم ولعمري أن إنكار حقهما إنكار لأجل الأمور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ربكم أعلم بما في نفوسكم من قصد البر وانعقاد ما يجب من التوقير لهما وهو على ما قيل تهديد على أن يضمر لهما كراهة واستثقالا وفي الكشف أنه كالتعليل لما أكد عليهم من الإحسان إلى الوالدين بأن الله تعالى أعلم بما في ضمائرهم من ذلك فمجازيهم على حسبه والظاهر أنه
(15/61)

وعد لمن أضمر البر ووعيد لغيره لكن غلب ذلك الجانب لأن الكلام بالأصالة فيه إن تكونوا صالحين قاصدين الصلاح والبر دون العقوق والفساد فإنه تعالى شأنه كان للأوابين أي الراجعين إليه تعالى التائبين عما فرط منهم مما لا يكاد يخلو من البشر غفورا 52 لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية وهذا كما في الكشف تيسير بعد التأكيد والتعسير مع تضييق وتحذير وذلك أنه شرط في البادرة التي تقع على الندرة قصد الصلاح وعبر عنه بنفس الصلاح ولم يصرح بصدورها بل رمز إليه بقوله تعالى فإنه كان للأوابين غفورا لدلالة المغفرة على الذنب والأواب أيضا فإن التوبة عن ذنب يكون بشرط قصد الصلاح وأن يتوب عنه مع ذلك التوبة البالغة وهو استئناف ثان يقتضيه مقام التأكيد والتشديد كأنه قيل : كيف نقوم بحقهما وقد يندر بوادر فقيل إذا بنيتم الأمر على الأساس وكان المستمر ذلك ثم اتفق بادرة من غير قصد إلى المساءة فلطف الله تعالى يحجز دون عذابه قائما بالكلاءة وكون الآية في البادرة تكون من الرجل إلى والديه مروي عن ابن جبير وجوز أن تكون عامة لكل تائب ويندرج الجاني على أبويه التائب من جنايته اندراجا أوليا وءات ذا القربى أي ذا القرابة منك حقه الثابت له قيل ولعل المراد بذي القربى المحارم وبحقهم النفقة عليهم إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب عما ينبيء عنه قوله تعالى والمسكين وابن السبيل فإن المأمور به في حقهما المساواة المالية أي وآتهما حقهما مما كان مفترضا بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهي عن التبذير وعن الإفراط في القبض والبسط فإن الكل من التصرفات المالية واستدل بعضهم بالآية على إيجاب نفقة المحارم المحتاجين وإن لم يكونوا أصلا كالوالدين ولا فرعا كالولد والكلام من باب التعميم بعد التخصيص فإن ذا القربى يتناول الوالدين لغة وإن لم يتناوله عرفا فلذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف : لو أوصى لذوي قرابته لا يدخلان وفي المعراج عن النبي من قال لأبيه قربى فقد عقه والغرض من ذلك تناول غيرهما من الأقارب والتوصية بشأنه
وفي الكشف أن الحق أن إيتاء الحق عام والمقام يقتضي الشمول فيتناول الحق المالي وغيره من الصلة وحسن المعاشرة فلا تنتهض الآية دليلا على إيجاب نفقة المحارم وتعقب أن قوله تعالى حقه يشعر باستحقاق ذلك لاحتياجه مع أنه إذا عم دخل فيه المالي وغيره فكيف لا تنتهض الآية دليلا وأنا ممن يقول بالعموم وعدم اختصاص ذي القربى بذي القرابة الولادية والعطف وكذا ما بعده لا يدل على تخصيص قطعا فتدبر وقيل : المراد بذي القربى أقارب الرسول وروي ذلك عن السدي وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قال لرجل من أهل الشام : أقرأت القرآن قال : نعم قال : أفما قرأت في بني إسرائيل فآت ذا القربى حقه قال : وإنكم القرابة الذي أمر الله تعالى أن يؤتى حقه قال : نعم ورواه الشيعة عن الصادق رضي الله تعالى عنه وحقهم توقيرهم وإعطاؤهم الخمس وضعف بأنه لا قرينة على التخصيص وأجيب بأن الخطاب قرينة وفيه نظر وما أخرجه البزار وأبو يعلي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري من أنه لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله فاطمة فأعطاها فدكا لا يدل على تخصيص الخطاب به عليه الصلاة و السلام على أن في القلب من صحة الخبر شيء بناء على أن السورة مكية وليست هذه الآية من المستثنيات وفدك لم تكن إذ ذاك تحت تصرف رسول الله بل طلبها رضي الله تعالى عنها ذلك إرثا بعد وفاته عليه الصلاة و السلام كما هو مشهور يأبى القول
(15/62)

