[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
عن سبيل الله أي دين الإسلام أو عن المسلك المقرر في كتبهم إلى ما افتروه وحرفوه بأخذ الرشا
ويجوز أن يكون يصدون من الصدود على معنى أنهم يعرضون عن سبيل الله فيحرفون ويفترون بأكلهم أموال الناس بالباطل والذين يكنزون الذهب والفضة أي يجمعونها ومنه ناقة كناز اللحم أي مجتمعته ولا يشترط في الكنز الدفن بل يكفي مطلق الجمع والحفظ والمراد من الموصول إما الكثير من الأحبار والرهبان لأن الكلام في ذمهم ويكون ذلك مبالغة فيه حيث وصفوا بالحرص بعد وصفهم بما سبق من أخذ البراطيل في الأباطيل وإما المسلمون لجرى ذكرهم أيضا وهو الأنسب بقوله تعالى : ولا ينفقونها في سبيل الله لأنه يشعر بأنهم ممن ينفق في سبيله سبحانه لأنه المتبادر من النفي عرفا فيكون نظمهم في قرن المرتشين من أهل الكتاب تغليظا ودلالة على كونهم أسوة لهم في إستحقاق البشارة بالعذاب واختار بعض المحققين حمله على العموم ويدخل فيه الأحبار والرهبان دخولا أوليا وفسر غير واحد الإنفاق في سبيل الله بالزكاة لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين فقال عمر رضي الله تعالى عنه : أنا أفرج عنكم فانطلق فقال : يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية فقال عليه الصلاة و السلام : إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم
وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما أدي زكاته فليس بكنز أي بكنز أو عد عليه فإن الوعيد عليه مع عدم الإنفاق فيما أمر الله تعالى أن ينفق فيه ولا يعارض ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها لأن المراد بذلك ما لم يؤد حقه كما يرشد إليه ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وقيل : إنه كان قبل أن تفرض الزكاة وعليه حمل ما رواه الطبراني عن أبي أمامة قال توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كية ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة و السلام كيتان وقيل : بل هذا لأن الرجلين أظهرا الفقر ومزيدا لحاجة بانتظامهما في سلك أهل الصفة الذين هم بتلك الصفة مع أن عندهما ما عندهما فكان جزاؤهما الكية والكيتين لذلك وأخذ بظاهر الآية فأوجب إنفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة أبو ذر رضي الله تعالى عنه وجرى بينه لذلك وبين معاوية رضي الله عنه في الشام ما شكاه له إلى عثمان رضي الله تعالى عنه في المدينة فاستدعاه إليها فرآه مصرا على ذلك حتى إن كعب الأحبار رضي الله عنه قال له : يا أبا ذر أن الملة الحنيفية أسهل الملل وأعدلها وحيث لم يجب إنفاق كل المال في الملة اليهودية وهي أضيق الملل وأشدها كيف يجب فيها فغضب رضي الله تعالى عنه وكانت فيه حدة وهي التي دعته إلى تعيير بلال رضي الله عنه بأمه وشكايته إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله فيه إنك امرؤ فيك جاهلية فرفع عصاه ليضربه وقال له : يا يهودي ما ذاك من هذه المسائل فهرب كعب فتبعه حتى استعاذ بظهر عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يرجع حتى ضربه وفي رواية أن الضربة وقعت على عثمان وكثر المعترضون على أبي ذر ففي دعواه تلك وكان الناس يقرءون له آية المواريث ويقولون : لو وجب إنفاق كل المال لم يكن للآية وجه وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك فاختار العزلة فاستشار عثمان فيها فأشار إليه بالذهاب إلى الربذة سكن فيها حسبما
(10/87)

تريد وهذا ما يعول عليه في هذه القصة ورواها الشيعة على وجه جعلوه من مطاعن ذي النورين وغرضهم بذلك إطفاء نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره فبشرهم بعذاب أليم
43
- خبر الموصول والفاء لما مر غير مرة وجوز أن يكون الموصول في محل نصب بفعل يفسره فبشرهم والتعبير بالبشارة للتهكم وقوله تعالى : يوم منصوب بعذاب أليم أو بمضمر يدل عليه ذلك أي يعذبون يوم أو باذ كر وقيل : التقدير عذاب يوم والمقدر بدل من المذكور فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه يحمى عليها في نار جهنم أي توقد النار ذات حمى وحر شديد عليها وأصله تحمى بالنار من قولك حميت الميسم وأحميته فجعل الإحماء للنار مبالغة لأن النار في نفسها ذات حمى فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها ثم حذفت النار وحول الإسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير فإذا طرحت القصة وأسند الفعل إلى الجار والمجرور قلت رفع إلى الأمير وعن ابن عامر أنه قرأ تحمى بالتاء الفوقانية بإسناده إلى النار كأصله وإنما قيل عليها والمذكور شيئان لأنه ليس المراد بهما مقدارا معينا منهما ولا الجنس الصادق بالقليل والكثير بل المراد الكثير من الدنانير والدراهم لأنه الذي يكون كنزا فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ولو أتى بضمير التثنية احتمل خلافه وكذا يقال في قوله سبحانه : ولا ينفقونها وقيل : الضمير لكنوز الأموال المفهومة من الكلام فيكون الحكم عاما ولذا عدل فيه عن الظاهر وتخصيص الذهب الفضة بالذكر لأنهما الأصل الغالب في الأموال لا للتخصيص أو للفضة واكتفى بها لأنها أكثر والناس إليها أحوج ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى مع قربها لفظا فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم خصت بالذكر لأن غرض الكانزين من الكنز والجمع أن يكونوا عند الناس ذوي وجاهة ورياسة بسبب الغنى وأن يتنعموا بالمطاعم الشهية والملابس البهية فلوجاهتهم كان الكي بجباههم ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ولما لبسوه على ظهورهم كويت أو لأنهم إذا رأوا الفقير السائل زووا ما بين أعينهم وازوروا عنه وأعرضوا وطووا كشحا وولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسة التي هي الدماغ والقلب والكبد وقيل : لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنبتاه فيكون ما ذكر كناية عن جميع البدن ويبقى عليه نكتة الإقتصار على هذه الأربع من بين الجهات الست وتكلف لها بعضهم بأن الكانز وقت الكنز لحذره من أن يطلع عليه أحد يلتفت يمينا وشمالا وأماما ووراء ولا يكاد ينظر إلى فوق أو يتخيل أن أحدا يطلع عليه من تحت فلما كانت تلك الجهات الأربع مطمح نظره ومظنة حذره دون الجهتين الأخريين اقتصر عليها دونهما وهو مع ابتنائه على اعتبار الدفن في الكنز في حيز المنع كما لا يخفى
وقيل : إنما خصت هذه المواضع لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل وفيه أن البطن كذلك وفي جمعه مع الظاهر لطافة أيضا وقيل : لأن الجبهة محل الوسم لظهورها والجنب محل الألم والظهر محل الحدود لأن الداعي للكانز على الكنز وعدم الإنفاق خوف الفقر الذي هو الموت الأحمر حيث أنه سبب للكد وعرق الجبين والإضطراب يمينا وشمالا وعدم إستقرار الجنب لتحصيل المعاش مع خلو المنصف به عما يستند إليه
(10/88)

ويعول في المهمات عليه فلملاحظة الأمن من الكد وعرق الجبين تكوى جبهته ولملاحظة الأمن من الإضطراب والطمع في إستقرار الجنب يكوى جنبه ولملاحظة إستناد الظهر والإتكال على ما يزعم أنه الركن الأقوى والوزر الأوفى يكوى ظهره وقيل غير ذلك وهي أقوال يشبه بعضها بعضا والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
وأيا ما كان فليس المراد أنه يوضع دينار على دينار أو درهم على درهم فيكوى بها ولا أنه يكوى بكل بأن يرفع واحد ويوضع بدله آخر حتى يؤتى على آخرها بل أنه يوسع جلد الكانز فيوضع كل دينار ودرهم على حدته كما نطقت بذلك الآثار وتظافرت به الأخبار هذا ما كنزتم على إرادة القول وبه يتعلق الظرف السابق في قول أي يقال لهم يوم يحمى عليها هذا ما كنزتم لأنفسكم أي لمنفعتها فكان عين مضرتها وسبب تعذيبها فاللام للتعليل وأنت في تقدير المضاف في النظم بالخيار ولم تجعل اللام للملك لعدم جدواه وما في قوله سبحانه : فذوقوا ما كنتم تكنزون
53
- يحتمل أن تكون مصدرية أي وبال كنزكم أو وبال كونكم كانزين ورجح الأول بأن في كون كان الناقصة لها مصدر كلاما وبأن المقصود الخبر وكان إنما ذكرت لإستحضار الصورة الماضية ويحتمل أن تكون موصولة أي وبال الذي تكنزونه وفي الكلام إستعارة مكنية وتخييلية أو تبعية وقريء تكنزون بضم النون فالماضي كنز كضرب وقعد إن عدة الشهور أي مبلغ عدد شهور السنة عند الله أي في حكمه اثنا عشر شهرا وهي الشهور القمرية المعلومة إذ عليها يدور فلك الأحكام الشرعية في كتاب الله أي في اللوح المحفوظ
وقيل : فيما أثبته وأوجب على عباده الأخذ به وقيل : القرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر وليس بشيء يوم خلق السماوات والأرض أي في ابتداء إيجاد هذا العالم وهذا الظرف متعلق بما في كتاب الله من معنى الثبوت الدال عليه بمنطوقه أو بمتعلقه أو بالكتاب إن كان مصدرا بمعنى الكتابة والمراد أنه في ابتداء ذلك كانت عدتها ما ذكر وهي الآن على ما كانت عليه و في كتاب الله صفة اثنا عشر وهي خبر إن و عند معمول عدة لأنها مصدر كالشركة و شهرا تمييز مؤكد كما في قولك : عندي من الدنانير عشرون دينارا وما يقال : إنه لرفع الإبهام إذ لو قيل عدة الشهور عند الله اثنا عشر سنة لكان كلاما مستقيما ليس بمستقيم على ما قيل وانتصر له بأن مراد القائل إنه يحتمل أن تكون تلك الشهور في ابتداء الدنيا كذلك كما في قوله سبحانه : وإن يوما عند ربك كألف سنة ونحوه ولا مانع منه فإنه أحسن من الزيادة المحضة ولم يجوزوا تعلق في كتاب بعدة لأن المصدر إذا أخبر عنه لا يعمل فيما بعد الخبر ومن الناس من جعله بدلا من عند الله وضعفه أبو البقاء بأن فيه الفصل بين البدل والمبدل منه بخبر العامل في المبدل وجوز بعض أن يجعل اثنا عشر مبتدأ و عند خبر مقدم والجملة خبر إن أو أن الظرف لاعتماده عمل الرفع في اثنا عشر وقوله سبحانه : منها أربعة حرم يجوز أن يكون صفة لاثنا عشر وأن يكون حالا من الضمير في الظرف وأن يكون جملة مستأنفة وضمير منها على كل تقدير لاثنا عشر وهذه
(10/89)

الأربعة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر واختلف في ترتيبها فقيل : أولها المحرم وآخرها ذو الحجة فهي من شهور عام وظاهر ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس يقتضيه
وقيل : أولها رجب فهي من عامين واستدل له بما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عمر قال : خطبنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : يا أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادي وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم
وقيل : أولها ذو القعدة وصححه النووي لتواليها وأخرج الشيخان ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ورجب مضر الحديث وأضيف رجب إليهم لأن ربيعة كانوا يحرمون رمضان ويسمونه رجب ولهذا بين الحديث بما بين
وقيل : إن ما ذكر من أنها على الترتيب الأول من شهور عام وعلى الثاني من شهور عامين مما يتمشى على أن أول السنة المحرم وهو إنما حدث في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وكان يؤرخ قبله بعام الفيل وكذا بموت هشام بن المغيرة ثم أرخ بصدر الإسلام بربيع الأول وعلى هذا التاريخ يكون الأمر على عكس ما ذكر ولم يبين هذا القائل ما أول شهور السنة عند العرب قبل الفيل والذي يفهم من كلام بعضهم أن أول الشهور المحرم عندهم من قبل أيضا إلا أن عندهم في اليمن والحجاز تواريخ كثيرة يتعارفونها خلفا عن سلف ولعلها كانت باعتبار حوادث وقعت في الأيام الخالية وأنه لما هاجر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اتخذ المسلمون هجرته مبدأ التاريخ وتناسوا ما قبله وسموا كل سنة أتت عليهم باسم حادثة وقعت فيها كسنة الأذن وسنة الأمر وسنة الإبتلاء وعلى هذا المنوال إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه فسأله بعض الصحابة في ذلك وقال : هذا يطول وربما يقع في بعض السنين اختلاف وغلط فاختار رضي الله تعالى عنه عام الهجرة مبدأ من غير تسمية السنين بما وقع فيها فاستحسنت الصحابة رأيه في ذلك وفي بعض شروح البخاري أن أبا موسى الأشعري كتب إليه إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب لا ندري بأيها نعمل وقد قرأنا صكا محله شعبان فلم ندر أي الشعبانين الماضي أم الآتي
وقيل : إنه هو رضي الله تعالى عنه رفع إليه صك محله شعبان فقال : أي شعبان هو ثم قال : إن الأموال قد كثرت فينا وما قسمناه غير مؤقت فكيف التوصل إلى ضبطه فقال له ملك الأهواز وكان قد أسر وأسلم على يده : إن للعجم حسابا يسمونه ماهروز يسندونه إلى من غلب من الأكاسرة ثم شرحه له وبين كيفيته فقال رضي الله تعالى عنه : ضعوا للناس تاريخا يتعاملون عليه وتضبط أوقاتهم فذكروا له تاريخ اليهود فما ارتضاه والفرس فما ارتضاه فاستحسنوا الهجرة تاريخا انتهى
وما ذكر من أنهم كانوا يؤرخون في صدر الإسلام بربيع الأول فيه إجمال ويتضح المراد منه بما في النبراس من أنهم كانوا يؤرخون على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسنة القدوم وبأول شهر منها وهو ربيع الأول على الأصح فليفهم والشهر عندهم ينقسم إلى شرعي وحقيقي واصطلاحي فالشرعي معتبر برؤية الهلال بالشرط المعروف في الفقه وكان أول هلال المحرم في التاريخ الهجري ليلة الخميس كما اعتمده يونس الحاكمي المصري وذكر أن ذلك بالنظر إلى الحساب وأما باعتبار الرؤية فقد حرر ابن
(10/90)

الشاطر أن هلاله رؤى بمكة ليلة الجمعة والحقيقي معتبر من اجتماع القمر مع الشمس في نقطة وعوده بعد المفارقة إلى غير ذلك ولا دخل للخروج من تحت الشعاع إلا في إمكان الرؤية بحسب العادة الشائعة قيل : ومدة ما ذكر تسعة وعشرون يوما ومائة وأحد وتسعون جزءا من ثلثمائة وستين جزءا لليوم بليلته وتكون السنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما وخمس يوم وسدسه وثانية وذلك أحد عشر جزءا من ثلاثين جزءا من اليوم بليلته وإذا اجتمع من هذه الأجزاء أكثر من نصف عدوه يوما كاملا وزادوه في الأيام وتكون تلك السنة حينئذ كبيسة وتكون أيامها ثلثمائة وخمسة وخمسين يوما ولما كانت الأجزاء السابقة أكثر من نصف جبروها بيوم كامل واصطلحوا على جعل الأشهر شهرا كاملا وشهرا ناقصا فهذا هو الشهر الإصطلاحي فالمحرم في إصطلاحهم ثلاثون يوما وصفر تسعة وعشرون وهكذا إلى آخر السنة القمرية الإفراد منها ثلاثون وأولها المحرم والأزواج تسعة وعشرون وأولها صفر إلا ذا الحجة من السنة الكبيسة فإنه يكون ثلاثين يوما لاصطلاحهم على جعل ما زادوه في أيام السنة الكبيسة في ذي الحجة آخر السنة
وحيث كان مدار الشهر الشرعي على الرؤية اختلفت الأشهر فكان بعضها ثلاثين وبعضها تسعة وعشرين ولا يتعين شهر للكمال وشهر للنقصان بل قد يكون الشهر ثلاثين في بعض السنين وتسعا وعشرين في بعض آخر منها وما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة محمول على معنى لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وإن نقص عددهما وقيل : معناه لا ينقصان جميعا في سنة واحدة غالبا وقيل : لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان حكاه الخطابي وهو ضعيف والأول كما قال النووي هو الصواب المعتمد ذلك أي تحريم الأشهر الأربعة وما فيه من معنى البعد لتفخيم المشار إليه وقيل : هو إشارة لكون العدة كذلك ورجحه الإمام بأنه كونها أربعة محرمة مسلم عند الكفار وإنما القصد الرد عليهم في النسيء والزيادة على العدة ورجح الأول بأن التفريع الآتي يقتضيه ولا يبعد أن تكون الإشارة إلى مجموع ما دل عليه الكلام السابق والتفريع لا يأبى ذلك الدين القيم أي المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما وكانوا يعظمون الأشهر الحرم حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهجه ويسمون رجب الأصم ومنصل الاسنة حتى أحدثوا النسيء فغيروا وقيل : المراد من الدين الحكم والقضاء ومن القيم الدائم الذي لا يزول أي ذلك الحكم الذي لا يبدل ولا يغير ونسب ذلك إلى الكلبي وقيل : الدين هنا بمعنى الحساب ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت أي ذلك الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوي لا ما تفعله العرب من النسيء واختار ذلك الطبرسي وعليه فتكون الإشارة لما رجحه الإمام فلا تظلموا فيهن أنفسكم بهتك حرمتهن وارتكاب ما حرم فيهن والضمير راجع إلى الأشهر الحرم وهو المروي عن قتادة واختاره الفراء وأكثر المفسرين وقيل : هو راجع إلى الشهور كلها أي فلا تظلموا أنفسكم في جميع شهور السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات أو لا تجعلوا حلالها حراما وحرامها حلالا كما فعل أهل الشرك ونسب هذا القول لابن عباس رضي الله تعالى عنهما والعدول عن فيها الأوفق بمنها إلى فيهن مؤيد لما عليه الأكثر والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيهن منسوخة وإن
(10/91)

الظلم مؤول بارتكاب المعاصي وتخصيصها بالنهي عن ارتكاب ذلك فيها مع أن الارتكاب منهي عنه مطلقا لتعظيمها ولله سبحانه أن يميز بعض الأوقات على بعض فارتكاب المعصية فيهن أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام وعن عطاء بن أبي رباح أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم والأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا واستثنى هذا لأنه للدفع فلا يمنع منه بالإتفاق أو لأن هتك الحرمة في ذلك ليس منهم بل من البادي
ويؤيد القول بالنسخ أنه عليه الصلاة و السلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة سنة ثمان وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة أي جميعا واشتهر أنه لابد من تنكيره ونصبه على الحال وكون ذي الحال من العقلاء وخطأوا الزمخشري في قوله في خطبة المفصل : محيطا بكافة الأبواب ومخطئوه هو المخطيء لأنا إذا علمنا وضع لفظ لمعنى عام بنقل من السلف وتتبع لموارد استعماله في كلام من يعتد به ورأيناهم استعملوه على حالة مخصوصة من الأعراب والتعريف والتنكير ونحو ذلك جاز لنا على ما هو الظاهر أن نخرجه عن تلك الحالة لأنا لو اقتصرنا في الألفاظ على ما إستعملته العرب العاربة والمستعربة نكون قد حجرنا الواسع وعسر التكلم بالعربية على من بعدهم ولما لم يخرج بذلك عما وضع له فهو حقيقة فكافة وان استعملته العرب منكرا منصوبا في الناس خاصة يجوز أن يستعمل معرفا ومنكرا بوجوه الإعراب في الناس وغيرهم وهو في كل ذلك حقيقة حيث لم يخرج عن معناه الذي وضعوه له وهو معنى الجميع ومقتضى الوضع أنه لا يلزمه ما ذكر ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر على أنه ورد في كلام البلغاء على ما إدعوه ففي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لآل بني كاكلة قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال عينا ذهبا إبريزا وهذا كما في شرح المقاصد مما صح والخط كان موجودا في آل بني كاكلة إلى قريب هذا الزمان بديار العراق ولما آلت الخلافة إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه عرض عليه فنفذ ما فيه لهم وكتب عليه بخطه لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون أنا أول من اتبع أمر من الإسلام 1 ونصر الدين والأحكام عمر بن الخطاب ورسمت بمثل ما رسم لآل بني كاكلة في كل عام مائتي دينار ذهبا ابريزا واتبعت أثره وجعلت لهم مثل ما رسم عمر إذ أوجب علي وعلى جميع المسلمين اتباع ذلك كتبه علي بن أبي طالب فانظر كيف استعمله عمر بن الخطاب معرفة غير منصوبة لغير العقلاء وهو من هو في الفصاحة وقد سمعه مثل علي كرم الله تعالى وجهه ولم ينكره وهو واحد الأحدين فأي إنكار واستهجان يقبل بعد
فقوله في المغني كافة مختص بمن يعقل ووهم الزمخشري في تفسير قوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس إذ قدر كافة نعتا لمصدر محذوف أي رسالة كافة لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل اخراجه عما التزم فيه من الحال كوهمه في خطبة المفصل مما لا يلتفت إليه وإذا جاز تعريفه بالإضافة جاز بالألف واللام أيضا ولا عبرة بمن خطأ فيه كصاحب القاموس وابن الخشاب وهو عند الأزهري مصدر على فاعلة كالعافية والعاقبة ولا يثنى ولا يجمع وقيل : هو اسم فاعل والتاء فيه للمبالغة كتاء رواية وعلامة وإليه ذهب الراغب ونقل أن المعنى هنا قاتلوهم كافين لهم كما يقاتلونكم كافين لكم وقيل : معناه جماعة وقيل للجماعة الكافة كما يقال لهم الوزعة لقوتهم باجتماعهم وتاؤه كتاء جماعة والحاصل أنهم رواية ودراية لم يصيبوا
(10/92)

فيما التزموه من تنكيره ونصبه واختصاصه بالعقلاء وأنهم اختلفوا في أصله هل هو مصدر أو اسم فاعل من الكف وأن تاءه هل هي للمبالغة أو للتأنيث ثم إنهم تصرفوا فيه واستعملوه للتعميم بمعنى جميعا وعلى ذلك حمل الأكثرون ما في الآية قالوا : هو مصدر كف عن الشيء وإطلاقه على الجميع باعتبار أنه مكفوف عن الزيادة أو باعتبار أنه يكف عن التعرض له أو التخلف عنه وهو حال إما من الفاعل أو من المفعول فمعنى قاتلوا المشركين كافة لا يتخلف أحد منكم عن قتالهم أو لا تتركوا قتال واحد منهم وكذا في جانب المشبه به واستدل بالآية على الإحتمال الأول على أن القتال فرض عين
وقيل : وهو كذلك في صدر الإسلام ثم نسخ وأنكره ابن عطية واعلموا أن الله مع المتقين
63
- بالولاية والنصر فاتقوا لتفوزوا بولايته ونصره سبحانه فهو إرشاد لهم إلى ما ينفعهم في قتالهم بعد أمرهم به وقيل : المراد أن الله معكم بالنصر والإمداد فيما تباشرونه من القتال وإنما وضع المظهر موضع المضمر مدحا لهم بالتقوى وحثا للقاصرين على ذلك وإيذانا بأنه المدار في النصر وقيل : هي بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم كما يشعر بذلك التعليق بالمشتق وما ذكرناه نحن لا يخلو عن حسن إلا أن الأمر بالتقوى فيه أعم من الاحداث والدوام ومثله كثير في الكلام إنما النسيء هو مصدر نسأه إذا أخره وجاء النسيء كالنهي والنسء كالبدء والنساء كالنداء وثلاثتها مصادر نسأه كالنسيء وقيل : هو وصف كقتيل وجريح واختير الأول لأنه لا يحتاج معه إلى تقدير بخلاف ما إذا كان صفة فإنه لا يخبر عنه بزيادة إلا بتأويل ذو زيادة أو إنساء النسيء زيادة وقد قريء بجميع ذلك
وقرأ نافع النسي بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء والمراد به تأخير حرمة شهر إلى آخر وذلك أن العرب كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر فيستحلون المحرم ويحرمون صفرا فإن احتاجوا أيضا أحلوه وحرموا ربيعا الأول وهكذا كانوا يفعلون حتى إستدار التحريم على شهور السنة كلها وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لا خصوصية الأشهر المعلومة وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر من السنة حراما أيضا ولذلك نص على العدد المعين في الكتاب والسنة وكان يختلف وقت حجهم لذلك وكان في السنة التاسعة من الهجرة التي حج بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالناس في ذي القعدة وفي حجة الوداع في ذي الحجة وهو الذي كان على عهد إبراهيم عليه السلام ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا إن الزمان قد إستدار الحديث وفي رواية أنهم كانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين وهكذا ووافقت حجة الصديق في ذي القعدة من سنتهم الثانية وكانت حجة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الوقت الذي كان من قبل ولذا قال ما قال أي إنما ذلك التأخير زيادة في الكفر الذي هم عليه لأنه تحريم ما أحل الله تعالى وقد إستحلوه واتخذوه شريعة وذلك كفر ضموه إلى كفرهم
وقيل : إنه معصية ضمت إلى الكفر وكما يزداد الإيمان بالطاعة يزداد الكفر بالمعصية وأورد عليه بأن المعصية ليست من الكفر بخلاف الطاعة فإنها من الإيمان على رأي وأجيب عنه بما لا يصفو عن الكدر يضل به الذين كفروا إضلالا على إضلالهم القديم وقريء يضل على البناء للفاعل
(10/93)

من الأفعال على أن الفاعل هو الله تعالى أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعنى على قراءة الأولى أيضا وقيل الفاعل في القراءتين الشيطان وجوز على القراءة الثانية أن يكون الموصول فاعلا والمفعول محذوف أي أتباعهم وقيل : الفاعل الرؤساء والمفعول الموصول وقريء يضل بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل و نضل بنون العظمة يحلونه أي الشهر المؤخر وقيل : الضمير للنسيء على أنه فعيل بمعنى مفعول عاما من الأعوام ويحرمون مكانه شهرا آخر مما ليس بحرام ويحرمونه أي يحافظون على حرمته كما كانت والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء إن شاء الله تعالى عاما آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم قال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالصدور من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مرة لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أخاب فيقول له المشركون : لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا يغزون فيه فيقول : إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال حلال عقدوا الأوتار وركبوا الأزجة وأغاروا وعن الضحاك أنه جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية وكان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم يقوم في العام القابل فيقول : إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كانت النساءة حيي من بني مالك بن كنانة وكان آخرهم رجلا يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم وكان ملكا في قومه وأنشد شاعرهم
ومنا ناسيء الشهر القلمس
وقال الكميت : ونحن الناسئون على معد شهور الحل نجعلها حراما وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول من سن النسيء عمرو بن لحى بن قمعة ابن خندف والجملتان تفسير للضلال فلا محل لهما من الإعراب وجوز أن تكونا في محل نصب على أنهما حال من الموصول والعامل عامله ليواطئوا أي ليوافقوا وقرأ الزهري ليوطئوا بالتشديد عدة ما حرم الله من الأشهر الأربعة واللام متعلقة بيحرمونه أي يحرمونه لأجل موافقة ذلك أو بما دل عليه مجموع الفعلين أي فعلوا ما فعلوا لأجل الموافقة وجعله بعضهم من التنازع فيحلوا ما حرم الله بخصوصه من الأشهر المعينة والحاصل أنه كان الواجب عليهم العدة والتخصيص فحيث تركوا التخصيص فقد إستحلوا ما حرم الله تعالى زين لهم سوء أعمالهم وقريء على البناء للفاعل وهو الله تعالى أي جعل أعمالهم مشتهاة للطبع محبوبة للنفس وقيل : خذلهم حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن وقيل : المزين هو الشيطان وذلك بالوسوسة والإغواء بالمقدمات الشعرية والله لا يهدي القوم الكافرين
73
- هداية موصلة للمطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا فيه تيه الضلال والمراد من الكافرين إما المتقدمون ففيه وضع الظاهر موضع الضمير أو الأعم ويدخلون فيه دخولا أوليا يا أيها الذين ءامنوا عود إلى ترغيب المؤمنين وحثهم على المقاتلة بعد ذكر طرف من فضائح أعدائهم مالكم إستفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أي اخرجوا للجهاد وأصل النفر على ما قيل الخروج
(10/94)

لأمر أوجب ذلك إثاقلتم أي تباطأتم ولم تسرعوا وأصله تثاقلتم وبه قرأ الأعمش فادغمت التاء في الثاء واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الإبتداء بالساكن ونظيره قول الشاعر : تؤتى الضجيع إذا ما إشتاقها خفرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل وبه تتعلق إذأ والجملة في موضع الحال والفعل ماض لفظا مضارع معنى أي مالكم متثاقلين حين قال لكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انفروا وجوز أن يكون العامل في إذا الإستقرار المقدر في لكم أو معنى الفعل المدلول عليه بذلك أي أي شيء حاصل أو حصل لكم أو ما تصنعون حين قيل لكم انفروا وقريء أثاقلتم بفتح الهمزة على أنها للإستفهام الإنكاري التوبيخي وهمزة الوصل سقطت في الدرج وعلى هذه القراءة لا يصح تعلق إذا بهذا الفعل لأن الإستفهام له الصدارة فلا يتقدم معموله عليه ولعل من يقول يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره يجوز ذلك وقوله سبحانه : إلى الأرض متعلق باثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد ولولاه لم يعد بإلى أي اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه المستتبعة للراحة الخالدة والحياة الباقية أو إلى الإقامة بأرضكم ودياركم والأول أبلغ في الإنكار والتوبيخ ورجح الثاني بأنه أبعد عن توهم شائبة التكرار في الآية وكان هذا التثاقل في غزوة تبوك وكانت في رجب سنة تسع فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن رجع من الطائف أقام بالمدينة قليلا ثم إستنفر الناس في وقت عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليه الشخوص لذلك
وذكر ابن هشام أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه عليه الصلاة و السلام بينها للناس ليتأهبوا لذلك أهبته أرضيتم بالحياة الدنيا وغرورها من الآخرة أي بدل الآخرة ونعيمها الدائم فما متاع الحياة الدنيا أي فما فوائدها ومقاصدها أو فما التمتع بها وبلذائذها في الآخرة أي في جنب الآخرة إلا قليل
83
- مستحقر لا يعبأ به والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير و في هذه تسمى القياسية لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به وفي ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ويستدعى الرغبة فيها وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها
وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المسور قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما جعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم يرجع
وأخرج الحاكم وصححه عن سهل قال : مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذي الحليفة فرأى شاة شائلة برجلها فقال : أترون هذه الشاة هينة على صاحبها قالوا : نعم قال عليه الصلاة و السلام والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله تعالى من هذه على صاحبها ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ولا أرى الإستدلال على رداءة الدنيا إلا إستدلالا في مقام الضرورة نعم هي نعمت الدار لمن تزود منها لآخرته
إلا تنفروا أي إلا تخرجوا إلى ما دعاكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للخروج له يعذبكم
(10/95)

أي الله عز و جل عذابا أليما بالإهلاك بسبب فظيع لقحط وظهور عدو وخص بعضهم التعذيب بالآخرة وليس بشيء وعممه آخرون واعتبروا فيه الإهلاك ليصح عطف قوله سبحانه : ويستبدل عليه أي ويستبدل بكم بعد إهلاككم قوما غيركم وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيد والتشديد في التهديد بالدلالة على المغايرة الوصفية والذاتية المستلزمة للإستئصال أي قوما مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامكم وهم أبناء فارس كما قال سعيد بن جبير أو أهل اليمن كما روي عن أبي روق أو ما يعم الفريقين كما اختاره بعض المحققين ولا تضروه شيئا من الأشياء أو شيئا من الضرر والضمير لله عز و جل أي لا يقدح تثاقلكم في نصرة دينه أصلا فإنه سبحانه الغني عن كل شيء وفي كل أمر وقيل : الضمير للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فإن الله عز و جل وعده العصمة والنصر وكان وعده سبحانه مفعولا لا محالة والأول هو المروي عن الحسن واختاره أبو علي الجبائي وغيره ويقرب الثاني رجوع الضمير الآتي إليه عليه الصلاة و السلام إتفاقا والله على كل شيء قدير
93
- فيقدر على إهلاكهم والإتيان بقوم آخرين وقيل : على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد فتكون الجملة تتميما لما قبل وتوطئة لما بعد
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا من مكة وإسناد الإخراج إليهم إسناد إلى السبب البعيد فإن الله تعالى أذن له عليه الصلاة و السلام بالخروج حين كان منهم ما كان فخرج صلى الله تعالى عليه وسلم بنفسه ثاني اثنين حال من ضميره عليه الصلاة و السلام أي أحد اثنين من غير اعتبار كونه صلى الله تعالى عليه وسلم ثانيا فإن معنى قولهم ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقا لا الثالث والرابع خاصة ولذا منع الجمهور أن ينصب ما بعد أن يقال ثالث ثلاثة ورابع أربعة فلا حاجة إلى تكلف توجيه كونه عليه الصلاة و السلام ثانيهما كما فعله بعضهم وقريء ثاني بسكون الياء على لغة من يجري الناقص مجرى المقصور في الإعراب وليس بضرورة خلافا لمن زعمه وقال : إنه من أحسن الضرورة في الشعر واستشكلت الشرطية بأن الجواب فيها ماض ويشترط فيه أن يكون مستقبلا حتى إذا كان ماضيا قلب مستقبلا وهنا لم ينقلب وأجيب بأن الجواب محذوف أقيم سببه مقامه وهو مستقبل أي إن لم تنصروه فسينصره الله تعالى الذي قد نصره في وقت ضرورة أشد من هذه المرة وإلى هذا يشير كلام مجاهد وجوز أن يكون المراد إن لم تنصروه فقد أوجب له النصرة حين نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره وفرق بين الوجهين بعد إشتراكهما في أن جواب الشرط محذوف بأن الدال عليه على الوجه الأول النصرة المقيدة بزمان الضعف والقلة في السالف وعلى الوجه الثاني معرفتهم بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم من المنصورين وقال القطب : الوجهان متقاربان إلا أن الأول مبني على القياس والثاني على الإستصحاب فإن النصرة ثابتة في تلك الحالة فتكون ثابتة في الإستقبال إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان وقيل : إنه على الوجه الأول يقدر الجواب وعلى الثاني هو نصر مستمر فيصح ترتيبه على المستقبل لشموله له إذ هما في الغار بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع فلا يتوهم التغاير المانع من البدلية وقيل : إنه ظرف لثاني اثنين والمراد بالغار ثقب في أعلى ثور وهو جبل في الجهة اليمنى لمكة على مسير ساعة مكثا فيه كما روي عن ابن عباس رضي الله
(10/96)

تعالى عنهما ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعلي كرم الله تعالى وجهه يجهزهما فاشترى ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهما دليلا فلما كانا في بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علي كرم الله تعالى وجهه بالإبل والدليل فركبوا وتوجهوا نحو المدينة ولإختفائه عليه الصلاة و السلام في الغار ثلاثة اختفى الإمام أحمد فيما يروي زمن فتنة القرآن كذلك لكن لا في الغار واختفى هذا العبد الحقير زمن فتح بغداد بعد المحاصرة سنة سبع وأربعين بعد الألف والمائتين خوفا من العامة وبعض الخاصة لأمور نسبت إلي وافتراها بعض المنافقين علي في سرداب عند بعض الأحبة ثلاثة أيام أيضا لذلك ثم أخرجني منه بالعز أمين وأيدني الله تعالى بعد ذلك بالعغر الميامين إذ يقول بدل ثان وقيل : أول لصاحبه وهو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه
وقد أخرج الدارقطني وابن شاهين وابن مردويه وغيرهم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : أنت صاحبي في الغار وأنت معي على الحوض وأخرج ابن عساكر من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي هريرة مثله وأخرج هو وابن عدي من طريق الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لحسان : هل قلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه شيئا قال : نعم قال : قل وأنا أسمع فقال حسان رضي الله تعالى عنه : وثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدو به إذ صاعد الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا من البرية لم يعدل به رجلا فضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال : صدقت يا حسان هو كما قلت ولم يخالف في ذلك أحد حتى الشيعة فيما أعلم لكنهم يقولون ماستعلمه ورده إن شاء الله تعالى لا تحزن إن الله معنا بالعصمة والمعونة فهي معية مخصوصة وإلا فهو تعالى مع كل واحد من خلقه روى الشيخان وغيرهما عن أنس قال : حدثني أبو بكر قال : كنت مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه فقال عليه الصلاة و السلام : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما وروى البيهقي وغيره أنه لما دخلا الغار أمر الله تعالى العنكبوت فنسجت على فم الغار وبعث حمامتين وحشيتين فباضتا فيه وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجلا بعصيهم وسيوفهم حتى إذا كانوا قدر أربعين ذراعا تعجل بعضهم فنظر في الغار ليرى أحدا فرأى حمامتين فرجع إلى أصحابه فقال : ليس في الغار أحد ولو كان قد دخله أحد ما بقيت هاتان الحمامتان وجاء في رواية قال بعضهم 1 : إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فانصرفوا وأول من دخل الغار أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن مردويه عن جندب بن سفيان قال : لما انطلق أبو بكر رضي الله تعالى عنه مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الغار قال أبو بكر : لا تدخل يا رسول الله حتى استبرئه فدخل الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول : ما أنت إلا اصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
(10/97)

روى البيهقي في الدلائل وابن عساكر أنه لما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مهاجرا تبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما هذا يا أبا بكر فقال : يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك واذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك فمشى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه فلما رأى ذلك أبو بكر حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار فأنزله ثم قال : والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئا فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلهن يضربنه ويلسعنه وجعلت دموعه تنحدر وهو لا يرفع قدمه حبا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي رواية إنه سد كل خرق في الغار بثوبه قطعه لذلك قطعا وبقى خرق سده بعقبه رضي الله تعالى عنه فأنزل الله سكينته وهي الطمأنينة التي تسكن عندها القلوب عليه أي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للصاحب وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت نحوه وقيل : وهو الأظهر لأن النبي عليه الصلاة و السلام لم ينزعج حتى يسكن ولا ينافيه تعين ضمير وأيده بجنود لم تروها له عليه الصلاة و السلام لعطفه على نصره الله لا على أنزل حتى تتفكك الضمائر على أنه إذا كان العطف عليه كما قيل به يجوز أن يكون الضمير للصاحب أيضا كما يدل عليه ما أخرجه ابن مردويه من حديث أنس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : يا أبا بكر إن الله تعالى أنزل سكينته عليك وأيدك الخ وأنت أبيت فأي ضرر في التفكيك إذا كان الأمر ظاهرا
واستظهر بعضهم الأول وادعى أنه المناسب للمقام وإنزال السكينة لا يلزم أن يكون لدفع الإنزعاج بل قد يكون لرفعته ونصره صلى الله تعالى عليه وسلم والفاء للتعقيب الذكرى وفيه بعد وفسرها بعضهم على ذلك الإحتمال بما لا يحوم حوله شائبة خوف أصلا والمراد بالجنود الملائكة النازلون يوم بدر والأحزاب وحنين وقيل : هم ملائكة أنزلهم الله تبارك وتعالى ليحرسوه في الغار ويؤيده ما أخرجه أبو نعيم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن أبا بكر رأى رجلا يواجه الغار فقال : يا رسول الله إنه لرآنا قال : كلا إن الملائكة تستره الآن بأجنحتها فلم ينشب الرجل أن قعد يبول مستقبلهما فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا : والظاهر أنهما على هذا كانا في الغار بحيث يمكن رؤيتهما عادة ممن هو خارج الغار واعترض هذا القول بأنه يأباه وصف الجنود بعدم رؤية المخاطبين لهم إلا أن يقال : المراد من هذا الوصف مجرد تعظيم أمر الجنود ومن جعل العطف على أنزل التزم القول المذكور لإقتضائه لظاهر حال الفاء أن يكون ذلك الإنزال متعقبا على ما قبله وذلك مما لا يتأتى على القول الأول في الجنود وجعل كلمة الذين كفروا السفلى أي كلمتهم التي اجتمعوا عليها في أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في دار الندوة حيث نجاه ربه سبحانه على رغم أنوفهم وحفظه من كيدهم مع أنهم لم يدعوا في القوس منزعا في إيصال الشر إليه وجعلوا الدية لمن يقتله أو يأسره عليه الصلاة و السلام وخرجوا في طلبه عليه الصلاة و السلام رجالا وركبانا فرجعوا صفر الأكف سود الوجوه وصار له بعض
(10/98)

من كان عليه الصلاة و السلام فقد أخرج ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن أنس رضيالله تعالى عنه قال : لما خرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر التفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال : يا نبي الله هذا فارس قد لحق بنا فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهم اصرعه فصرع عن فرسه فقال : يا نبي الله مرني بما شئت قال : فقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وآخر النهار مسلحة وكان هذا الفارس سراقة وفي ذلك يقول لأبي جهل : أبا حكم والله لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه وصح من حديث الشيخين وغيرهما أن القوم طلبوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبا بكر وقال أبو بكر : ولم يدركنا منهم إلا سراقة على فرس له فقلت : يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال : لاتحزن إن الله معنا حتى إذا دنا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة قلت : يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال : لم تبكي قلت : أما والله ما أبكي على نفسي ولكن أبكي عليك فدعا عليه عليه الصلاة و السلام وقال : اللهم اكفناه بما شئت فساخت فرسه إلى بطنها في أرض صلدة ووثب عنها وقال : يا محمد إن هذا عملك فادع الله تعالى أن ينجيني مما أنا فيه فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا حاجة لي فيها ودعا له فانطلق ورجع إلى أصحابه ومضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة الحديث ويجوز تفسير الكلمة بالشرك وهو الذي أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهي مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به وفسرها بعضهم بدعوة الكفر فهي بمعنى الكلام مطلقا وزعم شيخ الإسلام بأن الجعل المذكور على التفسيرين آب عن حمل الجنود على الملائكة الحارسين لأنه يتحقق بمجرد الإنجاء بل بالقتل والأسر ونحو ذلك وأنت تعلم أنه لا إباء على التفسير الذي ذكرناه نحن على أن كون الإنجاء مبدأ للجعل بتفسيريه كاف في دفع الإباء بلا امتراء وكلمة الله هي العليا يحتمل أن يراد بها وعده سبحانه لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم المشار إليه بقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين وإما كلمة التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإما دعوة الإسلام كما قيل ولا يخفى ما في تغيير الأسلوب من المبالغة لأن الجملة الإسمية تدل على الدوام والثبوت مع الإيذان بأن الجعل لم يتطرق لتلك الكلمة وأنها في نفسها عالية بخلاف علو غيرها فإنه غير ذاتي بل يجعل وتكلف فهو عرض زائل وأمر غير قار ولذلك وسط ضمير الفصل
وقرأ يعقوب كلمة الله بالنصب عطفا على كلمة الذين وهو دون الرفع في البلاغة وليس الكلام عليه كأعتق زيد غلام زيد كما لا يخفى والله عزيز لا يغالب في أمره حكيم
4
- لا قصور في تدبيره هذا واستدل بالآية على فضل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو لعمري مما يدع الرافضي في جحر ضب أو مهامه قفر فإنها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن
(10/99)

عساكر عن سفيان بن عيينة قال : عاتب الله سبحانه المسلمين جميعا في نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم غير أبي بكر وحده فإنه خرج من المعاتبة ثم قرأ إلا تنصروه الآية بل أخرج الحكيم الترمذي عن الحسن قال : عاتب الله تعالى جميع أهل الأرض غير أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : إلا تنصروه الخ
وأخرج ابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ إن الله تعالى ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال : إلا تنصروه الخ وفيها النص على صحبته رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يثبت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله عليه الصلاة و السلام سواه وكونه المراد من الصاحب مما وقع عليه الإجماع ككون المراد من العبد في قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن هنا قالوا : إن إنكار صحبته كفر مع ما تضمنته من تسلية النبي عليه الصلاة و السلام بقوله : لا تحزن وتعليل ذلك بمعية الله سبحانه الخاصة المفادة بقوله : إن الله معنا ولم يثبت مثل ذلك في غيره بل لم يثبت نبي معية الله سبحانه له ولآخر من أصحابه وكأن في ذلك إشارة إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر الصديق رضي الله عنه
وفي إنزال السكينة عليه بناء على عود الضمير إليه ما يفيد السكينة في أنه هو هو رضي الله تعالى عنه ولعن باغضيه وكذا في إنزالها على الرسول عليه الصلاة و السلام مع أن المنزعج صاحبه ما يرشد المنصف إلى أنهما كالشخص الواحد واظهر من ذلك إشارة ما ذكر إلى أن الحزن كان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويشهد لذلك ما مر في حديث الشيخين وأنكر الرافضة دلالة الآية على شيء من الفضل في حق الصديق رضي الله تعالى عنه قالوا : إن الدال على الفضل إن كان ثاني اثنين فليس فيه أكثر من كون أبي بكر متما للعدد وإن كان إذ هما في الغار فلا يدل على أكثر من إجتماع شخصين في مكان وكثيرا ما يجتمع فيه الصالح والطالح وإن كان لصاحبه فالصحبة تكون بين المؤمن والكافر كما في قوله تعالى : قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك وقوله سبحانه : وما صاحبكم بمجنون و يا صاحبي السجن بل قد تكون بين من يعقل وغيره كقوله : إن الحمار مع الحمير مطية وإذا خلوت به فبئس الصاحب وإن كان لا تحزن فيقال : لا يخلو إما أن يكون الحزن طاعة أو معصية لا جائز أن يكون طاعة وإلا لما نهى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم فتعين أن يكون معصية لمكان النهي وذلك مثبت خلاف مقصودكم على أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه وإن كان إن الله معنا فيحتمل أن يكون المراد إثبات معية الله تعالى الخاصة له صلى الله تعالى عليه وسلم وحده لكن أتى بنا سد لباب الإيحاش ونظير ذلك الإتيان بأوفى قوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين وإن كان فأنزل الله سكينته عليه فالضمير فيه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لئلا يلزم تفكيك الضمائر وحينئذ يكون في تخصيصه عليه الصلاة و السلام بالسكينة هنا مع عدم التخصيص في قوله سبحانه : فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين إشارة إلى ضد ما ادعيتموه وإن كان ما دلت عليه الآية من خروجه مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك الوقت فهو عليه الصلاة و السلام لم يخرجه معه إلا حذرا من كيده لو بقي مع المشركين بمكة وفي كون المجهز لهم بشراء الإبل عليا كرم الله تعالى وجهه إشارة لذلك وإن كان شيئا وراء ذلك فبينوه لنتكلم عليه انتهى كلامهم
ولعمري إنه أشبه بهذيان المحموم أو عربدة السكران ولولا أن الله سبحانه حكى في كتابه الجليل عن إخوانهم اليهود والنصارى ما هو مثل ذلك ورده رحمة بضعفاء المؤمنين ما كنا نفتح في رده فما أو نجري
(10/100)

في ميدان تزييفه قلما لكني لذلك أقول : لا يخفى أن ثاني اثنين وكذا إذ هما في الغار إنما يدلان بمعونة المقام على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ولا ندعي دلالتهما مطلقا ومعونة المقام أظهر من نار على علم ولا يكاد ينتطح كبشان في أن الرجل لا يكون ثانيا باختياره لآخر ولا معه في مكان إذا فر من عدو ما لم يكن معولا عليه متحققا صدقه لديه لاسيما وقد ترك الآخر لأجله أرضا حلت فيها قوابله وحلت عنه بها تمائمه وفارق أحبابه وجفا أترابه وامتطى غارب سبسب يضل بها القطا وتقصر فيه الخطا ومما يدل على فضل تلك الإثنينية قوله صلى الله تعالى عليه وسلم مسكنا جأش أبي بكر : ماظنك باثنين الله تعالى ثالثهما والصحبة اللغوية وإن لم تدل بنفسها على المدعي لكنها تدل عليه بمعونة المقام أيضا فإضافة صاحب إلى الضمير للعهد أي صاحبه الذي كان معه في وقت يجفو فيه الخليل خليله ورفيقه الذي فارق لمرافقته أهله وقبيله وأن لا تحزن ليس المقصود منه حقيقة النهي عن الحزن فإنه من الأمور التي لا تدخل تحت التكليف بل المقصود منه التسلية للصديق رضي الله تعالى عنه أو نحوها وما ذكروه من الترديد يجري مثله في قوله تعالى خطابا لموسى وهارون عليهما السلام : لا تخافا إنني معكما وكذا في قوله سبحانه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا إلى غير ذلك أفترى أن الله سبحانه نهى عن طاعته أو أن أحدا من أولئك المعصومين عليهم الصلاة والسلام إرتكب معصية سبحانك هذا بهتان عظيم ولا ينافي كون الحزن من الأمور التي لا تدخل تحت التكليف بالنظر إلى نفسه أنه قد يكون موردا للمدح والذم كالحزن على فوات طاعة فإنه ممدوح والحزن على فوات معصية فإنه مذموم لأن ذلك باعتبار آخر كما لا يخفى وما ذكر في حيز العلاوة من أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه فيه من إرتكاب الباطل ما فيه فإنا لا نسلم أن الخوف يدل على الجبن وإلا لزم جبن موسى وأخيه عليهما السلام فما ظنك بالحزن وليس حزن الصديق رضي الله تعالى عنه بأعظم من الإختفاء بالغار ولا يظن مسلم أنه كان عن جبن أو يتصف بالجبن أشجع الخلق على الإطلاق صلى الله تعالى عليه وسلم ومن أنصف رأي أن تسليته عليه الصلاة و السلام لأبي بكر بقوله : لا تحزن كما سلاه ربه سبحانه بقوله : لا يحزنك قولهم مشيرة إلى أن الصديق رضي الله تعالى عنه عنده عليه الصلاة و السلام بمنزلته عند ربه جل شأنه فهو حبيب حبيب الله تعالى بل لو قطع النظر عن وقوع مثل هذه التسلية من الله تعالى لنبيه النبيه صلى الله تعالى عليه وسلم كان نفس الخطاب بلا تحزن كافيا في الدلالة على أنه رضي الله تعالى عنه حبيب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإلا فكيف تكون محاورة الأحباء وهذا ظاهر إلا عند الأعداء وما ذكر من أن المعية الخاصة كانت لرسول الله عليه الصلاة و السلام وحده الإتيان بنا لسد باب الإيحاش من باب المكابرة الصرفة كما يدل عليه الخبر المار آنفا على أنه إذا كان ذلك الحزن إشفاقا على رسول الله عليه الصلاة و السلام لا غير فأي إيحاش في قوله لا تحزن على إن الله معي وإن كان إشفاقا على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى نفسه رضي الله تعالى عنه لم يقع التعليل موقعه والجملة مسوقة له ولو سلمنا الإيحاش على الأول ووقوع التعليل موقعه على الثاني يكون ذلك الحزن دليلا واضحا على مدح الصديق وإن كان على نفسه فقط كما يزعمه ذو النفس الخبيثة لم يكن للتعليل معنى أصلا وأي معنى في لا تحزن على نفسك إن الله معي لا معك
على أنه يقال للرافضي هل فهم الصديق رضي الله تعالى عنه من الآية ما فهمت من التخصيص وأن التعبير
(10/101)

بنا كان سدا لباب الإيحاش أم لا فإن كان الأول يحصل الإيحاش ولا بد فنكون قد وقعنا فيما فررنا عنه وإن كان الثاني فقد زعمت لنفسك رتبة لم تكن بالغها ولو زهقت روحك ولو زعمت المساواة في فهم عبارات القرآن الجليل وإشاراته لمصاقع أولئك العرب المشاهدين للوحي ما سلم لك أو تموت فكيف يسلم لك الإمتياز على الصديق وهو هو وقد فهم من إشارته صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث التخيير ما خفي على سائر الصحابة حتى علي كرم الله تعالى وجهه فاستغربوا بكاؤه رضي الله تعالى يومئذ وما ذكر من التنظير في الآية مشير إلى التقية التي إتخذها الرافضة دينا وحرفوا لها الكلم عن مواضعها وقد أسلفنا لك الكلام في ذلك على أتم وجه فتذكره وما ذكر في أمر السكينة فجوابه يعلم مما ذكرناه وكون التخصيص مشيرا إلى إخراج الصديق رضي الله تعالى عنه عن زمرة المؤمنين كما رمز إليه الكلب عدو الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لو كان ما خفي على أولئك المشاهدين للوحي الذين من جملتهم الأمير كرم الله تعالى وجهه فكيف مكنوه من الخلافة التي هي أخت النبوة عند الشيعة وهم الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم وكون الصحابة قد إجتمعوا في ذلك على ضلالة والأمير كان مستضعفا فيما بينهم أو مأمورا بالسكوت وغمد السيف إذ ذاك كما زعمه المخالف قد طوى بساط رده وعاد شذر مذر فلا حاجة إلى إتعاب القلم في تسويد وجه زاعمه وما ذكر من أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يخرجه إلا حذرا من كيده فيه أن الآية ليس فيها شائبة دلالة على إخراجه له أصلا فضلا عن كون ذلك حذرا من الكيد على أن الحذر لو كان في معيته له عليه الصلاة و السلام وأي فرصة تكون مثل الفرصة التي حصلت حين جاء الطلب لباب الغار فلو كان عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه وحاشاه أدنى ما يقال لقال : هلموا فههنا الغرض ولا يقال : إنه خاف على نفسه أيضا لأنه يمكن أن يخلصها منهم بأمور ولا أقل من أن يقول لهم : خرجت لهذه المكيدة وأيضا لو كان الصديق كما يزعم الزنديق فأي شيء منعه من أن يقول لأبنه عبدالرحمن أو إبنته أسماء أو مولاه عامر بن فهيرة فقد كانوا يترددون إليه في الغار كما أخرج ابن مردويه عن عائشة فيخبر أحدهم الكفار بمكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه على هذا الزعم يجيء حديث التمكين وهو أقوى شاهد على أنه هو هو وأيضا إذا انفتح باب هذا الهذيان أمكن للناصي أن يقول والعياذ بالله تعالى في علي كرم الله تعالى وجهه : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمره بالبيتوتة على فراشه الشريف ليلة هاجر إلا ليقتله المشركون ظنا منهم أنه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيستريح منه وليس هذا القول بأعجب ولا أبطل من قول الشيعي : إن إخراج الصديق إنما كان حذرا من شره فليتق الله سبحانه من فتح هذا الباب المستهجن عند ذوي الألباب وزعم أن تجهيز الأمير كرم الله تعالى وجهه لهم بشراء الأباعر إشارة إلى ذلك لا يشير بوجه من الوجوه على أن ذلك وإن ذكرناه فيما قبل إنما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمعول عليه عند المحدثين غير ذلك ولا بأس بإيراده تكميلا للفائدة وتنويرا لفضل الصىيق رضي الله تعالى عنه فنقول أخرج عبدالرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمرر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية ولما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك العماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال ابن الدغنة : أين تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي قال ابن الدغنة : مثلك يا أبا بكر لايخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم
(10/102)

وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف ابن الدغنة في كفار قريش فقال : إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقر الضيف ويعين على نوائب الحق فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيه ما شاء وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره ففعل ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ فيتقصف 1 عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا : إنما أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وأنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن بالصلاة والقراءة وإنا خشينا أن يفتن نساؤنا وأبناؤنا فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وأن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الإستعلان فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال : يا أبا بكر قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في عقد رجل عقدت له فقال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة يومئذ قال للمسلمين : قد أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما حرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة إلى أرض الحبشة من المسلمين وتجهز أبو بكر مهاجرا فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر : وترجو ذلك بأبي أنت قال : نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لصحبته وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر فبينما نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقبلا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر : فداه أبي وأمي إن جاء به في هذه الساعة إلا أمر فجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاستأذن من عندك فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه قد أذن لي بالخروج فقال أبو بكر : فالصحابة بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نعم فقال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : بالثمن قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها فأوكت به الجراب فلذلك كانت تسمى ذات النطاق ولحق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيخرج من عندهما سحرا فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حتى يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى لأبي بكر منيحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب بغلس ساعة من الليل فيبيتان في رسلها حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجلا من الدئل من بني عبد بن عدي هاديا خريتا قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما
(10/103)

وواعداه غار ثور بعد ثلاث فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث ليال فأخذ بهم طريق أذاخر وهو طريق الساحل الحديث بطوله وفيه من الدلالة على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ما فيه وهو نص في أن تجهيزهما كان في بيت أبي بكر وأن الراحلتين كانتا له وذكر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقبل إحداهما إلا بالثمن يرد على الرافضي زعم تهمة الصديقة وحاشاها في الحديث
هذا ومن أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه من الكلام في هذا المقام علم أن قوله : وإن كان شيئا وراء ذلك فبينوه لنا حتى نتكلم عليه ناشيء عن محض الجهل أو العناد ومن يضلل الله فما له من هاد وبالجملة إن الشيعة قد إجتمعت كلمتهم على الكفر بدلالة الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ويأبى الله تعالى إلا أن يكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا إنفروا تجريد للأمر بالنفور بعد التوبيخ على تركه والإنكار على المساهلة فيه وقوله سبحانه : خفافا وثقالا حالان من ضمير المخاطبين أي على كل حال من يسر أو عسر حاصلين بأي سبب كان من الصحة والمرض أو الغنى والفقر أو قلة العيال وكثرتهم أو الكبر والحداثة أو السمن والهزال أو غير ذلك مما ينتظم في مساعدة الأسباب وعدمها بعد الإمكان والقدرة في الجملة أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي يزيد المديني قال : كان أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن الأسود يقولان : أمرنا أن ننفر على كل حال ويتأولان الآية وأخرجا عن مجاهد قال : قالوا إن فينا الثقيل وذا الحاجة والصنعة والشغل والمنتشر به أمره فأنزل الله تعالى انفروا خفافا وثقالا وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم فما روي في تفسيرهما من قولهم : خفافا من السلاح وثقالا منه أو ركبانا ومشاة أو شبانا وشيوخا أو أصحاء ومراضا إلى غير ذلك ليس تخصيصا للأمرين المتقابلين بالإرادة من غير مقارنة للباقي وعن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أعلي أن أنفر قال : نعم حتى نزل ليس على الأعمى حرج وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن السدي قال : لما نزلت هذه الآية إشتد على الناس شأنها فنسخها الله تعالى فقال : ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية وقيل : إنها منسوخة بقوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة وهو خلاف الظاهر ويفهم من بعض الروايات أن لا نسخ فقد أخرج ابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن أبي راشد قال : رأيت المقداد فارس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحمص يريد الغزو فقلت : لقد أعذر الله تعالى إليك قال : أبت علينا سورة البحوث يعني هذه الآية منها
وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله أي بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحداهما والجهاد بالمال إنفاقه على السلاح وتزويد الغزاة ونحو ذلك ذلكم أي ما ذكر من النفير والجهاد وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة خير عظيم في نفسه لكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ويجوز أن يكون المراد خير لكم مما يبتغى بتركه من الراحة والدعة وسعة العيش والتمتع بالأموال والأولاد
إن كنتم تعلمون
14
- أي إن كنتم تعلمون الخير علمتم أنه خير أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ لا إحتمال لغير الصدق في أخباره تعالى فبادروا إليه فجواب إن مقدر وعلم إما متعدية لواحد بمعنى عرف تقليلا للتقدير أو متعدية لأثنين على بابها هذا
(10/104)

ومن باب الإشارة في الآيات أن قوله سبحانه لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم الخ إشارة إلى أنه لا ينبغي للعبد أن يحتجب بشيء عن مشاهدة الله تعالى والتوكل عليه ومن إحتجب بشيء وكل إليه ومن هنا قالوا : إستجلاب النصر في الذلة والإفتقار والعجز ولما رأى سبحانه ندم القوم على عجبهم بكثرتهم ردهم إلى ساحة جوده وألبسهم أنوار قربه وأمدهم بجنوده وإليه الإشارة بقوله تعالى : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين الآية وكانت سكينته عليه الصلاة و السلام كما قال بعض العارفين من مشاهدة الذات وسكينة المؤمنين من معاينة الصفات ولهم في تعريف السكينة عبارات كثيرة متقاربة المعنى فقيل : هي إستحكام القلب عند جريان حكم الرب بنعت الطمأنينة بخمود آثار البشرية بالكلية والرضا بالبادي من الغيب من غير معارضة واختيار وقيل : هي القرار على بساط الشهود وبشواهد الصحو والتأدب بإقامة صفاء العبودية من غير لحوق مشقة ولا تحرك عرق بمعارضة حكم وقيل : هي المقام مع الله تعالى بفناء الحظوظ والجنود روادف آثار قوة تجلي الحق سبحانه ويقال : هي وفود اليقين وزوائد الإستبصار
والإشارة في قوله تعالى : إنما المشركون نجس الخ إلى أن من تدنس بالميل إلى السوى وأشرك بعبادة الهوى لا يصلح للحضرة وهل يصلح لبساط القدس إلا المقدس وذكر أبو صالح حمدون أن المشرك في عمله من يحسن ظاهره لملاقاة الناس ومخالطتهم ويظهر للخلق أحسن ما عنده وينظر إلى نفسه بعين الرضا عنها وينجس باطنه بنحو الرياء والسمعة والعجب والحقد ونحو ذلك فالحرم الإلهي حرام على هذا وهيهات هيهات أن يلج الملكوت أو يلج الجمل في سم الخياط وقال بعض العارفين : من فقد طهارة الأسرار بماء التوحيد وبقي في قاذورات الظنون والأوهام فذلك هو المشرك وهو ممنوع عن قربان المساجد التي هي مشاهد القرب وفي الآية إشارة إلى منع الإختلاط مع المشركين وقاس الصوفية أهل الدنيا بهم ومن هنا قال الجنيد : الصوفية أهل غيب لا يدخل فيهم غيرهم وقال بعضهم : من بقي في قلبه نظر إلى غير خالقه لا يجوز أن يدنوا إلى مجالس الأولياء غير مستشف بهم فإن صحبته تشوش خواطرهم وينجس بنفسه أنفاسهم وصحبة المنكر على أولياء الله تعالى تورث فتقا يصعب على الخياط رتقه وتؤثر خرقا يعي الواعظ رقعه ومن الغريب ما يحكى أن الجنيد قدس سره جلس يوما مع خاصة أصحابه وقد أغلق باب المجلس حذرا من الأغيار وشرعوا يذكرون الله تعالى فلم يتم لهم الحضور ولا فتح لهم باب التجلي الذي يعهدونه عند الذكر فتعجبوا من ذلك فقال الجنيد هل معكم منكر حرمنا بسببه فقالوا : لا ثم اجتهدوا في معرفة المانع فلم يجدوا إلا نعلا لمنكر فقال الجنيد : من هنا أوتينا فانظر يرحمك الله تعالى إذا كان هذا حال نعل المنكر فما ظنك به إذا حضر بلحيته
ثم إنه سبحانه ذم أهل الكتابين بالإحتجاب عن رؤية الحق سبحانه حيث قال جل شأنه : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وفيه إشارة إلى ذم التقليد الصرف وذم البخلاء بقوله سبحانه : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية ولعمري إنهم أحقاء بالذم وقد قال بعضهم من بخل بالقليل من ملكه فقد سد على نفسه باب نجاته وفتح عليها طريق هلاكه
ولا يخفى أن جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق لا يكون إلا لإستحكام رذيلة الشح وكل رذيلة كية يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال كان هو الذي يحمى عليه في نار جهنم الطبيعة وهاوية الهوى فيكوى صاحبه به وخصت هذه الأعضاء لأن
(10/105)

الشح مركوز في النفس والنفس تغلب القلب من هذه الجهات لا من جهة العلو التي هي جهة إستيلاء الروح وممد الحقائق والأنوار ولا من جهة السفلى التي هي الجهة الطبيعة الجسمانية لعدم تمكن الطبيعة من ذلك فبقيت سائر الجهات فيؤذي بذلك من الجهات الأربع ويعذب وهذا كما تراه يعاب في الدنيا ويخزي من هذه الجهات فيواجه بالذم جهرا فيفضح أو يسار في جنبه أو يغتاب من وراء ظهره قاله بعض العارفين ولهم في قوله سبحانه : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا تأويل بعيد يطلب من محله وقوله سبحانه : إلا تنصروه الخ عتاب للمتثاقلين أو لأهل الأرض كافة وإرشاد إلى أنه عليه الصلاة و السلام مستغن بنصرة الله عن نصرة المخلوقين وفيه إشارة إلى رتبة الصديق رضي الله تعالى عنه فقد إنفرد برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنفراده عليه الصلاة و السلام بربه سبحانه في مقام قاب قوسين ومعنى إن الله معنا على ما قال ابن عطاء إنه معنا في الأزل حيث وصل بيننا بوصلة الصحبة وأثر هذه المعية قد ظهر في الدنيا والآخرة فلم يفارقه حيا ولا ميتا وقيل : معنا بظهور عنايته ومشاهدته وقربه الذي لا يكيف ولله تعالى در من قال : يا طالب الله في العرش الرفيع به لا تطلب العرش أن المجد للغار ولا يخفى ما بين قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله معنا وقول موسى عليه السلام : إن معي ربي من الفرق الظاهر لأرباب الأذواق حيث قدم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم اسمه تعالى عليه وعكس موسى عليه السلام وأتى صلى الله تعالى عليه وسلم بالإسم الجامع وأتي الكليم باسم الرب وأتي عليه الصلاة و السلام بنا في معنا وأتي موسى عليه السلام بياء المتكلم لأن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على خلق لم يكن عليه موسى عليه الصلاة و السلام والضمير في قوله تعالى : فأنزل الله سكينته عليه إن كان للصاحب فالأمر ظاهر وإن كان للنبي عليه الصلاة و السلام فيقال : في ذلك إشارة إلى مقام الفناء في الشيخ إذ ذاك
وقال بعض الأكابر : أنزلت السكينة عليه عليه الصلاة و السلام لتسكين قلب الصديق رضي الله تعالى عنه وإذهاب الحزن عنه بطريق الإنعكاس والإشراق ولو أنزلت على الصديق بغير واسطة لذاب لها ولعظمها فكأنه قيل : أنزل سكينة صاحبه عليه انفروا خفافا وثقالا أي انفروا إلى طاعة مولاكم خفافا بالأرواح ثقالا بالقلوب أو خفافا بالقلوب وثقالا بالأجسام بأن يطيعوه بالأعمال القلبية والقالبية أو خفافا بأنوار المودة وثقالا بأمانات المعرفة أو خفافا بالبسط وثقالا بالقبض وقيل : خفافا بالطاعة وثقالا عن المخالفة وقيل غير ذلك وجاهدوا بأموالكم بأن تنفقوها للفقراء وأنفسكم بأن تجودوا بها لله تعالى ذلكم خير لكم في الدارين إن كنتم تعلمون ذلك والله تعالى الموفق للرشاد
لو كان أي ما دعوا إليه كما يدل عليه ما تقدم عرضا قريبا أي غنما سهل المأخذ قريب المنال وأصل العرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها وفي الحديث الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر وسفرا قاصدا أي متوسطا بين القرب والبعد وهو من باب تامر ولابن لاتبعوك أي لوافقوك في النفير طمعا في الفوز بالغنيمة وهذا شروع في تعديد ما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا وبيان قصور همهم وما هم عليه من غير ذلك وقيل : هو تقرير لكونهم متثاقلين مائلين إلى الإقامة بأرضهم وتعليق الإتباع بكلا الأمرين يدل على عدم تحققه عند توسط السفر فقط
(10/106)

ولكن بعدت عليهم الشقة أي المسافة التي تقطع بمشقة وقرأ عيسى بن عمر بعدت بكسر العين والشقة بكسر الشين وبعد يبعد كعلم يعلم لغة واختص ببعد الموت غالبا وجاء لا تبعد للتفجع والتحسر في المصائب كما قال : لا يبعد الله إخوانا لنا ذهبوا أفناهم حدثان الدهر والأبد وسيحلفون أي المتخلفون عن الغزو بالله متعلق بسيحلفون وجوز أن يكون من جملة كلامهم ولا بد من تقدير القول في الوجهين أي سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك بالله قائلين لو استطعنا أو سيحلفون قائلين بالله لو استطعنا الخ وقيل : لا حاجة إلى تقدير القول لأن الحلف من جنس القول وهو أحد المذهبين المشهورين والمعنى لو كان لنا إستطاعة من جهة العدة أو من جهة الصحة أو من جهتيهما معا حسبما عن لهم من التعلل والكذب لخرجنا معكم لما دعوتمونا إليه وهذا جواب القسم وجواب لو محذوف على قاعدة إجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم وهو إختيار ابن عصفور واختار ابن مالك أنه جواب لو ولو جوابها جواب القسم وقيل : إنه ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعا والقسم على الإحتمال الأول ظاهر وأما على الثاني فلأن لو إستطعنا في قوة بالله لو إستطعنا لأنه بيان لسيحلفون بالله وتصديق له كما قيل
واعترض القول الأخير بأنه لم يذهب إليه أحد من أهل العربية وأجيب بأن مراد القائل أنه لما حذف جواب لو دل عليه جواب القسم جعل كأنه ساد مسد الجوابين وقرأ الحسن والأعمش لو استطعنا بضم الواو وتشبيها لها بواو الجمع كما في قوله تعالى : فتمنوا الموت و اشتروا الضلالة وقريء بالفتح أيضا يهلكون أنفسهم بايقاعها في العذاب قيل : وهو بدل من سيحلفون واعترض بأن الهلاك ليس مرادفا للحلف ولا هو نوع منه ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفا له أو نوعا منه وأجيب بأن الحلف الكاذب إهلاك للنفس ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم : اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع وحاصله أنهما ترادفان ادعاء فيكون بدل كل من كل وقيل إنه بدل إشتمال إذا لحلف سبب للإهلاك والمسبب يبدل من السبب لإشتماله عليه وجوز أن يكون حالا من فاعله أي سيحلفون مهلكين أنفسهم وأن يكون حالا من فاعل لخرجنا جيء به على طريقة الخبار عنهم كأنه قيل : نهلك أنفسنا أي لخرجنا مهلكين أنفسنا كما في قولك : حلف ليفعلن مكان لأفعلن ولكن فيه بعد وجوز أبو البقاء الإستئناف والله يعلم إنهم لكاذبون
24
- في مضمون الشرطية وفيما ادعوا ضمنا من إنتفاء تحقق المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا
واستدل بالآية على أن القدرة قبل الفعل عفا الله عنك لم أذنت لهم أي لأي سبب أذنت لهؤلاء الحالفين المتخلفين في التخلف حين استأذنوا فيه معتذرين بعدم الإستطاعة وهذا عتاب لطيف من اللطيف الخبير سبحانه لحبيبه صلى الله تعالى عليه وسلم على ترك الأولى وهو التوقف عن الاذن إلى إنجلاء الأمر وانكشاف الحال المشار إليه بقوله سبحانه : حتى يتبين لك الذين صدقوا أي فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم الإستطاعة وتعلم الكاذبين
34
- أي في ذلك فحتى سواء كانت بمعنى اللام أو إلى متعلقة بما يدل عليه لم أذنت لهم كأنه قيل : لم سارعت إلى الاذن لهم ولم تتوقف حتى ينجلي الأمر كما هو قضية الحزم اللائق بشأنك الرفيع ياسيد أولي العزم
ولا يجوز أن تتعلق بالمذكور نفسه مطلقا لاستلزامه أن يكون أذنه عليه الصلاة و السلام لهم معللا أو مغيا بالتبين
(10/107)

والعلم ويكون توجه الإستفهام إليه من تلك الحيثية وهو بين الفساد وكلتا اللامين متعلقة بالأذن وهما مختلفتان معنى فإن الأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجميع من أشير إليه
وتوجيه الإنكار إلى الأذن باعتبار شموله للكل لا باعتبار تعلقه بكل فرد فرد لتحقق عدم استطاعة البعض على ما ينبىء عنه ما في حيز حتى والتعبير عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص لكنه جار على عادتهم المستمرة ناشيء عن رسوخهم في الكذب والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما اشتهر من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وإسناد العلم له صلى الله تعالى عليه وسلم دون المعلومين بأن يبنى الفعل للمفعول مع إسناد التبين للأولين لما أن المقصود ههنا علمه عليه الصلاة و السلام بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم وإسناد التبين إليهم وتعليق العلم بالآخرين مع أن مدار الإستناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن القصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورين قاله شيخ الإسلام ولا يخفى حسنه وفي تصدير الخطاب بما صدر به تعظيم لقدر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتوقير له وتوفير لحرمته عليه الصلاة و السلام وكثيرا ما يصدر الخطاب بنحو ما ذكر لتعظيم المخاطب فيقال : عفا الله تعالى عنك ما صنعت في أمري ورضي الله سبحانه عنك ما جوابك عن كلامي والغرض التعظيم ومن ذلك قول علي بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه : : عفا الله عنك ألا حرمة تجود بفضلك يا ابن العلا ألم تر عبدا عدا طوره ومولى عفا ورشدا هدى أقلني أقالك من لم يزل يقيك ويصرف عنك الردى ووما ينظم في هذا السلك ما روي من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لقد عجبت من يوسف عليه السلام وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني وأخرج ابن المنذر وغيره عن عون بن عبدالله قال : سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا بدأ بالعفو قبل المعاتبة وقال السجاوندي : إن فيه تعليم تعظيم النبي صلوات الله سبحانه عليه وسلامه ولولا تصدير العفو في العتاب لما قام بصولة الخطاب وعن سفيان بن عيينة أنه قال : انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب صاحب الكشاف كشف الله تعالى عنه ستره ولا أذن له ليذكر عذره حيث زعم أن الكلام كناية عن الجناية وأن معناه أخطأت لا يكون هو المراد أو يكون ولكن قد أجل قد أجل الله تعالى نبيه الكريم عن مخاطبته بذلك ولطف به في الكناية عنه أفلا يتأدب بآداب الله خصوصا في حق المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم فعلى التقديرين هو ذاهل عما يجب من حقه عليه الصلاة و السلام
ويا سبحان الله من أين أخذ عامله الله تعالى بعد له ما عبر عنه ببئسما والعفو لو سلم مستلزم للخطأ فهو
(10/108)

غير مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ويسوغ إنشاء الإستقباح بكلمة بئسما المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها واعتذر عنه صاحب الكشف حيث قال : أراد أن الأصل ذلك وأبدل بالعفو تعظيما لشأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وتنبيها على لطف مكانه ولذلك قدم العفو على ذكر ما يوجب الجناية وليس تفسيره هذا بناءا على أن العدول إلى عفا الله لا للتعظيم حتى يخطأ
وأما المستعمل لمجرد التعظيم فهو إذا كان دعاء لا خبرا على أن الدعاء قد يستعمل للتعريض بالإستقصاء كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : رحم الله تعالى أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد وتحقيقه أنه لا يخلو عن حقارة بشأن المخاطب أو الغائب حسب اختلاف الصيغة وأما التعظيم أو التعريض فقد وقد انتهى ولا يخفى ما فيه فهو اعتذار غير مقبول عند ذوي العقول وكم لهذه السقطة في الكشاف نظائر ولذلك امتنع من إقرائه بعض الأكابر كالإمام السبكي عليه الرحمة وليت العلامة البيضاوي لم يتابعه في شيء من ذلك هذا واستدل بالآية من زعم صدور الذنب منه عليه الصلاة و السلام وذلك من وجهين : الأول : أن العفو يستدعي سابقة الذنب الثاني : أن الإستفهام الإنكاري بقوله سبحانه : لم أذنت يدل على أن ذلك الأذن كان معصية والمحققون على أنها خارجة مخرج العتاب كما علمت على ترك الأولى والأكمل قالوا : لا يخفى أنه لم يكن كما في خروجهم مصلحة للدين أو منفعة للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله تعالى : لو خرجوا الخ وقد كرهه سبحانه وتعالى كما يفصح عنه قوله جل وعلا : ولكن كره الله انبعاثهم الآية نعم كان الأولى تأخير الأذن حتى يظهر كذبهم ويفتضحوا على رؤس الأشهاد ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ولا يتسنى لهم الإبتهاج فيما بينهم بأنهم غروه صلى الله تعالى عليه وسلم وأرضوه بالأكاذيب على أنهم لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان
ومن الناس من ضعف الإستدلال بالآية على ما ذكر بأنا لو نسلم أن عفا الله يستدعي سابقة الذنب والسند ما أشرنا إليه فيما مر سلمنا لكن لا نسلم أن قوله سبحانه : لم أذنت لهم مقول على سبيل الإنكار عليه عليه الصلاة و السلام لأنه لا يخلو إما أن يكون صدر منه صلى الله تعالى عليه وسلم ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر وعلى التقديرين يمتنع أن يكون ما ذكر إنكارا أما على الأول فلأنه إذا لم يصدر عنه ذنب فكيف يتأتى الإنكار عليه وأما على الثاني فلأن صدر الآية يدل على حصول العفو وبعد حصوله يستحيل توجه الإنكار فافهم
واستدل بها جمع على أن له صلى الله عليه و سلم اجتهادا وأنه قد يناله منه أجر واحد والوجه فيه ظاهر وما فعله صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الواقعة أحد أمرين فعلهما ولم يؤمر بفعلهما كما أخرج ابن جرير وغيره عن عمرو بن ميمون ثانيهما أخذه صلى الله تعالى عليه وسلم الفداء من الأسارى وقد تقدم وادعى بعضهم الحصر في هذين الأمرين واعترض بأنه غير صحيح فإن لهما ثالثا وهو المذكور في سورة التحريم وغير ذلك كالمذكور في سورة عبس وأجيب بأنه يمكن تقييد الأمرين بما يتعلق بأمر الجهاد والله تعالى ولي الرشاد
لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر تنبيه على أنه ينبغي أن يستدل عليه الصلاة و السلام باستئذانهم على حالهم ولا يأذن لهم أي ليس من شأن المؤمنين وعادتهم أن يستأذنوك في أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم
(10/109)

فإن الخاص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الأذن فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه ونفي العادة مستفاد من نفي الفعل المستقبل الدال على الإستمرار نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم فالكلام محمول على في الإستمرار ولو حمل على إستمرار النفي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون فيكون المعنى عادتهم عدم الإستئذان لم يبعد ومثل هذا قول الحماسي : لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا قيل : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي إليه معروفا ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما فإن الإستئذان في مثل هذه المواطن أمارة التكلف والتكره ولقد بلغ من كرم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأدبه مع ضيوفه أنه لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيء للضيافة بمرأى منهم فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة و السلام بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة فقال سبحانه : فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين أي ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به وجوز أن يكون متعلق الإستئذان محذوفا وأن يجاهدوا بتقدير كراهة أن يجاهدوا والمحذوف قيل : التخلف عليه والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد والنفي متوجه للإستئذان والكراهة معا وقال بعض : إنه متوجه إلى القيد وبه ويمتاز المؤمن من المنافق وهو وإن كان في نفسه أمرا خفيا لا يوقف عليه باديء الأمر لكن عامة أحوالهم لما كانت منبئة عن ذلك جعل أمرا ظاهرا مقررا
وقيل : الجهاد أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهة أن يجاهدوا وتعقب بأنه مبني على أن الإستئذان في الجهاد ربما يكون لكراهة ولا يخفى أن الإستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يعقل ولو سلم وقوعه فالإستئذان لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهر من الإستئذان لعلة الرغبة لو سلم فالذي نفي عن المؤمنين يجب أن يثبت للمنافقين وظاهر أنهم لم يستأذنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف فتدبر والله عليم بالمتقين
44
- شهادة لهم بالتقوى لوضع المظهر فيه موضع المضمر أو إرادة جنس المتقين ودخولهم فيه دخولا أوليا وعدة لهم بالثواب الجزيل فإن قولنا : أحسنت إلي فأنا أعلم بالمحسن وعد بأجزل الثواب وأسأت إلي فأنا أعلم بالمسيء وعيد بأشد العقاب قيل : وفي ذلك تقرير لمضمون ما سبق كأنه قيل : والله عليم بأنهم كذلك وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى إنما يستأذنك أي في التخلف الذين لا يؤمنون بالله واليوم تلآخر تخصيص الإيمان بهما في الموضعين للإيذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان بهما فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه وتوحيده وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ومن لم يؤمن بمعزل عن ذلك على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب الإيمان به وارتابت قلوبهم عطف على الصلة وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الريب وتقرره فهم في ريبهم وشكهم المستمر في قلوبهم يترددون
54
- أي يتحيرون وأصل معنى التردد الذهاب والمجيء وأريد به هنا التحير مجازا أو كناية لأن المتحير لا يقر في مكان والآية نزلت كما
(10/110)

روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في المنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر وكانوا على ما في بعض الروايات تسعة وثلاثين رجلا وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما عنه أن قوله تعالى : لا يتأذنك الخ نسخته الآية التي في النور إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله إلى إن اله غفور رحيم فجعل الله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأعلى النظرين في ذلك من غزا غزا في فضيلة ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء
ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة أي أهبة من الزاد والراحلة وسائر ما يحتاج إليه المسافر في السفر الذي يريده
وقريء عده بضم العين وتشديد الدال والإضافة إلى ضمير الخروج قال ابن جني : سمع محمد بن عبدالملك يقرأ بها وخرجت على أن الأصل عدته إلا أن التاء سقطت كما في إقام الصلاة وهو سماعي وإلى هذا ذهب الفراء والضمير على ما صرح به غير واحد عوض عن التاء المحذوفة قيل : ولا تحذف بغير عوض وقد فعلوا مثل ذلك في عدة بالتخفيف بمعنى الوعد كما في قول زهير : إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا وقريء عده بكسر العين باضافة وغيرها ولكن كره الله انبعاثهم أي خروجهم كما روي عن الضحاك أو نهوضهم للخروج كما قال غير واحد فثبطهم أي حبسهم وعوقهم عن ذلك : والإستدراك قيل عما يفهم من مقدم الشرطية فإن انتفاء إرادة الخروج يستلزم انتفاء خروجهم وكراهة الله تعالى انبعاثهم يستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل : ما خرجوا لكن تثبطوا عن الخروج فهو إستدراك نفي الشيء باثبات ضده كما يستدرك نفي الإحسان باثبات الإساءة في قولك : ما أحسن إلي لكن أساء والإتفاق في المعنى لا يمنع الوقوع بين طرفي لكن بعد تحقق الإختلاف نفيا وإثباتا في اللفظ وبحث فيه بعضهم بأن لكن تقع بين ضدين أو نقيضين أو مختلفين على قول ووقعت فيما نحن فيه بين متفقين على هذا التقرير فالظاهر أنها للتأكيد كما أثبتوا مجيئها لذلك وفيه نظر : واستظهر بعض المحققين كون الإستدراك من نفس المقدم على نهج ما في الأقيسة الإستثنائية والمعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره انبعاثهم من المفاسد فحبسهم بالجبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له
وقيل اقعدوا مع القاعدين
64
- تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود فيهم والقائه سبحانه كراهة الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول حقيقة ونظير ذلك قوله سبحانه : فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم أي أماتهم ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض أو أذن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لهم في القعود فالقول على حقيقته والمراد بالقاعدين الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء والصبيان والزمنى أو الرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج وفيه على بعض الإحتمالات من الذم ما لا يخفى فتدبر لو خرجوا فيكم بيان لكراهة الله تعالى انبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم ما زادوكم شيئا من الأشياء إلا خبالا أي شرا وفسادا وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عجزا وجبنا وعن الضحاك غدرا ومكرا وأصل الخبال كما قال الخازن : اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون وفي مجمع البيان أنه الإضطراب في الرأي والإستثناء مفرغ متصل والمستثنى منه ما علمت
(10/111)

ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الإستثناء
وقال بعضهم : توهما منه لزوم ما ذكر هو مفرغ منقطع والتقدير ما زادوكم قوة وخيرا لكن شرا وخبالا
واعترض بأن المنقطع لا يكون مفرغا وفيه بحث لأنه مانع منه إذا دلت القرينة عليه كما إذا قيل : ما أنسيك في البادية فقلت : ما لي بها إلا اليعافير أي ما لي بها أنيس إلا ذلك وأنت تعلم أن في وجود القرينة ههنا مقالا
وقال أبو حيان : إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضا واجتمعوا بهم زاد الخبال فلا فساد في ذلك الإستلزام لو ترتب ولأوضعوا خلالكم الإيضاع سير الإبل يقال : أوضعت الناقة تضع إذا أسرعت وأوضعتها أنا إذا حملتها على الإسراع والخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفا بمعنى بين ومفعول الإيضاع مقدر أي النمائم بقرينة السياق وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبهت النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها وأثبت لها الإيضاع على سبيل التخييل والمعنى ولسعوا بينكم بالنميمة وإفساد ذات البين
وقال العلامة الطيبي : فيه إستعارة تبعية حيث شبه سرعة إفسادهم ذات البين بالنمائم بسرعة سير الراكب ثم استعير لها الإيضاع وهو للإبل والأصل ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل لأوضعوا اركائبهم ثم حذفت الركائب ومنع الأخفش في كتاب الغايات أن يقال : أوضعت الركائب ووضع البعير بمعنى أسرع وإنما يستعمل ذلك بدون قيد وجوز ذلك غيره واستدل له بقوله : فلم أر سعدى بعد يوم لقيتها غداة بها أجمالها صاح توضع وقريء ولأرقصوا من رقصت الناقة إذا أسرعت وأرقصتها ومنه قوله : يا عام لو قدرت عليك رماحنا والراقصات إلى منى فالغبغب وقريء لأوفضوا والمراد لأسرعوا أيضا يقال : أوفض واستوفض إذا استعجل وأسرع والوفض العجلة وكتب قوله تعالى : لأوضعوا في الإمام بألفين الثانية منهما هي فتحة الهمزة والفتحة ترسم لها ألف كما ذكره الداني وفي الكشاف كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى ومثل ذلك أو لأذبحنه يبغونكم الفتنة أي يطلبون أن يفتنوكم بايقاع الخلاف فيما بينكم وتهويل أمر العدو عليكم والقاء الرعب في قلوبكم وهذا هو المروي عن الضحاك وعن الحسن أن الفتنة بمعنى الشرك أي يريدون أن تكونوا مشركين والجملة في موضع الحال من ضمير أوضعوا أي باغين لكم الفتنة ويجوز أن تكون استئنافا وفيكم سماعون لهم أي نمامون يسمعون حديثكم لأجل نقله إليهم كما روي عن مجاهد وابن زيد أو فيكم أناس من المسلمين ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم كما روي عن قتادة وابن اسحق وجماعة واللام على التفسير الأول للتعليل وعلى الثاني للتقوية كما في قوله تعالى : فعال لما يريد والجملة حال من مفعول يبغونكم أو من فاعله لإشتمالها على ضميرهما أو مستأنفة
قال بعض المحقيين : ولعل هؤلاء لم يكونوا في كمية العدد وكيفية الفساد بحيث يخل مكانهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهاد إخلالا عظيما ولم يكن فساد خروجهم معادلا لمنفعته ولذلك لم تقتض الحكمة عدم خروجهم فخرجوا مع المؤمنين ولكن حيث كان إنضمام المنافقين القاعدين إليهم مستتبعا لخلل كلي كره الله تعالى انبعاثهم فلم
(10/112)

يتسن إجتماعهم فاندفع فسادهم انتهى والإحتياج إليه على التفسير الأول أظهر منه على التفسير الثاني لأن الظاهر عليه أن القوم لم يكونوا منافقين ووجه العتاب على الاذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى فيهم أنهم لو قعدوا بغير إذن منه عليه الصلاة و السلام لظهر نفاقهم فيما بين المسلمين من أول الأمر ولم يقدروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالاراجيف ولم يتسن لهم التمتع بالعيش إلى أن يظهر حالهم بقوارع الآيات النازلة والله عليم بالظالمين
74
- علما محيطا بظواهرهم وبواطنهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة فيجازيهم على ذلك ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والإشعار بترتبه على الظلم ويجوز أن يراد بالظالمين الجنس ويدخل المذكورون دخولا أوليا والمراد منهم إما القاعدون أو هم والسماعون لقد إبتغوا الفتنة تشتيت شملك وتفرق أصحابك من قبل أي من قبل هذه الغزوة وذلك كما روي عن الحسن يوم أحد حين انصرف عبدالله بن أبي بن سلول بأصحابه المنافقين وقد تخلف بهم عن هذه الغزوة أيضا بعد أن خرج مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قريب من ثنية الوداع وروي عن سعيد بن جبير وابن جريج أن المراد بالفتنة الفتك برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة العقبة وذلك أنه اجتمع إثنا عشر رجلا من المنافقين ووقفوا على الثنية ليفتكوا به عليه الصلاة و السلام فردهم الله تعالى خاسئين وقلبوا لك الأمور أي المكايد وتقليبها مجاز عن تدبيرها أو الأراء وهو مجاز عن تفتيشها أي دبروا لك المكايد والحيل أو دوروا الآراء في إبطال أمرك وقريء وقلبوا بالتخفيف حتى جاء الحق أي النصر والظفر الذي وعده الله تعاالى وظهر أمر الله أي غلب دينه وعلا شرعه سبحانه وهم كارهون
84
- أي في حال كراهتهم لذلك أي على رغم منهم والإتيان كما قالوا لتسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله وهتك أستارهم وإزاحة أعذارهم تداركا لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الأذن وإيذانا بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهويلا للخطب ومنهم من يقول ائذن لي في القعود عن الجهاد ولا تفتني أي ولا توقعني في الفتنة بنساء الروم
أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أراد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس : يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الأصفر فقال : يا رسول الله إني امرؤ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن فائذن لي ولا تفتني فنزلت وروى نحوه عن عائشة وجابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنهما أولا توقعني في المعصية والإثم بمخالفة أمرك في الخروج إلى الجهاد وروي هذا عن الحسن وقتادة واختاره الجبائي وفي الكلام على هذا إشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له صلى الله تعالى عليه وسلم أو لم يأذن وفسر بعضهم الفتنة بالضرر أي لا توقعني في ذلك فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي لعدم من يقوم بمصالحهم وقال أبو مسلم : أي لا تعذبني بتكليف الخروج في شدة الحر وقريء ولا تفتني من أفتنه بمعنى فتنه ألا في الفتنة أي في نفسها وعينها وأكمل افرادها الغني عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به سقطوا لا في شيء مغاير لها فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءة على هذا الإستئذان والقعود بالإذن المبني عليه وعلى الإعتذارات الكاذبة وفي
(10/113)