بالصحة كما لا يخفى ولا تبذر تبذيرا 62 نهى عن صرف المال إلى من لا يستحقه فإن التبذير إنفاق في غير موضعه مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه قال : التبذير إنفاق المال في غير حقه وفي مفردات الراغب وغيره أن أصله إلقاء البذر وطرحه ثم استعير لتضييع المال وعد من ذلك بعضهم تشييد الدار ونحوه وفرق الماوردي بينه وبين الإسراف بأن الإسراف تجاوز في الكمية وهو جهل بمقادير الحقوق والتبذير تجاوز في موقع الحق وهو جهل بالكيفية وبمواقعها وكلاهما مذموم والثاني أدخل في الذم
وفسر الزمخشري التبذير هنا بتفريق المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف وذكر أن فيه إشارة إلى أن التبذير شامل للإسراف في عرف اللغة ويراد منه حقيقة وإن فرق بينهما بما فرق وفي الكشف بعد نقل الفرق والنص على أن الثاني أدخل في الذم أن الزمخشري لم يغب ذلك عليه لأن الاشتقاق يرشد إليه وإنما أراد أنه في الآية يتناول الإسراف أيضا بطريق الدلالة إذ لا يفترقان في الأحكام لا سيما وقد عقبه سبحانه بالحث على الاقتصاد المناسب لاعتبار الكمية المرشد إلى إرادته من النص وتعقب بأنه إذا كان التبذير أدخل في الذم من الاسراف كيف يتناوله بطريق الدلالة والنهي عن الاسراف فيما بعد يبعد إرادته ههنا فتأمل
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين تعليل للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزا في قرن الشياطين والإخوان جمع أخ والمراد به الممائل مجازا أي أنهم مماثلون لهم في صفات السوء التي من جملتها التبذير أو الصديق والتابع مجازا أيضا أي أنهم أصدقاؤهم وأتباعهم فيما ذكر من التبذير والصرف في المعاصي فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر ما لا خير فيه من المناهي والملاهي أو القرين كما سبق أيضا أي أنهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد
وكان الشيطان لربه كفورا 72 من تتمة التعليل أي مبالغة في كفران نعمه تعالى لأن شأنه صرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر بالله تعالى وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به
وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو صرفها إلى ما خلقت له وفي التعرض لعنوان الربوبية إشعار بكمال عتوه كما لا يخفى ويشعر كلام بعضهم بجواز حمل الكفر هنا على ما يقابل الإيمان وليس بذاك
وإما تعرضن عنهم أي عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل على ما هو الظاهر وقيل عن السائلين مطلقا والإعراض في الأصل إظهار العرض أي الناحية فمعنى أعرض عنه ولى مبديا عرضه والمراد به هنا حقيقته على ما قيل بناء على ما روي من أنه كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت فنزلت وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها والخطاب عام له ولغيره والمراد بالرحمة على ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد والضحاك الرزق ونصب ابتغاء على أنه مفعول له
قال في الكشف قد أقيم ابتغاء الرزق مقام فقدانه وفيه لطف فكان ذلك الإعراض لأجل السعي لهم وهو
(15/63)

من وضع المسبب موضع السبب كما أوضحه في الكشاف وقد يفسر الإبتغاء بالإنتظار ويجوز جعله في موضع الحال من ضمير تعرضن أي مبتغيا وجعله حالا من الضمير المجرور بعيد
وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم النفع وترك الإعطاء لأنه لازمه عرفا والابتغاء مجازا عن عدم الاستطاعة والتعلق أيضا بالشرط وأيد ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال : جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله فقال : لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ظنوا ذلك من غضب رسول الله عليه الصلاة و السلام عليهم فأنزل الله سبحانه : وإما تعرضن عنهم الآية وفسر الرحمة بالفيء لكن أنت تعلم إن هذا غير ظاهر بناء على ما سمعت من أن هذه السورة مكية والآية المذكورة ليست من المستثنيات وكأنه لهذا قيل : إن المعنى إن ثبت وتحقق في المستقبل أنك أعرضت عنهم في الماضي ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل الخ والمراد سببية الثبوت للأمر بالقول فتأمل