مصحف أبي سقط بالإفراد مراعاة للفظ من ولا يخفى ما في تصدير الجملة بأداة التنبيه من التحقيق وفي التعبير عن الإفتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين وتقديم الجار والمجرور لا يخفى وجهه وإن جهنم لمحيطة بالكافرين
94
- وعيد لهم على ما فعلوا وهو عطف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه أي جامعة لهم من كل جانب لا محالة وذلك يوم القيامة فالمجاز في اسم الفاعل حيث استعمل في الإستقبال بناء على أنه حقيقة في الحال ويحتمل أن يكون المراد أنها محيطة بهم الآن بأن يراد من جهنم أسبابها من الكفر والفتنة التي سقطوا فيها ونحو ذلك مجازا
وقد يجعل الكلام تمثيلا بأن تشبه حالهم في إحاطة الأسباب بحالهم عند إحاطة النار وكون الأعمال التي هم فيها هي النار بعينها لكنها ظهرت بصورة الأعمال في هذه النشأة وتظهر بالصورة النارية في النشأة الأخرى كما قيل نظيره في قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا منزع صوفي والمراد بالكافرين إما المنافقون المبحوث عنهم وإيثار وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بأنه معظم أسباب الإحاطة المذكورة وإما جميع الكافرين ويدخل هؤلاء دخولا أوليا إن تصبك في بعض مغازيك حسنة من الظفر والغنيمة تسؤهم تلك الحسنة أي تورثهم مساءة وحزنا لفرط حسدهم لعنهم الله تعالى وعداوتهم وإن تصبك في بعضها مصيبة كانكسار جيش وشدة يقولوا متبجحين بما صنعوا حامدين لآرائهم قد أخذنا أمرنا أي تلافيا ما يهمنا من الأمر يعنون به التخلف والقعود عن الحرب والمداراة مع الكفرة وغير ذلك من أمور الكفر والنفاق قولا وفعلا من قبل أي من قبل إصابة المصيبة حيث ينفع التدارك يشيرون بذلك إلى أن نحو ما صنعوه إنما يروج عند الكفرة بوقوعه حال قوة الإسلام لا بعد إصابة المصيبة ويتولوا أي وينصرفوا عن متحدثهم ومحل إجتماعهم إلى أهليهم وخاصتهم أو يتفرقوا أو ينصرفوا عنك يا رسول الله وهم فرحون
5
- بما صنعوا وبما أصابك من السيئة والجملة في موضع الحال من الضمير في يقولوا ويتولوا فإن الفرح مقارن للأمرين معا وإيثار الجملة الإسمية للدلالة على دوام السرور وإنما لم يؤت بالشرطية الثانية على طرز الأولى بأن يقال : وإن تصبك مصيبة تسرهم بل أقيم ما يدل على ذلك مقامه مبالغة في فرط سرورهم مع الإيذان بأنهم في معزل عن إدراك سوء صنيعهم لإقتضاء المقام ذلك وقيل : إن إسناد المساءة إلى الحسنة والمسرة إلى أنفسهم للإيذان باختلاف حالهم حالتي عروض المساءة والمسرة بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون وقوبل هنا الحسنة بالمصيبة ولم تقابل بالسيئة كما قال سبحانه في سورة آل عمران : وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها لأن الخطاب هنا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو هناك للمؤمنين وفرق بين المخاطبين فإن الشدة لا تزيده صلى الله تعالى عليه وسلم إلا ثوابا فإنه المعصوم في جميع أحواله عليه الصلاة و السلام وتقييد الإصابة في بعض الغزوات لدلالة السياق عليه وليس المراد به بعضا معينا هو هذه الغزوة التي إستأذنوا في التخلف عنها وهو ظاهر نعم سبب النزول يوهم ذلك فقد أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبدالله قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا في المدينة يخبرون عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
(10/114)

أخبار السوء ويقولون : إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي عليه الصلاة و السلام وأصحابه فأنزل الله تعالى الآية فتأمل
قل تبكيتا لهم لن يصيبنا أبدا إلا ما كتب الله لنا أي ما اختصنا بإثابته وإيجابه من المصلحة الدنيوية أو الآخروية كالنصرة أو الشهادة المؤدية للنعيم الدائم فالكتب بمعنى التقدير واللام للإختصاص وجوز أن يكون المراد بالكتب الخط في صاللوح واللام للتعليل والأجل أي لن يصيبنا إلا ما خط الله تعالى لأجلنا في اللوح ولا يتغير بموافقتكم ومخالفتكم فتدل الآية على أن الحوادث كلها بقضاء الله تعالى وروي هذا عن الحسن وادعى بعضهم أنه غير مناسب للمقام وأن قوله تعالى : هو مولانا أي ناصرنا ومتولي أمورنا يعين الأول لأنه يبين أن معنى اللام الإختصاص ويخصص الموصول بالنصر والشهادة أي لن يصيبنا إلا ذلك دون الخذلان والشقاوة كما هو مصير حالكم لأنا مؤمنون وأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم وقد يقال : هو تعليل لما يستفاد من القول السابق من الرضا أي لن يصيبنا إلا ما كتب من خير أو شر فلا يضرنا ما أنتم عليه ونحن بما فعل الله تعالى راضون لأنه سبحانه مالكنا ونحن عبيده وقرأ ابن مسعود هل يصيبنا وطلحة هل يصيبنا بتشديد الياء من صيب الذي وزنه فيعل لا فعل بالتضعيف لأن قياسه صوب لأنه من الواوي فلا وجه لقلبها ياء بخلاف ما إذا كان صيوب على وزن فيعل لأنه إذا إجتمعت الواو والياء والأول منهما ساكن قلبت الواو ياءا وهو قياس مطرد وجوز الزمخشري كونه من التفعيل على لغة من قال صاب يصيب ومنه قول الكميت : واستبى الكاعب العقيلة إذ أسهمى الصائبات والصيب وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون
15
- بأن يفوضوا الأمر إليه سبحانه ولا ينافي ذلك التشبيث بالأسباب العادية إذا لم يعتمد عليها وظاهر كلام جمع أن الجملة من تمام الكلام المأمور به وتقديم المعمول لإفادة التخصيص كما أشرنا إليه وإظهار الإسم الجليل في مقام الإضمار لإظهار التبرك والإستلذاذ به
ووضع المؤمنين موضع ضمير المتكلم ليؤذن بأن شأن المؤمنين إختصاص التوكل بالله تعالى وجيء بالفاء الجزائية لتشعر بالترتب أي إذا كان لن يصيبنا إلا ما كتب الله أي خصنا الله سبحانه به من النصر أو الشهادة وأنه متولي أمرنا فلنفعل ما هو حقنا من إختصاصه جل شأنه بالتوكل قال الطيبي : وكأنه قوبل قول المنافقين قد أخذنا أمرنا بهذه الفاصلة والمعنى دأب المؤمنين أن لا يتكلوا على حزمهم وتيقظ أنفسهم كما أن دأب المنافقين ذلك بل أن يتكلوا على الله تعالى وحده ويفوضوا أمورهم إليه ولا يبعد تفرع الكلام على قوله سبحانه : هو مولانا كما لا يخفى ويجوز أن تكون هذه الجملة مسوقة من قبله تعالى أمرا للمؤنين بالتوكل إثر أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بما ذكر وأمر وضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين حينئذ ظاهر وكذا إعادة الأمر في قوله تعالى : قل هل تربصون بنا لإنقطاع حكم الأمر الأول بالثاني وإن كان أمرا لغائب وأما على كلام الجماعة فالإعادة لإبراز كمال العناية بشأن المأمور به والتربص الإنتظار والتمهل وأحدى التاءين محذوفة والباء للتعدية أي ما تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين أي إحدى العاقبتين اللتين
(10/115)

كل منهما أحسن من جميع العواقب غير الأخرى أو أحسن من جميع عواقب الكفرة أو كل منهما أحسن مما عداه من جهة والمراد بهما النصرة والشهادة والحاصل أن ما تنتظرونه لا يخلو من أحد هذين الأمرين وكل منهما عاقبته حسنى لا كما تزعمون من أن ما يصيبنا من القتل في الغزو سوء ولذلك سررتم به
(10/116)

وصح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : تكفل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة ونحن نتربص بكم إحدى السوأيين من العواقب إما أن يصيبكم الله بعذاب من عنده فيهلككم كما فعل بالأمم الخالية قبلكم والظرف صفة عذاب وكونه من عنده تعالى كناية عن كونه منه جل شأنه بلا مباشرة البشر ويظهر ذلك المقابلة بقوله سبحانه : أو بأيدينا أي أو بعذاب كائن بأيدينا كالقتل على الكفر والعطف على صفة عذاب فهو صفة أيضا لا أن هناك عذاب مقدر وتقييد القتل بكونه على الكفر لأنه بدونه شهادة وفيه إشارة إلى أنهم لا يقتلون حتى يظهروا الكفر ويصروا عليه لأنهم منافقون والمنافق لا يقتل ابتداء فتربصوا الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا إنا معكم متربصون
25
- ما هو عاقبتكم فإذا لقى كل منا ومنكم ما يتربصه لا نشاهد إلا ما يسوؤكم ولا تشاهدون إلا ما يسرنا وما ذكرناه من مفعول التربص هو الظاهر ولعله يرجع إليه ما روي عن الحسن أي فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعد الله تعالى من إظهار دينه وإستئصال من خالفه والمراد من الأمر التهديد قل أنفقوا أموالكم في مصالح الغزاة طوعا وكرها أي طائعين أو كارهين فهما مصدران وقعا موقع الحال وصيغة أنفقوا وإن كانت للأمر إلا أن المراد به الخبر وكثيرا ما يستعمل الأمر بمعنى الخبر كعكسه ومنه قول كثير عزة : أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت وهو كما قال الفراء في معنى الشرط أي إن أنفقتم على أي حال لن يتقبل منكم وأخرج الكلام مخرج الأمر للمبالغة في تساوي الأمرين في عدم القبول كأنهم أمروا أن يجربوا فينفقوا في الحالين فينظروا هل يتقبل منهم فيشاهدوا عدم القبول وفيه كما قال بعض المحققين : إستعارة تمثيلية شبهت حالهم في النفقة وعدم قبولها بوجه من الوجوه بحال من يؤمر بفعل ليجربه فيظهر له عدم جدواه فلا يتوهم أنه إذا أمر بالإنفاق كيف لا يقبل والآية نزلت كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جوابا عما في قول الجد بن قيس حين قال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : هل لك في جلاد بني الأصفر إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن لكن أعينك بمالي ونفي التقبل يحتمل أن يكون بمعنى عدم الأخذ منهم ويحتمل أن يكون بمعنى عدم الإثابة عليه وكل من المعنيين واقع في الإستعمال فقبول الناس له أخذه وقبول الله تعالى ثوابه عليه ويجوز الجمع بينهما وقوله سبحانه : إنكم كنتم قوما فاسقين
35
- تعليل لرد إنفاقهم والمراد بالفسق العتو والتمرد فلا يقال : كيف علل مع الكفر بالفسق الذي هو دونه وكيف صح ذلك مع التصريح بتعليله بالكفر في قوله تعالى :
(10/0)

وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله وقد يراد به ما هو الكامل وهو الكفر ويكون هذا منه تعالى بيانا وتقريرا لذلك والإستثناء من أعم الأشياء أي ما منعهم أن تقبل نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم ومنع يتعدى إلى مفعولين بنفسه وقد تعدى إلى الثاني بحرف الجر وهو من أو عن وإذا عدى بحرف صح أن يقال : منعه من حقه ومنع حقه منه لأنه يكون بمعنى الحيلولة بينهما والحماية ولا قلب فيه كما يتوهم وجاز فيما نحن فيه أن يكون متعديا للثاني بنفسه وأن يقدر حرف وحذف حرف الجر مع إن وأن مقيس مطرد
وجوز أبو البقاء أن يكون أن تقبل بدل إشتمال من هم في منعهم وهو خلاف الظاهر وفاعل منع ما في حيز الإستثناء وجوز أن يكون ضمير الله تعالى وأنهم كفروا بتقدير لأنهم كفروا
وقرأ حمزة والكسائي يقبل بالتحتانية لأن تأنيت النفقات غير حقيقي مع كونه مفصولا عن الفعل بالجار والمجرور وقريء نفقتهم على التوحيد
وقرأ السلمي أن يقبل منهم نفقاتهم ببناء يقبل للفاعل ونصب النفقات والفاعل إما ضمير الله تعالى أو ضمير الرسول عليه الصلاة و السلام بناء على أن القبول بمعنى الأخذ ولا يأتون الصلاة المفروضة في حال من الأحوال إلا وهم كسالى أي إلا حال كونهم متثاقلين ولا ينفقون إلا وهم كارهون
45
- الإنفاق لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا وهاتان الجملتان داخلتان في حيز التعليل واستشكل بأن الكفر سبب مستقل لعدم القبول فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر وأجاب الإمام بأنه إنما يتوجه على المعتزلة القائلين بأن الكفر لكونه كفرا يؤثر في هذا الحكم وأما على أهل السنة فلا لأنهم يقولون : هذه الأسباب معرفات غير موجبة للثواب ولا للعقاب وإجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز والقول بأنه إنما جيء بهما لمجرد الذم وليستا داخلتين في حيز التعليل وإن كان يندفع به الإشكال على رأي المعتزلة خلاف الظاهر كما لا يخفى فإن قيل الكراهية خلاف الطواعية وقد جعل هؤلاء المنافقون فيما تقدم طائعين ووصفوا ههنا بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون وظاهر ذلك المنافاة وأجيب بأن المراد بطوعهم أنهم يبذلون من غير إلزام من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا أنهم يبذلون رغبة فلا منافاة وقال بعض المحققين في ذلك : إن قوله سبحانه : أنفقوا طوعا أو كرها لا يدل على أنهم ينفقون طائعين بل غايته أنه ردد حالهم بين الأمرين وكون الترديد ينافي القطع محل نظر كما إذا قلت : إن أحسنت أو أسأت لا أزورك مع أنه لا يحسن قطعا ويكون الترديد لتوسع الدائرة وهو متسع الدائرة
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم أي لا يروقك شيء من ذلك فإنه إستدراج لهم ووبال عليهم حسبما ينبيء عنه قوله تعالى : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا والخطاب يحتمل أن يكون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن يكون لكل من يصلح له على حد ما قيل في نحو قوله تعالى : لا تشرك بالله ومفعول الإرادة قيل : التعذيب واللام زائدة وقيل : محذوف واللام تعليلية أي يريد إعطائهم لتعذيبهم وتعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا لما أنهم يكابدون بجمعها وحفظها المتاعب ويقاسون فيها الشدائد والمصائب وليس عندهم من الإعتقاد بثواب الله تعالى ما يهون عليهم ما يجدونه وقيل : تعذيبهم في الدنيا بالأموال لأخذ الزكاة منهم والنفقة في سبيل الله
(10/117)

تعالى مع عدم اعتقادهم الثواب على ذلك وتعذيبهم فيها بالأولاد أنهم قد يقتلون في الغزو فيجزعون لذلك أشد الجزع حيث لا يعتقدون شهادتهم وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأن الإجتماع بهم قريب ولا كذلك المؤمنون فيما ذكر وقيل : تعذيبهم بالأموال بأن تكون غنيمة للمسلمين وبالأولاد بأن يكونوا سببا لهم إذا أظهروا الكفر وتمكنوا منهم
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أن في الآية تقديما وتأخيرا أي لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وتزهق أنفسهم أي يموتون وأصل الزهوق الخروج بصعوبة وهم كافرون
55
- في موضع الحال أي حال كونهم كافرين والفعل عطف على ما قبله داخل معه في حيز الإرادة واستدل بتعليق الموت على الكفر بإرادته تعالى على أن كفر الكافر بإرادته سبحانه وفي ذلك رد على المعتزلة
وأجاب الزمخشري بأن المراد إنما هو إمهالهم وإدامة النعم عليهم إلى أن يموتوا على الكفر مشتغلين بما هم فيه عن النظر في العاقبة والإمهال والإدامة المذكورة مما يصح أن يكون مرادا له تعالى واعترضه الطيبي بأن ذلك لا يجديه شيئا لأن سبب السبب سبب في الحقيقة وحاصله أن ما يؤدي إلى القبح ويكون سببا له حكمه حكمه في القبح وهو في حيز المنع وأجاب الجبائي بأن معنى الآية أن الله تعالى أراد زهوق أنفسهم في حال الكفر وهو لا يقتضي كونه سبحانه مريدا للكفر فإن المريض يريد المعالجة في وقت المرض ولا يريد المرض والسلطان يقول لعسكره : اقتلوا البغاة حال هجومهم ولا يريد هجومهم ورده ألإمام بأنه لا معنى لما ذكر من المثال إلا إرادة إزالة المرض وطلب إزالة هجوم البغاة وإذا كان المراد إعدام الشيء إمتنع أن يكون وجوده مرادا بخلاف إرادة زهوق نفس الكافر فإنها ليست عبارة عن إرادة إزالة الكفر فلما أراد الله تعالى زهوق أنفسهم حال كونهم كافرين وجب أن يكون مريدا لكفرهم وكيف لا يكون كذلك والزهوق حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر وإرادة الشيء تقتضي إرادة ما هو من ضرورياته فيلزم كونه تعالى مريدا للكفر
وفيه أن الظاهر أن إرادة المعالجة شيء غير إرادة إزالة المرض وكذا إرادة القتل غير إرادة إزالة الهجوم ولهذا يعلل إحدى الإرادتين بالأخرى فكيف تكون نفسها وأما أن كون إرادة ضروريات الشيء من لوازم إرادته فغير مسلم فكم من ضروري لشيء لا يخطر بالبال عند إرادته فضلا عما إدعاه فالإستدلال بالآية على ما ذكر غير تام ويحلفون بالله إنهم لمنكم أي في الدين والمراد أنهم يحلفون أنهم مؤمنون مثلكم وما هم منكم في ذلك لكفر قلوبهم ولكنهم قوم يفرقون
65
- أي يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية ويؤدونه بالأيمان الفاجرة وأصل الفرق إنزعاج النفس بتوقع الضرر قيل : وهو من مفارقة الأمن إلى حال الخوف لو يجدون ملجأ أي حصنا يلجأون إليه كما قال قتادة أو مغارات أي غير أن يخفون فيها أنفسهم وهو جمع مغارة بمعنى الغار ومنهم من فرق بينهما بأن الغار في الجبل والمغارة في الأرض وقريء مغارات بضم الميم من أغار الرجل إذا دخل الغور وقيل : هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا أي أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم ويجوز أن تكون من أغار الثعلب إذا أسرع بمعنى مهارب
(10/118)

ومغار أو مدخلا أي نفقا كنفق اليربوع ينجحرون فيه وهو مفتعل من الدخول فأدغم بعد قلب تائه دالا وقرأ يعقوب وسهل مدخلا بفتح الميم إسم مكان من دخل الثلاثي وهي قراءة ابن أبي إسحق والحسن وقرأ سلمة بن محارب مدخلا بضم الميم وفتح الخاء من أدخل المزيد أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم أو يدخلهم الخوف فيه وقرأ أبي بن كعب متدخلا اسم مكان من تدخل تفعل من الدخول وقريء مندخلا من إندخل وقد ورد في شعر الكميت
(10/119)

ولا يدي في حميت السمن تندخل 1
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة وقال : إنما هي بالتاء بناء على إنكار هذه اللغة وليس بذاك لولوا أي لصرفوا وجوههم وأقبلوا وقريء لوألوا أي لالتجأوا إليه أي إلى أحد ما ذكر وهم يجمحون
75
- أي يسرعون في الذهاب إليه بحيث لا يردهم شيء كالفرس الجموح وهو النفور الذي لا يرده لجام وروى الأعمش عن أنس ابن مالك أنه قرأ يجمزون بالزاي وهو بمعنى يجمحون ويشتدون ومنه الجمازة الناقة الشديدة العدو وأنكر بعضهم كون ما ذكر قراءة وزعم أنه تفسير وهو مردود
والجملة الشرطية إستئناف مقرر لمضمون ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءهم إلى الإنتماء إليهم إنما هو للتقية إضطرارا وإيثار صيغةالإستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة إستمرار عدم الوجدان حسبما يقتضيه المقام ونظير ذلك لو تحسن إلي لشكرتك نعم كثيرا ما يكون المضارع المنفي الواقع موقع الماضي لإفادة إنتفاء إستمرار الفعل لكن ذلك غير مراد ههنا ومنهم من يلمزك في الصدقات أي يعيبك في شأنها وقرأ يعقوب يلمزك بضم الميم وهي قراءة الحسن والأعرج وقرأ ابن كثير يلامزك وهو من الملامزة بمعنى اللمز والمشهور أنه مطلق العيب كالهمز ومنهم من فرق بينهما بأن اللمز في الوجه والهمز في الغيب وهو المحكى عن الليث وقد عكس أيضا وأصل معناه الدفع فإن أعطوا منها بيان لفساد لمزهم وأنه لا منشأ له إلا حرصهم على حطام الدنيا أي إن أعطيتهم من تلك الصدقات قدر ما يريدون رضوا بما وقع في القسمة واستحسنوا فعلك وإن لم يعطوا منها ذلك المقدار إذا هم يسخطون
85
- أي يفاجئون السخط و إذا نابت مناب فاء الجزاء وشرط لنيابتها عنه كون الجزاء جملة إسمية ووجه نيابتها دلالتها على التعقيب كالفاء وغاير سبحانه بين جوابي الجملتين إشارة إلى أن سخطهم ثابت لا يزول ولا يفنى بخلاف رضاهم وقرأ أياد بن لقيط إذا هم ساخطون والآية نزلت في ذي الخويصرة واسمه حرقوص بن زهير التميمي جاء ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسم غنائم هوازن يوم حنين فقال : يا رسول الله أعدل فقال عليه الصلاة و السلام : ومن يعدل إذا لم أعدل فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله إئذن لي أضرب عنقه فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السم من الرمية الحديث وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : لما قسم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غنائم حنين سمعت رجلا يقول : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله تعالى فأتيت النبي عليه الصلاة و السلام فذكرت ذلك له فقال : رحمة الله تعالى على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ونزلت الآية
(10/0)

وأخرج ابن جرير وغيره عن داؤد بن أبي عاصم قال : أوتي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت وورائه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت وعن الكلبي أنها نزلت في أبي الجواظ المنافق قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاء الغنم ويزعم أنه يعدل
وتعقب هذا ولي الدين العراقي بأنه ليس في شيء من كتب الحديث وأنت تعلم أن أصح الروايات الأولى إلا أن كون سبب النزول قسمته صلى الله تعالى عليه وسلم للصدقة على الوجه الذي فعله أوفق بالآية من كون ذلك قسمته للغنيمة فتأمل ولو أنهم رضوا ماآتاهم الله ورسوله أي ما أعطاهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من الصدقات طيبي النفوس به وإن قل فما وإن كانت من صيغ العموم إلا أن ما قبل وما بعد قرينة على التخصيص وبعض أبقاها على العموم أي ما أعطاهم من الصدقة أو الغنيمة قيل لأنه الأنسب وذكر الله عز و جل للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة و السلام كان بأمره سبحانه وقالوا حسبنا الله أي كفانا فضله وما قسمه لنا كما يقتضيه المعنى سيؤتينا الله من فضله ورسوله بعد هذا حسبما نرجو ونأمل إنا إلى الله راغبون
95
- في أن يخولنا فضله جل شأنه والآية بأسرها في حيز الشرط والجواب محذوف بناء على ظهوره أي لكان خيرا لهم وأعود عليهم وقيل : إن جواب الشرط قالوا والواو زائدة وليس بذاك ثم إنه سبحانه لما ذكر المنافقين وطعنهم وسخطهم بين أن فعله عليه الصلاة و السلام لإصلاح الدين وأهله لا لأغراض نفسانية كأغراضهم فقال جل وعلا : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الخ يعني أن الذي ينبغي أن يقسم مال الله عليه من اتصف بإحدى هذه الصفات دون غيره إذ القصد الصلاح والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فلا يستحقونه وفي ذلك حسم لأطماعهم الفارغة ورد لمقالتهم الباطلة والمراد من الصدقات الزكوات فيخرج غيرها من التطوع والفقير على ما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وهو ما يواري بدنه ويحل له ذلك بخلاف الأول حيث لا تحل له المسئلة فإنها لا تحل لمن يملك قوت يومه بعد ستر بدنه وعند بعضهم لا تحل لمن كان كسوبا أو يملك خمسين درهما فقد أخرج أبو داؤد والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سألنا وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل : يا رسول الله وما يغنيه قال : خمسون درهما أو قيمتها من الذهب وإلى هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحق وقيل : من ملك أربعين درهما حرم عليه السؤال لما أخرج أبو داؤد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف وكان الأوقية في ذلك الزمان أربعين درهما ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسئلة بعد كونه فقيرا ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة للحاجة ولذا قالوا : يجوز للعالم وإن كانت له كتب تساوي نصبا كثيرة إذا كان محتاجا إليها للتدريس ونحوه أخذ الزكاة بخلاف العامي وعلى هذا جميع آلات المحترفين
وعلى ما نقل عن الإمام يكون المسكين أسوء حالا من الفقير واستدل بقوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة أي
(10/120)

ألصق جلده بالتراب في حفرة إستتر بها مكان الإزار وألصق بطنه به لفرط الجوع فإنه يدل على غاية الضرر والشدة ولم يوصف الفقير بذلك وبأن الأصمعي وأبا عمرو بن العلاء وغيرهما من أهل اللغة فسروا المسكين بمن لا شيء له والفقير بمن له بلغة من العيش وأجيب بأن تمام الإستدلال بالآية موقوف على أن الصفة كاشفة وهو خلاف الظاهر وأن النقل عن بعض أهل اللغة معارض بالنقل عن البعض الآخر وقال الشافعي عليه الرحمة : الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه فالفقير عنده أسوأ حالا من المسكين واستدل له بقوله تعالى : وأما السفينة فكانت لمساكين فأثبت للمسكين سفينة وبما رواه الترمذي عن أنس وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد قالا : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين مع ما رواه أبو داؤد عن أبي بكرة أنه عليه الصلاة و السلام كان يدعو بقوله : اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وخبر الفقر فخري كذب لا أصل له وبأن الله تعالى قدم الفقير في الآية ولو لم تكن حاجته أشد لما بدأ به وبأن الفقير بمعنى المفقور أي مكسور الفقار أي عظام الصلب فكان أسوأ وأجيب عن الأول بأن السفينة لم تكن ملكا لهم بل هم أجراء فيها أو كانت عارية معهم أو قيل لهم مساكين ترحما كما في الحديث مساكين أهل النار وقوله : مساكين أهل الحب حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر وهذا أولى وعن الثاني بأن الفقر المتعوذ منه ليس إلا فقر النفس لما روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يسأل العفاف والغنى والمراد به غنى النفس لا كثرة الدنيا وعن الثالث بأن التقديم لا دليل فيه إذ له إعتبارات كثيرة في كلامهم وعن الرابع بأنا لا نسلم أن الفقير مأخوذ من الفقار لجواز كونه من فقرت له فقرة من مالي إذا قطعتها فيكون له شيء وأيا ما كان فهما صنفان وقال الجبائي : إنهما صنف واحد والعطف للإختلاف في المفهوم وروي ذلك عن محمد وأبي يوسف وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى بثلث ماله مثلا لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال : إنهما صنف واحد جعل لفلان النصف ومن قال : إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك والعاملين عليها وهم الذين يبعثهم الإمام لجبايتها وفي البحر أن العامل يشمل العاشر والساعي والأول من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار المارين بأموالهم عليه
والثاني هو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها ويعطي العامل ما يكفيه وأعوانه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم مادام المال باقيا إلا إذا إستغرقت كفايته الزكاة فلا يزاد على النصف لأن التصنيف عين الإنصاف
وعن الشافعي أنه يعطي الثمن لأن القسمة تقتضيه وفيه نظر وقيد بالوسط لأنه لا يجوز أن يتبع شهوته في المأكل والمشرب والملبس لكونه إسرافا محضا وعن الإمام أن يبعث من يرضى بالوسط من غير إسراف ولا تقتير وببقاء المال لأنه لو أخذ الصدقة وضاعت من يده بطلت عمالته ولا يعطي من بيت المال شيئا وما يأخذه صدقة ومن هنا قالوا : لا تحل العمالة لهاشمي لشرفه وإنما حلت للغنى مع حرمة الصدقة عليه لأنه فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية والغني لا يمنع من تناولها عند الحاجة كابن السبيل كذا في البدائع والتحقيق أن في ذلك شبها بالإجرة وشبها بالصدقة فبالإعتبار الأول حلت للغنى ولذا لا يعطى لو أداها صاحب المال إلى الإمام وبالإعتبار الثاني لا تحل للهاشمي وفي النهاية رجل من بني هاشم إستعمل على الصدقة فأجرى له منها
(10/121)

رزق فإنه لا ينبغي له أن يأخذ من ذلك وإن عمل فيها ورزق من غيرها فلا بأس به وهو يفيد صحة توليته وأن أخذه منها مكروه لا حرام وصرح في الغاية بعدم صحة كون العامل هاشميا أو عبدا أو كافرا ومنه يعلم حرمة تولية اليهود على بعض الأعمال وقد تقدمت نبذة من الكلام على ذلك والمؤلفة قلوبهم وهم كانوا ثلاثة أصناف صنف كان يؤلفهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليسلموا وصنف أسلموا لكن على ضعف كعيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فكان عليه الصلاة و السلام يعطيهم لتقوى نيتهم في الإسلام وصنف كانوا يعطون لدفع شرهم عن المؤمنين وعد منهم من يؤلف قلبه بإعطاء شيء من الصدقات على قتال الكفار ومانعي الزكاة وفي الهداية أن هذا الصنف من الأصناف الثمانية قد سقط وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه روي أن عيينة والأقرع جاءا يطلبان أرضا من أبي بكر فكتب بذلك خطا فمزقه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقال : هذا شيء يعطيكموه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تأليفا لكم فأما اليوم فقد أعز الله تعالى الإسلام وأغنى عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا : أنت الخليفة أم عمر بذلت لنا الخط ومزقه عمر فقال رضي الله تعالى عنه : هو إن شاء ووافقه ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع إحتمال أن فيه مفسدة كارتداد بعض منهم وإثارة ثائرة واختلف كلام القوم في وجه سقوطه بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ثبوته بالكتاب إلى حين وفاته بأبي هو وأمي عليه الصلاة و السلام فمنهم من ارتكب جواز نسخ ما ثبت بالكتاب بالإجماع بناء على أن الإجماع حجة قطعية كالكتاب وليس بصحيح من المذهب ومنهم من قال : هو من قبيل إنتهاء الحكم بانتهاء علته كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار ورد بأن الحكم في البقاء لا يحتاج إلى علة كما في الرمل والإضطباع في الطواف فانتهاؤها لا يستلزم انتهاؤه وفيه بحث وقال علاء الدين عبدالعزيز : والأحسن أن يقال : هذا تقرير لما كان في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من حيث المعنى وذلك أن المقصود بالدفع إليهم كان إعزاز الإسلام لضعفه في ذلك الوقت لغلبة أهل الكفر وكان الإعزاز بالدفع ولما تبدلت الحال بغلبة أهل الإسلام صار الإعزاز في المنع وكان الإعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان بمنزلة الآلة لإعزاز الدين والإعزاز هو المقصود وهو باق على حاله فلم يكن ذلك نسخا كالمتيمم وجب عليه إستعمال التراب للتطهير لأنه آلة متعينة لحصول التطهير عند عدم الماء فإذا تبدلت حاله فوجد الماء سقط الأول ووجب إستعمال الماء لأنه صار متعينا لحصول المقصود ولا يكون هذا نسخا للأول فكذا هذا وهو نظير إيجاب الدية على العاقلة فإنها كانت واجبة على العشيرة في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبعده على أهل الديوان لأن الإيجاب على العاقلة بسبب النصرة والإستنصار في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان بالعشيرة وبعده عليه الصلاة و السلام بأهل الديوان فإيجابها عليهم لم يكن نسخا بل كان تقريرا للمعنى الذي وجبت الدية لأجله وهو الإستنصار أه واستحسنه في النهاية
وتعقبه ابن الهمام بأن هذا لا ينفي النسخ لأن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتا وقد ارتفع وقال بعض المحققين : إن ذلك نسخ ولا يقال : نسخ الكتاب بالإجماع لا يجوز على الصحيح لأن الناسخ دليل الإجماع لا هو بناء على أنه لا إجماع إلا عن مستند فإن ظهر وإلا وجب الحكم بأنه ثابت على أن الآية التي أشار إليها عمر رضي الله تعالى عنه وهي قوله سبحانه : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر يصلح لذلك وفيه نظر فإنه إنما يتم لو ثبت نزول هذه الآية بعد هذه ولم يثبت وقال قوم : لم يسقط سهم هذا الصنف وهو قول الزهري وأبي جعفر
(10/122)

محمد بن علي وأبي ثور وروي ذلك عن الحسن وقال أحمد : يعطون إن إحتاج المسلمون إلى ذلك
وقال البعض : إن المؤلفة قلوبهم مسلمون وكفار والساقط سهم الكفار فقط وصحح أنه عليه الصلاة و السلام كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الرقاب أي للصرف في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أداء نجومهم وقيل : بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق وقيل : بأن يفدى الأسارى وإلى الأول ذهب النخعي والليث والزهري والشافعي وهو المروي عن سعيد بن جبير وعليه أكثر الفقهاء وإلى الثاني ذهب مالك وأحمد وإسحق وعزاه الطيبي إلى الحسن وفي تفسير الطبري أن الأول هو المنقول عنه والغارمين أي الذين عليهم دين والدفع إليهم كما في الظهيرية أولى من الدفع إلى الفقير وقيدوا الدين بكونه في غير معصية كالخمر والإسراف فيما لا يعنيه لكن قال النووي في المنهاج قلت : والأصح أن من استدان للمعصية يعطى إذا تاب وصححه في الروضة والمانع مطلقا قال : إنه قد يظهر التوبة للأخذ واشترط أن لا يكون لهم ما يوفون به دينهم فاضلا عن حوائجهم ومن يعولونه وإلا فمجرد الوفاء لا يمنع من الإستحقاق وهو أحد قولين عند الشافعية وهو الأظهر
وقيل : لا يشترط لعموم الآية وأطلق القدوري وصاحب الكنز من أصحابنا المديون في باب المصرف وقيده في الكافي بأن لا يملك نصابا فضلا عن دينه وذكر في البحر أنه المراد بالغارم في الآية إذ هو في اللغة من عليه دين ولا يجد قضاء كما ذكره العتبي واعتذر عن عدم التقييد بأن الفقر شرط في الأصناف كلها إلا العامل وابن السبيل إذا كان له في وطنه مال فهو بمنزلة الفقير وهل يشترط حلول الدين أو لا قولان للشافعية
ويعطى عندهم من استدان لإصلاح ذات البين كأن يخاف فتنة بين قبيلتين تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتله أو ظهر فأعطى الدية تسكينا للفتنة ويعطى مع الغنى مطلقا وقيل : إن كان غنيا بنقد لا يعطى وفي سبيل الله أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعوا الغزاة وعند محمد منقطعوا الحجيج وقيل : المراد طلبة العلم واقتصر عليه في الفتاوي الظهيرية وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخيرات وقال في البحر : ولا يخفى أن قيد الفقر لا بد منه على الوجوه كلها فحينئذ لا تظهر ثمرته في الزكاة وإنما تظهر في الوصايا والأوقاف انتهى وفي النهاية فإن قيل : إن قوله سبحانه وفي سبيل الله مكرر سواء أريد منقطع الغزاة أو غيره لأنه إما أن يكون له في وطنه مال أم لا فإن كان فهو ابن السبيل وإن لم يكن فهو فقير فمن أين يكون العدد سبعة على ما يقول الأصحاب أو ثمانية على ما يقول غيرهم أجيب بأنه فقير إلا أنه إزداد فيه شيء آخر سوى الفقر وهو الإنقطاع في عبادة الله تعالى من جهاد أو حج فلذا غاير الفقير المطلق فإن المقيد يغاير المطلق لا محالة ويظهر اثر التغاير في حكم آخر أيضا وهو زيادة التحريض والترغيب في رعاية جانبه وإذا كان كذلك لم تنقص المصارف عن سبعة وفيه تأمل انتهى ولا يخفى وجهه وذكر بعضهم أن التحقيق ما ذكره الجصاص في الأحكام أن من كان غنيا في بلده بداره وخدمه وفرسه وله فضل دراهم حتى لا تحل له الصدقة فإذا عزم على سفر جهاد احتاج لعدة وسلاح لم يكن محتاجا له في إقامته فيجوز أن يعطى من الصدقة وإن كان غنيا في مصره وهذا معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : الصدقة تحل للغازي الغني فافهم
(10/123)

ولا تغفل وابن السبيل وهو المسافر المنقطع عن ماله والإستقراض له خير من قبول الصدقة على ما في الظهيرية وفي فتح القدير أنه لا يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته وألحق به كل من هو غائب عن ماله وإن كان في بلده وفي المحيط وإن كان تاجرا له دين على الناس لا يقدر على أخذه ولا يجد شيئا يحل له أخذ الزكاة لأنه فقير يدا كابن السبيل وفي الخانية تفصيل في هذا المقام قال : والذي له دين مؤجل على إنسان إذا احتاج إلى النفقة يجوز له أن يأخذ الزكاة قدر كفايته إلى حلول الأجل وإن كان الدين غير مؤجل فإن كان من عليه الدين معسرا يجوز له أن يأخذ الزكاة في أصح الأقاويل لأنه بمنزلة ابن السبيل وإن كان المديون موسرا معترفا لا يحل له أخذ الزكاة وكذا إذا كان جاحدا وله عليه بينة عادلة وإن لم تكن عادلة لا يحل له الأخذ أيضا ما لم يرفع الأمر إلى القاضي فيحلفه فإذا حلفه يحل له الأخذ بعد ذلك أه والمراد من الدين ما يبلغ نصابا كما لا يخفى وفي فتح القدير ولو دفع إلى فقيرة لها مهر دين على زوجها يبلغ نصابا وهو موسر بحيث لو طلبت أعطاها لا يجوز وإن كان بحيث لا يعطى لو طلبت جاز أه وهو مقيد لعموم ما في الخانية والمراد من المهر ما تعورف تعجيله لأن ما تعورف تأجيله فهو دين مؤجل لا يمنع أخذ الزكاة ويكون في الأول عدم إعطائه بمنزلة إعساره ويفرق بينه وبين سائر الديون بأن رفع الزوج للقاضي مما لا ينبغي للمرأة بخلاف غيره لكن في البزازية دفع الزكاة إلى أخته وهي تحت زوج إن كان مهرها المعجل أقل من النصاب أو أكثر لكن الزوج معسر له أن يدفع إليها الزكاة وإن كان موسرا والمعجل قدر النصاب لا يجوز عندهما وبه يفتى للإحتياط وعند الإمام يجوز مطلقا هذا والعدول عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة على ما قال الزمخشري للإيذان بأنهم أرسخ في إستحقاق الصدقة ممن سبق ذكره لما أن في للظرفية المنبئة عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها وعليه فاللام لمجرد الإختصاص وفي الإنتصاف أن ثم سرا آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن الأصناف الأوائل ملاك لما عساه أن يدفع إليهم وإنما يأخذونه تملكا فكان دخول اللام لائقا بهم وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون لما يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن يصرف في مصالح تتعلق بهم فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون أو البائعون فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بملكهم لما يصرف نحوهم وإنما هم محال لهذا الصرف ولمصالحه المتعلقة به وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم وأما في سبيل الله فواضح فيه ذلك وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا
وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكن عطفه على القريب أقرب وما أشار إليه من أن المكاتب لا يملك وإنما يملك المكاتب هو الذي أشار إليه بعض أصحابنا ففي المحيط قالوا : إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لمكاتب هاشمي لأن الملك يقع للمولى من وجه والشبهة ملحقة بالحقيقة في حقهم وفي البدائع ما هو ظاهر في أن الملك يقع للمكاتب وحينئذ فبقية الأربعة بالطريق الأولى
والمشهور أن اللام للملك عند الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم حيث قالوا : لابد من صرف الزكاة إلى جميع الأصناف إذا وجدت ولا تصرف إلى صنف مثلا ولا إلى أقل من ثلاثة من كل صنف بل إلى ثلاثة أو أكثر إذا وجد ذلك وعندنا يجوز للمالك أن يدفع الزكاة إلى كل واحد منهم وله أن يقتصر على صنف واحد
(10/124)

لأن المراد بالآية بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع إليهم ويدل له قوله تعالى : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتاه مال من الصدقة فجعله في صنف واحد وهو المؤلفة قلوبهم ثم أتاه مال آخر فجعله في الغارمين فدل ذلك على أنه يجوز الإقتصار على صنف واحد ودليل جواز الإقتصار على شخص واحد منه أن الجمع المعرف بال مجاز عن الجنس فلو حلف لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد يحنث بالواحد فالمعنى في الآية أن جنس الصدقة لجنس الفقير فيجوز الصرف إلى واحد لأن الإستغراق ليس بمستقيم إذ يصير المعنى إن كل صدقة لكل فقير وهو ظاهر الفساد وليس هناك معهود ليرتكب العهد ولا يرد خالعني على ما في يدي من الدراهم ولا شيء في يدها فإنه يلزمها ثلاثة ولو حلف لا يكلمه الأيام أو الشهور فإنه يقع على العشرة عند الإمام وعلى الأسبوع والسنة عند الإمامين لأنه أمكن للعهد فلا يحمل على الجنس فالحاصل أن حمل الجمع على الجنس مجاز وعلى العهد أو الإستغراق حقيقة ولا مساغ للخلف إلا عند تعذر الأصل وعلى هذا ينصف الموصى به لزيد والفقراء كالوصية لزيد وفقير
وما ذهبنا إليه هو المروي عن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل ومالك عليهم الرحمة وذكر ابن المنير أن جده أبا العباس أحمد بن فارس كان يستنبط من تغاير الحرفين المذكورين دليلا على أن الغرض بيان المصرف واللام لذلك فيقول : متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف فإما أن يكون التقدير إنما الصدقات مصروفة للفقراء كما يقول مالك ومن معه أو مملوكة للفقراء كما يقول الشافعي لكن الأول متعين لأنه تقدير يكتفي به في الحرفين جميعا ويصح تعلق اللام وفي معا به فيصح أن يقال : هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا بخلاف تقدير مملوكة فإنه إنما يلتئم مع اللام وعند الإنتهاء إلى في يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها فتقديره من الأول عام التعلق شامل الصحة متعين أه وبالجملة لا يخفى قوة منزع الأئمة الثلاثة في الأخذ
ولذا اختار الشافعية ما ذهبوا إليه وكان والد العلامة البيضاوي عمر بن محمد وهو مفتي الشافعية في عصره يفتي به فريضة من الله مصدر مؤكد لمقدر مأخوذ من معنى الكلام أي فرض لهم الصدقات فريضة ونقل عن سيبويه أنه منصوب بفعله مقدرا أي فرض الله تعالى ذلك فريضة واختار أبو البقاء كونه حالا من الضمير المستكن في قوله تعالى للفقراء أي إنما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة أي مفروضة قيل : ودخلته التاء لإلحاقه بالأسماء كنطيحة والله عليم بأحوال الناس ومراتب إستحقاقهم حكيم
6
- لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي من جملتها سوق الحقوق إلى مستحقيها ومنهم الذين يؤذون النبي وقولون هو أذن أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في جماعة من المنافقين منهم الحلاس بن سويد بن صامت ورفاعة ابن عبد المنذر ووديعة بن ثابت وغيرهم قالوا ما لا ينبغي في حقه عليه الصلاة و السلام فقال رجل منهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغ محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ما تقولون فيقع بنا فقال الحلاس : بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أذن وفي رواية أذن سامعة وعن محمد بن إسحاق أنها نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان رجلا آدم أحمر العينين أسفع الخدين
(10/125)

مشوه الخلقة وكان ينم حديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل فقال إنما محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أذن من حدثه شيئا صدقه نقول شيئا ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا وهو الذي قال فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث وأرادوا سود الله تعالى وجوههم وأصمهم وأعمى أبصارهم بقولهم أذن أنه عليه الصلاة و السلام يسمع ما يقال له ويصدقه فيكون وصف أذن بما يفيد ذلك في كلامهم كشفا له وهي في الأصل اسم للجارحة وإطلاقها على الشخص بالمعنى المذكور كما يؤيده بعض الروايات من باب المجاز المرسل على ما في المفتاح كإطلاق العين على ربيئة القوم حيث كانت العين هي المقصودة منه وصرح غير واحد أن ذلك من إطلاق الجزء على الكل للمبالغة كقوله : إذا مابدت ليلى فكلي أعين وإن هي ناجتني فكلي مسامع وقيل : إنه مجاز عقلي كرجل عدل وفيه نظر والمبالغة هنا على ما قيل في أنه يسمع كل قول باعتبار أنه يصدقه لا في مجرد السماع وما قيل : إن مرادهم بكونه عليه الصلاة و السلام أذنا تصديقه بكل ما يسمع من غير فرق بين ما يليق بالقبول لمساعدة أمارات الصدق له وبين ما لا يليق به فليس من قبيل إطلاق العين على الربيئة ولذا جعله بعضهم من قبيل التشبيه بالأذن في أنه ليس فيه وراء الإستماع تمييز حق عن باطل ليس بشيء يعتد به وقيل : إنه على تقدير مضاف أي ذو أذن ولا يخفى أنه مذهب لرونقه وجوز أن يكون أذن صفة مشبهة من أذن يأذن إذنا إذا استمع وأنشد الجوهري لقعنب : إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا مني وما سمعوا من صالح دفنوا صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا وعلى هذا هو صفة بمعنى سميع ولا تجوز فيه وما تأذى به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحتمل أن يكون ما قالوه في حقه عليه الصلاة و السلام من سائر الأقوال الباطلة فيكون قوله سبحانه : ويقولون الخ غير ما تأذى به ويحتمل أن يكون نفس قولهم هو أذن فيكون عطف تفسير و يؤذون مضارع آذاه والمشهور في مصدره أذى وأذاة وأذية وجاء أيضا الإيذاء كما أثبته الراغب وقول صاحب القاموس ولا تقل إيذاء خطأ منه
قل أذن خير لكم من قبيل رجل صدق فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الجودة والصلاح كأنه قيل : نعم هو أذن ولكن نعم الأذن ويجوز أن تكون الإضافة على معنى في أي هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك ويدل عليه قراءة حمزة ورحمة فيما يأتي بالجر عطفا على خير فإنه لا يحسن وصف الأذن بالرحمة ويحسن أن يقال أذن في الخير والرحمة وهذا كما قال ابن المنير أبلغ أسلوب في الرد عليهم لأن فيه إطماعا لهم بالوافقة على مدعاهم ثم كر عليهم بحسم طمعهم وبت أمنيتهم وهو كالقول الموجب وقرأ نافع أذن بالتخفيف في الموضعين وقرأ أذن بالتنوين فخير صفة له بمعنى خير المشدد أو أفعل تفضيل أو مصدر وصف به للمبالغة أو بالتأويل المشهور وقوله سبحانه : يؤمن بالله تفسير لكونه عليه الصلاة و السلام أذن خير لهم أي يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة والآيات الموجبة لذلك وكون ذلك صفة خير للمخاطبين كما أنه خير للعالمين مما لا يخفى ويؤمن للمؤمنين أي يصدقهم لما علم فيهم من
(10/126)

الخلوص والظاهر أن هذا مندرج في حيز التفسير لكن الغالب من المفسرين لم يبينوا وجهه كونه صفة خير للمخاطبين نعم قال مولانا الشهاب : إن المعنى هو أذن خير يسمع آيات الله تعالى ودلائله فيصدقها ويسمع قول المؤمنين فيسلمه لهم ويصدقهم به وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله تعالى ولا ينتفعون بها ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يسمع قولهم إلا شفقة عليهم لا أنه يقبله لعدم تمييزه عليه الصلاة و السلام كما زعموا وبهذا يصح وجه التفسير فتدبر انتهى ولا يخفى أن في إرادة هذا المعنى من هذا المقدار من الآية بعدا وربما يقال : إن المراد أنه عليه الصلاة و السلام يسمع قول المؤمنين الخلص ويصدقهم ولا يصدق المنافقين وإن سمع قولهم وكون ذلك صفة خير للمخاطبين إما بإعتبار أنه قد ينجر إلى إخلاصهم لما أن فيه إنحطاط مرتبتهم عن مرتبة المخلصين وإما باعتبار أن تصديقه صلى الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين الخلص فيما يقولون من الحق من متممات تصديقه آيات الله تعالى ولا شك في خيرية ذلك للمخاطبين بل ولغيرهم أيضا فليفهم
والإيمان في قوله تعالى : يؤمن بالله بمعنى الإعتراف والتصديق كما أشرنا إليه ولذا عدى بالباء وأما في قوله سبحانه : ويؤمن للمؤمنين فهم بمعنى جعلهم في أمان من التكذيب فاللام فيه مزيدة للتقوية لأنه بذلك المعنى متعد بنفسه كذا قيل وفيه أن الزيادة لتقوية الفعل المتقدم على معموله قليلة وقال الزمخشري : إنه قصد من الإيمان في الأول التصديق بالله تعالى الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء الذي يتعدى بها الكفر حملا للنقيض على النقيض وقصد من الإيمان في الثاني السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقهم لكونهم صادقين عنده فعدى باللام ألا ترى إلى قوله سبحانه : وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين حيث عدى الإيمان فيه باللام لأنه بمعنى التسليم لهم وظاهر هذا أن اللام ليست مزيدة للتقوية كما في الأول وكلام بعضهم يشعر ظاهره بزيادتها وقوله سبحانه : ورحمة عطف على أذن خير أي وهو رحمة وفيه الإخبار بالمصدر والكلام في ذلك معلوم للذين آمنوا منكم أي للذين أظهروا الإيمان حيث يقبله منهم لكن لا تصديقا لهم في ذلك بل رفقا بهم وترحما عليهم ولا يكشف أسرارهم ولا يهتك أستارهم
وظاهر كلام الخازن أن المراد من الذين آمنوا المخلصون وذكر منكم باعتبار أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون والحق حمل ذلك على المنافقين وإسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل بعد نسبته إلى المؤمنين المخلصين بصيغة الفاعل على المنبئة عن الرسوخ والإستمرار للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار ولعل العدول عن رحمة لكم إلى ما ذكر للإشارة إلى ذلك وقرأ ابن أبي عبلة رحمة بالنصب على أنه مفعول له لفعل مقدر دل عليه أذن خير أي يأذن لكم ويسمع رحمة وجوز عطفه على آخر مقدر أي تصديقا لهم ورحمة لكم والذين يؤذون رسول الله أي بأي نوع من الإيذاء كان وفي صيغة الإستقبال المشعرة بترتب الوعيد على الإستمرار على ما هم عليه إشعار بقبول توبتهم لهم عذاب أليم
16
- أي بسبب ذلك كما ينبىء عنه بناء الحكم على الموصول وجملة الموصول وخبره مسوق من قبله عز و جل على نهج الوعيد غير داخل تحت الخطاب وفي تكرير الإسناد بإثبات العذاب الأليم لهم ثم جعل الجملة خبرا ما لا يخفى من المبالغة وإيراده عليه الصلاة و السلام بعنوان الرسالة مع الإضافة إلى الإسم الجليل لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته عليه الصلاة و السلام راجعة إلى جنابه عز و جل موجبة لكمال السخط والغضب منه
(10/127)

سبحانه وذكر بعضهم أن الإيذاء لا يختص بحال حياته صلى الله تعالى عليه وسلم بل يكون بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا وعدوا ومن ذلك التكلم في أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم بما لا يليق وكذا إيذاء أهل بيته رضي الله تعالى عنهم كايذاء يزيد عليه ما يستحق لهم وليس بالبعيد يحلفون بالله لكم ليرضوكم الخطاب للمؤمنين وكان المنافقون يتكلمون بما لا يليق ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ولئن كان ما يقول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حقا لهم شر من الحمر فسعى بها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لحق ولأنت شر من الحمار فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : ما حملك على الذي قلت فجعل يلتعن ويحلف بالله تعالى ما قال ذلك وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل سبحانه في ذلك : يحلفون الخ أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليرضوكم بذلك
وعن مقاتل والكلبي أنها نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منها أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلفهم ويعتلون ويحلفون
وأنكر بعضهم هذا مقتصرا على الأول ولعله رأى ذلك أوفق بالمقام وإنما أفرد إرضاءهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم للإيذان بأن ذلك بمعزل عن أن يكون وسيلة لإرضائه عليه الصلاة و السلام وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما لم يكذبهم رفقا بهم وسترا لعيوبهم لا عن رضى بما فعلوا وقبول قلبي لما قالوا والله ورسوله أحق أن يرضوه أي أحق بالإرضاء من غيره ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والموافقة لأمره وإيفاء حقوقه عليه الصلاة و السلام في باب الإجلالا والإعظام حضورا وغيبة وأما الإيمان فإنما يرضى بها من انحصر طريق علمه في الأخبار إلى أن يجيء الحق ويزهق الباطل والجملة في موضع الحال من ضمير يحلفون والمراد ذمهم بالإشتغال فيما لا يعنيهم والإعراض عما يهمهم ويجديهم
وتوحيد الضمير في يرضوه مع أن الظاهر بعد العطف بالواو التثنية لأن إرضاء الرسول عليه الصلاة و السلام لا ينفك عن إرضاء الله تعالى و من يطع الرسول فقد أطاع الله فلتلازمهما جعلا كشيء واحد فعاد إليهما الضمير المفرد أو لأن الضمير مستعار لإسم الإشارة الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور وإنما لم يثن تأدبا لئلا يجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير تثنية : وقد نهى عنه على كلام فيه أو لأنه عائد إلى رسوله والكلام جملتان حذف خبر الأولى لدلالة خبر الثانية عليه كما في قوله : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف أو إلى الله تعالى على أن المذكور خبر الجملة الأولى وخبر الجملة الثانية محذوف واختار الأول في مثل ذلك التركيب سيبويه لقرب ما جعل المذكور خبرا له مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر واختار الثاني المبرد للسبق وقيل : إن الضمير للرسول عليه الصلاة و السلام والخبر له لا غير ولا حذف في الكلام لأن الكلام في إيذاء الرسول عليه الصلاة و السلام وإرضائه فيكون ذكر الله تعالى تعظيما له عليه الصلاة و السلام وتمهيدا فلذا لم يخبر عنه وخص الخبر بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونظيره قوله تعالى : وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ولا يخفى
(10/128)

أن إعتبار الاخبار عن المعطوف وعدم اعتبار خبر للمبتدأ المعطوف عليه أصلا مع أنه المستقل في الإبتداء في غاية الغرابة والفرق بين الآيتين مثل الشمس ظاهر إن كانوا مؤمنين
26
- جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كانوا مؤمنين إيمانا صادقا في الظاهر والباطن فليرضوا الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام بما ذكر فانهما أحق بالإرضاء ألم يعلموا أي أولئك المنافقون والإستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة مع علمهم بما سمعوا من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بوخامة عاقبتها وقريء تعلموا بالتاء على الإلتفات لزيادة التقريع والتوبيخ إذا كان الخطاب للمنافقين لا للمؤمنين كما قيل به وفي قراءة ألم تعلم والخطاب إما للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل واقف عليه والعلم يحتمل أن يكون المتعدي لمفعولين وأن يكون المتعدي لواحد أنه أي الشأن من يحادد الله ورسوله أي يخالف أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة و السلام وأصل المحادة مفاعلة من الحد بمعنى الجهة والجانب كالمشاقة من الشق والمعاداة من العدوة بمعناه أيضا فإن كل واحد من مباشري كل من الأفعال المذكورة في حد وشق وعدوة غير ما عليه صاحبه ويحتمل أن تكون من الحد بمعنى المنع و من شرطية جوابها قوله سبحانه : فأن له نار جهنم على أن خبره محذوف أي فحق أن له نار جهنم وقدر ذلك لأن جواب الشرط لا يكون إلا جملة وأن المفتوحة مع ما في حيزها مفرد تأويلا وقدر مقدما لأنها لاتقع في إبتداء الكلام كالمكسورة وجوز أن يكون المقدر خبرا أي الأمر أن له الخ وقيل : المراد فله نار جهنم وأن تكرير أن في قوله سبحانه : أنه توكيدا قيل : وفيه بحث 1 لأنه لو كان المراد فله وأن توكيدا لكان نار جهنم مرفوعا ولم يعمل أن فيه ولما فصل بين المؤكد والمؤكد بجملة الشرط ولما وقع أجنبي بين فاء الجزاء وما في حيزه وأجيب بأنه ليس من باب التوكيد اللفظي بل التكرير لبعد العهد وهو من باب التطرية ومثل ذلك لا يمنع العمل ودخول الفاء ونظيره قوله تعالى : إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم وقوله : لقد علم الحي اليمانون أنني إذا قلت أما بعد أني خطيبها وكم وكم وجعل الآية من هذا الباب نقله سيبويه في الكتاب عن الخليل وهو هو وليس زعم في كلامه تمريضا له لأنه عادته في كل ما نقله كما بينه شراحه وجوز أن يكون معطوفا على أنه وجواب الشرط محذوف أي ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له الخ وحاصله ألم يعلموا هذا وهذا عقيبه ولا يخفى بعده مع أن أبا حيان قال : إنه لا يصح لأنهم نصوا على أن حذف الجواب إنما يكون إذا كان فعل الشرط ماضيا أو مضارعا مجزوما بلم وما هنا ليس كذلك وتعقبه بعضهم بأن ما ذكره ليس متفقا عليه فقد نص ابن هشام على خلافه فكأنه شرط للأكثرية والقول بأن حق العطف فيما ذكر أن يكون بالواو قال فيه الشهاب ليس بشيء إلا أن إستحقاقه النار بسبب المحادة بلا شبهة وقريء فإن بالكسر ولا يحتاج إلى توجيه لظهوره وقوله سبحانه : خالدا فيها حال مقدرة من الضمير المجرور إن اعتبر في الظرف ابتداء الإستقرار وحدوثه وأنه اعتبر مطلق
(10/129)

الإستقرار فالأمر واضح ذلك أي ما ذكر من العذاب الخزي العظيم
36
- أي الذل والهوان المقارن للفضيحة ولا يخفى ما في الحمل من المبالغة والجملة تذييل لما سبق يحذر المنافقون أن تنزل أي من تنزل ويجوز أن يكون يحذر متعديا بنفسه كما يدل عليه ما أنشد سيبويه من قوله : حذر أمورا لا تضير وآمن ما ليس ينجيه من الأقدار وأنكر المبرد كونه متعديا لأن الحذر من هيئات النفس كالفزع والبيت قيل : إنه مصنوع ورد ما قاله المبرد بأن من الهيآت ما يتعدى كخاف وخشى فما ذكره غير لازم عليهم أي في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازل عليهم وهذا إنما يحتاج إليه إذا كان الجار والمجرور متعلقا بتنزل وأما إذا كان متعلقا بمقدر وقع صفة لقوله سبحانه : سورة كما قيل أي تنزل سورة كائنة عليهم من قولهم : هذا لك وهذا عليك فلا كما لا يخفى إلا أنه خلاف الظاهر جدا والظاهر تعلق الجار بما عنده وصفة سورة بقوله تعالى شأنه : تنبئهم أي المنافقين بما في قلوبهم من الأسرار الخفية فضلا عما كانوا يظهرونه فيما بينهم خاصة من أقاويل الكفر والنفاق والمراد أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم فينتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة فكأنها تخبرهم بها وإلا فما في قلوبهم معلوم لهم والمحذور عندهم إطلاع المؤمنين عليه لهم وقيل : المراد تخبرهم بما في قلوبهم على وجه يكون المقصود منه لازم فائدة الخبر وهو علم الرسول عليه الصلاة و السلام به وقيل : المراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعى عليهم قبائحهم وجوز أن يكون الضميران الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين وتفكيك الضمائر ليس بممنوع مطلقا بل هو جائز عند قوة القرينة وظهور الدلالة عليه كما هنا أي يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم وتفشي أسرارهم وفي الأخبار عنهم بأنهم يحذرون ذلك إشعار بأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول عليه الصلاة و السلام وقال أبو مسلم : كان إظهار الحذر بطريق الإستهزاء فإنهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يذكر كل شيء ويقول : إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهرئون به لقوله سبحانه : قل استهزءوا فإنه يدل على أنه وقع منهم استهزاء بهذه المقالة والأمر للتهديد والقائلون بما تقدم قالوا : المراد نافقوا لأن المنافق مستهزئء وكما جعل قولهم : آمنا وما هم بمؤمنين مخادعة في البقرة جعل هنا استهزاء وقيل : إن يحذر خبر في معنى الأمر أي ليحذر وتعقب بأن قوله سبحانه : إن الله مخرج ما تحذرون
46
- ينبو عنه نبوة إلا أن يراد ما يحذرون بموجب هذا الأمر وهو خلاف الظاهر وكان الظاهر أن يقول : إن الله منزل سورة كذلك أو منزل ما تحذرون لكن عدل عنه إلى ما في النظم الكريم للمبالغة إذ معناه مبرز ما تحذرونه من إنزال السورة أو لأنه أعم إذ المراد مظهر كل ما تحذرون ظهوره من القبائح وإسناد الإخراج إلى الله تعالى للإشارة إلى أنه سبحانه يخرجه إخراجا لا مزيد عليه والتأكيد لدفع التردد أو رد الإنكار ولئن سألتهم عما قالوه ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : بينما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوته إلى تبوك إذ نظر إلى أناس بين يديه من المنافقين يقولون : أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه عليه الصلاة و السلام على ذلك فقال : احبسوا على هؤلاء الركب فأتاهم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم
(10/130)

قلتم : كذا وكذا قالوا : يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب فنزلت وأخرج ابن جرير وابن مردويه وغيرهما عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رجل في غزوة تبوك ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء فقال رجل : كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونزل القرآن قال عبدالله : فأنا رأيت الرجل متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والحجارة تنكيه وهو يقول : يا رسول الله إنا كنا نخوض ونلعب ورسول الله عليه الصلاة و السلام يقول ما أمره الله تعالى به في قوله سبحانه : قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزؤن
56
- وجاء في بعض الروايات أن هذا المتعلق عبدالله بن أبي رأس المنافقين وهل أنكروا ما قالوه واعتذروا بهذا العذر الباطل أو لم ينكروه وقالوا ما قالوا فيه خلاف والإمام على الثاني وهو أوفق بظاهر النظم الجليل
وأصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى صار اسما لكل دخول فيه تلويث وإذاء وأرادوا إنما نلعب ونتلهى لتقصر مسافة السفر بالحديث والمداعبة كما يفعل الركب ذلك لقطع الطريق ولم يكن ذلك منا على طريق الجد والإستفهام للتوبيخ وأولى المتعلق إيذانا بأن الإستهزاء واقع لا محالة لكن الخطاب في المستهزأ به أي قل لهم غير ملتفت إلى إعتذارهم ناعيا عليهم جناياتهم قد استهزأتم بمن لا يصح الإستهزاء به وأخطأتم مواقع فعلكم الشنيع الذي طالما ارتكبتموه ومن تأمل علم أن قولهم السابق في سبب النزول متضمن للإستهزاء المذكور لا تعتذروا أي لا تشتغلوا بالإعتذار وتستمروا عليه فليس النهي عن أصله لأنه قد وقع وإنما نهوا عن ذلك لأن ما يزعمونه معلوم الكذب بين البطلان والإعتذار قيل : إنه عبارة عن محو أثر الذنب من قولهم : اعتذرت المنازل إذا درست لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه واندراسه
وقيل : هو القطع ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تعذر أي تقطع وللبكارة عذرة لأنها تقطع بالافتراع ويقال : اعتذرت المياه إذا انقطعت فالعذر لما كان سببا لقطع اللوم سمي عذرا والقولان منقولان عن أهل اللغة وهما على ما قال الواحدي متقاربان قد كفرتم أي أظهرتم الكفر بايذاء الرسول عليه الصلاة و السلام والطعن فيه بعد إيمانكم أي إظهاركم الإيمان وهذا وما قبله لأن القوم منافقون فأصل الكفر في باطنهم ولا إيمان في نفس الأمر لهم
واستدل بعضهم بالآية على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء ولا خلاف بين الأئمة في ذلك إن نعف عن طائفة منكم لتوبتهم وإخلاصهم على أن الخطاب لجميع المنافقين أو لتنجيتهم عن الإيذاء والإستهزاء على أن الخطاب للمؤذين والمستهزئين منهم والعفو في ذلك عن عقوبة الدنيا العاجلة نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين
66
- أي مصرين على النفاق وهم غير التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين
أخرج ابن إسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال من خبر فيه طول : كان الذي عفي عنه مخشى بن حمير الأشجعي فتسمى عبدالرحمن وسأل الله تعالى أن يقتل شهيدا لا يعلم مقتله فقتل يوم اليمامة فلم يعلم مقتله ولا قاتله ولم ير له عين ولا أثر
وفي بعض الروايات أنه لما نزلت هذه الآية تاب عن نفاقه وقال : اللهم إني لا أزل أسمع آية تقشعر منها
(10/131)

الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة واستجيب دعاؤه رضي الله تعالى عنه ومن هنا قال مجاهد : إن الطائفة تطلق على الواحد إلى الألف وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الطائفة الواحد والنفر وقريء يعف و يعذب بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله تعالى وقريء إن تعف و تعذب بالتاء والبناء للمفعول واستشكلت هذه القراءة بأن الفعل الأول مسند فيها إلى الجار والمجرور ومثله يلزم تذكيره ولا يجوز تأنيثه إذا كان المجرور مؤنثا فيقال سير على الدابة ولا يقال سيرت عليها وأجيب بأن ذلك من الميل مع المعنى والرعاية له فلذا أنث لتأنيث المجرور إذ معنى تعف عن طائفة ترحم طائفة وهو من غرائب العربية وقيل : لو قيل بالمشاكلة لم يبعد وقيل : إن نائب الفاعل ضمير الذنوب والتقدير ان تعف هي أي الذنوب ومن الناس من استشكل الشرطية من حيث هي بأنه كيف يصح أن يكون نعذب طائفة جوابا للشرط السابق ومن شرط الشرط والجزاء الإتصال بطريق السببية أو اللزوم في الجملة وكلاهما مفقود في الجملة وقد ذكر ذلك العز بن عبدالسلام في أماليه ونقله عنه العلامة ابن حجر في ذيل الفتاوي وذكر أنه لم ير أحدا نبه على الجواب عنه لكنه يعلم من سبب النزول وتكلم بعد أن ساق الخبر بما لا يخلو عن غموض ولقد ذكرت السؤال وأنا في عنفوان الشباب مع جوابه للعلامة المذكور لدى شيخ من أهل العلم قد حلب الدهر أشطره وطلبت منه حل ذلك فأعرض عن تقرير الجواب الذي في الذيل وأظن أن ذلك لجهله به وشمر الذيل وكشف عن ساق للجواب من تلقاء نفسه فقال : إن الشرطية اتفاقية نحو قولك : إن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق وشرع في تقرير ذلك بما تضحك منه الثكلى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وأجاب مولانا سري الدين : بأن الجزاء محذوف مسبب عن المذكور أي فلا ينبغي أن يفتروا أو فلا يفتروا فلا بد من تعذيب طائفة ثم قال : فإن قيل هذا التقدير لا يفيد سببية مضمون الشرط لمضمون الجزاء قلت : يحمل على سببيته للاخبار بمضمون الجزاء أو سببيته للامر بعدم الإغترار قياسا على الاخبار وقد حقق الكلام في ذلك العلامة التفتازاني عند قوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك من سورة البقرة في حاشية الكشاف
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض أي متشابهون في النفاق كتشابه ابعاض الشيء الواحد والمراد الإتحاد في الحقيقة والصورة كالماء والتراب والآية متصلة بجميع ما ذكر من قبائحهم وقيل : هي متصلة بقوله تعالى : يحلفون بالله إنهم لمنكم والمراد منها تكذيب قولهم المذكور وإبطال له وتقرير لقوله سبحانه : وما هم منكم وما بعد من تغاير صفاتهم وصفات المؤمنين كالدليل على ذلك و من على التقريرين اتصالية كما في قوله عليه الصلاة و السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى والتعرض لأحوال الاناث للإيذان بكمال عراقتهم في الكفر والنفاق يأمرون بالمنكر أي بالتكذيب بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وينهون عن المعروف أي شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما أنزل الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وأخرج عن أبي العالية أنه قال : كل منكر ذكر في القرآن المراد منه عبادة الأوثان والشيطان ولا يبعد أن يراد بالمنكر والمعروف ما يعم ما ذكر وغيره ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا والجملة إستئناف مقرر
(10/132)

لمضمون ما سبق مفصح عن مضادة حالهم لحال المؤمنين أو خبر ثان ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في طاعة الله ومرضاته كما روي عن قتادة والحسن وقبض اليد كناية عن الشح والبخل كما أن بسطها كناية عن الجود لأن من يعطي يمد يده بخلاف من يمنع وعن الجبائي أن المراد يمسكون أيديهم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وهو خلاف الشائع في هذه الكلمة نسوا الله النسيان مجاز عن الترك وهو كناية عن ترك الطاعة فالمراد لم يطيعوه سبحانه فنسيهم منع لطفه وفضله عنهم والتعبير بالنسيان للمشاكلة إن المنافقين هم الفاسقون
76
- أي الكاملون في التمرد والفسق الذي هو الخروج عن الطاعة والإنسلاخ عن كل حتى كأنهم الجنس كله ومن هنا صح الحصر المستفاد من الفصل وتعريف الخبر وإلا فكم فاسق سواهم
والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير ولعله لم يذكر المنافقات إكتفاء بقرب العهد ومثله في نكتة الإظهار قوله سبحانه : وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار أي المجاهرين فهو من عطف المغاير وقد يكون من عطف العام على الخاص نار جهنم خالدين فيها حال مقدرة من مفعول وعد أي مقدرين الخلود قيل : والمراد دخولهم وتعذيبهم بنار جهنم في تلك الحال لما يلوح لهم يقدرون الخلود في أنفسهم فلا حاجة لما قاله بعضهم من أن التقدير مقدري الخلود بصيغة المفعول
والإضافة إلى الخلود لأنهم لم يقدروه وإنما قدره الله تعالى لهم وقيل : إذا كان المراد يعذبهم الله سبحانه بنار جهنم خالدين لا يحتاج إلى التقدير والتعبير بالوعد للتهكم نحو قول سبحانه : فبشرهم بعذاب أليم هي حسبهم عقابا وجزاء أي فيها ما يكفي من ذلك وفيه ما يدل على عظم عقابها وعذابها فإنه إذا قيل للمعذب كفى هذا دل على أنه بلغ غاية النكاية ولعنهم الله أي أبعدهم من رحمته وخيره وأهانهم وفي إظهار الاسم الجليل من الإيذان بشدة السخط ما لا يخفى ولهم عذاب مقيم
86
- أي نوع من العذاب غير عذاب النار دائم لا ينقطع أبدا فلا تكرار مع ما تقدم ولا ينافي ذلك هي حسبهم لأنه بالنظر إلى تعذيبهم بالنار وقيل : في دفع التكرار إن ما تقدم وعيد وهذا بيان لوقوع ما وعدوا به على أنه لا مانع من التأكيد وقيل : إن الأول عذاب الآخرة وهذا عذاب ما يقاسونه في الدنيا من التعب والخوف من الفضيحة والقتل ونحوه وفسرت الإقامة بعدم الإنقطاع لأنها من صفات العقلاء فلا يوصف بها العذاب فهي مجاز عما ذكر
وجوز أن يكون وصف العذاب بها كما في قوله تعالى : عيشة راضية فالمجاز حينئذ عقلي كالذين من قبلكم التفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد والكاف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم مثل الذين من قبلكم من الأمم المهلكة أو في حيز النصب بفعل مقدر أي فعلتم مثل الذين من قبلكم ونحوه قول النمر يصف ثور وحش وكلابا : حتى إذا الكلاب قال لها كاليوم مطلوبا ولا طالبا فإن أصله لم أر مطلوبا كمطلوب رأيته اليوم ولا طلبة كطلبة رأيتها اليوم فاختصر الكلام فقيل لم أر مطلوبا كمطلوب اليوم لملابسته له ثم حذف المضاف اتساعا وعدم الباس وقيل : كاليوم وقدم على الموصوف فصار
(10/133)

حالا للإعتناء والمبالغة وحذف الفعل للقرينة الحالية ووجه الشبه المعمولية لفعل محذوف وقوله سبحانه : كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا الخ تفسير للتشبيه وبيان لوجه الشبه بين المخاطبين ومن قبلهم فلا محل لها من الإعراب وفيه إيذان بأن المخاطبين أولى وأحق بأن يصيبهم ما أصابهم فاستمتعوا بخلاقهم أي تمتعوا بنصيبهم من ملاذ الدنيا وفي صيغة الإستفعال ما ليس في التفعل من الإستفادة والإستدامة في التمتع واشتقاق الخلاق من الخلق بمعنى التقدير وهو أصل معناه لغة فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية والتهائهم فيها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم ولذلك اختير الأطناب بزيادة فاستمتعوا بخلاقهم وهذا كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثله ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي استمتعتم استمتاعا كاستمتاع الذين وخضتم أي دخلتم في الباطل كالذي خاضوا أي كالذين فحذفت نونه تخفيفا كما في قوله : إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد ويجوز أن يكون الذي صفة لمفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فلوحظ في الصفة اللفظ وفي الضمير المعنى أو هو صفة مصدر محذوف أي كالخوض الذي خاضوه ورجح بعدم التكلف فيه وقال الفراء : إن الذي تكون مصدرية وخرج هذا عليه أي كخوضهم وهو كما قال أبو البقاء نادر وهذه الجملة عطف على ما قبلها وحينئذ إما أن يقدر فيها ما يجعلها على طرزه لعطفها عليه أو لا يقدر إشارة إلى الإعتناء بالأول أولئك إشارة إلى المتصفين بالصفات المعدودة من المشبهين والمشبه بهم وكونه إشارة إلى الأخير يقتضي أن يكون حكم المشبهين مفهوما ضمنا ويؤدي إلى خلو تلوين الخطاب عن الفائدة إذ الظاهر حينئذ أولئكم والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة و السلام أو لكل من يصلح له أي أولئك المتصفون بما ذكر من القبائح حبطت أعمالهم أي التي كانوا يستحقون بها أجورا حسنة لو قارنت الإيمان والحبط السقوط والبطلان والإضمحلال والمراد لم يستحقوا عليها ثوابا وكرامة في الدنيا والآخرة أما في الآخرة فظاهر وأما في الدنيا فلأن ما حصل لهم من الصحة والسعة ونحوهما ليس إلا بطريق الإستدراج كما نطقت به الآيات دون الكرامة وأولئك الموصوفون بحبط الأعمال في الدارين هم الخاسرون
96
- أي الكاملون في الخسران الجامعون لمباديه وأسبابه طرا
وإيراد اسم الإشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصاف المشار إليها للحبط والخسران ألم يأتهم أي المنافقين نبأ الذين من قبلهم أي خبرهم الذي له شأن والإستفهام للتقرير والتحذير قوم نوح أغرقوا بالطوفان وعاد أهلكوا بالريح وثمود أهلكوا بالرجفة وغير الأسلوب في القومين لأنهم لم يشتهروا بنبيهم وقيل : لأن الكثير منهم آمن وقوم إبراهيم أهلك نمرود رئيسهم ببعوض وأبيدوا بعده لكن لا بسبب سماوي كغيرهم وأصحاب مدين أي أهلها وهم قوم شعيب عليه السلام أهلكوا
(10/134)

بالنار يوم الظلة أو بالصيحة والرجفة أو بالنار والرجفة على إختلاف الروايات والمؤتفكات جمع مؤتفكة من الإئتفاك وهو الإنقلاب بجعل أعلى الشيء أسفل بالخسف والمراد بها إما قريات قوم لوط عليه السلام فالإئتفاك على حقيقته فإنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها وأمطر على من فيها حجارة من سجيل وإما قريات المكذبين المتمردين مطلقا فالإئتفاك مجاز عن إنقلاب حالها من الخير إلى الشر على طريق الإستعارة كقول ابن الرومي : وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة أعاليها بل أن تسود الأراذل لأنها لم يصبها كلها الإئتفاك الحقيقي أتتهم رسلهم بالبينات إستئناف لبيان نبئهم وضمير الجمع للجميع لا للمؤتفكات فقط فما كان الله ليظلمهم أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما كان الخ فالفاء للعطف على ذلك المقدر الذي ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام أي لم يكن من عادته سبحانه ما يشبه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم وقد يحمل على إستمرار النفي أي لا يصدر منه سبحانه ذلك أصلا بل هو أبلغ كما لا يخفى وقول الزمخشري : أي فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح مبني على الإعتزال
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
7
- حيث عرضوها بمقتضى استعدادهم للعقاب بالكفر والتكذيب والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الإستمرار وتقديم المفعول على ما قرره بعض الأفاضل لمجرد الإهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصر كابن الأثير فيما قيل والمؤمنون والمؤمنات بيان لحسن حال المؤمنين والمؤمنات حالا ومآلا بعد بيان حال أضدادهم عاجلا وآجلا وقوله سبحانه : بعضهم أولياء بعض يقابل قوله تعالى فيما مر : بعضهم من بعض وتغيير الأسلوب للإشارة إلى تناصرهم وتعاضدهم بخلاف أولئك وقوله عز و جل : يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ظاهر المقابلة ليأمرون بالمنكر الخ الكلام في المنكر والمعروف معروف وقوله جل وعلا : ويقيمون الصلاة في مقابلة نسوا الله وقوله تعالى جده : ويؤتون الزكاة في مقابلة يقبضون أيديهم وقوله تبارك وتعالى : ويطيعون الله ورسوله أي في سائر الأمور في مقابلة وصف المنافقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة وقيل : هو في مقابلة نسوا الله وقوله سبحانه : ويقيمون الصلاة زيادة مدح وقوله تعالى شأنه : أولئك سيرحمهم الله في مقابلة فنسيهم المفسر بمنع لطفه ورحمته سبحانه وقيل : في مقابلة أولئك هم الفاسقون لأنه بمعنى المتقين المرحومين والإشارة إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافهم بما سلف من الصفات الجليلة والاتيان بما يدل على البعد لما مر غير مرة
والسين على ما قال الزمخشري وتبعه غير واحد لتأكيد الوعد وهي كما تفيد ذلك تفيد تأكيد الوعيد ونظر فيه صاحب التقريب ووجه ذلك بأن السين في الإثبات في مقابلة لن في النفي فتكون بهذا الإعتبار تأكيدا لما دخلت عليه ولا فرق في ذلك بين أن يكون وعدا أو وعيدا أو غيرهما وقال العلامة ابن حجر : ما زعمه الزمخشري من أن السين تفيد القطع بمدخولها مردود بإن القطع إنما فهم من المقام لا من الوضع وهو توطئة
(10/135)

لمذهبه الفاسد في تحتم الجزاء ومن غفل عن هذه الدسيسة وجهه وتعقبه الفهامة ابن قاسم بأن هذا لا وجه له لأنه أمر نقلي لا يدفعه ما ذكر ونسبة الغفلة للأئمة إنما أوجبه حب الإعتراض وحينئذ فالمعنى أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة يرحمهم الله تعالى لا محالة إن الله عزيز قوي قادر على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده حكيم
17
- يضع الأشياء مواضعها ومن ذلك النعمة والنقمة والجملة تعليل للوعد وقوله تعالى : وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها في مقابلة الوعيد السابق للمنافقين المعبر عنه بالوعد تهكما كما مر ويفهم من كلام البعض أن قوله سبحانه : سيرحمهم بيان لإفاضة آثار الرحمة الدنيوية من التأييد والنصر وهذا تفصيل لآثار رحمته سبحانه الأخروية والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بعلية الإيمان لما تعلق به الوعد ولم يضم إليه باقي الأوصاف للإيذان بأنه من لوازمه ومستتبعاته والكلام في خالدين هنا كالكلام فيما مر ومساكن طيبة أي تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش فالإسناد إما حقيقي أو مجازي
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال : سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير ومساكن طيبة فقالا : على الخبير سقطت سألنا عنها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فرشا من كل لون على كل فراش امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة في كل مائدة سبعون لونا من كل طعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطى المؤمن من القوة في كل غداة ما يأتي على ذلك كله في جنات عدن قيل : هو علم لمكان مخصوص بدليل قوله تعالى : جنات عدن التي وعد الرحمن حيث وصف فيه بالمعرفة ولما أخرجه البزار والدارقطني في المختلف والمؤتلف وابن مردويه من حديث أبي الدرداء قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عدن دار الله تعالى لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة : النبيون والصديقون والشهداء يقول الله سبحانه طوبى لمن دخلك وروي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد وعن ابن مسعود أنها بطنان الجنة وسرتها وقال عطاء بن السائب : عدن نهر في الجنة جناته على حافاته وقيل : العدن في الأصل الإستقرار والثبات ويقال : عدن بالمكان إذا أقام والمراد به هنا الإقامة على وجه الخلود لأنه الفرد الكامل المناسب لمقام المدح أي في جنات إقامة وخلود وعلى هذا الجنات كلها جنات عدن لا يبغون عنها حولا والتغاير بين المساكن والجنات المشعر به العطف إما ذاتي بناء على أن يراد بالجنات غير عدن وهي لعامة المؤمنين وعدن للنبيين عليهم الصلاة والسلام والصديقين والشهداء أو يراد بها البساتين أنفسها وهي غير المساكن كما هو ظاهر فالوعد حينئذ صريحا بشيئين البساتين والمساكن فلكل أحد جنة ومسكن وإما تغاير وصفي فيكون كل منهما عاما ولكن الأول باعتبار إشتمالها على الأنهار والبساتين والثاني لا بهذا الإعتبار وكأنه وصف ما وعدوا به
(10/136)

أولا بأنه من جنس ما هو أشرف الأماكن المعروفة عندهم من الجنات ذات الأنهار الجارية لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تكاد تخلو عنها أماكن الدنيا وأهلها وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ثم وصف بأنه دار إقامة بلا إرتحال وثبات بلا زوال ولا يعد هذا تكرارا لقوله سبحانه : خالدين فيها كما لا يخفى ثم وعدهم جل شأنه كما يفهم من الكلام هو ما أجل وأعلى من ذلك كله بقوله تبارك وتعالى : ورضوان من الله أي وقدر يسير من رضوانه سبحانه أكبر ولقصد إفادة ذلك عدل عن رضوان الله الأخصر إلى ما في النظم الجليل وقيل : إفادة العدول كون ما ذكر أظهر في توجه الرضوان إليهم ولعله إنما لم يعبر بالرضا تعظيما لشأن الله تعالى في نفسه لأن في الرضوان من المبالغة ما لا يخفى ولذلك لم يستعمل في القرآن إلا في رضاء الله سبحانه وإنما كان ذلك أكبر لأنه مبدأ لحلول دار الإقامة ووصول كل سعادة وكرامة وهو غاية أرب المحبين ومنتهى أمنية الراغبين
وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول : هل رضيتم فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك يا ربنا فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ولعل عدم نظم هذا الرضوان في سلك الوعد على طرز ما تقدم مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موجود ولأنه مستمر في الدارين ذلك أي جميع ما ذكر هو الفوز العظيم
27
- دون ما يعده الناس فوزا من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن فنائها وتغيرها وتنغصها بالآلام ليست بالنسبة إلى أدنى شيء من نعيم الآخرة إلا بمثابة جناح البعوض وفي الحديث لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء ولله در من قال : تالله لو كانت الدنيا بأجمعها تبقى علينا وما من رزقها رغدا ما كان من حر أن يذل بها فكيف وهي متاع يضمحل غدا وجوز أن تكون الإشارة إلى الرضوان فهو فوز عظيم يستحقر عنده نعيم الدنيا وحظوظها أيضا أو الدنيا ونعيمها والجنة وما فيها وعلى الإحتمالين لا ينافي قوله سبحانه : أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم فقد فسر فيه العظيم بما يستحقر عنده نعيم الدنيا فتدبر
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ظاهره يقتضي مقاتلة المنافقين وهم غير مظهرين للكفر ولا نحكم بالظاهر لأنا نحكم بالظاهر كما في الخبر ولذا فسر ابن عباس والسدي ومجاهد جهاد الأولين بالسيف والآخرين باللسان وذلك بنحو الوعظ وإلزام الحجة بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى وهو أعم من أن يكون بالقتال أو بغيره فإن كان حقيقة فظاهر والأحمل على عموم المجاز وروي عن الحسن وقتادة أن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم واستشكل بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضا فلا يختص ذلك بهم وأشار في الأحكام إلى دفعه بأن أسباب الحد في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم أكثر ما صدرت عنهم وأما القول بأن المنافق بمعنى
(10/137)

الفاسق عند الحسن فغير حسن وروي والعهدة على الراوي أن قراءة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم جاهد الكفار بالمنافقين والظاهر أنها لم تثبت ولم يروها إلا الشيعة وهم بيت الكذب واغلظ عليهم أي على الفريقين في الجهاد بقسميه ولا ترفق بهم عن عطاء نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح ومأواهم جهنم إستئناف لبيان آجل أمرهم إثر بيان عاجله وذكر أبو البقاء في هذه ثلاثة أوجه : أحدهما أنها واو الحال والتقدير افعل ذلك في حال إستحقاقهم جهنم وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم والثاني أنها جيء بها تنبيها على إرادة فعل محذوف أي واعلم أن مأواهم جهنم والثالث أن الكلام محمول على المعنى وهو أنه قد إجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة وعذاب الآخرة بجعل جهنم مأواهم وبئس المصير
37
- تذييل لما قبله والمخصوص بالذم محذوف أي مصيرهم يحلفون بالله ما قالوا إستئناف لبيان ما صدر منهم من الجرائم الموجبة لما مر
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهيني فقال عبدالله بن أبي للأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وحاشاه مما يقول هذا المنافق إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله تعالى ما قاله فنزلت
وأخرج ابن إسحق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال : لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال الجلاس 1 بن سويد : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فسمعهما عمير بن سعد فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثرا ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن سكت عنها لتهلكني ولإحداهما أشد علي من الأخرى فمشى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس فحلف بالله تعالى ما قال ولقد كذب علي عمير فنزلت
وأخرج عبدالرزاق ابن سيرين أنها لما نزلت أخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأذن عمير فقال : وفت أذنك يا غلام وصدقك ربك وكان يدعو حين حلف الجلاس اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب
وأخرج عن عروة أن الجلاس تاب بعد نزولها وقبل منه وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم انسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين فدعاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : علام تشتمني أنت وصاحبك فانطلق فجاء باصحابه فحلفوا بالله تعالى ما قالوا حتى تجاوز عنهم وأنزل الله تعالى الآية وإسناد الحلف إلى ضمير الجمع على هذه الرواية ظاهر وأما على الروايتين الأوليين فقيل : لأنهم رضوا بذلك واتفقوا عليه فهو من إسناد الفعل إلى سببه أو لأنه جعل الكلام لرضاهم به كأنهم فعلوه ولا حاجة إلى عموم المجاز لأن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز في المجاز العقلي وليس محلا للخلاف وإيثار صيغة الإستقبال في يحلفون على سائر الروايات لإستحضار الصورة أو للدلالة على تكرير الفعل وهو قائم مقام القسم و ما قالوا جوابه ولقد قالوا كلمة الكفر
(10/138)

هي ما حكي من قولهم والله ما مثلنا الخ أو والله لئن كان هذا الرجل صادقا الخ أو الشتم الذي وبخ عليه عليه الصلاة و السلام والجملة مع ما عطف عليها إعتراض وكفروا بعد إسلامهم أظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهار الإسلام وإلا فكفرهم الباطن كان ثابتا قبل والإسلام الحقيقي لا وجود له وهموا بما لم ينالوا من الفتك برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين رجع من غزوة تبوك أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة بن اليمان قال كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقود به وعمار يسوق أو أنا أسوق وعمار يقود حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا بإثني عشر راكبا قد إعترضوا فيها فأنبهت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرن فقال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : هل عرفتم القوم قلنا : لا يا رسول الله كانوا متلثمين ولكن قد عرفنا الركاب قال : هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة هل تدرون ما أرادوا قلنا : لا قال : أرادوا أن يزلوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في العقبة فيلقوه منها قلنا : يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعثوا لك كل قوم برأس صاحبهم قال : أكره أن يتحدث العرب عنا أن محمدا عليه الصلاة و السلام قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم ثم قال : اللهم أرمهم بالدبيلة قلنا يا رسول الله وما الدبيلة قال : شهاب من نار يقع على نياط أحدهم فيهلك وكانوا كلهم كما أخرج ابن سعد عن نافع بن جبير من الأنصار أو من حلفائهم ليس فيهم قرشي ونقل الطبرسي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب لا يعول عليه
وقد ذكر البيهقي من رواية ابن إسحاق أسماؤهم وعد منهم الجلاس بن سويد ويشكل عليه رواية أنه تاب وحسنت توبته مع قوله عليه الصلاة و السلام في الخبر هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة إلا أن يقال : إن ذلك باعتبار الغالب وقيل : المراد بالموصول إخراج المؤمنين من المدينة على ما تضمنه الخبر المار عن قتادة وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وأبو الشيخ عنه وعن أبي صالح أنهم أرادوا أن يتوجوا عبدالله بن أبي بتاج ويجعلوه حكما ورئيسا بينهم وإن لم يرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : أرادوا أن يقتلوا عميرا لرده على الجلاس كما مر
وما نقموا أي ما كرهوا وعابوا شيئا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فالإستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي وما نقموا الإيمان لأجل شيء إلا لإغناء الله تعالى إياهم فيكون الإستثناء مفرغا من أعم العلل وهو على حد قولهم : ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك وقوله : ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا 1 وهو متصل على إدعاء دخوله بناء على القول بأن الإستثناء المفرغ لا يكون منقطعا وفيه تهكم وتأكيد الشيء بخلافه كقوله
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
البيت وأصل النقمة كما قال الراغب الإنكار باللسان والعقوبة والأمر على الأول ظاهر وأما على الثاني فيحتاج إلى إرتكاب المجاز بأن يراد وجدان ما يورث النقمة ويقتضيه وضمير أغناهم للمنافقين على ما هو الظاهر وكان إغناؤهم بأخذ الدية فقد روي أنه كان للجلاس مولى قتل وقد غلب على ديته فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بها اثني عشر ألفا فأخذها واستغنى وعن قتادة أن الدية كانت لعبدالله بن أبي وزيادة الألفين كانت على عادتهم في الزيادة على الدية تكرما وكانوا يسمونها شنقا كما في الصحاح وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال : كان جلاس تحمل حمالة أو كان عليه دين فأدى عنه
(10/139)

رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك قوله سبحانه : وما نقموا الآية ولا يخفى أن الإغناء على الأول أظهر وقيل : كان إغناؤهم بما من الله تعالى من الغنائم فقد كانوا كما قال الكلبي قبل قدوم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة محاويج في ضنك من العيش فلما قدم عليه الصلاة و السلام أثروا بها والضمير على هذا يجوز أن يكون للمؤمنين فيكون الكلام متضمنا ذم المنافقين بالحسد كما أنه على الأول متضمن لذمهم بالكفر وترك الشكر وتوحيد ضمير فضله لا يخفى وجهه فإن يتوبوا عما هم عليه من القبائح يك أي التوب وقيل : أي التوبة وغتفر مثل ذلك في المصادر
وقد يقال : التذكير باعتبار الخبر أعني قوله سبحانه : خيرا لهم أي في الدارين وهذه الآية على ما في بعض الروايات كانت سببا لتوبته وحسن إسلامه لطفا من الله تعالى به وكرما وإن يتولوا أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن إخلاص الإيمان أو أعرضوا عن التوبة
يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بمتاعب النفاق وسوء الذكر ونحو ذلك وقيل : المراد بعذاب الدنيا عذاب القبر أو ما يشاهدونه عند الموت وقيل : المراد به القتل ونحوه على معنى أنهم يقتلون إن أظهروا الكفر بناءا على أن التولي مظنة الإظهار فلا ينافي ما تقدم من أنهم لا يقتلون وأن الجهاد في حقهم غير ما هو المتبادر
والآخرة وعذابهم فيها بالنار وغيرها من أفانين العقاب وما لهم في الأرض أي في الدنيا والتعبير بذلك للتعميم أي ما لهم في جميع بقاعها وسائر أقطارها من ولي ولا نصير
47
- ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة وخص ذلك في الدنيا لأنه لا ولي ولا نصير لهم في الآخرة قطعا فلا حاجة لنفيه
هذا ومن باب الإشارة في الآيات عفا الله عنك لم أذنت لهم الخ فيه إشارة إلى علو مقامه صلى الله تعالى عليه وسلم ورفعة شأنه على سائر الأحباب حيث آذنه بالعفو قبل العتاب ولو قال له : لم أذنت لهم عفى الله عنك لذاب وعبر سبحانه بالماضي المشير إلى سبق الإصطفاء لئلا يوحشه عليه الصلاة و السلام الإنتظار ويشتغل قلبه الشريف باستمطار العفو من سحاب ذلك الوعد المدرار وانظر كم بين عتابه جل شأنه لحبيبه عليه الصلاة و السلام على الأذن لأولئك المنافقين وبين رده تعالى على نوح عليه السلام قوله : ان ابني من أهلي بقوله سبحانه : يا نوح إنه ليس من أهلك إلى قوله تبارك وتعالى : إني أعظك أن تكون من الجاهلين ومن ذلك يعلم الفرق وهو لعمري غير خفي بين مقام الحبيب ورتبة الصفي وقي قيل : إن المحب يعتذر عن حبيبه ولا ينقصه عنده كلام معيبه وأنشد : ما حطك الواشون عن رتبة كلا وما ضرك مغتاب كأنهم اثنوا ولم يعلموا عليك عندي بالذي عابوا وقال آخر : في وجهه شافع يمحو إساءته عن القلوب ويأتي بالمعاذير وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
(10/140)

وقوله سبحانه : لا يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر فيه إشارة إلى أن المؤمن إذا سمع بخبر خير طار إليه وأتاه ولو مشيا على رأسه ويديه ولا يفتح فيه فاه بالإستئذان وهل يستأذن في شرب الماء ضمآن
وقال الواسطي : إن المؤمن الكامل مأذون في سائر أحواله إن قام قام باذن وإن قعد قعد بإذن وإن لله سبحانه عبادا به يقومون وبه يقعدون ومن شأن المحبة إمتثال أمر المحبوب كيفما كان : لو قال تيها قف على جمر الغضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر الخ أي إنما يستأذنك المنافقون رجاء أن لا تأذن لهم بالخروج فيستريحوا من نصب الجهاد ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة فقد قيل :
لو صح منك الهوى أرشدت للحيل
ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم إشارة إلى خذلانهم لسوء إستعدادهم وإن جهنم لمحيطة بالكافرين لأن الأخلاق السيئة والأعمال القبيحة محيطة بهم وهي النار بعينها غاية الأمر إنها ظهرت في هذه النشأة بصورة الأخلاق والأعمال وستظهر في النشأة الأخرى بالصورة الأخرى وقوله تعالى : ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى فيه إشارة إلى حرمانهم لذة طعم العبودية واحتجابهم عن مشاهدة جمال معبودهم وأنهم لم يعلموا أن المصلي يناجي ربه وأن الصلاة معراج العبد إلى مولاه ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وجعلت قرة عيني في الصلاة وقال محمد بن الفضل : من لم يعرف الآمر قام إلى الأمر على حد الكسل ومن عرف الآمر قام إلى الأمر على حد الإستغنام والإسترواح ولذا كان عليه الصلاة و السلام يقول لبلال : أرحنا يا بلال وقوله تعالى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فيه تحذير للمؤمنين أن يستحسنوا ما مع أهل الدنيا من الأموال والزينة فيحتجبوا بذلك عن عمل الآخرة ورؤيتها وقد ذكروا أن الناظر إلى الدنيا بعين الإستحسان من حيث الشهوة والنفس والهوى يسقط في ساعته عن مشاهدة أسرار الملكوت وأنوار الجبروت وقوله سبحانه : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله الخ فيه إرشاد إلى آداب الصادقين والعارفين والمريدين وعلامة الراضي النشاط بما استقبله من الله تعالى والتلذذ بالبلاء فكل ما فعل المحبوب محبوب
رؤى أعمى أقطع مطروح على التراب يحمد الله تعالى ويشكره فقيل له في ذلك فقال : وعزته وجلاله لو قطعني أربا أربا ماإزددت له إلا حبا ولله تعالى در من قال : أنا راض بالذي ترضونه لكم المنة عفوا وانتقاما ثم إنه سبحانه قسم جوائز فضله على ثمانية أصناف من عباده فقال سبحانه : إنما الصدقات للفقراء الخ والفقراء في قول المتجردون بقلوبهم وأبدانهم عن الكونين والمساكين هم الذين سكنوا إلى جمال الإنس ونور القدس حاضرين في العبودية بنفوسهم غائبين في أنوار الربوبية بقلوبهم فمن رآهم ظنهم بلا قلوب ولم يدر أنها تسرح في رياض جمال المحبوب وأنشد : مساكين أهل العشق ضاعت قلوبهم فهم أنفس عاشوا بغير قلوب والعاملون هم أهل التمكين من العارفين وأهل الإستقامة من الموحدين الذين وقعوا في نور البقاء فأورثهم البسط والإنبساط فيأخذون منه سبحانه ويعطون له وهم خزان خزائن جوده المنفقون على أوليائه قلوبهم معلقة بالله سبحانه لا بغيره من العرش إلى الثرى والمؤلفة قلوبهم هم المريدون السالكون طريق محبته تعالى برقة قلوبهم وصفاء نياتهم وبذلوا مهجهم في سوق شوقه وهم عند الأقوياء ضعفاء الأحوال وفي الرقاب
(10/141)

هم الذين رهنت قلوبهم بلذة محبة الله تعالى وبقيت نفوسهم في المجاهدة في طريقه سبحانه لم يبلغوا بالكلية إلى الشهود فتارة تراهم في لجج بحر الإرادة وأخرى في سواحل بحر القرب وطورا هدف سهام القهر ومرة مشرق أنوار اللطف ولا يصلون إلى الحقيقة ما دام عليهم بقية من المجاهدة والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم والأحرار ما وراء ذلك وقليل ما هم أتمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر والغارمين هم الذين ما قضوا حقوق معارفهم في العبودية وما أدركوا في إيقانهم حقائق الربوبية والمعرفة غريم لا يقضى دينه وفي سبيل الله هم المحاربون نفوسهم بالمجاهدات والمرابطون بقلوبهم في شهود الغيب لكشف المشاهدات وابن السبيل هم المسافرون بقلوبهم في بوادي الأزل وبأرواحهم في قفار الأبد وبعقولهم في طريق الآيات وبنفوسهم في طلب أهل الولايات فريضة من الله على أهل الإيمان أن يعطوا هؤلاء الأصناف من مال الله سبحانه لدفع احتياجهم الطبيعي والله عليم بأحوال هؤلاء وغيبتهم عن الدنيا حكيم حيث أوجب لهم ما أوجب ومن الناس من فسر هذه الأصناف بغير ما ذكر ولا أرى التفاسير بأسرها متكفلة بالجمع والمنع ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن عابوه عليه الصلاة و السلام وحاشاه من العيب بسلامة القلب وسرعة القبول والتصديق لما يسمع فصدقهم جل شأنه ورد عليهم بقوله سبحانه : قل هو أذن خير لكم أي هو كذلك لكن بالنسبة إلى الخير وهذا من غاية المدح فإن النفس القدسية الخيرية تتأثر بما يناسبها أي أنه عليه الصلاة و السلام يسمع ما ينفعكم وما فيه صلاحكم دون غيره ثم بين ذلك بقوله تعالى : يؤمن بالله الخ وقد غرهم قاتلهم الله تعالى حتى قالوا ما قالوا كرم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيث لم يشافههم برد ما يقولون رحمة منه بهم وهو عليه الصلاة و السلام الرحمة الواسعة وعن بعضهم أنه سئل عن العاقل فقال : الفطن المتغافل وأنشد : وإذا الكريم أتيته بخديعة فرأيته فيما تروم يسارع فاعلم أنك لم تخادع جاهلا إن الكريم لفضله متخادع المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض أي هم متشابهون في القبح والرداءة وسوء الإستعداد يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم أي ببخلون أو يبغضون المؤمنين فهو إشارة إلى معنى قوله سبحانه : وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أو لا ينصرون المؤمنين أو لا يخشعون لربهم ويرفعون أيديهم في الدعوات نسوا الله لإحتجابهم بما هم فيه فنسيهم من رحمته وفضله ولهم عذاب مقيم وهو عذاب الإحتجاب بالسوي وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار هي جنات النفوس ومساكن طيبة مقامات أرباب التوكل في جنات الأفعال ورضوان من الله أكبر إشارة إلى جنات الصفات ذلك أي الرضوان هو الفوز العظيم لكرامة أهله عند الله تعالى وشدة قربهم ولا بأس بإبقاء الكلام على ظاهره ويكون في قوله سبحانه : ومساكن طيبة إشارة إلى الرؤية فإن المحب لا تطيب له الدار من غير رؤية محبوبه : أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم إذا غبتم عنها ونحن حضور ولكون الرضوان هو المدار لكل خير وسعادة والمناط لكل شرف وسيادة كان أكبر من
(10/142)

هاتيك الجنات والمساكن إذا كنت عني يا منى القلب راضيا أرى كل من في الكون لي يتبسم نسأل الله تعالى رضوانه وأن يسكننا جنانه ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين
57
- بيان لقبائح بعض آخر من المنافقين والآية نزلت في ثعلبة بن حاطب ويقال ابن أبي حاطب وهو من بني أمية بن زيد وليس هو البدري لأنه قد استشهد بأحد رضي الله تعالى عنه
أخرج الطبراني والبيهقي في الدلائل وابن المنذر وغيرهم عن أبي أمامة الباهلي قال : جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالا فقال عليه الصلاة و السلام : ويحك يا ثعلبة أما تحب أن تكون مثلي فلو شئت أن يسير الله تعالى ربي هذه الجبال معي ذهبا لسارت قال : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالا فو الذي بعثك بالحق إن آتاني الله سبحانه مالا لأعطين كل ذي حق حقه فقال : ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيقه قال : يا رسول الله ادع الله تعالى فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهم ارزقه مالا فاتخذ غنما فبورك له فيها ونمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فتنحى وكان لا يشهد الصلاة بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن ألاخبار وفقده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسأل عنه فأخبروه أنه اشترى غنما وأن المدينة ضاقت به فقال عليه الصلاة و السلام : ويح ثعلبة بن حاطب ويح ثعلبة بن حاطب ثم إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأخذ الصدقات وأنزل خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية فبعث رجلين رجلا من جهينة ورجلا من بني سلمة يأخذان الصدقات وكتب لهما أسنان الإبل والغنم وكيف يأخذانها وأمرهما أن يمرا على ثعلبة ورجل من بني سليم فخرجا فمرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال : أرياني كتابكما فنظر فيه فقال : ما هذا إلا جزية إنطلقا حتى تفرغا ثم مرا بي فانطلقا وسمع بهما السليمي فاستقبلهما بخيار إبله فقالا : إنما عليك دون هذا فقال : ما كنت أتقرب إلى الله تعالى إلا بخير مالي فقبلا فلما فرغا مرا بثعلبة فقال : أرياني كتابكما فنظر فيه فقال : ما هذا إلا جزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى قدما المدينة فلما رآهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما : ويح ثعلبة بن حاطب ودعا للسليمي بالبركة وأنزل الله تعالى ومنهم من عاهد الله الآيات الثلاث فسمع بعض من أقاربه فأتاه فقال : ويحك يا ثعلبة أنزل فيك كذا وكذا فقدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول الله هذه صدقة مالي فقال عليه الصلاة و السلام : إن الله قد منعني أن أقبل منك فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : هذا عملك بنفسك أمرتك فلم تطعني فلم يقبل منه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى مضى ثم أتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال : يا أبا بكر إقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار فقال أبو بكر : لم يقبلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأقبلها فلم يقبلها أبو بكر ثم ولي عمر
(10/143)

رضي الله تعالى عنه فأتاه فقال : يا أبا حفص يا أمير المؤمنين إقبل من صدقتي فقال : لم يقبلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أبو بكر أقبلها أنا فأبى أن يقبلها ثم ولي عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها منه وهلك في خلافته
وفي بعض الروايات أن ثعلبة هذا كان قبل ذلك ملازما لمسجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لقب حمامة المسجد ثم رآه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسرع الخروج منه عقيب الصلاة فقال عليه الصلاة و السلام له : ما لك تعمل عمل المنافقين فقال : إني افتقرت ولي ولأمرأتي ثوب واحد أجيء به للصلاة ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به فادع الله أن يوسع على رزقي إلى آخر ما في الخبر والظاهر أن منع الله تعالى رسوله عليه الصلاة و السلام عن القبول منه كان بوحي منه تعالى له بأنه منافق والصدقة لاتؤخذ منه وإن لم يقتلوا لعدم الإظهار وحثوه للتراب ليس للتوبة من نفاقه بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين
ومعنى هذا عملك هذا جزاء عملك وما قلته وقيل : المراد بعمله طلبه زيادة رزقه وهذا إشارة إلى المنع أي هو عاقبة عملك وقيل : المراد بالعمل عدم إعطائه للمصدقين وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ثعلبة أتى مجلسا من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن أتاني الله تعالى من فضله تصدقت منه وأوتيت كل ذي حق حقه فمات ابن عم له فورث منه مالا فلم يف بما عاهد الله تعالى عليه فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات وقال الحسن : إنها نزلت في ثعلبة ومعتب بن قشير خرجا على ملأ قعود فحلفا بالله تعالى لئن آتانا من فضله لنصدقن فلما آتاهما بخلا وقال السائب : إن حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهدا شديدا فحلف بالله لئن آتانا الله من فضله يعني ذلك المال لأصدقن ولأصلن فلما آتاه لم يف بما عاهد الله تعالى عليه وحكي ذلك عن الكلبي والأول أشهر وهو الصحيح في سبب النزول والمراد بالتصدق قيل : إعطاء الزكاة الواجبة وما بعده إشارة إلى فعل سائر أعمال البر من صلة الأرحام ونحوها وقيل : المراد بالتصدق إعطاء الزكاة وغيرها من الصدقات وما بعده إشارة إلى الحج على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو إلى ما يعمه والنفقة في الغزو كما قيل وقريء لنصدقن ولنكونن بالنون الخفيفة فيهما
فلما آتاهم من فضله بخلوا به أي منعوا حق الله تعالى منه وتولوا أي أعرضوا عن طاعة الله سبحانه
وهم معرضون
67
-
أي وهم قوم عادتهم الإعراض عن الطاعات فلا ينكر منهم هذا والجملة مستأنفة أو حالية والإستمرار المقتضى للتقدم لا ينافي ذلك والمراد على ما قيل : تولوا باجرامهم وهم معرضون بقلوبهم
(10/144)

فأعقبهم
أي جعل الله تعالى عاقبة فعلهم ذلك
نفاقا
أي سوء عقيدة وكفرا مضمرا
(10/0)

في قلوبهم إلى يوم يلقونه
أي الله تعالى والمراد بذلك اليوم وقت الموت فالضمير المستتر في أعقب لله تعالى وكذا الضمير المنصوب في يلقونه والكلام على حذف مضاف والمراد بالنفاق بعض معناه وتمامه إظهار الإسلام وإضمار الكفر وليس بمراد كما أشرنا إلى ذلك كله ونقل الزمخشري عن الحسن وقتادة أن الضمير الأول للبخل وهو خلاف الظاهر بل قال بعض المحققين : إنه يأباه قوله تعالى : بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون
77
- إذ ليس لقولنا أعقبهم البخل نفاقا بسبب إخلافهم الخ
(10/0)

كثير معنى ولا يتصور على ما قيل أن يعلل النفاق بالبخل أولا ثم يعلل بأمرين غيره بغير عطف ألا ترى لو قلت : حملني على إكرام زيد علمه لأجل أنه شجاع وجواد كان خلفا حتى تقول حملني على إكرام زيد علمه وشجاعته وجوده
وقال الإمام : ولأن غاية البخل ترك بعض الواجبات وهو لا يوجب حصول النفاق الذي هو كفر وجهل في القلب كما في حق كثير من الفساق وكون هذا البخل بخصوصه يعقب النفاق والكفر لما فيه من عدم إطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وخلف وعده كما قيل لا يقتضي الأرجحية بل الصحة ولعلها لا تنكر واختيار الزمخشري كان لنزعة اعتزالية هي أنه تعالى لا يقضي بالنفاق ولا يخلقه لقاعدة التحسين والتقبيح وجوز أن يكون الضمير المنصوب للبخل أيضا والمراد باليوم يوم القيامة وهناك مضاف محذوف أي يلقون جزاءه و ما مصدرية
والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للإيذان بالإستمرار أي بسبب إخلافهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح وبسبب كونهم مستمرين على الكذب في جميع المقالات التي من جملتها وعدهم المذكور وقيل : المراد كذبهم فيما تضمنه خلف الوعد فإن الوعد وإن كان إنشاء لكنه متضمن للخبر فإذا تخلف كان قبيحا من وجهين الخلف والكذب الضمني وفيه نظر لأن تخصيص الكذب بذلك يؤدي إلى تخلية الجمع بين الصيغتين عن المزية وقد إشتملت الآية على خصلتين من خصال المنافقين فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان ويستفاد من الصحاح آية أخرى له إذا خاصم فجر واستشكل ذلك بأن هذه الخصال قد توجد في المسلم الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه بل كثير من علمائنا اليوم متصفون بأكثرها أو بها كلها وأجيب بأن المعنى أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في التخلق بها والمراد بقوله عليه الصلاة و السلام على ما في بعض الروايات الصحيحة أربع من كن فيه كان منافقا خالصا أنه كان شديد الشبه بالمنافقين لا أنه كان منافقا حقيقة
وقيل : إن الأخبار الواردة في هذا الباب إنما هي فيمن كانت تلك الخصال غالبة عليه غير مكترث بها ولا نادم على إرتكابها ومثله لا يبعد أن يكون منافقا حقيقة وقيل : هي في المنافقين الذين كانوا في زمنه عليه الصلاة و السلام فإنهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا واؤتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوا في النصرة للحق فأخلفوا وخاصموا ففجروا وروي هذا عن ابن عباس وابن عمر وهو قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وإليه رجع الحسن بعد أن كان على خلافه قال القاضي عياض : وإليه مال أكثر أئمتنا وقيل : كان ذلك في رجل بعينه وهو خارج مخرج قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما بال أقوام يفعلون كذا لأناس مخصوصين منعه كرمه عليه الصلاة و السلام أن يواجههم بصريح القول وحكى الخطابي عن بعضهم أن المقصود من الأخبار تحذير المسلم أن يعتاد هذه الخصال ولعله راجع إلى ما أجيب به أولا وبالجملة يجب على المؤمن إجتناب هذه الخصال فإنها في غاية القبح عند ذوي الكمال
مساو لو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق وقريء يكذبون بتشديد الذال ألم يعلموا أي المنافقون أو من عاهد الله تعالى وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ بالتاء على أنه خطاب للمؤمنين وقيل : للأولين على الألتفات ويأباه قوله تعالى :
(10/145)

أن الله يعلم سرهم ونجواهم وجعله التفاتا آخر تكلف والمراد من السر على تقدير أن يكون الضمير للمنافقين ما أسروه في أنفسهم من النفاق ومن النجوى ما يتناجون به من المطاعن وعلى التقدير الآخر المراد من الأول العزم على الإخلاف ومن الثاني تسمية الزكاة جزية وتقديم السر على النجوى لأن العلم به أعظم في الشاهد من العلم بها مع ما في تقديمه وتعليق العلم به من تعجيل إدخال الروعة أو السرور على إختلاف القراءتين وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينفعك هنا أيضا وأن الله علام الغيوب
8
- فلا يخفى عليه سبحانه شيء من الأشياء والهمزة إما للإنكار والتوبيخ والتهديد أي ألم يعلموا ذلك حتى اجترأوا على مااجترأوا عليه من العظائم أو للتقرير والتنبيه على أن الله سبحانه مؤاخذهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم وإظهار الاسم الجليل لإلقاء الروعة وتربية المهابة أو لتعظيم أمر المؤاخذة والمجازاة وفي إيراد العلم المتعلق بسرهم ونجواهم الحادثين شيئا فشيئا بصيغة الفعل الدال على الحدوث والتجدد والعلم المتعلق بالغيوب الكثيرة بصيغة الاسم الدال على الدوام والمبالغة من الفخامة والجزالة ما لا يخفى الذين يلمزون مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وقيل : أي منهم الذين وقيل : مبتدأ خبره فيسخرون والفاء لما في الموصول من شبه الشرط أو سخر الله منهم أو منصوب بفعل محذوف أعني أعني أو أذم أو مجرور على البدلية من ضمير سرهم على أنه للمنافقين مطلقا وقريء بضم الميم وهو لغة كما علمت أي يعيبون المطوعين أي المتطوعين والمراد بهم من يعطي تطوعا من المؤمنين حال من الضمير وقوله سبحانه : في الصدقات متعلق بيلمزون ولا يجوز كما قال أبو البقاء تعلقه بالمطوعين للفصل أخرج البغوي في معجمه وأبو الشيخ عن الحسن قالقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقاما للناس فقال : يا أيها الناس تصدقوا يا أيها الناس تصدقوا أشهد لكم بها يوم القيامة ألا لعل أحدكم أن يبيت فصاله رواء وابن له طاو إلى جنبه ألا لعل أحدكم أن يثمر ماله وجاره مسكين لا يقدر على شيء ألا رجل منح ناقة من إبله يغدو برفد ويروح برفد يغدو بصبوح أهل بيته ويروح بغبوقهم ألا إن اجرها لعظيم فقام رجل فقال : يا رسول الله عندي أبعرة عندي أربعة ذود فقام آخر قصير القامة قبيح الشبه يقود ناقة له حسناء جملاء فقال له رجل من المنافقين كلمة خفية لا يرى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمعها ناقته خير منه فسمعها عليه الصلاة و السلام فقال : كذبت هو خير منك ومنها ثم قام عبدالرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله عندي ثمانية آلاف تركت منها أربعة لعيالي وجئت بأربعة أقدمها إلى الله تعالى فتكاثر المنافقون ما جاء به ثم قام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : يا رسول الله عندي سبعون وسقا من تمر فتكاثر المنافقون ما جاء به وقالوا : جاء هذا بأربعة آلاف وجاء هذا بسبعين وسقا للرياء والسمعة فهلا أخفياها فهلا فرقاها ثم قام رجل من الأنصار اسمه الحبحاب يكنى أبا عقيل فقال : يا رسول الله مالي من مال غير إني آجرت نفسي البارحة من بني فلان أجر الجرير في عنقي على صاعين من تمر فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى فلمزه المنافقون وقالوا : جاء أهل الإبل بالإبل وجاء أهل الفضة بالفضة وجاء هذا بتميرات يحملها فأنزل الله تعالى الآية ولم يبين الآلاف التي ذكرها عبدالرحمن في هذه الرواية وكانت على ما أخرجه ابن المنذر عن
(10/146)

مجاهد دنانير وفي رواية أنها دراهم وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن عبدالرحمن جاء بأربعمائة أوقية من ذهب وهي نصف ما كان عنده وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : اللهم بارك له فيما أعطى وبارك له فيما أمسك وجاء في رواية الطبراني أن الله بارك له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم وفي الكشاف وعزاه الطيبي للإستيعاب أن زوجته تماضر صولحت عن ربع الثمن على ثمانين ألفا فعلى الأول يكون له زوجتان وعلى الثاني يكون له أربع زوجات ويختلف مجموع المالين على الروايتين إختلافا كثيرا وفي رواية ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان أحد المطوعين وأنه جاء بمال كثير يحمله فقال له رجل من المنافقين : أترائي يا عمر فقال : نعم أرائي الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فأما غيرهما فلا وقوله سبحانه : والذين لا يجدون إلا جهدهم عطف على المطوعين وهو من عطف الخاص على العام وقيل : عطف على المؤمنين وتعقبه الأجهوري بأن فيه إيهام أن المعطوف ليس من المؤمنين
وقال أبو البقاء : هو عطف على الذين يلمزون وأراه خطأ صرفا والجهد بالضم الطاقة أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا طاقتهم وما تبلغه قوتهم وهم الفقراء كأبي عقيل واسمه ما مر آنفا وعن ابن إسحق أن اسمه سهل ابن رافع وعن مجاهد أنه فسر الموصول برفاعة بن سعد ولعل الجمع حينئذ للتعظيم ويحتمل أن يكون على ظاهره والمذكور سبب النزول وقرأ ابن هرمز جهدهم بالفتح وهو إحدى لغتين في الجهد فمعنى المضموم والمفتوح واحد وقيل : المفتوح بمعنى المشقة والمضموم بمعنى الطاقة قاله القتبي وقيل : المضموم شيء قليل يعاش به والمفتوح العمل وقوله تعالى : فيسخرون منهم عطف على يلمزون أو خبر على ما علمت أي يستهزئون بهم والمراد بهم على ما قيل الفريق الأخير سخر الله منهم أي جازاهم على سخريتهم فالجملة خبرية والتعبير بذلك للمشاكلة وليست إنشائية للدعاء عليهم لأن يصيروا ضحكة لأن قوله تعالى جده : ولهم عذاب أليم
8
- جملة خبرية معطوفة عليها فلو كانت دعاء لزم عطف الاخبارية على الإنشائية وفي ذلك كلام وإنما اختلفتا فعلية واسمية لأن السخرية في الدنيا وهي متجددة والعذاب في الآخرة وهو دائم ثابت والتنوين في العذاب للتهويل والتفخيم استغفر لهم أو لا تستغفر لهم الظاهر أن المراد به وبمثله التخيير ويؤيد ارادته هنا فهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما ستعلم إن شاء الله تعالى ذلك منه فكأنه قال سبحانه له عليه الصلاة و السلام : إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت فلا وكلام النسفي تنسفه صحة الأخبار نسفا واختار غير واحد أن المراد التسوية بين الأمرين كما في قوله تعالى : أنفقوا طوعا أو كرها والبيت المار
أسيئي بنا أو أحسني
الخ والمقصود الاخبار بعدم الفائدة في ذلك وفيه من المبالغة ما فيه وقال بعض المحققين بعد اختياره للتسوية في مثل ذلك : إنها لا تنافي التخيير فإن ثبت فهو بطريق الإقتضاء لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما فلابد من أحدهما ويختلف الحال فتارة يكون الإثبات كما في قوله تعالى : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وأخرى النفي كما هنا وفي قوله سبحانه : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم بيان لعدم المغفرة وإن استغفر لهم حسبما أريد إثر التخيير أو بيان لإستحالة المغفرة بعد المبالغة في الإستغفار إثر بيان الإستواء بين الإستغفار وعدمه
(10/147)

وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله سبحانه : سخر الله منهم الخ سأله عليه الصلاة و السلام اللامزون الاستغفار لهم فهم أن يفعل فنزلت فلم يفعل وقيل : نزلت بعد أن فعل واختار الإمام عدمه وقال : إنه لا يجوز الإستغفار للكافر فكيف يصدر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ورد بأنه يجوز لأحيائهم بمعنى طلب سبب الغفران والقول بأن الإستغفار للمصر لا ينفع لا ينفع لأنه لاقطع بعدم نفعه إلا أن يوحى إليه عليه الصلاة و السلام بأنه لا يؤمن كأبي لهب والقول بأن الإستغفار للمنافق اغراء له على النفاق لا نفاق له أصلا وإلا لامتنع الإستغفار لعصاة المؤمنين ولا قائل به وقال بعضهم : إنه على تقدير وقوع الإستغفار منه عليه الصلاة و السلام والقول بتقديم النهي المفاد بقوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين لا إشكال فيه إذ النهي ليس للتحريم بل لبيان عدم الفائدة وهو كلام واه لأن قصارى ما تدل عليه الآية المنع من الإستغفار للكفار وهو لا يقتضي المنع عن الإستغفار لمن ظاهر حاله الإسلام والقول بأنه حيث لم يستجب يكون نقصا في منصب النبوة ممنوع لأنه عليه الصلاة و السلام قد لا يجاب دعاؤه لحكمة كما لم يجب دعاء بعض إخوانه الأنبياء عليهم السلام ولا يعد ذلك نقصا كما لا يخفى ومناسبة الآية لما قبلها على هذه الرواية في غاية الوضوح إلا أنه قيل : إن الصحيح المعول عليه في ذلك أن عبدالله وكان اسمه الحباب وكان من المخلصين ابن عبدالله بن أبي سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل فنزلت فقال عليه الصلاة و السلام : لأزيدن على السبعين فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم الخ وفيه رد على الإمام أيضا في اختياره عدم الإستغفار وكذا في إنكاره كون مفهوم العدد حجة كما نقله عنه الأسنوي في التمهيد مخالفا في ذلك الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه قائل بحجتيه كما نقله الغزالي عنه في المنخول وشيخه إمام الحرمين في البرهان وصرح بأن ذلك قول الجمهور
وفي المطلب لابن الرفعة أن مفهوم العدد هو العمدة عندنا في عدم تنقيص الحجارة في الإستنجاء على الثلاثة والزيادة على ثلاثة أيام في الخيار وما نقل عن النووي من أن مفهوم العدد باطل عند الأصوليين محمول على أن المراد باطل عند جمع من الأصوليين كما يدل عليه كلامه في شرح مسلم في باب الجنائز وإلا فهو عجيب منه
وكلام العلامة البيضاوي مضطرب ففي المنهاج التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد والناقص أي إنه نص في مدلوله لا يحتمل الزيادة والنقصان وفي التفسير عند هذه الآية بعد سوق خبر سبب النزول أنه عليه الصلاة و السلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجاز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له عليه الصلاة و السلام أن المراد به التكثير لا التحديد وذكر في تفسير سورة البقرة عند قوله سبحانه : فسواهن سبع سموات أنه ليس في الآية نفي الزائد وإرادة التكثير من السبعين شائع في كلامهم وكذا ارادته من السبعة والسبعمائة وعلل في شرح المصابيح ذلك بأن السبعة مشتملة على جملة أقسام العدد فإنه ينقسم إلى فرد وزوج وكل منهما إلى أول ومركب فالفرد الأول ثلاثة والمركب من خمسة والزوج الأول اثنان والمركب أربعة وينقسم أيضا إلى منطق كالأربعة وأصم كالستة والسبعة تشتمل على جميع هذه الأقسام ثم إن أريد المبالغة جعلت آحادها أعشارا وأعشارها مئات وأريد بالفرد الأول الذي لا يكون مسبوقا بفرد آخر عددي كالثلاثة إذ الواحد ليس بعدد بناء على أنه ما ساوى نصف مجموع حاشيتيه الصحيحتين وبالفرد المركب الذي يكون مسبوقا بفرد آخر فإن الخمسة مسبوقة بثلاثة وأريد بالزوج الأول الغير مسبوق بزوج آخر كالأثنين وبالمركب
(10/148)

ما يكون مسبوقا به كالأربعة المسبوقة بالأثنين وقد يقسم العدد ابتداء إلى أول ومركب ويراد بالأول ما لا يعده إلا الواحد كالثلاثة والخمسة والسبعة وبالمركب ما يعده غير الواحد كالأربعة فإنه يعدها الإثنان والتسعة فإنه يعدها الثلاثة وللمنطق اطلاقان فيطلق ويراد به ما له كسر صحيح من الكسور التسعة والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كأحد عشر ويطلق ويراد به المجذور وهو ما يكون حاصلا من ضرب عدد في نفسه كالأربعة الحاصلة من ضرب الأثنين في نفسها والتسعة الحاصلة من ضرب الثلاثة في نفسها والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كالأثنين والثلاثة وهذا مراد شارح المصابيح حيث مثل الأصم بالستة مع أن لها كسرا صحيحا بل كسران النصف والسدس لكنها ليست حاصلة من ضرب عدد في نفسه ومعنى إشتمال السبعة على هذه الأقسام أنه إذا جمع الفرد الأول مع الزوج المركب أو الفرد المركب مع الزوج الأول كان سبعة وكذا إذا جمع المنطق كالأربعة مع الأصم كالثلاثة كان الحاصل سبعة وهذه الخاصة لا توجد في العدد قبل السبعة فمن ظن أن الأنسب بالإعتبار بحسب هذا الإشتمال هو الستة لا السبعة لأنها المشتملة على ما ذكر فهو لم يحصل معنى الإشتمال أو لم يعرف هذه الإصطلاحات لكونها من وظيفة علم الأرتماطيقي
ومما ذكرنا من معنى الإشتمال يندفع أيضا ما يتوهم من أن التحقيق أن كل عدد مركب من الوحدات لا من الأعداد التي تحته إذ ليس المراد من الإشتمال التركيب على أن في هذا التحقيق مقالا مذكورا في محله
وقال ابن عيسى الربعي : إن السبعة أكمل الأعداد لأن الستة أول عدد تام وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ ليس بعد التمام إلا الكمال ولذا سمي الأسد سبعا لكمال قوته وفسر العدد التام بما يساوي مجموع كسوره وكون الستة كذلك ظاهر فإن كسورها سدس وهو واحد وثلث وهو اثنان ونصف وهو ثلاثة ومجموعها ستة لكن استبعد عدم فهم من هو أفصح الناس وأعرفهم باللسان صلى الله تعالى عليه وسلم إرادة التكثير من السبعين هنا ولذا قال البعض : إنه عليه الصلاة و السلام لم يخف عليه ذلك لكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رأفته ورحمته لمن بعث إليه كقول إبراهيم عليه السلام : ومن عصاني فإنك غفور رحيم يعني أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير فجوز الإجابة بالزيادة قصدا إلى إظهار الرأفة والرحمة كما جعل إبراهيم عليه السلام جزاء من عصاني أي لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام قوله : فإنك غفور رحيم دون إنك شديد العقاب مثلا فخيل أنه سبحانه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم وحثا على الإتباع وتعقب بأن ذكره للتمويه والتخييل بعد ما فهم عليه الصلاة و السلام منه التكثير لا يليق بمقامه الرفيع وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي الفصاحة والمعرفة باللسان فإنه لا خطأ فيه ولا بعد إذ هو الأصل ورجحه عنده عليه الصلاة و السلام شغفه بهدايتهم ورأفته بهم واستعطاف من عداهم ولعل هذا أولى من القول بالتمويه بلا تمويه وأنكر إمام الحرمين صحة ما يدل على أنه عليه الصلاة و السلام فهم على أن حكم ما زاد على السبعين بخلافه وهو غريب منه فقد جاء ذلك من رواية البخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي كفى بهم وقول الطبرسي : إن خبر لأزيدن الخ خبر واحد لا يعول عليه لا يعول عليه وتمسك في ذلك بما هو كحبل الشمس وهو عند القائلين بالمفهوم كجبال القمر وأجاب المنكرون له بمنع فهم ذلك لأن ذكر السبعين للمبالغة وما زاد عليه مثله في الحكم وهو مبادرة عدم المغفرة فكيف يفهم منه المخالفة ولعله علم صلى الله تعالى عليه وسلم أنه غير مراد ههنا بخصوصه سلمناه لكن لا نسلم فهمه منه ولعله
(10/149)

باق على أصله في الجواز إذ لو لم يتعرض له بنفي ولا إثبات والأصل جواز الإستغفار للرسول عليه الصلاة و السلام وكونه مظنة الإجابة ففهم من حيث أنه الأصل لا من التخصيص بالذكر وحاصل الأول منع فهمه منه مطلقا بل إنما فهم من الخارج وحاصل الثاني تسليم فهمه منه في الجملة لكن لا بطريق المفهوم بل من جهة الأصل
وأنت تعلم أن ظاهر الخبر مع القائلين بالمفهوم غاية الأمر أن الله سبحانه أعلم نبيه عليه الصلاة و السلام بآية المنافقين أن المراد بالعدد هنا التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا لكن في دعوى نزول آية المنافقين بعد هذه الآية إشكال أما على القول بأن براءة آخر ما نزل فظاهر وأما على القول بأن أكثرها أو صدرها كذلك وحينئذ لا مانع من تأخر نزول بعض الآيات منها عن نزول بعض من غيرها فلأن صدر ما في سورة المنافقين يقتضي أنها نزلت في غير قصة هذه التي سلفت آنفا وظاهر الأخبار كما ستعلم إن شاء الله تعالى يقتضي أنها نزلت في ابن أبي ولم يكن مريضا وما تقدم في سبب نزول ما هنا نص في أنه نزل وهو مريض والقول بأن تلك تزلت مرتين يحتاج إلى النقل ولا يكتفي في مثله بالرأي وأتي به على أنه يشكل حينئذ قوله عليه الصلاة و السلام لأزيدن على السبعين مع تقدم نزول المبين للمراد منه والقول بالغفلة لا أراه إلا ناشئا من الغفلة عن قوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى بل الجهل بمقامه الرفيع عليه الصلاة و السلام ومزيد إعتنائه بكلام ربه سبحانه ولم أر من تعرض لدفع هذا الإشكال ولا سبيل إلى دفعه إلا بمنع نزول ما في سورة المنافقين في قصة أخرى ومنع دلالة الصدر على ذلك نعم ذكروا أن الصدر نزل في ابن أبي ولم يكن مريضا إذ ذاك ولم نقف على نص في أن العجز نزل فيه كذلك والظاهر نزوله بعد قوله سبحانه : ولا تصل على أحد منهم الخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد ذلك عند تفسير الآية فافهم ذلك أي إمتناع المغفرة لهم ولو بعد ذلك الإستغفار بأنهم أي بسبب أنهم كفروا بالله ورسوله يعني ليس الإمتناع لعدم الإعتداد باستغفارك بل بسبب عدم قابليتهم لأنهم كفروا كفرا متجاوزا للحد كما يشير إليه وصفهم بالفسق في قوله سبحانه : والله لا يهدي القوم الفاسقين
8
- فإن الفسق في كل شيء عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده والمراد بالهداية الدلالة الموصلة لا الدلالة على ما يوصل لأنها واقعة لكن لم يقبلوها لسوء إختيارهم والجملة تذييل مؤكد لما قبله من الحكم فإن مغفرة الكفار بالإقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق والمنهمك فيه المطبوع عليه بمعزل من ذلك وفيه تنبيه على عذر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الإستغفار لهم وهو عدم يأسه من إيمانهم حيث لم يعلم إذ ذاك أنهم مطبوعون على الغي لا ينجع فيهم العلاج ولا يفيدهم الإرشاد والممنوع هو الإستغفار بعد العلم بموتهم كفارا كما يشهد له قوله سبحانه : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ولعل نزول قوله سبحانه : بأنهم الخ متراخ عن نزول قوله سبحانه : استغفر لهم الخ كما قيل وإلا لم يكن له صلى الله تعالى عليه وسلم عذر في الإستغفار بعد النزول
والقول بأن هذا العذر إنما يصح لو كان الإستغفار للحي كما مر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه نظر فرح المخلفون أي الذين خلفهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأذن لهم في التخلف أو خلفهم الله تعالى بتثبيطه إياهم
(10/150)

لحكمة علمها أو خلفهم الشيطان بإغرائه أو خلفهم الكسل والنفاق بمقعدهم متعلق بفرح وهو مصدر ميمي بمعنى القعود وقيل : اسم مكان والمراد منه المدينة والأكثرون على الأول أي فرحوا بقعودهم عن الغزو خلاف رسول الله أي خلفه عليه الصلاة و السلام وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا فهو نصب على الظرفية بمعنى بعد وخلف وقد استعملته العرب في ذلك والعامل فيه كما قال أبو البقاء مقعد وجوز أن يكون فرح وقيل : هو بمعنى المخالفة فيكون مصدر خالف كالقتال وحينئذ يصح أن يكون حالا بمعنى مخالفين لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأن يكون مفعولا له والعامل إما فرح أي فرحوا لأجل مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم بالقعود وإما مقعدهم أي فرحوا بقعودهم لأجل المخالفة وجعل المخالفة علة باعتبار أن قصدهم ذلك لنفاقهم ولا حاجة إلى أن يقال قصدهم الإستراحة ولكن لما آل أمرهم إلى ذلك جعل علة كما قالوا في لام العاقبة وجوز أن يكون نصبا على المصدر بفعل دل عليه الكلام
وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله إيثارا للراحة والتنعم بالمآكل والمشارب مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاق وبين الفرح والكراهة مقابلة معنوية لأن الفرح بما يحب
وإيثار ما في النظم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إيذان بأن الجهاد في سبيل الله تعالى مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوا كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الكلام تعريض بالمؤمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه إبتغاء لرضا الله تعالى ورسوله وقالوا أي لإخوانهم تثبيتا لهم على القعود وتواصيا بينهم بالفساد أو للمؤمنين تثبيطا لهم على الجهاد ونهيا عن المعروف وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به والقائل رجال من المنافقين كما روي عن جابر بن عبدالله وهو الذي يقتضيه الظاهر
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرضي أن القائل رجل من بني سلمة ووجه ضمير الجمع على هذا يعلم بما مر غير مرة لا تنفروا لا تخرجوا إلى الغزو في الحر فإنه لا يستطاع شدته قل يا محمد ردا عليهم وتجهيلا لهم نار جهنم التي هي مصيركم بما فعلتم أشد حرا من هذا الحر الذي ترونه مانعا من النفير فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود والمخالفة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام لو كانوا يفقهون
18
- تذييل من جهته تعالى غير داخل على القول المأمور به مؤكد لمضمونه وجواب لو مقدر وكذا مفعول يفقهون أي لو كانوا يعلمون أنها كذلك أو أحوالها وأهوالها أو أن مرجعهم إليها لما آثروا راحة زمن قليل على عذاب الأبد وأجهل الناس من صان نفسه عن أمر يسير يوقعه في ورطة عظيمة وأنشد الزمخشري لابن أخت خالته
مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أريها شبه الصاب فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب 1
(10/151)

وقدر بعضهم الجواب لتأثروا بهذا الإلزام وهو خلاف الظاهر وجوز أن تكون لو لمجرد التمني المنبيء عن إمتناع تحقق مدخولها وينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم فلا جواب ولا مفعول ويؤول المعنى إلى أنهم ما كانوا من أهل الفطانة والفقه ويكون الكلام نظير قوله تعالى : قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون وهو خلاف الظاهر أيضا
فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا اخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الأخرى وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر فاستعمل في لازم معناه أو لأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر كذا قرره الشهاب ثم قال : فإن قلت : الوجوب لا يقتضي الوجود وقد قالوا : إنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة لإقتضائه تحقق المأمور به فالخبر آكد وقد مر مثله فما باله عكس قلت : لا منافاة بينهما كما قيل لأن لكل مقام مقالا والنكت لا تتزاحم فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك وتحقق قبل الأمر كان أبلغ وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه كأنه مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى وقيل : الأمر هنا تكويني كما في قوله تعالى : إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ولا يخفى ما فيه
والفاء لسببية ما سبق للإخبار بما ذكر من الضحك والبكاء لا لنفسهما إذ لا يتصور في الأول أصلا وجعل ذلك سببا لإجتماع الأمرين بعيد ونصب قليلا و كثيرا على المصدرية أو الظرفية أي ضحكا أو زمانا قليلا وبكاء أو زمانا كثيرا والمقصود بإفادته في الأول على ما قيل هو وصف القلة فقط وفي الثاني هو وصف الكثرة مع الموصوف فيروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم
وجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء كناية عن الغم والأول في الدنيا والثاني في الأخرى أيضا والقلة على ما يتبادر منها ولا حاجة إلى حملها على العدم كما حملت الكثرة على الدوام نعم إذا أعتبر كل من الأمرين في الآخرة إحتجنا إلى ذلك إذ لا سرور فيها لهم أصلا ويفهم من كلام ابن عطية أن البكاء والضحك في الدنيا كما في حديث الشيخين وغيرهما لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا أي أنهم بلغوا في سوء الحال والخطر مع الله تعالى إلى حيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرا
جزاء بما كانوا يكسبون
38
- أي من فنون المعاصي والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الإستمرار التجددي و جزاء مفعول له للفعل الثاني ولك أن تجعله مفعولا له للفعلين أو مصدر من المبني للمفعول حذف ناصبه أي يجزون مما ذكر من البكاء الكثير أو منه ومن الضحك القليل جزاء بما إستمروا عليه من المعاصي فإن رجعك الله أي من سفرك والفاء لتفريع الأمر الآتي على ما بين من أمرهم و رجع هنا متعد بمعنى رد ومصدره الرجع وقد يكون لازما ومصدره الرجوع وأوثر إستعمال المتعدي وإن كان إستعمال اللازم كثيرا إشارة إلى أن ذلك السفر لما فيه من الخطر يحتاج الرجوع منه لتأييد إلهي ولذا أوثرت كلمة إن على إذا أي فإن ردك الله سبحانه إلى طائفة منهم أي إلى المنافقين من المتخلفين بناء على أن منهم من لم يكن منافقا أو إلى من بقي من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضهم بالموت أو بالغيبة عن البلد أو بأن لم
(10/152)

يستأذنك البعض وقيل : المراد بتلك الطائفة من بقي من المنافقين على نفاقه ولم يتب وليس بذاك
أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : ذكر لنا أنهم كانوا إثني عشر رجلا من المنافقين وفيهم قيل ما قيل
فاستأذنوك للخروج معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتك هذه التي ردك الله منها بتأييده فقل لهم إهانة لهم على أتم وجه لن تخرجوا معي أبدا ما دمت ودمتم ولن تقاتلوا معي عدوا من الأعداء وهو إخبار في معنى النهي للمبالغة
وذكر القتال كما قال بعض المحققين لأنه المقصود من الخروج فلو أقتصر على أحدهما لكفى إسقاطا لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد أو عن ديوان الغزاة وديوان المجاهدين وإظهارا لكراهة صحبتهم وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند أو ذكر الثاني للتأكيد لأنه أصرح في المراد والأول لمطابقته للسؤال ونظير ذلك
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
فإن الثاني أدل على الكراهة إنكم رضيتم بالقعود عن الخروج معي وفرحتم به أول مرة أي من الخروج فنصب أفعل المضاف على المصدرية وقيل : على الظرفية الزمانية واستبعده أبو حيان والظاهر أن هذا الإختلاف للإختلاف في مرة ونقل عن أبي البقاء أنها في الأصل مصدر مر يمر ثم إستعملت ظرفا واختار القاضي ألبيضاوي بيض الله غرة أحواله النصب على المصدرية وأشار إلى تأنيث الموصوف حيث قال : وأول مرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك وذكر أفعل لأن التذكيير هو الأكثر في مثل ذلك وفي الكشاف أن مرة نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل وذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات لأن أكثر اللغتين هند أكبر النساء وهي أكبرهن وهي كبرى مرأة لا تكاد تعثر عليه ولكن هي أكبر إمرأة وأول مرة وآخر مرة وعلل في الكشف عدم العثور على نحو هي كبرى إمرأة بأن أفعل فيه مضاف إلى غير المفضل عليه بل إلى العدد المتلبس هو به بيانا له فكأنه قيل : هي إمرأة أكبر من كل واحدة واحدة من النساء وفي مثله لا يختلف أفعل التفضيل فالتحقيق أنه لا يشبه ما فيه اللام وإنما المطابقة بين موصوفه وما أضيف إليه ولا مدخل لطباقه في اللفظ والمعنى فتدبر والجملة في موضع التعليل لما سلف فهي مستأنفة إستئنافا بيانيا أي لأنكم رضيتم فاقعدوا مع الخالفين
48
- أي المتخلفين لعدم لياقتهم كالنساء والصبيان والرجال العجزين وجمع المذكر للتغليب واقتصر ابن عباس على الأخير وتفسير الخالف بالمتخلف هو المأثور عن أكثر المفسرين السلف وقيل : أنه من خلف بمعنى فسد ومنه خلوف فم الصائم لتغيير رائحته والظرف متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا من ضمير الجمع والفاء لتفريع الأمر بالقعود بطريقة العقوبة على ما صدر منهم من الرضا بالقعود أي إذا رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا من بعد
وقرأ عكرمة الخلفين بوزن حذرين ولعله صفة مشبهة مثله وقيل : هو مقصور من الخالفين إذ لم يثبت إستعماله كذلك على أنه صفة مشبهة ولا تصل على أحد منهم مات أبدا إشارة إلى إهانتهم بعد الموت
أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : لما توفي عبدالله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبدالله بن عبدالله إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه
(10/153)

فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنما خيرني الله فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيده على السبعين قال : إنه منافق قال فصلى عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله سبحانه : ولا تصل على أحد منهم الآية وفي رواية أخرى له عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه لما مات عبدالله بن أبي ابن سلول دعي له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام وثبت إليه فقلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : أخر عني يا عمر : فلما أكثرت عليه قال : أخر عني لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها قال فصلى عليه عليه الصلاة و السلام ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة ولا تصل على أحد منهم إلى قوله : وهم فاسقون فعجبت من جراءتي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وظاهر هذين الخبرين أنه لم ينزل بين استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وقوله تعالى : ولا تصل على أحد منهم شيء ينفع عمر رضي الله تعالى عنه وإلا لذكر والظاهر أن مراده بالنهي في الخبر الأول ما فهمه من الآية الأولى لا ما يفهم كما قيل من قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين لعدم مطابقة الجواب حينئذ كما لا يخفى وأخرج أبو يعلى وغيره عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يصلي على ابن أبي فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال : ولا تصل الآية وأكثر الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى عليه وأن عمر رضي الله تعالى عنه أحب عدم الصلاة عليه وعد ذلك أحد موافقاته للوحي وإنما لم ينه صلى الله تعالى عليه وسلم عن التكفين بقميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه الذي ألبسه العباس رضي الله تعالى عنه حين أسر ببدر فإنه جيء به رضي الله تعالى عنه ولا ثوب عليه وكان طويلا جسيما فلم يكن ثوب بقدر قامته غير ثوب ابن أبي فكساه إياه وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنهم ذكروا القميص بعد نزول الآية فقال عليه الصلاة و السلام : وما يغني عنه قميصي والله إني لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج وقد حقق الله تعالى رجاء نبيه كما في بعض الآثار والاخبار فيما كان منه عليه الصلاة و السلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها ولا تخلو عن التعارض وقد جمع بينهما حسبما أمكن علماء الحديث وفي لباب التأويل نبذة من ذلك فليراجع
والمراد من الصلاة المنهي عنها صلاة الميت المعروفة وهي متضمنة للدعاء والإستغفار والإستشفاع له قيل : والمنع عنها لمنعه عليه الصلاة و السلام من الدعاء للمنافقين المفهوم من الآية السابقة أو من قوله سبحانه : ما كان للنبي الخ وقيل : هي هنا بمعنى الدعاء وليس بذاك و أبدا ظرف متعلق بالنهي وقيل : متعلق بمات والموت الأبدي كناية عن الموت على الكفر لأن المسلم يبعث ويحيا حياة طيبة والكافر وإن بعث لكنه للتعذيب فكأنه لم يحيى وزعم بعضهم أنه لو تعلق بالنهي لزم أن لا تجوز الصلاة على من تاب منهم ومات على الإيمان مع أنه لا حاجة للنهي عن الصلاة عليهم إلى قيد التأييد ولا يخفى أنه أخطأ ولم يشعر بأن منهم حال من الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفا بصفتهم وهي النفاق كقولهم : أنت مني يعني على طريقتي وصفتي كما صرحوا به على أنه لو جعل الجار والمجرور صفة لأحد لا يكاد يتوهم ما ذكر وكيف يتوهم مع قوله تعالى الآتي إنهم كفروا الخ وقوله : مع أنه لا حاجة إلى النهي الخ لظهور ما فيه لا حاجة إلى ذكره و مات ماض باعتبار
(10/154)

سبب النزول وزمان النهي ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت وقيل : إنه بمعنى المستقبل وعبر به لتحققه والجملة في موضع الصفة لأحد ولا تقم على قبره أي لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم : قام فلان بأمر فلان إذا كفاه إياه وناب عنه فيه ويفهم من كلام بعضهم أن على بمعنى عند والمراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيادة والقبر في المشهور مدفن الميت ويكون بمعنى الدفن وجوزوا ارادته هنا أيضا
وفي فتاوي الجلال السيوطي هل يفسر القيام هنا بزيارة القبور وهل يستدل بذلك على أن الحكمة في زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم قبر أمه أنه لإحيائها لتؤمن به بدليل أن تاريخ الزيارة كان بعد النهي الجواب المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة ويحتمل أن يعم الزيارة أيضا أخذا من الإطلاق وتاريخ الزيارة كان قبل النهي لا بعده فإن الذي صح في الأحاديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم زارها عام الحديبية والآية نازلة بعد غزوة تبوك ثم الضمير في منهم خاص بالمنافقين وإن كان بقية المشركين يلحقون بهم قياسا وقد صح في حديث الزيارة أنه أستأذن ربه في ذلك فأذن له وهذا الأذن عندي يستدل به على أنها من الموحدين لا من المشركين كما هو اختياري ووجه الإستدلال به أنه نهاه عن القيام على قبور الكفار وأذن له في القيام على قبر أمه فدل على أنها ليست منهم وإلا لما كان يأذن له فيه واحتمال التخصيص خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل صريح ولعله عليه الصلاة و السلام كان عنده وقفة في صحة توحيد من كان في الجاهلية حتى أوحي إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بصحة ذلك فلا يرد أن إستئذانه يدل على خلاف ذلك وإلا لزارها من غير إستئذان أه وفي كون المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة خفاء إذ المتبادر من القيام على القبر ما هو أعم من ذلك نعم كان الوقوف بعد الدفن قدر نحو جزور مندوبا ولعله لشيوع ذلك إذ ذاك أخذ في مفهوم القيام على القبر ما أخذ
وفي جواز زيارة قبور الكفار خلاف وكثير من القائلين بعدم الجواز حمل القيام على ما يعم الزيارة ومن أجاز استدل بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة فإنه عليه الصلاة و السلام علل الزيارة بتذكير الآخرة ولا فرق في ذلك بين زيارة قبور المسلمين وقبور غيرهم وتمام البحث في موضعه والإحتياط عندي عدم زيارة قبور الكفار إنهم كفروا بالله ورسوله جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهي على معنى أن الصلاة على الميت والإحتفال به إنما يكون لحرمته وهم بمعزل عن ذلك لأنهم استمروا على الكفر بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مدة حياتهم وماتوا وهم فاسقون
48
- أي متمردون في الكفر خارجون عن حدوده
ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون
58
- تأكيد لما تقدم من نظيره والأمر حقيق بذلك لعموم البلوى بمحبة ما ذكر والإعجاب به وقال الفارسي : إن ما تقدم في قوم وهذا في آخرين فلا تأكيد وجيء بالواو هنا لمناسبة عطف نهي على نهي قبله أعني قوله سبحانه : ولا تصل الخ وبالفاء هناك لمناسبة التعقيب لقوله تعالى : قيل ولا ينفقون إلا وهم كارهون فإن حاصله لا ينفقون إلا وهم كارهون للإنفاق فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد فنهى عن الإعجاب المتعقب له
(10/155)

وقيل : هنا وأولادهم دون لا لأنه نهى عن الإعجاب بهما مجتمعين وهناك بزيادة لا لأنه نهى عن كل واحد واحد فدل مجموع الآيتين على النهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين وهنا أن يعذبهم وهناك ليعذبهم للإشارة إلى أن إرادة شيء لشيء راجعة إلى إرادة ذلك الشيء بناء على أن متعلق الإرادة هناك الإعطاء واللام للتعليل أي إنما يريد إعطاءهم للتعذيب وأما إذا قلنا : إن اللام فيما تقدم زائدة فالتغاير يحتمل أن يكون لأن التأكيد هناك لتقدم ما يصلح سببا للتعذيب بالأموال أوقع منه هنا لعدم تقدم ذلك وجاء هناك في الحياة الدنيا وهنا في الدنيا تنبيها على أن حياتهم كلا حياة فيها ويشير ذلك هنا إلى أنهم بمنزلة الأموات
وبين ابن الخازن سر تغاير النظمين الكريمين بما لا يخفى ما فيه وتقديم الأموال على الأولاد مع أنهم أعز منها لعموم مساس الحاجة إليها دون الأولاد وقيل : لأنها أقدم في الوجود منهم وإذا أنزلت سورة من القرآن والمراد بها على ما قيل : سورة معينة وهي براءة وقيل : المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد وهو أولى وأفيد لأن إستئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مر و إذا تفيد التكرار بقرينة المقام وإن لم تفده بالوضع كما نص عليه بعض المحققين وجوز أن يراد بالسورة بعضها مجازا من باب إطلاق الجزء على الكل ويوهم كلام الكشاف أن إطلاق السورة على بعضها بطريق الإشتراك كاطلاق القرآن على بعضه وليس بذاك والتنوين للتفخيم أي سورة جليلة الشأن أن آمنوا أي بأن آمنوا فأن مصدرية حذف عنها الجار وجوز أن تكون مفسرة لتقدم الإنزال وفيه معنى القول دون حروفه والخطاب للمنافقين والمراد أخلصوا الإيمان بالله وجاهدوا مع رسوله لإعزاز دينه وإعلاء كلمته وأما التعميم أو إرادة المؤمنين بمعنى دوموا على الإيمان بالله الخ كما ذهب إليه الطبرسي وغيره فلا يناسب المقام ويحتاج فيه ارتباط الشرط والجزاء إلى تكلف ما لا حاجة إليه كاعتبار ما هو من حال المؤمنين الخلص في النظم الجليل إستأذنك أي طلب الأذن منك وفيه التفات أولو الطول منهم أي أصحاب الفضل والسعة من المنافقين وهم من له قدرة مالية ويعلم من ذلك البدنية بالقياس وخصوا بالذكر لأنهم الملومون وقالوا ذرنا أي دعنا نكن مع القاعدين
68
- أي الذين لم يجاهدوا لعذر من الرجال والنساء ففيه تغليب والعطف على استأذنك للتفسير مغن عن ذكر ما استأذنوا فيه وهو القعود
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف أي النساء كما روي عن ابن عباس وقتادة وهو جمع خالفة وأطلق على المرأة لتخلفها عن أعمال الرجال كالجهاد وغيره والمراد ذمهم والحاقهم بالنساء في التخلف عن الجهاد ويطلق الخالفة على من لا خير فيه والتاء فيه للنقل للإسمية وحمل بعضهم الآية على ذلك فالمقصود حينئذ من لا فائدة فيه للجهاد وجمعه على فواعل على الأول ظاهر وأما على الثاني فلتأنيث لفظه لأن فاعلا لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور إلا شذوذا وطبع على قلوبهم فهم بسبب ذلك لا يفقهون
78
- ما ينفعهم وما يضرهم في الدارين لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم إستدراك لما فهم من الكلام والمعنى إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فلا ضير لأنه قد نهض على أتم وجه من هو خير منهم فهو على حد قوله تعالى :
(10/156)

فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين وفي الآية تعريض بأن القوم ليسوا من الإيمان بالله تعالى في شيء وإن لم يعرضوا عنه صريحا إعراضهم عن الجهاد باستئذانهم في القعود وأولئك أي المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم بواسطة ذلك الخيرات أي المنافع التي تسكن النفس إليها وترتاح لها وظاهر اللفظ عمومها هنا لمنافع الدارين كالنصر والغنيمة في الدنيا والجنة ونعيمها في الآخرة وقيل : المراد بها الحور لقوله تعالى : فيهن خيرات حسان فإنها فيه بمعنى الحور فتحمل عليه هنا أيضا ونص المبرد على أن الخيرات تطلق على الجواري الفاضلات وهي جمع خيرة بسكون الياء مخفف خيرة المشددة تأنيث خير وهو الفاضل من كل شيء المستحسن منها وأولئك هم المفلحون
88
- أي الفائزون بالمطالب دون من حاز بعضا بفنى عما قليل وكرر اسم الإشارة تنويها بشأنهم أعد الله لهم إستئناف لبيان كونهم مفلحين وقيل : يجوز أن يكون بيانا لما لهم من المنافع الآخروية ويخص ما قبل بمنافع الدنيا بقرينة المقابلة والإعداد التهيئة أي هيأ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها حال مقدرة من الضمير في لهم والعامل أعد ذلك إشارة إلى ما فهم من الكلام من نيل الكرامة العظمى الفوز أي الظفر العظيم الذي لا فوز وراءه وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم شروع في بيان أحوال منافقي الأعراب إثر بيان أحوال منافقي أهل المدينة والمعذرون من عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له ويحتمل أن يكون من اعتذر والأصل المعتذون فادغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين ويجوز كسرها لإلتقاء الساكنين وضمها اتباعا للميم لكن لم يقرأ بهما وقرأ يعقوب المعذرون بالتخفيف وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهو من أعذر إذا كان له عذر وعن مسلمة أنه قرأ المعذرون بتشديد العين والذال من تعذر بمعنى إعتذر
وتعقب ذلك أبو حيان فقال : هذه القراءة إما غلط من القاريء أو عليه لأن التاء لا يجوز إدغامها في العين لتضادهما وأما تنزيل التضاد منزلة التناسب فلم يقله أحد من النحاة ولا القراء فالإشتغال بمثله عيب ثم إن هؤلاء الجائين كاذبون على أول إحتمالي القراءة الأولى ويحتمل أن يكونوا كاذبين وأن يكونوا صادقين على الثاني منهما وكذا على القراءة الأخيرة وصادقون على القراءة الثانية
واختلفوا في المراد بهم فعن الضحاك أنهم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله إنا إن غزونا معك أغارت طي على أهالينا ومواشينا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله سبحانه عنكم
وقيل : هم أسد وغطفان إستأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال وأخرج أبو الشيخ عن ابن إسحق أنه قال : ذكر لي أنهم نفر من بني غفار وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أهل العذر ولم يبين من هم ومما ذكرنا يعلم وقوع الإختلاف في أن هؤلاء الجائين هل كانوا صادقين في الإعتذار أم لا وعلى القول بصدقهم يكون المراد بالموصول في قوله سبحانه : وقعد الذين كذبوا الله ورسوله غيرهم وهم أناس من الأعراب أيضا منافقون والأولون لا نفاق فيهم وعلى القول لكذبهم يكون المراد به الأولين والعدول عن الإضمار إلى الإظهار إظهار لذمهم بعنوان الصلة والكذب على الأول بادعاء الإيمان وعلى الثاني بالإعتذار ولعل
(10/157)

القعود مختلف أيضا وقرأ أبي كذبوا بالتشديد سيصيب الذين كفروا منهم أي من الأعراب مطلقا وهم منافقوهم أو من المعتذرين ووجه التبعيض أن منهم من إعتذر لكسله لا لكفره أي سيصيب المعتذرين لكفرهم عذاب أليم
98
- وهو عذاب النار في الآخرة ولا ينافي إستحقاق من تخلف لكسل ذلك عندنا لعدم قولنا بالمفهوم ومن قال به فسر العذاب الإليم بمجموع القتل والنار والأول منتف في المؤمن المتخلف للكسل فينتفي المجموع وقيل : المراد بالموصول المصرون على الكفر
ليس على الضعفاء كالشيوخ ومن فيه نحافة خلقية لا يقوى على الخروج معها وهو جمع ضعيف ويقال : ضعوف وضعفان وجاء في الجمع ضعاف وضعفة وضعفي وضعافي ولا على المرضى جمع مريض ويجمع على مراض ومراضى وهو من عراه سقم وإضطراب طبيعة سواء كان مما يزول بسرعة ككثير من الأمراض أو لا كالزمانة وعدوا منه ما لا يزول كالعمى والعرج الخلقيين فالأعمى والأعرج داخلان في المرضى وإن أبيت فلا يبعد دخولهما في الضعفاء ويدل لدخول الأعمى في أحد المتعاطفين ما أخرجه ابن أبي حاتم والدارقطني في الإفراد عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت براءة فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاءه أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى فنزلت ليس على الضعفاء ولا على المرضى
ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون أي الفقراء العاجزين عن أهبة السفر والجهاد قيل هم مزينة وجهينة وبنو عذرة حرج أي ذنب في التخلف وأصله الضيق وقد تقدم الكلام فيه إذا نصحوا لله ورسوله بالإيمان والطاعة ظاهرا وباطنا كما يفعل الموالي الناصح فالنصح مستعار لذلك وقد يراد بنصحهم المذكور بذل جهدهم لنفع الإسلام والمسلمين بأن يتعهدوا أمورهم وأهلهم وإيصال خبرهم إليهم ولا يكونوا كالمنافقين الذين يشيعون الأراجيف إذا تخلفوا وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال : نصحته ونصحت له وفي النهاية النصيحة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة يجمعه غيرها والعامل في الظرف على ما قال أبو البقاء معنى الكلام أي لا يخرجون حينئذ
ما على المحسنين من سبيل أي ما عليهم سبيل فالإحسان النصح لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ووضع الظاهر موضع ضميرهم إعتناء بشأنهم ووصفا لهم بهذا العنوان الجليل وزيدت من للتأكيد والجملة إستئناف مقرر لمضمون ما سبق على أبلغ وجه وألطف سبك وهو من بليغ الكلام لأن معناه لا سبيل لعاتب عليهم أي لا يمر بهم العاتب ولا يجوز في أرضهم فما أبعد العتاب عنهم وهو جار مجرى المثل ويحتمل أن يكون تعليلا لنفي الحرج عنهم و المحسنين على عمومه أي ليس عليهم حرج لأنه ما على جنس المحسنين سبيل وهم من جملتهم قال ابن الفرس : ويستدل بالآية على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها والله غفور رحيم
9
- تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر وفيه إشارة إلى كل أحد عاجز محتاج للمغفرة والرحمة إذ الإنسان لا يخلو من تفريط ما فلا يقال : إنه نفي عنهم الإثم أو لا فما الإحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب فإن أريد ما تقدم من ذنوبهم دخلوا بذلك الإعتبار في المسيء ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم عطف على المحسنين كما يؤذن به
(10/158)

قوله تعالى الآتي إن شاء الله تعالى إنما السبيل الخ وهو من عطف الخاص على العام إعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم لتميزهم جنس آخر وقيل : عطف على الضعفاء وهم كما قال ابن إسحق وغيره البكاءون وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير وعلية بن زيد أخو بني حارث وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبدالله بن معقل المزني وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف وعرباض بن سارية الفزاري أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاستحملوه وكانوا أهل حاجة فقال لهم عليه الصلاة و السلام ما قصه الله تعالى بقوله سبحانه : قلت لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون كما أخبر سبحانه والظاهر أنه لم يخرج منهم أحد للغزو مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لكن قال ابن إسحق : بلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى وابن معقل وهم يبكيان فقال : ما يبكيكما قالا : جئنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلا وزودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي بعض الروايات أن الباقين أعينوا على الخروج فخرجوا وعن مجاهد أنهم بنو مقرن : معقل وسويد والنعمان وقيل : هم أبو موسى الأشعري أصحابه من أهل اليمن وقيل وقيل : وظاهر الآية يقتضي أنهم طلبوا ما يركبون من الدواب وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج ابن المنذر عن علي بن صالح قال : حدثني مشيخة من جهينة قالوا : أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحملان فقالوا : ما سألناه إلا الحملان على النعال ومثل هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم بن أدهم عمن حدثه إنه قال : ما سألوه الدواب ما سألوه إلا النعال وجاء في بعض الروايات أنهم قالوا : احملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال ومن مال إلى الظاهر المؤيد بما روي عن الحبر قال : تجوز بالخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة عن ذي الخف والحافر فكأنهم قالوا : احملنا على ما يتيسر أو المراد احملنا ولو على نعالنا وأخفافنا مبالغة في القناعة ومحبة للذهاب معه عليه الصلاة و السلام
وأنت تعلم أن ظاهر الخبرين السابقين يبعد ذلك على أنه في نفسه خلاف الظاهر نعم الأخبار المخالفة لظاهر الآية لا يخفى ما فيها على من له إطلاع على مصطلح الحديث ومغايرة هذا الصنف بناء على ما يقتضيه الظاهر من أنهم واجدون لما عدا المركب للذين لا يجدون ما ينفقون إذا كان المراد بهم الفقراء الفاقدين للزاد والمركب وغيره ظاهرة وبينهما عموم وخصوص إذا أريد بمن لا يجد النفقة من عدم شيئا لا يطيق السفر لفقده وإلى الأول ذهب الإمام واختاره كثير من المحققين واختلف في جواب إذا فاختار بعض المحققين أنه قلت الخ فيكون قوله سبحانه : تولوا الخ مستأنفا إستئنافا بيانيا وقيل : هو الجواب و قلت مستأنف أو على حذف حرف العطف أي وقلت أو فقلت وهو معطوف على أتوك أو في موضع الحال من الكاف في أتوك وقد مضمرة كما في جاءوكم حصرت صدورهم وزمان الإتيان يعتبر واسعا كيومه وشهره فيكون مع التولي في زمان واحد ويكفي تسببه له وإن اختلف زمانهما كما ذكره الرضي في قولك : إذا جئتني اليوم أكرمتك غدا أي كان مجيئك سببا لإكرامك غدا وفي إيثار لا أجد علي ليس عندي من تلطيف الكلام وتطييب قلوب السائلين ما لا يخفى
(10/159)

كأنه عليه الصلاة و السلام يطلب ما يسألونه على الإستمرار فلا يجده وذلك هو اللائق بمن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله سبحانه : وأعينهم تفيض من الدمع في موضع الحال من ضمير تولوا والفيض انصباب عن إمتلاء وهو هنا مجاز عن الإمتلاء بعلاقة السببية والدمع الماء المخصوص ويجوز إبقاء الفيض على حقيقته ويكون إسناده إلى العين مجازا كجري النهر والدمع مصدر دمعت العين دمعا و من للأجل والسبب وقيل : إنها للبيان وهي مع المجرور في محل نصب على التمييز وهو محول عن الفاعل وتعقبه أبو حيان بأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن وأيضا لا يجيز تعريف التمييز إلا الكوفيون وأجيب عن الأول بأنه منقوض بنحو قوله : عز من قائل وعن الثاني بأنه كفى إجازة الكوفيين وذكر القطب أن أصل الكلام أعينهم يفيض دمعها ثم أعينهم تفيض دمعا وهو أبلغ لإسناد الفعل لغير الفاعل وجعله تمييزا سلوكا لطريق التبيين بعد الإبهام ولأن العين جعلت كأنها دمع فائض ثم أعينهم تفيض من الدمع أبلغ مما قبله بواسطة من التجريدية فإنه جعل أعينهم فائضة ثم جرد الأعين الفائضة من الدمع باعتبار الفيض وتعقب بأن من هنا للبيان لما قد أبهم مما قد يبين بمجرد التمييز لأن بمعنى تفيض العين يفيض شيء من أشياء العين كما أن معنى قولك : طاب زيد طاب شيء من أشياء زيد والتمييز رفع إبهام ذلك الشيء فكذا من الدمع فهو في محل نصب على التمييز وحديث التجريد لا ينبغي أن يصدر ممن له معرفة بأساليب الكلام وقد مر بعض الكلام في المائدة على هذه الجملة فتذكر
وقوله تعالى : حزنا نصب على العلية والحزن يستند إلى العين كالفيض فلا يقال : كيف ذاك وفاعل الفيض مغاير لفاعل الحزن ومع مغايرة الفاعل لا نصب وقيل : جاز ذلك نظرا إلى المعنى إذ حاصله تولوا وهم يبكون حزنا وجوز نصبه على الحال من ضمير تفيض أي حزينة وعلى المصدرية لفعل دال عليه ما قبله أي لا تحزن حزنا والجملة حال أيضا من الضمير المشار إليه وقد يكون تعلق ذلك على إحتمالات بتولوا أي تولوا للحزن أو حزنين أو يحزنون حزنا ألا يجدوا على حذف اللام وحذف الجار في مثل ذلك مطرد وهو متعلق بحزنا كيفما كان وقيل : لا يجوز تعلقه به إذا كان نصبا على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل ولعل من قال بالأول يمنع ذلك ويقول : يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره وجوز تعلقه بتفيض وقيل : وهذا إذا لم يكن حزنا علة له وإلا فلا يجوز لأنه لا يكون لفعل واحد مفعولان لأجله والإبدال خلاف الظاهر أي لئلا يجدوا ما ينفقون في شراء ما يحتاجون إليه في الخروج معك إذا لم يجدوه عندك وهذا بحسب الظاهر يؤيد كون هذا الصنف مندرجا تحت قوله سبحانه : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون 11
(10/160)

بسم الله الرحمن الرحيم إنما السبيل أي بالمعاتبة والمعاقبة على الذين يستأذنونك في التخلف وهم أغنياء واجدون للأهبة قادرون على الخروج معك رضوا إستئناف بياني كأنه قيل : لم إستأذنوا أو لم إستحقوا فأجيب بأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف تقدم معناه وطبع الله على قلوبهم خذلهم فغفلوا عن سوء العاقبة فهم بسببب ذلك لا يعلمون 93 أبدا وخامة ما رضوا به وما يستتبعه عاجلاكما لم يعلموا نجاسة شأنه آجلا يعتذرون إليكم بيانلما يتصدون له عند الرجوع إليهم والخطاب قيل للنبي والجمع للتعظيم والأولى أن يكون له عليه الصلاة و السلام ولأصحابه لأنهم كانوا يعتذرون للجميع أي يعتذرون إليكم في التخلف إذا رجعتم من الغزو منتهين إليهم وإنما لم يقل سبحانه إلى المدينة إيذانا بأن مدار الإعتذرار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة فلعل منهم من بادر إلى الإعتذرار قبل الرجوع إليها فالخطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم وخص بذلك لما أن الجواب وظيفته عليه الصلاة و السلام لا تعتذروا أي لا تفعلوا الإعتذرار أو لاتعتذروا بما عندكم من المعاذير لن نؤمن لكم إستئناف لبيان موجب النهي وقوله :
(11/2)

قد نبأنا الله من أخباركم
إستئناف لبيان موجب النفي كأنه قيل : لم نهيتمونا عن الإعتذار فقيل : لأنا لم نصدقكم في عذركم فيكون عبثا فقيل : لم لن تصدقونا فقيل : لأن الله تعالى قد أنبأنا بالوحي بما في ضمائركم من الشر والفساد و نبأ عند جمع متعدية إلى مفعولين الأول الضمير والثاني من أخباركم أما لأنه صفة المفعول الثاني والتقدير جملة من أخباركم أو لأنه بمعنى أخباركم وليست من زائدة على مذهب الأخفش من زيادتها في الإيجاب
وقال بعضهم إنها متعدية لثلاثة ومن أخباركم ساد مسد مفعولين لأنه بمعنى إنكم كذا وكذا أو المفعول الثالث محذوف أي واقعا مثلا وتعقب بأن السد المذكور بعيد وحذف المفعول الثالث إذا ذكر المفعول الثاني في هذا الباب خطأ أو ضعيف ومعنى نبأنا على الأول عرفنا كما قيل وعلى الثاني أعلمنا وقيل : معناه خبرنا و من بمعنى عن وليس بشيء وجمع ضمير المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم أطماع المنافقين المعتذرين رأسا ببيان إعتذارهم عند أحد من المؤمنين أصلا فإن تصديق البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسول عليه الصلاة و السلام أيضا وللإيذان بإفتضاحهم بين المؤمنين كافة وتعدية نؤمن باللام مر بيانها وسيرى الله عملكم أي سيعلمه سبحانه علما يتعلق به الجزاء فالرؤية علمية والمفعول الثاني محذوف أي أتنيبون عما أنتم فيه من النفاق أم تثبتون عليه وكأنه لمكان السين المفيدة للتنفيس إستتابة
(11/0)

وإمهال للتوبة وتقديم مفعول الرؤية على الفاعل من قوله سبحانه :
(11/3)

ورسوله
للإيذان بإختلاف حال الرؤيتين وتفاوتهما وللإشعار بأن مدار الوعيد هو علمه عز و جل بأعمالهم ثم تردون يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال ووضع الوصف موضع الضمير لتشديد الوعيد فإن علمه سبحانه بجميع أعمالهم الظاهرة والباطنة وإحاطته بأحوالهم البارزة والكامنة مما يوجب الزجر العظيم وتقديم الغيب على الشهادة قيل : لتحقيق أن نسبة علمه تعالى المحيط إلى سائر الأشياء السر والعلنواحدة على أبلغ وجه وآكده كيف لا وعلمه تعالى بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأمورالبارزة والكامنة إنتهى
ولا يخفى عليك أن هذا قول يكون علمه سبحانه بالأشياء حضوريا لا حصوليا وقد إعترضوا عليه بشمول علمه جل وعلا الممتعات والمعدومات الممكنةوالعلم الحضوري يختص بالموجودات العينية لأنه حضور المعلوم بصورته العينية عند العالم فكيف لا يختلف الحال فيه بين الأمور البارزة والكامنة تشمل المعدومات الممكنة والممتنعة ولا يتصور فيها التحقق في نفسها حتى يكون علما له تعالى كذا قيل وفيه نظر وتحقيق علم الواجب سبحانه بالأشياء من المباحث المشكلة والمسائل المعضلة التي كمتحيرت فيها أفهام وزلت من العلماء الأعلام أقدام ولعل النوبة إن شاءالله تعالى تفضي إلى تحقيق ذلك فينبئكم عند ردكم إليه سبحانه ووقوفكم بين يديه بما كنتم تعملون 94 أي بما تعملونه على الإستمرار في الدنيا من الأعمال السيئة السابقة واللاحقة على أن ما موصولة أو بعملكم المستمر على أن ما مصدرية والمراد من التنبئة بذلك المجازاة عليه وإيثارها عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى : قد نبأنا الله إلخ وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم وإنما يعملونها يومئذ سيحلفون بالله لكم تأكيدا لمعاذيرهم الكاذبة وترويجا لها والسين للتأكيد على مامر والمحلوف عليه ما يفهم من الكلام وهو ما إعتذر به من الأكاذيب والجملة بدل من يعتذرون أو بيان له إذا انقلبتم من سفركم إليهم والإنقلاب هوالرجوع والإنصراف مع زيادة معنى الوصول والإستيلاء وفائدة تقييد حلفهم كما قال بعض المحققين به الإيذن بأنه ليس لرفع ما خاطبهم النبي صلى الله عليه و سلم به من قوله تعالى : لا تعتذروا إلخ بل هو أمر مبتدأ لتعرضوا عنهم فلا تعاتبوهم وتصفحوا عما فرط منهم صفح رضا كما يفصح عنه قول تعالى : لترضوا عنهم فأعرضوا عنهم لكن لا إعراض رضا كما طلبوابل إعراض إجتناب ومقت كما ينبيء عنه التعليل بقوله سبحانه : إنهم رجس فإنه صريح في أن المراد بالإعراض إما الإجتناب عنهم لما يفهم من القذارة الروحانية وإما ترك إستصلاحهم بترك المعاملة المقصود منها التطهير بالحمل على التوبة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير وقيل : إن لتعرضوا بتقدير للحذر عن أن تعرضوا على أن الإعراض فيه اعراض مقت أيضا ولا يخفى أنه تكلف لا يحتاج إليه وقوله تعالى : ومأوهم جهنم إما من تمام التعليل فإن كونهم من أهل النار من دواعي الإجتناب عنهم وموجبات ترك
(11/0)

إستصلاحهم باللوم والعتاب وإما تعليل مستقل أي وكفتهم النار عتاباعلى حد عتابه السيف ووعظه الصفع فلا تتكلفوا أنتم بذلك جزاء نصب على أنه مفعول مطلق مؤكد لفعل مقدر من لفظه وقع حالا أي يجزون جزاء أو لمضمون ما قبله فإنه مفيد لمعنى المجازاة كأنه قيل : مجزيون جزاء بما كانوا يكسبون 95 أي بما يكسبونه على سبيل الإستمرار من فنون السيآت في الدنيا أو بكسبهم المستمر لذلك
وجوز أن يكون مفعولا له وحالا من الخبر عند من يرى ذلك
يحلفونلكم بدل مما سبق والمحلوف عليه محذوف لظهوره كما تقدم أي يحلفون به تعالى على ما إعتذروا لترضوا عنهم بحلفهم وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم فإن ترضوا عنهم حسبما طلبوا فإن الله لا يرضى عن القوم الفسقين 96 أي فرضا لا ينتج لهم نفعا لأن الله تعالى ساخط عليهم ولا أثر لرضا أحد مع سخطه تعالى وجوز بعضهم كون الرضا كناية عن التلبيس أي ان أمكنهم أن يلبسوا عليكم بالأيمان الكاذبة حتى يرضوكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله تعالى بذلك حتى يرضى عنهم فلاتهتك أستارهم ولا يهينهم وهو خلاف الظاهر ووضع الفاسقين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجبة لما حل بهم والمراد من الآية نهي المخاطبين عن الرضا عنهم والإغترار بمعاذيرهم الكاذبة علىأبلغ وجه وآكده فإن الرضا عمن لا يرضى عنه الله تعالى مما لا يكاد يصدر عن المؤمن والآية نزلت على ماروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في جد بن قيس ومعتب ابن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا أمر النبي صلى الله عليه و سلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة أن لا يجالسوهم ولا يكلموهم فامتثلوا وعن مقاتل أنها نزلت في عبدالله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه و سلم أن لايتخلف عنه أبدا وطلب أن يرضى فلم يفعل صلى الله عليه و سلم
الأعراب هي صيغة جمع وليست بجمع للعرب على ماروي عن سيبويه لئلا يلزم كون الجمع أخص من الواحد فإن العرب هذا الجيل المعروف مطلقاوالأعراب سكان البادية منهم ولذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل أعرابي وقيل : العرب سكان المدن والقرى والأعراب سكان البادية من هذا الجيل أو مواليهم فهما متباينان ويفرق بين الجمع والواحد بالياء فيهما فيقال للواحد عربي وأعرابي وللجماعة عرب وأعراب وكذا أعاريب وذلك كما يقال الواحد : مجوسي ويهودي ثم تحذف الياء في الجمع فيقال المجوس واليهود أي أصحاب البدو أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر الكفار والمنافقين لتوحشهم وقساوة قلوبهم وعدم مخالطتهم أهل الحكمة وحرمانهم إستماع الكتاب والسنة وهم أشبه شيء بالبهائم وفيالحديث عن الحسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من سكن البادية جفا ومن إتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان إفتتن وجاء ثلاثة من الكبائر وعد منها التعرب بعد الهجرة وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا وكان من رجع بعدالهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد وكان ذلك لغلبة الشرفي أهل البادية والطبع سراق أو للبعد عن مجالس العلم وأهل الخيروإنه ليفضي إلى شر كثير والحكم على الأعراب بما ذكر من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده كما في قوله تعالى : وكان الإنسان كفورا إذ ليس كلهم كما ذكر ويدل عليه قوله تعالى الآتي : ومن الأعراب من يؤمن إلخ وكان ابن سيرين كما أخرج أبو الشيخ عنه يقول : إذا تلاأحدكم هذه الآية فليقل الآية الأخرى
(11/4)

يعني بها ما أشرنا إليه والآية المذكورة كما روي عن الكلبي نزلت في أسد وغطفان والعبرة بعموم اللفظ لا لخصوص السبب
وأجدر أي أحق وأخلق وهو على ما قال الطبرسي مأخوذ من جدر الحائط بسكون الدال وهو أصله وأساسه ويتعدى بالباء فقوله تعالى : ألا يعلموا بتقدير بأن لايعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله
وهي كما أخرج أبو الشيخ عن الضحاك الفرائض وما أمروا به من الجهاد وأدرج بعضهم السنن في الحدود والمشهور أنها تخص الفرائض أو الأوامر والنواهي لقوله تعالى : تلك حدود الله فلا تعتدوها و تلك حدود الله فلا تقربوها ولعل ذلك من باب التغليب ولا بعد فيه فإن الأعراب أجدر أن لايعلموا كل ذلك لبعدهم عمن يقتبس منه وقيل : المراد منها بقرينة المقام وعيده تعالى على مخالفة الرسول صلى الله عليه و سلم في الجهاد وقيل : مقادير التكاليف والله عليم يعلم أحوال كل من أهل الوبر والمدر حكيم 97 بما سيصيب به مسيئهم ومحسنهم من العقاب والثواب
ومن الأعراب أي من جنسهم الذي نعت بنعت بعض أفراده وقيل : من الفريق المذكور من يتخذ أي يعد ما ينفق أي يصرفه في سبيل الله تعالى ويتصدق به كما يقتضيه المقام مغرما أي غرامة وخسرانا من الغرام بمعنى الهلاك وقيل : من الغرم وهو نزول نائبة من غير جناية وأصله من الملازمة ومنه قيل لكل من المتداينين غريم وإنما أعدوه كذلك لأنهم لا ينفقونه إحتسابا ورجاء لثواب الله تعالى ليكون لهم مغنما وإنما ينفقونه تقية ورئاء الناس فيكون غرامة محضة وما في صيغة الإتخاذ من معنى الإختيار والإنتفاع بما يتخذ إنما هو بإعتبار غرض المنفق من الرياء والتقية لا بإعتبار ذات النفقة أعنيكونها غرامة ويتربص بكم الدوائر أي ينتظر بكم نوب الدهر ومصائبه التي تحيط بالمرء لينقلب بها أمركم ويتبدل بها حالكم فيتخلص مما أبتلي به عليهم دائرة السوء دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به وهوإعتراض بين كلامين كما في قوله تعالى : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا إلخ وجوز أن تكون الجملة إخبارا عنوقوع ما يتربصون به عليهم والدائرة إسم للنائبة وهي في الأصل مصدر كالعافية والكاذبة أو إسم فاعل من دار يدور وقد تقدم تمام الكلام عليها و السوء في الأصل مصدر أيضا ثم أطلق على كل ضرر وشر وقد كان وصفا للدائرة ثم أضيفت إليه فالإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفتهكما في قولك : رجل صدق وفيه من المبالغة ما فيه وعلى ذلك قوله تعالى : ماكان أبوك أمرأ سوء وقيل : معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فالإضافة للبيان والتأكيد كما قالوا : شمس النهار ولحيا رأسه وقرأابن كثير وأبو عمرو السوء هنا وفي ثانية الفتح بالضم وهو حينئذ إسم بمعنى العذاب وليس بمصدر كالمفتوح وبذلك فرق الفراء بينهما : وقال أبو البقاء : السوء بالضم الضرر وهو مصدر في الحقيقة يقال : سؤته سوءا ومساءة ومسائية وبالفتح الفساد والرداءة وكأنه يقول بمصدرية كل منهما في الحقيقة كما فهمه الشهاب من كلامه وقال مكي : المفتوح معناه الفساد والمضموم معناه الهزيمة والضرر وظاهره كما قيل أنهما إسمان والله سميع بمقالاتهم الشنيعة عند الإنفاق عليم 98 بنياتهم الفاسدة التي من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر وفيهمن شدة الوعيد
(11/5)