وجوز أن يتعلق ابتغاء بجواب الشرط أعني قوله تعالى فقل لهم قولا ميسورا 82 أي إما تعرضن عنهم فقل لهم ذلك ابتغاء رحمة من ربك وقدم هذا الوجه على سائر الأوجه الزمخشري واعترض بأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها في غير باب إما وما يلحق بها وأجيب بأنه ذكره على المذهب الكوفي المجوز للعمل مطلقا أو أراد التعلق المعنوي فيضمر ما ينصبه ويجعل المذكور جاريا مجرى التفسير والإعراض على هذا على حقيقته واحتمال كونه كناية مختص بتعلقه بالشرط على ما زعمه الطيبي والحق عدم الاختصاص كما لا يخفى
وجملة ترجوها على سائر الأوجه يحتمل أن تكون وصفا لرحمة وأن تكون حالا من الفاعل و من ربك متعلق بترجوها
وجوز أن يكون صفة لرحمة والميسور اسم مفعول من يسر الأمر بالبناء للمجهول مثل سعد الرجل ومعناه السهل أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا قال الحسن : أمر أن يقول لهم نعم وكرامة وليس عندنا اليوم فإن يأتنا شيء نعرف حقكم وقيل الميسور مصدر وجعل صفة مبالغة أو بتقدير مضاف أي قولا ذا ميسور أي يسر والمراد به القول المشتمل على الدعاء باليسر مثل أغناكم الله تعالى ويسر لكم وفسره ابن زيد برزقنا الله تعالى وإياكم بارك الله تعالى فيكم
وتعقب ذلك بأن الميسور معناه ذا يسر ولهذا وقع صفة لقول فأي ضرورة في أن يجعل مصدرا ثم يؤول بذا ميسور ودفع بأنه إذا أريد القول المشتمل على الدعاء لا يكون القول حينئذ ميسورا بل ميسر لما أرادوه
وميسور مصدرا مما ثبت في اللغة من غير تكلف فجعله صفة مبالغة أو بتقدير مضاف له وجه وجيه وفيه تأمل
والحق أن اعتباره مصدرا خلاف الظاهر وفي الآية على القول الأخير دلالة على أن الدعاء للسائل مما لا بأس به وعن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه كان لا يرى أن يقال للسائل إذا لم يعط شيئا : رزقك الله تعالى ونحوه قائلا إن ذلك مما يثقل عليه ويكره سماعه ولا ينبغي أن يذكر اسم الله تعالى لمن لا يهش له ولعمري أنه مغزى بعيد وأفاد بعضهم أن في الآية دليلا على النهي عن الإعراض بالمعنى الأول فإن المعنى إن أردت الإعراض عنهم فقل لهم قولا ميسورا ولا تعرض وله وجه وجيه لا يخفى على من له بصر حديد واستشكل العز بن عبد السلام جعل ابتغاء من متعلقات الشرط بأنا مأمورون بالرد الجميل إن انتظرنا شيئا يحصل لنا أو لم ننتظر وأجاب بأن
(15/64)

المراد بالقول الميسور الوعد بالعطاء فيكون مفاد الآية لا تعدوا إلا إذا كنتم على رجاء من حصول ما تعدون به فالتقييد بالابتغاء في غاية المناسبة للشرط لأنه لا يحسن الوعد عند عدم الرجاء لما أنه يؤدي إلى الاخلاف وهو كما ترى
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر زجرا لهما عنهما وحملا على ما بينهما من الاقتصاد والتوسط بين الافراط والتفريط وذلك هو الجود الممدوح فخير الأمور أوساطها وأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال قال رسول الله ما عال من اقتصد وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة وفي رواية عن أنس مرفوعا التدبير نصف المعيشة والتودد نصف العقل والهم نصف الهرم وقلة العيال أحد اليسارين وكان يقال حسن التدبير مع العفاف خير من الغنى مع الإسراف فتقعد ملوما أي فتصير ملوما عند الله تعالى وعند الناس محسورا 92 نادما مغموما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسره السفر أعياه أوقفه حتى انقطع عن رفقته قال الراغب : يقال للمعيي حاسر ومحسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وهذا بيان قبح الإسراف المفهوم من النهي الأخير وبين في أثره لأن غائلة الإسراف في آخره وحيث كان قبح الشح المفهوم من النهي الأول مقارنا له معلوما من أول الأمر روعي ذلك في التصوير بأقبح الصور ولم يسلك فيه مسلك ما بعده كذا قيل وفي أثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم ما يقتضيه وقال بعض المحققين : الأولى أن يكون ذلك بيانا لقبح الأمرين ويعتبر التوزيع فتقعد منصوب في جواب النهيين والملوم راجع إلى قوله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك كما قيا :
(15/65)

إن البخيل ملوم حيثما كانا