مالا يخفى ومن الأعراب أي من جنسهم على الإطلاق من يؤمن باللهواليوم الآخر على الوجه المأمور به ويتخذ على وجه الإصطفاء والإختيار ماينفق في سبيل الله تعالى قربات جمع قربة بمعنى التقرب وهو مفعول ثان ليتخذ والمراد إتخاذ ذلك سببا للتقرب على التجوز في النسبة أو التقدير وقد تطلق القربة على ما يتقرب بهوالأول إختيار الجمهور والجمع بإعتبار الأنواع والأفراد وقوله سبحانه : عند الله صفة قربات أو ظرف ليتخذ
وجوز أبو البقاء كونه ظرفا فالقربات على معنى مقربات عند الله تعالى وقوله تعالى : وصلوت الرسول عطف على قربات أي وسببا لدعائه عليهالصلاة والسلام فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ولذلك يسن للمتصدق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه فقد قالوا : لايصلى على غير الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إلا بالتبع لأن في الصلاة من التعظيم ماليس في غيرها من الدعوات وهي لزيادة الرحمة والقرب من الله تعالى فلا تليق بمن يتصور منه الخطايا والذنوب ولاقت عليه تبعا لما في ذلك من تعظيم المتبوع وإختلف هل هي مكروهةتحريما أو تنزيها أو خلاف الأولى صحح النووي في الأذكار الثاني لكنفي خطبة شرح الأشباه للبيري من صلى على غيرهم أثم وكره وهو الصحيح وما رواه الستة غير الترمذي من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهم صل على ل أبي أوفى لا يقوم حجة على المانع لأن ذلك كما في المستصفى حقه عليه الصلاة و السلام فله أن يتفضل به على من يشاء إبتداءا وليس الغير كذلك وأما السلام فنقل اللقاني في شرح جوهرة التوحيد عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يقال : علي عليهالسلام بل يقال : رضي الله تعالى عنه وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر فيقال : : السلام أو سلام عليك وعليكم وهذا مجمع عليه إنتهى أقول : ولعل من الحاضر السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين و سلام عليكم دار قوم مؤمنين وإلا فهو مشكل والظاهر أن العلة في منع السلام ما قاله النووي في علة منع الصلاة من أن ذلك شعار أهل البدع وأنه مخصوص في لسان السلف بالأنبياء والملائكة عليهم السلام كما أن قولنا : عز و جل مخصوص بالله سبحانه فلا يقال محمد عز و جل وإن كان عزيزا جليلا صلى الله عليه و سلم ثم قال اللقاني : وقال القاضي عياض : الذي ذهب إليه المحققون وأميل إليه ماقاله مالك وسفيان وإختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلى الله عليه و سلم وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالصلاة والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى : رضي الله عنهم ورضوا عنه يقولون ربنا إغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وأيضا أن ذلك في غير من ذكر لم يكن في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبيه بأهل البدع منهي عنه فتجب مخالفتهم إنتهى ولا يخفى أن مذهب الحنابلة جواز ذلك في غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام إستقلالا عملا بظاهر الحديث السابق وكراهةالتشبيه بأهل البدع مقررة عندنا أيضا لكن لا مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم كما ذكره الحصكفي في الدر المختار فإفهم ثم التعرض لوصف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر في هذا الفريق معأن مساق الكلام
(11/6)

لبيان الفرق بين الفريقين في بيان شأن إتخاذ ما ينفقانه حالا ومالاوأن ذكر إتخاذه سببا للقربات والصلوات مغن عن التصريح بذلك لكمال العناية بإيمانهم وبيان إتصافهم به وزيادة الإعتناء بتحقق الفرق من أول الأمر وأما الفريق الأول فإتصافهم بالكفر والنفاق معلوم من سياقالنظم الكريم صريحا
وجوز عطف وصلوات على ما ينفق وعليه إقتصر أبو البقاء أي يتخذ ما ينفق وصلوات الرسول عليه الصلاة و السلام قربات ألا إنها قربة لهم شهادة لهم من جناب الله تعالى بصحة ما إعتقدوهوتصديق لرجائهم والضمير إما للنفقة المعلومة مما تقدم أو لما التي هي بمعناها فهو راجع لذلك بإعتبار المعنى فلذا أنث أو لمراعاة الخبر وجوز ابن الخازن رجوعه للصلوات والأكثرون على الأول وتنوين قربة للتفخيم المغني عن الجمع أي قربة لا يكتنه كنهها وفي إيراد الجملة إسمية بحرفي التنبيه والتحقيق من الجزالة مالا يخفى
والإقتصار على بيان كونها قربة لهم لأنها الغاية القصوى وصلوات الرسول عليه الصلاة و السلام من ذرائعها وقرىء قربة بضم الراء لإتباع سيدخلهم الله في رحمته وعد لهم بإحاطة رحمته سبحانه بهم كما يشعر بذلك في الدالة على الظرفية وهو في مقابلة الوعيد للفرقة السابقة المشار إليه بقوله تعالى : والله سميع عليم وفيه تفسير للقربة أيضا والسين للتحقيق والتأكيد لما تقدم أنها في الإثبات في مقابلة لن في النفي وقوله سبحانه : إن الله غفور رحيم 99 تقرير لما تقدم كالدليل عليه والآية كما أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وغيرهم عن مجاهد نزلت في بني مقرن من مزينة وقال الكلبي : فيأسلم وغفار وجهينة وقيل : نزلت التي قبلها في أسد وغطفان وبني تميم وهذه في عبدالله ذي البجادين بن نهم المزني رضي الله تعالى عنه
والسابقون الأولون من المهاجرين بيان لفضائل أشراف المسلمين إثربيان طائفة منهم والمراد بهم كما روي عن سعيد وقتادة وابن سيرين وجماعة الذين صلوا إلى القبلتين وقال عطاء بن رباح : همأهل بدر وقال الشعبي : هم أهل بيعة الرضوان وكانت بالحديبية وقيل : هم الذين أسلموا قبل الهجرة والأنصار أهل بيعة العقبة الأولى وكانت في سنة إحدى عشرة من البعثة وكانوا على ما في بعض الرويات سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية وكانت في سنة إثنتي عشرة وكانوا سبعين رجلا وإمرأتين والذين أسلموا حين جاءهم من قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وكان قد أرسله عليه الصلاة و السلام مع أهل العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين والذين اتبعوهم بإحسان أي متلبسين به والمراد كل خصلةحسنة وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين على أن من تبعيضة أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة فالمراد بالسابقين جميع المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم ومعنى كونهم سابقين أنهم أولون بالنسبة إلى سائر الملسمون وكثير من الناس ذهب إلى هذا روي عن حميد بن زياد أنه قال : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما كان بينهم من الفتن فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم فقلت له : في أي موضع أوجب لهم الجنة فقال : سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى : والسابقون الأولون الآية فتعلم أنه تعالى أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا قلت : وما ذلك الشرط قال : شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو يقال : هو أنيتبعوهم
(11/7)

بإحسان في القول وأن لا يقولوا فيهم سوءا وأن لا يوجهوا الطعن فيماأقدموا عليه قال حميد بن زياد : فكأني ما قرأت هذه الآية قط وعلى هذا تكون الآية متضمنة من فضل الصحابة رضي الله عنهم مالم تتضمنه علىالتقدير الأول
وإعترض القطب على التفاسير السابقة للسابقين من المهاجرين بأن الصلاة إلى القبلتين وشهود بدر وبيعة الرضوان مشتركةبين المهاجرين والأنصار وأجيب بأن مراد من فسر تعيين سبقهم لصحبتهم ومهاجرتهم له صلى الله تعالى عليه وسلم على من عداهم من ذلك القبيل وإختار الإمام أن المراد بالسابقين من المهاجرين السابقون في الهجرة ومن السابقين من الأنصار السابقون في النصرة وإدعى أن ذلك هوالصحيح عنده وإستدل عليه بأنه سبحانه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيما ذا فبقي اللفظ مجملا إلا أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا علم أن المراد من السبق السبق في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ وأيضا كل واحدة من الهجرة والنصرة لكونه فعلا شاقا على النفس طاعة عظيمة فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقويا لقلب الرسول صلى الله عليه و سلم وسببا لزوال الوحشة عن خاطره الشريف عليه الصلاة و السلام فلذلك أثنى الله تعالى على كل من كان سابقا إليهما وأثبت لهم ما أثبت وكيف لا وهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين بإسلامهم وقوي قلبه صلى الله عليه و سلم بسبب دخولهم في الإسلام وإقتداء غيرهم بهم فكان حالهم في ذلك كحال من سن سنة حسنة وفي الخبر من سن سنةحسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ولا يخفى أنه حسن
ويجوز عندي أن يراد بالسابقين الذين سبقوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وإتخاذ ما ينفقون قربات والقرينة على ذلك ظاهرة وأياما كان فالسابقون مبتدأ خبره قوله تعالى : رضي الله عنهم
أي بقبول طاعتهم وإرتضاء أعمالهم ورضوا عنه بما نالوه من النعم الجليلة الشأن وجوز أبو البقاء أن يكون الخبر الأولون أو من المهاجرين وأن يكون السابقون معطوفا على من يؤمن أي ومنهم السابقون وما ذكرناه أظهر الوجوه وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنهقرأ والأنصار بالرفع على أنه معطوف على السابقون
وأخرج أبو عبيدة وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يقرأ بإسقاط الواو من والذين اتبععوهم فيكون الموصول صفة الأنصار حتى قال له زيد : إنه بالواو فقال : إئتوني بأبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال : هي بالواو فتابعه وأخرج أبو الشيخ عن أبي أسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي قالا : مر عمربن الخطاب برجل يقرأ والذين بالواو فقال : من قرأك هذه فقال : أبي فأخذ به إليه فقال : يا أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هكذا قال أبي : صدق وقد تلقنتها كذلك من في رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عمر : أنت تلقنتها كذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : نعم فأعاد عليه فقال فيالثالثة وهو غضبان : نعم والله لقد أنزلها الله على جبريل عليه السلام وأنزلها جبريل على قلب محمد صلى الله عليه و سلم ولم يستأمر فيه الخطاب ولا ابنه فخرج عمر رافعا يديه وهو يقول الله أكبر الله أكبر
وفي رواية أخرجهاابو الشيخ أيضا عن محمد بن كعب أن أبيا رضي الله تعالى عنه قال لعمر رضي الله تعالى عنه : تصديق هذه الآية في أول الجمعة وآخرين منهم وفي أوسط الحشر والذين جاءوا من بعدهم وفيآخر الأنفال والذين آمنوا من بعد إلخ ومراده رضي الله تعالى عنه أن هذه الآيات تدل على أن التابعين غير الأنصار
(11/8)

وفيها أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا وأراد إختصاص السبق بالمهاجرين وظاهر تقديم المهاجرين على الأنصار مشعر بأنهم أفضل منهم وهو الذي يدل عليه قصة السقيفة وقد جاء في فضل الأنصار مالا يحصى من الأخبار ومن ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار
وأخرج الطبراني عن السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قسم الفيء الذي أفاء الله تعالى بحنين في أهل مكة من قريش وغيرهم فغضب الأنصار فأتاهم فقال : يا معشر الأنصار قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناسا أتألفهم على الإسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله تعالى قلوبهم الإسلام ثم قال : يا معشر الإسلام ألم يمن الله تعالى عليكم بالإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماءأنصار الله تعالى وأنصار رسوله عليه الصلاة و السلام ولولا الهجرة لكنت أمرءا من الأنصار ولو سلك الناس واديا وسلكتم واديا لسلكت واديكم أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم البعير والشاء وتذهبون برسول الله فقالوا : رضينا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أجيبوني فيما قلت قالوا : يارسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور وجدتنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك وجدتنا ضلالا فهدانا الله تعالى بك فرضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه و سلم نبيا فقال عليه الصلاة و السلام : لو أجبتموني بغير هذا القول لقلت : صدقتم لو قلتم ألم تأتنا طريدا فآويناك ومكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وقبلنا مارد الناس عليك لصدقتم قالوا : بل الله تعالى ولرسوله المن والفضل علينا وعلى غيرنا فانظر كيف قال لهم رسول الله ص
وكيف أجابوه رضى الله تعالى عنهم وأعد لهم جنت تجري من تحتها الأنهار أي هيأ لهم ذلك في الآخرة وقرأ ابن كثير من تحتها وأكثر ما جاء
في القرآن موافق لهذه القراءة خلدين فيها أبدا من غير أنتهاء ذلك الفوز العظيم 100 أي الذي لا فوز وراءه وما في ذلك من معنى البعد قيل لبيان منزلتهم في الفضل وعظم الدرجة من مؤمني الأعراب ولا يخفى أن هذا لا يكاد يصح إلا بتكلف ما إذا أريد من الذين إتبعوهم صنف آخر غير الصحابة لأن الظاهر أن مؤمني الأعراب صحابة ولا يفضل غير صحابي صحابيا كما يدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا مابلغ مد أحدهم ولا نصفيه وقوله صلى الله عليه و سلم : أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره من باب المبالغة
وممن حولكم من الأعراب شروع في بيان منافقي أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيان حال أهل البادية منهم أي وممن حول بلدكم منافقون والمراد بالموصول كما أخرج ابن المنذر عن عكرمة : جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار وكانت منازلهم حول المدينة وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين كالبغوي والواحدي وابن الجوزي وغيرهم واستشكل ذلك بأن النبي صلى الله عليه و سلم مدح هذه القبائل ودعا لبعضها فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال : قريش والأنصار وجهينة ومزينة واشجع وأسلم وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره وجاء عنه أيضا أنه صلى الله عليه و سلم قال :
(11/9)

أسلم سالمها الله تعالى وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها لكن قالها الله تعالى وأجيب بأن ذلك بإعتبار الأغلب منهم ومن أهل المدينة عطف على ممن حولكم فيكون كالمعطوف عليه خبرا عن المنافقون كأنه قيل : المنافقون من قوم حولكم ومن أهل المدينة وهو من عطف مفرد على مفرد ويكون قوله سبحانه : مردوا على النفاق جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان غلوهم في النفاق إثر بيان إتصافهم به أو صفة لمنافقون وإستبعده أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة وموصوفها وجوز أن يكون من أهل المدينة خبر مقدم والمبتدأ بعده محذوف قامت صفته مقامه والتقدير ومن أهل المدينة قوم مردوا وحذف الموصوف وإقامة صفته مقامه إذا كان بعض إسم مجرور بمن مجرور أوفى مقدم عليه مقيس شائع نحو منا أقام ومنا ظعن وفي غير ذلك ضرورة أو نادر ومنه قول سحيم : أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني على أحد التأويلات فيه وأصل المرود على ماذكره علي بن عيسى الملاسة ومنه صرح ممرد والأمرد الذي لا شعر على وجهه والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئا وقال ابن عرفة : أصله الظهور ومنه قولهم : شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وأظهرت عيدانها وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرودة ومرادة فهو مارد ومريد ومتمرد أقدم وعتا أو هو أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف وفسروه بالإعتياد والتدرب في الأمر حتى يصير ماهرا فيه وهو قريب مما ذكره في القاموس من بلوغ الغاية ولا يكاد يستعمل إلا في الشر
وهو على الوجهين الأولين شامل للفريقين حسب شمول النفاق وعلى الوجه الأخير خاص بمنافقي أهل المدينة وإستظهر ذلك وقيل : إنه الأنسب بذكر منافقي أهل البادية أولا ثم ذكر منافقي الأعراب المجاورين ثم ذكر منافقي أهل المدينة ويبقى على هذا أنه لم يبين مرتبة المجاورين في النفاق بخلافه على تقدير شموله للفرقين ثم لا يخفى أن التمرد على النفاق إذا إقتضى الأشدية فيه أشكل عليه تفسيرهم المفضل في قوله سبحانه : الأعراب أشد كفرا ونفاقا بأهل الحضر ولعل المراد تفضيل المجموع أو يلتزم عدم الإقتضاء
وقوله تعالى : لا تعلمهم بيان لتمردهم أي لا تعرفهم أنت بعنوان نفاقهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوق في مراعاةالتقية والتحامي عن مواقع التهم إلى حيث يخفى عليك مع كمال فطنتك وصدق فراستك حالهم وفي تعليق نفي العلم بهم مع أنه متعلق بحالهم مبالغة في ذلك وإيماء إلى أن ماهم عليه من صفة النفاق لعراقتهم ورسوخهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتهم أو مشخصاتهم بحيث لا يعد من لا يعرفهم بتلك الصفة عالما بهم ولا حاجة في هذا المعنى إلى حمل العلم على المتعدي لمفعولين وتقدير المفعول الثاني أي لاتعلمهم منافقين وقيل : المراد لا تعرفهم بأعيانهم وإن عرفتهم إجمالا وما ذكرناه لما فيه من المبالغة مافيه أولى وحاصله لا تعرف نفاقهم نحن نعلمهم أي نعرفهم بذلك العنوان وإسناد العلم بمعنى المعرفة إليه تعالى مما لا ينبغي أن يتوقف فيه وإن وهم فيه من وهم لا سيما إذا خرج ذلك مخرج المشاكلة وقد فسر العلم هنا بالمعرفة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه عنه أبو الشيخ
نعم لا يمتنع حمله على معناه المتبادر كما لا يمتنع حمله على ذلك فيما تقدم لكنه محوج إلى التقدير وعدم التقدير أولى من التقدير
والجملة تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق أي لايقف على سرائرهم المركوزة فيهم إلا من لا تخفى عليه خافية
(11/10)

لما هم عليه من شدة الإهتمام بابطال الكفر وإظهار الإخلاص وأمر تعليق العلم هنا كأمر تعليق نفيه فيما مر وإستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوي الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها وقد أخرج عبدالرزاق وابن المنذر وغيرهما عن قتادة أنه قال : مابال أقوام يتكلفون على الناس يقولون فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري لعمرى أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبي قال نوح عليه السلام : و ماعلمي بما كانوا يعملون وقال شعيب عليه السلام : وما أنا عليكم بحفيظ وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم : لا تعلمهم نحن نعلمهم وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل في الرد على من يزعم الكشف والإطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب وتجرد النفس عن الشواغل وبعضهم يتساهلون في هذا الباب جدا سنعذبهم ولا بد لتحقيق المقتضى فيهم عادة مرتين أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم جمعة خطيبا فقال قم فلان فإخرج فإنك منافق أخرج يافلان فإنك منافق فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم ولم يك عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فإختبأ منهم إستحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد إنصرفوا و إختبأوا هم منه وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل المسجد فإذا الناس لم ينصرقوا فقال له رجل : أبشر ياعمر فقد فضح الله تعالى المنافقين اليوم فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر وفي رواية ابن مردويه عن ابن مسعود الأنصاري أنه صلى الله عليه و سلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر وثلاثين رجلا
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه فسر العذاب مرتين بالجوع والقتل ولعل المراد به خوفه وتوقعه وقيل : هو فرضي إذا أظهروا النفاق وفي رواية أخرى عنه أنهم عذبوا بالجوع مرتين وعن الحسن أن العذاب الأول أخذ الزكاة والثاني عذاب القبر وعن ابن إسحق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب القبر ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه
وجوز أن يراد بالمرتين التكثير كما في قوله تعالى : فارجع البصر كرتين لقوله سبحانه : أو لايرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم يردون يوم القيامة الكبرى إلى عذاب عظيم 101 هو عذاب النار وتغيير الأسلوب على ماقيل بإسناد عذابهم السابق إلى نون العظمة حسب أسناد ماقبله من العلم وأسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان بإختلافهما حالا وإن الأول خاص بهم وقوعا وزمانا يتولاه الله سبحانه وتعالى والثاني لعامة الكفرة وقوعا وزمانا وإن إختلفت طبقات عذابهم ولا يخفى أنه إذا فسر العذاب العظيم بعذاب الدرك الأسفل من النار لم يكن شاملا لعامة الكفرة نعم هو شامل لعامة المنافقين فقط وقد يقال إن في بناء يردون لما لم يسم فاعله من التعظيم مافيه فيناسب العذاب العظيم فلذا غير السبك إليه والله تعالى أعلم وءاخرون بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في أمر الدين ولم يكونوا منافقين على الصحيح وقيل : هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم قيل : وهو مبتدأ خبره جملة خلطوا وهي حال بتقدير قد والخبر جملة عسى الله إلخ والمحققون على أنه معطوف على منافقون أي ومنهم يعني ممن حولكم أو من أهل المدينة قوم آخرون اعترفوا أي أقروا عن معرفة بذنوبهم التي هي تخلفهم عن الغزو وإيثار الدعة عليه
(11/11)

والرضا بسوء جوار المنافقين ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة المؤكدة بالأيمان الفاجرة وكانوا على ما أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عشرة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله عليه و سلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسوارى المسجد وكان ممر النبي عليه الصلاة و السلام إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال : من هؤلاء الموثقون أنفسهم قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يارسول الله وقد أقسموا أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : وأنا أقسم بالله تعالى لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة و السلام اليهم فأطلقهم وعذرهم
وفي رواية أخرى عنه أنهم كانوا ثلاثة وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد أنهم كانوا ثمانية وروي أنهم كانوا خمسة والروايات متفقة على أن أبا لبابة بن عبدالمنذر منهم خلطوا عملا صالحا خروجا إلى الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وءاخر سيئا تخلفا عنه عليه الصلاة و السلام روي هذا عن الحسن والسدي وعن الكلبي أن الأول التوبة والثاني الإثم وقيل : العمل الصالح يعم جميع البر والطاعة والسيء ماكان ضده والخلط المزيج وهو يستدعي مخلوطا ومخلوطا به والأول هنا هو الأول والثاني هو الثاني عند بعض والواو بمعنى الباء كما نقل عن سيبويه في قولهم : بعت الشاء شاة ودرهما وهو من باب الإستعارة لأن الباء للإلصاق والواو للجمع وهما من واد واحد ونقل شارح الباب عن ابن الحاجب إن أصل المثال بعت الشاء شاة بدرهم أي مع درهم ثم كثر ذلك فأبدلوا من باء المصاحبة واوا فوجب أن يعرب مابعدها بإعراب ماقبلها كما في قولهم : كل رجل وضيعته ولا يخفى مافيه من التكلف وذكر الزمخشري أن كل واحد من المتعاطفين مخلوط ومخلوط به لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر كقولك : خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه وفيه ماليس في قولك : خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به وإذا قلته بالواو وجعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت خلطت الماء باللبن والبن بالماء وحاصله أن المخلوط به في كل واحد من الخلطين هو المخلوط في الآخر لأن الخلط لما إقتضى مخلوطا به فهو أما الآخر أو غيره والثاني منتف بالأصل والقرينة لدلالة سياق الكلام إذا قيل : خلطت هذا وذاك على أن كلا منهما مخلوط ومخلوط به وهو أبلغ من أن يقال خلطت أحدهما بالآخر إذ فيه خلط واحد وفي الواو خلطان
وإعترض بأن خلط أحدهما بالآخر يستلزم خلط الآخر به ففي كل من الواو والباء خلطان فلا فرق وأجيب بأن الواو الخلطين صريحا بخلاف الباء فالفرق متحقق وفيه تسليم حديث الإستلزام ولا يخفى أن فيه خلطا حيث لم يفرق فيه بين الخلط والإختلاط والحق أن إختلاط أحد الشيئين بالآخر مستلزم لإختلاط الآخر به وأما خلط أحدهما بالآخر فلا يستلزم خلط الآخر به لأن خلط الماء باللبن معناه أن يقصد الماءأولا ويجعل مخلوطا باللبن وظاهر أنه لا يستلزم أن يقصد اللبن أولا بل ينافيه فعلى هذا معنى خلط العمل الصالح بالسيء أنهم أتوا أولا بالصالح ثم إستعقبوه سيئا ومعنى خلط السيء بالصالح أنهم أتوا أولا بالسيء ثم أردفوه بالصالح وإلى هذا يشير كلام السكائي حيث جعل تقدير الآية خلطوا عملا صالحا بسيء وآخر سيئا بصالح أي تارة أطاعوا وأحبطوا الطاعة بكبيرة وأخرى عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة وهو ظاهر في أن العمل الصالح
(11/12)

والسيء في أحد الخلطين غيرهما في الخلط الآخر وكلام الزمخشري ظاهر في إتحادهما وفيه مافيه ولذلك رجح ما ذهب إليه السكاكي لكن ماذكره من الإحباط ميل إلى مذهب المعتزلة وإدعى بعضهم أن ما في الآية نوع من البديع يسمى الإحتباك والأصل خلطوا عملا صالحا بآخر سيء وخلطوا شيئا بعمل صالح وهو خلاف الظاهر
وإستظهر ابن المنير كون الخلط مضمنا معنى العمل والعدول عن الباء لذلك كأنه قيل : عملوا صالحا وآخر سيئا وأنا أختار أن الخلط بمعنى الجميع هنا وإذا إعتبر السياق وسبب النزول يكون المراد من العمل الصالح الإعتراف بالذنوب من التخلف عن الغزو ومامعه من السيء تلك الذنوب أنفسها ويكون المقصود بالجمع المتوجه إليه أولا بالضم هو الإعتراف والتعبير عن ذلك بالخلط للأشارة إلى وقوع ذلك الإعتراف على الوجه الكامل حتى كأنه تخلل الذنوب وغير صفتها وإذا لم يعتبر سبب النزول يجوز أن يراد من العمل الصالح الإعتراف بالذنوب مطلقا ومن السيء الذنوب كذلك وتمام الكلام بحاله ويجوز أن يراد من العمل الصالح والسيء ما صدر من الأعمال الحسنة والسيئة مطلقا ولعل المتوجه إليه أولى على هذا أيضا ليجمع العمل الصالح إذ بضمه يفتح باب الخير ففي الخبر أتبع السيئة بالحسنة تمحها وقد حمل بعضهم الحسنة فيه على مطلقها وأخرج ابن سعد عن الأسود بن قيس قال : لقي الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يوما حبيب ابن مسلمة فقال : ياحبيب رب مسير لك في غير طاعة الله تعالى فقال : أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك قال : بلى ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة فلئن قام بك في دنياك فلقد قعد بك في دينك ولو كنت إذ فعلت شرا فعلت خيرا كان ذلك كما قال الله تعالى : خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولكنك كما قال الله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون والتعبير بالخلط حينئذ يمكن أن يكون لما في ذلك من التغيير أيضا وربما يراد بالخلط مطلق الجمع من غير إعتبار أولية في البين والتعبير بالخلط لعله لمجرد الإيذان بالتخلل فإن الجمع لا يقتضيه ويشعر بهذا الحمل ماأخرجه أبو الشيخ والبيهقي عن مطرف قال : إني لأستلقي من الليل على فراشي وأتدبر القرآن فأعرض أعمالي على أعمال أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة كانوا قليلا من الليل مايهجعون يبيتون لربهم سجدا وقياما أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما فلا أراني منهم فأعرض نفسي على هذه الآية ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين إلى قوله سبحانه : نكذب بيوم الدين فأرى القوم مكذبين فلا أراني فيهم فأمر بهذه الآية وآخرون اعترفوا بذنوبهم إلخ وأرجو أن أكون أنا وأنتم ياإخوتاه منهم وكذا ماأخرجاه وغيرهما عن أبي عثمان النهدي قال : مافي القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله سبحانه : وآخرون إلخ والظاهر أنه لم يفهم منها صدور التوبة من هؤلاء الآخرين بل ثبت لهم الحكم المفهوم من قوله سبحانه : عسى الله أن يتوب عليهم مطلقا وإلا فهى وكثير من الآيات التي في هذا الباب سواء وأرجى منها عندي قوله تعالى : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا والمشهور أن الآية يفهم منها ذلك لأن التوبة من الله سبحانه بمعنى قبول التوبة وهو يقتضي صدورها عنهم فكأنه قيل : وآخرون إعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا عسى إلخ
وجعل غير واحد الإعتراف دالا على التوبة ولعل ذلك لما بينهما من اللزوم عرفا وقال الشهاب : لأنه توبة إذا إقترن بالندم والعزم على عدم العود وفيه أن هذا قول بالعموم والخصوص وقد ذكر أن العام لا يدل على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث وكلمة عسى للأطماع وهو من أكرم الأكرمين إيجاب وأي إيجاب وقوله تعالى :
(11/13)

إن الله غفور رحيم 102 تعليل لما أفادته من وجوب القبول وليس هو الوجوب الذي يقوله المعتزلة كما لا يخفى أي إنه تعالى كثير المغفرة والرحمة يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه خذ من أمولهم صدقة أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم لما أطلقوا إنطلقوا فجاءوا بأموالهم فقالوا : يارسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا وإستغفر لنا فقال عليه الصلاة و السلام : ماأمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت الآية فأخذ صلى الله عليه و سلم منها الثلث كما جاء في بعض الروايات فليس المراد من الصدقة الصدقة المفروضة أعني الزكاة لكونها مأمورا بها وإنما هي على ماقيل كفارة لذنوبهم حسبما ينبيء عنه قوله عز و جل : تطهرهم أي عما تطلخوا به من أوضار التخلف وعن الجبائي أن المراد بها الزكاة وأمر صلى الله عليه و سلم بأخذها هنا دفعا لتوهم إلحاقهم ببعض المنافقين فإنها لم تكن تقبل منه كما علمت وأمرالتطهير سهل وأيا ما كان فضمير أموالهم لهؤلاء المعترفين وقيل : إنه على الثاني راجع لأرباب الأموال مطلقا وجمع الأموال للإشارة إلى أن الأخذ من سائر أجناس المال والجار والمجرور متعلق بخذ ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من صدقة والتاء في تطهرهم للخطاب وقريء بالجزم على أنه جواب الأمر والرفع على أن الجملة حال من فاعل خذ أو صفة لصدقة بتقدير بها لدلالة مابعده عليه أو مستأنفة كما قال أبوالبقاء وجوز على إحتمال الوصفية أن تكون التاء للغيبة وضمير المؤنث للصىقة فلا حاجة بنا إلى بها وقريء تطهرهم من أطهره بمعنى طهره وتزكيهم بها باثبات الياء وهو خبر مبتدأ محذوف والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه وقيل إستئناف أي وأنت تزكيهم بها أي تنمي بتلك الصدقة حسناتهم وأموالهم أو تبالغ في تطهيرهم وكون المراد ترفع منازلهم من منازل المنافقين إلى منازل الأبرار المخلصين ظاهر في أن القوم كانوا منافقين والمصحح خلافه وهذا على قراءة الجزم في تطهرهم وأما على قراءة الرفع فتزكيهم عطف عليه وظاهر مافي الكشاف يدل على أن التاء هنا للخطاب لا غير لقوله سبحانه : بها ولحمل على أن الصدقة تزكيهم بنفسها بعيد عن فصاحة التنزيل وقرأ مسلمة بن محارب تزكهم بدون الياء وصل عليهم أي أدع لهم وإستغفر وعدى الفعل بعلى لما فيه من معنى العطف لأنه من الصلوين وإرادة المعنى اللغوي هنا هو المتبادر والحمل على صلاة الميت بعيد وإن روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولذا إستدل بالآية على إستحباب الدعاء لمن يتصدق وإستحب الشافعي في صفته أن يقول للمتصدق آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت وقال بعضهم : يجب على الإمام الدعاء إذا أخذ وقيل : يجب في صدقة الفرض و يستجب في صدقة التطوع وقيل : يجب على الإمام ويستجب للفقير والحق الإستحباب مطلقا إن صلاتك سكن لهم تعليل للإمر بالصلاة والسكن السكون وما تسكن النفس إليه من الأهل والوطن مثلا وعلى الأول جعل الصلاة نفس السكن والإطمئنان مبالغة وعلى الثاني يكون المراد تشبيه صلاته عليه الصلاة و السلام في الإلتجاء اليها بالسكن والأول أولى أي إن دعاءك تسكن نفوسهم إليه وتطمئن قلوبهم به إلى الغاية ويثقون بأنه سبحانه قبلهم
وقرأ غير واحد من السبعة صلواتك بالجمع مراعاة لتعدد المدعو لهم والله سميع يسمع الإعتراف بالذنب والتوبة والدعاء عليم 103 بما في الضمائر من الندم والغم لما فرط وبالا وبالإخلاص في التوبة والدعاء
(11/14)

أو سميع يجيب دعاءك لهم عليم بما تقتضيه الحكمة والجملة حينئذ تذليل للتعليل مقرر لمضمونه وعلى الأول تذليل لما سبق من الآيتين محقق لما فيهما ألم يعلموا الضمير إما للمتوب عليهم والمراد تمكين قبول توبتهم في قلوبهم والإعتداد بصدقاتهم وإما لغيرهم والمراد التحضيض على التوبة والصدقة والترغيب فيهما
وقريء تعلموا بالتاء هو على الأول التفات وعلى الثاني بتقدير قل وجوز أن يكون الضمير للتائبين وغيرهم على أن يكون المقصود التمكين والتخصيص لا غير وإختار بعضهم كونه للغير لا غير لما روي أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المخلفين هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم اليوم نزلت ويشعر صنيع الجمهور بإختيار الأول وهو الذي يقتضيه سياق الآية والخبر لم نقف على سند له يعول عليه أي ألم يعلم هؤلاء التائبون أن الله هو يقبل التوبة الصحيحة الخالصة عن عباده المخلصين فيها وتعدية القبول بعن لتضمنه معنى التجاوز والعفو أي يقبل ذلك متجاوزا عن ذنوبهم التي تابوا عنها وقيل : عن بمعنى من والضمير إما للتأكيد أوله مع التخصيص بمعنى أن الله سبحانه يقبل التوبة لا غيره أي أنه تعالى يفعل ذلك البتة لما قرر أن ضمير الفصل يفيد ذلك والخبر المضارع من مواقعه وجعل بعضهم التخصيص بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم أي أنه جل وعلا يقبل التوبة لا رسوله عليه الصلاة و السلام لأن كثرة رجوعهم إليه مظنة لتوهم ذلك والمراد بالعباد إما أولئك التائبون ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلية مايشير إليه القبول وإما كافةالعباد وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا ويأخذ الصدقات أي يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدى بدله فالأخذ هنا إستعارة للقبول وجوز أن يكون إسناد الأخذ إلى الله تعالى مجازا مرسلا وقيل : نسبة الأخذ إلى الرسول في قوله سبحانه : خذ ثم نسبته إلى ذاته تعالى إشارة إلى أن أخذ الرسول عليه الصلاة و السلام قائم مقام أخذ الله تعالى تعظيما لشأن نبيه صلى الله عليه و سلم كما في قوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله فهو على حقيقته وهو معنى حسن إلا أن في دعوى الحقيقة ما لا يخفى والمختار عندي أن المراد بأخذ الصدقات الإعتناء بأمرها ووقوعها عنده سبحانه موقعا حسنا وفي التعبير به مالا يخفى من الترغيب وقد أخرج عبدالرزاق عن أبي هريرة أن الله تعالى يقبل الصدقة إذا كانت من طيب ويأخذها بيمينه وإن الرجل ليتصدق بمثل اللقمة فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله أو مهره فتربو في كف الله تعالى حتى تكون مثل أحد وأخرج الدارقطني في الأفراد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تصدقوا فإن أحدكم يعطى اللقمة أو الشيء فيقع في يد الله عز و جل قبل أن يقع في يد السائل ثم تلا هذه الآية وفي بعض الروايات مايدل علىأنه ليس هناك أخذ حقيقة فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي نفسي بيده مامن عبد يتصدق بصدقة طيبة من كسب طيب ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب فيضعها في حق إلا كانت كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى أن اللقمة أو التمرة لتأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم
وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة الآية و أل في الصدقات يحتمل أن تكون عوضا عن المضاف إليه صدقاتهم وان تكون للجنس أي جنس الصدقات المندرج فيه صدقاتهم إندراجا أوليا وهو الذي يقتضيه ظاهر الإخبار وأن الله هو التواب الرحيم 104 تأكيد لما عطف عليه وزيادة
(11/15)

تقرير لما يقرره مع زيادة معنى ليس فيه أي ألم يعلموا أنه سبحانه المختص المستأثر ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة والرحمة وذلك شأن من شؤنه وعادة من عوائده المستمرة وقيل غير ذلك والجملتان في حيز النصب بيعلموا يسد كل واحدة منهما مسد مفعوليه وقل إعملوا ماتشاءون من الأعمال فسيرى الله عملكم خيرا كان أو شرا والجملة تعليل لما قبله أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب والترهيب والسين للتأكيد كما قررنا أي يرى الله تعالى البتة ورسوله والمؤمنون عطف على الإسم الجليل والتأخير عن المفعول للأشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت والمراد من رؤية العمل عند جمع الإطلاع عليه وعلمه علما جليا ونسبة ذلك للرسول عليه الصلاة و السلام والمؤمنين بإعتبار أن الله تعالى لا يخفي عنهم ويطلعهم عليه إما بالوحي أو بغيره
وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا في الإخلاص عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله تعالى عمله للناس كائنا ماكان وتخصيص الرسول عليه الصلاة و السلام والمؤمنين بالذكر على هذا لأنهم الذين يعبأ النمخاطبون بإطلاعهم وفسر بعضهم المؤمنين بالملائكة الذين يكتبون الأعمال وليس بشيء ومثله بل أدهى وأمر زعمه بعض الإمامية انهم الأئمة الطاعرون ورووا أن الأعمال تعرض عليهم في كل إثنين وخميس بعد أن تعرض على النبي صلى الله عليه و سلم
وجوز بعض المحققين أن يكون العلم هنا كناية عن المجازاة ويكون ذلك خاصا بالدنيوي من إظهار المدح والإعزاز مثلا وليس بالرديء وقيل : يجوز إبقاء الرؤية على مايتبادر منها وتعقب بأن فيه إلتزام القول برؤية المعاني وهو تكلف وإن كان بالنسبة إليه تعالى غير بعيد وأنت أن من الأعمال مايرى عادة كالحركات ولا حاجة فيه إلى حديث الإلتزام المذكور على أن ذلك الإلتزام في جانب المعطوف لا يخفى مافيه
وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ فسيرى الله عملكم أي فسيظهره وستردون أي بعد الموت إلى علم الغيب ومنه ما سترونه من الأعمال والشهدة ومنها ما تظهرونه وفي ذكر هذا العنون من تهويل الأمر وتربية المهابة مالا يخفى
فينبئكم بعد الرد الذي هو عبارة عن الأمر الممتد بما كنتم تعملون 105 قبل ذلك في الدنيا والإنباء مجاز عن المجازاة أو كناية أي يجازيكم حسب ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ففي الآية وعد ووعيد
وءاخرون عطف على آخرون قبله أي ومنهم قوم آخرون غير المعترفين المذكورين مرجون أي مؤخرون وموقوف أمرهم لأمر الله أي إلى أن يظهرأمر الله تعالى في شأنهم
وقرأ أهل المدينة والكوفة غير أبي بكر مرجون بغير همز والباقون مرجئون بالهمز وهما لغتان يقال : أرجئته وأرجيته كأعطيته ويحتمل أن يكون الياء بدلا من الهمزة كقولهم : قرأت وقريت وتوضأت وتوضيت وهو في كلامهم كثير وعلى كونه لغة أصلية هو يائي وقيل : إنه واوي ومن هذه المادة المرجئة إحدى فرق أهل القبلة وقد جاء فيه الهمز وتركه وسموا بذلك لتأخيرهم المعصية عن الإعتبار في إستحقاق العذاب حيث
(11/16)

قالوا : لاعذاب مع الإيمان فلم يبق للمعصية عندهم أثر وفي المواقف سموا مرجئة لأنهم يرجون العمل عن النية أي يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الإعتقاد أو لأنهم يعطون الرجاء في قولهم : لا يضر مع الإيمان معصية إنتهى
وعلى التفسيرين الأولين يحتمل أن يكون بالهمز وتركه وأما على الثالث فينبغي أن يقال مرجئة بفتح الراء وتشديد الجيم والمراد بهؤلاء المرجون كما في الصحيحين هلال بن أمية وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهو المروي عن ابن عباس وكبار الصحابة رضي الله عنهم وكانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأمر ما مع الهم باللحاق به عليه الصلاة و السلام فلم يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق وحاشاهم فقد كانوا من المخلصين فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم وكان ماكان من المتخلفين قالوا : لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلى الله عليه و سلم ولم يفعلوا كما فعل أهل السواري وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بإجتنابهم وشدد الأمر عليهم كما ستعلمه إن شاء الله تعالى إلى أن نزل قوله سبحانه : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلخ وقد وقف أمرهم خمسين ليلة لا يدرون مالله تعالى فاعل بهم إما يعذبهم وإما يتوب عليهم في موضع الحال أي منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوبا عليهم
وقيل : خبر آخرون على أنه مبتدأ و مرجون صفته والأول أظهر وإما للتنويع على معنى أن أمرهم دائر بين هذين الأمرين وقيل : للترديد بالنظر للفساد والمعنى ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء والخوف والمقصود تفويض ذلك إلى إدارة الله تعالى ومشيئته إذ لايجب عليه سبحانه تعذيب العاصي ولا مغفرة التائب وإنما شدد عليهم مع إخلاصهم والجهاد فرض كفاية لما نقل عن ابن بطال في الروض الأنف وإرتضاه أن الجهاد كان على الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا النبي صلى الله عليه و سلم ألا ترى قول راجزهم في الخندق : نحن الذين بايوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا وهؤلاء من أجلتهم فكان تخلفهم كبيرة وروي عن الحسن أن هذه الآية في المنافقين وحينئذ لا يراد بالآخرين من ذكرنا لأنهم من علمت بل يراد به آخرون منافقون وعلى هذا ينبغي أن يكون قول من قال في إما يعذبهم أي إن أصروا على النفاق وقد علمت أن ذلك خلاف مافي الصحيحين وحمل النفاق في كلام القائل على مايشبهه بعيد ودعوى بلا دليل والله عليم بأحوالهم حكيم 106 فيما فعل بهم من الأرجاء وفي قراءة عبدالله غفور رحيم والذين اتخذوا مسجدا عطف على ماسبق أي ومنهم الذين وجوز أن يكون مبتدأ خبره أفمن أسس والعائد محذوف للعلم به أي منهم أو الخبر محذوف أي فيمن وصفنا وأن يكون منصوبا بمقدر كأذم وأعنى
وقرأ نافع وابن عامر بغير واو وفيه الإحتمالات السابقة إلا العطف وأن يكون بدلا من آخرون على التفسير المرجوح وقوله سبحانه : ضرارا مفعول له وكذا مابعده وقيل : مصدر في موضع الحال أو مفعول ثان لإتخذوا على أنه بمعنى صيروا أو مفعول مطلق لفعل مقدر أي يضارون بذلك المؤمنين ضرارا والضرار
(11/17)

طلب الضرر ومحاولته أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار قال لهم أبو عامر : إبنوا مسجدا وإستمدوا ماإستطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا عليه الصلاة و السلام وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فنزلت وأخرج ابن إسحق وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال أتى أصحاب مسجد الضرار رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يارسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : إني علي جناح سفر وحال شغل أو كما قال عليه الصلاة و السلام ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لآتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سفره ونزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار أتاه خبر المسجد فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي وأخاه عاصم بن عدي أحد بلعجان فقال : إنطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فإهدماه وأحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك فقال مالك لصاحبه : أنظرني حتى أخرج لك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فأحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن مانزل وك ان البانون إثنى عشر رجلا : خذام ابن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمر بن عوف ومن داره أخرج المسجد وعباد بن حنيف من بني عمرو بن عوف أيضا وثعلبة بن حاطب ووديعة بن ثابت وهما من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن عبدالمنذر ومعتب بن قشير وأبو حبيبة بن الأزعر وحارثة بن عامر وإبناه مجمع وزيد ونبيل بن الحرث ونجاد ابن عثمان وبجدح من بني ضبيعة وذكر البغوي من حديث ذكره الثعلبي كما قال العراقي بدون سند أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بعد حرق المسجد وهدمه أن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف والنتن والقمامة إهانة لأهله لما أنهم اتخذوه ضرارا وكفرا أي وليكفروا فيه وقدر بعضم التقوية أي وتقوية الكفر الذي يضمرونه وقيل عليه : إن الكفر يصلح علة فما الحاجة إلى التقدير وإعتذر بأنه يحتمل أن يكون ذلك لما أن إتخاذه ليس بكفر بل مقوله لما إشتمل عليه فتأمل وتفريقا بين المؤمنين وهم كما قال السدي أهل قباء فإنهم كانوا يصلون في مسجدهم جميعا فأراد هؤلاء حسدا أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم وإرصادا أي ترقبا وإنتظارا لمن حارب الله ورسوله وهو أبو عامر والد حنظلة غسيل الملائكة رضى الله تعالى عنه وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة قال له أبو عامر : ماهذا الدين الذي جئت به فقال صلى الله عليه و سلم : الحنيفية البيضاء دين إبراهيم عليه السلام قال : فأنا عليها فقال له عليه الصلاة و السلام : إنك لست عليها فقال : بلى ولكنك أنت أدخلت فيها ماليس منها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : مافعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر : أمات الله تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا فأمن النبي صلى الله عليه و سلم فسماه الناس أبا عامر الكداب وسماه ألنبي صلى الله عليه و سلم ألفاسق فلما كان يوم أحد قال للنبي صلى الله عليه و سلم : لاأجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يومئذ
(11/18)

ولى هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين يحثهم على بناء مسجد كما ذكرنا آنفا عن الحبر فبنوه وبقوا منتظرين قدومه ليصلي فيه ويظهر علىرسول الله صلى الله عليه و سلم فهدم كما مر ومات أبو عامر وحيدا بقنسرين وبقيما أضمروه حسرة في قلوبهم
من قبل متعلق بحارب أي حارب الله ورسوله عليه الصلاة و السلام قبلهذا الإتخاذ أو متعلق بإتخذوا أي إتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غروة تبوك كما سمعت والمراد المبالغة في الذم وليحلفن إن أردنا أي ماأردنا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى أي إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسعة على المصلين فالحسنى تأنيث الأحسن وهو في الأصل صفة الخصلة وقد وقع مفعولا به لأردنا وجوز أن يكون قائما مقام مصدر محذوف أي الإرادة الحسنى واللهيشهد إنهم لكاذبون 107 فيما حفلوا عليه لاتقم أي للصلاة فيه أي في ذلك المسجد أبدا وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير لا تقم بلا تصل على أن القيام مجاز عن الصلاة كما في قولهم : فلان يقوم الليل وفي الحديث من قام رمضان إيمانا وإحتسابا غفر له لمسجد أسس أي بني أساسه على التقوى أي تقوى الله تعالى وطاعته و على ما يتبادر منها ولا يخفى ما في جعل التقوى وهي هي أساسا من المبالغة وقيل : إنها بمعنى مع وقيل : للتعليل لإعتباره فيما تقدم من الإتخاذ واللام إما للإبتداء أو للقسم أي والله لمسجد وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ والجملة بعده صفته وقوله تعالى : من أول يوم متعلق بأسس و من لإبتداء الزمان على ماهو الظاهر وفي ذلك دليل للكوفيين في أنها تكون للإبتداء مطلقا ولا تتقيد بالمكان وخالف في ذلك البصريون ومنعوا دخولها على الزمان وخصوه بمذ ومنذ وتأولوا الآية بأنها على حذف مضاف أي من تأسيس أول يوم وتعقبه الزجاج وتبعه أبو البقاء بأن ذلك ضعيف لأن التأسيس المقدر ليس بمكان حتى تكون من لإبتداء الغاية فيه وأجيب بأن مرادهم من التأويل الفرار من كونها لإبتداء الغاية في الزمان وقد حصل بذلك التقدير وليس في كلامهم مايدل على أنها لاتكون لإبتداء الغاية إلا في المكان وقال الرضي : لا أرى في الآية ونظائرها معنى الإبتداء إذ المقصود منهأن يكون الفعل شيئا ممتدا كالسير والمشي ومجرور من منه الإبتداء نحو سرت من البصرة أو يكون أصلا لشيء ممتد نحو خرجت من الدار إذ الخروج ليس ممتدا وليس التأسيس ممتدا ولا أصلا لممتد بل هما حدثان واقعان فيما بعد من وهذا معنى في و من في الظروف كثيرا ماتقع بمعنى في إنتهى وفي كون التأسيس ليس أصلا لممتد منع ظاهر نعم ذهب إلى إحتمال الظرفية العلامة الثاني وله وجه وحينئذ يبطل الإستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين والحق أن كثيرا من الآيات وكلام العرب يشهد لهم وإلتزام تأويل كل ذلك تكلف لا داعي إليه وقوله تعالى : أحق أن تقوم فيه خبر المبتدأ و أحق أفعل تفضيل والمفضل عليه كل مسجد أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير أو هو على زعمهم وقيل : إنه بمعنى حقيق أي حقيق ذلك المسجد بأن تصلي فيه وإختلف في المراد منه فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك أنه مسجد قباء وقد جاءت أخبار في فضل الصلاة فيه فأخرج ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم وصححه وابن ماجه عن أسيد بن ظهير عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
(11/19)

صلاة في مسجد قباء كعمرة قال الترمذي لا نعرف لأسيد هذا شيئا غير هذا الحديث وفي معناه ماأخرجه أحمد والنسائي عن سهل بن حنيف وأخرج ابن سعد عن ظهير بن رافع الحارثي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من صلى في مسجد قباء يوم الإثنين والخميس إنقلب بأجر عمرة وذهب جماعة إلى أنه مسجد المدينة مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وإستدلوا بما أخرجه مسلم والترمذي وابن جرير والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال : إختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما : هو مسجد قباء وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألاه عن ذلك فقال : هو هذا المسجد لمسجده صلى الله عليه و سلم وقال : في ذلك خير كثير يعني مسجد قباء وجاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة و السلام سئل عن ذلك فقال : هو مسجدي هذا وأيد للقول الأول بأنه الأوفق بالسباق واللحاق وبأنه بني قبل مسجد المدينة وجمع الشريف السمهودي بين الأخبار وسبقه إلى ذلك السهيلي وقال : كل من المسجدين مراد لأن كلا منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه والسر في إجابته صلى الله عليه و سلم السؤال عن ذلك بما في الحديث دفع ماتوهمه السائل من إختصاص ذلك بمسجد قباء والتنويه بمزية هذا على ذلك ولا يخفى بعد هذا الجمع فإن ظاهر الحديث الذي أخرجه الجماعة عن أبي سعيد الخدري بمراحل عنه ولهذاإختار بعض المحققين القول الثاني وأيده بأن مسجد النبي صلى الله عليه و سلم أحق بالوصف بالتأسيس على التقوى من أول يوم وبأن التعبير بالقيام عن الصلاة في قوله سبحانه : أحق أن تقوم فيه يستدعي المداومة ويعضدهتوكيد النهي بقوله تعالى : أبدا ومداومة الرسول عليه الصلاة و السلام لم توجد إلا في مسجده الشريف عليه الصلاة و السلام
وأما ما رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة من أن قوله جل وعلا : فيه رجال يحبون أن يتطهروا نزلت في أهل قباء وكانوا يستنجون بالماء فهو لا يعارض نص رسول الله صلى الله عليه و سلم وأماما رواه ابن ماجه عن أبي أيوب وجابر وأنس من أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يامعشر الأنصار إن الله تعالى قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فماطهوركم هدا قالوا : نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة قال : فهل مع ذلك غير قالوا : لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء قال عليه الصلاة و السلام : هو ذاك فعليكموه فلا يدل على إختصاص أهل قباء ولا ينافي الحمل على أهل مسجده صلى الله عليه و سلم من الأنصار وأنا أقول : قد كثرت الأخبار في نزول هذه الآية في أهل قباء فقد أخرج أحمد وابن خزيمة والطبراني وابن مردويه والحاكم عن عويم بنساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاهم في مسجد قباء فقال : إن اللهتعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به فذكروا أنهم يغسلون أدبارهم من الغائط
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه والبغوي فيمعجمه وابن جرير والطبراني عن محمد بن عبدالله بن سلام عن أبيه نحو ذلك وأخرج عبدالرزاق والطبراني عن أبي أمامة قال : قالرسول الله صلى الله عليه و سلم : لأهل قباء ماهذا الطهور الذي خصصتم به في هذه الآية فيه رجال يحبون أن يتطهروا قالوا : يا رسول الله ما منا أحد يخرج من الغائط إلا غسل مقعدته
(11/20)

وأخرج عبدالرزاق وابن مردويه عن عبدالله بن الحرث بن نوفل نحوهإلى غير ذلك وروى القول بنزولها في أهل قباء عن جماعة من الصحابةوغيرهم كابن عمر وسهل الأنصاري وعطاء وغيرهم وأما الأخبارالدالة على كون المراد بالمسجد المذكور في الآية مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكثيرة أيضا وكذا الذاهبون إلى ذلك كثيرون أيضا والجمع فيما أرى بين الأخبار والأقوال متعذر وليس عندي أحسن من التنقير عن حال تلكالروايات صحة وضعفا فمتى ظهر قوة إحداهما على الأخرى عول على الأقوى وظاهر كلام البعض يشعر بأن الأقوى رواية ما يدل على أن المراد مسجد الرسول عليه الصلاة و السلام ومعنى تأسيسه على التقوى من أول يوم أن تأسيسه على ذلك كان مبتدأ من أول يوم من أيام وجوده لا حادثا بعده ولايمكن أن يراد من أول الأيام مطلقا ضرورة نعم قال الذاهبون إلى أن المراد بالمسجد مسجد قباء : إن المراد من أول أيام الهجرة ودخول المدينة
قال السهيلي : ويستفاد من الآية صحة ما إتفق عليه الصحابة رضي اللهتعالى عنهم أجمعين مع عمر رضي الله تعالى عنه حين شاورهم في التاريخ فإتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي أعز الله فيه الإسلام والحين الذي أمن فيه النبي صلى الله عليه و سلم وبنيت المساجد وعبدالله تعالى كما يجب فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل وفهمنا الآن بنقلهم أن قولهتعالى : من أول يوم أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي نؤرخ به الآن فإن كان الصحابة رضي الله عنهم أخذوه من هذه الآية فهو الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله تعالى وأفهمهم بما فيه من الإشارات وإن كان ذلك عن رأي وإجتهاد فقد علمه تعالى وأشار إلىصحته قبل أن يفعل اذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بالإضافةإلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ كذلك وليس ههنا إضافة فيالمعنى الا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره منقرينة لفظ أو حال فتدبره ففيه معتبر لمن إدكر وعلم لمن رأى بعين فؤاده وإستبصر إنتهى ولا يخفى على المطلع على التاريخ أن ما وقع كانعن إجتهاد وأن قوله : وليس ههنا إضافة إلخ محل نظر ويستفاد من الآية أيضا على ما قيل النهي عن الصلاة في مساجد بنيت مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوي إبتغاء وجه الله تعالى وألحق بذلك مسجد بنيبمال غير طيب
وروي عن شقيق مايؤيد وروى عن عطاء لما فتح الله الأمصار على عمررضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المسجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه ومن حمل التطهير فيها على ما نطقت به الأخبار السابقة قال : يستفاد منها سنية الإستنجاء بالماء وجاءمن حديث البزار تفسيره بالجمع بين الماء والحجر وهو أفضل من الإقتصار على أحدهما وفسره بعضهم بالتخلص عن المعاصي والخصال المذمومة وهو معنى مجازي له وإذا فسر بما يشتمل التطهير من الحدث الأكبر والخبث والتنزه من المعاصي ونحوها كان فيه من المدح ما فيه وجوز في جملة فيه رجال ثلاثة أوجه أن تكون مستأنفة مبينة لأحقية القيام في ذلكالمسجد من جهة الحال بعد بيان الأحقية من جهة المحل وأن يكون صفة للمبتدأ جاءت بعد خبره وأن تكون حالا من الضمير في فيه وعلى كلحال ففيها تحقيق وتقرير لإستحقاق القيام فيه وقرىء أن يطهروا بالإدغام
والله يحب المطهرين 108 أي يرضى عنهم ويكرمهم ويعظم ثوابهم وهو المراد بمحبة الله تعالى عند
(11/21)

الأشاعرة وأشياعهم وذكروا أن المحبة الحقيقية لا يوصف بها سبحانه وحمل بعضهم التعبير بها هنا على المشاكلة والمراد من المطهرين إماأولئك الرجال أو الجنس ويدخلون فيه أفمن أسس بنيانه أي مبنيهفهو مصدر كالغفران وإستعمل بمعنى المفعول وعن أبي علي أن البنيانجمع واحده بنيانة ولعل مراده أنه إسم جنس جمعي واحده ما ذكر وإلا فليس بشيء والتأسيس وضع الأساس وهو أصل البناء وأوله ويستعمل بمعنى الأحكام وبه فسره بعضهم هنا وإختار آخرون التفسير الأول لتعدية بعلىفي قوله سبحانه : على تقوى من الله ورضوان فإن المتبادر تعلقهبه وجوز تعلقه بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في أسس وهو خلاف الظاهر كما لايخفى والمراد من الرضوان طلبه بالطاعة مجازا وإن شئت قدرت المضاف ليكون المتعاطفان من أعمال العبد والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر كما قالوا في نظائره أي أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلب مرضاته بالطاعة خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف أي طرفه ومنه أشفى على الهلاك أي صار على شفاء وشفى المريض لأنه صار على شفا البرء والسلامة ويثني على شفوان والجرف بضمتين البئر التي لم تطو وقيل : هو الهوةوما يجرفه السيل من الأودية لجرف الماء له أي أكله وإذهابه وقرأ أبوبكر وابن عامر وحمزة جرف بالتخفيف وهو لغة فيه هار أي متصدع مشرف على السقوط وقيل ساقط وهو نعت لجرف وأصله هاور أو هاير فهومقلوب ووزنه فالع وقيل : إنه حذفت عينه إعتباطا فوزنه فال والإعراب على رائه كباب وقيل : إنه لا قلب فيه ولا حذف وأصله هور أوهير على وزن فعل بكسرالعين ككتف فلما تحرك حرف العلة وإنفتح ما قبله قلب ألفا والظاهر أنه وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى فيما سبق وفيه إستعارة تصريحية تحقيقية حيث شبه الباطل والنفاق بشفا جرف هار في قلةالثبات ثم استعير لذلك والقرينة المقابلة وقوله تعالى : فإنهار به في نار جهنم ترشيح وباؤه إما للتعدية أو للمصاحبة ووضع في مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه مما يخاف ويوصله إلى ما أدنى مقتضياته الجنة وتأسيس هذا على ماهو بصددالوقوع في النار ساعة فساعة ثم المصير إليها لا محالة والإستعارةفيما تقدم مكنية حيث شبهت فيه التقوى بقواعد البناء تشبيها مضمرا فيالنفس ودل عليه ماهو من روادفه ولوازمه وهو التأسيس والبنيان وإختار غير واحد أن معنى الآية أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمةهي التقوى وطلب الرضا بالطاعة خير أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها فأدى به ذلك لخوره وقلة إستمساكه إلى السقوط في النار وإنما أختير ذلك على ما قيل لما أنه أنسب بتوصيف اهل مسجدالضرار بمضارة المسلمين والكفر والتفريق والإرصاد وتوصيف أهل مسجد التقوى بأنهم يحبون أن يتطهروا بناء على أن المراد التطهير عن المعاصي والخصال المذمومة لأن المقتضى بزعم البعض لمحبة الله تعالى لا التطهير المذكور في الأخبار وأمر الإستعارة على هذا التوجيه على طرزما تقدم في التوجيه الأول وجوز أن يكون في الجملة الأولى تمثيل من أخلص لله تعالى وعمل الأعمال الصالحة
(11/22)

بحال من بنى بناء محكما يستوطنه ويتحصن به وأن يكون البنيان إستعارة أصلية والتأسيس ترشيحا أو تبعية وكذا جوز التمثيل في الجملة الثانية وإجراء ذلك فيها ظاهر بعد إعتبار إجرائه في مقابله وفاعل إنهار إما ضمير البنيان وضمير به للمؤسس وإما للشفا وضمير به للبنيان وإليه يميل ظاهر التفسير المار آنفا
وظاهر الأخبار أن ذلك المسجد إذا وقع وقع في النار فقد أخرج ابنالمنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال في الآية : والله ماتناهى أن وقع في النار وذكر لنا أنه حفرت فيه بقعة فرئي منه الدخان
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال فيها : مضى حين خسف به إلى النار وعن سفيان بن عيينة يقال : إنه بقعة من نار جهنم وأنت تعلم أني والحمد لله تعالى مؤمن بقدرته سبحانه على أتم وجه وأنه جل جلاله فعال لما يريد لكني لا أومن بمثل هذه الظواهر ما لم يرد فيا خبر صحيح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقرأ نافع وابن عمر أسس بالبناء للمفعول في الموضعين وقرىء أساس بنيانه وأس بنيانه على الإضافة ونسب ذلك إلى علي بن نصر وأسس بفتحات ونسبت إلى عاصم وإساس بالكسر قيل : وثلاثتها جمع أس وفيهنظر ففي الصحاح الأس أصل البناء وكذلك الأساس والأسس مقصور منه وجمع الأس أساس مثل عس وعساس وجمع الأساس أسس مثل قذال وقذل وجمع الأسس آساس مثل سبب وأسباب إنتهى وجوز في في أسس أن يكون مصدرا وقرأ عيسى بن عمرو وتقوى بالتنوين وخرج ذلك ابن جني على أن الألف للإلحاق كما في أرطى ألحق بجعفر لا للتأنيث كألف تترى في رأى والألم يجز تنوينه وقرأ ابن مسعود فإنهار به قواعده في نار جهنم والله لايهدي القوم الظالمين 108 أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها أي لايرشدهم إلى ما فيه صلاحهم إرشادا موجبا لا محالة
لا يزال بنيانهم الذي بنوا أي بناؤهم الذي بنوه فالبنيان مصدرأريد به المفعول كما مر ووصفه بالمفرد مما يرد على مدعي الجمعية وكذا الإخبار عنه بقوله سبحانه : ريبة في قلوبهم وإحتمال تقديرمضاف وجعل الصفة وكذا الخبر له خلاف الظاهر نعم قيل : الإخبار بريبة لا دليل فيه على عدم الجمعية لأنه يقال : الحيطان منهدمة والجبال راسية وجوز بعضهم كون البنيان باقيا على المصدرية و الذي مفعوله والريبة أيم من الريب بمعنى الشك وبذلك فسرها ابن عباس رضي اللهتعالى عنهما والمراد به شكهم في نبوته صلى الله عليه و سلم المضمر في قلوبهم وهو عين النفاق وجعل بنيانهم نفس الريبة للمبالغة في كونه سببا لها قال الإمام : وفي ذلك وجوه
أحدها أن المنافقين عظم فرحهم ببنيانه فلما أمر بتخريبه ثقل عليهم وإزداد غيظهم وارتيابهم في نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وثانيها أنه لما أمر بتخريبه ظنوا أن ذلك للحسد فإرتفع أمانمم عنه صلى الله عليه و سلم وعظم خوفهم فارتابوا هل يتركون على حالهم أو يؤمر بقتلهم ونهب أموالهم وثالثها أنهم إعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء فلما أمر بتخريبه بقوا شاكينمرتابين في أنه لأي سبب أمر بذلك والصحيح هو الأول
ويمكن كما قال العلامة الطيبي أن يرجح الثاني بأن تحمل الريبة على أصل موضوعها ويراد منها قلق النفس وإضطرابها
وحاصل المعنى لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببا للقلق والإضطراب والوجل في القلوب ووصف بنيانهم بما وصف للإيذان بكيفية بنائهم له وتأسيسه على ما عليه تأسيسه مما علمت وللإشعار بعلة الحكم وقيل : وصف بذلك للدلالة على أن المراد بالبنيان ماهو المبني حقيقة لاما دبروه من الأمور فإن البناء قد يطلق على تدبير الأمر وتقديره
(11/23)

كما في قولهم كم أبني وتهدم وعليه قوله : متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم وحاصله أن الوصف للتأكيد وفائدته دفع المجاز وهذا نظير ماقالوا في قوله سبحانه : وكلم الله موسى تكليما وفيه بحث
والإستثناء في قوله تعالى : إلا أن تقطع قلوبهم من أعم الأوقات أو أعم الأحوال وما بعد الا في محل النصب على الظرفية أي لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت الا وقت تقطع قلوبهم أو في كل حال الاحال تقطعها أي تفرقهاوخروجها عن قابلية الإدراك وهذا كناية عن تمكن الريبة في قلوبهم التي هي محل الإدراك وإضمار الشرك بحيث لا يزول منها ما داموا أحياء إلا اذاتقطعت وفرقت وحينئذ تخرج منها الريبة وتزول وهو خارج مخرج التصوير والفرض وقيل : المراد بالتقطع ماهو كائن بالموت من تفرق أجزاء البدن حقيقة وروي ذلك عن بعض السلف وأخرج ابن المنذر وغيره عن أيوب قال : كان عكرمة يقرأ إلا أن تقطع قلوبهم في القبور وقيل : المراد إلا أن يتوبوا ويندموا ندامة عظيمة تفتت قلوبهم وأكبادهم فالتقطع كناية أو مجاز عن شدة الأسف وروى ذلك ابن أبي حاتم عنسفيان وتقطع من التفعل بإحدى التاءين والبناء للفاعل أي تتقطع وقرىء تقطع على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منهعلى أن الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم أي إلا أن تقطع أنت قلوبهم بالقتل وقرىء على البناء للمفعول من الثلاثي مذكرا ومؤنثا
وقرأ الحسن إلى أن تقطع على الخطاب وفي قراءة عبدالله ولو قطعت قلوبهم على إسناد الفعل مجهولا إلى قلوبهم وعن طلحة ولو قطعت قلوبهم على خطاب رسول الله عليه الصلاة و السلام ويصح أن يعنى بالخطاب كل مخاطب وكذا يصح أن يجعل ضمير تقطع مع نصب قلوبهم للريبة والله عليم بجميع الأشياءالتي من جملتها ما ذكر من أحوالهم حكيم 110 في جميع أفعاله التي من جملتها أمره سبحانه الوارد في حقهم
هذا ومن باب الإشارة في الآيات ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين إشارة إلى وصف المغرورين الذين ما ذاقوا طعم المحبة ولا هب عليهم نسيم العرفان ومن هنا صححوا لأنفسهم أفعالا فقالوا : لنصدقن فلما آتاهم من فضله بخلوا به أي أنهم نقضوا العهد لما ظهر لهم ما سألوه والبخل كما قال أبو حفص : ترك الإايثار عند الحاجة إليه ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم وهو مالا يعلمونه من أنفسهم ونجواهم أي مايعلمونه منها دون الناس وقيل : السر ما يطلع عليه إلا عالم الأسرار والنجوى مايطلع عليه الحفظة وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا أرادوا التثبيط على المؤمنين ببيان بعض شدائد الغزو ومادروا ان المحب يستعذب المر في طلب وصال محبوبه ويرىالحزن سهلا والشدائد لذائذ في ذلك ولا خير فيمن عاقه الحر والبرد ورد عليهم بأنهم آثروا بمخالفتهم النار التي هي أشد حرا ويشبه هؤلاء المنافقين في هذا التثبيط أهل البطالة الذين يثبطون السالكين عن السلوك وفوات اللذائذ الدنيوية لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا باموالهم وأنفسهم فأفنوا كل ذلك في طلب مولاهم جل جلاله وأولئك على الضعفاء أي الذين أضعفهم حمل المحبة ولا على المرضى بداء الصبابة حتى ذابت أجسامهم من باب الإشارة في الآيات
(11/24)

بحرارة الكفر وشدائد الرياضة ولاعلى الذين لا يجدون ماينفقون وهم المتجردون من الأكوان حرج إثم في التخلف عن الجهاد الأصغر إذا نصحوا لله ورسوله بأن أرشدوا الخلق إلى الحق ومن الأعراب من يتخذماينفق مغرما غرامة وخسرانا قيل : كل من يرى الملك لنفسه يكون ماينفق غرامة عنده وكل من يرى الأشياء لله تعالى وهي عارية عندهيكون ماينفق غنما عنده والسابقون الأولون أي الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصنف الأول من المهاجرين وهم الذين هجروا مواطن النفس والأنصار وهم الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس والذين إتبعوهم في الإتصاف بصفات الحق بإحسان أي بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال رضي الله عنهم بما أعطاهم من غايته وتوفيقه ورضوا عنه بقبول ماأمر به سبحانه وبذل أموالهم ومهجهم في سبيله عز شأنه وأعد لهم جنات من جنات الأفعال والصفات تجري من تحتهاالأنهار وهي أنهار علوم التوكل والرضا ونحوهما ووراء هذه الجنات المشتركة بين المتعاطفات جنة الذات وهي مختصة بالسابقين وآخروناعترفوا بذنوبهم وهم الذين لم ترسخ فيهم ملكة الذنب وبقي منهم فيهمنور الإستعداد ولهذا لانت شكيمتهم وإعترفوا بذنوبهم ورأوا قبحها وأما من رسخت فيه ملكة الذنب وإستولت عليه الظلمة فلا يرى مايفعل منالقبائح إلا حسنا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا حيث كانوا في رتبة النفس اللوامة التي لم يصر إتصالها بالقلب وتنورها بنوره ملكة لها ولهذا تنقاد له تارة وتعمل أعمالا صالحة وذلك إذا إستولى القلب عليها وتنفر عنه أخرى وتفعل أفعالا سيئة إذا إحتجبت عنه بظلمتها وهي دائما بين هذا وذاك حتى يقوى إتصالها بالقلب ويصير ذلك ملكة لها وحينئذ يصلح أمرها وتنجو من المخالفات ولعل قوله سبحانه : عسى الله أنيتوب عليهم إشارة إلى ذلك وقد تتراكم عليها الهيآت المظلمة فترجع القهقري ويزول إستعدادها وتحجب عن أنوار القلب وتهوي إلى سجين الطبيعة فتهلك مع الهالكين وترجح أحد الجانبين على الآخر يكون بالصحبة فإن أدركها التوفيق صحبت الصالحين فتحلت بأخلاقهم وعملت أعمالهم فكانت منهم وإن لحقها الخذلان صحبت المفسدين وإختلطت بهم فتدنست بخلالهم وفعلت أفاعيلهم فصارت من الخاسرين أعاذنا الله تعالى من ذلك ولله در من قال : عليك بأرباب الصدور فمن غدا مضافا لأرباب الصدور تصدرا وإياك أن ترضى صحابة ناقض فتنحط قدرا عن علاك وتحقرا فرفع أبو من ثم خفض مزمل يبين قولي مغريا ومحذرا وقد يكون ترجح جانب الإتصال بأسباب أخر كما يشير إليه سبحانه وتعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها لأن المال مادة الشهوات فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالأخذ من ذلك ليكون أول حالهم التجرد لتنكسر قوى النفس وتضعف أهواؤها وصفاتها فتتزكى من الهيآت المظلمة وتتطهر منخبث الذنوب ورجحس دواعي الشيطان وصل عليهم بإمداد الهمة وإفاضة أنوار الصحبة إن صلاتك سكن لهم أي سبب لنزول السكينة فيهم وفسروا السكينة بنور يستقر في القلب وبه يثبت على التوجه إلى الحق ويتخلص عن الطيش لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه لأن النفس تتأثر
(11/25)

فيه بصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان بخلاف ما إذا كان مبنيا علىضد فإنها تتأثر فيه بالكدورة والتفرقة والقبض
وأصل ذلك أن عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره فيلزم أن يكون لنيات النفوس وهيأتها تأثير فيما تباشره من الأعمال ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت محلا للتبرك لما أنها كانت مبنية بيد خليل الله تعالى عليه الصلاة و السلام بنية صادقة ونفس شريفة ونحن نحد أيضا أثرالصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع وضد ذلك في بعضها ولست أعني الا وجود ذوي النفوس الحساسة الصافية لذلك وإلا فالنفوس الخبيثة تجد الأمر على عكس ما تجده أرباب تلك النفوس والصفراوي يجد السكرمرا والجعل يستخبث رائحة الورد : ومن هنا كان المنافق في المسجد كالسمك في اليبس والمخلص فيه كالسمكة في الماء فيه رجال يحبون أنيتطهروا أي أهل إرادة وسعي في التطهر عن الذنويب وهو إشارة إلى أن صحبة الصالحين لها أثر عظيم ويتحصل من هذا وماقبله الاشارة إلى أنه ينبغي رعاية المكان والإخوان في حصول الجمعية وجاء عن القوم أنه يجب مراعاة ذلك مع مراعاة الزمان في حصول ماذكر والله يحب المطهرين ولو محبته إياهم لما أحبوا ذلك وعن سهل الطهارة علىثلاثة أوجه : طهارةالعلم من الجهل وطهارة الذكر من النسيان وطهارة الطاعة من المعصية وقال بعضهم : الطهارة على أقسام كثيرة : فطهارة الأسرار من الخطرات وطهارة الأرواح من الغفلات وطهارة القلوب من الشهوات وطهارة العقول من الجهالات وطهارة النفوس منالكفريات وطهارة الأبدان من الزلات وقال آخر : الطهارة الكاملة طهارة الأسرار من دنس الأغيار والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة إلخ ترغيب للمؤمنين في الجهاد ببيان حال المتخلفين عنه ولا ترى كما نقلا لشهاب ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ مما في هذه الآية لأنه أبرز في صورة عقد عاقده رب العزة جل جلاله وثمنه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط بلكونهم قاتلين أيضا لإعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه سبحانه وجعله مسجلا في الكتب السماوية وناهيك به من صك وجعل وعده حقا ولا أحد أوفى من واعده فنسيئته أقوى من نقد غيره وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم وهو إستعارة تمثيلية
صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإئابة الله تعالى لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء وأتى بقوله سبحانه : يقاتلون إلخ بيانا لمكان التسليم وهو المعركة وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه و سلم : الجنة تحت ظلال السيوف ثم أمضاه جل شأنه بقوله ذلك الفوز العظيم ومنهنا أعظم الصحابة رضي الله عنهم أمر هذه الآية فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في المسجد إن الله اشترى إلخ فكثر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال : يارسول الله أنزلت هذه الآية قال : نعم فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل ومن الناس من قرر وجه المبالغة بأنه سبحانه عبرعن قبوله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الإستعارة التبعية ثم جعل
(11/26)

المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة ولم يعكس بأن يقال : إن ألله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد بالعقد هو الجنة ومابذله المؤمنون في مقابلتها وسيلة إليها بكمال العناية بهم وبأموالهم ثم إنه تعالى لم يقل بالجنة بل قال عز شأنه : بأن لهم الجنة مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم وإختصاصه بهم كأنه قيل : بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم ومن هنا يعلم أن هذه القراءة أبلغ من قراءة الأعمش ونسبت أيضا إلى عبدالله رضي الله تعالى عنه بالجنة على أنها أوفق بسبب النزول فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره أنهم قالوا : قال عبدالله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إشترط لربك ولنفسك ماشئت قال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا أو أشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا : فما لنا قال : الجنة قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إن الله اشترى الآية
وقيل : عبر بذلك مدحا للمؤمنين بأنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم بمجرد الوعد لكمال ثقتهم بوعده تعالى مع أن تمام موقوف على ذلك إذ لو قيل بالجنة لإحتمل كون الشراء على حقيقته لأنها صالحة للعوضية بخلاف الوعد بها وإعترض بأن مناط دلالة ما عليه النظم الجليل على الوعد ليس كونهجملة ظرفية مصدرة بان فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الإستقبال بل هو الجنة التي يستحيل وجودها في عالم الدنيا ولو سلم ذلك بكون العوض الجنة الموعود بها لأنفس الوعد بها على أن حديث إحتمال كون الشراءحقيقة لو قيل بالجنة لايخلو عن نظر كما قيل لأن حقيقة الشراء مما لا يصح منه تعالى لأنه جل شأنه مالك الكل والشراء إنما يكون ممن لايملك ولهذاقال الفقهاء : طلب الشراء يبطل دعوى الملكية نعم قد لا يبطل في بعض الصور كما إذا إشترى الأب دارا لطفله من نفسه فكبر الطفل ولم يعلم ثمباعها الأب وسلمها للمشتري ثم طلب الإبن شراءها منه ثم علم بما صنع أبوه فإدعى الدار فإنه تقبل دعواه ولا يبطلها ذلك الطلب كما بقتضيه كلام الأستروشتى لكن هذا لايضرنا فيما نحن فيه ومن المحققين من وجه دلالة ما في النظم الكريم على الوعد بأنه يقتضي بصريحه عدم التسليموهو عين الوعد لأنك إذا قلت : إشتريت منك كذا بكذا إحتمل النقد بخلاف ما إذا قلت : بأن لك كذا فإنه في معنى لك على كذا وفي ذمتي واللامهنا ليست للملك إذ لايناسب شراء ملكه بملكه كالمهورة إحدى خدمتيها فهي للإستحقاق وفيه إشعار بعدم القبض وأما كون تمام الإستعارة موقوفا على ذلك فله وجه أيضا حيث كان المراد بالإستعارة الإستعارة التمثيلية إذ لولاه لصح جعل الشراء مجازا عن الإستبدال مثلا وهو مما ينبغي الإلتفات إليه مع تأتي التمثيل من البلاغة واللطائف على ما لا يخفى لكن أنت خبير بأن الكلام بعد لا يخلو عن بحث ومما أشرنا إليه من فضيلة التمثيل يعلم إنحطاط القول بإعتبار الإستعارة أو المجاز المرسل في إشترى وحده كما ذهب إليه البعض وقوله تعالى : يقاتلون في سبيل الله قيل بيان لمكان التسليم كما أشير إليه فيما تقدم وذلك لأن البيع سلم كما قال الطيبي وغيره وقيل : بيان لما لأجله الشراء كأنه لما قال سبحانه : إن الله اشترى إلخ قيل : لماذا فعل ذلك فقيل : ليقاتلوا في سبيله تعالى وقيل : بيان للبيع الذي يستدعيه الإشتراء المذكور كأنه قيل : كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة فقيل : يقاتلون في سبيله عز شأنه وذلك بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهته تعالى وتعريض لهما للهلاك
(11/27)

وقيل : بيان لنفس الإشتراء وقيل : ذكر لبعض ما شمله الكلام السابق إهتماما به على أن معنى ذلك أنه تعالى إشترى من المؤمنين أنفسهم بصرفها في العمل الصالح وأموالهم ببذلها فيما يرضيه وهو في جميع ذلك خبر لفظا ومعنى ولا محل له من الإعراب وقيل : إنه في معنى الأمركقوله سبحانه : تجاهدون بأموالكم وأنفسكم ووجه ذلك بأنه أتى بالمضارع بعد الماضي لإفادة الإستمرار كأنه قيل : إشتريت منكم أنفسكمفي الأزل وأعطيتم ثمنها الجنة فسلموا المبيع وإستمروا على القتال ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من النظر وأنظر هل ثم مانع من جعلالجملة في موضع الحال كأنه قيل : إشترى منهم ذلك حال كونهم مقاتلين في سبيله فإني لم أقف على من صرح بذلك مع أنه أوفق الأوجه بالإستعارةالتمثيلية تأمل
وقوله سبحانه : فيقتلون ويقتلون بيان لكون القتال في سبيل الله تعالى بذلا للنفس وأن المقاتل في سبيله تعالى باذل لها وإن كانت سالمة غانمة فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق إشتراط الجمع بينهما ولا إشتراط الإتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو منبعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضا كما إذا وجد المضاربة ولم يوجد القتل من أحد الجانبين ويفهم كلام بعضهم أنهيتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد إن لم توجد مضاربة وليس بالبعيد لما أن في ذلك تعريض النفس للهلاك أيضا والظاهر أن أجور المجاهدين مختلفة قلة وكثرة وإن كان هناك قدر مشترك بينهم ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : مامن غازية تغزو فيسبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم وفي رواية أخرى مامنغازية أو سرية تغزو وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم ومامن غازية أو سرية تحنق وتصاب إلا أتم أجورهم وزعم بعضهم أنهم في الأجر سواء ولا ينقص أجرهم بالغنيمة وإستدلوا عليه بما في الصحيحينمن أن المجاهد يرجع بما نال من أجر وغنيمة وبأن أهل بدر غنموا وهم هم ويرد عليه أن خبر الصحيحين مطلق وخبر مسلم مقيد فيجب حمله عليه وبأنه لم يجيء نص في أهل بدر أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد غنموا فقط وكونهم هم هم لا يلزم منه أن لايكون وراء مرتبتهم مرتبة أخرى أفضل منها والقول بأن في السند أبا هانيء وهو مجهول فلا يعول على خبره غلط فاحش فإنه ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد وحيوة وابن وهب وخلائق من الأئمة ويكفي في توثيقه إحتجاج مسلم به في صحيحه ومثل هذا ما حكاه القاضي عن بعضهم من أن تعجل ثلثي الأجر إنما هو في غنيمة أخذت على غير وجهها إذ لو كانت كذلك لم يكن ثلث الأجر وكذا ما قيل : من أن الحديث محمول على من خرج بنية الغزو والغنيمة معا فإن ذلك ينقص ثوابه لا محالة فالصواب أن أجر من لم يغنم أكثر من أجر من غنم لصريح ماذكرناهالموافق لصرائح الأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ويعلم من ذلك أن أجر من قتل أكثر من أجر من قتل لكون الأول منالشهداء دون الثاني وظاهر ماأخرجه مسلم من رواية أبي هريرة منقتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد ومن مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد أن القتل في سبيل الله تعالى والموت فيها سواء في الأجر وهو الموافق لمعنى قوله تعالى : ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وإستدل له أيضا بعض
(11/28)

العلماء بغير ذلك مما لا دلالة فيه عليه كما نص عليه النووي رحمه الله تعالى وتقديم حالة القاتلية في الآية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقا لكون القتال بذلا للنفس وقرأحمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في هذا الباب إيذانا بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله تعالى بل بكون أحب اليهم من السلامة كما قال كعب بن زهير في حقهم : لا يفرحون إذا نالت رماحهم قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا لا يقع الطعن إلافي نحورهم ومالهم عن حياض الموت تهليل وفيع على ماقيل دلالة على جراءتهم حيث لم ينكسروا لأن قتل بعضهم ومن الناس من دفع السؤال بعدم مراعاة الترتيب في هذه القراءة بأن الواو لا تقتضيه وتعقب بأن ذلك لا يجدي لأن تقديم ماحقه التأخير في أبلغ الكلام لا يكون بسلامة الأمير كما لايخفى وعدا عليه مصدر مؤكد لمضمون الجملة لأن معنى الشراء بأن لهم الجنة وعد لهم بها على الجهاد في سبيله سبحانه وقوله تعالى : حقا نعت له و عليه في موضع الحال من حقا لتقدمه عليه : وقوله سبحانه : في التوراة والإنجيل والقرآن متعلق بمحذوف وقع نعتا لوعدا أيضا أي وعدا مثبتا في التوراة والإنجيل كما هو مثبت في القرآن فالمراد الحاق مالا يعرف بما يعرف إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن ثم إن مافي الكتابين إما أن يكون أن أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بذلك أو أن من جاهد بنفسه وماله له ذلك وفي كلا الأمرين ثبوت موافق لما في القرآن وجوز تعلق الجار بإشترى ووعدا وحقا ومن أوفى بعهده من الله إعتراض مقرر لمضمون ماقبله من حقيقة الوعد والمقصود من مثل هذا التركيب عرفا نفي المساواة أي لاأحد مثله تعالى في الوفاء بعهده وهذا كما يقال : ليس في المدينة أفقه من فلان فإنه يفيد عرفاأنه أفقه أهلها ولايخفى مافي جعل الوعد عهدا وميثاقا من الإعتناء بشأنه فاستبشروا التفات إلى خطابهم لزيادة التشريف والإستبشار إظهار لسرورهم وليست السين فيه للطلب والفاء لترتيبه أو ترتيب الأمر به على ماقبله أي فإذا كان كذلك فأظهروا السرور بما فزتم به من الجنة وإنما قال سبحانه : ببيعكم مع أن الإبتهاج به بإعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع ولم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبله سبحانه لا من قبلهم والترغيب على ماقيل إنما يتم فيما هو من قبلهم وقوله تعالى : الذي بايعتم به لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بتميزه على غيره فإنه بيع الفاني بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى ومن هنا كان الحسن إذا قرأ الآية يقول : أنفس هو خلقها وأموال هو رزقها وذلك أي البيع الذي أمرتم به هو الفوز العظيم 111 الذي لافوز أعظم منه ومافي ذلك من البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته في الكمال والجملة تذليل مقرر لمضمون الأمر السابق ويجوز أن يكون تذليلا للآية الكريمة والأشارة إلى الجنة التي جعلت ثمنا بمقابلة مابذلوا من أنفسهم وأموالهم وفي ذلك إعظام للثمن ومنه يعلم حال المثمن ونقل عن الأصمعي انه أنشد للصادق رضي الله تعالى عنه :
(11/29)

أثامن بالنفس النفيسة ربها فليس لها في الخلق كلهم ثمن بها أشتري الجنات أن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها فقد ذهبت مني وقد ذهب الثمن والمشهور عنه رضى الله تعالى عنه أنه قال : ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها وهو ظاهر في أن المبيع هو الأبدان وبذلك صرح بعض الفضلاء في حواشيه على تفسير البيضاوي حيث قال : إن الله تعالى اشترى من المؤمن الذي هو عبارة عن الجوهر الباقي بدنه الذي هو مركبه وآلته والظاهر أنه أراد بالجوهر الباقي الجوهر المجرد المخصوص وهو النفس الناطقة ولا يخفى أن جمهور المتكلمين على نفي المجردات وإنكار النفس الناطقة وأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس وبذلك أبطل بعض أجلة المتأخرين من أفاضل المعاصرين القول بخلق الأفعال لما يلزم عليه من كون الفاعل والقابل واحدا وقد قالوا : بإمتناع إتحادهما والإنصاف إثبات شيء مغاير للبدن والهيكل المحسوس في الإنسان والمبيع اما ذاك ومعنى بيعه تعريضه للمهالك والخروج عن التعلق الخاص بالبدن وإما البدن ومعنى بيعه ظاهر إلا أنه ربما يدعي أن المتبادر من النفس غير ذلك كما لايخفى على ذوي النفوس الزكية التائبون نعت للمؤمنين وقطع لأجل المدح أي هم التائبون ويدل على ذلك قراءة عبدالله وأبي التائبين بالياء على أنه منصوب علىالمدح أو مجرور على أنه صفة للمؤمنين
وجوز أن يكون التائبون مبتدأ والخبر محذوف أي من أهل الجنة أيضاوإن لم يجاهدوا لقوله تعالى : وكلا وعد الله الحسنى فإن كلا فيه عام والحسنى بمعنى الجنة
وقيل : الخبر قوله تعالى : العابدون ومابعده خبر بعد خبر وقيل : خبره الآمرون بالمعروف وقيل : إنه بدل من ضمير يقاتلون والأول أظهر إلا أنه يكون الموعود بالجنة عليه هو المجاهد المتصف بهذه الصفات لا كل مجاهد وبذلك يشعر ماأخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : الشهيد من كان فيه الخصال التسع وتلا هذه الآية
وأورد عليه أنه ينافي ذلك ماصح من حديث مسلم من أن من قتل في سبيل الله تعالى وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر كفرت خطاياه إلا الدين فإنه ظاهر في أن المجاهد قد لايكون متصفا بجميع مافي الآية من الصفات وإلا لا يبقى لتكفير الخطايا وجه وكأنه من هنا إختار الزجاج كونه مبتدأ والخبر محذوف كما سمعت إذ في الآية عليه تبشير مطلق المجاهدين بما ذكر وهوالمفهوم من ظواهر الأخبار نعم دل كثير منها على أن الفضل الوارد في المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا وأن من قاتل الدنيا والسمعة إستحق النار وفي صحيح مسلم مايقتضي ذلك فليفهم والمراد من التائبين على ماأخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الحسن وقتادة الذين تابوا عن الشرك ولم ينافقوا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك أنهم الذين تابوا عن الشرك والذنوب وأيد ذلك بأن التائبين في تقدير الذين تابوا وهو من ألفاظ العموم يتناول كل تائب فتخصيصه بالتائب عن بعض المعاصي تحكم وأجيب بأن ذكرهم بعد ذكر المنافقين ظاهر في حمل التوبة على التوبة عن الكفر والنفاق وأيضا لو حملت التوبة على التوبة عن المعاصي يكون ماذكر بعد من الصفات غير تام الفائدة مع أن من إتصف بهذه الصفات الظاهر إجتنابه للمعاصي والمراد
(11/30)

من العابدين الذين أتوا بالعبادة على وجهها وقال الحسن : هم الذين عبدوا الله تعالى في أحايينهم كلها أما والله ماهو بشهر ولا شهرين ولا سنة ولاسنتين ولكن كما قال العبد الصالح : وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا وقال قتادة : هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم الحامدون أي الذين يحمدون الله تعالى على كل حال كما روي على غير واحد من السلف فالحمد بمعنى الوصف بالجميل مطلقا وقيل : هو بمعن الشكر فيكون في مقابلة النعمة أي الحامدون لنعمائه تعالى وأنت تعلم أن الحمد في كل حال أولى وفيه تأس برسول الله صلى الله عليه و سلم : فقد أخرج ابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي اللهعنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون على السراء والضراء وجاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أتاه الأمر يسره قال : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات واذا أتاه الأمر يكرهه قال : الحمد لله على كل حال السائحون أي الصائمون فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن ذلك فاجاب بما ذكر وإليه ذهب جلة من الصحابة والتابعين
وجاء عن عائشة سياحة هذه الأمة الصيام وهو من باب الإستعارة لأن الصوم يعوق عن الشهوات كما أن السياحة تمنع منها في الأكثر أو لأنه رياضة روحانية ينكشف من أحوال الملك والملكوت فشبه الإطلاع عليها بالإطلاع على البلدان والأماكن النائية إذ لا يزال المرتاض يتوصل منمقام إلى مقام ويدخل من مدائن المعارف إلى مدينة بعد أخرى على مطايا الفكر وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون وليس في أمة محمد صلى الله عليه و سلم سياحة إلا الهجرة
وأخرج هو وأبو الشيخ عن عكرمة أنهم طلبة العلم لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه وقيل : هم المجاهدون لما أخرج الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن أبي أمامة أن رجلا إستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في السياحة فقال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى والمختار ماتقدم كما أشرنا لم تحمل السياحة على المعنى المشهور لأنها نوع من الرهبانيةوقد نهى عنها وكانت كما أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه في بني إسرائيل الركعون السجدون أي في الصوات المفروضات كما روي عن الحسن فالركوع والسجود على معناهما الحقيقي وجعلهما بعضهم عبارة عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها فكأنه قيل : المصلون الآمرون بالمعروف أي الإيمان والناهون عن المنكر أي الشرك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الأمرين ولو أبقى لفظ النظم الجليل على عمومه لكان له وجه بل قيل إنه الأولى والعطف هنا على مافي المغني إنما كان من جهة إن الأمر والنهي من حيث هما أمر ونهى متقابلان بخلاف بقية الصفات لأن الأمر بالمعروف ناه عن المنكر وهو ترك المعروف والناهي عن المنكر آمر بالمعروف فأشير إلى الإعتداد بكل من الوصفين وأنه لايكفي فيه مايحصل في ضمن الآخر وحاصله على ماقيل : إن العطف لما بينهما من التقابل أو لدفع الإيهام
ووجه بعض المحققين ذلك بأن بينهما تلازما في الذهن والخارج لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر لأن أحداهما طلب فعل والآخر طلب ترك فكانا بين كمال الإتصال والإنقطاع المقتضى للعطف بخلاف
(11/31)

ما قبلهما وقيل : إن العطف للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة كأنه قيل : الجامعون بين الوصفين ويرد على ظاهره أن الراكعون الساجدون في حكم خصلة واحدة أيضا فكان ينبغي فيهما العطف على ماذكر إذ معناه الجامعون بين الركوع والسجود ويدفع بأدنى التفات وأما العطف في قوله سبحانه : والحافظون لحدود الله أي فيهما بينه وعينه من الحقائق والشرائع فقيل للإيذان بأن العدد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التام والثامن إبتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك يسمى واو الثمانية وإليه مال أبو البقاء وغيره ممن أثبت واو الثمانية وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله ابن هشام وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه وقيل : إنه للتنبيه على أن ماقبله مفصل الفضائل وهذا مجملها يعني أنه من ذكر أمر عام شامل لما قبله وغيره ومثله يؤتى به معطوفا نحو زيد وعمر وسائر قبيلته كرماء فلمغايرته بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه وقيل : هو عطف عليه وقيل : هو عطف على ماقبله من الأمر والنهي لأن من لم يصدق فعله قوله لا يجدي أمره نفعا ولا يفيد نهيه منعا
وقال بعض المحققين : إن المراد بحفظ الحدود ظاهره وهي إقامة الحد كالقصاص على من إستحقه والصفات الأول إلى قوله سبحانه : والآمرون صفات محمودة للشخص في نفسه وهذه له بإعتبار غيره فلذا تغاير تعبير الصنفين فترك العاطف في القسم الأول وعطف في الثاني ولما كان لا بد من إجتماع الأول في شيء واحد ترك فيها العطف لشدة الإتصال بخلاف هذه فإنه يجوز إختلاف فاعلها ومن تعلقت به وهذا هو الداعي لإعراب التائبون مبتدأ موصوفا بما بعده و الآمرون خبره فكأنه قيل : الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم وقدم الأول لأن المكمل مكملا حتى يكون كاملا في نفسه وبهدا يتسق النظم أحسن إتساق من غير تكلف وهو وجه وجيه للعطف في البعض وترك العطف في الآخر خلاأن المأثور عنالسلف كإبن عباس رضى الله تعالى عنهما وغيره تفسير الحافظين لحدود الله بالقائمين على طاعته سبحانه وهو مخالف لما في هذا التوجيه ولعل الأمر فيه سهل والله تعالى أعلم بمراده وبشر المؤمنين 112 أي هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجليلة ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان وإن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به إشارة إلى أنه أمر جليل لايحيط به نطاق البيان ماكان أي ماصح في حكم الله عز و جل وحكمته وما إستقام للنبي والذين آمنوا بالله تعالى على الوجحه المأمور به أن يستغفروا للمشركين به سبحانه ولو كانوا أي المشركون أولي قربى أي ذوى قرابة لهم وجواب لو محذوف لدلالة ماقبله عليه والجملة معطوفة على جملة أخرى قبلها محذوفة حذفا مطردا أي لو لم يكونوا أولي قربى ولو كانوا كذلك من بهد ما تبين لهم أي للنبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنين أنهم أي المشركين أصحاب الجحيم 113 بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحي بأنهم مطبوع على قلوبهم لا يؤمنون أصلا وفيه دليل على صحة الإستغفار لأحيائهم الذين لا قطع بالطبع على قلوبهم والمراد منه في حقهم طلب توفيقهم للإيمان وقيل : إنه يستلزم ذلك بطريق الإقتضاء فلا يقال : إنه لا فائدة في طلب المغفرة للكافر والآية على الصحيح نزلت في أبي طالب فقد أخرج أحمد وابن أبي شيبة
(11/32)

والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل وآخرون عن المسيب ابن حزن قال : لما حضرت أبا طلب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه و سلم وعنده أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية فقال النبي عليه الصلاة و السلام : أي عم قل : لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال : أبو جهل : وعبدالله بن أبي أمية : ياأبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبدالله يعاودانه بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ماكلمهم : هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول : لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لأستغفرن لك مالم أنه عنك فنزلت ماكان للنبي الآية
وإستعبد ذلك الحسين بن الفضل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وهذه السورة من أواخر مانزل بالمدينة قال الواحدي : وهذا الإستعباد مستعبد فأي بأس أن يقال : كان عليه الصلاة و السلام يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية فان النشديد نمع الكفار إنما ظهر في هذه السورة وذكر نحوا من هذا صاحب التقريب وعليه لايراد بقوله : : فنزلت في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول فالفاء فيه للسببية لا للتعقيب وإعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء وهو توجيه وجيه خلا أنه يعكر عليه ماأخرجه ابن سعد وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : أخبرت رسول الله صلى الله عليه و سلم بموت أبي طالب فبكى فقال : إذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه ففعلت وجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل عليه الصلاة و السلام يهذه الآية ماكان للنبي إلخ فإنه ظاهر في أن النزول قبل الهجرة لأن عدم الخروج من البيت فيه مغيابه اللهم إلا أن يقال بضعف الحديث لكن لم نرمن تعرض له والأولى في الجواب عن أصل الإستعباد أن يقال : إن كون هذه السورة من أواخر مانزل بإعتبار الغالب كما تقدم فلا ينافي نزول شيء منها في المدينة والآية على هذا دليل على أن أبا طالب مات كافرا وهو المعروف من مذهب أهل السنة والجماعة
وروى ابن إسحق في سيرته عن العباس بن عبدالله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما من خبر طويل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي طالب في مرض موته وقد طمع فيه : أي عم فأنت فقلها يعني لا إله إلا الله أستحل بها لك الشفاعة يوم القيامة وحرض عليه عليه الصلاة و السلام بذلك فقال : والله ياابن أخي لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني قلتها جزعا من الموت لقلتها ولا أقولها إلا لأسرك بها فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس اليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنه فقال : ياابن أخي لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال له صلى الله عليه و سلم : لم أسمع وإحتج بهذا نحوه من أبياته المتضمنة للإقرار بحقية ماجاء به صلى الله عليه و سلم وشدة حنوه عليه ونصرته له صلى الله عليه و سلم الشيعة الذاهبون إلى موته مؤمنا وقالوا إنه المروي عن أهل البيت وأهل البيت أدرى وأنت تعلم قوة دليل الجماعة فالإعتماد على ماروي عن ابن العباس دونه مما تضحك منه الثكلى والابيات على انقطاع أسانيدها ليس فيها النطق بالشهادتين وهو مدار فلك الإيمان وشدة الحنو والنصرة مما لاينكره أحد إلا أنها بمعزل عما نحن فيه وأخبار الشيعة عن أهل البيت أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت نعم لا ينبغي للمؤمن الخوض فيه كالخوضص في سائر كفار قريش من أبي جهل وإضرابه
(11/33)

فإن له مزية عليهم بما كان يصنعه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من محاسن الأفعال وقد روى نفع ذلك له في الآخرة أفلا ينفعه في الدنيا في الكف عنه وعدم معاملته معاملة غيره من الكفار فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وقد ذكر عنده عمه : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار وجاء في رواية أنه قيل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك فقال : نعم وجدته في غمرات النار فاخرجته إلى ضحضاح من نار وسبه عندي مذموم جدا لا سيما إذا كان فيه إيذاء لبعض العلويين إذ قد ورد لاتؤذوا الأحياء بسبب الأموات ومن حسن إسلام المرء تركه لما لايعينه
وزعم بعضهم أن الآية نزلت في غير ذلك فقد أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن مسعود قال : خرج النبي صلى الله عليه و سلم يوما إلى المقابر فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فصلى ركعتين فقام إليه عمر فدعاه ثم دعانا فقال : ما أبكاكم قلنا : بكينا لها فلم يأذن لي وأنزل على ماكان للنبي إلخ فأخذني مايأخذ الولد للوالدة من الرقة فذاك الذي أبكاني لايخفى أن الصحيح في سبب النزول هو الأول نعم خبر الإستئذان في الإستغفار لأمه عليه الصلاة و السلام وعدم الأذن جاء في رواية صحيحة لكن ليس فيها أن ذلك سبب النزول فقد أخرج مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله ص قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال عليه الصلاة و السلام : إستأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي وإستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم بالموت وإستدل بعضهم بهذا الخبر ونحوه على أن أمه عليه الصلاة و السلام ممن لا يستغفر له وفي ذلك نزاع شهير بين العلماء ولعل النوبة تفضي إلى تحقيق الحق فيه إن شاء الله تعالى وماكان استغفر إبراهيم لأبيه آزر بقوله واغفر لأبي أي بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه كما يلوح به تعليله بقوله : إنه كان من الضالين والجملة إستئناف لتقرير ماسبق ودفع مايتراءى بحسب الظاهر من المخالفة وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر من طريق سفيان ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال : لما مات أبو طالب قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : رحمك الله وغفر لك لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله تعالى فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون فأنزل الله تعالى ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية فقالوا : قد استغفر إبراهيم لأبيه فانزل سبحانه وماكان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وقرأ طلحة وما استغفر وعنه ومايستغفر على حكاية الحال الماضية لا أن الإستغفار سوف يقع بعد يوم القيامة كما يتوهم مما سيأتي إن شاء الله تعالى والإستثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن إستغفاره عليه السلام لأبيه ناشئا عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة وعدها أي إبراهيم عليه السلام إياه أي أباه بقوله : لأستغفرن لك وقوله : سأستغفر لك ربي فالوعد كان من إبراهيم عليه السلام
ويدل على ذلك ماروي عن الحسن وحماد الراوية وابن السميقع وابن نهيك ومعاذ القارىء أنهم قرأ وا وعدها أباه بالموحدة وعد ذلك أحد الأحرف الثلاث 1 التي صحفها ابن المقفع في القرآن مما
(11/34)

لا يلتفت إليه بعد قراءة غير واحد من السلف به وإن كانت شاذة وحاصل معنى الآية ماكان لكم الإستغفار بعد التبين وإستغفار إبراهيم عليه الصلاة و السلام إنما كان عن موعدة قبل التبين وما له أن إستغفار إبراهيم عليه السلام كان قبل التبين وينبىء عن ذلك قوله تعالى : فلما تبين له أي لإبراهيم عليه السلام أنه أي أن أباه عدو لله أي مستمر على عداوته تعالى وعدم الإيمان به وذلك بأن أوحى إليه عليه السلام أنه مصر على الكفر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك التبين كان بموته كافرا وإليه ذهب قتادة قيل : والأنسب بوصف العداوة هو الأول والأمر فيه هين
تبرأ منه أي قطع الوصلة بينه وبينه والمراد تنزه عن الإستغفار له وتجانب كل التجانب وفيه من المبالغة ماليس في تركه ونظائره إن إبراهيم لأواه أي لكثير التأوه وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن عبدالله بن شداد قال : قال رجل : يارسول الله ما الأواه قال : الخاشع المتضرع الدعاء
وأخرج أبو الشيخعن زيد بن أسلم أنه الدعاء المستكن إلى الله تعالى كهيئة المريض المتأوه من مرضه وهو قريب مما قبله : وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة وعطاء والضحاك وعكرمة إنه الموقن بلغة الحبشة وعن عمرو بن شرحبيل أنه الرحيم بتلك اللغة وأطلق ابن مسعود تفسيره بذلك وعن الشعبي أنه المسبح وأخرج البخاري في تاريخه أنه الذي قبله معلق عند الله تعالى وأخرج البيهقي في شعب الإيمان وغيره عن كعب أن إبراهيم وصف بالأواه لأنه كان إذا ذكر النار قال أوه من النار أوه
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الجوزاء مثله وإذا صح تفسير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم له لا ينبغي العدول عنه نعم ماذهب إليه الجماعة غير مناف له ومناسبته لما نحن فيه ظاهرة كما لايخفى وقد صرح غير واحد أنه فعال للمبالغة من التأوه وقياس فعله أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبلغة إنما يطرد منه وحكى قطرب له فعلا ثلاثيا فقال : يقال آه يؤوه كقام يقوم أوها وأنكره عليه غيره وقال : لا يقال إلا أوه وتأوه قال المثقب العبدي : ذا ماقمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين و أصل التأوه قوله آه ونحوه مما بقوله الحزين وفي الدرة للحريري أن الأفصح أن يقال في التأوه أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها والكسر أغلب وعليه قول الشاعر : فأوه لذكراها إذا ماذكرتها ومن بعد أرض بيننا وسماء وقد شدد بعضهم الواو وأسكن الهاء فقال أوه وقلب بعضهم الواو ألفا فقال آه ومنهم من حذف الهاء وكسر الواو فقال أو ثم ذكر أن تصريف الفعل من ذلك أوه وتأوه وأن المصدر الآهة والأهة وإن من ذلك قول المثقي السابق حليم 114 أي صبور على الأذى صفوح عن الجناية أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان من حلمه عليه السلام أنه إذا آذاه الرجل من قومه قال له : هداك الله تعالى ولعل تفسيره بالسيد على ما روي عن الحبر مجاز والجملة إستئناف لبيان ماحمله عليه الصلاة و السلام على الموعدة بالإستغفار لأبيه مع شكاسته عليه وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله عليه الصلاة و السلام :
(11/35)

لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا وقيل إستئناف لبيان ماحمله على الإستغفار وأورد عليه أنه يشعر بظاهره أن إستغفار إبراهيم عليهالسلام لأبيه عن وفور الرحمة وزيادة الحلم وهو يخالف صدر الآية حيث دل على أنه كان عن موعدة ليس إلا ولعل المراد أن سبب الإستغفار ليس إلاالموعدة الناشئة عما ذكر فلا إشكال وفيها تأكيد لوجوب الإجتناب بعد التبين كأنه قيل : إنه عليه الصلاة و السلام تبرأ منه بعد التبين وهو في كمال رقة القلب والحلم فلا بد أن يكون غيره أكثر منه إجتنابا وتبرؤا وجوز بعضهم أن يكون فاعل وعد ضمير الأب و إياه ضميرإبراهيم عليه الصلاة و السلام أي إلا عن موعدة وعدها إبراهيم أبوهوهي الوعد بالإيمان
قال شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيددري : لعل هذا هو الأظهر في التفسير فان ظاهر السياق أن هذه الآية دفع لما يرد على الآية الأولى من النقض بإستغفار إبراهيم لأبيه الكافر ويكفي فيه مجرد كونه في حياةأبيه حيث يحمل ذلك على طلب المغفرة له بالتوفيق للإيمان كما قرر سابقا من غير حاجة إلى حديث الموعدة فيصير إلاعن موعدة وعدها إياه كلحشو على التوجيه الأول للضمير بخلاف هذا التوجيه فإن محصله عليه هو أنه لا يرد إستغفار إبراهيم لأبيه نقضا على ما ذكرنا إذ هو إنما صدر منه عليه الصلاة و السلام بإيمانه حيث سبق وعده به معه عليه الصلاة و السلام فظن أنه وفي بالوعد وجرى على مقتضى العهد فإستغفر له فلما تبين له أنه لن يفي ولن يؤمن قط أولم يف ولم يؤمن تبرأ منه
ويمكن أن يوجه ذكر الموعدة على التوجيه الأول أيضا بأن يقال : أراد سبحانه وتعالى تضمين الجواب بكون ذلك الإستغفار في حال حياة المستغفر له وحمله على الطلب المذكور فائدة أخرى هي أنه صلى الله تعالى عليه و سلم لغاية تصلبه في الدين وفرط تعصبه على اليقين ماكان يستغفر له وإن كان جائزا لكن تأوه وتحلم فإستغفر له وفاء بالموعدة التي وعدها إياه فتفطن إنتهى وأنت تعلم أنه على التوجيه الثاني لا يستقيم ماقالوه في إستئناف الجملة من أنه لبيان الحامل وكان عليه أن يذكر وجه ذلك عليه وأيضا قوله رحمه الله تعالى في بيان الفائدة : لكنه تأوه وتحلم حيث نسب فيه الحلم إلى إبراهيم عليه الصلاة و السلام بصيغة التفعل مع وصفه تعالى له عليه الصلاة و السلام بالحليم عثرة لا يقال لصاحبها لعا وحمل ذلك علىالمشاكلة مع إرادة فعل مما لا يوافق غرضه وسوق كلامه فالحق الذي ينبغي أن يعول عليه التفسير الأول للآية وهو الذي يقتضيه ماروى عن الحسن وغيره من سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم وذكر حديث الموعدة لبيان الواقع في نفس الأمر مع مافيه من الإشارة إلى تأكيد الإجتناب وتقوية الفرق كأنه قيل : فرق بين بين الإستغفار الذي نهيتم عنه وإستغفار إبراهيم عليه السلام فإن إستغفاره كان قبل التبين وكان عن موعدة دعاه إليها فرط رأفته وحلمه ومانهيتم عنه ليس كذلك بقي أن هذه الآية يخالفها ظاهر مارواه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : يلقى إبراهيم عليه السلام أباه يوم القيامة وعلى وجهه قترة وغبرة فيقول إبراهيم عليه الصلاة و السلام : ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم عليه الصلاة و السلام : يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال : يا إبراهيم ماتحت رجليلك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ بقوائمه فيلقى في النار ورواه غيره بزيادة فيتبرأ منه فإن الآية ظاهرة في انقطاع رجاء إبراهيم عليه السلام اتصاف أبيه بالإيمان وجزمه بأنه لا يغفر له ولذلك تبرأ منه وترك الإستغفار له فان الإستغفار له مع الجزم بأنه لا يغفر له مما لا يتصور
(11/36)

وقوعه من المعارف لا سيما مثل الخليل عليه الصلاة و السلام وقد صرحوا بأن طلب المغفرة للمشرك طلب لتكذيب الله سبحانه نفسه والحديث ظاهرفي أنه عليه الصلاة و السلام يطلب ذلك له يوم القيامة ولا ييأس من نجاته إلا بعد المسخ فإذا مسخ يئس منه وتبرأ
وأجاب الحافظ ابن حجر عن المخالفة بجوابين بحث فيهما بعض فضلاء الروم ومن الغريب قوله في الجواب الثاني : إن إبراهيم عليه الصلاة و السلام لم يتيقن موت أبيه على الكفر لجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع عليه الصلاة و السلام على ذلك ويكون وقت تبريه منه بعد الحالة التيوقعت في الحديث فإنه مخالف مخالفة ظاهرة لما يفهم من الآية من أن التبين والتبري كأن كل منهما في الدنيا وأجاب ذلك البعض بأنالا نسلم التخالف بين الآية والحديث وإنما يكون بينهما ذلك لو كان فيالحديث دلالة على وقوع الإستغفار من إبراهيم لأبيه وطلب الشفاعة له وليس فليس وقوله : يارب إنك وعدتني إلخ أراد به عليه الصلاة و السلام محض الإستفسار عن حقيقة الحال فإنه إختلج في صدره الشريف أن هذهالحال الواقعة على أبيه خزي له وأن خزي الأب خزي الإبن فيؤدي ذلك إلى خلف الوعد المشار إليه بقوله : إنك وعدتني أن لاتخزيني يوم يبعثون وأنت خبير بأن الخبر ظاهر في الشفاعة وهي إستغفار كما يدل عليهكلام المتكلمين في ذلك المقام
ويزيد ذلك وضوحا أن الحاكم أخرج عن أبي هريرة أيضا وصححه وقال على شرط نمسلم : أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : يلقي رجل أباه يوم القيامة فيقول : ياأبت أي ابن كنت لك فيقول : خير ابن فيقول : هل أنت مطيعي اليوم فيقول : نعم فيقول خذ بازرتي فيأخذ بازرته ثم ينطلق حتىيأتي الله تعالى وهو يفصل بين الخلق فيقول : يا عبدي أدخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول : أي رب وأبي معي فإنك وعدتني أن لاتخزيني قال فيمسخ أباه ضبعا فيهوي في النار فيأخذ بأنفه فيقول سبحانه : يا عبدي هذا أبوك فيقول : لا وعزتك وقال الحافظ المنذري : إنه في صحيح البخاري إلا أنه قال : يلقى إبراهيم أباه وذكر القصة إذ يفهم منذلك أن الرجل في حديث الحاكم هو إبراهيم عليه الصلاة و السلام وطلبه المغفرة لأبيه فيه وإدخاله الجنة أظهر منهما في حديث البخاري وماذكرهالزمخشري مخالفا على ما قيل : لما شاع عن المعتزلة أن إمتناع جواز الإستغفار للكافر إنما علم بالوحي لا بالعقل لأن العقل يجوز أن يغفر الله تعالى للكافر ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه و سلم لأبي طالب : لأستغفرن لك مالم أنه لا ينفع في هذا الغرض إلا إذا ضم إليه عدم علم إبراهيم عليه الصلاة و السلام ذلك بالوحي إلى يوم القيامة وهو مما لا يكاد يقدم عليه عاقل فضلا عن فاضل
وأجاب بعض المعاصرين أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام كان عالما بكفر أبيه ومتيقنا بأن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به إلا أن الشفقةوالرأفة الطبيعية غلبت عليه حين رأى أباه في عرصات يوم القيامة وعلىوجهه قترة فلم يملك نفسه أن طلب ما طلب ونظير ذلك من وجه قول نوحE لربه سبحانه : رب إن ابني من أهلي وان وعدك الحق ولا يخفى أنه من الفساد بمكان ومثله ماقيل : إنه ظن إستثناء أبيه من عموم إن الله لايغفر أن يشرك به لأن الله وعده أن لايخزيه فقدم على الشفاعة له ولعمري لا يقدم عليه إلا جاهل بجهله
أما الأول فلأن الأنبياء عليهم السلام أجل قدرا من أن تغلبهم أنفسهم على الإقدام على مافيه تكذيب الله تعالى نفسه وأما الثاني فلأنه لو كان لذلك الظن أصل ماكان يتبرأ منه عليه السلام في الدنيا بعد أن تبين له أنه عدو الله وهو الأواه الحليم
(11/37)

وقيل : إن الأحسن في الجواب إلتزام أن ما في الخبرين ليس من الشفاعةفي شيء ويقال : إن إبراهيم عليه الصلاة و السلام ظن أن خزي أبيه فيمعنى الخزي له فطلب بحكم وعد الله سبحانه إياه أن لا يخزيه تخليصه من ذلك حسبما يمكن فخلصه منه بمسخه ذيخا ولعل ذلك مما يعده إبراهيم عليه السلام تخليصا له من الخزي لإختلاف النوع وعدم معرفة العارفين لأبيه بعد أنه أبوه فكأن الأبوة إنقطعت من البين ويؤذن بذلك أنه بعد المسخ يأخذ سبحانه بأنفه فيقول عليه السلام : يا عبدي هذا أبوك فيقول : لا وعزتك ولعل المراد من التبري في الرواية السابقة فيالخبر الأول هو هذا القول وتوسيط حديث تحريم الجنة على الكافرين ليس لأن إبراهيم عليه السلام كان طالبا إدخال أبيه فيها بل لإظهار عدم إمكان هذا الوجه من التخليص إقناطا لأبيه وإعلاما له بعظم ماأتى به ويحمل قوله عليه السلام في خبر الحاكم حين يقال له : يا عبدي أدخل منأي أبواب الجنه شئت أي رب وأبي معي على معنى أأدخل وأبي واقف معي والمراد لا أدخل وأبي في هذه الحال وإنما أدخل إذا تغيرت ويكون قوله عليه السلام : فإنك وعدتني أن لا تخزيني تعليلا للنفي المدلول عليهبالإستفهام المقدر وحينئذ يرجع الأمر إلى طلب التخليص عما ظنه خزيا له أيضا فيمسخ ضبعا لذلك ولا يرد أن التخليص ممكن بغير المسخ المذكورلأنا نقول لعل إختيار ذلك المسخ دون غيره من الأمور الممكنة ماعدادخول الجنة لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه وقد ذكروا أن حكمة مسخه ضبغا دون غيره من الحيوانات أن الضبع أحمق الحيوانات ومن حمقه أنهيغفل عما يجب له التيقظ ولذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه : لا أكون كالضبع يسمع الكدم فيخرج له حتى يصاد وآزر لما لم يقبل النصيحة من أشفق الناس عليه زمان إمكان نفعها له وأخذ بإزرته حين لا ينفعه ذلك شيئا كان أشبه الخلق بالضبع فمسخ ضبعا دون غيره لذلك ولم يذكروا حكمة إختيار المسخ دون غيره وهو لا يخلو عن حكمة والجهل بها لايضر إنتهى
ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف وأولى منه إلتزام كون فاعل وعد ضمير الأب وضمير إياه راجعا إلى إبراهيم عليه الصلاة و السلام وكون التبين والتبري واقعين في الآخرة حسبما تضمنه الخبران السابقان فحينئذ لا يبعد أن يكون إبراهيم مستغفر لأبيه بعد وعده إياه بالإيمان طالبا له الجنة لظن أنه وفى بوعده حتى يمسخ ديخا لكن لا يساعد عليه ظاهر الآية ولا المأثور عن سلف الأمة وإن صح كون الآية عليه دفعا لما يرد على الآية الأولى من النقض أيضا بالعناية ولعل أخف الأجوبة مؤنة كون مراد إبراهيم عليه الصلاةوالسلام من تلك المحاورة التي تصدر منه في ذلك الموقف إظهارالعذرفيه لأبيه وغيره على أتم وجه لا طلب المغفرة حقيقة وهذا كما قال المعتزلة في سؤال موسى عليه السلام رؤية الله تعالى مع العلمبإمتناعها في زعمهم والقول بأن أهل الموقف الأنبياء عليهم الصلاةوالسلام وغيرهم من سائر المؤمنين والكفار سواء في العلم بإمتناع المغفرة للمشرك مثلا في حيز المنع وربما يدعى عدم المساواة لظاهرطلب الكفار العفو والإخراج من النار ونحو ذلك بل في الخبرين السابقين مايدل على عدم علم الأب بحقيقة الحال وأنه لا يغفر له فتأمل ذاك والله سبحانه يتولى هداك وبقي أيضا أنه إستشكل القول بأن إستغفار إبراهيم عليه الصلاة و السلام لأبيه حتى تبين له أنه عدو لله كان فيحياته بما في سورة الممتحنة من قوله سبحانه : قد كانت لكم أسوةحسنة في إبراهيم إلى قوله سبحانه : إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك حيث منع من الإقتداء به فيه ولو كان في حياته لم يمنع منه لأنه يجوزالإستغفار بمعنى طلب الإيمان لأحياء المشركين وأجيب بأنه إنما منع منالإقتداء بظاهره وظن
(11/38)

أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وسيأتي إنشاء الله تعالى تحقيق ذلك بإذن الله تعالى الهادي
وماكان الله ليضل قوما أي ما يستقيم من لطف الله تعالى وأفضاله أنيصف قوما بالضلال عن طريق الحق ويذمهم ويجري عليهم أحكامه بعد إذ هداهم للإسلام حتى يبين لهم بالوحي صريحا أو دلالة ما يتقون أي مايجب إتقاؤه من محذورات الدين فلا ينزجروا عما نهوا عنه وكأنهتسلية للذين إستغفروا للمشركين قبل البيان حيث أفاد أنه ليس من لطفه تعالى أن يذم المؤمنين ويؤاخذهم في الإستغفار قبل أن يبين أنه غير جائز لمن تحقق شركه لكنه سبحانه يذم ويؤاخذ من إستغفر لهم بعد ذلك والآية على ماروي عن الحسن نزلت حين مات بعض المسلمين قبل أن تنزل الفرائض فقال إخوانهم : يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا قبل نزول الفرائض ما منزلتهم وكيف حالهم وعن مقاتل والكلبي أن قوما قدمواعلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبة ثم رجعوا إلىقومهم فحرمت الخمر وصرفت القبلة ولم يعملوا ذلك حتى قدموا بعد زمان إلى المدينة فعلموا ذلك فقالوا : يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن في ضلال فأنزل الله تعالى الآية وحمل الإضلال فيها علىما ذكرنا هو الظاهر وليس من الإعتزال في شيء كما توهم وكأنه لذلك عدلعنه الواحدي حيث زعم أن المعنى ما كان الله لوقع في قلوبهم الضلالة : وإستدل بها على أن الغافل وهو من لم يسمع النص والدليل السمعي غير مكلف وخص ذلك المعتزلة بما لم يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فإنه غير موقوف على التوقيف عندهم وهو تفريع على قاعدة الحسن والقبح العقليين ولأهل السنة فيها مقال إن الله بكل شيء عليم 115 تعليل لما سبق أي إن الله تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى البيان فيبين لهم وقيل : إنه إستئناف لتأكيد الوعيد المفهوم مما قبله وكذا قوله سبحانه : إن الله له ملك السموات والأرض من غير شريك له فيه يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير 116 وقال غيرواحد : إنه سبحانه لما منعهم عن الإستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم رأسا بين لهم أن الله سبحانه مالككل موجود ومتولي أمره والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إلا منهتعالى ليتوجهوا إليه جل شأنه بشراشرهم متبرئين عما سواه غير قاصدين إلا إياه لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار قال أصحاب المعاني المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صلى الله عليه و سلم تشريفا لهم وتعظيما لقدرهم وهذا كما قالوا في ذكره تعالى فيقوله سبحانه : فأن لله خمسه وللرسول إلخ أي عفا سبحانه عن زلات سبقت منهم يوم أحد ويوم حنين وقيل : المراد ذكر التوبة عليه الصلاة و السلام وعليهم والذنب بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من باب خلاف الأولى نظرا إلى مقامه الجليل وفسر هنا على ماروي عن ابن عباس بالإذن للمنافقين في التخلف وبالنسبة إليهم رضي الله تعالى عنهم لا مانع من أن يكون حقيقيا إذ لا عصمة عندنا لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويفسر بما فسر أولا
وجوز أيضا أن يكون من باب خلاف الأولى بناء على ما قيل : إن ذنبهم كانالميل إلى القعود عن غزوة تبوك حيث وقعت في وقت شديد وقد تفسرالتوبة بالبراءة عن الذنب والصون عنه مجازا حيث إنه لا مؤاخذة
(11/39)

في كل وظاهر الإطلاق الحقيقة وفي الآية ما لا يخفى من التحريض والبعث على التوبة للناس كلهم الذين اتبعوه ولم يتخلفوا عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في ساعة العسرة أي في وقت الشدة والضيق والتعبير عنه بالساعة لزيادة تعيينه وكانت تلك الشدة حالهم في غزوة تبوك فإنهم كانوا في شدة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد في شدة من الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة أن قسم التمرة إثنان وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء كما روي عن قتادة وفي شدة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وفي شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط ومن هنا قيل لتلك الغزوة غزوة العسرة ولجيشهاجيش العسرة
ووصف المهاجرين والأنصار بالأتباع في هذه الساعة للإشارة إلى أنهم حريون بأن يتوب الله عليهم لذلك وفيه أيضا تأكيد لأمر التحريض السابق من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم بيان لتناهي الشدة وبلوغهاالغاية القصوى وهو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا عن النبي صلى الله عليه و سلم وقيل : هو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا عن الثبات على الإيمان وحمل ذلك علىمجرد الهم والوسوسة وقيل : كان ميلا من ضعفائهم وحديثي عهدهمبالإسلام وفي كاد ضمير الشأن و قلوب فاعل يزيغ والجملة في موضع الخبر لكاد ولا تحتاج إلى رابط لكونها خبرا عن ضمير الشأن وهو المنقول عن سيبويه وإضمار الشان على ما نقل عن الرضي ليس بمشهور في أفعال المقاربة إلا في كاد وفي الناقصة إلا في كان وليس وجوز أن يكون إسم كاد ضمير القوم والجملة في موضع الخبر أيضا والرابط عليه الضمير في منهم وهذا على قراءة يزيغ بالياء التحتانية وهي قراءةحمزة وحفص والأعمش وأما على قراءة تزيغ بالتاء الفوقانية وهي قراءة الباقين فيحتمل أن يكون قلوب إسم كاد و تزيغ خبرها وفيه ضمير يعود على إسمها ولا يصح هذا على القراءة الأولى لتذكير ضمير يزيغ وتأنيث ما يعود إليه وقد ذكر هذا الوجه منتخب الدين الهمداني وأبوطالب المكي وغيرهما وتعقبه في الكشف بأن في جعل القلوب إسم كاد خلافوضعه من وجوب تقديم إسمه على خبره كما ذكره الشيخ ابن الحاجب في شرح المفصل وفي البحر أن تقديم خبر كاد على إسمها مبني على جواز تركيب كان يقوم زيد وفيه خلاف والأصح المنع وأجاب بعض فضلاء الروم بأن أبا علي جوز ذلك وكفى به حجة وبأن عليه كلام ابن مالك في التسهيل وكذا كلام شراحه ومنهم أبو حيان وجرى عليه في إرتشافه أيضا ولا يعبأبمخالفته في البحر إذ مبني ذلك القياس على باب كان وهو لا يصادم النص عن أبي علي على أن في كون أبي حيان من أهل القياس منعا ظاهرافالحق الجواز ويحتمل أن يكون إسم كاد ضميرا يعود على جمع المهاجرين والأنصار أي من بعد ما كاد الجمع وقدر ابن عطية مرجع الضميرالقوم أي من بعد ما كاد القوم وضعف بأنه أضمر في كاد ضمير لايعود إلا على متوهم وبأن خبرها يكون قد رفع سببيا وقد قالوا : إنهلا يرفع إلا ضميرا عائدا على إسمها وكذا خبر سائر أخواتها ما عدا عسى فيرأى ولا يخفى ورود هذا أيضا على توجيهي القراءة الأولى لكن الأمر علىالتوجيه الأول سهل وجوز الرضي تخريج الآية على التنازع وهو ظاهر علىالقراءة الثانية ويتعين حينئذ إعمال الأول إذ لو أعمل الثاني لوجب أن يقال في الأول كادت كما قرأ به أبي رضي الله تعالى عنه
(11/40)

ولا يجوز كاد إلا عند الكسائي فإنه يحذف الفاعل وكأن الرضى لم يبال بما لزم على هذا التخريج من تقديم خبر كاد على إسمه لما عرفت من أنهليس بمحذور على ما هو الحق وذهب أبو حيان إلى أن كاد زائدة ومعناها مراد ككان ولا عمل لها في إسم ولا خبر ليخلص من القيل والقال ويؤيده قراءة ابن مسعود من بعدما زاغت بإسقاط كاد وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في نحو لم يكد مع أنها عاملة فهذا أولى
وقرأ الأعمش تزيغ بضم التاء وجعلوا الضمير على قراءة ابن مسعود للمتخلفين سواء كانوا من المنافقين أم لا كأبي لبابة ثم تاب عليهم تكرير للتأكيد بناء على أن الضمير للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمهاجرين والأنصار رضيالله تعالى عنهم والتأكيد يجوز عطفه بثم كما صرح به النحاة وإن كان كلام أهل المعاني يخالفه ظاهرا وفيه تنبيه على أن توبته سبحانهفي مقابلة ما قاسوه من الشدائد كما دل عليه التعليق بالموصول ويحتمل أن يكون الضمير للفريق والمراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم وقربهم من الزيغ لأنه جرم محتاج إلى التوبة عليه فلا تكرار لما سبق وقوله : إنه بهم رءوف رحيم 117 إستئناف تعليلي فإن صفةالرأفة والرحمة من دواعي التوبة والعفو وجوز كون الأول عبارة عن إزالة الضرر والثاني عن إيصال النفع وأن يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق وعلى الثلاثة عطف على النبي وقيل : إن تاب مقدر في نظم الكلام لتغاير هذه التوبة والتوبة السابقة وفيه نظر أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا أي خلف أمرهم وأخر عن أمر أبي لبابة وأصحابه حيث لم يقبل منهم معذرة مثل أولئك ولا ردت ولم يقطع في شأنهم بشيء إلى أن نزل الوحي بهم فالإسناد إليهم إما مجازا أو بتقدير مضاف في النظم الجليل وقد يفسر المتعدي باللازم أي الذين تخلفوا عن الغزووهم كعب بن مالك من بني سلمة وهلال بن أمية من بني واقف ومرارةبن الربيع من بني عمرو بن عوف ويقال فيه ابن ربيعة وفي مسلم وغيره وصفه بالعامري وصوب كثير من المحدثين العمري بدله
وقرأ عكرمة ورزين بن حبيش وعمرو بن عبيد خلفوا بفتح الخاء واللام خفيفة أي خلفوا الغازين بالمدينة أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم وقرأ علي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهم وأبو عبدالرحمن السلمي خالفوا وقرأ الأعمش : وعلى المخلفين وظاهر قوله تعالى : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض أنه غاية للتخليف بمعنى تأخير الأمر أي أخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي برحبها وسعتها لأعراض الناس عنهم وعدم مجالستهم ومحادثتهم لهم لأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بذلك وهو مثل لشدة الحيرة والمراد أنهم لم يقروا في الدنيا مع سعتها وهو كما قيل : كأن بلاد الله وهي فسيحة على الخائف المطلوب كفة حابل وضاقت عليهم أنفسهم أي قلوبهم وعبر عنها بذلك مجازا لأن قيامالذوات بها ومعنى ضيقها غمها وحزنها كأنها لا تسع السرور لضيقها وفي هذا ترق من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم في أنفسهم
(11/41)

وهو في غاية البلاغة وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه أي عملوا أنلا ملجأ من سخطه إلا إلى إستغفاره والتوبة إليه سبحانه وحمل الظن علىالعلم لأنه المناسب لهم ثم تاب عليهم أي وفقهم للتوبة ليتوبوا أو أنزل قبول توبتهم في القرآن وأعلمهم بها ليعدهم المؤمنون في جملة التائبين أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على التوبة ويستمروا عليها وقيل : التوبة ليست هي المقبولة والمعنى قبل توبتهم من التخلف ليتوبوا في المستقبل إذ صدرت منهم هفوة ولا يقنطوا من كرمه سبحانه إن الله هو التواب المبالغ في قبولالتوبة لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة الرحيم 118 المتفضل عليهم بفنون الآلاء مع إستحقاقهم لأفانين العقاب
أخرج عبدالرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والبيهقي من طريق الزهري قال : أخبرني عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك أن عبدالله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في غزاة تبوك قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاقب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر وكان من خبري حين تخلفت عن رسولالله صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما فيتلك الغزاة وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حر شديد وإستقبل سفرا بعيداومفاوز وإستقبل عدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم وأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كثير لايجمعهم كتاب حافظ يريد الديوان قال كعب فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز و جل وغزا رسولالله صلى الله تعالى عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل وأنا إليها أصغرهم فتجهز إليها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى إستمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غاديا والمسلون معه ولم أقض من جهازي شيئا وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت يوم ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى إنتهوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم وليت أني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي وطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم يحزنني أن لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذره الله تعالى ولم يذكرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك قال رجل
(11/42)

من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلىالله تعالى عليه وسلم فلما بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني شيء فطفقت أتفكر الكذب وأقول : بماذا أخرج من سخطه غدا أستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا فأجمعتصدقه فأصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علانيتهم وإستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت عليه عليه الصلاة و السلام تبسم تبسم المغضب ثم قال لي : تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : ما خلفك ألم تكن قد أشتريت ظهرك فقلت : يارسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا أرأيت أن أخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضىعني به ليوشكن الله تعالى بسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليفيه أني لأرجو فيه عقبي من الله تعالى والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أماهذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله تعالى فيك فقمت وبادرني رجال من بني سلمة وإتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذاولقد عجزت أن لا تكون إعتذرت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما إعتذر بهالمتخلفون ولقد كان كافيك من ذنبك إستغفار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : فو الله ما زالوا يرايبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت : هل لقي هذا معي أحد قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت : من هما قالوا : مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدوا بدرا لي فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي قال : ونهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بينمن تخلف عنه فإجتنبنا الناس وتغير لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فإستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أشهد الصلاةمع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو فيمجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت علي صلاتي أقبل إلي فإذا إلتفت نحوه أعرض حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد السلام علي فقلت له : أبا قتادة أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم قال : فسكت فعدت فنشدته فسكت فعدت فنشدته فقال : الله تعالى ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فإذا فيه : أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله تعالى بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك فقلت حين قرأتها : وهذه أيضامن البلاء فتيممت بها التنور
(11/43)

فسجرته فيها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأتيني فقال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرك أن تعتزل إمرأتك قلت أطلقها أم ماذا أفعل قال بل إعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت : لإمرأتي إلحقي بأهلك لتكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الإمر فجاءت إمرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع وليس له خادم فهل تكره أن أخدمه فقال : لا ولكن لا يقربنك قالت : وإنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمره ما كان إلى يومه هذا فقال لي بعض أهلي : لو إستأذنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في إمرأتك فقد أذن لإمرأة هلال أن تخدمه فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما أدري ماذا يقول إذا إستأذنته وأنا رجل شاب قال : فلبثت عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى عنا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج فآذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتوبة الله تعالى علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلى رجل فرسا وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي وكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما يؤمئذ فإستعرت ثوبين فلبستهما فإنطلقت أؤم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنؤنني بالتوبة يقولون : ليهنك توبة الله تعالى عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس في المسجد حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال : لا بل من عند الله تعالى وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سر إستنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم قال : أمسك بعض مالك فهو خير لك قلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت : يارسول ألله إنما نجاني الله تعالى بالصدق وإن من توبتي أن لاأحدث إلا صدقا ما بقيت فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين إبلاه الله تعالى في الصدق بالحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحسن مما أبلاني ألله تعالى والله ما تعمدت كذبه منذ قلت ذلك إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي قال : وأنزل الله تعالى لقد تاب الآية فوالله ما أنعم الله تعالى علي من نعمة قط بعد أن هداني الله سبحانه للإسلام عظم في نفسي من صدقي رسول الله عليه الصلاة و السلام يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إلى قوله سبحانه : الفاسقين
وجاء في رواية عن كعب رضي الله تعالى عنه قال : نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي رسول الله صلى
(11/44)

الله تعالى عليه وسلم أو يموت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي فأنزل الله تعالى توبتنا على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم حين بقى الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى الله عليه و سلم عند أم سلمة وكانت محسنة في شأني معينة في أمري فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ياأم سلمة تيب على بن كعب بن مالك قالت : أفلا أرسل إليه أبشره قال تحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل حتى إذا صلى صلى الله تعالى عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله تعالى علينا
هذا وفي وصفه سبحانه هؤلاء بما وصفهم به دلالة وأية دلالة على قوةإيمانهم وصدق توبتهم وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب ابن مالك وصاحبيه ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله فيما لايرضاه وكونوا مع الصادقين 119 أي مثلهم في صدقهم : وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يقرأ وكونوا من الصادقين وكذا وروى البيهقي وغيره عن ابن مسعود أنه كان يقرأ كذلك والخطاب قيل : لمن آمن من أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن عباس فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في إيمانهم معاهدتهم الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم على الطاعة : وجوز أن يكون عاما لهم ولغيرهم فيكون المراد بالصادقين الدين صدقوا في الدين نية وقولا وعملا وأن يكون خاصا بمن تخلف وربط نفسه بالسواري فالمناسب أن يراد بالصادقين الثلاثة أي كونوا مثلهم في الصدق وخلوص النية
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن نافع أن الآية نزلت في الثلاثة الذين خلفوا والمراد بالصادقين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه وبذلك فسره ابن عمر كما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره وعن سعيد بن جبير أن المراد كونوا مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما
وأخرج ابن عساكر وآخرون عن الضحاك أنه قال : أمروا أن يكونوا مع أبي بكر وعمر وأصحابهما وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابنعساكر عن أبي جعفر أن المراد كونوا مع علي كرم الله تعالى وجهه وبهذا إستدل بعض الشيعة على أحقيته كرم الله تعالى وجهه بالخلافة وفساده على فرض صحة الرواية ظاهر وعن السدي أنه فسر ذلك بالثلاة ولم يتعرض للخطاب والظاهر عموم الخطاب ويندرج فيه التائبون إندراجا أوليا وكذا عموم مفعول اتقوا ويدخل فيه المعاملة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمر المغازي دخولا أوليا أيضا وكذا عموم الصادقين ويراد بهم ماتقدم على إحتمال عموم الخطاب
وفي الآية مالا يخفى من مدح الصدق وإستدل بها كما قال الجلال السيوطي من لم يبح الكذب في موضع من المواضع لا تصريحا ولا تعريضا وأخرج غيرواحد عن ابن مسعود أنه قال لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئا ثم لا ينجزه وتلا الآية والأحاديث في ذمه أكثر من أن تحصى والحق إباحته في مواضع فقد أخرج ابن أبي شيبه وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب في خديعة حرب أو إصلاح بين إثنين أو رجل يحدث إمرأته ليرضيها وكذا إباحة المعاريض فقد أخرج ابن عدي عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ما كان أي ماصح ولا إستقام لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب كمزينة وجهينة
(11/45)

وأشجع وغفار وأسلم وإضرابهم أن يتخلفوا عن رسول الله عند توجهه عليه الصلاة و السلام إلى الغزو ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أي لا يصرفوها عن نفسه الكريمة ولا يصونوها عما لم يصنها عنه بل يكابدون مايكابده من الشدائد وأصله لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لأنفسهم المكاره ولا يكرهوها له عليه الصلاة و السلام بل عليهم أن يعكسوا القضية وإلى هذا يشير كلام الواحدي حيث قال : يقال رغبت بنفسي عن هذا اللإمر أي ترفعت عنه وفي النهاية يقال : رغبت بفلان عن هذا الأمر أي كرهت له ذلك
وجوز في يرغبوا النصب بعطفه على يتخلفوا المنصوب بأن وإعادة لا لتذكير النفي وتأكيده وهو الظاهر والجزم على النهي وهو المراد من الكلام إلا أنه عبر عنه بصيغة النفي للمبالغة وخص أهل المدينة بالذكر لقربهم منه عليه الصلاة و السلام وعلمهم بخروجه وظاهر الآية وجوب النفير إذا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الغزو بنفسه
وذكر بعضهم أنه إستدل بها على أن الجهاد كان فرض عين في عهده علي الصلاة والسلام وبه قال ابن بطال : وعلله بأنهم بايعوه عليه عليه الصلاة و السلام فلا يجب النفير مع أحد من الخلفاء مالم يلم العدو ولم يمكن دفعه بدونه وقدر بعضهم في الآية مضافا إلى رسول الله أي أن يتخلفوا عن حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو خلاف الظاهر وعليه يكون الحكم عاما وفيه بحث
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن زيد أن حكم الآية حين كان الإسلام قليلا فلما كثر وفشا قال الله تعالى : وماكان للمؤمنين لينفروا كافة وأنت تعلم أن الإسلام كان فاشيا عند نزول هذه السورة ولا يخفى مافي الآية من التعريض بالمتخلفين رغبة باللذائذ وسكونا إلى الشهوات غير مكترثين بما يكابد عليه الصلاة و السلام وقد كان تخلف جماعة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم كما علمت لذلك وجاء أن أناسا من المسلمين تخلفوا ثم أن منهم من ندم وكره مكانه فلحق برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غير مبال بالشدائد كأبي خيثمة فقد روى أنه رضى الله تعالى عنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد فنظر فقال : ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وإمرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه و سلم في الضح والريح ماهذا بخير مقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلى الله عليه و سلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال عليه الصلاة و السلام : كن أبا خيثمة فكانه ففرح به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستغفر له ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام من وجوب المشايعة بأنهم أي بسبب أنهم لا يصيبهم ظمأ أي شيء من العطش وقرىء بالمد والقصر ولا نصب ولا تعب ما ولا مخمصة ولا مجاعة ما في سبيل الله في جهاد أعدائه أو في طاعته سبحانه مطلقا ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار أي يغضبهم ويضيق صدورهم والوطء الدوس بالأقدام ونحوها كحوافر الخيل وقد يفسر بالإيقاع والمحاربة ومنه قوله صلى الله عليه و سلم آخر وطأة وطأها الله تعالى بوج والموطىء ايم مكان على الأشهر الأظهر وفاعل يغيظ ضميره بتقدير مضاف أي يغيظ وطؤه لأن المكان نفسه لا يغيظ ويحتمل أن يكون ضميرا عائدا إلى
(11/46)

الوطء الذي في ضمنه وإذا جعل الموطىء مصدرا كالمورد فالأمر ظاهر ولاينالون أي ولا يأخذون من عدو نيلا أي شيئا من الأخذ فهو مصدر كالقتل والأسر والفعل نال ينيل وقيل : نال ينول فأصل نيلا نولا فأبدلت الواو ياء على غير القياس ويجوز أن يكون بمعنى المأخوذ فهو مفعول به لينالون أي لا ينالون شيئا من الأشياء الا كتب لهم به أي بالمذكور وهو جميع ماتقدم ولذا وحد الضمير ويجوز أن يكون عائدا على كل واحد من ذلك على البدل : قال النسفي وحد الضمير لأنه لما تكررت لا صار كل واحد منها على البدل مفردا بالذكر مقصودا بالوعد ولذا قال فقهاؤنا : لو حلف لا يأكل خبزا ولا لحما حنث بواحد منهما ولو حلف لا يأكل لحما وخبزا لم يحنث إلا بالجمع بينهما والجملة في محل نصب على الحال من ظمأ وما عطف عليه أي لايصيبهم ظمأ ولا كذا إلا مكتوبا لهم به عمل صالح أي ثواب ذلك فالكلام بتقدير مضاف وقد يجعل كناية عن الثواب وأول بهلأنه المقصود من كتابة الأعمال والتنوين للتفخيم والمراد أنهم يستحقون ذلك إستحقاقا لازما بمقتضى وعده تعالى لا بالوجوب عليه سبحانه وإستدل بالآية على أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكرا من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد إنقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يعيظهم ولقد أسهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لإبني عامر وقد قدما بعض تقضي الحرب وإستدل بها على مانقل الجلال السيوطي أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على جواز الزنا بنساء أهل الحرب في دار الحرب إن الله لا يضيع أجر المحسنين 120 على إحسانهم والجملة في موضع التعليل للكتب والمراد بالمحسنين إما المبحوث عنهم ووضع المظهر موضع المضمر لمدحهم والشهادة لهم بالإنتظام في سلك المحسنين وأن أعمالهم من قبيل الإحسان وللإشعار بعلية المأخذ للحكم وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا ولا ينفقون نفقة صغيرة ولو تمرة أو علاقة سوط ولا كبيرة كما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة وذكر الكبيرة بعد الضعيرة وأن علم من الثوةاب على الأولى الثواب على الثانية لأن المقصود التعميم لا خصوص المذكور إذ المعنى ولا ينفقون شيئا ما فلا يتوهم أن الظاهر العكس وفي إرشاد العقل السليم أن الترتيب بإعتبار كثرة الوقوع وقلته وتوسيط لا للتنصيص على إستبداد كل منهما بالكتب والجزاء لا لتاكيد النفي كما في قوله تعالى شأنه : ولا يقطعون أي ولا يتجاوزون في سيرهم لغزو واديا وهو في الأصل إسم فاعل من ودي اذا سال فهو بمعنى السيل نفسه ثم شاع في محله وهو المنعرج من الجبال والآكام التي يسيل فيها الماء ثم صار حقيقة في مطلق الأرض وبجمع على أودية كناد على أندية وناج على أنجية ولا رابع لهذه على ماقيل في كلام العرب الا كتب لهم أي ثبت لهم أو كتب في الصحف أو اللوح ولا يفسر الكتب بالإستحقاق لمكان التعليل بعد وضمير كتب على طرز ماسبق أي المذكور أو كل واحد وقيل : هو للعمل وليس بذاك وفصل هذا وأخر لأنه أهون مما قبله ليجزيهم الله بذلك أحسن ماكانوا يعملون 121 أي أحسن جزاء أعمالهم على معنى أن لأعمالهم جزاء حسنا وأحسن وهو سبحانه إختار لهم أحسن جراء
(11/47)

فإنتصاب أحسن على المصدرية لاضافته الى مصدر محذوف
وقال الامام : فيه وجهان الأول أن الأحسن صفة عملهم وفيه الواجب والمندوب والمباح فهو يجزيهم على الأولين دون الأخير والظاهر أن نصب أحسن حينئذ على أنه بدل إشتمال من ضمير يجزيهم كما قيل وأورد عليه أنه ناء عن المقام مع قلة فائدته لأن حاصله أنه تعالى على الواجب والمندوب وأن ماذكر منه ولايخفى ركاكته وأنه غير خفي على أحد وكونه كناية عن العفو عما فرط منهم في خلاله أن وقع لأن تخصيص الجزاء به يشعر بأنه لا يجازي على غيره خلاف الظاهر ثم قال : الثاني أن الأحسن صفة للجزاء أي ليجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل وهوالثواب وإعتراضه أبو حيان بأنه إذا كان الأحسن صفة الجزاء كيف يضاف إلى الأعمال وليس بعضا منها وكيف يفضل عليهم بدون من ولا وجه لدفعه بأن أصله مما كانوا إلخ فحذف من مع بقاء المعنى على حاله كما قيل لأنه لامحصل له هذا ووصف النفقة بالصغيرة والكبيرة دون القليلة والكثيرة مع أن المراد ذلك قيل حملا للطاعة على المعصية فانها إنما توصف بالصغيرة والكبيرة في كلامهم دون القليلة والكثيرة فتأمل وماكان للمؤمنين لينفروا كافة أي ما إستقام لهم أن يخرجوا إلى الغزو جميعا روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا : لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ففعلوا ذلك و بقي رسول الله صلى الله عليه و سلم وحده فنزل وماكان إلخ والمراد نهيهم عن النفير جميعا لما فيه من الإخلال بالتعلم فلو لا نفر لولا هنا تحضيضية وهي مع الماضي تفيد التوبيخ على ترك الفعل ومع المضارع تفيد طلبه والأمر به لكن اللوم على الترك فيما يمكن تلافيه قد يفيد الأمر به في المستقبل أي فهلا نفر من كل فرقة أي جماعة كثيرة منهم كأهل بلدة أو قبيلة عظيمة طائفة أي جماعة قليلة وحمل الفرقة والطائفة على ذلك مأخوذ من السياق ومن التبعيضية لأن البعض في الغالب أقل من الباقي وإلا فالجوهري لم يفرق بينهما وذكر بعضهم أن الطائفة قد تقع على الواحد وآخرون أنها لا تقع وأن أقلها إثنان وقيل : ثلاثة ليتفقهوا في الدين أي ليتكلفوا الفقاهة فيه فصيغة التفعل للتكلف وليس المراد به معناه المتبادر بل مقاساة الشدة في طلب ذلك لصعوبته فهو لا يحصل بدون جد وجهد ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون 122 أي عما ينذرون منه وضمير يتفقوا وينذروا عائد إلى الفرقة الباقية المفهومة من الكلام وقيل : لابد من إضمار وتقدير أي فلو لا نفر من كل فرقة طائفة وأقام طائفة ليتفقهوا إلخ
وكان الظاهر أن يقال : ليعلموا بدل لينذروا ويفقهون بدل يحذرون لكنه إختير مافي النظم الجليل للإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم الإرشاد والإنذار وغرض المتعلم إكتساب الخشية لا التبسط والإستكبار
قال حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة : كان إسم الفقه في العصر الأول إسما لعلم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة وإستيلاء الخوف على القلب وتدل عليه هذه الآية فما به الإنذار والتخويف هو الفقه تعريفات الطلاق والعان والسلم والإجارات وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه فقال : إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن : ثكلتك أمك هل رأيت
(11/48)

فقيها يعنيك إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع الفتاوي وهو من الحسن بمكان ولكن الشائع إطلاق الفقيه على من يحفظ الفروع مطلقا سواء كانت بدلائلها أم لا كما في التحرير وفي البحر عن المنتقى مايوافقة وإعتبر في القنية الحفظ مع الأدلة فلا يدخل في الوصية للفقهاء من حفظ بلا دليل وعن أبي جعفر أنه قال : الفقيه عندنا من بلغ في الفقه الغاية القصوى وليس المتفقه بفقيه وليس له من الوصية نصيب والظاهر أن المعتبر في الوصية ونحوهاالعرف وهو الذي يقتضيه كلام كثير من أصحابنا وذكر غير واحد أن تخصيص الإنذار بالذكر لأنه الأهم وإلا فالمقصود الإرشاد الشامل لتعليم السنن والآداب والواجبات والمباحات والإنذار أخص منه ودعوى أنهما متلازمان وذكر أحدهما مغن عن الآخر غفلة أو تغافل وذهب كثير من الناس إلى أن المراد من النفر النفر والخروج لطلب العلم فالآية ليست متعلقة بما قبلها من أمر الجهاد بل لما بين سبحانه وجوب الهجرة والجهاد وكل منهما سفر لعبادة فبعدما فضل الجهاد ذكر السفر الآخر وهوالهجرة لطلب العلم فضمير يتفقهوا وينذروا للطائفة المذكورة وهي النافرة وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد فقد أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما أنه قال : إن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ماينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال لهم الناس : مانراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت هذه الآية وماكان المؤمنون إلخ أي لولا خرج بعض وقعد بعض يبتغون الخير ليتفقهوا في الدين وليسمعوا ماأنزل ولينذروا الناس إذا رجعوا إليهم
واستدل بذلك على أن التفقه في الدين من فروض الكفاية وما في كشف الحجاب عن أبي سعيد طلب العلم فريضة على كل مسلم على تضعيف الصغاني له ليس المراد من العلم فيه إلا مايتوقف عليه آداء الفرائض ولا شك في أن تعلمه فرض على كل مسلم وذكر بعضهم أن في الآية دلالةعلى أن خبر الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر قومها كي يتذكروا ويحذروا فلولم يعتبر الأخبار مالم تتواتر لم يفد ذلك وقرر بعضهم وجه الدلالة بأمرين الأول أنه تعالى أمر الطائفة بالإنذار وهو يقتضي فعل المأمور به وإلا لم يكن إنذارا والثاني أمره سبحانه القوم بالحذر عند الإنذار لأن معنى قوله تعالى : لعلهم يحذرون ليحذروا وذلك أيضا يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد وهذه الدلالة قائمة على أي تفسير شئت من التفسرين ولا يتوقف الإستدلال بالآية على ما ذكر على صدق الطائفة على الواحد الذي هو مبدأ الإعداد بل يكفي فيه صدقها على مالم يبلغ حد التواتر وإن كان ثلاثة فأكثر وكذا لا يتوقف على أن لايكون الترجي من المنذرين بل يكون من الله سبحانه ويراد منه الطلب مجازا كما لايخفى
يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار أي الذين يقربون منكم قربا مكانيا وخص الأمر به مع قوله سبحانه في أول السورة : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ونحوه قيل : لأنه من المعلوم أنه لايمكن
(11/49)

قتال جميع الكفار وغزو جميع البلاد في زمان واحد فكان من قرب أولى ممن بعد ولأن ترك الأقرب والإشتغال بقتال ألابعد لا يؤمن معه من الهجومعلى الذراري والضعفاء وأيضا الأبعد لاحد له بخلاف الأقرب فلا يؤمر به وقد لايمكن قتال الأبعد قبل قتال الأقرب وقال بعضهم : المراد قاتلوا الأقرب فالأقرب حتى تصلوا إلى الأبعد فالأبعد وبذلك يحصل الغرض من قتال المشركين كافة فهذا إرشاد إلى طريق تحصيله على الوجه الأصلح
ومن هنا قاتل صلى الله عليه و سلم أولا قومه ثم إنتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال قريظة والنضير وخيبر وأضرابهم ثم إلى قتال الروم فبدأ عليه الصلاة و السلام بقتال الأقرب فالأقرب وجرى أصحابه على سننه صلى الله عليه و سلم إلى أن وصلت سراياهم وجيوشهم إلى ماشاء الله تعالى وعلى هذا نسخ وروي عن الحسن أن الآية منسوخة مما تقدم والمحققون على أنه لا وجه له وزعم الخازن تبعا لغيره أن المراد من الولي ما يعم القرب المكانيوالنسبي وهو خلاف الظاهر وقيل : إنه خاص بالنسبي لأنها نزلت لماتحرج الناس من قتل أقربائهم ولا يخفى ضعفه
وليجدوا فيكم غلظة أي شدة كما قال ابن عباس وهي مثلثة الغين وقرىء بذلك لكن السبعة على الكسر والمراد من الشدة مايشمل الجراءةوالصبر على القتال والعنف في القتل والأسر ونحو ذلك ومن هنا قالوا : إنها كلمة جامعة والأمر على حد لا أرينك ههنا فليس المقصود أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين ذلك بل أمر المؤمنين بالإتصاف بما ذكرحتى يجدهم الكفار متصفين به واعلموا أن الله مع المتقين 123 بالعصمة والنصرة والمراد بهم إما المخاطبون والإظهار للتنصيص علىأن الإيمان والقتال على الوجه المذكور من باب التقوى والشهادة بكونهم من زمرة المتقين وأما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وأيا ما كان فالكلام تعليل تأكيد قبله وإذا ما أنزلت سورة من سور القرآن فمنهم أي من المنافقين كما روي عن قتادة وغيره من يقول علىسبيل الإنكار والإستهزاء لإخوانه ليثبتهم على النفاق أو لضعفة المؤمنين ليصدهم عن الإيمان أيكم زادته هذه السورة إيمانا وقرأ عبيد بن عمير أيكم بالنصب على تقدير فعل يفسره المذكور ويقدر مؤخرا لأن الإستفهام له الصدر أي أيكم زادت زادته إلخ
وإعتبار الزيادة على أول الإحتمالين في المخاطبين بإعتبار إعتقاد المؤمنين فأما الذين آمنوا جواب من جهته تعالى شأنه وتحقيق للحق وتعيين لحالهم عاجلا وآجلا وقال بعض المدققين : إن الآية دلت على أنهم مستهزئون وأن إستهزاءهم منكر فجاء قوله تعالى : فأما الذينآمنوا وأما الذين في قلوبهم مرض إلخ تفصيلا لهذين القسمين وجعلذلك الطيبي تفصيلا لمحذوف وبينه بما لا يميل القلب إليه وأيا ما كان فجواب إذا جملة فمنهم إلخ وليس هذا وما بعده عطفا عليه أي فأما الذين آمنوا بالله سبحانه وبما جاء من عنده فزادتهم إيمانا أي تصديقا لأن ذلك هو المتبادر من الإيمان كما قرر في محله وقبول التصديق نفسه الزيادة والنقص والشدة والضعف مما قال به جمع من المحققين وبه أقول لظواهر الآيات والأخبار ولو كشف لي الغطاء ما إزددت يقينا ومن لم يقبل قبوله للزيادة ولم يدخل الأعمال في الإيمان قال : إن زيادته بزيادة متعلقه والمؤمن به وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قيل : ويلزمه أن لا يزيد اليوم لإكمال الدين وعد متجدد متعلق وفيه نظر وإن قاله من تعقد عليه الخناصر وتعتقد بكلامه الضمائر ومن لم يقبل وأدخل الأعمال فالزيادة وكذا مقابلها ظاهرة عنده وهم يستبشرون 124
(11/50)

بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم ورفع درجاتهم بل هو لعمري أجدى من تفاريق العصا
وأما الذين في قلوبهم مرض أي نفاق فزادتهم رجسا إلى رجسهم أي نفاقا مضموما إلى نفاقهم فالزيادة متضمنة معنى الضم ولذا عديت بإلى وقيل : إلى بمعنى مع ولا حاجة إليه وماتوا وهم كافرون 125 وإستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا عليه أولا يرون يعني المنافقين والهمزة للإنكار والتوبيخ والكلام في العطف شهير وقرأ حمزة ويعقوب وأبي كعب بالتاء الفوقانية على أن الخطاب للمؤمنين والهمزة للتعجيب أي أولا يعلمون وقيل أولا يبصرون أنهم أي المنافقين يفتنون في كل عام من الأعوام مرة أو مرتين بأفانين البليات من المرض والشدة مما يذكر الذنوب والوقوف بين يدي علام الغيوب فيؤدي إلى الإيمان به تعالى والكف عما هم عليه وفي الخبر إذا مرض العبدثم عوفي ولم يزدد خيرا قالت الملائكة : هو الذي داويناه فلم ينفعه الدواء فالفتنة هنا بمعنى البلية والعذاب وقيل : هي بمعنى الإختبار والمعنى أولا يرون أنهم يختبرون بالجهاد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيعاينون ما ينزل عليه من الآيات لا سيما الآيات الناعية عليهم قبائحهم ثم لايتوبون عماهم فيه ولاهم يذكرون 126 ولا يعتبرون والجملة على قراءة الجمهور عطف على يرون داخل تحت الإنكار والتوبيخ وعلى القراءة الأخرى عطف على يفتنون والمراد من المرة والمرتين على ما صرح به بعضهم مجرد التكثير لا بيان الوقوع على حسب العدد المزبور وقرأ عبدالله أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ومايتذكرون
وإذا ماأنزلت سورة بيان لأحوالهم عند نزولها وهم في محفل تبليغ الوحي كما أن الأول بيان لمقالاتهم وهم غائبون عنه نظر بعضهم إلى بعض ليتواطؤا على الهرب كراهة سماعها قائلين إشارة : هل يراكم من أحد أي هل يراكم أحد من المسلمين إذا قمتم من المجلس أو تغامزوا بالعيون إنكارا وسخرية بها قائلين هل يراكم أحد لننصرف مظهرين أنهم لا يصطبرون على إستماعها ويغلب عليهم الضحك فيفتضحون والسورة على هذا مطلقة وقيل : إن نظر بعضهم إلى بعض وتغامزهم كان غيظا لما في السورة من مخازيهم وبيان قبائحهم فالمراد بالسورة سورة مشتملة علىذلك والإطلاق هو الظاهر وأيا ما كان فلا بد من تقدير القول قبلالإستفهام ليرتبط الكلام فإن قدر إسما كان نصبا على الحال كما أشرنا إليه وإن قدر فعلا كانت الجملة في موضع الحال أيضا ويجوز جعلها مستأنفة وإيراد ضمير الخطاب لبعث المخاطبين على الحزم فإن المرء بشأنه أكثر إهتماما منه في شأن أصحابه كما في قوله تعالى : وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا ثم انصرفوا عطف على نظر بعضهم والتراخي بإعتبار وجود الفرصة والوقوف على عدم رؤية أحد من المؤمنين أي ثم إنصرفوا جميعا عن محفل الوحي لعدم تحملهم سماع ذلك لشدة كراهتهم أومخافة الفضيحة بغلبة الضحك أو الإطلاع على تغامزهم أو إنصرفوا عنالمجلس بسبب الغيظ وقيل : المراد إنصرافهم عن الهداية والأول أظهر
صرف الله قلوبهم عن الإيمان حسب إنصرافهم عن ذلك المجلس والجملة تحتمل الإخبار والدعاء وإختار الثاني أبو مسلم وغيره من المعتزلة ودعاؤه تعالى على عباده وعيد لهم وإعلام بلحوق العذاب بهم وقوله سبحانه :
(11/51)

بأنهم قيل متعلق بصرف على الإحتمال الأول وبإنصرفوا على الثاني والباء للسببية أي بسبب أنهم قوم لايفقهون 127 لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم فهم إما حمقى أو غافلون لقد جاءكم الخطاب للعرب رسول أي رسول عظيم القدر من أنفسكم أي من جنسكم ومن نسبكم عربي مثلكم أخرج عبد ابن حميد وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه و سلم مضريها وربيعتها ويمانيها وقيل : الخطاب للبشر على الإطلاق ومعنى كونه عليه الصلاة و السلام من أنفسهم أنه من جنس البشر وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن محيصن والزهري أنفسكم أفعل تفضيل من النفاسة والمراد الشرف فهو صلى الله عليه و سلم من أشرف العرب أخرج الترمذي وصححه والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد بلغه بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال : من أنا قالوا : أنت رسول الله قال : أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة وجعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا وأخرج البخاري والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه وأخرج مسلم وغيره عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن اللهتعالى إصطفى من ولد إبراهيم اسمعيل وإصطفى من ولد إسمعيل بني كنانة وإصطفى من بني كنانة قريشا وإصطفى من قريش بني هاشم وإصطفاني من بني هاشم وروى البيهقي عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ما إفترق الناس فرقتين إلا جعلني الله تعالى في خيرهما فأخرجت من بين أبوي فلم يصيبني شيء من عهرالجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى إنتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا عزيز عليه أي شديد شاق من عز عليه بمعنى صعب وشق ما عنتم أي عنتكم وهوبالتحريك ما يكره أي شديد عليه ما يلحقكم من المكروه كسوء العاقبةوالوقوع في العذاب ورفع عزيز على أنه صفة سببية لرسول وبه متعلق عليه وفاعله المصدر وهو الذي يقتضيه ظاهرالنظم الجليل وقيل : إن عزيز عليه خبر مقدم و ما عنتم مبتدأ مؤخر والجملة في موضعالصفة وقيل : إن عزيز نعت حقيقي لرسول وعنده تم الكلام و عليهما عنتم إبتداء كلام أي يهمه ويشق عليه عنتكم حريص عليكم أي على إيمانكم وصلاح شأنكم لأن الحرص لا يتعلق بذواتهم بالمؤمنين منكم ومن غيركم رؤوف رحيم 128 قيل : قدم الأبلغ منهما وهو الرأفة التي هي عبارة عن شدة الرحمة رعاية للفواصل وهو أمر مرعي في القرآن وهو مبني على ما فسر به الرأفة وصحح أن الرأفة الشفقة والرحمة الإحسان وقد يقال : تقديم الرأفة بإعتبار أن آثارها دفع المضار وتأخير الرحمة بإعتبار أن آثارها جلب المنافع والأول أهم من الثاني ولهذا قدمت في قوله سبحانه : رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ولا يجري هنا أمر الرعاية كما لا يخفى وكأن الرأفة على هذا مأخوذة من رفو الثوب لإصلاح شقه فيكون في وصفه صلى الله عليه و سلم بما ذكر وصف له بدفع الضرر عنهم وجلب المصلحة لهم ولم يجمع هذان الإسمان لغيره عليه الصلاة و السلام وزعمبعضهم أن المراد رءوف بالمطيعين منهم رحيم بالمذنبين وقيل : رءوف
(11/52)

بأقربائه رحيم بأوليائه وقيل : رءوف بمن يراه رحيم بمن لم يره ولا مستند لشيء من ذلك فإن تولوا تلوين للخطاب وتوجيه له إليه صلى الله عليه و سلم تسلية له أي فإن أعرضوا عن الإيمان بك فقل حسبي الله فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم لا إله إلا هو إستئناف كالدليل لما قبله لأن المتوحد بالألوهية هو الكافي المعين عليه توكلت فلا أرجو ولا أخاف إلا منه سبحانه وهو رب العرش أي الجسم المحيط بسائر الأجسام ويسمى بفلك الأفلاك وهو محدد الجهات العظيم الذي لا يعلم مقدار عظمته إلا الله تعالى وفي الخبر أن الأرض بالنسبة إلى السماءالدنيا كحلقة في فلاة وكذا السماء الدنيا بالنسبة إلى السماء التيفوقها وهكذا إلى السماء السابعة وهي بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة وهو بالنسبة إلى العرش كذلك وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهلا يقدر قدره أحد وذكر أهل الإرصاد أن بعد مقعر الفلك الأعظم من مركز العالم ثلاثة وثلاثون ألف ألف وخمسمائة وأربعة وعشرون ألفا وستمائة وتسع فراسخ وأن بعد محدبه منه قد بلغ مرتبة لا يعلمها إلا الله الذيلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو بكل شيء عليم وقد يفسرالعرش هنا بالملك وهو أحد معانيه كما في القاموس وقرىء العظيم بالرفع على أنه صفة الرب وختم سبحانه هذه السورة بما ذكرلأنه تعالى ذكر فيها التكاليف الشاقة والزواجر الصعبة فأراد جل شأنهأن يسهل عليهم ذلك ويشجع النبي صلى الله عليه و سلم على تبليغه وقد تضمن من أوصافهصلى الله تعالى عليه وسلم والكريمة ما تضمن وقد بدأ سبحانه من ذلك بكونه من أنفسهم لأنه كالأم في هذا الباب ولا ينافي وصفه صلى الله عليه و سلم بالرأفة والرحمة بالمؤمنين تكليفه إياهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة لأن هذا التكليف أيضا من كمال ذلك الوصف من حيث أنه سبب للتخلص من العقاب المؤبد والفوز بالثواب المخلد ومن هذا القبيل معاملته صلى الله تعالى عليه وسلم للثلاثة الذين خلفوا كما علمت وما أحسن ماقيل : فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم وهاتان الآيتان على ماروي عن أبي بن كعب آخر ما نزل من القرآن لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أنه قال : آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وآخر سورة نزلت براءة
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما آخر آية نزلت واتقوا يوماترجعون فيه إلى الله وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه و سلم ثمانون يوما وقيل : تسع ليال وحاول بعضهم التوفيق بين الروايات في هذا الشأن بمالا يخلو عن كدر ويبعد ماروي عن أبي ما أخرجه ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : لما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له : إنك نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا قال : ولم سألتم هذا قالوا : نطلب الأمن فأنزل الله تعالى هذه الآية لقد جاءكم إلخ والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
وقد ذكروا لقوله سبحانه فإن تولوا الآية ما ذكروا من الخواص وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء موقوفا وابن السني عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قال حين أصبح وحين يمسي حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ماأهمه منأمر الدنيا والآخرة وأخرج ابن النجار في تاريخه عن الحسين رضي الله تعالى عنه قال : من قال حين يصبح سبع مرات حسبي الله لا إله إلا هو إلخ لم
(11/53)

يصبه في ذلك اليوم ولا تلك الليلة كرب ولانكب ولا غرق وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب قال : خرجت سرية إلى أرض الروم فسقط رجلمنهم فإنكسرت فخده فلم يستطيعوا أن يحملوه فربطوا فرسه عنده ووضعواعنده شيئا من ماء وزاد فلما ولوا أتاه آت فقال له : مالك ههنا قال : إنكسرت فخدي فتركني أصحابي فقال : ضع يدك حيث تجد الألم وقل : فغن تولوا الآية فوضع يده فقرأها فصح وركب فرسه وأدرك أصحابه وهذه الآية ورد هذا الفقير ولله الحمد منذ سنين نسأل الله تعالى أن يوفق لناالخير ببركتها إنه خير الموفقين
هذا ومن باب الإشارة في الآيات إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة لما هداهم سبحانه إلى الإيمان العلمي وهم مفتونون بمحبة الأنفس والأموال إستنزلهم لغاية عنايته سبحانه بهم عن ذلك بالمعاملة الرابحة بأن أعطاهم بدل ذلك الجنة ولعل المراد بها جنة النفس ليكون الثمن من جنس المثمن الذي هومألوفهم ولكن الفرق بين الأمرين قال ابن عطاء : نفسك موضع كل شهوةوبلية ومالك محل كل إثم ومعصية فإشترى مولاك منك ليزيل ما يضرك ويعوضك عليه ما ينفعك ولهذا إشترى سبحانه النفس ولم يشتر القلب وقد ذكر بعض الأكابر في ذلك أيضا أن النفس محل العيب والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره فشراء الله تعالى ذلك مع إطلاعه سبحانه على العيب بالجنة التي لاعيب فيها نهاية الكرم ويرشد إلى ذلك قول القائل : ولي كبد مقروحة من يبيعني بها كبدا ليست بذات قروح أباها جميع الناس لا يشترونها ومن يشتري ذا علة بصحيح وعن الجنيد قدس سره قال : إنه سبحانه إشترى منك ما هو صفتك وتحتتصرفك والقلب تحت صفته وتصرفه لم تقع المبايعة عليه ويشير إلى ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن وذكر بعض أرباب التأويل أنه تعالى لما إشترى الأنفس منهم فذاقوا بالتجرد عنها حلاوة اليقين ولذة الترك ورجعوا عن مقام لذة النفس وتابوا عن هواها ولم يبق عندهم لجنة النفس التي كانت ثمنا قدر وصفهم بالتائبين فقالسبحانه : التائبون أي الراجعون عن طلب ملاذ النفس وتوقع الأجر إليه تعالى وبلفظ أخرهم قوم رجعوا من غير الله إلى الله وإستقاموا بالله تعالى مع الله تعالى العابدون أي الخاضعون المتذللون لعظمته وكبريائه تعالى تعظيما وإجلالا له جل شأنه لا رغبةولا رهبة من عقاب وهذه أقصى درجات العبادة ويسميها بعضهم عبودة الحامدون بإظهار الكمالات العملية والعلمية حمدا قعليا حاليا وأقصى مراتب الحمد إظهار العجز عنه يروى أن داود عليه السلام قال : يارب كيف أحمدك والحمد من آلائك فأوحى الله تعالى إليه الآن حمدتنييا داود وما أعلى كلمة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك السائحون إليه تعالى بالهجرة عن مقام الفطرةورؤية الكمالات الثابتة لهم في مفاوز الصفات ومنازل السبحات وقال بعض العارفين : السائحون هم السيارون بقلوبهم في الملكوت الطائرون بأجنحة المحبة في هواء الجبروت وقد يقال : هم الذين صاموا عنالمألوفات حين عاينوا هلال جماله تعالى في هذه النشأة ولا يفطرون حتىيعاينوه مرة اخرى في النشأة الأخرى وقد إمتثلوا ما أشار إليه صلى الله عليه و سلم بقوله صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته الراكعون في مقام محو الصفات الساجدون بفناء الذات وقال بعض العارفين : الراكعون هم العاشقون المنحنون من ثقل أوقار المعرفة على باب العظمة ورؤية الهيبة والساجدون هم الطالبون
(11/54)

لقربه سبحانه فقد جاء في الخبر أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وقد يقال : الراكعون الساجدون هم المشاهدون للحبيب السامعونمنه وما أحسن ماقيل : لويسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعا وسجودا الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أي الداعون الخلق إلى الحقوالدافعون لهم عما سواه فإن المعروف على الإطلاق هو الحق سبحانه والكل بالنسبة إليه عز شأنه منكر والحافظون لحدود الله أي المراعون أوامرهونواهيه سبحانه في جوارحهم وأسرارهم وأرواحهم أو الذين حفظوا حدودالله المعلومة فأقاموها على أنفسهم وعلى غيرهم وقيل : هم القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم فلا يتجاوزون ذلك وإن حصل لهم ما حصل فهم في مقام التمكين والصحو لا يقولون ما يقوله سكارى المحبة ولا يهيمون في أودية الشطحات
وفي الآية نعي على أناس إدعوا الإنتظام في سلك حزب الله تعالى وزمرةأوليائه وهم قد ضيعوا الحدود وخرقوا سفينة الشريعة وتكلموا بالكلمات الباطلة عند المسلمين على إختلاف فرقهم حتى عند السادة الصوفية فإنهم أوجبوا حفظ المراتب وقالوا : إن تضييعها زندقة وقد خالطتهم فرأيت منهم خبائث بالمهيمن نستجير ولعمري إن المؤمن من ينكر على أمثالهم فإياك أن تغتر بهم وبشر المؤمنين بالإيمان الحقي المقيمين في مقام الإستقامة وإتباع الشريعة ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أوليقربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أي ما صح منهم ذلك ولاإستقام فإن الوقوف عند القدر من شأن الكاملين
ومن هنا قيل : لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي إذا تيقن وقوعكل شيء بقدره تعالى الموافق للحكمة البالغة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولم يتهم الله سبحانه في شيء من الفعل والترك سكنتحت كهف الأقدار وسلم لمدعي الإرادة وأنصت لمنادي الحكمة وترك مراده لمراد الحبيب بل لا يريد إلا ما يريده وهو الذي يقتضيه مقام العبوديةالمحصنة الذي هو أعلى المقامات ودون ذلك مقام الأدلال ولقد كان حضرة مولانا القطب الرباني الشيخ عبدالقادر الكيلاني قدس سره في هذا المقاموله كلمات تشعر بذلك لكن لم يتوف قدس سره حتى إنتقل منه إلى مقام العبودية المحضة كما نقل مولانا عبدالوهاب الشعراني في الدرر واليواقيت وقد ذكر أن هذا المقام كان مقام تلميذه حضرة مولانا أبي السعود الشلبي قدس سره وما كان الله ليضل قوما أي ليصفهم بالضلال عن طريق التلسيم والإنقياد لأمره والرضا بحكمه بعد إذ هداهم إلى التوحيد العلمي ورؤية وقوع كل شيء بقضائه وقدره حتى يبين لهم ما يتقون أي ما يجب عليهم إتقاؤه في كل مقام من مقامات سلوكهم وكلمرتبة من مراتب وصولهم فإذا بين لهم ذلك فإن أقدموا في بعض المقامات على ما تبين لهم وجوب إتقائه أضلهم لإرتكابهم ما هو ضلال في دينهم وإلا فلا إن الله بكل شيء عليم فيعلم دقائق ذنوبهم وإن لم يتفطن لها أحد
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعةالعسرة لايخفى أن توبة الله سبحانه على كل من النبي عليه الصلاة و السلام ومن معه بحسب مقامه وذكر بعضهم أن التوبة إذ أنسبت إلى العبد كانت بمعنى الرجوع من الزلات إلى الطاعات وإذا نسبت إلى الله سبحانه كانت بمعنى رجوعه إلى العباد بنعت الوصال وفتح الباب ورفع الحجاب وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وذلك لإستشعار سخط المحبوب وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه أي تحققوا ذلك فإنقطعوا إليه سبحانه
(11/55)

ورفعوا الوسائط ثم تاب عليهم حيث رأى سبحانه إنقطاعهم إليه وتضرعهم بين يديه وقد جرت عادته تعالى مع أهل محبته إذا صدر منهم ما ينافي مقامهم بأدبهم بنوع من الحجاب حتى إذا ذاقوا طعم الجناية وإحتجبوا عن المشاهدة وعراهم ماعراعم مما أنساهم دنياهم وأخراهم أمطر عليهم وابل سحاب الكرم وأشرق على آفاق أسرارهم أنوار القدم فيؤنسهم بعد يأسهم ويمن عليهم بعد قنوطهم وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وما أحلى قوله : هجروا والهوى وصال وهجر هكذا سنت الغرام الملاح ياأيها الذين امنوا اتقوا الله في جميع الرذائل بالإجتناب عنها وكونوا مع الصادقين نية وقولا وفعلا أي إتصفوا بما إتصفوا به من الصدق وقيل : خالطوهمخ لتكونوا مثلهم فكل قرين بالمقارن يقتدى
وفسر بعضهم الصادقين بالذين لم يخلفوا الميثاق الأول فإنه أصدق كلمة وقد يقال : الأصل الصدق في عهد الله كما قال تعالى : رجال صدقوا ماعاهدوا الله ثم في عق العزيمة ووعد الخليقة كما قال سبحانه في إسماعيل : إنه كان صادق الوعد وإذا روعي الصدق في المواطن كلها كالخاطر والفكر والنية والقول والعمل صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات فهو أصل شجرة الكمال وبذر ثمرة الأحوال وملاك كل خير وسعادة وضده والكذب فهو أسوأ الرذائل وأقبحها وهو منافي المروءة كما قالوا : لا مروأة لكذوب وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين إشارة إلى أنه يجب على كل مستعد من جماعة سبوك طريق طلب العلم إذ لايمكن لجميعهم أما ظاهر فلفوات المصالح وأما باطنا فلعدم الإستعداد للجميع
والفقه من علوم القلب وهي إنما تحصل بالتزكية والتصفية وترك المألوفات وإتباع الشريعة فالمراد من النفر السفر المعنوي وهذا هو العلم النافع وعلامة حصوله عدم خشية أحد سوى الله تعالى ألا ترى كيف نفى الله عمن خشي غيره سبحانه الفقه فقال : لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لايفقهون وعلى هذا فحق لمثلي أن ينوح على نفسه وقد صرح بعض الأكابر أن الفقه علم راسخ في القلب ضاربة عروقه في النفس ظاهر أثره على الجوارح لا يمكن لصاحبه أن يرتكب خلاف مايقتضيه إلا إذا غلب القضاء والقدر وقد أنزل الله تعالى كما قيل على بعض أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام : لاتقولوا العلم بالسماء من ينزل به ولافي تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء اليبحر من يعبر ويأتي به والعلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا بأخلاق الصديقين أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويعطيكم وجاء من أتقى الله أربعين صباحا تفجرت ينابع الحكمة من قلبه وإذا تحققت ذلك علمت أن دعوى قوم اليوم الفقه بالمعنى الذي ذكرناه مع تهافتهم على المعاصي تهافت الفراش على النار وعقدمه الحلقات عليها دعوى كاذبة مصادمة للعقل والنقل وهيهات أن يحصل لهم ذلك الفقه ماداموا على تلك الحال ولو ضربوا رءوسهم بألف صخرة صماء وعطف سبحانه قوله : ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم على قوله تعالى : ليتفقهوا إشارة إلى أن الإنذار بعد التفقه والتحلي بالفضائل إذ هو الذي يرجى نفعه : إبدأ بنفسك فلهها عن غيها فإذا أنتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم ولذا قال جل وعلا : لعلهم يحذرون وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار
(11/56)

إشارة إلى الجهاد الأكبر ولعله تعليم لكيفية النفر المطلوب وبيان لطريق تحصيل الفقه أي قاتلوا كفار قوى نفوسكم بمخالفة هواها وفيالخبر أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك وليجدوا فيكم غلظة أي قهر وشدة حتى تبلغوا درجة التقوى واعلموا أن الله مع المتقين بالولاية والنصر أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أومرتين أي يصيبهم بالبلاء ليتوبوا ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون وفي الأثر البلاءسوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه ويرشد إلى ذلك قوله تعالى : وإذا غشيهم موج كالظلل دعو الله مخلصين له الدين وقوله تعالى : واذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما وبالجملة إن البلاء يكسر سورة النفس فيلين القلب فيتوجه إلى مولاه إلاأن من غلبت عليه الشقاوة ذهب منه ذلك الحال إذا صرف عنه البلاء كما يشير إليه قوله تعالى : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون وقوله سبحانه : فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا الى ضر مسه لقد جاءكم رسول من أنفسكم أي من جنسكم لتقع الألفة بينكم وبينه فإنالجنس إلى الجنس يميل وحينئذ يسهل عليكم الإقتباس من أنواره صلى الله عليه و سلم وقرىء كما قدمنا من أنفسكم أي أشرفكم في كل شيء ويكفيه شرفا أنه عليه الصلاة و السلام أول التعينات وأنه كما وصفه الله تعالى على خلق عظيم
وعلى تفنن واصفيه بوصفه يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف عزيز عليه ماعنتم أي يشق عليه الصلاة و السلام مشقتكم فيتألم صلى الله عليه و سلم لما يؤلمكم كايتألم الشخص إذا عرا بعض أعضائه مكروه وعن سهل أنه قال : المعنى شديد عليه غفلتكم عن الله تعالى ولو طرفة عين فإن العنت مايشق ولا شيء أشق في الحقيقة من الغفلة عن المحبوب حريص عليكم أي على صلاح شأنكم أو على حضوركم وعدم غفلتكم عن مولاكم جل شأنه بالمؤمنين رءوف يدفع عنهم مايؤذيهم رحيم يجلب لهم ماينفعهم ومن آثار الرأفة تحذيرهم من الدنوب والمعاصي ومن آثار إضافته صلى الله عليه و سلم عليم العلوم والمعارف والكمالات قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : علم الله تعالى عجز خلقه عن طاعته فعرفهم ذلك لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته فأقام سبحانه بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصورة فقال : لقد جاءكم رسول من أنفسكم وألبسه من تعته الرأفة والرحمة وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا وجعل طاعته وموافقته موافقته فقال سبحانه : من يطع الرسول فقد أطاع الله ثم أفرده لنفسه خاصة وآواه إليه بشهوده عليه في جميع أنفاسه وسلى قلبه عن إعراضهم عن متابعته بقوله جل شأنه : فإن تولوا وأعرضوا عن قبول ماأنت عليه لعدم الإستعداد وزواله فقل حسبي الله لا حاجة لي بكم كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المتعفن الذي يجب قطعه عقلا فالله تعالى كافي لاإله إلا هو فلا مؤثر غيره ولا ناصر سواه عليه توكلت لا على غيره من جميع المخلوقات اذ لا أرى لأحد منهم فعلا ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو رب العرش العظيم المحيط بكل شيء وقد ألبسه سبحانه أنوار عظمته وقواه على حمل تجلياته ولولا ذلك لذاب بأقل من لمحة عين وإذا قرىء العظيم بالرفع فهو صفة للرب سبحانه وعظمته جل جلاله مما لا نهاية لها وما قدروا الله حق قدره نسأله بجلاله وعظمته أن يوفقنا لإ تمام تفسير كتابه حسبما يجب ويرضي فلا إله غيره ولا يرجى إلا خيره
(11/57)