والمحسور راجع إلى قوله سبحانه : ولا تبسطها وليس ببعيد وفي الكشاف عن جابر بينا رسول الله جالس إذ أتاه صبي فقال : إن أمي تستكسيك درعا فقال : من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت : قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظر فلم يخرج عليه الصلاة و السلام إلى الصلاة فنزلت وأنت تعلم أنه يأبى هذا كون السورة مكية والآية ليست من المستثنيات ولعل الخبر لم يثبت فعن ولي الدين العراقي أنه لم يجده في شيء من كتب الحديث أي بهذا اللفظ وإلا فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : جاء غلام إلى النبي فقال : إن أمي تسألك كذا وكذا فقال : ما عندنا اليوم شيء قال : فتقول لك اكسني قميصك فخلع عليه الصلاة و السلام قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت وأخرج ابن أبي حاتم عن المنهال ابن عمر ونحوه وليس في شيء منهما حديث أذان بلال وما بعده وقيل : إنه عليه الصلاة و السلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن الفزاري فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول : أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امريء منهما ومن يخفض اليوم لم يرفع
(15/0)

فقال : يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل وكانوا جميعا من المؤلفة قلوبهم فنزلت وفيه الإباء السابق كما لا يخفى وكذا ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال : أتى رسول الله بز من العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا : نأتي النبي نسأله فوجدوه قد فرغ منه فأنزل الله تعالى الآية
إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر تعليل لقوله سبحانه وإما تعرضن عنهم الخ كأنه قيل : إن أعرضت عنهم لفقد الرزق فقل لهم قولا ميسورا ولا تهتم لذلك فإن ذلك ليس لهوان منك عليه تعالى بل لأن بيده جل وعلا مقاليد الرزق وهو سبحانه يوسعه على بعض ويضيقه على بعض حسبما تتعلق به مشيئته التابعة للحكمة فما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق الحال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحتك فيكون قوله تعالى ولا تجعل يدك الخ معترضا تأكيدا لمعنى ما تقتضيه حكمته عز و جل من القبض والبسط وقوله تعالى : إنه سبحانه كان لم يزل ولا يزال بعباده جميعهم خبيرا عالما بسرهم بصيرا 03 عالما بعلتهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم تعليل لسابقه وجوز أن يكون ذلك تعليلا للأمر بالقتصاد المستفاد من النهيين إما على معنى أن البسط والقبض أمران مختصان بالله تعالى وأما أنت فاقتصد واترك ما هو مختص به جل وعلا أو على معنى أنكم إذا تحققتم شأنه تعالى شأنه وأنه سبحانه يبسط ويقبض وأمعنتم النظر في ذلك وجدتموه تعالى مقتصدا فاقتصدوا أنتم واستنوا بسنته وجعله بعضهم تعليلا لجميع ما مر وفيه خفاء كما لا يخفى وجوز كونه تعليلا للنهي الأخير على معنى أنه تعالى يبسط ويقبض حسب مشيئته فلا تبسطوا على من قدر عليه رزقه وليس بشيء
وجوز أيضا كونه تمهيدا لقوله سبحانه ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق واستبعد بأن الظاهر حينئذ فلا
والإملاق الفقر كما روي عن ابن عباس وأنشد له قول الشاعر : وإني على الإملاق يا قوم ماجد أعد لأضيافي الشواء المصهبا وظاهر اللفظ النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة لكن روي أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن فنهى في الآية عن ذلك فيكون المراد بالأولاد البنات وبالقتل الوأد والخشية في الأصل خوف يشوبه تعظيم قال الراغب : وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه
وقريء بكسر الخاء والظاهر أن هذا النهي معطوف على ما تقدم من نظيره وجوز الطبرسي أن يكون عطفه على قوله سبحانه لا تعبدوا إلا إياه وحينئذ فيحتمل أن يكون الفعل منصوبا بأن كما في الفعل السابق
نحن نرزقهم وإياكم ضمان لرزقهم وتعليل للنهي المذكور بإبطال موجبه في زعمهم أي نحن نرزقهم لا أنتم فلا تخافوا الفقر بناء على علمكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم وتقديم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بأصالتهم في إضافة الرزق وعارض هذه النكتة هناك تقدم ما يستدعي الاعتناء بشأن المخاطبين من الآيات كذا قيل وجوز المولى شيخ الإسلام كون ذلك لأن الباعث على القتل هناك الإملاق الناجز ولذلك قيل من إملاق وههنا الإملاق المتوقع ولذلك قيل : خشية إملاق فكأنه قيل : نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه وإياكم أيضا رزقا إلى
(15/66)