سورة يونس
مكية على المشهور وإستثنى منها بعضهم ثلاث آيات 1 فلعلك تارك أفمن كان على بينة من ربه وأقم الصلاة طرفي النهار قال : إنها نزلت في المدينة وحكى ابن الفرس والسخاوي أن من أولها إلى رأس أربعين آية مكي والباقي مدني وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روايتان فأخرج ابن مردويه من طريق العوفي عنه ومن طريق ابن جريجعن عطاء عنه أنها مكية وأخرج من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه عنه أنها مدنية والمعول عليه عند الجمهور الرواية الأولى وآياتها مائة وتسع عند الجميع غير الشامي فإنها عنده مائة وعشر آيات
ووجه مناسبتها لسورة براءة أن الأولى ختمت بذكر الرسول صلى الله عليه و سلم وهذه إبتدئت به وأيضا أن في الأولى بيانا لما يقوله المنافقون عند نزول سورة من القرآن وفي هذه بيان لما يقوله الكفار في القرآن حيث قال سبحانه : أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله الآية وقال جل وعلا : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله وأيضا في الأولى ذم المنافقين بعدم التوبة والتذكر إذا أصابهم البلاء في قوله سبحانه : أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون على أحد الأقوال وفي هذه ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوي ثم يعود وذلك في قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه وفي قوله سبحانه : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين إلى أن قال سبحانه : فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغيرالحق وأيضا في الأولى براءة الرسول صلى الله عليه و سلم من المشركين مع الأمر بقتالهم على أتم وجه وفي هذه براءته صلى الله عليه و سلم من عملهم لكن من دون أمر بقتال بل أمر فيها عليه الصلاة و السلام أن يظهر البراءة فيها على وجه يشعر بالأعراض وتخلية السبيل كما قيل على ضدما في الأولى وهذا نوع من المناسبة أيضا وذلك في قوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون إلى غير ذلك والعجب من الجلال السيوطي عليه الرحمة كيف لم يلح له في تناسق الدرر وجه المناسبة بين السورتين وذكر وجه المناسبة بين هذه السورة وسورة الأعراف وقد يوجد في الأسقاط مالا يوجد في الأسفاط
بسم الله الرحمن الرحيم الر بتفخيم الراء المفتوحة وهو الأصل وأمال أبو عمرو وبعض القراء إجراء لألف الراء مجرى الألف المنقلبة عن الياء فإنهم يميلونها تنبيها على أصلها وفي الإمالة هنا دفع توهم أن را حرف كما ولا فقد صرحوا أن الحروف يمتنع فيها الإمالة وقرأ ورش بين بين والمراد من الر على ماروى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا الله أرى وفي رواية أخرى أنها بعض الرحمن وتمامه حم ون وعن قتادة أنها بعض الراحم وهو من أسماء القرآن وقيل : هي أسماء للأحرف المعلومة من حروف التهجي أتي بها مسرودة على نمط التعديد بطريق التحدي وعليه فلا محل لها من الإعراب والكلام فيها وفي نظائرها شهير
(11/58)

والأكثرون على أنها إسم للسورة فمحلها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بكذا وهو أظهر من الرفع على الإبتداء لعدم سبق العلم بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها لاجعلها عنوان الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالإنتساب والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لصيرورتها في حكم الحاضر لإعتبار كونها على جناح الذكر كما يقال في الصكوك : هذا ما إشترى فلان وجوز النصب بتقدير فعل لائق بالمقام كإذكر وإقرأ وكلمة تلك إشارة إليها أما على تقدير كون الر مسرودا على نمط التعديد فقد نزل حضور مادتها منزلة ذكرها فأشير إليها كأنه قيل : هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة إلخ وأما على تقدير كونها إسما للسورة فقد نوهت بالإشارة اليها بعد تنويهها بتعيين إسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها وما في إسم الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة ومحله الرفع على أنه مبتدأ خبره قوله عز و جل : ءايات الكتاب وعلى تقدير كون الر مبتدأ فهو إما مبتدأ ثان أو بدل من الأول والمعنى هي آيات مخصوصة منه مترجمة بإسم مستقل والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفيتها بما أشير إلى إتصافه به من النعوت الفاضلة والصفات الكاملة والمراد بالكتاب إما جميع القرآن العظيم وإن لم ينزل بعد إما بإعتبار تعينه وتحققه في العلم أو في اللوح أو بإعتبار نزوله جملة إلى بيت العزة من السماء الدنيا وإما جميع القرآن النازل وقتئذ المتفاهم بين الناس إذ ذاك فإنه كما يطلق على المجموع الشخصي يطلق على مجموع مانزل في كل كذا قال شيخ الإسلام
وأنت تعلم أن المشهور عن السلف تفويض معنى الر وأمثاله إلى الله تعالى وحيث يظهر المراد منها لا معنى للتعرض لإعرابها وقد ذكروا أنه يجوز في الإشارة أن تكون لآيات هذه السورة وأن تكون لآيات القرآن ويجوز في الكتاب أن يراد به السورة وأن يراد القرآن فتكون الصور أربعا إحداها الإشارة إلى آيات القرآن والكتاب بمعنى السورة ولا يصح إلا بتخصيص آيات أو تأويل بعيد وثانيها عكسه ولا محذور فيه وثالثها الإشارة إلى آيات السورة والكتاب بمعنى السورة ورابعها الإشارة إلى آيات القرآن والكتاب بمعنى القرآن ومرجع إفاده الكلام عليهما بإعتبار صفة الكتاب الآتية وجوز الإشارة إلى الآيات لكونها في حكم الحاضر وإن لم يذكر كما في المثال المذكور آنفا وفي أمالي ابن الحاجب أن المشار إليه لا يشترط أن يكون موجودا حاضرا بل يكفي أن يكون موجودا ذهنا وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى : هذا فراق بيني وبينك مايؤيده وأوثر لفظ تلك لما أشار إليه الشيخ ولكونه في حكم الغائب من وجه ولايخلو ماذكروه عن دغدغة وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد فتأمل وقوله تعالى : الحكيم 1 صفة للكتاب ووصف بذلك لإشتماله على الحكم فيراد بالحكيم ذو الحكمة على أنه للنسبة كلا بن وتامر وقد يعتبر تشبيه الكتاب بإنسان ناطق بالحكمة على طريق الإستعارة بالكناية وإثبات الحكمة قرينة لها وجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام حكيم فالمعنى حكيم قائله فالتجوز في الإسناد كليله قائم ونهاره صائم وقيل : لأن آياته محكمة لم ينسخ منها شيء بكتاب آخر ففعيل بمعنى مفعل وقد تقدم ماله وماعليه أكان للناس عجبا الهمزة لإنكار تعجبهم ولتعجيب السامعين منه لوقوعه في غير محله والمراد بالناس كفار العرب والتعبير عنهم بإسم
(11/59)

الجنس من غير تعرض لكفرهم الذي هو المدار لتعجبهم كما تعرض له فيما بعد لتحقيق مافيه من الشركة بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبينهم وتعيين مدار التعجيب في زعمهم ثم تبيين خطئهم وإظهار بطلان زعمهم بإيراد الإنكار واللام متعلقة بمحذوف وقع حالا من عجبا كما هو القاعدة في نعت النكرة إذا تقدم عليها وقيل : متعلقة بعجبا بناء على التوسع المشهور في الظروف وبعضهم جعلها متعلقة به لا على طريق المفعولية كما في قوله
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
بل على طريق التبيين كما في هيت لك وسقيا لك ومثل ذلك يجوز تقديمه على المصدر وأنت تعلم أن هذا قول بالتعلق بمقدر في التحقيق وقيل : إنها متعلقة به لأنه بمعنى المعجب والمصدر إذا كان بمعنى مفعول أو فاعل يجوز تقديم معموله عليه وجوز أيضا تعلقه بكان وإن كانت ناقصة بناء على جوازه و عجبا خبر كان قدم على إسمها وهو قوله سبحانه : أن أوحينا لكونه مصب الإنكار والتعجيب وتشويقا إلى المؤخر ولأن في الإسم ضرب تفصيل ففي تقديمه رعاية للأصل نوع إخلال بتجاوب أطراف النظم الكريم وقرأ ابن مسعود عجب بالرفع على أنه إسم كان وهو نكرة والخبر أن أوحينا وهو معرفة لأن أن مع الفعل في تأويل المصدر المضاف إلى المعرفة فهو كقول حسان : كأن سبيئة من بين رأس يكون مزاجها عسل وماء وحمله بعضهم على القلب وفي قبوله مطلقا أو إذا تضمن لطيفة خلاف والمعول عليه إشتراط التضمن وهو غير ظاهر هنا وحكى عن ابن جني أنه قال : إنما جاز ذلك في البيت من حيث كان عسل وماء جنسين فكأنه قال : يكون مزاجها العسل والماء ونكرة الجنس تفيد مفاد معرفته ألا ترى أنك تقول : خرجت فإذا أسد بالباب أي فإذا الأسد بالباب لافرق بينهما لأنك في الموضعين لا تريد أسدا معينا ولهذا لم يجز هذا في قولك : كان قائم أخاك وكان جالس أباك لأنه ليس في جالس وقائم معنى الجنسية التي تتلاقى معنى نكرتها ومعرفتها
ومعى الآية على هذا كان الوحي للناس هذا الجنس من الفعل وهو التعجب ولايخفى أن المصدر المتحصل هو المصدر المضاف إلى المعرفة كما سمعت فإعتباره محلى بأل الجنسية خلاف الظاهر وأجاز بعضهم الأخبار عن المعرفة بالنكرة في باب النواسخ خاصة سواء كان هناك نفي أو مافي حكمه أم لا وابن جني يجوز ذلك إذا كان نفي أو مافي حكمه ولا يجوز إذا لم يكن وفي الآية قد تقدم الإستفهام الإنكاري على الناسخ وهو في حكم النفي وإختار غير واحد كون كان تامة و عجب فاعل لها و أن أوحينا بتقدير حرف جر متعلق بعجب أي لأن أوحينا أو من أوحينا أن أوحينا أو هو بدل منه كا من كل أو بدل إشتمال والإنكار متوجه موضعه وإقتصر في اللوامح على أن للناس خبر كان وتعقب بأنه ركيك معنى لأنه يفيد إنكار صدوره من الناس مطلقا وفيه ركاكة ظاهرة فإفهم وإنما قيل : للناس لا عند الناس للدلالة على أنهم إتخذوه أعجوبة لهم وفيه من زيادة تقبيح حالهم مالايخفى إلى رجل منهم أي إلى بشر من جنسهم كقوله تعالى حكاية : أبعث الله بشرا رسولا وقوله سبحانه : لوشاء ربنا لأنرل ملائكة أو إلى رجل من أفناء رجالهم من حيث المال لا من حيث النسب لأنه صلى الله عليه و سلم كان من مشاهيرهم فيه وكان منه بمكان لا يدفع فهو كقولهم : مبحث في تفسير قول تعالى : أكان للناس عجبا أن أوحينا الى رجل منهم
(11/60)

لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وفي بعض الآثار أنهم كانوا يقولون : العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب والعجب من فرط جهلهم أما في قولهم الأول فحيث لم يعلموا أن بعث الملك إنما يكون عند كون المبعوث اليهم ملائكة كما قال تعالى : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وأما عامة البشر فبمعزل عن إستحقاق مفاوضة الملائكة لأنها منوطة بالتناسب فبعث الملك اليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمة بعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتأتى لهم الإستفاضة والإفاضة وهذا تابع للإستعداد الأزلى كما لايخفى وأما في قولهم الثاني فلان مناط الإصطفاء للإيحاء إلى شخص هو التقدم في الإتصاف بما علمت والسبق في إحراز الفضائل وحيازة الملكات السنية جبلة وإكتسابا ولا ريب لأحد في أن للنبي صلى الله عليه و سلم القدح المعلى من ذلك بل له عليه الصلاة و السلام فيه غاية الغايات القاصية ونهاية النائية يقول رائيه
وأحسن منك لم ترقط عيني ومثلك قط لم تلد النساء خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء وكذا يقول : ولو صورت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطباع وأما التقدم في الرياسة الدنيوية والسبق في نيل الدنية فلا دخل له في ذلك قطعا بل له إخلال به غالبا وماأحسن قول الشافعي رضي الله تعالى عنه من أبيات : لكن من رزق الحجا حرم الغني ضدان مفترقان أي تفرق وماذكروه من اليتم ان رجع إلى ما في الآية على التوجيه الثاني فبطلانه بطلانه وإن أرادوا أن أصل اليتم مانع من الإيحاء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فهو أظهر بطلانا وأوضح هذيانا وما ألطف ماقيل إن أنفس الدر يتيمه وقيل للحسن : لم جعل الله تعالى النبي صلى الله عليه و سلم يتيما فقال : لئلا يكون لمخلوق عليه منة فان الله سبحانه هو الذي آواه وأدبه ورباه صلى الله عليه و سلم هذا والوجه الثاني من الوجهين السابقين في قوله سبحانه : إلى رجل منهم على الوجه الذي ذكرناه هو الذي أراده صاحب الكشاف ولم ترضه الجلال السيوطي وزعم إن التحامي عنه أولى ثم قال : والذي عندي في تفسير ذلك أن المراد إلى مشهور بينهم يعرفون نسبه وجلالته وأمانته وعفته كما قال سبحانه : في آخر السورة التي قبل لقد جاءكم رسول من أنفسكم فإن هذا هو محل إنكار العجب ويكون هذا وجه مناسبة وضع هذه السورة بعد تلك وإعتلاق أول هذه بآخر تلك ونظيره ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه ربنا وابعث فيهم رسولا منهم إلى آخر ماقال وتعقب بأنه غير ظاهر لأنه وإن كان أعظم مما ذكر لكن السياق يقتضي كفرهم وتذليلهم وتحقير من أعزه الله تعالى وعظمه والذي يقتضيه سبب النزول تعين الوجه الأول هنا فقد أخرج إبن جرير وغيره عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه و سلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا : الله تعالى أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد عليه الصلاة و السلام فأنزل سبحانه أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم الآية وقوله تعالى : وماأرسلنا من قبلك إلا رجالا الآية
(11/61)

فلما كرر الله سبحانه عليهم الحجج قالوا : وإذا كان بشرا فغير محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان أحق بالرسالة فلولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمفأنزل الله تعالى ردا عليهم أهم يقسمون رحمة ربك الآية ومنه يعلم أن ما حكى في الوجه الثاني سبب لنزول آية أخرى أن أنذر الناس أي أخبرهم بما فيه تخويف لهم مما يترتب على فعل ما لا ينبغي والمراد بهجميع الناس الذين يمكنه عليه الصلاة و السلام تبليغهم ذلك لا ما أريد بالناس أولا وهو النكتة في إيثار الإظهار على الإضمار وكون الثانيعين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق و أن هي المفسرة لمفعول الإيحاء المقدر وقد تقدم عليها ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإيحاء أو هي المخففة من المثقلة على أن إسمها ضمير الشأن والجملة الأمرية خبرها وفي وقوعها خبر ضمير الشأن دون تأويل وتقدير قول إختلاف فذهب صاحب الكشف إلى أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن المقصود منها التفسير وخالفه غير واحد في ذلك وذهبوا إلى أنه لا فرق بين خبرهوخبر غيره
وقال بعضهم : هي المصدرية الخفيفة في الوضع بناء على أنها توصل بالأمر والنهي والكثير على المنع وذكر أبو حيان هذا الإحتمال هنا مع أنه نقل عنه في المغنى أن مذهبه المنع لما أنه يفوت معنى الأمر إذا سبك بالمصدر
وإعترض بأنه يفوت معنى المضي والحالية والإستقبال المقصود أيضا معا لإتفاق على جواز وصلها بما يدل على ذلك وأجيب بأنه قد يقال : بأنبينهما فرقا فإن المصدر يدل على الزمان إلتزاما فقد تنصب عليه قرينةفلا يفوت معناه بالكلية بخلاف الأمر والنهي فإنه لا دلالة للمصدر وعليهما أصلا وقال بعض المدققين : إن المصدر كما يجوز أخذه من جوهر الكلمة يجوز أخذه من الهيئة وما يتبعها فيقدر في هذا ونحوه أوحينا إليه الأمر بالإنذار كما قدر في أن لا تزني خير عدم الزنا خير ولا يخفى أن هذا البحث يجري في أن المخففةالثقيلة لأنها مصدرية أيضا وإن أقل الإحتمالات مؤنة إحتمال التفسير وبشر الذين ءامنوا بما أوحيناه إليك وصدقوه أن لهم أي بأن لهم قدم صدق أي سابقة ومنزلة رفيعة عند ربهم وأصل القدم العضو المخصوص وأطلقت على السبق مجازا مرسلا لكونها سببه وآلته وأريد من السبق الفضل والشرف والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة مجازا أيضا فالمجاز هنا بمرتبتين وقيل : المراد تقدمهم على غيرهم في دخول الجنة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها أنا وعلى الأمم حتى تدخلها أمتي وقيل : تقدمهم في البعث وأصل الصدق ما يكون في الأقوال ويستعمل كما قال الراغب في الأفعال فيقال : صدق في القتال إذاوفاه حقه وكذا في ضده يقال : كذب فيه فيعبر به عن كل فعل فاضل ظاهرأو باطنا ويضاف إليه كمقعد صدق ومدخل صدق ومخرج صدق إلى غير ذلك وصرحوا هنا بأن الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته والأصل قدم صدق أي محققه مقرره وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق ثم جعل الصدق كأنه صاحبها ويحتمل أن تكون الإضافة من إضافة المسبب إلى السبب وفي ذلك تنبيه على أن ما نالوه من المنازل الرفيعة كان بسبب صدق القول والنية
وقال بعضهم : إن هذا التنبيه قد يحصل على الإعتبار الأول لأن الصدق قد تجوز به عن توفية الأمور الفاضلة حقها للزوم الصدق لها حتى كأنها لاتوجد بدونه ويكفي مثله في ذلك التنبيه وهذا كما
(11/62)

يشير إلى أنه جهنمي وفيه خفاء كما لا يخفى ويجوز إلى يراد بالقدم المقام بإطلاق الحال واردة المحل وعن الأزهري أن القدم الشيء الذي تقدمه قدامك ليكون عدة لك حين تقدم عليه ويشعر بأنه إسم مفعول وبه صرح بعضهم وقال أنه كالنقض وقيل : إنه إسم للحسنى من العبد كما أن اليد إسم للحسنى من السيد وفعلوا ذلك للفرق بين العبد والسيد وهو من الغرابة بمكان ولا يكاد يصح في قول ذي الرمة : لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر وقوله وأنت أمرؤ من أهل بيت ذؤابة لهم قدم معروفة في المفاخر والسبق هو الأسبق إلى الذهن في ذلك وكذا في قول حسان : لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع وقول الآخر صل لذي العرش واتخذ قدما تنجيك يوم العثار والزلل محتمل لسائر المعاني وهل يطلق على سابقة السوء أولا الظاهر الأول وقدنص على ذلك أبو عبيدة والكسائي
وقال صاحب الإنتصاف لم يسموا سابقة السوء قدما إما لكون المجاز لايطرد وإما لأنه غلب في العرف على سابقة الخير وفيه نظر وتفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما له بالأجر وابن مسعود بالعمل لا يخرج عما ذكرنا من معانيه وكذا تفسير علي كرم الله تعالى وجهه وأبي سعيد الخدري والحسن وزيد بن أسلم له برأس الموجودات محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يرجع إلى تفسيره بالخير والسعادة كما قاله جمع وكونه صلى الله تعالى عليه وسلم خيرا وسعادة للمؤمنين مما لا يمتري فيه مؤمن أو يقال : إن المراد شفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم والأمر في ذلك حينئذ في غاية الظهور وخص التبشير بالمؤمنين لأنه لايتعلق بالكفار وتبشيرهم إن آمنوا راجع إلى تبشير المؤمنين وهذا بخلاف الإنذار فإنه يتعلق بالمؤمن والكافر ولذلك ذكره سبحانه ولم يذكر جلوعلا المنذر به للتعميم والتهويل وذكر المبشر به على الوجه الذي ذكره لتقوى رغبة المؤمنين فيما يؤديهم إليه وقدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التخلية وإزالة ما لا ينبغي مقدمة فيالرتبة على فعل ما ينبغي
قال الكافرون هم المتعجبون وإيرادهم بهذا العنوان على بابه وترك العاطف لجريانه مجرى البيان للجملة التي دخل عليها همزة الإنكارأو لكونه إستئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل : ماذا صنعوا بعد التعجب هل بقوا على التردد والإستبعاد أو قطعوا فيه بشيء فقيل : قال الكافرون على طريقة التأكيد إن هذا أي ماأوحى إليه صلى الله تعالى عليه وسلم منالكتاب المنطوي على الإنذار والتبشير وزعم الخازن أن في الكلام حذفا أي أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر وبشر فلما جاءهم بالوحي وأنذرهم قال الكافرون إن هذا لسحر مبين 2 أي ظاهر وقرأ ابن كثير والكوفيون لساحر على أن الإشارة إلى رجل وعنوا به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي قراءة أبي ما هذا إلا سحر مبين وأرادوا بالسحر الحاصل بالمصدر وفي هذا إعتراف بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من حضرةخلاق القوى والقدر ولكنهم
(11/63)

يسمونه بما قالوا تماديا في العناد كما هو شنشنة المكابر اللجوح ونشنشة المفحم المحجوج إن ربكم إستئناف سيق لإظهار بطلان تعجبهمالمذكور وماتبعه من تلك المقالة الباطلة غب الإشارة إليه بالإنكار والتعجيب وحقق فيه حقية ماتعجبوا منه وصحة ماأنكروه بالتنبيه الإجمالي على بعض مايدل عليهأ من شئون الخلق والتقدير وأحوال التكوينوالتدبير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير لإعترافهم به من غير نكير كما يعرب عنه غير ماآية في الكتاب الكريم والتأكيد لمزيد الإعتناء بمضمون الجملة على ماهو الظاهر أي أن ربكم ومالك أمركم الذي تعجبون من أن يرسل إليكم رجلا منكم بالإنذار والتبشير وتعدون ماأوحي إليه من الكتاب سحرا هو الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أي أوقات فالمراد من اليوم معناه اللغوي وهو مطلق الوقت وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منهاكألف سنة مما تعدون وقيل : هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام لما فيه من الدلالة على المقدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة ولأنه تعريف لنا بما نعرفه ولا يمكن أن يراد باليوم اليوم المعروف لأنه كما قيل عبارة عن كونالشمس فوق الأرض وهو مما لا يتصور تحققه حين لا أرض ولا سماء واليوم بهذا ا 4 لمعنى يسمى النهار المفرد ويطلق اليوم أيضا على مجموع ذلك النهار وليلته ومقدار ذلك حينئذ ممكن الإرادة هنا أيضا وقد صرح بعض الأكابر بأن المراد بالسموات ما عدا المحدد وأن اليوم هنا عبارة عنمدة دورة تامة له ولا يخفى أن اليوم اللغوي يتناول هذا أيضا إلا أن إرادته كإرادة مقدار مجموع النهار وليلته يحتاج إلى نقل وليس ذلك أمرا معروفا عند المخاطبين ليستغني عن النقل على أن القول به يدورعلى كون المحدد متحركا بالحركة الوضعية ويحتاج ذلك إلى النقل أيضا وكذا يدور على كون المحدد خارجا عن السموات المخلوقة في الأيام الست لكن ذلك لا يضر إذ الآيات والأخبار شاهدة بالخروج كما لا يخفى وفي خلقها مدرجا مع القدرة التامة على إبداعها في طرفة عين إعتبارللنظار وحث لهم على التأني في الأحوال والأطوار وفيه أيضا على ما صرحبه بعض المحققين دليل على الإختيار وأما تخصيص ذلك بالعدد المعين فقد قيل : إنه أمر قد إستأثر بعلم ما يستدعيه علام الغيوب جلت قدرته ودقت حكمته وقيل إنه سبحانه جعل لكل من خلق مواد السموات وصورها وربط بعضها ببعض وخلق مادة الأرض وصورتها وربط إحداهما بالأخرى وقتا فلذا صارت الأوقات ستا وفيه تأمل وسيأتي إن شاء الله تعالى في الدخان تحقيق هذا المطلب على وجه ينكشف به الغبار عن بصائر الناظرين
وإيثار جمع السموات لما هو المشهور من الإيذان بأنها أجرام مختلفةالطباع متباينة الآثار والأحكام وتقديمها على الأرض إما لأنها أعظممنها خلقا أو لأنها جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل علىما بين في موضعه وتقديم الأرض عليها في آية طه لكونها أقرب إلى الحس وأظهر عنده وسيأتي أيضا تحقيقه هناك إن شاء الله تعالى ثم استوى على العرش على المعنى الذي أراده سبحانه وكف الكيف مشلولة وقيل : الإستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان متفرع عن الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير يقال : إستوى فلان على سرسر ويراد منه ملك وإن لم يقعد على السرير أصلا وقيل : إن الإستواء بمعنى الإستيلاءوأرجعوه إلى صفة القدرة وأنت تعلم أن هذا وأمثاله من التشابه وللناس فيه مذاهب
(11/64)

وماأشرنا إليه هو الذي عليه أكثر سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم وقد صرح بعض أن الإستواء صفة غير الثمانية لا يعلم ماهي إلا من هي لهوالعجز عن درك الإدراك إدراك وإختار كثير من الخلف أن المراد بذلك الملك والسلطان وذكره لبيان جلالة ملكه وسلطانه سبحانه بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بمامر من خلق هاتيك الأجرام العظيمة وقوله تعالى : يدبر الأمر إستئناف لبيان حكمه إستوائه جل وعلا على العرش وتقرير عظمته والتدبير في اللغة النظر في أدبار الإمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود والمراد به هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الإثم الأكمل وأخرج أبو الشيخ وغيره عن مجاهد أن المعنى يقضي الأمر والمراد بالأمر أمر الكائنات علويها وسفليها حتى العرش فأل فيه للعهد أي يقدر أمر ذلك كله على الوجه الفائق والنمط اللائق حسبما تقتضيه المصلحة وتستدعيه الحكمة ويدخل فيما ذكر ماتعجبوا منه دخولا ظاهرا وزعم بعضهم أن المعنى يدبر ذلك على ماإقتضته حكمته ويهيء أسبابه بسبب تحريك العرش وهو فلك الأفلاك عندهم وبحركته يحرك غيره من الأفلاك الممثلة وغيرها لقوة نفسه وقيل : لأن الكل في جوفه فيلزم من حركته حركته لزوم حركة المظروف لحركة الظرف وهو مبنى على أن الظرف مكان طبيعي للمظروف والأفقيه نظر وأنت تعلم أن مثل هذا الزعم على مافيه مما لا يقبله المحدثون وسلف الأمة إذ لا يشهد له الكتاب ولا السنة وحينئذ فلا يفتى به وإن حكم القاضي وجوز في الجملة أن تكون في محل النصب على أنها حال من ضمير استوى وأن تكون في محل الرفع على أنها خبر ثان لأن وعلى كل حال فإيثار صيغة المضارع للدلالة على تجدد التدبير وإستمراره منه تعالى وقوله سبحانه : مامن شفيع إلا من بعد اذنه بيان لإستبداده تعالى في التدبير والتقدير ونفي للشفاعة على أبلغ وجه فإن نفي جميع أفراد الشفيع بمن الإستغراقية يستلزم نفي الشفاعة على أتم الوجوه فلا حاجة إلى أن يقال : التقدير مامن شفاعة لشفيع وفي ذلك أيضا تقرير لعظمته سبحانه إثر تقرير والإستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي مامن شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنه تعالى المبنى على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة وذهب القاضي إلى أن فيه ردا على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى
وتعقب بأنه غير تام لأنهم لما إدعوا شفاعتها فقد يدعون الإذن لها فكيف يتم هذا الرد ولا دلالة في الآية على أنهم لايؤذن لهم وماقيل : إنها دعوى غير ملسمة وإحتمالها غير مجد لافائدة فيه إلا أن يقال : مراده أن الأصنام لا تدرك ولا تنطق فكونها ليس من شأنها أن يؤذن لها بديهي وقوله عز شأنه : ذلكم الله ربكم إستئناف لزيادة التقرير والمبالغة في التذكير ولتفريع الأمر بالعبادة بقوله سبحانه : فاعبدوه والإشارة إلى الذات الموصوف بتلك الصفات النمقتضية لإستحقاق ماأخبر به عنه وهو الله وربكم فانهما خبر ان لذلكم وحيث كان وجه ثبوت ذلك له ماذكر مما لايوجد في غيره إقتضى إنحصاره فيه وأفاد غيره ولا معبود سواه ويجوز أن يكون الإسم الجليل نعتا لإسم الإشارة و ربكمم خبره وأن يكون هو الخبر و ربكم بيان له أو بدل منه ولا يخلو الكلام من إفادة الإنحصار وإذا فرع الأمر المذكور على ذلك أفاد الأمر بعبادته
(11/65)

سبحانه وحده أي فإعبدوه سبحانه من غير أن يشركوا به شيئا من ملك أو نبي فضلا عن يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع وليس الداعي لهذا الحمل أن أصل العبادة ثابت لهم فيحمل الأمر بها على ذلك ليفيد لما قيل : من أن الخطاب للمشركين ولا عبادة مع الشرك أفلا يتذكرون 3 أي أتعلمون أن الأمر كما فصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقفوا على فساد ماأنتم عليه فترتدعوا عنه وتعبدوا الله تعالى وحده وإيثار تذكرون على تفكرون للإيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى فكر تام ونظر كامل بل إلى مجرد إلتفات وإخطار بالبال وقوله سبحانه : اليه مرجعكم جميعا كالتعليل لوجوب العبادة والجار والمجرور خبر متقدم و مرجعكم مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي لاإسم مكان خلافا لمن وهم فيه و جميعا حال من الضمير المجرور لكونه فاعلا في المعنى أي إليه تعالى رجوعكم مجتمعين لا إلى غيره سبحانه بالبعث وعد الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأنها وعد منه تعالى بالبعث وحيث كانت لاتحتمل غير الوعد كان ذلك من أفراد المصدر المؤكد لنفسه عندهم كما في قولك : له على ألف عرفا ويجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل محذوف أي وعدالله وعدا وأياما كان فهو دليل على ان المراد بالمرجوع الرجوع بالبعث لأن ما بالموت بمعزل عن الوعد كما أنه بمعزل عن الإجتماع فما وقع في بعض نسخ القاضي بالموت أو النشور ليس على ماينبغي
وقرىء وعدالله بصيغة الفعل ورفع الإسم الجليل على الفاعلية حقا مصدر مؤكد لما دل عليه الأول وهو من قسم المؤكد لغيره لأن الأول ليس نصا فيه فإن الوعد يحتمل الحقيةوالتخلف وقيل : إنه منصوب بوعد على تقدير في وتشبيهه بالظرف كقوله :
(11/66)

أفي الحق إني هائم بك مغرم
والأول أظهر وقوله سبحانه : إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده كالتعليل لما أفاده إليه مرجعكم فإن غاية البدء والإعادة هو الجزاء بما يليق وقرأ أبو جعفر والأعمش أنه يفتح الهمزة على تقدير لأنه وجوز أن يكون منصوبا بمثل مانصب وعد أي وعد الله سبحانه بدء الخلق ثم إعادته أي إعادته بعد بدئه ويكون الوعد واقعا على المجموع لكن بإعتبار الجزء الأخير لأن البدء ليس موعودا وأن يكون مرفوعا بمثل مانصب حقا أي حق بدء الخلق ثم إعادته نظير قول الحماسي : أحقا عباد الله أن ليست رائيا رفاعة طول الدهر ألا توهما وعن المرزوقي أنه خرجه على النصب على الظرفية وهو إاما خبر مقدم أو ظرف معتمد وزعم أن ذلك مذهب سيبويه وجوز أن يكون النصب بوعد الله على أنه مفعول له والرفع بحقا على أنه فاعل له وظاهر كلام الكشاف يدل على أن الفعلين العاملين في المصدرين المذكورين هما اللذان يعملان فيما ذكر لا فعلان آخران مثلهما وحينئذ يفوت أمر التأكيد الذي ذكرناه لأن فاعل العامل بالمصدر المؤكد لابد أن يكون عائدا على ماتقدمه مما أكده وقرىء حق أنه يبدأ الخلق وهو كقولك : حق أن زيدا منطلق وقرىء يبدىء من أبدأ ولعل المراد من الخلق نحو المكلفين لا ما يعم ذلك والجمادات ويؤيد ذلك ماأخرجه غير واحد عن مجاهد أن معنى الآية يحيي الخلق ثم يميته ثم يحييه ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط أي بالعدل وهو حال من فاعل يجزي أي متلبسا بالعدل او متعلق بيجزي أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم
(11/0)

أجورهم وإنما أجمل ذلك إيذانا بأنه لا يفي به الحصر ويرشح ذلك ذاته الكريمة هي المجازية أو بقسطهم وعدلهم في أمورهم أو بإيمانهم ورجح هذا بأنه أوفق بقوله تعالى : والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون 4 فإن معناه ويجزي الذين كفروا بشراب من ماء حار وقد إنتهى حره وعذاب أليم بسبب كفرهم فيظهر التقابل بين سببي جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين مع أنه لاوجه لتخصيص العدل بجزاء الآخرين أولى به كما لايخفى وتكرير الإسناد بجعل الجملة الظرفية خبرا للموصول لتقوية الحكم والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على مواظبتهم على الكفر وتغييير النظم الكريم للمبالغة في إستحقاقهم العقاب بجعله حقا مقرر لهم والإيذان بأن التعذيب بمعزل عن الإنتظام في سلك العلة الغائبة للإعادة بناء على تعلق ليجزي بها أولها وللبدء بناء على تعلقه بهما على التنازع وإنما المنتظم في ذلك السلك هو الإثابة فهي المقصودة بالذات والعقاب واقع بالعرض وهو الذي جعلإ الشمس ضياء تنبيه على الإستدلال على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته بآثار صنيعه في النيرين على الإستدلال بما مر وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير اليه إشارة إجمالية وإرشاد إلى أنه سبحانه حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبر البديع فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى أو جعل إما بمعنى أنشأ وأبدع فضياء حال من مفعوله وإما بمعنى صير فهو مفعوله الثاني والكلام على حد ضيق فم القربة اذ لم تكن الشمس خالية عن تلك الحالة وهي على ماقيل مأخوذة من شمسة القلادة للخرزة الكبيرة وسطها وسميت بذلك لأنها أعظم الكواكب كما تدل عليه الآثار ويشهد له الحس وإليه ذهب جمهور أهل الهيئة ومنهم من قال : سميت بذلك لأنها في الفلك الأوسط بين أفلاك العلوية وبين أفلاك الثلاثة الأخر وهو أمر ظني لم تشهد له الأخبار النبوية كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى والضياء مصدر كقيام وقال أبو علي في الحجة : كونه جمعا كحوض وحياض وسوط وسياط أقيس من كونه مصدرا وتعقب بأن إفراد النور فيما بعد يرجح الأول وياؤه منقلبة عن واو لإنكسار ماقبلها وأصل الكلام جعل الشمس ذات ضياء
ويجوز أن يجعل المصدر بمعنى إسم الفاعل أي مضيئة وأن يبقى على ظاهره من غير مضاف فيفيدالمبالغة بجعلها نفس الضياء وقرأ ابن كثير ضئاء بهمزتين بينهما ألف والوجه فيه كما قال أبو البقاء : أن يكون آخر الياء وقدم الهمزة فلما وقعت الياء طرفا بعد ألف زائدة قلبت همزة عند قوم وعند آخرين قلبت ألفا ثم قلبت الألف همزة لئلا يجتمع ألفان والقمر نورا أي ذا نورا أو منيرا أو نفس النور على حد ماتقدم آنفا والنور قيل أعم من الضوء بناء على أنه ماقوى من النور والنور شامل للقوي والضعيف والمقصود من قوله سبحانه : الله نور السموات والأرض تشبيه هداه الذي نصبه للناس بالنور الموجود في الليل أثناء الظلام والمعنى أنه تعالى جعل هداه كالنور في الظلام فيهدي قوم ويضل آخرون ولو جعله كالضياء الذي لايبقى معه ظلام لم يضلأحد وهو مناف للحكمة وفيه نظر وقيل : هما متباينان فما كان بالذات فهو ضياء وماكان بالعرض فهو نور ولكون الشمس نيرة بنفسها نسب إليها الضياء ولكون نور القمر مستفادا منها نسب إليه النور وتعقبه العلامة الثاني بأن ذلك قول الحكماء وليس من اللغة في شيء فإنه شاع نور الشمس ونور النار
(11/67)

ونحن قد بسطنا الكلام على ذلك فيما تقدم وفي كتابنا الطراز المذهب وأتينا فيه هدى للناظرين
بقي أن حديث الإستفادة المذكورة سواء كانت على سبيل الإنعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرا كما في المرآة أو بأن يستنير جوهره على ماهو الأشبه عند الإمام قد ذكدها كثير من الناس حتى القاضي في تفسيره وهو مما لم يجيء من حديث من عرج إلى السماء صلى اللهتعالى عليه وسلم وإنما جاء عن الفلاسفة وقد زعموا أن الأفلاك الكلية تسعة أعلاها فلك الأفلاك ثم فلك الثوابت ثم فلك كيوان ثم فلك برجيس ثم فلك بهرام ثم فلك الشمس ثم فلك الكاتب ثم فلك القمر وزعم صاحب التحفة أن فلك الشمس تحت فلك الزهرة وماعليه الجمهور هو الأول وإستدل كثير منهم على هذا الترتيب بما يبقي معه الإشتباه بين الشمس وبين الزهرة والكاتب كالكسف والإنكساف وإختلاف المنظر الذي يتوصل إلى معرفته بذات الشعبتين لأن الأول لا يتصور هناك لأن الزهرة والكاتب يحترقان عند الإقتران في معظم المعمورة والتاني أيضا مما لايستطاع لتلك الآلة لأنها تنصب في سطح نصف النهار وهذان الكوكبان لا يظهران هناك لكونهما حوالي الشمس بأقل من برجين فإذا بلغا نصف النهار كانت الشمس فوق الأرض شرقية أو غربية فلا يريان أصلا وجعل الشمس في الفلك الأوسط لما في ذلك من حسن الترتيب كأنها شمسة القلادة أو لأنها بمنزلة الملك في العالم فكما ينبغي للملك أن يكون في وسط العسكر ينبغي لها أن تكون في وسط كرات العالم أمر إقناعي بل هو من قبيل التمسك بجبال القمر ومثل ذلك تمسكهم في عدم الزيادة على هذه ألافلاك بأنه لافضل في الفلكيات مع أنه بلزم عليه أن يكون ثخن الفلك الأعظم أفل مايمكن أن يكون للأجسام من الثخانة إذ لا كوكب فيه حتى يكون ثخنه مساويا لقطره فالزائد على أقل مايمكن فضل وقد بين في رسالة الأبعاد والأجرام أنه بلغ الغاية في الثخن وقد قدمنا لك ذلك وحينئذ يمكن أن يكون لكل من الثوابت فلك على حدة وأن تكون تلك الأفلاك متوافقة في حركاتها جهة وقطبا ومنطقة وسرعة بل لو قيل بتخالف بعضها لم يكن هناك دليل ينفيه لأن المرصود منها أقل قليل فيمكن أن يكون بعض مالم يرصد متخالفا على أن من الناس من أثبت كرة فوق كرة الئوابت وتحت الفلك الأعظم وإستدل على ذلك بما إستدل ومن علم أن أرباب الأرصاد منذ زمان يسير وجدوا كوكبا سيارا أبطأ سيرا من زحل وسموه هرشلا وقد رصده لالنت فوجده يقطع البرج في ست سنين شمسيةوأحد عشرشهرا وسبعة وعشرين يوما وهو يوم تحريرنا هذا المبحث وهو اليوم الرابع والعشرون من جمادي الآخرة سنة الألف والمائتين والست والخمسين حيث الشمس في السنبلة قد قطع من الحوت درجة واحدة وثلاث عشرة دقيقة راجعا لا يبقى له إعتمادا على ماقاله المتقدمون ويجوز أمثال ماظفر به هؤلاء المتأخرون وأيضا من الجائز أن تكون بالحركة البطيئة والفلك الثامن يتحرك بالحركة السريعة وحينئذ تكون دائرة البروج المارة بأوائل البروج الواقع وقد صرح البرجندي أن القدماء لم يثبتوا الفلك الأعظم وإنما أثبته المتأخرون وأيضا يجوز أن تكون سبعة بأن يفرض ألثوابت ودائرة البروج على محدب ممثل زحل ويكون هناك نفسان تتصل إحداهما بمجموع السبعة وتحركها إحدى الحركتين الأوليين والأخرى بالكرة السابعة وتحركها الأخرى ولكن بشرط
(11/68)

أن تفرض دوائر البروج متحركة بالسريعة دون البطيئة كتحركها متوهمة على سطوح الممثلات بالسريعة دون البطيئة لينقل الثوابت بالبطيئة من برج إلى برج كما هو الواقع ونحن من وراء المنع فيما يرد على هذا الإحتمال وأيضا ذكر الإمام أنه لم لايجوز أن تكون الثوابت تحت فلك القمر فتكون تحت كرات السيارة لا فوقها وما يقال : من أنا نرى أن هذه السيارة تكسف الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة مدفوع بأن هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة دون القريبة من القطبين فلم لا يجوز أن يقال : هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوزة في الفلك الثامن والقرينة من القطبين مر كوزة في كرة أخرى تحت كرة القمر على أنه لم لايجوز أن يقال : الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر ودون إثبات الإمتناع خرط القتاد
وذكروا في إستفادة نور القمر من ضوء الشمس أنه من الحدسيات لإختلاف أشكاله بحسب قربه وبعده منها وذلك كما قال ابن الهيثم لا يفيد الجزم بالإستفادة لإحتمال أن يكون القمر كرة نصفها مضيء ونصفها مظلم ويتحرك على نفسه فيرى هلالا ثم بدرا ثم ينمحق وهكذا دائما ومقصوده أنه لابد من ضم شيء آخر إلى إختلاف ألأشكال حسب القرب والبعد ليدل على المدعي وهو حصول الخسوف عند توسط الأرض بينه وبين الشمس وبعض المحققين كصاحب حكمة العين وصاحب المواقف نقلوا مانقلوا عن ابن الهيثم ولم يقفوا على مقصوده منه فقالوا : إنه ضعيف وإلا لما إنخسف القمر في شيء من ألإستقبالات أصلا وذلك كما قال العاملي عجيب منهم وأنت تعلم أن لاجزم أيضا وأن ضم ماضم لجواز أن يكون سبب آخر لإختلاف تلك ألأشكال النورية لكنا لا نعلمه كأن يكون كوكب كمد تحت فلك القمر ينخسف به في بعض إستقبالاته
وإن طعن في ذلك بأنه لو كان لرؤى
قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك ألإختلاف والخسوف من آثار إرادة الفاعل المختار من دون توسط القرب والبعد من الشمس وحيلوية الأرض بينها وبينه بل ليس هناك إلا توسط الكاف والنون وهو كاف عند من سلمت عينه من الغين وللمتشرعين من المحدثين وكذا لساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم كلمات شهيرة في هذا الشأن ولعلك قد وقفت عليها وإلا فستقف بعد إن شاء الله تعالى
وقد استندوا فيما يقولون إلى إخبار نبوية وأرصاد قلبية وغالب الأخبار في ذلك لم تبلغ درجة الصحيح وما بلغ منها آحاد مع هذا قابل للتأويل بما لاينافي مذهب الفلاسفة والحق أنه لا جزم بما يقولونه في ترتيب الأجرام العلوية ومايلتحق بذلك وأن القول به مما لا يضر بالدين إلا إذا صادم ماعلم مجيبه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هذا وسمي القمر قمرا لبياضه كما قال الجوهري وإعتبر هو وغيره كونه قمرا بعد ثلاث
وقدره أي قدر له وهيأ منازل أو قدر مسيره في منازل فمنازل على الأول مفعول به وعلى الثاني نصب على الظرفية وجوز أن يكون قدر بمعنى جعل المتعدي لواحد و منازل حال من مفعوله أي جعله وخلقه متنقلا وإن يكون بمعنى جعل المتعدى لإثنين أي صيره ذا منازل وإياما كان فالضمير للقمر وتخصيصه بهذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس ولأن منازله معلومة محسوسة ولكونه عمدة في تواريخ العرب ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأكثر وجوز أن يكون الضمير له وللشمس بتأويل كل منهما والمنازل ثمانية وعشرون وهي الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة
(11/69)

والعواء والسماك الأعزل والغفرة والزباني والإكليل والقلب والشولةوالنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت وهي مقسمة على البروج الإثني عشر المشهورة فيكون لكل برج منزلان وثلث والبرج عندهم ثلاثون درجة حاصلة من قسمة ثلثمائة وستين أجزاء دائرة البروج على إثني عشر والدرجة عندهم منقسمة بستين دقيقة وهي منقسمة بستين ثانية وهي من قسمة بستين ثالثة وهكذا إلى الروابع والخوامس والسوادس وغيرها ويقطع القمر بحركته الخاصة في كل يوم بليلته ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وثلاثا وخمسين ثانية وستا وخمسين ثالثة وتسمية ما ذكرنا منازل مجازلأنه عبارة عن كواكب مخصوصة من الثوابت قريبة من المنطقة والمنزلة الحقيقية للقمر الفراغ الذي يشغله جرم القمر على أحد الأقوال فيالمكان فمعنى نزول القمر في هاتيك المنازل مسامتته إياها وكذاتعتبر المسامتة في نزوله في البروج لأنها مفروضة أولا في الفلك الأعظم وأما تسمية نحو الحمل والثور والجوزة بذلك فبإعتبار المسامتة أيضا
وكان أول المنازل الشرطين ويقال له النطح وهو لأول الحمل ثم تحركت حتى صار أولها على ما حرره المحققون من المتأخرين الفرغ المؤخر ولا يثبت على ذلك للثوابت حركة على التوالي على الصحيح وإن كانت بطيئةوهي حركة فلكها ومثبتو ذلك إختلفوا في مقدار المدة التي يقطع بها جزأ واحدا من درجات منطقته فقيل هي ست وستون سنة شمسية أو ثمانوستون سنة قمرية وذهب ابن الأعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية وطابقه الرصد الجديد الذي تولاه نصير الطوسي بمراغة وزعم محي الدين أحد أصحابه أنه تولى رصد عدة من الثوابت كعين الثور وقلب العقرب بذلك الرصد فوجدها تتحرك في كل ست وستين سنة شمسية درجة واحدة وإدعى بطليموس أنه وجد الثوابت القريبة إلى المنطقة متحركة في كلمائة سنة شمسية درجة والله تعالى أعلم بحقائق الأحوال وهو المتصرف فيملكه وملكوته حسبما يشاء لتعلموا عدد السنين التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحهم الدينية والدنيوية والحساب أي ولتعلمواالحساب بالأوقات من الأشهر والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة واللام على ما يفهم من أمالي عز الدين بن عبدالسلام متعلقة بقدر وإستشكل هو ذلك بأن علم العدد والحساب لا يفتقر لكون القمرمقدرا بالمنازل بل طلوعه وغروبه كاف وذكر بعضهم أن حكمة ذلك صلاح الثمار بوقوع شعاع القمر عليها وقوعا تدريجيا وكونه أدل على وجودهسبحانه وتعالى إذ كثرة إختلاف أحوال الممكن وزيادة تفاوت أوصافه أدعىإلى إحتياجه إلى صانع حكيم واجب بالذات وغير ذلك مما يعرفه الواقفون على الأسرار وأجاب مولانا سري الدين بأن المراد من الحساب حساب الأوقات بمعرفة الماضي من الشهر والباقي منه وكذا من الليل ثم قال : وهذا إذا علقت اللام بقدره منازل فإن علقته بجعل الشمس والقمر لم يرد السؤال
ولعل الأولى على هذا أن يحمل السنين على ما يعم السنين الشمسيةوالقمرية وإن كان المعتبر في التاريخ العربي الإسلامي السنة القمرية والتفاوت بين السنتين عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة فإن السنة الأولى عبارة عن ثلثمائة وخمسة وستين يوما وخمس ساعات وتسع وأربعين دقيقة على مقتضى الرصد الأبلخاني والسنة الثانية عبارة عن ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة وينقسم
(11/70)

كل منهما إلى بسيطة وكبيسة وبيان ذلك في محله و تخصيص العدد بالسنين والحساب بالأوقات لما أنه لم يعتبر في السنين المعدودة معنى مغاير لمراتبالأعداد كما أعتبر في الأوقات المحسوبة وتحقيقه أن الحساب إحصاءماله كمية إنفصالية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها عدد معين له إسم خاص وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من إثني عشر شهر قد تحصل كل من ذلك من أيام معلومة قد تحصل كل منها من ساعات كذلك والعد مجرد إحصائه بتكرير أمثاله من غير إعتبار أن يتحصل بذلك شيء كذلك ولما لم يعتبر في السنين المعدودةتحصيل حد معين له إسم خاص غير أسامي مراتب الأعداد وحكم مستقل أضيف إليها العدد وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف إعتباري لا يجدي في تحصيل المعدود نفعا وحيث أعتبر في الأوقات المحسوبة تحصيل ما ذكر من المراتب التي لها أسام خاصة وأحكام مستقلة علق بها الحساب المنبئ عن ذلك والسنة من حيث تحققها في نفسها ممايتعلق به الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها وتعلقه فيضمن ذلك بكل واحدة من تلك الطائفة ليس من تلك الحيثية المذكورة أعني حيثية تحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيامقد حصل كل منها من عدة ساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث أنهافرد من تلك الطائفة المعدودة من غير أن يعتبر معها شيء غير ذلك
وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودا وعلماعلىالعكس لأن العلم المتعلق بعدد السنين له علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا وإن لم تتحد الجهة أو لأن العدد من حيث أنه لم يعتبرفيه تحصيل أمر آخر حسبما حقق آنفا نازل من الحساب الذي أعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب قاله شيخ الإسلام
ماخلق الله ذلك أي ما ذكر من الشمس والقمر على ماحكى سبحانه من الأحوال إلا بالحق إستثناء من أعم أحوال الفاعل والمفعول والباءللملابسة أي ما خلق ذلك ملتبسا بشيء من الأشياء إلا ملتبسا بالحق مراعيا فيه الحكمة والمصلحة أو مراعي فيه ذلك فالمراد بالحق هنا خلاف الباطل والعبث يفصل الآيات أي الآيات التكوينية المذكورة أو الأعم منهاويدخل المذكور دخولا أوليا أو نفصل الآيات التنزيلية المنبهة على ذلك وقرئ نفصل بنون العظمة وفيه التفات لقوم يعلمون 5 الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل وعلا أو يعلمونما في تضاعيف الآيات المنزلة فيؤمنون بها
ذكرنا وغيرهم إن في إختلاف الليل والنهار تنبيه آخر إجمالي علىما ذكر أي في تعاقبهما وكون كل منهما على خلاف التوالي فإنه يلزمهاحركة سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب على ما تقدم مع سكون الأرض وهذا في أكثر المواضع وأما في عرض تسعين فلا يطلع شيء ولا يغرب بتلك الحركةأصلا بل بحركات أخرى وكذا فيما يقرب منه قد يقع طلوع وغروب بغير ذلك وتسمى تلك الحركة الحركة اليومية وجعلها بعضهم بتمامها للأرض وجعل آخرون بعضها للأرض وبعضها للفلك الأعظم والمشهور عند كثير منالمحدثين أن الشمس نفسها تجري مسخرة بإذن الله تعالى في بحر مكفوف فتطلع وتغرب حيث شاء الله تعالى
(11/71)

ولا حركة للسماء وإلى مثل ذلك ذهب الشيخ الأكبر قدس سره
ويجوز أن يراد بإختلاف الليل والنهار تفاوتهما في أنفسهما بإزدياد كل منهما بإنتقاص الآخر وإنتقاصه بإزدياده وهو ناشيء عندهم من إختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بسبب حركتها الثانية التي بها تختلف الأزمنة وتنقسم السنة إلى فصول وقد يتساوى الليل والنهار في بعض الأزمان عند بعض وذلك إنما يكون إذا إتفق حلول الشمس نقطة الإعتدال عند الطلوع أو الغروب وكان الأوج في أحد الإعتدالين فإنه إذا تحقق الأول كان قوس النهار كقوس الليل وإذا تحقق الثاني كان الأمر بالعكس وهذا نادر جدا ولا يمكن على ما ذهب إليه بطليموس من عدم حركة الأوج فلا يتساوى الليل والنهار عنده أصلا وقد يراد إختلافهما بحسب الأمنكة أما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالي أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها وأما في أنفسهما فإن كرية الأرض على ما قالوا تقتضي أن تكون بعض الأوقات فيبعض الأماكن ليلا وفي مقابله نهارا
وماخلق الله في السموات والأرض من المصنوعات المتقنة والآثار المحكمة لآيت عظيمة كثيرة دالة الرسول وإنزال الكتاب وتبين طرائقالهدى وتعيين مهاوي الردى لقوم يتقون 6 الله تعالى ويحذرون من العاقبة وخصصهم سبحانه بالذكر لأن التقوى هي الداعية للنظر والتدبر إن الذين لا يرجون لقاءنا بيان لما آل أمر من كفر بالبعث المشارإليه فيما سبق وأعرض عن البينات الدالة عليه والمراد بلقائه تعالى شأنه إما الرجوع إليه بالبعث أو لقاء الحساب وأيا ما كان ففيه مع الإلتفات إلى ضمير الجلالة من تهويل الأمر ما لا يخفى
والرجاء يطلق على توقع الخير كالأمل وعلى الخوف وتوقع الشر وعلى مطلق التوقع وهو في الأول حقيقة وفي الأخيرين مجاز وإختار بعض المحققين المعنى المجازي الأخير المنتظم للأمل والخوف فالمعنى لا يتوقعون الرجوع إلينا أو لقاء حسابنا المؤدي إلى حسن الثواب أو إلى سوء العقاب فلا يأملون الأول ولا يخافون الثاني ويشير إلى عدم أملهم قولهسبحانه : ورضوا بالحياة الدنيا فإنه منبىء عن إيثار الأدنى الخسيس على الأعلى النفيس وإلى عدم خوفهم قوله عز و جل : واطمأنوا بها فإن المراد أنهم سكنوا فيها سكون من لا يراح له آمنين من إعتراء المزعجات غير مخطرين ببالهم ما يسوءهم من العذاب وجوز أن يراد بالرجاءالمعنى الأول والكلام على حذف مضاف أي لا يؤملون حسن لقائنا بالبعث والإحياء بالحياة الأبدية ورضوا بدلا منها ومما فيها من الكرامات السنية بالحياة الدنيا الفانية الدنية وسكنوا إليها مكبين عليهاقاصرين مجامع هممهم على لذائذها وزخارفها من غير صارف يلويهم ولاعاطف يثنيهم وجوز أن يراد به المعنى الثاني والكلام على حذف المضاف أيضا أي لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف وتعقب بأن كلمة الرضا بالحياة الدنيا تأبى ذلك فإنها منبئة عما تقدم من ترك الأعلى وأخذ الأدنى وقال الإمام : إن حمل الرجاء على الخوف بعيد لأن تفسيرالضد بالضد غير جائز ولا يخفى أنه في حيز المنع فقد ورد ذلك في إستعمالهم وذكره الراغب
(11/72)

والإمام المرزوقي وأنشدوا شاهدا له قول أبي ذؤيب : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عوامل ووجه ذلك الراغب بأن الرجاء والخوف يتلازمان وأما الإعتراض علىالإمام بأن إستعمال الضد في الضد جائز في الإستعارة التهكمية فليس بشيء لأن مقصوده رحمه الله تعالى أن ذلك غير جائز في غير الإستعارة المذكورة كما يشعر به قوله تفسير دون إستعارة ثم إنه لا يجوز إعتبارهذه الإستعارة هنا لأن التهكم غير مراد كما لا يخفى ويعلم مما ذكرنا في تفسير الآية أن الباء للظرفيه وجوز أن تكون للسببيه على معنى سكنوا بسبب زينتها وزخارفها وإختيار صيغة الماضي في الخصلتين الأخيرتين للدلالة على التحقق والتقرر كما أن إختيار صيغة المستقبل في الأولى للإيذان بالإستمرار والذين هم عن ءاياتنا المفصلة في صحائف الأكوان حسبما أشير إلى بعضها أو آياتنا المنزلة المنبهة على الإستدلال بها المتفقة معها في الدلالة على حقية مالا يرجونه من اللقاء المترتب على البعث وعلى بطلان مارضوا به وإطمأنوا فيه من الحياة الدنيا غافلون 7 لا يتفكرون فيها أصلا وإن نبهوا بما نبهوا لإنهماكهم بما يصدهم عنها من الأحوال المعدودة وتكرير الموصول للتوصل به إلى هذه الصلة المؤذنة بدوام غفلتهم وإستمرارها والعطف لمغايرة الوصف المذكور لما قبله من الأوصاف وفي ذلك تنبيه على أنهم جامعون لهذا وتلك وأن كل واحد منهما متميز مستقل صالح لأن يكون منشأ للذم والوعيد والقول لأن ذلك لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والإنهماك في الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم الآخرة أصلا ليس بشيء إذ يفهم من ظاهره ان كلا منهما غير موجب للوعيد بالإستقلال بل الموجب له المجموع وهو كما ترى وكونه لتغاير الفريقين بأن يراد من الأولين من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجلعن التأمل في الآجل والإعداد له كأهل الكتاب الذين ألهاهم حب الدنياوالرياسة عن الإيمان والإستعداد للآخرة بعيد غاية البعد في هذا المقام لإولئك أي الموصوفون بما ذكر مأواهم أي مسكنهم ومقرهم الذيلا براح لهم منه النار لا ما إطمأنوا به من الحياة الدنيا ونعيمها بما كانوا يكسبون 8 من الأعمال القلبية المعدودة وما يستتبعه من المعاصي أو يكسبهم ذلك والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على الإستمرار والباء متعلقة بما دل عليه الجملة الأخيرة الواقعة خبرا عن إسم الإشارة وقدره أبو البقاء جوزوا وجملة أولئك إلخخبر إن في قوله سبحانه : إن الذين لا يرحون إلخ إن الذين آمنوابما يجب الإيمان به ويندرج فيه الإيمان بالآيات التي غفل عنها الغافلون إندراجا أوليا وقد يخص المتعلق بذلك نظرا للمقام وعملوا الصالحات أي الأعمال الصالحة في أنفسها اللائقة بالإيمان وترك ذكر الموصوفلجريان الصفة مجرى الأسماء يهديهم ربهم بايمانهم أي يهديهم بسبب إيمانهم إلى مأواهم ومقصدهم وهي الجنة وإنما تذكر تعويلا على ظهورها وإنسياق النفس إليها لا سيما مع ملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة وما أداهم إليه من الأعمال السيئة ومشاهدة ما لحق من التلويح والتصريح
(11/73)

والمراد بهذا الإيمان الذي جعل سببا لما ذكر الإيمان الخاص المشفوع بالأعمال الصالحة لا المجرد عنها ولا ما هو الأعم ولا ينبغي أن ينتطح فيذلك كبشان والآية عليه بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه الجماعة من أن الإيمان الخالي عن العمل الصالح يفضي إلى الجنة في الجملة ولا يخلد صاحبه في النار فإن منطوقها أن الإيمان المقرون بالعمل الصالح سبب للهداية إلى الجنة وأما أن كل ما هو سبب لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالة لها ولا لغيرها عليه كيف لا وقوله سبحانه : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون مناد بخلافه بناءعلى ما أطبقوا عليه من تفسير الظلم بالشرك ولئن حمل على ظاهره أيضايدخل في الإهتداء من آمن ولم يعمل صالحا ثم مات قبل أن يظلم بفعل حرام أو بترك واجب وإلى حمل الإيمان على ما قلنا ذهب الزمخشري وقال : إن الآية تدل على أن الإيمان المعتبر في الهداية إلى الجنة هوالإيمان المقيد بالعمل الصالح ووجه ذلك بأنه جعل فيها الصلة مجموع الأمرين فكأنه قيل : إن الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قيل : بإيمانهم أي هذا المضموم إليه العمل الصالح وزعم بعضهم أن ذلكمنه مبني على الإعتزال وخلود غير الصالح في النار ثم قال إنه لادلالة في الآية على ما ذكره لأنه جعل سبب الهداية إلى الجنة مطلق الإيمان وأما أن اضافته الى ضمير الصالحين يقتضي أخذ الصلاح قيدا في التسبب فممنوع فإن الضمير يعود على الذوات بقطع النظر عن الصفات وأيضا فإن كون الصلة علة للخبر بطريق المفهوم فلا يعارض السبب الصريح المنطوق على أنه ليس كل خبر عن الموصول يلزم فيه ذلك ألا ترى أننحوه الذي كان معنا بالأمس فعل كذا خال عما يذكرونه في نحو الذي يؤمنيدخل الجنة وإنتصر للزمخشري بأن الجمع بين الإيمان والعمل الصالح ظاهر في أنهما السبب والتصريح بسببية الإيمان المضاف إلى ضمير الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالتنصيص على أنه ذلك الإيمان المقرون بما معه لا المطلق لكنه ذكر لأصالته وزيادة شرفه ولا يلزم على هذا إستدراكذكره ولا إستقلاله بالسببية
وفيه رد على القاضي البيضاوي حيث إدعى أن مفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية الإيمان والعمل الصالح لكن منطوق قوله سبحانه : بإيمانهم دل على إستقلال الإيمان ومنع في الكشف أيضا كون المنطوق ذلك وفرعه على كون الإستدلال من جعل الإيمان والعمل الصالح واقعين في الصلة ليجريا مجرى العلة ثم لما أعيد الإيمان مضافا كان إشارة إلىالإيمان المقرون لما ثبت أن إستعمال ذلك إنما يكون حيث معهودوالمعهود السابق هو هذا والأصل عدم غيره ثم قال : ولو سلم ان المنطوق ذلك لم يضر الزمخشري لأن العمل يعد شرطا حينئذ جمعا بين المنطوق والمفهوم بقدر الإمكان فلم يلغ إقتران العمل ولا دلالة السببية وهذا فائدة إفراده بالذكر ثانيا مع ما فيه من الأصالة وزيادة الشرف ولا مخالف له من الجماعة لأن العصاة غير مهديين وأما أن كل من ليس مهتديا فهو خالد في النار فهو ممنوع غاية المنع إنتهى وفي القلب من هذا المنع شيء والأولى التعويل على ما قدمناه في تقرير كون الآية بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه الجماعة والهداية على هذا الوجه يحتمل أن تفسر بالدلالة الموصلة إلى البغية وبمجرد الدلالة والمختارالأول وإختار الثاني من قال : إن المعنى يهديهم طريق الجنة بنورإيمانهم وذلك اما على تقدير المضاف أو على أن إيمانهم يظهر نورا بين أيديهم وقيل : إن المعنى يسددهم بسبب إيمانهم للإستقامة علىسلوك السبيل المؤدي إلى الثواب والهداية عليه بالمعنى الأول وقيل : المراد يهديهم إلى إدراك حقائق الأمور فتنكشف لهم بسبب ذلك وأيا ما كان فالإالتفات في
(11/74)

قوله سبحانه : ربهم لتشريفهم بإضافة الرب إليهم مع الإشعار بعلة الهداية وقوله تعالى : تجري من تحتهم الأنهار أي من تحت منازلهم أو من بين أيديهم إستئناف نحوي أو بياني فلا محل له من الإعراب أو خبر ثان لإن فمحله الرفع
وجوز أن يكون في محل النصب على الحال من مفعول يهديهم على تقديركون المهدي إليه ما يردونه في الجنه كما قال أبو البقاء وإن جعلحالا منتظرة لم يحتج إلى القول بهذا التقدير لكنه خلاف الظاهر والزمخشري لما فسر يهديهم ربهم بيسددهم إلخ جعل هذه الجملة بيانا له وتفسيرا لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها ولا يخفى أن سبيلهذا البيان سبيل البدل وبذلك صرح الطيبي وحينئذ فمحلها الرفع لأنه محل الجملة المبدل منها وقوله سبحانه : في جنات النعيم 9 خبر آخرأو حال أخرى من مفعول يهديهم فتكون حالا مترادفة أو من الأنهار فتكون متداخلة أو متعلق بتجري أو بيهدي والمراد على ما قيل بالمهدي إليه إما منازلهم في الجنة أو ما يريدونه فيها دعواهم أي دعاؤهم وهو مبتدأ وقوله تعالى شأنه : فيها متعلق به وقوله سبحانه : سبحانك اللهم خبره أي دعاؤهم هذا الكلام والدعوى وإن إشتهرت بمعنى الإدعاء لكنها وردت بما ذكرنا أيضا وكون الخبر من جنس الدعاء يشهد له قوله صلى الله تعالى عليه وسلم أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات لا إله إلاالله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والظاهر أن إطلاق الدعاء على ذلك مجاز وهو الذي يفهمه كلام ابن الأثيرحيث قال : إنما سمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاء لأنه بمنزلته في إستيجاب ثواب الله تعالى وجزائه وفي الحديث إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسئلتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وجاءت بمعنى العبادة كما في قوله سبحانه : وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وجوز إرادته هنا والمراد نفي التكليف أي لا عبادة لهم غير هذا القول وليس ذلك بعبادة وإنما يلهمونه وينطقون به تلذذا لا تكليفا ونظير ذلك قوله سبحانه : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية وفيه خفاء كما لا يخفى وقد يقال : يأتي نظير هذا في الآية على إحتمال أن يراد بالدعوىالدعاء حقيقة فيكون المعنى على طرز ما قرر أنه لا سؤال لهم من اللهتعالى سوى ذلك ومن المعلوم أن ذلك ليس بسؤال فيفيد أنه لاسؤال لهم أصلا
والغرض من ذلك الإشارة إلى حصول جميع مقاصدهم بالفعل فليس بهم حاجةإلى سؤال شيء إلا أن فيه ما فيه ونصب سبحان على المصدرية لفعلمحذوف وجوبا وهو بمعنى التسبيح وقدرت الجملة إسمية أي أنا نسبحك تسبيحا لأنها أبلغ والجمل التي بعدها كذلك و اللهم بتقدير يا ألله حذف حرف النداء وعوض عنه الميم وتمام الكلام فيه وفيما قبله قد تقدم لك فتذكر وكان القياس تقديم الإسم الجليل لأن النداء يقدم على الدعاء لكنه إستعمل في التسبيح كذلك قيل : لأنه تنزيه عن جميع النقائص وفي النداء ربما يتوهم ترك الأدب
وتحيتهم أي ما يحيون به فيها سلام أي سلامتهم من كل مكروه وهوخبر تحيتهم و فيها متعلق بها والتحية التكرمة بالحال الجليلةوأصلها أحياك الله تعالى حياة طيبة وإضافتها هنا إلى المفعول والفاعل أما الله سبحانه أي تحية الله تعالى إياهم ذلك ويرشد إليه قوله عز و جل : سلام قولا من رب رحيم أو الملائكة عليهم السلام ويرشد إليه سبحانه : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام
(11/75)

وجوز أن تكون الإضافة إلى الفاعل بتقدير مضاف أي تحية بعضهم بعضا آخرذلك وقد يعتبر البعض المقدر مفعولا فالإضافة إلى المفعول والفاعل محذوف وقيل : يجوز أن يكون مما أضيف فيه المصدر لفاعله ومفعولهمعا إذا كان المعنى يحي بعضهم بعضا ونظيره في الإضافة إلى الفاعل والمفعول قوله تعالى : وكنا لحكمهم شاهدين حيث أضيف حكم إلى ضميرداود وسليمان عليهما السلام وهما حاكمان وغيرهما وهم المحكوم عليهم وليس ذلك من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف فيه حيث أن إضافة المصدر لفاعله حقيقة ولمفعوله مجاز لأنه لا خلاف في جواز الجمع إذا كانالمجاز عقليا إنما الخلاف فيه إذا كان لغويا وءاخر دعواهم أيخاتمة دعائهم أن الحمد لله رب العالمين 10 أي أنه الحمد لله فأن مخففة من الثقيلة وإسمها ضمير شأن محذوف والجملة الإسمية خبرها وأن ومعمولاها خبر آخر وليست مفسرة لفقد شرطها ولا زائدة لأن الزيادةخلاف الأصل ولا داعي إليها على أنه قد قرأ ابن محيصن ومجاهد وقتادة ويعقوب بتشديدها ونصب الحمد وفي ذلك دليل لما قلنا والظاهر أن تحقق مضمون هذه الجمل لكونها إسمية على سبيل الدواموالإستمرار وفي الأخبار ما يؤيده فلعل القوم لما دخلوا الجنة حصل لهم من العلم بالله تعالى ما لم يحصل لهم قبله على إختلاف مراتبهم
وقد صرح مولانا شهاب الدين السهروردى في بعض رسائله في الكلام بتفاوت أهل الجنة في المعرفة فقال : إن عوام المؤمنين في الجنة يكونون في العلم كالعلماء في الدنيا والعلماء فيها يكونون كالأنبياء عليهم السلام في الدنيا والأنبياء عليهم السلام يكونون في ذلك كنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ويكون لنبينا عليه الصلاة و السلام من العلم بربه سبحانه الغاية القصوى التي لا تكون لملك مقرب ولا لنبي مرسل ويمكن أن يكون ذلك المقام المحمود ولا يبعد عندي أنهم مع تفاوتهم في المعرفة لا يزالون يترقبون فيها على حسب مراتبهم والسير في الله سبحانه غير متناه والوقوف على الكنه غير ممكن وحينئذ التفاوت في معرفة الصفات وهيكما قيل إما سلبية وتسمى بصقات الجلال لأنها يقال فيها : جل عن كذا جلعن كذا وإما غيرها وتسمى بصفات الإكرام وبذلك فسر قوله تعالى : تباركاسم ربك ذي الجلال والاكرام فلا يزالون يدعون الله تعالى بالتسبيح الذي هو إشارة إلى نعته بنعوت الجلال وبالتحميد الذي هو إشارة إلىوصفه بصفات الإكرام والدوام عرفي وهو أكثر من أن يحصى وقوله عليه الصلاة و السلام في وصف أهل الجنة كما في صحيح مسلم : يسبحون الله تعالى بكرة وعشيا يؤيد بظاهره ذلك والمراد بالبكرة والعشية كما قال النووي قدرهما وظاهر الآية أنهم يقدمون نعته تعالى بنعوت الجلال ويختمون دعاءهم بوصفه بصفات الإكرام لأن الأولى متقدمة علىالثانية لتقدم التخلية على التحلية ويرشد إلى ذلك قوله سبحانه : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير والمختار عندي كون فاعل التحية هو الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام وحينئذ لا يبعد أن يكونالترتيب الذكري حسب الترتيب الوقوعي وذلك بأن يقال : إنهم حين يشرعون بالدعاء يسبحون الله تعالى وينزهونه فيقابلون بالسلام وهودعاء بالسلامة عن كل مكروه فإن كان من الله سبحانه فهو مجاز لا محالة لإستحالة حقيقة الدعاء عليه تعالى وإن كان من الملائكة عليهم السلام فلامانع من بقائه على حقيقته لكن يوجه الطلب فيه إلى الدوام لأن أصل السلامة حاصل لهم وإن قلنا : إنها تقبل الزيادة فلا بعد في أن يوجهإلى طلبها وما ألطف مقابلة التسبيح والتنزيه بالسلامة عن المكروه لقربها من ذلك معنى كما لا يخفى على المنصف ثم يختمون دعاءهم بالحمد لله رب العالمين وهكذا لا يزال دأبهم بكرة وعشيا كما يشير إليه خبرالصحيح ولعل
(11/76)

عدم ذكر التحميد فيه إكتفاء بما في الآية وهذا ما عندي فيها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج قال : أخبرت أنأهل الجنة إذا مر بهم الطائر يشتهونه قالوا : سبحانك اللهم وذلك دعاؤهم به فيأتيهم الملك بما إشتهوا فإذا جاء الملك به يسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله تعالى : وتحيتهم فيها سلام فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا : الحمد لله رب العالمين وذلك قوله سبحانه : وآخردعواهم أن الحمد لله رب العالمين وهو ظاهر في أن الترتيب الذكري حسب الترتيب الوقوعي أيضا لكن يدل على أن الدعوى بمعنى الدعاء ومعنى كون سبحانك اللهم دعاء وطلبا لما يشتهون حينئذ أنه علامة للطلب ونظير ذلك تسبيح المصلي إذا نابه شيء في صلاته وفي بعض الآثار أن هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا قالوها أتوهم بما يشتهون
وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب مرفوعا أنهم إذا قالوا ذلك أتاهمما إشتهوا من الجنة من ربهم ولا بأس في ذلك نعم في كون الحمد بعد أكل قدر حاجتهم مدلول قوله سبحانه : وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين خفاء
وقال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله : لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله سبحانه وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلالثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام وهو أيضا ظاهر في كونالترتيب الذكري كما قلنا إلا أنه تعقب بأن إضافة آخر إلى دعواهم يأباه وكأن وجه الإباء على ما قيل : إن ذلك على هذا آخر الحال وبأن إعتبار الفوز بالكرامات في مفهوم السلام غير ظاهر ولعل الأمر في ذلك سهل
وقال شيخ الإسلام : لعلهم يقولون : سبحانك اللهم عندما يعاينون من تعآجيب آثار قدرته تعالى ونتائج رحمته ورأفته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر تقديسا لمقامه تعالى عن شوائب العجزوالنقصان وتنزيها لوعده الكريم عن سمات الخلف ويكون خاتمة دعائهم أن يقولوا : الحمد لله رب العالمين نعتا له تعالى شأنه بصفات الإكرام إثر نعته بصفات الجلال والمعنى دعاؤهم منحصر فيما ذكر إذ ليس لهم مطلب مترقب حتى ينظموه في سلك الدعاء ولعل توسيط ذكر تحيتهم عند الحكاية بين دعائهم وخاتمته للتوسل إلى ختم الحكاية بالتحميد تبركا مع أن التحية ليست بأجنبية على الإطلاق إنتهى وكأنه أراد بعدم كون التحية أجنبية على الإطلاق كونها دعاء معنى وكلامه نص في أن الترتيب الوقوعي مخالف للترتيب الذكري ولا يخفى أن توجيه توسيط ذكر التحية بما ذكره مما لا يكاد يرتضيه منصف على أنه غفل هو وسائر من وقفنا على كلامه من المفسرين عن توجيه إسمية الجمل فإفهم والله تعالى أعلم ولو يعجل الله للناس هم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى المذكورون في قوله سبحانه : إن الذين لا يرجون لقاءنا إلخ والآيةمتصلة بذلك دالة على إستحقاقهم للعذاب وأنه سبحانه إنما يمهلهم إستدراجا وذكر المؤمنين وقع في البين تتميما ومقابلة وجيء بالناس بدل ضميرهم تفظيعا للأمر
وفي إرشاد العقل السليم إنما أوردوا بإسم الجنس لما أن تعجيل الخيرلهم ليس دائرا على وصفهم المذكور إذ ليس كل ذلك بطريق الإستدارج والمراد لو يعجل الله تعالى لهم الشر الذي كانوا يستعجلون به تكذبيا وإستهزاء فإنهم كانوا يقولون : اللهم إن كان هذا هو الحق منعندك فأمطر علينا حجارة
(11/77)

من السماء أو إئتنا بعذاب أليم ويقولن متى هذا الوعد إن كنتم صادقينونحو ذلك
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال : هو دعاء الرجلعلى نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له وأخرجا عن مجاهد أنه قال : هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب اللهم لا تبارك فيه اللهم العنه وفيه حمل الناس على العموم والمختار الأول ويؤيده : ما قيل من أنالآية نزلت في النضر بن الحرث حين قال : اللهم إن كان هذا هو الحق إلخ وقوله سبحانه : استعجالهم بالخير نصب على المصدرية والأصل على ما قال أبو البقاء تعجيلا مثل إستعجالهم فحذف تعجيلا وصفته المضافة وأقيم المضاف إليه مقامها
وفي الكشاف وضع إستعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم إشعارا بسرعةإجابته سبحانه لهم وإسعافه بطلبتهم حتى كأن إستعجالهم بالخير تعجيلله وهو كلام رصين يدل على دقة نظر صاحبه كما قال ابن المنير إذ لا يكاد يوضع مصدر مؤكد مقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز بدون مثل هذه الفائدة الجليلة والنحاة يقولون في ذلك : أجري المصدر على فعل مقدر دل عليه المذكور ولا يزيدون عليه وإذا راجع الفطن قريحته وناجى فكرته علم أنه إنما قرن بغير فعله لفائدة وهي في قوله تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا التنبيه على نفوذ القدرة في المقدوروسرعة إمضاء حكمها حتى كأن إنبات الله تعالى لهم نفس نباتهم أي إذاوجد الإنبات وجد النبات حتما حتى كأن أحدهما عين الآخر فقرن به وقال الطيبي : كان أصل الكلام ولو يجعل الله للناس الشر تعجيله ثم وضع موضعه الإستعجال ثم نسب إليهم فقيل إستعجالهم بالخير لأن المراد أن رحمته سبقت غضبه فأريد مزيد المبالغة وذلك أن إستعجالهم الخير أسرع من تعجيل الله تعالى لهم ذلك فإن الإنسان خلق عجولا والله تعالى صبور حليم يؤخر للمصالح الجمة التي لا يهتدي إليها عقل الإنسان ومع ذلك يسعفهم بطلبتهم ويسرع إجابتهم وأوجب أبو حيان كون التقدير تعجيلامثل إستعجالهم أو أن ثم محذوفا يدل عليه المصدر أي لو يعجل الله للناس الشر إذا إستعجلوه بالخير قال : لأن مدلول عجل غير مدلول إستعجل لأن عجل يدل على الوقوع وإستعجل يدل على طلب التعجيل وذلك واقع من الله تعالى وهذا مضاف إليهم فلا يجوز ما قرره الزمخشري وأتباعه : وأجاب السفاقسي بأن إستفعل هنا للدلالة على وقوع الفعل لاعلى طلبه كإستقر بمعنى أقر وقوله : وهذا مضاف إليهم مبني على أن المصدر مضاف للفاعل ويحتمل أن يكون مضافا للمفعول ولا يخفى أن كل ذلك ناش من قلة التدبر ومعنى قوله سبحانه : لقضي إليهم أجلهم لأميتوا وأهلكوا بالمرة يقال : قضي إليه أجله أي أنهى إليه مدته التي قدر فيها موته فهلك وفي إيثار صيغة المبني للمفعول جرى على سنن الكبرياء مع الإيذان بتعين الفاعل وقرأ ابن عامر ويعقوب لقضي على البناء للفاعل وقرأ عبدالله لقضينا وفيه إلتفات واختيارصيغة الإستقبال في الشرط وإن كان المعني على المضي لإفادة أن عدم قضاءالأجل لإستمرار عدم التعجيل فإن المضارع المنفي الواقع موقع الماضي ليس بنص في إفادة المحققين أن المقدم ههنا ليس نفس التعجيل المذكوربل هو إرادته المستتبعة للقضاء المذكور وجودا وعدما لأن القضاء ليس أمرا مغايرا لتعجيل الشر في نفسه بل هو إما نفسه أو جزئي منه
(11/78)

كسائر جزئياته من غير مزية له على البقية إذ لم يعتبر في مفهومهما ليس في مفهوم تعجيل الشر من الشدة والهول فلا يكون في ترتبه عليه وجودا أو عدما مزيد فائدة مصححة لجعله تاليا له فليس كقوله تعالى : لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولا كقوله سبحانه : ولو ترى إذوقفوا على ربهم وقوله تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبواما ترك على ظهرها من دابة إذا فسر الجواب بالإستئصال وأيضا فيترتيب التالي على إرادة المقدم ما ليس في ترتيبه على المقدم نفسه من الدلالة على المبالغة وتهويل الأمر والدلالة على أن الأمور منوطة بإرادته تعالى المبنية على الحكم البالغة
وقوله سبحانه : فنذر الذين لايرجون لقاءنا أي نتركهم إمهالا وإستدراجا في طغيانهم الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على ذلك من الأعمال السيئة والمقالات الشنيعة يعمهون 11 أي يترددون ويتحيرون لا يصح عطفه على شرط لو ولا علىجوابها لإنتفائه وهو مقصود إثباته وليست لو بمعنى أن كما قيل فهو إما معطوف على مجموع الشرطية لأنها في معنى لا يعجل لهم وفي قوته فكأنه قيل : لا يعجل بل يذرهم أو معطوف على مقدر تدل عليه الشرطية أي ولكن يمهلهم أو ولكن لا يعجل ولا يقضي فيذرهم وبكل قال بعض وقيل : الجملةمستأنفة والتقدير فنحن نذرهم وقيل : إن الفاء واقعة في جواب شرطمقدر والمعنى لو يعجل الله تعالى ما إستعجلوه لأبادهم ولكن يمهلهم ليزيدوا في طغيانهم ثم يستأصلهم وذا كان كذلك فنحن نذر هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يترددون ثم نقطع دابرهم وصاحب الكشف بعدما قرر أن إتصال ولو يعجل إلخ بقوله تعالى : إن الذين لا يرجون لقاءنا إلخ وأن ذكر المؤمنين إنما وقع في البين تتميما ومقابلةوليس بأجنبي قال : إنه لا حاجة إلى جعل هذا جواب شرط مقدر وفي وضع الموصول موضع الضمير نوع بيان للطغيان بما في حيز الصلة وإشعاربعليته للترك والإستدراج
وإذا مس الإنسان الضر أي إذا أصابه جنس الضر من مرض وفقر وغيرهما من الشدائد إصابة يسيرة وقيل : مطلقا دعانا لكشفه وإزالته لجنبه في موضع الحال ولذا عطف عليه الحال الصريحة أعني قوله سبحانه : أو قاعدا أو قائما أي دعانا مضطجعا أو ملقى لجنبه واللام على ظاهرها وقيل : إنها بمعنى على كما في قوله تعالى : يخرون للأذقان ولا حاجة إليه وقد يعبر بعلى وهي تفيد إستعلاءه عليه واللام تفيدا إختصاص كينونته وإستقراره بالجنب إذ لا يمكنه الإستقرار علىغير تلك الهيئة ففيه مبالغة زائدة
وإختلف في ذي الحال فقيل : إنه فاعل دعانا وقيل : هو مفعول مس وإستضعف بأمرين : أحدهما تأخر الحال عن محلها من غير داع الثاني أن المعنى على أنه يدعو كثيرا في كل أحواله إلا أنه خص المعدودات بالذكر لعدم خلو الإنسان عنها عادة لا أن الضر يصيبه في كل أحواله : وأجيب عن هذا بأنه لا بأس به فإنه يلزم من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه فيها أيضا لأن القيد في الشرط قيد في الجواب فإذا قلت إذا جاء زيد فقيرا أحسنا إليه فالمعنى أحسنا إليه في حال فقره وأنت تعلم أنالأظهر هو الأول وإعتبر بعضهم توزيع هذه الأحوال على أفراد الإنسان على معنى أن من الإنسان من يدعو على هذه الحالة ومنه من يدعو على تلك وذكر غير واحد أنه يجوز أن يكون المراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار لأنها إما خفيفة
(11/79)

لا تمنع الشخص القيام أو متوسطة تمنعه القيام دون القعود أو شديدة تمنعه منها وإنفهام ذلك منها بمعونة السياق و إذا قيل إنها على أصلها وقيل إنها للمضي فلما كشفنا عنه ضره الذي مسه غب ما دعانا كما ينبيء عنه الفاء مر أي مضى وإستمر على ماكان عليه قبل ونسي حالة الجهد والبلاء أو مر عن موقف الدعاء والإبتهال ونأي بجانبه والمرور على الأول مجاز وعلى الثاني باق على حقيقته ويكون كناية عن عدم الدعاء كأن لم يدعنا أي كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن ومثل ذلك قوله : ووجه مشرق النحر كأن ثدياه حقان فان الأصل فيه كأنه فخفف كأن وحذف ضمير الشأن لكن صرح ابن هشام في شواهده أن ذلك غير متعين إذ يجوز كون الضمير للوجه أو للصدر على رواية وصدر وروي كأن ثدييه على إعمال كأن في إسم مذكور ولا يبعدأن يجوز ذلك في الرواية الأولى على بعض اللغات والجملة التشبيهية في موضع الحال من فاعل مر أي مر مشبها بمن لم يدعنا إلى ضر أي إلى كشفه لأنه المدعو إليه وقيل : لاحاجة إلى التقدير وإلى بمعنى اللام أي لضر مسه والظاهر أن هذا وصف لجنس الإنسان مطلقا أوالكافر منه بإعتبار حال بعض الأفراد ممن هو متصف بهذه الصفات
وذكر الشهاب أن المفسرين في المراد بالإنسان هنا ثلاثة أقوال فقيل : الجنس وقيل : الكافر وقيل : شخص معين وعليه لا حاجة إلىالإعتبار لكن لا إعتبار له كذلك أي مثل ذلك التزيين العجيب زين للمسرفين أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمة ماكانوا يعلمون 12 من الإعراض عن الذكر والدعاء والإنهماك في الشهوات والإسراف مجاوزة الحد وسموا أولئك مسرفين اما أن الله تعالى إنما أعطاهم القوى والمشاعر ليصرفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خلقت له من العلوم والأعمال الصالحة وهم قد صرفوها إلى ما لا ينبغي مع أنها رأس مالهم وفاعل التزيين إما مالك الملك جل شأنه وإما الشيطان عليه اللعنة وقد مر تحقيق ذلك وكذلك فتذكر وتعلق الآية الكريمة بما قبلها قيل من حيث أن في كل منهما إملاء للكفرة على طريقة الإستدراج بعد الإنقاذ من الشر المقرر في الأولى ومن الضر المقرر في الأخرى
وذكر الإمام في وجه الإنتظام مع الآية الأولى وجهين الأول أنه تعالى بين في الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا وأكد ذلك في هذه الآية حيث دلت على غاية ضعفه ونهاية عجزه والثاني أنه سبحانه أشار في الأولى إلى أن الكفرة يستعجلون نزول العذاب وبين جل شأنه في هذه أنهم كاذبون في ذلك الطلب حيث أفادت أنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه فانه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه إنتهى ولكل وجهة
وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهرع اليه في الشدة واللائق بحال الكامل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء فإن ذلك أرجى للإجابة ففي الحديث تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال : إدع الله تعالى يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك وفي حديث للترمذي عن أبي هريرة ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء والآثار في ذلك كثيرة ولقد أهلكنا القرون مثل
(11/80)

قوم نوح وعاد وثمود وهو جمع قرن بفتح القاف أهل كل زمان مأخوذ من الإقتران كأن أهل ذلك الزمان إقترنوا في أعمالهم وأحوالهم وقيل : القرن أربعون سنة وقيل : ثمانون وقيل مائة وقيل هو مطلق الزمان والمراد هنا المعنى الأول وكذا في قوله صلى الله عليه و سلم : خير القرون قرني ثم الذين يلونهم وقوله : إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب من قبلكم أي من قبل زمانكم والخطاب لأهل مكة على طريقة الإلتفات للمبالغة في تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمى والجار والمجرور متعلق بأهلكنا ومنع أبو البقاء كونه حالا من القرون لما ظلموا أي حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادي في الغي والضلال والظرف متعلق بأهلكنا وجعل لما شرطية بتقدير جواب هو أهلكناهم بقرينة ما قبله تكلف لا حاجة إليه وقوله سبحانه : وجاءتهم رسلهم حال من ضمير ظلموا بإضمار قد وقوله تعالى : بالبينات متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من رسلهم دالة على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو متلبسين بها حين لا مجال للتكذيب وجوز أبو البقاء وغيره عطفه على ظلموا فلا محل له من الإعراب أو محله الجر وذلك عند من يرى إضافة الظرف إلى المعطوف عليه والترتيب الذكري لايجب أن يكون حسب الترتيب الوقوعي كما في قوله تعالى : ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ولا حاجة إلى هذا الإعتذار بناء علىأن الظلم ليس منحصرا في التكذيب بل هو محمول على سائر أنواع الظلم والتكذيب مستفاد من قوله تعالى : وماكانوا ليؤمنوا على أبلغ وجه وآكده لأن اللام لتأكيد النفي
وهذه الجملة على الأول عطف على ظلموا وليس من العطف التفسيري فيشيء على ما قاله صاحب الكشف خلافا للطيبي لأن الأولى إخبار بأحداث التكذيب وهذه إخبار بالإصرار عليه وعلى الثاني عطف على ماعطف عليه وقيل : إعتراض للتأكيد بين الفعل ومايجري مجرى مصدره التشبيهي أعني قوله سبحانه كذلك فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أي مثل الجزاء الفظيع أي الإهلاك الشديد الذي هو الإستئصال بالمرة نجزي القوم المجرمين 13 أي كل طائفة مجرمة فيشمل القرون وجعل ذلك عبارة عنهم غير مناسب للسياق وقرىء يجزي بياء الغيبة إلتفاتا من التكلم في أهلكنا إليها وحاصل المعنى على تقدير العطف أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل وأنهم ماصح وما إستقام لهم أن يؤمنوا لفساد إستعدادهم وخذلان الله تعالى إياهم ويقتصر على الأمر الأول في بيان الحاصل على تقدير الإعتراض وذكر الزمخشري بدل الأمر الثاني علم الله تعالى أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل عليهم السلام وجعل بيانا على التقديرين وفيه مايحتاج إلى الكشف فتدبره وتعليل عدم الإيمان بالخذلان ونحوه ظاهر وكلام القاضي صريح في تعليله أيضا بعلم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر واعترض بأنه مناف لقولهم : إن العلم تابع للمعلوم وتكلف بعض الفضلاء في تصحيحه ماتكلف ولم يأت بشيء وقال بعض المحققين :
(11/81)

معنى كون العلم تابعا للمعلوم أن علمه تعالى في الازل بالمعلوم المعين الحادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وإمتيازه عن سائر العلوم إنما هو بإعتبار أنه علم بهذه الماهية وأما وجود الماهية وفعليتها فيما لا يزال فتابع لعلمه الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال على هذه الخصوصية فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه تعالى الأزلي ووقوعه تابه له وهذا مما لاشبهة فيه وهو مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى وبه ينحل إشكالات كثيرة ففليحفظ وذكر مولانا الشيخ إبراهيم الكوراني أن معنى كون العلم تابعا للمعلوم أنه متعلق به كاشف له على ماهو عليه وبنى على ذلك كون الماهيات ثابتة غير مجعولة في ثبوتها والقول بالتبعية المذكورة مما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس سره ونازع في ذلك عبدالكريم الجيلي وقال الشيخ محمد عمر البغدادي عليه الرحمة : إن كون العلم تابعا للمعلوم بالنظر إلى حضرة الأعيان القديمة التي أعطت الحق العلم التفصيلي بها وأما بالنظر إلى العلم الإجمالي الكلي فالمعلوم تابع للعلم لأن الحق تعالى لما تجلى من ذاته لذاته بالفيض الأقدس حصلت الأعيان وإستعدادا فلم تحصل عن جهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وحينئذ فلا مخالفة بين الشيخ الأكبر قدس سره والجيلي على أنه إن بقيت هناك مخالفة فالحق مع الشيخ لأن الجيلي بالنسبة إليه نحلة تدندن حول الحمى والدليل أيضا مع الشيخ كنار على علم لكنه قد أبعد رضي الله تعالى عنه الشوط بقوله : العلم تابع للمعلوم والمعلوم أنت وأنت هو والبحث وعر المسلك صعب المرتقى وتمام الكلام فيه يطلب من محله
وإستفادة معنى العلم هنا على ما قيل من التأكيد الذي أفادته اللام وفي الآية وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لأنهم وأولئك المهلكين مشتركون فيما يقتضي الإهلاك ويعلم مما تقرر أن ضمير كانوا للقرون وهو ظاهر وجوز مقاتل أن يكون الضمير لأهل مكة وهو خلاف الظاهر وكذا جوز كون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذانا بأنهم أعلام في الأجرام وذكر القوم إشارة إلى أن العذاب عذاب إستئصال
والتشبيه على هذا ظاهر إذ المعنى يجزيكم مثل جزاء من قبلكم وأما على الأول فهو على منوال وكذلك جعلناكم أمة وسطا وأضرابه وفيه بعد أيضا بل قال المحققين : يأباه كل الإباء قوله سبحانه : ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم فإنه صريح في أنه إبتداء تعرض لأمورهم وإن ما بين فيه ميادىء أحوالهم لأختبار كيفية أعمالهم على وجه يشعر بإستمالتهم نحو الإيمان والطاعة فمحال أن يكون ذلك إثر بيان منتهى أمرهم وخطابهم ببت القول بإهلاكهم لكمال إجرامهم والعطف على قوله تعالى : ولقد أهلكنا لا على ما قبله والمعنى ثم إستخلفناكم في الأرض بعد اهلاك أولئك القرون التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها لننظر كيف تعلمون 14 أي لنعلم أي عمل تعملون فكيف مفعول مطلق لتعلمون وقد صرح في المغنى بأن كيف تأتي كذلك وأن منه كيف فعل ربك وليست معمولة لننظر لأن الإستفهام له الصدارة فيمنع ما قبله من العمل فيه ولذا لزم تقديمه على عامله هنا
وقيل : محلها النصب على الحال من ضمير تعملون كما هو المشهور فيها إذا كان بعدها فعل نحو كيف ضرب زيد أي على أي حال تعملون الأفعال اللائقة بالإستخلاف من أوصاف الحسن وفيه من المبالغة في
(11/82)

الزجر عن الأعمال السيئة ما فيه وقيل : محلها النصب على أنها مفعول به لتعلمون أي أي عمل تعملون خيرا أو شرا وقد صرحوا بمجيئها كذلك أيضا وجعلوا من ذلك نحو كيف ظننت زيدا وبما ذكر فسر الزمخشري الآية وتعقبه القطب بما تعقبه ثم قال : ولعله جعل كيف ههنا مجازا بمعنى أي شيء لدلالة المقام عليه
وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن معنى كيف السؤال عن الأحوال والصفات لا عن الذوات وغيرها فالسؤال هنا عن أحوالهم وأعمالهم ولا معنى للسؤال عن العمل إلا عن كونه حسنا أو قبيحا وخيرا أو شرا فكيف ليست مجازا بلهي على حقيقتها ثم إن إستعمال النظر بمعنى العلم مجاز حيث شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه والكلام إستعارة ثمثيلية مرتبة على إستعارة تصريحية تبعية والمراد يعاملكم معاملة من يطلب العلم بأعمالكم ليجازيكم بحبها كقوله تعالى : ليبلوكم أحسن عملا وقيل يمكن أن يقال : المراد بالعلم المعلوم فحينئذ يكون هذا مجازا مرتبا على إستعارة وأيا ما كان فلا يلزم أن لا يكون الله سبحانه وتعالى عالما بأعمالهم قبل إستخلافهم وليس مبنى تفسير النظر بالعلم على نفي الرؤية كما هو مذهب بعض القدرية القائلين بأنه جل شأنه لا يرى ولا يرى فإنا ولله تعالى الحمد ممن يقول : إنه تبارك وتعالى يرى ويرى والشروط في الشاهد ليست عقلية كما حقق في موضعه وإن الرؤية صفة مغايرة للعلم وكذا السمع أيضا وممن يقول أيضا : إن صور الماهيات الحادثة مشهودة لله تعالى أزلا في حال عدمها في أنفسها في مرايا الماهيات الثابتة عنده جل شأنه بل هو مبني على إقتضاء المعنى له فإنك إذا قلت : أكرمتك لأرى ماتصنع فمعناه أكرمتك لأختبرك وأعلم صنعك فأجازيك عليه ومن هنا يعلم أن حمل النظر علىالإنتظار والتربص كما هو أحد معانيه ليس بشيء وبعض الناس حمل كلام بعض الأفاضل عليه وإرتكب شططا وتكلم غلطا
هذا وقرىء لنظر بنون واحدة وتشديد الظاء ووجه ذاك أن النون الثانية قلبت ظاءا وأدغمت وقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم ءايتنا بينت إلتفات من خطابهم إلى الغيبة إعراضا عنهم وتوجيها للخطاب إلى سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم بتعديد جناياتهم المضادة لما أريد منهم بالإستخلاف من التكذيب والكفر بالآيات البينات وغير ذلك كدأب من قبلهم من القرون المهلكة وصيغة المضارع للدلالة على تجدد جوابهم الآتي حسب تجدد التلاوة والمراد بالآيات الآيات الدالة على التوحيد وبطلان الشرك
وقيل : ماهو أعم من ذلك والإضافة لتشريف المضاف والترغيب في الإيمان به والترهيب عن تكذيبه ونصب بينات على الحال أي حال كونها واضحات الدلالة على ماتضمنته وإيراد فعل التلاوة مبنيا للمفعول مسندا إلى الآيات دون رسول الله صلى الله عليه و سلم ببنائه للفاعل للإشعار بعدم الحاجة لتعيين التالي وللإيذان بأن كلامهم في نفس المتلو ولو تلاه رجل من لحدى القريتين عظيم قال الذين لا يرجون لقاءنا وضع الموصول موضع الضمير إشعارا بعلية ملفي حيز الصلة المعظمة المحكية عنهم وذما لهم بذلك أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إئت بقرءان غير هذا أشاروا بهذا إلى القرآن المشتمل على تلك الآيات لا إلى أنفسها فقط قصداإلىإخراج الكل من البين أي إئت بكتاب آخر نقرؤه
(11/83)

ليس فيه مانستعبده من البعث وتوابعه أو مانكرهه من ذم آلهتنا والوعيد على عبادتها أو بدله بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى ولعلهم إنما سألوا ذلك كيدا وطمعا في إجابته عليه الصلاة و السلام ليوسلوا إلى الإلزام والإستهزاء وليس مرادهم أنه عليه الصلاة و السلام لو أجابهم آمنوا قل أيها الرسول لهم مايكون لي أن أبدله المصدر فاعل يكون وهي من كان التامة وتفسر بوجد ونفي الوجود قد يراد به نفي الصحة فإن وجود ما ليس بصحيح كلا وجود فالمعنى هنا ما يصح لي أصلا تبديله من تلقاء نفسي أي من جهتي ومن عندي وأصل تلقاء مصدر على تفعال التاء ولم يجيء مصدر بكسرها غيره تبيان في المشهور
وقرىء شاذا بالفتح وهو القياس في المصادر الدالة على التكرار كالتطواف والتجوال وقد خرج هنا من ذلك إلى الظرفيةالمجازية والمجر بمن لا يخرج الظرف عن ظرفيته ولذا إختصت الظروف الغير المتصرفة كعند بدخولها عليها
ومن الناس من وهم في ذلك وقصر الجواب ببيان إمتناع ماإقترحوه على إقتراحهم الثاني للإيذان بأن إستحالة ماإقترحوه أولا من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها ولأن ما يدل على إستحالة الثاني يدل على إستحالة الأول بالطريق الأولى فهو بحسب المآل والحقيقة جواب عن الأمرين إن اتبع أي ما أتبع فيما آتى وأذر لا مايوحى إلى من غير تغيير له في شيء أصلا على معنى قصر حاله عليه الصلاة و السلام على إتباع ما يوحى لا قصر إتباعه على ما يوحى إليه كما هو المتبادر من ظاهر العبارة فكأنه قيل : ماأفعل إلا إتباع ما يوحى إلى والجملة مستأنفة بيانا لما يكون فإن من شأنه إتباع الوحي على ما هو عليه لا يستقل بشيء دونه أصلا وفي ذلك على ما قيل جواب لنقص مقدر وهو أنه كيف هذا وقد نسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا تقييد التبديل في الجواب بقوله : من تلقاء نفسي لرد تعريضهم بأنه من عنده عليه الصلاة و السلام ولذلك أيضا سماه عصيانا عظيما مستتبعا العذاب عظيم بقوله عز و جل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم 15 وهو تعليل لمضمون ما قبله من إمتناع التبديل وإقتصار أمره صلى الله تعالى عليه وسلم على إتباع الوحي أي إني أخاف إن عصيته تعالى بتعاطي التبديل والإعراض عن الوحي عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة ويوم اللقاء الذي لا يرجونه وفيه إيماء بأنهم إستوجبوا العذاب بهذا الإقتراح لأن إقتراح ما يوجبه يستوجبه أيضا وإن لم يكن كفعله والتعرض لعنون الربوبية مع الإضافة لضميرهE لتهويل أمر العصيان وإظهار كمال نزاهته صلى الله عليه و سلم وفي إيراد اليوم بالتنوين التفخيمي ووصفه بعظيم ما لا يخفى ما فيه من العذاب و تفظيعه وجوز العلامة الطيبي كون الجواب المذكور جوابا عن الإقتراحين من غير حاجة إلى شيء وذلك بحمل التبديل فيه على ما يعم تبديل ذات بذات أخرى كبدلت الدنانير دراهم وهو الذي أشاروا إليه بقولهم : ائت بقرآن غير هذا وتبديل صفة بصفة أخرى كبدلت الخاتم حلقة وهو الذي أشاروا إليه بقولهم : أوبدله وأورد عليه بأن تقييد التبديل بقوله سبحانه : من تلقاء نفسي يمنع حمله على الأعم لأنه يشعر بأن ذلك مقدور له صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن لا يفعله بغير إذنه تعالى والتبديل الذي على الأعم لأنه يشعر بأن ذلك مقدور له صلى الله تعالىعليه وسلم ولكن لا يفعله بغير إذنه تعالى والتبديل الذي أشاروا إليه أولا غير مقدور له عليه الصلاة و السلام حتى أن المقترحين يعملون إستحالة ذلك لكن إقترحوه
(11/84)

لما مر وقالوا : لو شئنا لقلنا مثل هذا مكابرة وعنادا ثم أن الظاهر أنهم اقترحوا التبديل والاتيان بطريق الافتراء قيل : لا مساغ للقول بأنهم اقترحوا ذلك من جهة الوحي فكأنهم قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي كما أتيت بالقرآن من جهته ويكون معنى قوله : مايكون لي الخ مايتسهل لي ولا يمكنني أن أبدله لما في الكشاف من أن قوله : : إني أخاف إن عصيت ربي يرد ذلك ووجه بأنهم لم يطلبوا ماهو عصيان على هذا ألتقدير حتى يقول في جوابهم ماذكر ونظر فيه بأن الطلب من غير أذن عصيان فإن لم يحمل مايتسهل لي على أن ذلك لكونه غير مأذون كان الجواب غير مطابق لسؤالهم لأن السؤال عن تبديل من الله تعالى وهو عليه الصلاة و السلام قال : لا يمكنني التبديل من تلقاء نفسي في الجواب وإن حمل عليه فالعصيان أيضا منزل عليه وأجيب بأن صاحب الكشاف حمل مايكون على أنه لايمكن ولا يتسهل والعصيان يقع على الممكن المقدور لاأنهم طلبوا ماهو عصيان أو ليس والمطابقة حاصلة بل أشدها لأن الحاصل أما التبديل من تلقاء نفسي فغير ممكن وأما من قبل الوحي فأنا تابع غير متبوع نعم لا ينكر أنه يمكن أن يأتى وجه آخر بأن يحمل على أنه لايحل لي ذلك دون أذن وصاحب الكشاف لم ينفه
وذكر بعض المحققين أنه لامساغ لحمل مقترحهم على ماهو من جهة الوحي لمكان التعليل بإني أخاف إلخ إذ المقصود بما ذكر فيه معصية الإفتراء كما يرشد إلى ذلك صريح مابعده من الآيتين الكريمتين وحينئذ لايتحقق فيه تلك المعصية ومعصية إستدعاء تبديل مااقتضته الحكمة التشريعية لا سيما بموجب لقتراح الكفرة ليست مقصودة فلا ينفع تحققها وهو كلام وجيه يعلم منه مافي الكلام السابق من النظر بقي أنه يفهم من بعض الآثار أنهم طلبوا الإتيان من جهة الوحي فعن مقاتل أن الآية نزلت في خمسة نفر عبدالله بن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبدالله بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر بن هشام قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : إن كنت تريد أن نؤمن لك فائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومنات وليس فيه عيبها وإن لم ينزل اله تعالى عليكفقل أنت من نفسك أو بدله فإجعل مكان آية عذاب آية رحمة ومكان حرام حلالا ومكان حلال حراما وربما يقال : إن هذا على تقدير صحته لا يأبى أن يكون مافي الآية ماأشار اليه تالى الشرطية الثانية من كلامهم فتدبر وقوله سبحانه : قل لوشاء الله ماتلوته عليكم تحقيق لحقية القرآن وأنه من عنده سبحانه إثر بيان بطلان ماإقترحوه على أتم وجه وصدر بالأمر المستقل إظهارالكمال الإعتناءبشأنه وإيذانا بإستقلاله مفهوما وأسلوبا فإنه برهان دال على كونه بأمر الله تعالى ومشيئته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى وماسبق مجرد إخبار بإستحالة ماإقترحوه ومفعول المشيئة محذوف ينبيء عنه الجزاء كما هو المطرد في أمثاله ويفهم من ظاهر كلام بعضهم أنه غير ذلك وليس بذلك وهو ظاهر والمعنى أن الأمر كله منوط بمشيئته تعالى وليس لي منه شيء أصلا ولو شاء سبحانه عدم تلاوتي له عليكم وعدم إدرائكم به بواسطتي بأن لم ينزله جل شأنه علي ولم يأمرني بتلاوته ماتلوته عليكم ولا أدراكم به أي ولا أعلمكم به بواسطتي والتالي وهو عدم التلاوة والإدراء منتف فينتفي المقدم وهو مشيئته العدم وهي مستلزمة لعدم مشيئته الوجود فانتفاؤه مستلزم لإنتفائه وهو إنما يكون بتحقق مشيئة الوجود فثبت أن تلاوته عليه الصلاة و السلام للقرآن وادراءه تعالى بواسطته بمشيئته تعالى
(11/85)

وتقييد الإدراء بذلك هو الذي يقتضيه المقام وحيث إقتصر بعضهم في تقدير المفعول في الشرط على عدم التلاوة علل التقييد بأن عدم الإعلام مطلقا ليس من لوازم الشرط الذي هو عدم مشيئة تلاوته عليه الصلاة و السلام فلا يجوز نظمه في سلك الجزاء ولم يظهر وجه الإقتصار على ذلك وعدم ضم عدم الإدراء إليه مع أن العطف ظاهر فيه وفي إسناد عدم الإدراء إليه تعالى المنبىء عن إستناد الإدراء إليه سبحانه أعلام بأنه لا دخل له عليه الصلاة و السلام في ذلك حسبما يقتضيه المقام أيضا وفي رواية أبي ربيعة عن ابن كثير ولأدراكم بلام التوكيد وهي الواقعة في جواب لو أي لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري على معنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به غيري وجيء باللام هنا للإيذان بأن إعلامهم به على لسان غيره صلى الله تعالى عليه وسلم أشد إنتفاء وأقوى ولعل لا في القراءة الأولى لأنه يغتفر في التابع مالا يغتفر في التبوع وإلا فهي لا تقع في جواب لو فلا يقال : لوقام زيد لا قام عمرو بل ما قام ومن هنا نص السمين على أنها زائدة مؤكدة للنفي وروى عن ابن عباس والحسن وابن سيرين أنهم قرأوا ولا أدرأتكم بإسناد الفعل إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم كالفعل السابق والأصل ولا أدريتكم فقلبت الياء ألفا على لغة من يقلب الياء الساكنة المفتوح ماقبلها ألفا وهي لغة بالحرث بن كعب وقبائل من اليمن حتى قلبوا ياء التثنية ألفا وجعلوا المثنى في جميع الأحوال على لفظ واحد وحكى ذلك قطرب عن عقيل
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الحسن أنه قرأ ولا أدرأتكم بهمزة ساكنة فقيل : إنها مبدلة من الألف المنقلبة عن الياء كما سمعت وقيل : إنها مبدلة من الياء إبتداء كما يقال في لبيت لبئت وعلى القولين هي غير أصلية وجاء ذلك في بعض اللغات كما نص عليه غير واحد وجوز أن تكون أصلية على أن الفعل من الدرء وهو الدفع والمنع ويقال أدرأته أي جعلته درائا أي دافعا والمعنى ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرءوننى بالجدال وقرىء ولا أدراكم بالهمز وتركه أيضا مع إسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مان يقرأ ولا أنذرتكم به فقد لبثت فيكم عمرا نوع تعليل للملازمة المستلزمة لكون ذلك بمشيئة الله عز و جل حسبما مر آنفا واللبث الإقامة ونصب عمرا على التشبيه بظرف الزمان والمراد منه مدة وقيل : هو على تقدير مضاف أي مقدار عمر وهو بضم الميم وقرأ الأعمش بسكونها للتخفيف والمعنى قد أقمت فيما بينكم مدة مديدة وهي مقدرا أربعين سنة تحفظون تفاصيل أحوالي وتحيطون خبرا بأقوالي وأفعالي من قبله أي من قبل نزول القرآن أو من قبل وقت نزوله ورجوع الضمير للتلاوة ليس بشيء لا اتعاطي شيئا مما يتعلق بذاك لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشف عن أسرار الحقائق وأحكام الشرائع أفلا تعقلون 16 أي ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون إمتناع صدوره عن مثلي ووجوب كونه منزلا من عند الله العزيز الحكيم فان ذلك غير خاف على من له عقل سليم وذهن مستقيم بل لعمري أن من كان له أدنى مسكة من عقل إذا تأمل في أمره صلى الله عليه و سلم وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل من غير مصاحبة العلماء في شأن منلا الشؤون ولا مراجعة إليهم في فن من الفنون ولا مخالطة
(11/86)

للبلغاء في المحاورة والمفاوضة ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والمعارضة ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل ذي أدب وحيرت بلاغته مصاقع العرب وإحتوى على بدائع أصناف العلوم ودقائق حقائق المنطوق والمفهوم وغدا كاشفا عن أسرار الغيب التي لاتنالها الظنون ومعربا عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين من القرون ومصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة ومهيمنا عليها في أحكامه المجملة والمفصلة لايبقى عنده إشتباه في أنه وحي منزل من عند الله جل جلاله وعم إفضاله هذا هو الذي إتفقت عليه كلمة الجمهور وهو أوفق بالرد عليهم كما لايخفى على المتأمل
وقيل إن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على إمتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة و السلام لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم وإقتصاره صلى الله تعالىعليه وسلم على إتباع الوحي وإمتناع الإستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا هنا لكون القرآن في نفسه أمر خارجا عن طوق البشر ولا بكونه عليه الصلاة و السلام غير قادر على الإتيان بمثله أن يستشهد ههنا بما يلائم ذلك من أحواله صلى الله تعالى عليه وسلم المستمرة في تلك المدة المتطاولة من كمال نزاهته عليه الصلاة و السلام عما يوهم شائبة صدور الكذب والإفتراء عنه في حق أحد كائنا من كان كما ينبىء عنه تعقيبه بتظليم المفترى على الله تعالى والمعنى قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلا عما فيه كذب وإفتراء ألا تلاحظونه أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد يستحيل أن يفترى على الله عز و جل ويتحكم على كافةالخلق بالأوامر والنواهي الموجبة لسلب الأموال وسفك الدماء وغير ذلك وإن ماأتى به وحي مبين تنزيل من رب العالمين إنتهى
وأنت تعلم أن هذا غير منساق إلى الذهن وأن الكلام الأول مشير في الجملة إلى كون القرآن أمرا خارجا عن طوق البشر وأنه صلى الله عليه و سلم غير قادر على الإتيان بمثله على أنه بعد لايخلو عن مقال فتأمل وقوله سبحانه : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إستفهام إنكاري معناه النفي أي لاأحد أظلم من ذلك ونفي الاظلمية كما هو المشهور كناية عن نفي المساواة فالمراد أنه أظلم من كل ظالم وقد مر تحقيق ذلك
والآية مرتبطة بما قبلها على أن المقصود منها تفاديه صلى الله عليه و سلم مما لوحوا به من نسبة الإفتراء على الله سبحانه إليه عليه الصلاة و السلام وحاشاه وتظليم للمشركين بتكذيبهم للقرآن وكفرهم به وزيادة كذبا مع أن الإفتراء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما لوحوا به ضمنا وحملوه عليه الصلاة و السلام عليه صريحا مع كونه إفتراء على الله سبحانه كذب في نفسه فرب إفتراء يكون كذبه في الإسناد فقط كما إذا أسندت ذنب زيدإلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلى الله عليه و سلم في التفادي مما ذكر والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن بمشيئته تعالى وأمره أي وإذا كان الأمر كذلك فمن إفترى عليه سبحانه بأن يخلق كلاما فيقول : هذا من عند الله تعالى أو يبدل بعض آياته ببعض كما تجوزون ذلك في شأني وكذلك من كذب بآياته جل شأنه كما تفعلونه أنتم أظلم من كل ظالم وقيل : المقصود من الآية تظليم المشركين لإفترائهم على الله تعالى في قولهم : إنه تعالى عما يقولون ذو شريك وذو ولد وتكذيبهم بآياته سبحانه وهي مرتبطة إما بما قبلها أيضا على معنى أني لم أفتر على الله تعالى ولم أكذب عليه وقد قام الدليل على ذلك وأنتم قد فعلتم ذلك حيث زعمنم أن الله تعالى شريكا وأن له
(11/87)

ولدا وكذبتم نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به من عنده سبحانه وأما بقوله تعالى : ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا إلخ على أن يكون قوله تعالى : ثم جعلناكم خلائف وقوله سبحانه : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات إلى هنا إعلاما بأن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وإستنوا بسنن من قبلهم في تكذيب آيات الله تعالى والرسل عليهم الصلاة والسلام ويكون عودا إلى الأول بعد الفراغ من قصة المشركين وقيل : وجه تعلقها بما تقدم أنهم إنما سألوه صلى الله عليه و سلم تبديل القرآن لما فيه من ذم آلهتهم الذين إفتروا في جعلها آلهة وقيل : إن الآية توطئة لما بعدها ولا يخفى أن الأول هو الأنسب بالمقام وأوفق بالفاء وأبعد عن التكلف وأقرب إنسياقا إلى الذهن السليم انه أي الشأن لايفلح المجرمون 17 أي لاينجون من محذور ولايفوزون بمطلوب والمراد جنس المجرمين فيندرج فيه المفترى والمكذب إندراجا أوليا ولايخفى مافي إختيار ضمير الشأن من الإعتناء بشأن مايذكر بهده من أول الأمر
ويعبدون من دون الله ما لايضرهم ولا ينفعهم حكاية لجناية أخرى لهم وهي عطف على قوله سبحانه : وإذا تتلى عليهم الآية عطف قصة على قصة و من دون في موضع الحال من فاعل يعبدون أي متجاوزين الله تعالى إما بمعنى ترك عبادته سبحانه بالكلية لأنها لا تصح ولا تقع عبادة مع الشركة أو بمعنى عدم الإكتفاء بها وجعلها قرينا لعبادة غيره سبحانه كما إختاره البعض و ما إما موصولة أو موصوفة والمراد بها الأصنام ومعنى كونها لا تضر ولا تنفع أنها لا تقدر على ذلك لأنها جمادات والمقصود من هذا الوصف نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود القدرة على ما ذكر وقيل : المعنى لا تضرهم إن تركوا عبادتها ولا تنفعهم إن عبدوها والمقصود أيضا نفي صحة معبوديتها لأن من شأنالمعبود أن يثيب عابده ويعاقب من لم يعبده والفرق بين التفسيرين على ما قاله القطب إطلاق النفع والضر في الأول والتقييد بالعبادة وتركها في الثاني وقيل : المقصود على الأول من الموصول الأصنام بعينها وعلى الثاني فاقد أوصاف المعبودية ويجوز أن يدخل فيه غير الأصنام من الملائكة والمسيح عليهم السلام والظاهر أن المراد هنا الأصنام لأن العرب إنما كانوا يعبدونها وكان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة ومناة وهبل وأسافا و نائلة ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : كان النضر بن الحرث يقول : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى وفيه نزلت الآية
والظاهر أن سائر المشركين كانوا يقولون ذا القول ولعل ذلك منهم على سبيل الفرض والتقدير أي إن كان بعث كما زعمتم فهؤلاء يشفعون لنا فلا يقال : إن المتبادر من الشفاعة عند الله تعالى أنه في الآخرة وهو مسلتزم للبعث وهم ينكرونه كما يدل عليه قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت وكذا ما تقدم آنفا من قوله سبحانه : قال الذين لا يرجون لقاءنا فيلزم المنافاة بين مفاهيم الآيات وكأنه لذلك قال الحسن عليه الرحمة : إنهم أرادوا من هذه الشفاعة الشفاعة في الدنيا لإصلاح المعاش وحينئذ لا منافاة والجمهور على الأول ومن سبر حال القوم رآهم مترددين ولذلك إختلفت كلماتهم ونسبة الشفاعة للأصنام قيل بإعتبار السببية وذلك لأنهم كما هو المشهور وضعوها على صور رجال صالحين ذوى خطر عندهم وزعموا
(11/88)

أنهم متى إشتغلوا بعبادتها فان أولئك الرجال يشفعون لهم وقيل : إنهم كانوا يعتقدون أن المتولي لكل إقليم روح معين من أرواح الأفلاك فعينوا لذلك الروح صنما من الأصنام وإشتغلوا بعبادتها قصدا إلى عبادة الكواكب وقيل : غير ذلك والحق أن من الأصنام ماوضع على الوجه الأول ومنها ما وضع لكونها كالهياكل للروحانيات قل تبكيتا لهم أتنبؤن الله بما لايعلم أي أتخبرونه سبحانه بما لا وجود له ولا تحقق أصلا وهو كون الأصنام شفعاءهم عنده جل شأنه فإن مالا يعلمه علام الغيوب المحيط علمه بالكليات والجزئيات لا يكون له تحقق بالكلية وذكروا أن مثل ذلك لا يسمى شيئا بناء على أنه كما قال سيبويه ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو يشمل الموجود والمعدوم كما حققه بعض أصحابنا كالمعتزلة وسموا ما لا يعلم بالمنفي كالشريك وكاجتماع الضدين وحقق ذلك الشيخ إبراهيم الكوراني في رسالة مستقلة أتى فيها بالعجب العجاب ويجوز أن يراد بالموصول أن له سبحانه سريكا والمقصود على الوجهين من ذكر أنباء الله تعالى بما لايحقق له ولم يتعلق به علمه التهكم والهزء بهم وإلا فلا أنباء وقوله سبحانه : في السموات ولا في الأرض في موضع الحال من العائد المحذوف أي بما لا يعلمه كائنا في ذلك والمقصود منه تأكيد النفي المدلول عليه بما قبله فإنه قد جرى في العرف أن يقال عند تأكيد النفي للشيء ليش هذا في السماء ولا في الأرض لإ عتقاد العامة أن كل مايوجد إما في السماء وإما في الأرض كما هو رأى المتكلمين في كل ما سوى الله تعالى إذ هو سبحانه المعبود المنزه عن الحلول في المكان والآيات التي ظاهرها ذلكم من المتشابه والمذاهب فيه شهيرة وهذا إذا أريد بالسماء والأرض جهتا العلو والسفل وقيل : الكلام إلزامي لزعم المخاطبين الكافرين أن الأمر كذلك وقيل : إن معنى الآية أتخبرونه تعالى بشريك أو شفيع لا يعلم شيئا في السموات ولا في الأرض كما في قوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والارض وليس بشيء سبحانه وتعالى عما يشركون 18 أي عن إشراكهم المستلزم لتلك المقالة الباطلة أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شركاء وقرىء أتنبئون بالتخفيف وقرأ حمزة والكسائي تشركون بتاء الخطاب على أنه من جملة القول المأمور به وعلى الأول هو إعتراض تذليلي من جهته سبحانه وتعالى
وماكان الناس إلا أمة واحدة أي وما كان الناس من أول الأمر إلامتفقين على الحق والتوحيد من غير إختلاف وروي هذا عن ابن عباس والسدي ومجاهد والجبائي وأبي مسلم ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وما كان الناس إلا أمة واحدة على هدى وذلك من عهد آدم عليه الصلاة و السلام إلى أن قتل قابيل هابيل وقيل : إلى زمن إدريس عليه الصلاة و السلام وقيل : إلى زمن نوح عليه الصلاة و السلام وكانوا عشرة قرون وقيل : كانوا كذلك في زمنه عليه الصلاة و السلام بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر وقيل : من لدن إبراهيم عليه الصلاة و السلام إلى أن أظهر عمرو بن لحي عبادة الأصنام وهو المروي عن عطاء وعليه فالمراد من الناس العرب خاصة وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ماحكي منهم من الهنات وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك
(11/89)

فاختلفوا بأن كفر بعضهم وثبت الآخرون على ما هم عليه فخالف كل من الفريقين الآخر والفاء للتعقيب وهي لا تنافي إمتداد زمان الإتفاق إذ المراد بيان وقوع الإختلاف عقيب إنصرام مدة الإتفاق لا عقيب حدوثه ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير القضاء بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء لقصي بينهم عاجلا فيما فيه يختلفون 19 بأن ينزل عليهم آيات ملجئة إلى إتباع الحق ورفع الإختلاف أو بأن المبطل ويبقى المحق وصيغة الإستقبال لحكاية الحال الماضية والدلالة على الإستمرار ووجه إرتباط الآية بما قبلها أنها كالتأكيد لما أشار إليه من أن التوحيد هو الدين الحق حيث أفادت أنه ملة قديمة إجتمعت عليها الأمم قاطبة وأن الشرك وفروعه جهالات لبتدعها الغواة خلافا للجمهور وشقا لعصا الجماعة وقيل : وجه ذلك أنه سبحانه بين فيما قبل فساد القوم بعبادة الأصنام وبين هذه أن هذا المذهب ليس مذهبا للعرب من أول الأمر بل كانوا على الدين الحق الخالي عن عبادة الأصنام وإنما حدثت فيهم عبادتها بتسويل الشياطين
قيل : والغرض من ذلك أن العرب إذا علموا أن ما هم عليه اليوم لم يكن من قبل فيهم وإنما حدث بعد أن لم يكن لم يتعصبوا لنصرته ولم يتأذوا من تزييفه وإبطاله وعن الكلبي أن معنى كونهم أمة واحدة إتفاقهم على الكفر وذلك في زمن إبراهيم عليه الصلاة و السلام وروي مثله عن الحسن إلا أنه قال : كانوا كذلك من لدن وفاة آدم إلى زمن نوح عليهما السلام ثم آمن من آمن وبقي من بقي على الكفر وفائدة إيراد هذا الكلام في هذا المقام تسليته صلى الله عليه و سلم كأنه قيل : لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الإيمان والتوحيد مجيبا لك قابلا لدينك فإن الناس كلهم كانوا على الكفر وإنما حدث الإيمان في بعضهم بعد ذلك فكيف تطمع في إتفاق الكل عليه وإعترض بأنه يلزم على هذا خلو الأرض في عصر عن مؤمن بالله تعالى عارف به وقدقالوا : إن الأرض في كل وقت لا تخلو عن ذلك وأجيب بأن عدم الخلو في حيز المنع فقد ورد في بعض الآثار أن الناس قبل يوم القيامة ليس فيهم من يقول الله الله وعلى تقدير التسليم المراد بالإتفاق على الكفر إتفاق الأكثر
والحق أن هذا القول في حد ذاته ضعيف فلا ينبغي دفع ما يرد عليه وأضعف منه بل لا يكاد يصح كون المراد أنهم كانوا أمة واحدة فإختلفوا بأن أحدث كل منهم ملة على حدة من ملل الكفر مخالفة لملة الآخر لأن الكلام ليس في ذلك الإختلاف إذ كل من الفريقين مبطل حينئذ فلا يتصوران يقضي بينهما بإبقاء المحق وإهلاك المبطل أو بإلجاء أحدهما إلى إتباع الحق ليرتفع الإختلاف كما لا يخفى هذا
ومن باب الإشارة في الآيات الر ا إشارة إلى الذات الذي هو أولالوجود و ل إشارة إلى العقل المسمى جبريل عليه السلام وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى و ر إشارة إلى الرحمة التي هي الذات المحمدية وهي في الحقيقة أول ووسط وآخر لكن الإعتبارات مختلفة وكأن ذلك قسم منه تعالى بالحقيقة المحمدية على أن ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي آيات الكتاب المتقن وقيل : المعنى ماأشير إليه بهذه الأحرف أرمان كتاب الكل ذي الحكمة أو المحكم ومعظم تفاصيله أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم إنكار لتعجبهم من سنة الله الجارية وهي الإيحاء إلى رجل وكان ذلك لبعدهم عن مقامهم وعدم مناسبة حالهم لحاله و منافاة ما جاء به لما إعتقدوه ان أنذر الناس أي خوفهم
(11/90)

من أن يشركوا بي شيئا وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم سابقة عظيمة وقربة ليس لأحد مثلها وقيل : سابقة رحمة أودعها في محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قال الكافرون أي المحجوبون عن الله تعالى إن هذا أي الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لسحر مبين لما رأوه خارجا عن قدرهم وإحتجبوا بالشيطنة عن الوقوف على حقيقة الحال قالوا ذلك إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام أي أوقات مقدار كل يوم منها دورة الفلك الأعظم مرة واحدة كما نص عليه الشيخ الأكبر والستة عدد تام وإختاره الله تعالى لما فيه من الأسرار ثم استوى على العرش أي الملك يدبر الأمر فيه على وفق حكمته بيد قدرته وقد يفسر العرش بقلب الكامل فالكلام إشارة إلى خلق الإنسان الذي إنطوى فيه العالم بأسره ما من شفيع يشفع لأحد بدفع ما يضره أو جلب ما ينفعه إلا من بعد إذنه بموهبة الإستعداد بنوفيق الأسباب ذلكم الموصوف بهذه الصفات الجليلة الله ربكم الذي يربكم ويدبر أمركم فإعبدوه وخصوه بالعبادة وإعرفوه بهذه الصفات ولا تعبدوا الشيطان ولا تحتجبوا عنه تعالى فتنسبوا قوله وفعله إلى الشيطان أفلا تذكرون آياته التي خطها بيد قدرته في صحائف الآفاق والأنفس فتتفكروا فيها وتنزجروا عن الشرك به سبحانه إليه مرجعكم جميعا بالعود إلى عبن الجمع المطاق في القيامة الصغرى أو إلى عين جمع الذات بالفناء فيه تعالى عند القيامة الكبرى كذا قيل وقال بعض العارفين : إن مرجع العاشقين جماله ومرجع العارفين جلاله ومرجع الموحدين كبرياؤه ومرجع الخائفين عظمته ومرجع المشتاقين وصاله ومرجع المحبين دنوه ومرجع أهل العناية ذاته وقال الجنيد قدس سره في الآية : إنه تعالى منه الإبتداء وإليه الإنتهاء ومابين ذلك مرابع فضله وتواتر نعمه وعد الله حقا انه يبدأ الخلق ثم يعيده أي يبدؤه في النشأة الأولى ثم يعيده في النشأة الثانية أو يبدأ الخلق بإختفائه وإظهارهم ثم يعيدهبإفنائهم وظهوره ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون أي يفعل ذلك ليجزي المؤمن والكافر على حسب ما يقتضيه عمل كل هو الذي جعل الشمس ضياء أي جعل شمس الروح ضياء الوجود والقمر أي قمر القلب نورا ودره منازل أي مقامات لتعلموا عدد السنين أي سني مراتبكم وأطواركم في المسير إليه وفيه تعالى والحساب أي حساب درجاتكم ومواقع أقدامكم في كل مقام ومرتبة ويقال : جعل شمس الذات ضياء للأرواح العارفة وجعل قمر الصفات نورا للقلوب العاشقة ففنيت الأرواح بصولة الذات في عين الذات وبقيت القلوب بمشاهدة الصفات في عين الصفات وهذه الشمس المشار إليها لا تغيب أصلا عن بصائر الأرواح ومن هنا قال قائلهم : هي الشمس إلا أن للشمس غيبة وهذا الذي نعنيه ليس يغيب إن في اختلاف الليل أي غلبة ظلمة النفس على القلب والنهار أي نهار إشراق ضوء الروح عليه وما خلق الله في السموات أي سموات الأرواح والأرض أي أرض الأجساد لآيات لقوم يتقون حجب صفات النفس الأمارة إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم أي يوصلهم إلى الجنات الثلاث بحسب نور إيمانهم فقوله سبحانه : تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم كالبيان لذلك دعواهم الإستعدادي فيها أي في تلك الجنات سبحانك اللهم إشارة إلى تنزيه تعالى والتنزيه في الأولى عن الشرك في الأفعال بالبراءة عن حولهم وقوتهم وفي الثانية عن الشرك في الصفات بالإنسلاخ عن صفاتهم وفي الثالثة
(11/91)

عن الشرك في الوجود بفنائهم وتحيتهم أي تحية بعضهم لبعض أو تحية لله تعالى فيها سلام أي أفاضة أنوار التزكية وإمداد التصفية أوإشراق أنوار التجليات وإمداد التجريد وإزالة الآفات وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين أي آخر ما يقتضيه إستعدادهم قيامهم بالله تعالى في ظهور كمالاته وصفات جلاله وجماله عليهم وهو الحمد الحقيقي منه وله سبحانه وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما أي إستغرق أوقاته في الدعاء فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه هذا وصف الذين لم يدركوا حقائق العبودية في مشاهد الربوبية فانهم إذا أظلم عليهم ليل البلاء قاموا إلى إيقاد مصباح التضرع فإذا انجلت عنهم الغياهب بسطوع أنوار فجر الفرج نسوا ما كانوا فيه ومروا كأن لم يدعوا مولاهم إلى كشف ما عناهم
كأن الفتى لم يعر يوما إذار إكتسى ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا ولو كانوا عارفين لم يبرحوا دارة التضرع وإظهار العبودية بين يديه تعالى في كل حين وماكان الناس الا أمة واحدة على الفطرة التي فطرالله الناس عليها متوجهين إلى التوحيد متنورين بنور الهداية الأصلية فاختلفوا بمقتضيات النشأة وإختلاف الأمزجة والأهوية والعادات والمخالطات ولولا كلمة سبقت من ربك وهو قضاؤه سبحانه الأزلي بتقدير الآجال والأرزاق لقضي بينهم فيما فيه يختلفون بإهلاك المبطل وإبقاء المحق والمراد أن حكمة الله تعالى إقتضت أن يبلغ كل منهم وجهته التي ولي وجهه إليها بأعماله التي يزاولها هو وإظهار ما خفى في نفسه وسبحان الله الحكيم العليم ويقولون حكاية لجناية أخرى لهم وفي الكشاف تفسير المضارع بالماضي أي وقالوا وجعل ذلك إشارة إلى أن العطف ليس على ويقولون هؤلاء شفعاؤنا كما يقتضيه ظاهر اللفظ وإنما هوعلى قوله سبحانه : قال الذين لايرجون لقاءنا إئت بقرآن غير هذا ومابيهما إعتراض و أوثر المضارع على الماضي ليؤذن بإستمرار هذهالمقالة وأنها من دأبهم وعادتهم مع مافي ذلك من إستحضار صورتها الشنيعة
وجوز العطف على يعبدون وهو الذي إقتصر عليه بعض المحققين وأبقى بعضهم الفعل على ظاهره وله وجه والقائل كفار مكة لولا أنزل عليه ءاية من ربه أرادوا آية من الآيات التي إقترحوها كآية موسى وعيسى عليهما السلام ومعنى إنزالها عليه إظهار الله تعالى لها على يده صلى الله تعالى عليه وسلم وطلبوا ذلك تعنتا وعنادا وإلافقد أتى صلى الله عليه و سلم بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة تعلو على جميع الآيات وتفوق سائر المعجزات لا سيما القرآن العظيم الباقي إعجازه على وجه الدهر إلى يوم القيامة ولعمري لو أنصفوا لإستغنوا عن كل آية غيره عليه الصلاة و السلام فانه الآية الكبرى ومن رآه وسبر أحواله لم يكد يشك في أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقل لهم في الجواب إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين 20 وهو جواب على ما قرره الطيبي على الأسلوب الحكيم فانهم حين ما طلبوا مع وجود الآيات المتكاثر دل على أن سؤالهم للتعنت كما علمت آنفا فأجيبوا بما أجيبوا ليؤذن بأن سؤالهم سؤال المقترحين يستحقون به نقمة الله تعالى وحلول عقابه و يعني أنه لابد أن يستأصل شأفتكم لكن لا أعلم متى يكون وأنتم كذلك لأن ذلك من الغيب وهو مختص به تعالى لا يعلمه أحد غيره جل شأنه وإذا كان كذلك فإنتظروا ما يوجبه إقتراحكم إني معكم من المنتظرين إياه وقيل : إن المراد أنه تعالى هو المختص بعلم الغيب والصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب فلا يعلمه إلا هو وإعترض عليه بأنه معين وهو عنادهم قال تعالى : ومايشعركم إنها إذا جاءت لايؤمنون
(11/92)

وأجيب بأنا لا نسلم أن عنادهم هو الصارف وقد يجاب المعاند والآية وإن دلت على بقائهم على العناد وإن جاءت لم تدل على أن العناد هو الصارف
وإختار بعض المحققين أن ما قترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلقتم إيمانكم بنزوله من الغيوب المختصة به سبحانه لا وقوف لي عليه فإنتظروا نزوله إني معكم من المنتظرين لما يفعل الله تعالى بكم لاجترائكم على مثل هذه العظيمة من جحود الآيات وإقتراح غيرها وإعترض على ماقيل بأنه يأباه ترتيب الأمر بالإنتظار على إختصاص الغيب به تعالى والذي يخطر بالبال أن سؤال القوم قاتلهم الله تعالى متضمن لدعوى أن الصلاح في إنزال آية مما إقترحوا حيث لم يعتبروا ما نزل ولم يلتفتوا إليه فكأنهم قالوا : لا صلاح في نزول ما نزل وإنما الصلاح في إنزال آية مما نقترح فلولا نزلت وفي ذلك دعوى الغيب بلا ريب فأجيبوا بأن الغيب مختص بالله فهو الذي يعلم ما به الصلاح لا أنتم ولا غيركم ثم قال سبحانه : فانتظروا إلخ على معنى وإذا كان علم الغيب مختصا بالله تعالى وقد إدعيتم من ذلك ما إدعيتم وطعنتم فيما طعنتم فإنتظروا نزول العذاب بكم إني معكم من المنتظرين إياه ولا يرد على هذا ما أورد على غيره ولا ما عسى أن يورد أيضا فتأمل
وإذا أذقنا الناس رحمة كالصحة والسعة من بعد ضراء مستهم أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم وإسناد المساس إلى الضراء بعدإسناد الإذاقة إلى ضمير الجلالة من الآداب القرانية كما في قوله تعالى : وإذا مرضت فهو يشفين ونظائره وينبغي التأدب في ذلك ففي الخبر اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك والمراد بالناس كفار مكةعلى ما قيل لما روى أن الله تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صلى الله عليه و سلم أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإيمان فلما دعا لهم ورحمهم الله تعالى بالحياء طفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعاندونه عليه الصلاة و السلام ويكيدونه وذلك قوله سبحانه : إذا لهم مكر في ءايتنا أي بالطعن فيها وعدم الإعتداد بها والإحتيال في دفعها والظاهر أن المراد بالآيات الأيات القرآنية وقيل : المراد بها الآيات التكوينية كإنزال الحياء ومكرهم فيها إضافتها إلى الأصنام والكواكب وقيل : إن الناس عام لجميع الكفار ولا يجوز حمله على ما يشمل العصاة كما لا يخفى وكانت العرب تضيف الأمطار وكذا الرياح والحر والبرد إلى الأنواء وهو جميع نوء مصدرناء ينوء إذا نهض بجهد ومشقة ويقال ذلك أيضا إذا سقط فهو من الأضداد ويطلق على النجم الذي هو أحد المنازل الثمانية والعشرين التي ذكرناها فيما سبق وهو المراد في كلامهم إلا أن الإضافة إليه بإعتبار سقوطه مع الفجر وغروبه كما هو المشهور أو بإعتبار طلوعه ذلك الوقت كما قال الأصمعي
وقد عد القائل بتأثير الأنواء كافرا فقد روى الشيخان وأبو داود والنسائي عن زيد بن خالد قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافربالكوكب وكافر بي ومؤمن بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب ولعل كون ذلك من الكفر بالله تعالى مبني علىزعم أن للكواكب تأثيرا إختياريا ذاتيا في ذلك وإلا فإعتقاد أن التأثيرعندها لا بها كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة في سائر الأسباب ليس بكفر كما نص عليه العلامة ابن حجر وكذا إعتقاد أن التأثير بها على معنى
(11/93)

ان الله تعالى أودع فيها قوة مؤثرة بإذنه فمتى شاء سبحانه أثرت ومتىلم يشأ لم تؤثر كما هو مذهب السلف في الأسباب على ما قرره الشيخ إبراهيم الكوراني في مسلك السداد ولو كان نسبة التأثير مطلقا إلى الأنواء ونحوها من العلويات كفرا لا تسع الخرق ولزم إكفار كثير من الناس حتى أفاضلهم لقولهم بنسبة الكثير من عالم الكون والفساد إلى العلويات ويسمونها بالآباء العلوية وقد صرح الشيخ الأكبر قدس سره بأن للكواكب السيارات وغيرها تأثيرا في هذا العالم إلا أن الوقوف على تعيينجزيئاته مما لا يطلع عليه إلا أرباب الكشف والأرصاد القلبية وليس مراده قدس سره وكذا مراد من أطلق التأثير إلا ما ذهب إليه أحد الفريقينفي الأسباب وحاشا ثم حاشا أن يكون أولئك الأفاضل ممن يعتقد أن في الوجود مؤثرا غير الله تعالى بل من وقف على حقيقة كلام الحكماء الذين هم بمعزل عن الشريعة الغراء وجدهم متفقين على أن الوجود معلول له تعالى على الإطلاق وقال بهمنيار في التحصيل فإن سئلت الحق فلا يصح أن يكون علة الوجود إلا ما هو بريء من كل وجه من معنى ما بالقوة وهذا هو المبدأ الأول لا غير وما نقل عن أفلاطون من قوله : إن العالم كرة والأرض مركزوالانسان هدف والأفلاك قسي والحوادث سهام والله تعالى هو الرامي فأينالمفر يشعر بذلك أيضا نعم أنهم قالوا بالشرائط العقلية وهي المراد بالوسائط في كلام بعضهم وهو خلاف المذهب الحق وبالجملة لا يكفر من قال : إن الكواكب مؤثرة على معنى أن التأثير عندها أو بها بإذن اللهتعالى بل حكمه حكم من قال : إن النار محرقة والماء مرو مثلا ولا فرق بين القولين إلا بما عسى أن يقال : إن التأثير في نحو النار والماء أمر محسوس مشاهد والتأثير في الكواكب ليس كذلك والقول به رجم بالغيب لكن ذلك بعد تسليمه لا يوجب كون أحد القولين كفرا دون الآخر كما لا يخفى على المنصف ومع هذا الأحوط عدم إطلاق نسبة التأثير إلىالكواكب والتجنب عن التلفظ بنحو ما أكفر الله سبحانه المتلفظ به هذا واذا الأولى شرطية والثانية فجائية رابطة للجواب وتنكير مكر للتفخيم و في متعلقة بالإستقرار الذي تتعلق به واللام
قل الله أسرع مكرا أي منكم فأسرع أفعل تفضيل وهو مأخوذ إما من سرعالثلاثي كما حكاه الفارسي أو من أسرع المزيد إلا أن في أخذ أفعل من المزيد خلافا فمنهم من منعه مطلقا ومنهم من جوزه مطلقا ومنهم من قال : إن كانت الهمزة للتعدية إمتنع والإجاز ومقله في ذلك بناء التعجب ووصف المفضل عليه بالسرعة دل عليه المفاجأة على أن صحة إستعمال أسرعفي ذلك لا يتوقف على دلالة الكلام على ما ذكر خلافا لما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري وأصل المكر إخفاء الكيد والمضرة والمراد به الجزاءوالعقوبة على المكر مجازا مرسلا أو مشاكلة وهي لا تنافيه كما في شرح المفتاح وقد شاع أنه لا يستعمل فيه تعالى إلا على سبيل المشاكلة وليس بذاك كما حقق في موضعه إن رسلنا الحفظةمن قبلنا على أعمالكم يكتبون ما تمكرون 21 أي مكركم أوما تمكرونه وكيفية كتابة ذلك مما لا يلزم العلم به ولا حاجة إلى جعل ذلك مجازا عن العلم وهذا تحقيق للإنتقام منهم وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الكتبة فضلا عن منزل الكتاب الذي لاتخفى عليه خافية وفي ذلك تجهيل لهم كما لا يخفى والظاهر أن الجملة ليست داخلة في الكلام الملقن كقوله تعالى : ولو جئنا بمثله مددا وهي تعليل لأسرعية مكره سبحانه وتعالى وجوز أن تكون داخلة في ذلك وفي
(11/94)

إن رسلنا إلتفاتا إذ لو أجري على قوله سبحانه : قل الله لقيل إنرسله فلا إشكال فيه من حيث أنه لا وجه لأمر الرسول صلى الله عليه و سلم بأن يقول لهم إنرسلنا إذ الضمير لله تعالى لا له عليه الصلاة و السلام بتقدير مضاف أي رسل ربنا أو بالإضافة لأدنى ملابسة كما قيل
وقال بعضهم في الجواب : إنه حكاية ما قال الله تعالى على كون المراد أداء هذا المعنى لا بهذه العبارة
وقرأ الحسن : ومجاهد يمكرون على لفظ الغيبة وروي ذلك أيضا عن نافع ويعقوب وفيه الجري على ما سبق من قوله سبحانه : مستهم و لهم والمناسب الخطاب كما قرأ الباقون إذا كانت الجملة داخلة في حيز القول إذ المعنى قل لهم ومناسبة الخطاب حينئذ ظاهرة وفيه أيضامبالغة في الإعلام بمكرهم وجعلها بعض المحققين على تلك القراءة وعدمدخولها في حيز القول تعليلا للإسراعية أو للأمر المذكور وصيغة الإستقبال في الفعلين للدلالة على الإستمرار والتجدد وكذا في قولهسبحانه : هو الذي يسيركم في البر والبحر وهو على ما قيل كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى لهم مبنية على ما مر آنفا من إختلاف حالهم بحسب إختلاف ما يعتريهم من الضراء وعن أبي مسلم أنه تفسيرلبعض ما أجمل في قوله سبحانه : وإذا أذ قنا الناس إلخ وهو قريبمن قول الإمام أنه تعالى لما قال : وإذا أذقنا الآية وهو كلام كلي ضرب لهم مثلا بهذا ليتضح ويظهر ما هم عليه
وزعم بعضهم أنه متصل بما تقدم من دلائل التوحيد فكأنه قيل : إلهكم الذي جعل الشمس ضياءا والقمر نورا و هو الذي يسيركم إلخ وأول التسيير بالحمل على السير والتمكين منه والداعي لذلك قيل : عدم صحة جعل قوله سبحانه : حتى إذا كنتم في الفلك غاية للتسيير فيالبحر مع أنه مقدم عليه وغاية الشيء لا بد أن تكون متأخرة عنه وبعد التأويل لا إشكال في جعل ما ذكر غاية لما قبله
وقيل : هو دفع لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز وذلك لأن المسير في البحر هو الله تعالى إذ هو سبحانه المحدث لتلك الحركات في الفلك بالريح ولا دخل للعبد فيه بل في مقدماته وأما سير البر فمن الأفعال الإختيارية الصادرة من المخاطبين أنفسهم إن كانوا مشاة أو من دوابهم إن كانوا ركبانا وتسيير الله تعالى فيه إعطاء الآلات والأدوات ولزومالجمع عليه ظاهر ووجه الدفع أن المراد من التسيير ما ذكر وهو معنى مجازي شامل للحقيقة والمجاز
وإدعى بعضهم إتحاد التسيير في البر والبحر وإستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وتعقب بأنه تكلف والزمخشري لم يؤول التسيير بما ذكرنا وجعل الغاية مضمون الجملة الشرطية الواقعةبعد حتى بما في حيزها كأنه قيل : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثةوكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإنجاء دون الكون في البحر وتعقب ذلك القطب بأنه لو جعل الكون في الفلك مع ما عطف عليه من قوله تعالى : وجرين بهم بريح طيبةوفرحوا بها كفى ولم يحتج إلى إعتبار مجموع الشرط والجزاء ثم قال : والتحقيق أن الغاية إن فسرت بما ينتهي إليه الشيء بالذات فهي ليس إلا ما وقع شرطا في مثل ذلك وإن فسرت بما ينتهي إليه الشيء مطلقاسواء كان بالذات أو بالواسطة فهي مجموع الشرط والجزاء وإستوضح ذلك من قولك : مشيت حتى إذا بلغت البلد إتجرت فإن ما إنتهى إليه الشيء بالذات الوصول إلى البلد وأما الإتجار
(11/95)

فأمر مترتب على ذلك فيكون مما إنتهى إليه المشي بالواسطة والتضعيف في يسير للتعدية تقول سار الرجل وسيرته وقال الفارسي : إن سارمتعد كسير لأن العرب تقول سرت الرجل وسيرته بمعنى ومنه قول الهذلي : فلا تجزعي من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها وقال في الصحاح : سارت الدابة وسارها صاحبها يتعدى ولا يتعدى وأنشدله هذا البيت وأوله النحويون حيث لم يرتضوا ذلك و الفلك السفن ومفرده وجمعه واحد وتغاير الحركات بينهما إعتباري وفي الصحاح أنهواحد وجمع يذكر ويؤنث وكأن ذلك بإعتبار المركب والسفينة وكان سيبويه يقول : الفلك التي هي جمع تكسير للفلك الذي هو واحد وليست مثل الجنب الذي هو واحد وجمع والطفل وما أشبههما من الأسماء لأن فعلاوفعلا يشتركان في الشيء الواحد مثل العرب والعرب والعجم والعجم والرهب والرهب فحيث جاز أن يجمع فعل على فعل مثل أسد وأسد لم يمتنعأن يجمع فعل على فعل وضمير جرين للفلك وضمير بهم لمن فيهاوهو إلتفات للمبالغة في تقبيح حالهم كأنه أعرض عن خطابه وحتى لغيرهم سوء صنيعهم وقيل لا إلتفات بل معنى قوله سبحانه : حتى إذا كنتم في الفلك حتى إذا كان بعضكم فيها إذ الخطاب للكل ومنهم المسيرون في البر فالضمير الغائب عائدإلى ذلك المضاف المقدر كما في قوله تعالى : أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج فإنه في تقدير أو كذي ظلمات يغشاه موج والباء الأولى للتعدية والثانية وكذا الثالثة للسببية فلذا تعلق الحرفان بمتعلق واحد وإلا فقد منعوا تعلق حرفين بمعنى بمتعلق واحد وإعتبار تعلق الثاني بعد تعلق الأول به وملاحظته معه يزيل إتحاد المتعلق
وجوز أن تكون الثانية للحال جرين بهم ملتبسة بريح فتتعلق بمحذوف كمافي البحر وقد تجعل الأولى للملابسة أيضا وفرحوا عطف على جرين وهو عطف على كنتم وقد تجعل حالا بتقدير قد وضمير بها للريح ونقل الطبرسي برجوعه للفلك ولا يكاد يجري به القلم والمراد بطيبة حسبمايقتضيه المقام لينة الهبوب موافقة المقصد
وظاهر الآية على ما نقل عن الإمام يقتضي أن راكب السفينة متحرك بحركتها خلافا لمن قال : إنه ساكن ولا وجه كما قال بعض المحققين لهذا الخلاف فإنه ساكن بالذات سائر بالواسطة وقرأ ابن عامر ينشركم بالنون والشين المعجمة والراء المهملة من النشر ضد الطي أي يفرقكم ويبثكم وقرأ الحسن ينشركم من أنشر بمعنى أحيا وقرأ بعض الشاميين ينشركم بالتشديد للتكثير من النشر أيضا وعن أم الدرداءأنها قرأت في الفلكي بزيادة ياءي النسب ووجه ذلك بأنهما زائدتانكما في الخارجي والأحمري ولا إختصاص لذلك في الصفات لمجيء دودوي وأناالصلتاني في قول الصلتان ويجوز أن يراد به اللج والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه وقوله سبحانه : جاءتها جواب إذا والضمير المنصوب للفلك أو للريح الطيبة على معنى تلقتها وإستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى على ما قيل مجيئا لريح أخرى عادة بل هو إشتداد للريح الأولى ورجح الثاني بأنه الأظهرلإستلزامه للأول من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة يعدمجيئا بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطمالأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل في بيان إستيلائها على ما فرحوا بع وعقلوا به حبال
(11/96)

رجائهم أكثر وفيه تأمل ريح عاصف أي ذات عصف فهو من باب النسب كلإبن وتامر ويستوي فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به فلذا لم يقل عاصفة مع أن الريح مؤنثة لا تذكر بدون تأويل
وقيل : لم يقل عاصفة لأن العصوف مختص بالريح فهو كحائض فلا حاجة إلى الفارق أو أنه إعتبر التذكير في الريح كما إعتبر فيها التأنيث والأولى ما قدمناه وأصل العصف الكسر والنبات المتكسر والمراد شديدةالهبوب وجاءهم الموج وهو ما علا وإرتفع من إضطراب الماء وقيل : هو إضطراب البحر والأول هو المشهور من كل مكان أي من أمكنة مجيءالموج عادة وقد يتفق مجيئه من جهات حسب أسباب تتفق لذلك وظنوا أنهم أحيط بهم أي أهلكوا كما رواه ابن المنذر عن ابن جريج ففي الكلام إستعارة تبعية وقيل : إن الإحاطة إستعارة لسد مسالك الخلاص تشبيهاله بإحاطة العدو بإنسان ثم كني بتلك الإستعارة عن الهلاك لكونها منروادفها ولوازمها
وقيل : إن ذلك مثل في الهلاك والظن على ما يتبادر منه وجوز أنيكون بمعنى اليقين بناء على تحقق وقوعه في إعتقادهم أو كون الكنايةعن القرب من الهلاك دعوا الله جعله غير واحد بدل إشتمال من ظنوالأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فبينهما ملابسة تصحح البدلية وقيل : هو جواب ما إشتمل عليه المعنى من معنى الشرط أي لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله إلخ
وجعله أبو حيان إستئنافا بيانيا كأنه قيل : فماذا كان حالهم إذ ذاك فقيل : دعوا إلخ ورجح القول بالبدل عليه بأنه أدخل في إتصالالكلام والدلالة عن كونه المقصود مع إفادته ما يستفاد من الإستئناف مع الإستغناء عن تقدير السؤال وأنت تعلم أن تقدير السؤال ليس تقديراحقيقيا بل أمر إعتباري وفيه من الإيجاز ما فيه وليس بأبعد مما تكلف للبدلية ويشعر كلام بعضهم جواز كونه جواب الشرط و جاءتها في موضعالحال كقوله تعالى : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله الآية وتعقب بأن الإحتياج إلى الجواب يقتضي صرف ما يصلح له إليه لا إلى الحال الفضلة المفتقرة إلى تقدير قد مع أن عطف وظنوا على جاءتها يأبىالحالية والفرح بالريح الطيبة لا يكون حال مجيء العاصفة والمعنى علىتحقق المجيء لا على تقديره ليجعل حالا مقدرة ولا يخلو عن حسن والظاهرأن ما عده مانعا من الحالية غير مشترك بينه وبين كونه جواب إذا لأنه يقتضي أنهما في زمان واحد كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب الكلام وقوله سبحانه : مخلصين له الدين حال من ضمير دعوا وله متعلق بمخلصين و الدين مفعوله أي دعوه تعالى من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيدوأنه لا متصرف إلا الله سبحانه المركوز في طبائع العالم وروي ذلك عنابن عباس ومن حديث أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجني في البر غيره اللهم أن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيهأن آتي محمدا حتى أضع يدي
(11/97)

في يده فلأجدنه عفوا كريما قال فجاء فأسلم وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة وأن عكرمة لما ركب السفينة وأخدتهم الريح فجعلوا يدعونالله تعالى ويوحدونه قال : ما هذا فقالوا : هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى قال : فهذا له محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يدعونا إليه فإرجعوا بنافرجع وأسلم وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه بل تخصيص العبادة به تعالى أيضا لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين
وأياما كان الآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا إعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع فمنهم من يدعوالخضر والياس ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ولا ترى فيهم أحدايخص مولاه بتضرعه ودعاه ولا يكاد يمر له بباله أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين منهذه الحيثية أهدى سبيلا وأي الداعيين أقوم قيلا وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الصلالة وخرقت سفينة الشريعة وإتخذت الإستغاثة يغير الله تعالى للنجاة ذريعة وتعذرعلى العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف هذا وقوله تعالى : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشكرين 22 في محل نصب بقول مقدر عندالبصريين وهو حال من الضمير السابق ومذهب الكوفيين إجراء الدعاءمجرى القول لأنه من أنواعه وجعل الجملة محكية به والأول هو الأولى هنا واللام موطئة لقسم مقدر و لنكونن جوابه
والمشار إليه بهذه الحال التي هم فيها أي والله لئن أنجيتنا مما نحن فيه من الشدة لنكونن البتة بعد ذلك أبدا شاكرين لنعمك التي من جملتها هذه النعمة المسؤولة والعدول عن لنشكرن إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه فلما أنجاهم مما نزل بهم من الشدة والكربة والفاء للدلالة على سرعة الإجابة إذا هم يبغون في الأرض أي فأجأوا الفساد فيهاوسارعوا إليه مترامين في ذلك ممعنين فيه من قولهم : بغى الجرح إذاترامى في الفساد وزيادة في الأرض للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والإستمرار وقوله سبحانهوتعالى : بغير الحق تأكيد لما يفيده البغي إذ معناه أنه بغير عندهم أيضا بأن يكون ظلما ظاهرا لا يخفى قبحه على كل أحد كما قيل نحو ذلك قوله تعالى : ويقتلون النبيين بغير الحق
وقد فسر البغي بإفساد صورة الشيء وإتلاف منفعته وجعل بغير الحق للإحتراز مما يكون من ذلك بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وحرق زروعهم كما فعل صلى الله تعالى عليه وسلم ببني قريظة
وتعقب بأنه مما لا يساعده النظم الكريم لأن البغي بالمعنى الأول هو اللائق بحال المفسدين فينبغي بناء الكلام عليه والزمخشري إختار كون ذلك للإحتراز عما ذكر وذكر في الكشف أنه أشار بذلك إلى أن الفساداللغوي خروج الشيء من الإنتفاع فلا كل بغي أي فساد في الأرض وإستطالةفيها كذلك كما علمت وإن كان موضوعه العرفي للإستطالة بغير حق لكن النظر إلى موضوعه الأصلي وقيل : إن البغي الذي يتعدى بفي بمعنىالإتلاف والإفساد وهو يكون حقا وغيره والذي يتعدى بعلى بمعنى الظلم وتقييد الأول بغير
(11/98)

الحق للإحتراز وتقييد الثاني به للتأكيد ولعل من يجعل البغي هنا بمعنى الظلم يقول : إن المعنى يبغون على المسلمين مثلا فإفهم ياأيها الناس توجيه الخطاب إلى أولئك الباغين للتشدي في التهديد والمبالغة في الوعيد إنما بغيكم الذي تتعاطونه وهو مبتدأ خبرهقوله سبحانه : على أنفسكم أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغونعليهم وإن ظن كذلك وقوله تعالى : متاع الحياة الدنيا نصب على أنهمصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الإستئناف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا والمراد من ذلك بيان كون ما في البغي من المنفعة العاجلة شيئا غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال وقيل : إنه منصوب على أنه مصدرواقع موقع الحال أي متمتعين والعامل هو الإستقرار الذي في الخبر ولايجوز أن يكون نفس البغي لأنه لا يجوز الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر وأيضا لا يخبر عن المصدر إلا بعد تمام صلاته ومعمولاته وتعقب بأنه ليس في تقييد كون بغيهم على أنفسهم بحال تمتعهم بالحياة الدنيا معنىيعتد به
وقيل : على أنه ظرف زمان كمقدم الحاج أي زمان متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الإستقرار أيضا وفيه ما في سابقه وقيل : على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أي تبغون متاع الحياة الدنيا وإعترض بأن هذايستدعي أن يكون البغي بمعنى الطلب لأنه الذي يتعدى بنفسه والمصدر لا يدل عليه وجعل المصدر أيضا بمعناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الإستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكي عنهم من البغي المفسر على المختار بالفساد المفرط اللائق بحالهم وحينئذ تنتفي المناسبة ويفوت الإنتظام وجعل الأول أيضا بمعناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه
وقيل : على أنه مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل فيهالإستقرار وتعقب بأن المعلل بما ذكر نفس البغي لا كونه على أنفسهم وقيل : العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أي تبعون لأجل متاع الحياةالدنيا على أن الجملة مستأنفة وقيل : على أنه مفعول صريح للمصدر وعليكم متعلق به لا خبر لما مر والمراد بالأنفس الجنس والخبرمحذوف لطول الكلام والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا مذموم أو منهي عنه أو ضلال أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك وفيه الإبتناء على أن البغي بمعنى الطلب وقد علمت ما فيه نعم لوجعل نصبه على العلة أي إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياةالدنيا مذموم كما إختاره بعضهم لكان له وجه في الجملة لكن الحق الذي يقتضيه جزالة النظم هو الأول وقرأ الجمهور متاع بالرفع
قال صاحب المرشد : وفيه وجهان أحدهما كونه الخبر والظرف صلةالمصدر والثاني كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع وزيدوجهه آخر وهو كونه خبرا بعد خبر لبغيكم والمختار بل المتعين علىالوجه الأول كون المراد بأنفسكم أبناء جنسكم أو أمثالكم على سبيل الإستعارة والتعبير عنهم بذلك للتشفيق والحث على ترك إيثار التمتعالمذكور على ما ينبعغي من الحقوق ولا مانع على الوجهين الأخيرين من الحمل على الحقيقة كما بين ذلك مولانا شيخ الإسلام وقرىء بنصب المتاع والحياة وخرج نصب الأول على ما مر ونصب الثاني على أنه بدل إشتمالمن الأول
وقيل : على أنه مفعول به له إذا لم يكن إنتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل وذكر أبو البقاء أنه قرئ بجرهما على أن 4الثاني مضاف غليه والأول نعت للأنفس أي ذات متاع وجوز أن يكون
(11/99)

المصدر بمعنى إسم الفاعل أي متمتعات وضعف كونه بدلا إذ قد أمكن كونه صفة هذا وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى وقد أخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والخطيب والدليمي وغيرهم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث هن رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي ثم تلا عليه الصلاة و السلام ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ولايحيق المكر السيء إلا بأهله ومن نكث فإنما ينكث على نفسه
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مامن ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم وأخرج أيضا من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا يبغي على الناس إلا ولد بغى أو فيه عرق منه
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما وكان المأمون يتمثل بهدين البيتين لأخيه
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة فأربع فخير فعال المرء أعدله فلو بغى جبل يوما على جبل لإندك منه أعاليه وأسفله وعقد ذلك الشهاب فقال : ان يعد ذو بغي عليك فخله وارقب زمانا لإنتقام باغي واحذر من البغي الوخيم فلو بغى جبل على جبل لدك الباغي ثم الينا مرجعكم عطف على مامر من الجملة المستأنفة المقدرةكأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا وإنما غيرالسبك إلى ما في النظم الكريم للدلالة على الثبات والقصر
فننبئكم بما كنتم تعملون 23 في الدنيا على الإ 4 ستمرار من البغي فهووعيد وتهديد بالجزاء والعذاب وقد تقدم الكلام في نظيره إنما مثل الحياة الدنيا كلام مستأنف لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع فيها وأصل المثل ما شبه مضربه بمورده يستعار للأمر العجيب المستغرب أي إنما حالها في سرعة تقضيها وإنصرام نعيمها بعد إقبالها وإغترار الناس بها كما أنزلناه من السماء فإختلط به أي فكثر بسببه نبات الأرض حتى إلتف بعضه ببعض فالباء للسببية ومنهممن أبقاها على المصاحبة وجعل الإختلاط بالماء نفسه فإنه كالغذاءللنبات فيجري فيه ويخالطه والأول هو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضيالله تعالى عنهما مما يأكل الناس والأنعام كالبقول والزروع والحشيش والمراعي والجار والمجرور في موضع الحال من النبات حتىإذا أخذت الأرض أي إستوفت واستكملت زخرفها أي حسنها وبهجتها وازينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة : كأديال خود أقبلت في غلائل مصبغة والبعض أقصر من بعض وقد ذكر غير واحد أن في الكلام إستعارة بالكناية حيث شبهت الأرض بالعروس وحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه وإثبات أخذ الزخرف لها تخييل وما بعده ترشيح وقيل : الزخرف الذهب أستعير للنضارة
(11/100)

والمنظر الشار وأصل إزينت تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت فإجتلبت همزة وصل للتوصل للإبتداء بالساكن وبالأصل قرأ عبدالله وقرأ الأعرج والشعبي وأبو العالية ونصر بن عاصم والحسن بخلاف وأرينت بوزن أفعلت كأكرمت وكان قياسه أن يعل فيقلب ياؤه ألفافيقال أزانت لأنه المطرد في باب الأفعال المعتل العين لكنه ورد على خلافه كأغليت المرأة إذا سقت ولدها الغيل وهو لبن حملها عليه وقدجاء أغالت على القياس
ومعنى الأفعال هنال هنا الصيرورة أي صارت ذات زينة أو صيرت نفسها كذلك وقرأ أبو عثمان النهدي ازيأنت بهمزة وصل بعدها زاي ساكنةوياء مفتوحة وهمزة كذلك ونون مشددة وتاء تأنيث وأصله ازيانت بوزناحمارت بألف صريحة فكرهوا إجتماع ساكنين فقلبوا الألف همزة مفتوحةكما قريء الضألين وجاء أيضا احمأرت بالهمزة كقوله
إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرت
وقرأ عوف بن جميل ازيانت بألف من غير إبدال وقريء ازاينت لقصد المبالغة وظن أهلها أنهم قادرون عليها أي على الأرض والمراد ظنوا أنهم متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتهارافعون لغلتها وقيل : الكناية للزروع وقيل : للثمرة وقيل : للزينة لإنفهام ذلك من الكلام أتاها أمرنا جواب إذا أي نزل بهاما قدرناه من العذاب وهو ضرب زرعها ما يجتاحه من الآفات والعاهات كالبرد والجراد والفأر والصرصر والسموم وغير ذلك ليلا أونهارا أي في ليل أو في نهار ولعل المراد الإشارة إلى أنه لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم وزمن يقظتهم إذ لا يمنع منه ما نع ولا يدفع عنه دافع فجعلناها أي فجعلنا نباتها حصيدا أي شبيهابما حصد من أصله والظاهر أن هذا من التشبيه لذكر الطرفين فيه فإنالمحذوف في قوة المذكور وجوز أن يكون هناك إستعارة مصرحة والأصل جعلنا نباتها هالكا فشبه الهالك بالحصيد وأقيم إسم المشبه به مقامه ولا ينافيه تقدير المضاف كما توهم لأنه لم يشبه الزرع بالحصيد بلالهالك به وذهب السكاكي إلى أن في الكلام إستعارة بالكناية حيث شبهت الأرض المزخرفة والمزينة بالنبات الناضر المونق الذي ورد عليه ما يزيله ويفنيه وجعل الحصيد تخيلا ولايخفى بعده كأن لم تغن أي كأن لم يغن نباتها أي لم يمكث ولم يقم فتغن من غني بالمكان إذا أقام ومكث فيه ومنه قيل للمنزل مغني وقد حذف المضاف في هذا وفيما قبله فإنقلب الضمير المجرور منصوبا في أولهما ومرفوعا مستترا في الثاني وأختير الحذف للمبالغة حيث أفادظاهر الكلام جعل الأرض نفسها حصيدا وكأنها نفسها لم تكن لتغيرها بتغير ما فيها وقد عطف بعضهم عليهما عليها لما أن التقدير فيه على نباتها فحذف المضاف وجر الضمير بعلى وليس بالبعيد خلا أن في كون الحذف للمبالغة أيضا ترددا وقيل : ضمير تغن وما قبله يعودان على الزرع كما قيل في ضمير عليها وقيل : يعودان على الأرض ولا حذف بل بجعل التجوز في الإسناد وأنت تعلم أن إرجاع الضمائر كلها للأرض ولومع إرتكاب التجوز في الإسناد أولى من إرجاعها لغيرها كائنا ما كان نعم إنه لايمكن إرجاع الضمير غليها في قراءة الحسن يغني بالياء التحتية وجعل ذلك من قبيل ولا أرض أبقل أبقالها كما ترى فينبغي أنيرجع للنبات أو للزرع مثلا ومآل المعنى كأن لم يكن نابتا بالأمس أي فيما قبل إتيان أمرنا بزمان قريب فإن الأمس مثل في ذلك والجملة التشبيهية جوز أن تكون في محل النصب على أنها حال وأن تكون مستأنفةلا محل لها من الإعراب جوابا لسؤال مقدر والممثل
(11/101)

به في الآية ما يفهم من الكلام وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما لم يبق له أثر بعد ما كان غضا طريا فقد إلتف بعضه ببعض وازينت الأرض بألوانه حتى طمع الناس وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن دخلته كاف التشبيه فإنه من التشبيه المركب مع إشتمال الكلام نفسه علىأمور حقيقة وأمور مجازية فيها من اللطافة ما لا يخفى وعن أبي أنه قرأ كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها كذلك أي مثل ذلك التفصيل البديع نفصل الآيات أي القرآنية التي من جملتها هذه الآية الجليلة الشأن المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أي نوضحها ونبينها نفصل الآيات أي القرآنية التي من جملتها هذه الآية الجليلة الشأن 4المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أي نوضحها ونبينها لقوم يتفكرون24 في معانيها ويقفون على حقائقها وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون وجوز أن يراد بالآيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكى إيجادا وإعداما فإنها آيات وعلامات يستدل بها المتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالا ومآلا والأول هو الظاهر وعن أبي مجلز أنه قال : كان مكتوبا إلى جنب هذه الآية فمحي ولو أن لإبن آدم واديين من مال لتمنىواديا ثالثا ولايشبع نفس ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب
والله يدعوا إلى دار السلام ترغيب للناس في الحياة الأخرويةالباقية إثر ترغيبهم عن الحياة الدنيوية الفانية أي يدعو الناس جميعا إلى الجنة حيث يأمرهم بما يفضي إليها وسميت الجنة بذلك لسلامة أهلها عن كل ألم وآفة أو لأن الله تعالى يسلم عليهم أو لأن خزنتها يقولون لهم سلام عليكم طبتم أو لأن بعضهم يسلم فيها على بعض
فالسلام إما بمعنى السلامة أو بمعنى التسليم أو لأن السلام من أسمائهتعالى ومعناه هو الذي منه وبه السلامة أو ذو السلامة عن جميع النقائض فأضيفت إليه سبحانه للتشريف كما في بيت الله تعالى للكعبة ولأنه لاملك لغيره جل شأنه فيها ظاهرا وباطنا وللتنبيه على أن من فيها سالم عما مر للنظر إلى معنى السلامة في أصله ويدل على قصده تخصيصهبالإضافة إليه دون غيره من أسمائه تعالى ويهدي من يشاء هدايته إلى صراط مستقيم 25 موصل إلى تلك الدار وهو الدين الحق وفي الآية دلالة على أن الهداية غير الدعوة إلى ذلك وعلى أن الأمر مغايرللإرادة حيث عمم سبحانه الدعوة إذ حذف مفعولها وخص الهداية بالمشيئةالمساوية للإرداة على المشهور إذ قيدها بها وهو الذي ذهب إليه الجماعة وقال المعترلة : إن المراد بالهداية التوفيق والإلطاف ومغايرة الدعوة والأمر لذلك ظاهرة فإن الكافر مأمور وليس بموفق وأنمن يشاء هو من علم سبحانه أن اللطف ينفع فيه لأن مشيئته تعالى شأنه تابعة للحكمة فمن علم أنه لا ينفع فيه اللطف لم يوفقه ولم يلطف به إذ التوفيق لمن علم الله تعالى أنه لا ينفعه عبث والحكمه منافية للعبث فهو جل وعلا يهدي من ينفعه اللطف وإن أراد إهتداء الكل للذين أحسنوا أي العمل بأن فعلوا المأمور به وإجتنبوا المنهي عنه وفسررسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الإحسان بقوله عليه الصلاة و السلام : أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك الحسنى أي المنزلةالحسنى وهي الجنة وزيادة وهي النظر إلى وجه ربهم الكريم جل جلاله وهو التفسير المأثور عن أبي بكر وعلي كرم الله تعالى وجهه وابنعباس وحذيفة وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وخلق آخرين وروي مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من طرق شتى وقد أخرج الطيالسي وأحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أيحاتم
(11/102)

وابن خزيمة وابن حيان وأبو الشيخ والدارقطني وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن صهيب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تلا هذهالآية للذين أحسنوا إلخ فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النارالنار نادى مناد يا أهل الجنة أن لكم عند الله تعالى موعدا يريد أنينجزكموه فيقولون : وما هو ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه سبحانه فوالله ما أعطاهم الله تعالى شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم فحكاية هذا التفسير بقيل : كما فعل البيضاوي عفا الله تعالى عنه مما لا ينبغي وقول الزمخشري عامله الله تعالى بعدله : إن الحديث مرقوع بالقاف أي مفترى لا يصدر إلا عن رقيع فإنه متفق على صحته وقد أخرجه حفاظ ليس فيهم ما يقال
نعم جاء في تفسير ذلك غير ما ذكر لكن ليس في هذه الدرجة من الصحة ولارفع فيه صريحا فقد أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : الزيادة المغفرة والرضوان وأخرج عن الحسن أنها تضعيف الحسنة بعشر أمثالها إلىسبعمائة ضعف وأخرج عن ابن زيد أنها أن لا يحاسبهم على ماأعطاهم فيالدنيا وأخرج عن الحكم بن عتيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنهاغرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب وتعقبه ابن الجوزي بأنه لايصح وقيل : الزيادة أن تمر السحابة بهم فتقول : ما تريدون أناأمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم
وجمع بعضهم بين الروايات بأنه لا مانع من أن يمن الله تعالى عليهم بكل ما ذكر ويصدق عليه أنه زيادة على ما من به عليهم من الجنة وأيد ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن سفيانأنه قال : ليس في تفسير القرآن إختلاف إنما هو كلام جامع يراد به هذاوهذا والذي حمل الزمخشري على عدم الإعتماد على الروايات الناطقةبحمل الزيادة على رؤية الله تعالى زعمه الفاسد كأصحابه أن اللهتعالى لا يرى وقد علمت منشأ ذلك الزعم وقد رده أهل السنة بوجوه ولايرهق وجوههم قتر ولا ذلة أي ل ايغشاها غبرة ما فيها سواد ولا أثر هوان ما وكسوف بال والمعنى لا يعرض عليهم ما يعرض لأهل النار أو لا يعرض لهمما يوجب ذلك من الحزن وسوء الحال والكلام على الأول حقيقة وعلى الثاني كناية لأن عدم غشيان ذلك لازم لعدم غشيان ما يوجبهما فذكر اللازملينتقل منه إلى الملزوم ورجح هذا بأنه أمدح والمقصود بيان خلوص نعيمهم من شوائب المكاره إثر بيان ما من سبحانه به عليهم من النعيم وقيل : إن ذكر ذلك لتذكيرهم بما ينقذهم منه فإنهم إذا ذكروا ذلك زاد إبتهاجهم ومسرتهم كما أن أهل النار إذا ذكروا ما فاتهم من النعيمإزداد غمهم وحسرتهم وقيل : الغرض إدخال السرور عليهم بتذكير حالأعدائهم أهل النار فإن الإنسان متى علم أن عدوه في الهوان وسوء الحالإزداد سرورا وقد شاهدنا من يكتفي بمضرة عدوه عن حصول المنفعة لهبل من يسره ضرر عدوه وإن تضرر هو وتقديم المفعول على الفاعل للإهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم وللتشويق إلى المؤخرولأن في الفاعل ضرب تفصيل أولئك أي المذكورون بإعتبار إتصافهم بما تقدم أصحب الجنة هم فيها خالدون 26 دائمون بلا زوال ويلزم ذلك عدم زوال نعيمها
والذين كسبوا السيئت أي الشرك والمعاصي وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله سبحانه : جزاء سيئة بمثلها والباء متعلقة بجراء وهو مصدر المبني للمفعول لا إسم للعوض كما في بعض الأوجه الآتية
(11/103)

على ما قيل أي جزاء الذين كسبوا السيئات أن تجازى سيئة واحدة بسيئةمثلها على معنى عدم الزيادة بمقتضى العدل وإلا فلا مانع عن العفوبمقتضى الكرم لكن ذلك في غير الشرك ويجوز أن يكون جزاء سيئة بمثلهاجملة من مبتدأ وخبر هي خبد المبتدأ وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف لكن العائد محذوف أي جزاء سيئة منهم بمثلها على حد السمن منوان بدرهم
وأجاز أبو الفتح أن يكون جزاء مبتدأ محذوف الخبر أي لهم جزاء سيئةبمثلها وحذف لهم لقرينة للذين أحسنوا والجملة خبر الذين كسبوا وحينئذ لا حاجة إلى تقدير عائد كما لا حاجة إلى تقدير مضاف وجوز غيرواحد أن يكون الذين عطفا على الذين المجرور الذي هو مع جاره خبروجزاء سيئة معطوف على الحسنى الذي هو المبتدأ وفي ذلك العطف على معمولي عاملين مختلفين وفيه مذاهب المنع مطلقا وهو مذهب سيبويه والجواز مطلقا وهو مذهب الفراء والتفصيل بين أن يتقدم المجرور نحو في الدار زيد والحجرة عمرو فيجوز أو لا فيمتنع والمانعون يحملون نحوهذا المثال على إضمار الجار ويجعلونه مطردا كقوله : أكل امرىء تحسبين امرا ونار توقد بالليل نارا وقيل : هو مبتدأ والخبر جملة مالهم من الله من عاصم أو كأنما أغشيت أو أولئك أصحاب النار وما في البين إعتراض وفي تعدد الإعترا خلاف بين النحويين و جزاء سيئة حينئذ مبتدأ و بمثلها متعلق به والخبر محذوف أي واقع أو بمثلها هو الخبر على أن الباءزائدة أو الجار والمجرور في موضع الخبر على أن الباء غير زائدة والأولى تقدير المتعلق خاصا كمقدر ويصح تقديره عاما والقول بأنه لامعنى له حاصل وهم ظاهر وأيا ما كان لا دلالة في الآية على أن الزيادةهي الفضل دون الرؤية وقد علمت أن تفسيرها بذلك هو المأثور عن النبي صلى الله عليه و سلم وجملة من السلف الصالح فلا ينبغي العدول عنه لما يتراءى منه خلافهلا سيما وقد أتى الإمام وغيره بدلائل جمة على أن المراد بها ذلك ولميؤت بالآيتين على أسلوب واحد لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائيوالتباين وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو بسوء صنيعهموجنايتهم على أنفسهم وترهقهم ذلة أي هوان عظيم فالتنوين هناللتفخيم على عكس التنوين فيما كما أشرنا إليه وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم رون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم
وقريء يرهقهم بالياء التحتانية لكون الفاعل ظاهرا وتأنيثه غيرحقيقي وقيل : التذكير بإعتبار أن المراد من الذلة سببها مجازا ولا يحتاج إليه كما لا يخفى لأن التذكير في مجازي التأنيث لا سيما المفصول كثير جدا
والواو على ما قال غير واحد للعطف وما بعده معطوف على كسبوا وضعفه أبو البقاء بأن المستقبل لا يعطف على الماضي وأجيب بالمنع وفيالعطف ههنا ما لا يخفى من المبالغة حيث أخرج نسبة الرهق إليهم يوم القيامة مخرج المعلوم حيث جعل ذلك بواسطة العطف صلة الموصول وقيل : إنه عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل : والذين كسبوا السيآت تجازى سيئتهم بمثلها وترهقهم ذلة ولعله أولى من الأول وأما جعل الواو حالية والجملة في موضع الحال من ضمير كسبوا فلا يخفى حاله ما لهم من الله من عاصم أي ما لهم أحد يعصمهم ويمنعهم من سخط الله تعالى وعذابه فمن الأولى متعلقة بعاصم والكلام على حذف مضاف و من الثانية زائدة لتعميم النفي أو ما لهم من جهته وعنده تعالى من يعصمهم كما يكون للمؤمنين فمن الأولى متعلقة بمحذروف وقع
(11/104)

حالا من عاصم وقيل متعلقة بالإستقرار المفهوم من الظرف وليس في الكلام مضاف محذوف و من الثانية على حالها والجملة مستأنفة أو حال من ضمير ترهقهم وفي نفي العاصم من المبالغة في نفي العصمة ما لا يخفى كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل أي كأنما ألبست ذلك لفرط سوادها وظلمتها والجار والمجرور صفة قطعا وقوله سبحانه : مظلما حال من الليل والعامل فيه متعلق الجار والمجرور فعلا كان أو إسما
وجوز أبو البقاء كونه حالا من قطعا أو صفة له وكان الواجب الجمع لأن قطعا جمع قطعة إلا أنه أفردت حاله أو صفته لتأويل ذلك بكثير ولايخفى أنه تكلف مستغنى عنه والظاهر أن من للتبعيض وقال بعض المحققين : لليل معنيان زمان تخفى فيه الشمس قليلا أو كثيرا كما يقال دخل الليل والآن ليل وما بين غروب الشمس إلى طلوعها أو قربها من الطلوع فمن إما تبعيضية على الأول وبيانية على الثاني وجوز الزمخشري أن يكون العامل في الحال أغشيت من قبل أن من الليل صفة لقطعا فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة قال صاحب التقريب : وفيه نظر لأن من الليل ليس صلة أغشيت حتى يكون عاملا في المجرور بل التقدير أنه صفة فيكون العامل فيه الإستقرار وأيضا الصفة من الليل وذو الحال هو الليل فلا يكون أغشيت عاملا في ذي الحال مع أنه المقصود وقد يقال : إن من للتبيين والتقدير كائنة من الليل فأغشيت عامل في الصفة وهي كائنة فكأنه عامل في الليل وهو مبني على أن العامل في العامل في الشيء عامل فيه وهو فاسد فالوجه أن يقال : إن من للتبعيض أي بعض الليل ويكون بدلا من قطعا ويجعل مظلما حالا من البعض لا من الليل فيكون العامل في ذي الحال أغشيت ولا يخفى أنه وجه أغشى قطعا من ليل التكلف والتعسف مظلما وأجاب الإمام أمين الدين بأن نسبة أغشيت إلى قطعا إنما هي بإعتبار ذاتها المبهمة المفسرة بالليل لا بإعتبار مفهوم القطع في نفسها وإنما ذكرت لبيان مقدار ما أغشيت به وجوههم وهو اليل مظلما فإفضاء الفعل إلى قطعا بإعتبار مالا يتم معناها المراد إلا به كإفضاء الفعل إليه كما إذا قيل : اشتريت أرطارلا من الزيت صافيافان المشتري فيه الزيت والأرطال مبنية لمقدار مااشترى صافيا فالعامل في الحال انما هو العامل اللفظي ولا يلاحظ معنى الفعل في الجار والمجرور من جهة العمل لغلبة العامل اللفظي عليه بالظهور ولا يخفى ما فيه وقال في الكشف : إن الزمخشري ذهب إلى أن أغشيت له إتصال بقوله تعالى : من الليل من قبل أن الصفة والموصوف متحدان لا سيما والقطع بعض الليل فجاز أن يكون عاملا في الصفة بذلك الإعغتبار وكأنه أغسيت الليل مظلما وهذا كما جوز في نحو ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا أن يكون حالا من الضمير بإعتبار اتحاده بالمضاف وكأنه قيل : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا وكما جوز في ملة ابراهيم حنيفا لأن الملة كالجزء كأنه قيل : إتبعوا إبراهيم حنيفا وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري وهو سر هذا الموضع لا ما طوله كثيرون لا سيما حمل من على التجريد فإنه مع أن المعنى على التبعيض لا البيان وليس كل بيان تجريدا لا يتم مقصوده إنتهى
وقد عرض في ذلك بشيخه العلامة الطيبي فإنه عليه الرحمة قد تكلف ماتكلف والإنصاف أن ما جوزه الزمخشري هنا مما لا ينبغي والسعي في إصلاحه مع وجود الوجه الواضح الذي لا ترهقه قترة يقرب من أن يكون عبثا وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب وسهل قطعا بسكون الطاء وهو إسم مفرد معناه طائفة من الليل أو ظلمة آخره أو إسم جنس لقطعة وأنشدوا
(11/105)

إفتحي الباب وإنظري في النجوم كم علينا من قطع ليل بهيم وعلى هذا يجوز أن يكون مظلما صفة له أو حالا منه بلا تكلف تأويل وقرىء كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم والكلام فيه ظاهر والجملة كالتي قبلها مستأنفة أو حال من ضمير ترهقهم أولئك أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة أصحاب النار هم فيها خالدون 27 لا يخرجون منها أبدا وإحتجت الوعيدية بهذه الآية على قولهم الفاسد بخلود أهل الكبائر وأجيب بأن السيآت شاملة للكفر وسائر المعاصي وقد قامت الأدلة على أنه لا خلود لأصحاب المعاصي فخصصت الآية بمن عداهم وأيضا قد يقال أنهم داخلون في الذين أحسنوا بناء على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس و أبو الشيخ عن قتادة أنهم الذين شهدوا أن لا إله إلا الله أي المؤمنون مطلقا فلا يدخلون في القسم الآخر لتنافي الحكمين وقيل : إن أل في السيئات للإستغراق فالمراد من عمل جميع ذلك والقول بخلوده في النار مجمع عليه وليس بذاك
ويوم نحشرهم كلام مستأنف مسوق لبيان بعض آخر من أحوالهم الفظيعة وتأخيره في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالهم المحكية سابقا كما قال بعض المحققين للإيذان بإستقلال كل من السابق والاحق للإعتبار ولو روعي الترتيب الخارجي لعد الكل شيئا واحدا ولذلك فصل عما قبله وزعم الطبرسي أنه تعالى لما قدم ذكر الجزاء بين بهذا وقت ذلك وعليه فالآية متصلة بما ذكر آنفا لكن لا يخفى أن ذلك لم يخرج مخرج البيان وأولى منه أن يقال : وجه إتصاله بما قبله إن فيه تأكيدا لقوله سبحانه : مالهم من الله من عاصم من حيث دلالته على عدم نفع الشركاء لهم و يوم منصوب بفعل مقدر كذكرهم وخوفهم وضمير نحشرهم لكلا الفريقين من الذين أحسنوا الحسنى والذين كسبوا السيآت لأنه المتبادر من قوله تعالى : جميعا ومن أفراد الفريق الثاني بالذكر في قوله سبحانه : ثم نقول للذين أشركوا أي للمشركين من بينهم ولأن توبيخهم وتهديدهم على رؤوس الأشهاد افظع والاخبار بحشرالكل في تهويل اليوم ادخل وإلى هذءا ذهب القاضي البيضاوي وغيره وكون مراده بالفريقين فريقي الكفار والمشركين خلاف الظاهر جدا
وقيل : الضمير للفريق الثاني خاصة فيكون الذين أشركوا من وضع الموصول موضع الضمير والنكتة في تخصيص وصف إشراكهم في حيز الصفة من بين سائر ما إكتسبوه من السيئات إبتناء التوبيخ و التقريع عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظم جناياتهم وعمدة سيئاتهم وهو السر في الإظهار في مقام الإضمار على القول الأخير مكانكم ظرف متعلق بفعل حذف فسد هو مسده وهو مضاف إلى الكاف والميم علامة الجمع أي إلزموا مكانكم والمراد إنتظروا حتى تنظروا ما يفعل بكم وعن أبي علي الفارسي أن مكان إسم فعل وحركته حركة بناء وهل هو إسم فعل لا لزم أو لا ثبت ظاهر كلام بعضهم الأول والمنقول عن شرح التسهيل الثاني لأنه على الأول يلزم أن يكون متعديا كالزم مع أنه لازم وأجيب بمنع اللزوم وقال السفاقسي : في كلام الجوهري ما يدل على أن إلزم يكون لازما ومتعديا فلعل ما هو إسم له اللازم : وذكر الكوفيون
(11/106)

أنه يكون متعديا وسمعوا من العرب مكانك زيدا أي إنتظره وإختار الدماميني في شرح التسهيل عدم كونه إسم فعل فقال : لا أدري مالداعي إلى جعل هذا الظرف إسم فعل إما لازما وإما متعديا وهلا جعلوه ظرفا على بابه ولم يخرجوه عن أصله أي أثبت مكانك أو إنتظر مكانك وإنما يحسن دعوى إسم الفعل حيث لايمكن الجمع بين ذلك الإسم وذلك الفعل نحو صه وعليك وإليك وأما إذا أمكن فلا كوراءك وأمامك وفيه منع ظاهر
وقول تعالى : أنتم توكيد للضمير المنتقل إلى الظرف من عامله على القول الأول وللضمير المستتر في إسم الفعل على القول الثاني وقوله سبحانه : وشركاؤكم عطف على ذلك وقيل : إن أنتم مبتدأ خبره محدوف أي مهانون أو مجزيون وهو خلاف الظاهر مع ما فيه من تفكيك النظم وقيل : ولأنه يأباه قراءة وشركاؤكم بالنصب إذ يصير حينئذ مثل كل رجل وضيعته ومثله لا يصح فيه ذلك لعدم ما يكون عاملا فيه والعامل على التوجيه الأول ظاهر لمكان مكانكم فزيلنا بينهم أي ففرقنا وهو من زلت الشيء عن مكانه أزيله أي أزلته والتضعيف للتكثير لا للتعدية وهو يائي ووزنه فعل بديل زايل وقد قرىء به وهو بمعناه نحو كلمته وكالمته وصعر خده وصاعر خده
وقال أبو البقاء : إنه واوي لأنه من زال يزول وإنما قلبت الواو ياءا لأنه فيعل والأول أصح لما علمت ولأن مصدره التزييل لا الزيولة مع أن فعل أكثر من فيعل ونصب بين على الظرفية لا على أنه مفعول به كما توهم والمراد بالتفريق قطع الإقران والوصل التي كانت بينهم وبين الشركاء في الدنيا وقيل : التفريق الجسماني وظاهر النظم الجليل لا يساعده والعطف على نقول وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقق لزيادة التوبيخ والتحسير والفاء الدلالة على وقوع التزييل ومبادية عقيب الخطاب من غير مهملة إيذانا بكمال رخاوة ما بين الفريقين من العلاقة والوصلة وقوله سبحانه : وقال شركاؤهم عطف على ما قبله وجوز أن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها على الخلاف والإضافة بإعتبار أن الكفار هم الذين إتخذوهم شركاء لله سبحانه وتعالى
وقيل : لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فصيروهم شركاء لأنفسهم في ذلك والمراد بهؤلاء الشركاء قيل : الأصنام فان أهل مكة إنما كانوا يعبدونها وهم المعنيون بأكثر هذه الآيات ونسبة القول لها غير بعيد من قدرته سبحانه فينطقها الله الذي أنطق كل شيء في ذلك الموقف فتقول لهم ما كنتم إيانا تعبدون 28 والمراد من ذلك تبريهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم الداعية لهم وما أعظم هذا مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها منهم وقيل : المراد بهم الملائكة والمسيح عليهم السلام لقوله تعالى : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون وقوله سبحانه : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين الآية والمراد من ذلم القول ما أريد منه أولا أيضا لأن نفي العبادة لا يصح لثبوتها في الواقع والكذب لا يقع في القيامة ممن كان وقيل : إن قول الشركاء مجرى على حقيقته بناء على أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة فذلك الكذب يكون جاريا مجرى كذب الصبيان والمجانين المدهوشين ويمكن أن
(11/107)

يقال أيضا : أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم فلذا نفوا عبادتهم إياهم أو يقال : إن المشركين لما تخيلو فيما عبدوه أوصافا كثيرة غير موجودة فيه في نفس الأمر كانوا في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ولما كانت ذوات الشركاء خالية عن تلك الصفات صدق أن يقال : إن المشركين ماعبدوا الشركاء وهذا أولى من الأولين بل لا يكاد يلتفت اليهما وكأن حاصل المعنى عليه إنكم عبدتم من زعمتم أنه يقدر على الشفاعة لكم وتخليصكم من العذاب وإنه موصوف بكيت وكيت فإطلبوه فانا لسنا كذلك والمراد من ذلك قطع عري أطماعهم وإيقاعهم في اليأس الكلي من حصول ما كانوا يرجونه ويعتقدونه فيهم ولعل اليأس كان حاصلا لهم من حين الموت والإبتلاء بالعذاب ولكن يحصل بما ذكر مرتبة فوق تلك المرتبة وقيل : المراد بهم الشياطين وقطع الوصل عليه من الجانبين لا من جانب العبدة فقط كما يقتضيه ما قبل والمراد من قولهم ذلك على طرز ما تقدم وأورد على القول بأن المراد الملائكة والمسيح عليهم السلام بأنه لا يناسب قوله سبحانه : مكانكم أنتم وشركاؤكم حيث أن المراد منه الوعيد والتهديد وظاهر العطف إنصراف ذلك إلى الشركاء أيضا وتهديد أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام مما لايكاد يقدم على القول به
وإعترض بأن هذا مشترك الإلزام فإنه يرد على القول الأول أيضا إذ لا معنى للوعيد والتهديد في حق الأصنام مع عدم صدور شيء منها يوجب ذلك ولا مخلص إلا بإلتزام أن التهديد والوعيد للمخاطبين فقط أو للمجموع باعتبارهم
وأجيب بجواز كون تهديد الأصنام نظير إدخالها النار مع عبدتها كما يدل عليه قوله تعالى : إنكم ومتعبدون من دون الله حصب جهنم وكذا قوله سبحانه : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة على ما عليه جمع من المفسرين ودعوى الفرق بين التهديد والإدخال في النار تحتاج إلى دليل نعم قالوا : يجب على القول بأن المراد الملائكة عليهم السلام أن تحمل الغفلة في قوله سبحانه : فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين 29 على عدم الإرتضاء لا على عدم الشعور لأن عدم شعور الملائكة بعبادتهم غير ظاهر بل لو قيل بوجوب هذا الحمل على القول بأن المراد المسيح عليه السلام أيضا لم يبعد لأن عدم شعوره بعبادتهم مع أنه سينزل ويكسر الصليب كذلك ولا يكاد يصح الحمل على الظاهر إلأ إذا كان المراد الأصنام فإن عدم شعورهم بذلك ظاهر وتعقب بأنه لا دليل على شعور الملائكة عليهم السلام بعبادتهم ليصرف له اللفظ عن حقيقته وليس هؤلاء المعبودون هم الحفظة أو الكتبة بل ملائكة آخرون ولعلهم مشغلون بأداء ما أمروا به عن الإلتفات إلى مافي هذا العالم ونحن لا ندعي في الملائكة عليهم السلام ما يدعيه الفلا سفة فانهم الذين قالوا يوم إستنبئوا عن الأسماء : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا وهذا جبريل عليه السلام من أجلهم قدرا كان كثيرا مايسأله رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أشياء فيقول : لا أعلم وسوف أسأل ربي وكذا لادليل على شعور المسيح عليه السلام بعبدة هولاء المخاطبين عند إيقاعها وكونه سينزل ويكسر الصليب لا يستدعي الشعور بها كذلك كما لايخفى وقد يستأنس لعدم شعوره بما حكى الله تعالى عنه في الجواب عن سؤاله له عليه السلام من قوله : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد واعترض على القول الأخير بأنه لا يصح مع هدا القول
(11/108)

مطلقا لأن الشياطين هم الذين زينوا لهم هذه الشنيعة الشنعاء وأغروهم عليها فكيف يتأتى القول بأنهم غافلون حقيقة عنها أو أنهم غير مرتضين لها ولعل من ذهب إلى ذلك يلتزم الكذب ويقول بجواز وقوعه يوم القيامة
وقيل : إن القول الأول لايصح مع هذا القول أيضا مطلقا لأن الأوثان لا تتصف بالغفلة حقيقة لأنها كما يفهم من القاموس إسم لترك وذهاب القلب عنه إلى غيره وهذا شأن ذوي القلوب والأوثان ليست من ذلك وكذا تتصف بها مجازا عن عدم الإرتضاء إذ الظاهر أن مرادهم من عدم الإرتضاء السخط والكراهة وظاهر أن الأوثان لا تتصف بسخط ولا إرتضاء إذ هما تابعان للإدراك ولا إدراك لها ومن أثبته للجمادات حسب عالمها فالأمر عنده سهل ومن لا يثبته يقول : إنها مجاز عن عدم الشعور وقد يقال : إن المراد بغفلتهم عن عبادة المشركين عدم طلبهم الإستعدادي لها ويرجع ذلك بالآخرة إلى نفي إستحقاق العبادة عن أنفسهم وإثبات الظلم لعابديهم
وحينئذ فالأظهر أن يراد بالشركاء جميع ماعبد من دون الله تعالى من ذوي العقول وغيرهم والكل صارق في قوله ذلك وقد يراد من عدم الطلب ما يشمل عدم الطلب الحالي والقالي إذا أعتبر كون القائل ممن يصح نسبة ذلك له كالملائكة عليهم السلام وهذا الوجه لا يتوقف على شعور الشركاء بعبادتهم ولا على عدمه فيجوز أن يكون لهم شعور بذلك ويجوز أن لا يكون لهم شعور والظاهر أن تفسير الغفلة بعدم الإرتضاء المراد منهم على ما قيل السخط والكراهة يستدعي الشعور إذ كراهة الشيء مع عدم الشعور به مما لا يكاد يعقل وإثباته لجميع الشركاء ولو إجمالا في وقت من الأوقات الدنيوية غير مسلم ولعل التعبير بالغفلة أكثر تهجينا للمخاطبين ولعبادتهم من التعبير بعدم الطلب مثلا فتأمل والباء في بالله صلة و شهيدا تمييز و إن مخففة من أن واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية والظرف متعلق بغافلين والتقديم لرعاية الفاصلة أي كفى الله شهيدا فإنه العليم الخبير المطلع على كنه الحال إنا كنا غافلين عن عبادتكم والظاهر من كلام بعض المحققين أن فكفى إلخ إستشهاد على النفي السابق لا على الإثبات اللاحق هنالك أي في ذلك المقام الدحض والمكان الدهش وهو مقام الحشر فهنالك باق على أصله وهو الظرفية المكانية وقيل : إنه إستعمل ظرف زمان مجازا أي في ذلك الوقت تبلوا أي تختبر كل نفس مؤمنة كانت أو كافرة ماأسلفت من العمل فتعاين نفعه وضره أتم معاينة
وقرأ حمزة والكسائي تتلو من التلاوة بمعنى القراءة والمراد قراءة صحف ما أسلفت وقيل : إن ذلك كناية عن ظهور الأعمال وجوز أن يكون من التلو على معنى أن العمل يتجسم ويظهر فيتبعه صاحبه حتى يرد به الجنة أو النار أو هو تمثيل وقرأ عاصم في رواية عنه نبلو بالباء الموحدة والنون ونصب كل على أن فاعل نبلو ضميره تعالى و كل مفعوله و ما بدل منه بدل إشتمال والكلام إستعارة تمثيلية أي هنالك نعامل كل نفس معاملة من يبلوها ويتعرف أحوالها من السعادة والشقاوة بإختبار ما أسلفت من العمل ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء أي العذاب كل نفس عاصية بسبب ماأسلفت من الشر فتكون ما منصوبة بنزع الخافظ وهو الباء السببية
وردوا إلى الله عطف على زيلنا والضمير للذين أشركوا وما في البين إعتراض في أثناء الحكاية مقرر لمضمونها والمعنى ردوا إلى جزائه وعقابة أو إلى موضع ذلك فالرد إما معنوي أو حسي وقال الإمام : المعنى جعلوا ملجئين إلى الإقرار بألوهيته سبحانه وتعالى مولاهم أي ربهم الحق أي المتحقق الصادق في ربوبيته لا ما إتخذوه
(11/109)

ربا باطلا وقرىء الحق بالنصب على المدح والمراد به الله تعالى وهو من أسمائه سبحانه أو على المصدر المؤكد والمراد به ما يقابل الباطل ولا منافاة بين هذه الآية وقوله سبحانه : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم لإختلاف معنى المولى فيهما وأخرج الشيخ عن السدي أن الأولى منسوخة بالثانية ولا يخفى ما فيه وضل أي ضاع وذهب عنهم ماكانوا يفترون 30 من أن آلهتهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها شركاء لله عز و جل و ما يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية والجملة معطوفة على قوله سبحانه : ردوا ومنالناس من جعلها عطفا على زيلنا وجملة ردوا معطوفة على جملة تبلو إلخ داخلة في الإعتراض و ضمير الجمع للنفوس المدلول عليها بكل نفس والعدول إلى الماضي للدلالة على التحقق والتقرر وإيثار صيغة الجمع للإيذان بأن ردهم إليه سبحانه يكون على طريق الإجتماع وما ذكرناه أولى لفظا ومعنى وتعقب شيخ الإسلام جعل الضمير للنفوس وعطف ردوا على تبلو إلخ بأنه لا يلائمه التعرض لوصف الحقية في قوله سبحانه : مولاهم الحق فانه للتعريض بالمردودين ثم قال : ولئن إكتفى فيه بالتعريض ببعضهم أو حمل الحق على معنى العدل في الثواب والعقاب أي مو تفسير المولى بمتولي الأمور فقوله سبحانه : وضل إلخ مما لا مجال فيه للتدارك قطعا فإن ما فيه من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيك حتما وتخصيص كل نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوى للكل يأباه مقام تهويل المقام إنتهى والظاهر أنه إعتبر عطف وضل عنهم إلخ على ردوا مع رجوع ضميره للنفوس وهنو غير ما ذكرناه فلا تغفل قل أي لأولئك المشركين الذين حكيت أحوالهم وبين ما يؤدي إليهأفعالهم التي هي أفعى لهم إحتجاجا على حقية التوحيد وبطلان ماهم عليه من الإشراك
من يرزقكم من السماء والأرض أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية كالمطر وحرارة الشمس المنضجة وغير ذلك ومواد أرضية بمنزلة الفاعل والثانية بمنزلة القابل أو من كل واحد منهما بالإستقلال كالأمطار والمن والأغذية الأرضية توسعة عليكم فمن على هذا لإبتداء الغاية وقيل : هي لبيان من على تقدير المضاف وقيل : تبعيضية على ذلك التقدير أي من أهل السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار أم منقطعة بمعنى بل والإضطراب إنتقالي لا إبطالي وفيه تنبيه على كفاية هذا الإستفهام فيما هو المقصود أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة ومن وقف على تشريحهما وقف على ما يبهر العقول أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة إنفعالهما عن أدنى شيء يصيبهما أو من يتصرف بهما إذهابا وإبقاء والملك على كل مجاز وقيل : والمعنى الأول أوفق لنظم الخالقية مع الرازقية كقوله تعالى : هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي أي ومن ينشيء الحيوان من النطفة مثلا والنطفة من الحيوان أو من يحيي أو يميت بأن يكون المراد بالإخراج التحصيل من قولهم : الخارج كذا أي الحاصل أي من يحصل الحي من الميت بأن يفيض عليه الحياة ويحصل الميت من الحي بأن يفيض عليه الموت ويسلب عنه الحياة والمآل ما علمت ومن الناس من فسر الحي والميت هنا بالمؤمن والكافر والأول أولى ومن يدبر الأمر أي ومن يلي تدبير أمر العالم جميعا وهو تعميم بعد تخصيص ما إندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر وفيه إشارة إلى أن الكل منه سبحانه وإليه وأنه لا يمكنكم علم تفاصيله فسيقولون
(11/110)

بلا تلعثم ولا تأخير الله إذ لا مجال للمكابرة والعناد في شيء من ذلك لغاية وضوحه والإسم الجليل مبتدأ والخبر محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لاغيره هذا وربما يستدل بالآية على تقدير أن لاتكون من لإبتداء الغاية على جواز أن يقال الله سبحانه أنه من أهل السماء والأرض وكون المراد هناك غير الله تعالى لا يناسب الجواب ومن لم ير الجواز تعني ومن رآه بناء على ظواهر الآيات المفيدة لكونه تعالى في السماء وقوله في الجارية التي أشارت الى السماء حين قيل لها اين الله أعتقها فإنها مؤمنة واقراره حصينا حين قال له عليه الصلاة و السلام : كم تعبد يا حصين فقال : سبعة ستة في الأرض و واحد في السماء فقال صلى الله عليه و سلم : فمن الذي أعددته لرغبتك و رهبتك فقال حصين : الإله الذي في السماء أبقى الآية على ما يقتضيه ظاهرها وأنت تعلم أنه لم يرد صريحا كونه تعالى من أهل السماء والأرض وأن ورد كونه جل وعلا في السماء على المعنى اللائق بجلاله جل جلاله فلا أرى جواز ذلك ولا داعي لإخراج من عن إبتداء الغاية ليحتاج إلى العناية في رد الإستدلال كما لايخفى وفي الإنتصاف أن هذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الأرزاق منقسة فمنها ما رزقه الله تعالى للعبد وهو الحلال ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام فهي ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون وكذا فيما قيل تكفح في وجوه أناس يزعمون أن الذي يدبر الأمر في كل عصر قطبه وهو عماد السماء عندهم ولولاه لوقعت على الأرض فكأني بك إذا سألتهم من يدبر الأمر يقولون القطب وقد يعتذر عنهم بأن مرادهم أنه المدبر بإذن الله تعالى وجاء إطلاق المدبر بهذا المعنى على غيره تعالى في قوله سبحانه : فالمدبرات أمرا
وربما يقال انه لا فرق عندهم بين الله تعالى وبين القطب إلا بالإعتبار لأنه الذي فاز بقربى النوافل والفرائض على أتم وجه فإرتفعت الغيرية فالقول بأن القطب هو المدبر كالقول بأن الله سبحانه هو المدبر بلافرق
وإعترض هذا بأنه ذهاب إلى القول بوحدة الوجود وأكثر المتكلمين وبعض الصوفية كالإمام الرباني قدس سره ينكرون ذلك والأول بأنه هلاالمشركون في جواب ذلك : الملائكة أو عيسى عليهم السلام مثلا على معنى أنهم المدبرون للأمر بإذن الله تعالى فيكون المذكورون عندهم بمنزلة الأقطاب عند أولئك وأجيب بأن السؤال إنما هو عمن ينتهي إليه الأمر فلا يتسنى لهم إلا الجواب المذكور ولعل غير أهل الوحدة لو سئلوا كذلك ما عدلوا في الجواب عنه سبحانه وأما أهل الوحدة قدس الله تعالى أسرارهم فلهم كلمات لا يقولها المشركون وهي لعمري فوق طور العقل ولذا أنكرها أهل الظاهر عليهم فقل لهم أفلا تعقلون 31 الهمزة لإنكار عدم الإتقاء بمعنى إنكار الواقع كما في قولك : أتضرب أباك لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قولك : أأضرب أبي والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أتعلمون ذلك فلا تتقون والخلاف في مثل هذا التركيب شهير وما ذكرناه هو ما عليه البعض ومفعول تتقون محذوف وهو متعد لواحد أي أفلا تتقون عذابه الذي لكم بما تتعاطونه من إشراككم به سبحانه ما لا يشاركه في شيء مما ذكر من خواص الألوهية وكلام القاضي يوهم أنه متعد إلى مفعولين وليس بذاك
فذلكم الله ربكم الحق فذلكة تقرر والإشارة إلى المتصف بالصفات السابقة حسبما إعترفوا به وهي مبتدأ والإسم الجليل صفة له و ربكم خبر و الحق خبر بعد خبر أو صفة أو خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون الإسم
(11/111)

الجليل هو الخبر و ربكم بدل منه أو بيان له و الحق صفة الرب أي مالككم ومتولي أموركم الثابت ربوبيته والمتحقق ألوهيته تحققا لا ريب فيه فماذا بعد الحق إلا الضلال أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع إلا الضلال فمن تخطى الحق وهو عبادة الله تعالى وحده لا بد وإن يقع في الضلال وهو عبادة غيره سبحانه على الإنفراد أو الإشتراك لأن عبادته جل شأنه مع الإشتراك لا يعتد بها فما إسم إستفهام و ذا موصول ويجوز أن يكون الكل إسما واحدا قد غلب فيه الإستفهام على إسم الإشارة وهو مبتدأ خبره بعد الحق على ما في النهر والإستفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع ونفيه و بعد بمعنى غير مجاز والحق ما عملت وهو غير الأول ولذا أظهر وإطلاق الحق على عبادته سبحانه وكذا إطلاق الضلال على عبادة غيره تعالى لما أن المدار في العبادة الإعتقاد وجوز أن يكون الحق عبارة عن الأول والإظهار لزيادة التقرير ومراعاة كمال المقابلة بينه وبين الضلال والمراد به هو الأصنام والمعنى فماذا بعد الرب الحق الثابت ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل وإنما سمي بالمصدر مبالغة كأنه نفس الضلال والضياع وقيل : المراد بالخحق والضلال مايعم التوحيد وعبادة غيره سبحانه وغير ذلك ويدخل ما يقتضيه المقام هنا دخولا أوليا ويؤيده ماأخرجه ابن أبي حاتم عن أشهب قال : سئل مالك عن شهادة اللعاب بالشطرنج والنرد فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة يقول الله تعالى : فماذا بعد الحق إلا الضلال فهذا كله من الضلال
فأنى تصرفون 32 أي فكيف تصرفون عن الحق إلى الضلال والإستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع وإستعباده والتعجب منه وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الفعل فإنه لابد لكل موجود من أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا إنتفى جميع أحوال وجوده فقد إنتفى وجوده على الطريق البرهاني والفاء لترتيب الإنكار والتعجب على ما قبله ولعل ذلك الإنكار والتعجب متوجهان في الحقيقة إلى منشأ الصرف وإلا فنفس الصرف منه تعالى على ما هو الحق فلا معنى لإنكاره والتعجب منه مع كونه فعله جل شأنه وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم تعلق غرض به وذهب المعتزلة أن فاعل الصرف نفسه المشركون فهم الذين صرفوا أنفسهم وعدلوا بها عن الحق إلى الضلال بناء على أن العباد هم الخالقون لأفعالهم وأمر الإنكار والتعجب عليه ظاهر وإنما لم يسند الفعل إلى ضميرهم على جهة الفاعلية إشارة إلى أنه بلغ من الشناعة إلى حيث أنه لاينبغي أن يصرح بوقوعه منهم فتدبر كذلك أي كما حقت كلمة الربوبية سبحانه وتعالى أو كما أنه ليس بعد الحق إلا الضلال أو كما أنهم مصرفون عن الحق حقت كلمت ربك أي حكمه على الذين فسقوا أي تمردوا في الكفر وخرجوا إلى أقصى حدوده والمراد بهم أولئك المخاسبون ووضع ضميرهم للتوصل إلى ذمهم بعنون الصلة وللإشعار بالعلية أنهم لايؤمنون 33 بدل من الكلمة بدل كل من كل أو بدل إشتمال بناء على أن الحكم بالمعنى المصدري أو بمعنى المحكوم به وقد تفسر الكلمة بالعدة بالعذاب فيكون هذا في موضع التعليل لحقيتها أي لأنهم إلخ وإعترض بأن محصل الآية حينئذ على ما تقرر في الذين فسقوا أن كلمة العذاب حقت على أولئك المتمردين لتمردهم في كفرهم ولأنهم لا يؤمنون وهو تكرار لا طائل تحته وأجييب بأنه لو سلم أن في الآية تكرارا مطلقا فهو تصريح بما علم ضمنا وفيه دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب إنتفاء الإيمان قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده إحتجاج آخر على حقية التوحيد
(11/112)

وبطلان الإشراك ولم يعطف إيذانا بإستقلاله في إثبات المطلوب والسؤال للتبكيت والإلزام وجعل سبحانه الإعادة لسطوع البراهين القائمة عليها بمنزلة البدء في إلزامهم ولم يبال بإنكارهم لها لأنهم مكابرون فيه والمكابر لا يلتفت إليه فلا يقال : إن مثل هذا الإحتجاج إنما يتأتى على من إعترف بأن من خواص الإلهية بدء الخلق ثم إعادته ليلزم من نفيه عن الشركاء نفي الإلهية وهم غير مقرين بذلك ففي الآية الإشارة إلى أن الإعادة أمر مكشوف ظاهر بلغ في الظهور والجلاء بحيث يصح أن يثبت فيه دعوى أخرى وجعل ذلك الطيبي من صنعة الإدماج كقول ابن نباتة : فلا بد لي من جهلة في وصاله فمن لي بخل أودع الحلم عنده فقد ضمن الغزل الفخر بكونه حليما والفخر شكاية الإخوان قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده قيل هو أمر له صلى الله عليه و سلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك أي قل لهم الله سبحانه هو يفعلهما لا غيره كائنا ما كان لا بأن ينوب عليه الصلاة و السلام عنهم في الجواب كما قاله غير واحد لأن القول المأمور به غير لما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزما له إذ ليس المسؤول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله سبحانه : قل من رب السموات والأرض قل الله حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذي أريد منهم ويكون صلى الله عليه و سلم نائبا عنهم في ذلك بل إنما هو وجود من يفعل البدء والإعادة من شركائهم فالجواب المطلوب منهم لا لاغير نعم أمر صلى الله عليه و سلم بأن يضمنه مقالته إيذانا بتعينه وتحتمه وإشعارا بأنهم لا يجترئون على التصريح به مخافة التبكيت والقام الحجر لا مكابرة ولجاجا إنتهى وقد يقال : المراد من قوله سبحانه : هل من شركائكم إلخ هل المبدىء المعيد الله أم الشركاء والمراد من قول سبحانه جل شأنه : الله إلخ الله يبدأ ويعيد لا غيره من الشركاء وحينئذ ينتظم السؤال والجواب وإنفهام الحصر بدلالة الفحوى فإنك إذا قلت : من يهب الألوف زيد أم عمر فقيل : زيد يهب الألوف أفادا الحصر بلا شبهة
وبما ذكر يعلم مافي الكلام السابق في الرد على ما قاله الجمع وكذا رد ما قاله القطب من أن هذا لا يصلح جوابا عن ذلك السؤال لأن السؤال عن الشركاء وهذا الكلام في الله تعالى بل هو إستدلال على إلهيته تعالى وإنه الذي يستحق العبادة بأنه المبدىء المعيد بعد الإستدلال على نفي إلهية الشركاء فتأمل وفي إعادة الجملة في الجواب بتمامها غير محذوفة الخبر كما في الجواب السابق لمزيد التأكيد والتحقيق فأنى تؤفكون 34 الإفك الصرف والقلب عن الشيء يقال : أفكه عن الشيء يأفكه أفكا إذا قلبه عنه وصرفه ومنه قول عروة بن أذينة : إن تك عن أحسن الصنيعة مأ فوكا ففي آخرين قد أفكوا وقد يخص كما في القاموس بالقلب عن الرأي ولعله الأنسب بالمقام أي كيف تقلبون من الحق إلى الباطل والكلام فيه كما تقدم في فأنى تصرفون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق إحتجاج آخر على ما ذكر جيء به إلزاما غب إلزام وإفحاما إثر إفحام وفصله إيذانا بفضله وإستقلاله في إثبات المطلوب كما في سابقه
والمراد هل من يهدي إلى الحق بإعطاء العقل وبعثة الرسل وإنزال الكتب والتوفيق إلى النظر والتدبر بما نصب في الآفاق والأنفس إلى غير ذلك ألله سبحانه أم الشركاء ومنهم من يبقى الكلام على ما يتبادر منه كما سمعت فيما قبل ومن الناس من خصص طريق الهداية والتعميم أوفق بما يقتضيه المقام من كمال التبكيت والإلزام كما لا يخفى قل الله يهدي للحق أي هو سبحانه يهدي له دون غيره جل شأنه والكلام في
(11/113)

الأمر على طرز ما سبق وفعل الهداية يتعدى إلى إثنين ثانيهما بواسطة وهي إلى أو اللام وقد يتعدى لهما بنفسه وهو لغة على ما قيل كإستعماله قاصرا بمعنى إهتدى والمبرد أنكر هذا حيث قال : إن هدى بمعنى إهتدى لا يعرف لكن لم يتابعه على ذلك الحفاظ كالفراء وغيره وقد جمع هنا بين صلتيه إلى اللام تفننا وإشارة بإلى إلى معنى الإنتهاء وباللام للدلالة على أن المنتهى غاية للهداية وأنها لم تتوجه إليه على سبيل الإتفاق بل على قصد من الفعل وجعله ثمره له ولذلك عدى بها ما أسند إليه سبحانه كما ترى وأما قوله تعالى : أفمن يهدى الى الحق فالمقصود به التعميم وإن كان الفاعل في الواقع هو الله سبحانه جل شأنه
وقيل : اللام هنا للإختصاص والجمهور على الأول والمفعول محذوف في المواضع الثلاثة وجواز اللزوم في الأول مما لا يلتفت إليه ويقدر فيها على طرز واحد كالشخص ونحوه وقيل : التقدير قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق قل الله يهدي من يشاء إلى الحق أفمن يهدي غيره إلى الحق أحق أن يتبع أمن لايهدي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال وهي قراءة يعقوب وحفص وأصله يهندى وكسر الهاء لإلتقاء الساكنين وقرأ حماد ويحيى عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء والتشديد وكسرت الياء إتباعا للهاء وكان سيبويه يرى جواز كسر حرف المضارعة لغة إلا الياء لثقل الكسرة عليها وهذه القراءة حجة عليه وقرأ ابن كثير و ورش عن نافع وابن عامر بفتح الياء والهاء والتشديد والأصل يهتدي فنقلت فتحة التاء إلى الهاء قبلها ثم قلبت دالا لقرب مخرجهما وأدغمت فيها وقرأ أيو عمرو وقالون عن نافع كذلك لكنه إختلس فتحة الهاء تنبيها على أن الحركة فيها عارضة وفي بعض الطرق عن أبي عمرو أنه قرأ بالإدغام المجرد عن نقل الحركة إلى ما قبلها أو التحريك بالكسر لإلتقاء الساكنين وإستشكل ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين ولذا قال المبرد : من رام هذا لابد أن يحرك حركة خفيفة قال ابن النحاس إذ بدونه لا يمكن النطق وذكر القاضي أنه لم يبال بإلتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك وأنكر بعضهم هذه القراءة وإدعى انه إنما قرأ بالاختلاس والحق أنه قرأ بهما وروي ذلك عن نافع أيضا وتفصيله في لطائف الإشارات والطيبة
وقرأ حمزة والكسائي يهدي كيرمي وهو إما لازم بمعنى يهندى كما هو أحد إستعمالات فعل الهداية على المعول عليه كما علمت آنفا أو متعد أي لايهتدي غيره ورجح هذا بأنه الأوفق بما قبل فإن المفهوم منه نفي الهداية لا الإهتداء وقد يرجح الأول بأن فيه توافق القراآت معنى وتوافقها خير من تخالفها وإنما نفي الإهتداء مع أن المفهوم مما سبق نفي الهداية كما ذكر لما أن نفيها مستتبع لنفيه غالبا فإن من إهتدى إلى الحق لا يخلو عن هداية غيره في الجملة وأدناها كونه قدوة له بأن يراه فيسلك مسلكه والفاء اترتيب الإستفهام على ماسبق كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك فأنا أسألكم أمن يهدي إلى الحق إلخ والمقصود من ذلك الإلزام والهمزة على هذا متأخرة في الإعتبار وإنما قدمت في الذكر لإظهار عراقتها في إقتضاء الصدارة كما هو المشهور عند الجمهور
وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف كما إختاره مكي والتقدير أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ممن لايهدي أم من لا يهدي أحق وإما بمعنى حقيق كما إختاره أبو حيان وهو خبر عن الموصول والفصل بالخبر بين أم وما عطفت عليه هو الأفصح كما قال السمين وقد لا يفصل كما في قوله سبحانه : أقريب أم بعيد
(11/114)

ما توعدون والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير و أن يتبع في حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار على الخلاف المعروف في مثله أو بأن يتبع الا أن يهدي إستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يهتدي أو لايهدي غيره في حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلى الإهتداء أو إلى هداية الغير وهذا على ما قاله جمع حال أشراف شركائهم كالمسيح وعزيز والملائكة عليهم السلام دون الأوثان لأن الإهتداء الذي هو قبول الهداية وهداية الغير مختصان بذوي العلم فلا يتصور فيها وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهما أن المراد الأوثان ووجه ذلك بأنه جار على تنزيلهم لها منزلة ذوي العلم وقيل : المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينقل إليه إلا أن ينقل إليه أو إلا أن ينقله الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه وهو من قولك : هديت المرأة إلى زوجها وقد هديت إليه وقيل : الآية الأولى قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده في الأصنام أو فيما يعمهم ونحو الملائكة عليهم السلام وهذه في رؤساء الضلالة كاللأحبار والرهبان الذين إتخذوا أربابا من دون الله وليس بالبعيد فيما أرى ويؤيده التعبير بالإتباع فغنه يقتضي العمل بأوامرهم والإجتناب عن نواهيهم وهذا لا يعقل في الأوثان إلا بتكلف وهو وإن عقل في أشراف شركائكم لكنهم لا يدعون إلا إلى خير وإتباعهم في ذلك لا ينعى على أحدهم اللهم إلا أن يقال : إن المشركين تقولوا عليهم أوامر ونواهي فنعى عليهم إتباعهم لهم في ذلك وعبر بالإتباع ولم يعبر بالعبادة بأن يقال : أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يعبد أم من لا يهدي إلا أن يهدي مع أن الآية متضمنة إبطال صحة عبادتهم من حيث أنهم لايهدون وأدنى مراتب العبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم مبالغة في تفظيع حال عبادتهم لأنه إذا لم يحسن الإتباع لك تحسن العبادة بالطريق الأولى وإذا قبح حال ذاك فحال هذه أقبح والله تعالى أعلم وقرىء إلا أن يهدي مجهولا مشددا دلالة على المبالغة في الهداية فمالكم أي أي لكم في إتخاذ هؤلاء العاجزين شركاء لله سبحانه وتعالى والكلام مبتدأ وخبر والإستفهام للإنكار والتعجب
وعن بعض النحاة أن مثل هذا التركيب لا يتم بدون حال بعده نحو قوله تعالى : فما لكم عن التذكرة معرضين لعل الحال هنا محذوف لظهوره كأنه قيل : فما لكم متخذين هؤلاء شركاء ولا يصح أن يكون قوله عز و جل كيف تحكمون 35 في موضع الحال لأن الجملة الإستفهامية لا تقع حالا بل هو إستفهام آخر للإنكار التعجب أيضا أي كيف تحكمون بالباطل الذي يأباه صريح العقل ويحكم ببطلانه من إتخاذ الشركاء لله جلا وعلا والفاء لترتيب الإنكار على ما ظهر من وجوب إتباع الهادي ومايتبع أكثرهم إلا ظنا كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان سوء إدراكهم وعدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم من البراهين النيرة الوجبة للتوحيد أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنا واهيا مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسه باطلة كقياس الغائب على الشاهد وقياس الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ولا يلتفتون لي فرد من أفراد العلم فضلا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها فالمراد بالاتباع مطلق الإنقياد الشامل لما يقارن القبول والإنقياد وما لايقارنه وبالقصر ما أشير اليه من أن لايكون لهم في أثنائه إتباع لفرد من أفراد العلم والتفات إليه
وتنكير ظنا للنوعية وفي تخصيص هذا الإتباع بالأكثر الإشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف
(11/115)

على حقية التوحيد لكن لا يقبله مكابرة وعنادا ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلى الله عليه تعالى وسلم بأن منوب عنهم في الجواب من أنه الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الإعتراف بذلك أن فيهم من علم وكان معاندا ولعل النيابة حينئذ عن الجميع بإعتبار هذا البعض وجوز أن يكون المعنى ما يتبع أكثرهم مدة عمره إلا ظنا ولا يتركونه أبدا فإن حرف النفي الداخل على المضارع يفيد إستمرار النفي بحسب المقام فالمراد بالإتباع مو الأذعان والإنقياد والقصر بإعتبار الزمان وفي التخصيص تلويح بما سيكون من بعضهم من إتباع الحق والتوبة وقيل : المعنى وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنا لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم وقيل : المعنى وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن والأكثر بمعنى الجميع وهذا كما ورد القليل بمعنى العدم في قوله تعالى : فقليلا مايؤمنون وفي قوله : قليل التشكي في المصيبات حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد وحمل النقيض على النقيض حسن وطريقة مسلوكة ولا يخفى أنه لا يتعين على هذين القولين حمل الأكثر على الجميع بل يمكن حمله على ما يتبادر منه أيضا ومن الناس من جعل ضمير أكثرهم للناس و حينئذ يجب الحمل على المتبادر بلا كلفة إن الظن مطلقا لا يغني من الحق شيئا فكيف الظن الفاسد والمراد من الحق العلم والإعتقاد الصحيح المطابق للواقع والجار متعلق بما قبله وشيئا نصب على أنه مفعول مطلق أي إغناء ما ويجوز أن يكون مفعولا به والجار والمجرور في موضع الحال منه والجملة إستئناف لبيان شأن الظن وبطلانه وفيه دليل لمن قال : إن تحصيل العلم في الإعتقاديات واجب وإن إيمان المقلد غير صحيح وإنما لم يؤخذ عاما للعمليات لقيام الدليل على صحة التقليد والإكتفاء بالظن فيها كما قرر في موضعه
إن الله عليم بما يفعلون 36 وعيد لهم على أفعالهم القبيحة ويندرج فيها ما حكى عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة وإتباع الظنون الفاسدة إندراجا أوليا وقريء تفعلون بالإلفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله شروع فيبيان حالهم من القرآن إثر بيان حالهم مع الأدلة المندرجة في تضاعيفه أو إستئناف لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه غب المنع مع اتباع الظن وقيل : إنه متعلق بما قصه الله تعالى من قولهم : إئت بقرآن غير هذا وقيل : بقوله سبحانه : ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه إلخ ولا يخفى مافي ذلك من البعد وكان هنا ناقصة عند كثير من الكاملين وهذا اسمها والقرآن نعت له أو عطف بيان وأن يفترى يتأويل المصدر أي إفتراء خبر كان وهو في تأويل المفعول أي مفترى كما ذكره ابن هشام في قاعدة أن اللفظ قد يكون على تقدير وذلك المقدر على تقدير آخر ومنه قول
لعمرك ماالفتيان أن تنبت اللحى
وذهب بعض المعربين أن ماكان بمعنى ما صح وإن في الكلام لاما مقدرة لتأكيد النفي والأصل هذا القرآن لأن يفترى كقوله تعالى : وما كان المؤمنين لينفروا كافة وأن يفترى خبر كان ومن دون الله خبر ثان وهو بيان للأول أي ما صح ولا إستقام أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الهدايات المستوجبة الإتباع التي من جملتها هاتيك الحجج البينة الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك صادرا من غير الله تعالى كيف كان وقيل عليه ما قيل لكنه لا ينبغي لعدول عما قاله في محل من دون الله وما ذكر في حاصل المعنى أمر مقبول كما لايخفى وجوز البدر
(11/116)

الدماميني أن تكون كان تامة وأن يفترى بدل أشتمال من هذا القرآن وتعقب بأنه لا يحسن قطعا لأن ما وجد القرآن يوهم من أول الأمرنفي وجوده وأيضا لابد من الملابسة بين البدل والمبدل منه في بدلالإشتمال فيلزم أن يبتنى الكلام على الملابسة بين القرآن العظيم والإفتراء وفي إلتزام كل ماترى وأجيب عن ذلك بما لا أراه مثبتا للحسن أصلا وأقتصر بعضهم على إعتبار المصدر من غير تأويله بإسم المفعول إعتبارا للمبالغة على حد ما قيل في زيد عدل والظاهر عندي أن المبالغة حينئذ راجعة إلى النفي نظير ما قيل في قوله تعالى : وما ربك بظلام للعبيد لا أن النفي راجع إلى المبالغة كما لا يخفى ومن هنا يعلم ما في قول بعض المحققين : إن قول الزمخشري في بيان معنى الآية : وما يصح وما إستقام وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى ربما يشعر بأنه على حذف اللام إذ مجرد توسيط كان لا يفيد ذلك والتعبير بالمصدر لا تعلق له بتأكيد معنى النفي من النظر ثم أنهم فيما رأينا لم يعتبروا المصدر هنا إلا نكرة والمشهور إتفاق النحاة على أن أن والفعل المؤول بالمصدر معرفة ولذلك لا يخبر به عن النكرة وكأنه مبني على ما قاله ابن جني في الخاطريات من أنه يكون نكرةوذكر أنه عرضه على أبي علي فإرتضاه وإستشكل بعضهم هذه الآية بأن أن تخلص المضارع للإستقبال كما نص على ذلك النحويون والمشركون إنمازعموا كون القرآن مفترى في الزمان الماضي كما يدل عليه ما يأتي إن شاء الله تعالى فكيف ينبغي كونه مفترى في الزمان المستقيل وأجيبعنه بأن الفعل فيها مستعمل في مطلق الزمان وقد نص على جواز ذلك في الفعل ابن الحاحب وغيره ونقله البدر الدماميني في شرحه لمعنىاللبيب ولعل ذلك من باب المجاز وحينئذ يمكن أن يكون نكتة العدول عن المصدر الصريح مع أنه المستعمل في كلامهم عند عدم ملاحظة أحد الأزمنة نحو أعجبني قيامك أن المجاز أبلغ من الحقيقة وقيل : لعل النكتة في ذلك إستقامة الحمل بدون تأويل للفرق بين المصدر الصريح والمؤول على ما أشار إليه شارح اللباب وغيره ولا يخفى أن فيه مخالفة لما مرت الإشارة إليه من أن أن والفعل في تأويل المصدر وهو فيتأويل المفعول
قيل : وقد يجاب أيضا عن أصل الإشكال بأنه إنما نفي في الماضي إمكان تعلق الإفتراء به في المستقبل وكونه محلا لذلك فينتفي تعلق الإفتراء به بالفعل من باب أولى وفي ذلك سلوك طريق البرهان فيكون في الكلام مجاز أصلي أو تبعي وقد نص أبو البقاء على جواز كون الخبر محذوفا وأن التقدير وما كان هذا القرآن ممكنا أن يفترى وقال العلامة ابنحجر : إن الآية جواب عن قولهم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله وهو طلب للإفتراء في المستقبل وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة و السلام إفتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية زعمهم ذلك فلا إشكال على أن عموم تخليص أن المضارع للإستقبال في حيز المنع لم لا يجوز أن يكون ذلك فيما عدا خبر كان المنفية كما يرشد إليه قوله سبحانه : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين فإنه نزل عن إستغفار سبق منهم للمشركين كما قاله أئمة التفسير وقد أطال الكلام على ذلك في ذيل فتاويه فتبصر
ولكن تصديق الذي بين يديه أي من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل فالمراد من الموصول الجنس وعني بالتصديق بيان الصدق وهو مطابقةالواقع وإظهاره وإضافته إما لفاعله أو مفعوله وتصديق الكتب له بأن ما فيه من العقائذ الحقة مطابق لما فيها وهي مسلمة عند أهل الكتاب وما عداهم إن إعترف بها وإلا فلا عبرة به
(11/117)

وفي جعل الإضافة للمفعول مبالغة في نفي الإفتراء عنه لأن ما يثبت ويظهربه صدق غيره فهو أولى بالصدق ووجه كونه مصدقا لها أنه دال على نزولها من عند الله تعالى ومشتمل على قصص الأولين حسبما ذكر فيها وهو معجز دونها فهو الصالح لأن يكون حجة وبرهانا لغيره لا بالعكس وزعم بعضهم أن المراد من الذي بين يديه أخبار الغيوب والإافة للفاعل وتصديقها له مجيئها على وفق ما أخبر به وليس بشيء ونصب التصديق على العطف على خبر لكان مقدرة وقيل : على أنه مفعول لأجله لفعل مقدر أي أنزل لتصديق ذلك وجعل العلة هنا ما ذكر مع أنه أنزل الأمورلأنه المناسب لمقام رد دعوى إفترائه وقيل : نصب على المصدرية لفعلمقدر أي يصدق تصديق إلخ وقرأ عيسى بن عمرو الثقفي على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديق إلخ وكذا قرأ بالرفع في قوله تعالى : وتفصيل الكتاب أي ما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع والعطف نصبا أو رفعا على تصديق وقوله سبحانه : لا ريب فيه خبر آخر للكن أو للمبتدأ المقدر وفصل لأنه جملة مؤكدة لما قبلها وجوز أن يكونحالا من الكتاب وإن كان مضافا إليه فإنه مفعول في المعنى وأن يكون إستئنافا نحويا لا محل له من الإعراب أو بيانيا جوابا بالسؤال عن حال الكتاب والأول أظهر والمعنى لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه وعلو شأنه من رب العالمين 37 خبر آخر لكان أو المبتدأ المقدر كما مر في سابقه أو متعلق بتصديق أو تفصيل أو بالفعل المعللبهما أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب و لاريب فيه إعتراض لئلايلزم الفصل بالأجنبي بين المتعلق والمتعلق أو الحال وذيها وجوز أنيكون حالا من الضمير المجرور في فيه أم يقولون افتراه أم منقطعة وهي مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه والجمهور أي بل يقولون وبل إنتقالية والهمزة لإنكار الواقع وإستعباده أي ما كان ينبغي ذلك وجوز أن تكون للتقرير لإلزام الحجة والمعنيان على ما قيل متقاربان وقيل : إن أم متصلة ومعادلها مقدر أي أتقرون به أم تقولون إفتراه وقيل : هي إستفهامية بمعنى الهمزة وقيل : عاطفة بمعنى الواو والصحيح الأول وأيا ما كان فالضمير المستتر للنبي صلى الله عليه و سلم وإن لم يذكر لأنه معلوم من السياق قل تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان مقالتهم الفاسدة إن كان الأمر كما تقولون فأتوا بسورة طويلة كانت أو قصيرة مثله في البلاغة وحسن الإرتباط وجزالة المعنى على وجه الإفتراء وحاصله علىما قيل : إن كان ذاك إفتراء مني فإفتروا سورة مثله فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرنا وإعتياد في النظم والنثر وعلى هذافالمراد بإتيان المخاطبين بذلك إنشاؤهم له والتكلم به من عند أنفسهملا ما يعم ذلك وإيراده من كلام الغير ممن تقدم وجوز أن يكون المرادما ذكر ولعله السر في العدول عن قولوا سورة مثله مثلا إلى ما في النظم الكريم أي إن كان الأمر كما زعمتم فأتوا من عند أنفسكم أو ممن تقدمكم من فصحاء العرب وبلغائها كامرىء القيس وزهير وأضرابهما بسورة مماثلة له في صفاته الجليلة فحيث عجزتم عن ذلك مع شدة تمرنكم ولم يوجد في كلام أولئك وهم الذين نصبت لهم المنابر في عكاظ الفصاحة والبلاغة وبهم دارت رحا النظم والنثر وتصرمت أيامهم في الإنشاء والإنشاد دل على أنه ليس من كلام البشر بل هو من كلام خالق القوي والقدر وقرىء بسورة مثله على الإضافة أي بسورة كتاب مثله وادعوا للمعاونة والمظاهرة
من استطعتم دعاءه والإستعانة بهمن آلهتكم التي تزعمون إنها ممدة لكم في المهمات والملنات والمداراةالذين
(11/118)

تلجؤن إليهم في كل ما تأتون وتذرون من دون الله متعلق بادعوا كماقيل و من إبتدائية على معنى أن الدعاء مبتدأ من غيره تعالى لا ملابسة له معه جل شأنه بوجه وجوز أن يكون متعلقا بما عنده ومن بيانية أي ادعوا من أستطعتم من خلقه ولا يخلو عن حسن
وفائدة هذا القيد قيل : التنصيص على براءتهم منه تعالى وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة وليس المراد به إفادة إستبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه لأجابهم إليه وقد يقال : لا بأس بإفادة ذلك لأن الإستبداد المذكور مما يؤيد المقصود وهو كون ماأتى به صلى الله عليه و سلم لم يكن من عند نفسه بل هو منه تعالى والإيهام مما لا يلتفت إليه فإن دعاءهم إياه تعالى بمعنى طلبهم منه سبحانهوتعالى أن يأتي بما كلفوه مستبدا به مما لا يكاد يتصور لأنه ينافي زعمهم السابق كما لا يخفى فتأمل إن كنتم صدقين 38 في أني إفتريتهفإن ذلك مستلزم لإمكان الإتيان بمثله وهو أيضا مستلزم لقدرتكم عليه وجواب إن محذوف لدلالة المذكور عليه وفي هذه الآية دلالة على إعجازالقرآن لأنه عليه الصلاة و السلام تحدى مصاقع العرب بسورة ما منه فلميأتوا بذلك وإلا لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله وزعم بعض الملاحدة أنه لا يلزم من عجزهم عن الإتيان بذلك كونه من عند الله تعالىقطعا فانه قد يتفق في الشخص خصوصية لا توجد في غيره فيحتمل أنه صلى الله عليه و سلم كان مخصوصا بهذه المرتبة من الفصاحة والبلاغة ممتازا بها عن سائر العرب فأتى بما أتى دونهم وقد جاء من بعض الطرق أنه صلى الله عليه و سلم قال : أنا أفصح العرب بيد أني من قريش وأجيب بأنه صلى الله عليه و سلم وإن كان في أقصى الغايات من الفصاحة حتى كأن الله تعالى شأنه وعزت قدرته مخض اللسان العربي والقى زبدته على لسانه صلى الله عليه و سلم فما من خطيب يقاومه إلا نكص متفكك الرجل وما من مصقع يناهره إلا رجع فارغ السجل إلا أن كلامه صلى الله عليه و سلم لا يسبهما جاء به من القرآن وكلام شخص واحد متشابه كما لا يخفى على ذوي الأذواق الواقفين على كلام البلغاء قديما وحديثا
وتعقب بأنه لا يدفع ذلك الزعم لما فيه ظاهرا من تسليم كون كلامه عليهالصلاة والسلام معجزا لا تستطاع معارضته وحيتئذ العجز عن معارضة القرآن يجعله دائرا بين كونه كلامه تعالى وكونه كلامه صلى الله عليه و سلم ولا يثبت كونه كلام الله عز و جل إلا بضم إمتيازه على كلامه صلى الله عليه و سلم والزاعم لم يدع لزوم كونهمن عند الله تعالى قطعا من عجزهم عن الإتيان بذلك وأيضا ينافي هذاالتلسيم ما تقدم في بيان حاصل فأتوا بسورة مثله حيث علل بأنكم مثلي في العربية والفحاحة إلخ ومن هنا قيل : الأوجه في الجواب أن يلتزم عدم إعجاز كلامه صلى الله عليه و سلم مع كونه عليه الصلاة و السلام أفصح العرب ولا منافاة بينهما كما لا يخفى على المتأمل وأطال بعضهم الكلام في هذا المقام وبعض أدرج مسألة خلق الأفعال في البين وجعل مدار الجواب مذهب الأشعري فيها ولعل الأمر غني عن الإطالة عند من إنجاب عن عين بصيرته العين بلكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه قيل : هو إضراب وإنتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي إلى إظهاره ببيان أنه كلامنا شىء عن عدم علمهم بكنه أمره والإطلاع على شأنه الجليل فما عبارة عن القرآن وهو المروي عن الحسن وعليه محققو المفسرين وقيل : هي عبارةعما ذكر فيه مما يخالف دينهم كالتوحيد والبعث والجزاء وليس بذاك سواء كانت الباء للتعدية كما هو المتبادر أم للسببية والمراد أنهم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا ويعلموا أنه ليس مما يمكنأن
(11/119)

يؤتى بسورة مثله والتعبير عنه بهذا العنوان دون أن يقال : بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحوه للإيذان بكمال جهلهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به وبأن تكذيبهم به إنما هوبسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعليةما في حيز الصلة له وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأنه أبلغ ولما يأتهم تأويله عطف علىالصلة أو الحال من الموصول أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعيةوالعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوع برهانه فالتأويل نوع منالتفسير والإتيان مجاز عن المعرفة والوقوف ولعل إختياره للإشعاربأن تلك المعاني متوجهة إلى الأذهان منساقة إليها بنفسها وجوز أنيراد بالتأويل وقوع مدلوله وهو عاقبته وما يؤول إليه وهو المعنىالحقيقي عند بعض فإتيانه حينئذ مجاز عن تبينه وإنكشافه أي ولميتين لهم إلى الآن تأويل ما فيه من الأخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم فاجؤا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا في معناه أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة ونفى إتيان التاويل بكلمة لما الدالة على توقع منفيها بعد نفي الإحاطة بعلمهبكلمة لم لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقا
وإدعى بعضهم أن الإضراب عن التكذيب عنادا المدلول عليه لا بقوله سبحانه : قل فأتوا إلخ فإن الإلزام إنما يأتى بعد ظهور العجز ومعنىالإضراب ذمهم على التقليد وترك النظر مع التمكن منه وهو أدخل في الذممن العناد من وجه وذلك لأن التقليد إعتراف من صاحبه بالقصور فيالفطنة ثم لا يعذر فيه فلا يرتضي ذو عقل أن يقلد رجلا مثله من غير تقدم بفطنة وتجربة وأما العناد فقد يحمده بعض النفوس الأبية بل في أشعارهم ما يدل على أنهم مفتخرون بذلك كقولهم
فعاند من تطيق له عنادا
ولايرد أن العناد لما كان بعد العلم كان أدخل في الذم فلا نسلم أنه أدخل فيه من التقليد بل من الجهل قبل التدبر دون إقتران التقليد به وإن سلم فهذا أيضا أدخل من وجه وقد جعل مصب الإنكار على جمعهم بين الأمرين والجمع على كل حال أدخل من التفرد بواحد صح الإضراب فكأنه قيل : دع تحديهم وإلزامهم فإنهم لا يستأهلون الخطاب لأنهم مقلدون متهافتون في الأمر لا عن خبر وحجى وقد ذكر الزمخشري في هذا المقامثلاثة أوجه الوجه الأول أن التقدير أم كذبوا وقالوا وهو مفترىبعد العلم بإعجازه عنادا بل كذبوا به قبل أن يأتيهم العلم بوجه إعجازه إيضافهم مستمرون على التكذيب في الحالين مذمومون به موسومون برذيلتي التقليد والعناد جامعون بينهما بالنسبة إلى وقتين ووجهذلك بأن بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه صريح في تكذيبهم قبل العلم بوجه الإعجاز ولما يأتهم تأويله يدل على إمتداد هذا التكذيب إلى مجيء التأويل المنتظر بالنسبة إلى تكذيبهم قبل لا بالنسبة إلى زمان الإخبار فإن التأويل أيضا واقع وحينئذ إما أن يكون التكذيب قد زال فلا يتوجه عليهمالذم بالتكذيب الأول وإما أن يكون مستمرا وهو الواجب ليصح كونه واردا ذما لهم بالتسرع إلىالتكذيب الذي هو منطوق النص فيجب أن يكون العطف علىقوله سبحانه : أم يقولون افتراه ويكون ذلك لبيان أنهم كذبوا عن علموهذا لبيان تكذيبهم قبله أيضا ويكون جهتان منظورتين وأنهم مذمومون فيها والحاصل أن أم يقولون افتراه لا مرية فيه أنه تكذيب بعد العلم لمكان الأمر بعده لكن لما جعل التوقع
(11/120)

المفاد بلما لعلم الإعجاز لزم أن يكون بالنسبة إلى حالهم الأولى وهو التكذيب قبل العلم فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتوقع زواله بالعلم ويكون معنىالمبالغة في لما الإشعار بإستغراق الوقت للتكديب إلى زمان التأويل المنتظر الواقع الذي كذبوا فيه عنادا وبغيا
الوجه الثاني حمل التأويل على المعنى الثاني الذي ذكرناه والمعنى بل سارعوا إلى التكذيب قبل الإحاطة بعلمه ليعرفوا إعجاز نظمه وقيل : إتيانالتأويل المنتظر وهو ما يؤول إليه من الصدق في الأخبار بالمغيبات والمقصود من هذا ذمهم بالتسارع إلى التكديب من الوجهتين لكن لما كانمع الوجهين علم ما يتضمنه لو يدبروا لم يكن فيه شيء منتظر والثاني لما لم يكن كذلك كان فيه أمر منتظر وأتى بحرف التوقع دليلا عن أن هذا المنتظر كائن وسيظهر أنهم مبطلون فيه أيضا كالأول ولا نظر إلى أنهم مذمومون حالتي العناد والتقليد بل المقصود كمال إظهار الإلزام بأنه مفروغ عنه مع أمثالهم للتهافت المذكور
الوجه الثالث أن أم يقولون افتراه ذم لطائفة كذبوا عن علم وهذا ذم لأخرى كذبت عن شك ولما وجد فيما بينهم القسمان أسند الكل إلى الكل وليس دعا في القرآن والغرض من الإضراب تعميم التكذيب وإنه كانالواجب على الشاك التوقف لا التسرع إلى التكذيب ومعنى التوقع أنه سيزول شكهم فسيعلم بعضهم ويبقى بعض على ما هو عليه والأية ساكتة عن التفصيل ناطقة بزوال الشك ولا خفاء أن الشاك ينتظر وكذلك كان صلى الله عليه و سلم يتوقع زوال شكهم إنتهى ولا يخفى أن ما نقلنا أولا أولى بالقبول عند ذوي العقول
وأورد على دعوى أن أم يقولون افتراه تكذيب بعد العلم أنها ناشئةمن عدم العلم وما سيق لإثباتها في حيز المنع فإن الإلتزام بعد التحدي وذلك القول قبله وكونه مسبوقا بالتحدي الوارد في سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية
نعم ربما يقال في الإستدلال على كون ذلك القول بعد العلم بوقوع حكايته في النظم الكريم بعد حكاية الإشارة إلى مضمونه بقوله تعالى : قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ورده بما سمعته هناك حسبما قرره الجمهور وبيان ذلك أنهم نقل عنهم أولا الإشارة إلى نسبة الإفتراء إلى سيد الصادقين صلى الله عليه و سلم ثم نقل عنهم التصريح بذلك والظاهر أن الأمر حسبما نقل لكثرة وقوع التصريح بعد الإشارة وتخلل رد ما أشاروا إليه في البين فيحتمل أنهم عقلوه وعملوا الحق لكنهم لم يقروا به عنادا وبغيا فصرحوا بما صرحوا فيكون ذلك منهم بعد العلمولترقيهم من الإشارة إلى التصريح ترقي في إلزامهم فإن هذا التحدي أظهرفي الإلزام مما تقدم كما هو ظاهر لكن للمناقشة في هذا مجال ويخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون الإضراب عن ذمهم بالتكذيب بالقرآن إلى ذمهم بالمسارعة إلى تكذيب ما لم يحيطوا به علما وأن الوقوف على العلم بهم توقع سواء كان قرآنا أو غيره فما عامة للأمرين ويدخل القرآن فيالعموم دخولا أوليا ولعله أولى مما قيل : إنه إضراب عن مقدر وينبغي أن تسمى بل هذه فضيحة فإن المعنى فما أجابوا أو ما قدروا أن تأتوا بل كذبوا إلخ كذلك أي مثل تكذيبهم من غير تدبر وتأمل كذب الذين من قبلهم أي فعلوا التكذيب أو كذبوا أنبياءهم فيما أتوا به فانظر كيف كان عقبة الظلمين 39 خطاب لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم ويحتمل أن يكون عاما لكل من يصلح له والمراد بالظالمين الذين من قبلهم ووضع المظهر موضع المضمر للإيدان بكون التكذيب ظلما
(11/121)

وبعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هولاء الذين حكى عنهمما حكى في زمرتهم جرما ووعيدا دخولا أوليا والفاء لترتيب ما بعدهاعلى محذوف ينساق إليه الكلام أي فأهلكناهم فأنظر إلخ وكيف في موضعنصب خبر كان وقد يتصرف فيها فتوضع موضع المصدر وهو كيفية ويخلع عنها معنى الإستفهام بالكلية وهي هنا تحتمل ذلك وكذا قول البخاري 4رضي الله تعالى عنه : كيف كان بدء الوحي كما قال السمين ونقل عنه أن فعل النظر معلق عن العمل لمكان كيف لأنهم عاملوها في كلموضع معاملة الإستفهام المحض ومنهم من يؤمن به وصف لحالهم بعدإتيان التأويل المتوقع كما قيل إذ حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن بهوغير المؤمن به ضرورة إمتناع الإيمان بشيء من غير علم به وإشتراك الكل في التكذيب قبل ذلك فالضمير للمكذبين ومعنى الإيمان به إما الإعتقاد بحقيته فقط أي منهم من يصدق به في نفسه أنه حق عند الإحاطة بعلمه وإتيان تأويله لكنه يعاند ويكابر وأما الإيمان الحقيقي أي منهممن سيؤمن به ويتوب عن الكفر ومنهم من لا يؤمن به أي لا يصدق به فينفسه كما لا يصدق به ظاهرا لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي أو لسخافة عقله وإختلال تمييزه وعجزه عن تخليص علومه عن معارضة الظنون والأوهام التي ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك أو لا يؤمن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معاندا كان أو شاكا وربك أعلم بالمفسدين 40 أي بكلا الفريقين على الوجه الأول من التفسير لا بالمعاندين فقط لإ شتراكهما في أصل الإفساد المستدعي لإشتراكهما في الوعيد المراد من الكلام أو بالمصرين الباقين على الكفر على الوجه الثاني منه وإن كذبوك أي أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة وأول بذلك لأن أصل التكذيب حاصل فلا يصح فيه الإستقبال المفاد بالشرط وأيضا جوابه وهو قوله سبحانه : فقل لي عملي ولكم عملكم المراد منه التبرؤ والتخلية إنما يناسب الإصرار على التكذيب واليأس من الإجابة والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم كيفما كانا وتوحيد العمل المضافإليهم بإعتبار الإتحاد النوعي ولمراعاة كمال المقابلة كما قيل وقوله سبحانه : أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون 41 تأكيد لما أفاده لام الإختصاص من عدم تعدي جزاء العمل إلى غير عاملهأي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم وعلى هذا فالآية محكمة غيرمنسوخة بآية السيف لما أن مدلولها إختصاص كل بأفعاله وثمراتها منالثواب والعقاب وآية السيف لم ترفع ذلك وعن مقاتل والكلبي وابن زيد أنها منسوخة بها وكأن ذلك لما فهموا منها الإعراض وترك التعرض بشيء ولعل وجه تقديم حكم المتكلم أولا وتأخيره ثانيا والعكس في حكم المخاطبين ظاهر مما ذكرناه في معنى الآية فإفهم
هذا ومن باب الاشارة في الآيات وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراءمستهم إذا لهم مكر في آياتنا وهو إحتجابهم عن قبول صفات الحق وذلكلأنه بتوفر النعم الظاهرة والمرادات الجسمانية يقوي ميل النفس إلى الجهة السفلية فتحتجب عن قبول ذلك كما أنه بأنواع البلاء تنكسر سورة النفس ويتلطف القلب ويحصل الميل إلى الجهة العلوية والتهيؤ لقبول ذلك قل الله أسرع مكرا بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري إن رسلنا يكتبون ما تمكرون في ألواحالملكوت هو الذي يسيركم في البر والبحر أي يسير نفوسكم في برالمجاهدات وقلوبكم في بحر المشهدات وقيل : يسير عقولكم في بر الأفعال وأرواحكم في بحر الصفات والذات
(11/122)

حتى إذا كنتم في الفلك أي فلك العناية الأزلية وجرين بهم بريحطيبة وهي ريح صبا وصاله سبحانه وفرحوا بها لإيذانها بذلك وتعطرهابشذا ديار الأنس ومرابع القدس : ألا يا نسيم الريح مالك كلما تقربت منا زاد نشرك طيبا أظن سليمي خبرت بسقامنا فأعطتك رياها فجئت طبيبا جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وذلك عاصف القهر وأمواج صفات الجلال وهذه سنة جارية في العاشقين لا يستمر لهم حال ولا يدوملهم وصال ولله در من قال : فبتنا على رغم الحسود وبيننا شراب كريح المسك شيب به الخمر فوسدتها كفى وبت ضجيعها وقلت لليلي طل فقد رقد البدر فلما أضاء الصبح فرق بيننا وأي نعيم لا يكدره الدهر وظنوا أنهم أحيط بهم أي أنهم من الهالكين في تلك الأمواج دعواالله مخلصين له الدين بالتبري من غير الله تعالى قائلين لئنأنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين لك بك فلما أنجاهم إذا هم يبغونفي الأرض بغيرالحق وهو تجاوزهم عن حد العبودية بسكرهم في جمالالربوبية وذلك مثل ما عر الحلاج وإضرابه ثم أنه سبحانه نبههم بعد رجوعهم من السكر إلى الصحو على أن الأمر وراء ذلك بقوله جل وعلا : يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم أي أنه يرجع إليكم ما إدعيتم لا إليه تعالى فإنه سبحانه الموجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق كذا قالوا وقال ابن عطاء في الآية حتى إذا ركبوا مراكب المعرفة وجرت بهم رياح العناية وطابت نفوسهم وقلوبهم بذلك وفرحوا بتوجههم إلىمقصودهم جاءتها ريح عاصف أفنتهم عن أحوالهم وإرادتهم وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم أي تيقنوا أنهم مأخوذون عنهم ولم يبق لهم ولا عليهم صفة يرجعون إليها وأن الحق خصهم من بينعباده بأن سلبهم عنهم دعوا الله مخلصين له الدين حيث صفى سبحانه أسرارهم وطهرها مما سواه فلما أنجاهم أي ردهم إلى أوصافهم أشباحه رجعوا إلى ما عليه عوام الخلق من طلب المعاش للنفوس إنتهى وكأنه حمل البغي على الطلب وضمنه معنى الإشتغال أي يطلبون في الأرض مشتغلين بغير الحق سبحانه وهو المعاش الذي به قوام أبدانهم ويشكلأمر الوعيد المنبئ به فننبئكم إلخ على هذا التأويل وما قبله لأنما يقع في السكر لا وعيد عليه وكذا طلب المعاش وانظر هل يصح أن يقال : إن الأمر من باب حسنات الأبرار سيآت المقربين ثم أنه سبحانه مثل الحياة في سرعة زوالها وإنصرام نعيمها غب إقبالها وإغترار صاحبها بها بما أشار إليه سبحانه بقوله جل وعلا : كماء أنزلناه إلخ وفيه إشارة إلى ما يعرض والعياذ بالله تعالى لمن سبقت شقاوته في الأزل من الحور فبينما تراه وأحواله حالية وأعوامه عن شوائب الكدر خاليةوغصون أنسه متدلية ورياض قربه مونقة قلب الدهر له ظهر المجن وغزاهبجيوش المحن وهبت على هاتيك الرياض عاصفات القضاء وضاقت عليه فسيحات الفضاء وذهب السرور والإنس وجعل حصيدا كأن لم يغن بالأمس ونشد لسانحاله : قف بالديار فهذه آثارهم نبكي الأحبة حشرة وتشوقا كم قد وقفت بهنا أسائل مخبرا عن أهلها أو صادقا أو مشفقا فأجابني داعي الهوى في رسمها فارقت من تهوي فعز الملتقى
(11/123)

والله يدعو إلى دار السلام وهو العالم الروحاني السليم من الآفات ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم لا شعوب فيه وهو طريق الوحدة وقديقال : يدعو الجميع إلى داره ويهدي خواص العارفين إلى وصاله أو يدعو السالكين إلى الجنة ويبدىء المجذوبين إلى المشاهدة للذين أحسنوا وهم خواص الخواص الحسنى وهي رؤية الله تعالى وزيادة وهي دوام الرؤية أو للذين جاؤا بما يحسن به حالهم من خير قلبي أو قالبي المثوبة الحسنى من الكمال الذي يفاض عليهم وزيادة في إستعداد قبول الخير إلى ما كانوا عليه قبل وقد يقال : الحسنى ما يقتضيه قرب النوافل والزيادة ما يقتضيه قرب الفرائض ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أي لا يصيبهم غبار الخجالة ولا ذل الفرقة أولئك أصحاب الجنة التي تقتضيها أفعالهم هم فيها خالدون ثم ذكر سبحانه حال الذين أساءوا بقوله جل شأنه : والذين كسبوا السيآت إلخ وأشارإلى أنه عكس حال أولئك الكرام ويوم نحشرهم جميعا في المجمع الأكبر ثم نقول للذين أشركوا منهم وهم المحجوبون الواقفون مع الغير بالمحبة والطاعة مكانكم أنتم وشركاؤكم قفوا جميعا وانتظروا الحكم فزيلنا بينهم أي قطعنا الأسباب التي كانت بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون بل كنتم تعبدون أشياء إخترعتموها في أوهامكم الفاسدة فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين لم نطلبها منكم لا بلسان حال ولا بلسان قال هنالك أي في ذلك المواقف تبلو كل نفس أي تذوق وتختنبر ما أسلفت في الدنيا وردوا إلى الله مولاهم الحق المتولي لجزائهم بالعدل والقسط وضل عنهم ما كانوايفترون من إختراعاتهم وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة ثم ذكرسبحانه مما يدل على التوحيد ما ذكر والرزق من السماء عند العارفين هو رزق الأرواح ومن الأرض رزق الأشباح والحي عندهم العارف والميت الجاهل وما يتبع أكثرهم الا ظنا ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلةأهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلا سالما من قيل وقال ونزاع وجدال والوقوف على علم من ذلك أمر أبعد من العيوق وأعز من بيض الأنوق
لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسرحت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل القوم ليحصل لهم أولا فليتبع السلفالصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومنحذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد طالب الحق إلا شكا وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه من اللوحالمحفوظ وتفصيل الكتاب الذي هو الأم أي كيف يكون مختلقا وقد أثبت قبله في كتابين مفصلا ومجملا بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ذم لهم بالمسارعة إلى تكذيب الحق قبل التأمل والتدبر والإطلاع على الحقيقة وهذه عادة المنكرين أهل الحجاب مع كلمات القوم حيث أنهم يسارعون إلى إنكارها قبل التأمل فيها وتدبر مضامينها والوقوف على الإصطلاحات التي بنيت عليها الحري بهم التثبت والتدبر
(11/124)

والله تعالى ولي التوفيق ومنهم من يستمعون إليك بيان لكونهممطبوعا على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم ومن مبتدأ خبره مقدم عليه وهو إما موصول أو نكرة موصوفة والجمله بعده إما صلة أو صفة وجمع الضمير الراجع إليه رعاية لجانب المعنى كما أفرد فيما بعدرعاية لجانب اللفظ ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناء علىعدم توقف الإستماع على ما يتوقف عليه النظر من الشروط العادية أو العقلية والمعنى ومن المكذبين الذين أو أناس يصغون إلى القرآن أوإلى كلامك إذا علمت الشرائع وتصل الألفاظ لآذانهم ولكن لا ينتفعون بها ولايقبلونها كالصم الذين لايسمعون أفأنت تسمع الصم أي تقدر على إسماعهم ولو كانوا لا يعقلون 42 أي ولو إنضم إلى صممهم عدم عقلهم لأنالأصم العاقل ربما تفرس إذا وصل إلى صماخه دوي وأما إذا إجتمع فقدان السمع والعقل فقد تم الأمر وإنما جعلوا كالصم الذين لا عقل لهم مع كونهم عقلاء لأن عقولهم قد أصيبت بآفة معارضة الوهم لها وداء متابعةالالف والتقليد ومن هنا تعذر عليهم فهم معاني القرآن والأحكام الدقيقة وإدراك الحكم الرشيقة الأنيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما تنتفع به البهائم من كلام الناعق وتقديم المسند إليه في أفأنت للتقوية عند السكاكي وجعله العلامة للتخصيص ففي تقديم الفاعل المعنوي وإيلائه همزة الإنكار الدلالة على أن نبي الله صلى الله عليه و سلم تصورفي نفسه من حرصه على إيمان القوم أنه قادر على الإسماع أو نزل منزلةمن تصور أنه قادر عليه وأنه تعالى شأنه نفى ذلك عنه صلى الله عليه و سلم وأثبته لنفسه سبحانه على الإختصاص كأنه قيل : أنت لا تقدر على إسماع أولئك بل نحن القادرون عليه كذا قيل وفي القلب منه شيء ولذا أختير هنا مذهب السكاكي وجعل إنكار الإسماع متفرعا على المقدمة الإستدراكية المطويةالمفهومة من المقام حسبما أشير إليه وفيه إعتبار كون الهمزة مقدمة من تأخير لإقتضائها الصدارة وهو مذهب لبعضهم
وقيل : إنها في موضعها وأدخلت الفاء لإنكار ترتب الأسماع علىالإستماع لكن لا بطريق العطف على فعله المذكور الواقع صلة أو صفة للزوم إختلال المعنى على ذلك بل بطريق العطف على فعل مثله مفهوم من فحوى النظم غير واقع موقعه كأنه قيل : أيستمعون إليك فأنت تسمعهم وقد يراد إنكار مكان وقوع الإسماع عقيب ذلك وترتبه عليه كما ينبئ عنه وضع الصم موضع ضميرهم ووصفهم بعدم العقل وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه والجملة معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها والكل في موضع الحال من مفعول الفعل السابق أي أفأنت تسمع الصم لوكانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون عل 4 ى معنى أفأنت تسمعهم على كل حالمفرروض ويقال للو هذه وصلية وذلك أمر مشهور وإستشكل الإتيان بهاهنا بأن الأصل فيها أن يكون الحكم على تقدير تحقق مدخولها ثابتا كماأنه ثابت على تقدير عدمه إلا أنه على تقدير عدمه أولى والأمر هنابالعكس وأجيب بأن إتصال الوصل بالإثبات جار على المعروف فإن تقديره تسمعهم ولو كانوا لايعقلون وظاهر أن إسماعهم مع العقل بطريق الأولى والإستفهام إثبات بحسب الظاهر فإن نظر إليه فذاك وئن نظر إلى الإنكاروإنه نفي بحسب المعنى أعتبر أنه داخل على المجموع بعد إرتباطه وكذا يقال فيما بعد فتأمل فيه ولا تغفل ومنهم من ينظر إليك ويعاين دلائل نبوتك الواضحة ولكن لا يهتدي
(11/125)

بها كالأعمى أفأنت تهدي العمي تقدر على هدايتهم ولو كانوا لايبصرون 43 أي ولو إنضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الإبصار هو الإعتبار والإستبصار والعمدة في ذلك هي البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدرك البصير الأحمق فلا يقال : كيف أثبتلهم النظر والإبصار أولا ونفى عنهم ثانيا
إن الله لا يظلم الناس أي لا ينقصهم شيئا مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادىء الإدراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل عليهم السلام ونصب الأدلة بل يوفيهم ذلك فضلا منه جل شأنه وكرما ولكن الناس أنفسهم يظلمون 44 أي ينقصون ما ينقصون من ذلك لعدم إستعمال مشاعرهم فيما خلقت له وإعراضهم عن قبول الحق وتكذيبهم للرسل وترك النظر في الأدلة فشيئا مفعول ثان ليظلم بناء على أنه مضمن معنى ينقص كما قيل أو أنه بمعناه من غير حاجة إلى القولب التضمين كما نقول وإن النقص يتعدى لإثنين كما يكون لازما ومتعديا لواحد ولم يذكر ثاني مفعولي الثاني لعدم تعلق الغرض به وتقديم المفعول الأول يحتمل أن يكون لمجرد الإهتمام مع مراعاة الفاصلة من غيرقصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصركابن الأثير ومن تبعه كما في قوله سبحانه : وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ويحتمل أن يكون لقصر المظلومية على رأي من يرى التقديم موجبا لذلك كالجمهور ومن تبعهم ولعل إيثار قصرها على قصر الظالمية عليهم للمبالغة في بطلان افعالهم وسخافة عقولهم على أن قصر الأولىعليهم ممستلزم كما قيل لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم فإكتفى بالقصر الأول عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة
وجوز بعضهم كون أنفسهم تأكيدا للناس والمفعول حينئذ محذوف فيكون بمنزلة ضمير الفصل في قوله تعالى : وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين في قصر الظالمية عليهم والتعبير عن فعلهم ذلك بالنقص مع كونه تفويتا بالكلية لمراعاة جانب قرينه وصيغة المضارع للإستمرار نفيا وإثباتا أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأن حرف النفي إذا دخل علىالمضارع يفيد بحسب المقام إستمرار النفي لا نفي الإستمرار كما مر غير مرة
وقيل : المعنى إن الله لا يظلم الناس بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم ولكن الناس أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا فإن مباشرتهم المستمرةللسيئات الموجبة للتعذيب عين ظلمهم لأنفسهم فالظلم على معناه المشهور و شيئا مفعول مطلق والمضارع المنفي للإستقبال والمثبت للإستمرار ومساق الآية الكريمة على الأول لإلزام الحجة وعلى الثاني للوعيد وعلىالوجهين هي تذليل لما سبق وجعلها على الأول تذليلا لجميع التكاليف والأقاصيص المذكورة من أول السورة وإن كان متجها خلاف الظاهر لا سيما وما بعد ليس إبتداء مشروع قصة آخرين
وقيل : معنى الآية إن الله لا يظلم الناس شيئا بسلب حواسهم وعقولهم إن سلبها لأنه تصرف في خالص ملكه ولكن الناس أنفسهم يظلمون بإفساد ذلك وصرفه لما لا يليق وهي جواب لسؤال نشأ من الآية السابقة والظلم فيهاعلى ظاهره أيضا وإستدل بها على أن للعبد كسبا وليس مسلوب الإختيار بالكلية كما ذهب إليه الجبرية والمختار عند كثير من المحققين أن نفيظلم الناس عنه تعالى شأنه لأنه سبحانه جواد حكيم يفيض على القوابلحسب إستعدادها الأزلي الثابت في العلم فما من كمال أو نقص في العبد إلا هو كماله أو نقصه الذي إقتضاه
(11/126)

استعداده كما يرشد إلى ذلك قوله جلا وعلا أعطى كل شيء خلقه وقولهسبحانه : فألهمها فجورها وتقواها وأن إثبات ظلم الناس لأ نفسهم بإعتبار إقتضاء إستعدادهم الثابت في العلم الأزلي ما أفيض عليهم مماإستحقوا به التعذيب
وقد ذكروا أن هذا الإستعداد غير مجعول ضرورة أن الجعل مسبوق بتعلقالقدرة المسبوق بتعلق الإرادة المسبوق بتعلق العلم والإستعداد ليس كذلك لأنه لم يثبت العلم إلا هو متعلق به بل بسائر الأشياء أيضا لأنالتعلق بالمعلوم من ضروريات العلم والتعلق بما لا ثبوت له أصلا ممالا يعقل ضرورة أنه نسبة وهي لا تتحقق بدون ثبوت الطرفين ولا يرد علىهذا أنه يلزم منه إستغناء الموجودات عن المؤثر لأنا نقول : إن كان المراد إستغناءها عن ذلك نظرا إلى الوجود العلمي القديم فالأمر كذلك ولا محذور فيه وإن كان المراد إستغناءها عن ذلك نظرا إلى وجودها الخارجي الحادث فلا نسلم اللزوم وتحقيق ذلك بماله وما عليه في محله وفي الآية على هذا تنبيه على أن كون أولئك المكذبين كما وصفوا إنما نشأ عن إقتضاء إستعدادهم له ولذلك ذموا به لا عن محض تقديره عليهم منغير أن يكون منهم طلب له بإستعدادهم ولعل تسمية التصرف على خلاف ما يقتضيه الإستعداد لو كان ظلما من باب المجاز وتنزيل المقتضى منزلة الملك وإلا فحقيقة الظلم مما لا يصح إطلاقه على تصرف من تصرفاته تعالىكيف كان إذ لا ملك حقيقة لأحد سواه في شيء من الأشياء ووضع الظاهر فيالجملة الإستداراكية موضع الضمير لزيادة التعيين والتقرير وقرأحمزة والكسائي بتخفيف لكن ورفع الناس ويوم يحشرهم بالياءوهي قراءة حمزة على عاصم وقرا الباقون بالنون على الإلتفات و يوم عند الأكثرين منصوب بمضمر أي أذكر لهم أو أنذرهم يوم نجمعهم لموقف الحساب كأن لم يلبثوا أي كأنهم أناس لم يلبسوا إلا ساعة منالنهار أي شيئا قليلا منه فإنها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعاته أعرف حالا من ساعات الليل والجملة في موقع الحال منمفعول نحشرهم أي نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث في الدنيا أو فيالبرزخ إلا ذلك القدر اليسير وليس المراد من التشبيه ظاهره على ما قيل وقد صرح في شرح المفتاح أن التشبيه كثيرا ما يذكر ويراد بهمعان أخر تترتب عليه فالمراد إما التأسف على عدم إنتفاعهم بأعمارهم أو تمنى أن يطول مكثهم قبل ذلك حتى لا يشاهدوا ما شاهدوه من الأهوال فمآل الجملة في الآخرة نحشرهم متأسفين أو متمنين طول مكثهم قبل ذلك ويجوز مشبهين في أحوالهم للناس بمن لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا يسيرا فإن من أقام بها دهرا وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثار نعمة وأحكام بهجة منافية لما بهم من رثاثة الهيئةوسوء الحال وإليه ذهب بعضهم والظاهر أنه تكلف لإبقاء التشبيه علىظاهره والأول أولى كما لا يخفى وأيا ما كان ففائدة التشبيه كنار علىعلم والعجب ممن لم يرها فقال الظاهر أن كأن للظن وإدعى البعض أن فائدة التقييد على تقدير أن يراد اللبث في البرزخ بيان كمال يسر الحشر بالنسبة إلى قدرته تعالى ولو بعدد هو طويل وإظهار بطلانإستبعادهم وإنكارهم بقولهم : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ونحو ذلك أو بيان تمام الموافقة بين النشأتين في الأشكالوالصور فإن قلة اللبث في البرزخ من موجبات عدم التبدل والتغير ولعل مآل الحال على هذا ويوم نحشرهم على صورهم وأشكالهم غير متغيرين وجوز أبو علي كون الجملة في موضع الصفة ليوم والعائذ محذوف تقديره كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف والعائد كذلك أي
(11/127)

حشرا كأن لم يلبثوا قبله ورد بأن مثل هذا الرابط لا يجوز حذفه والأول بأن المراد بالظرف المضاف وهو الموصوف يوم القيامة وهو يوممعين وتقدير الكلام يوم حشره أو يوم حشرنا فيكون الموصوف معرفةوالجمل نكرات ولا تنعت المعرفة بالنكرة وأجيب بأن المنع من جوازحذف مثل ذلك الرابط في حيز المنع وبأن الجمل التي تضاف إليها أسماء الزمان قد يقدر حلها إلى معرفة فيكون ما أضيف إليها معرفة وقد يقدرحلها إلى نكرة فيكون ذلك نكرة ولعل أبا علي يتكلف لإعتبار حلهاإلى نكرة ويكون الموصوف هنا نكرة عنده فيرتفع محذور نعت المعرفة بالنكرة وأنت تعلم أن الجواب إنما يدفع البطلان لا غير فالحق ترجيح الحالية وقوله سبحانه : يتعارفون بينهم أي يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا يحتمل أن يكون إستئنافا وأن يكون بيانا للجملة التشبيهية وإستدلالا عليها كما قيل وذلك أنه لو طال العهد لم يبق التعارف لأن طول العهد منس مفض إلى التناكر لكن التعارف باق فطول العهد منتف وهو معنى لم يلبثوا إلا ساعة وفيه دغدغة
وزعم أبو البقاء كونه حالا مقدرة ولا داعي لإعتبار كونها مقدرةلأن الظاهر عدم تأخر التعارف عن الحشر بزمان طويل ليحتاج إليه وقدصرحوا بأن التعارف بينهم يكون أول خروجهم من القبور ثم ينقطع لشدةالأهوال المذهلة وإعتراء الأحوال المعضلة المغيرة للصور والأشكال المبدلة لها من حال إلى حال وعندي أن لا قطع بالإنقطاع فالمواقف مختلفة والأحوال متفاوتة فقد يتعارفون بعد التناكر في موقف دون موقفوحال دون حال وفي بعض الآثار ما يؤيد ذلك وزعم بعضهم المنافاة بين ما تدل عليه هذه الآية وما يدل عليه قوله سبحانه : لا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون وقوله تعالى : ولا يسأل حميم حميما من عدم التعارف لولا إعتبار الزمانين
وقيل لا منافاة بناء على أن المثبت تعارف تقريع وتوبيخ والمنفي تعرف تواصل وشفقة ولمانع أن يمنع دلالة ما ذكر من الآيات على نفي التعارف وقصارى ما يدل عليه نفي نفع الأنساب وسؤال بعضهم بعضاوالتعارف الذي تدل عليه هذه الآية لا ينافي ذلك فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال فيها : يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه فلا يستطيع أن يكلمه ثم أن حمل التعارف على معرفة بعضهم بعضا هوالمعروف عند المفسرين وقيل : المراد به التعريف أي يعرف بعضهم بعضا ما كانوا من الخطأ والكفر وفيه ما فيه
وجوز بعضهم أن يكون الظرف السابق متعلقا بيتعارفون قيل فيعطف على ما سبق ولا يظهر له وجه وقوله تعالى قد خسر الذين كذبوا بلقاءالله جملة مستأنفة سيقت للشهادة منه تعالى على خسرانهم والتعجيبمنه وهي خبرية لفظا إنشائية معنى وقيل : مقول لقول مقدر وقع حالامن ضمير يتعارفون أو من ضمير يحشرهم إن كانت جملة يتعارفون حالا أيضا لئلا يفصل بين الحال وذيها أجنبي والإستئناف أظهر والتعبير عنهم بالموصول مع أن المقام مقام إضمار لذمهم بما في حيز الصلةوللإشعار بعليته لما أصابهم والظاهر أن المراد بلقاء الله تعالى مطلق الحساب والجزاء وبالخسران الوضيعة أي قد وضعوا في تجارتهم ومعاملتهم وإشترائهم الكفر بالإيمان وجوز أن يراد بالأول سوء اللقاءوبالثاني الهلاك والضلال أي قد ضلوا وهكلوا بتكذيبهم بذلك وما كانوا مهتدين 45 أي لطرق التجارة عارفين بأحوالها وما كانوامهتدين إلى طريق النجاة والجملة عطف على جملة قد خسر إلخ وجوز أن تكون معطوفة على صلة الموصول على أنها كالتأكيد لها وإما نرينك
(11/128)

أصله إن نرينك و ما مزيد لتأكيد معنى الشرط ومن ثمت أكد الفعل بالنون والرؤية بصرية أي إما نرينك بعينك بعض الذي نعدهم من العذاب بأن نعذبهم في حياتك أو نتوفينك قبل ذلك فإلينامرجعهم جواب للشرط وما عطف عليه والمعنى إن عذابهم في الآخرةمقرر عذبوا في الدنيا أو لا وقيل : هو جواب نتوفينك كأنه قيل : إما نتوفينك فإلينا مرجعهم فنريكه في الآخرة وجواب الأول محذوف أي إما نرينك فذاك المراد أو المتمنى أو نحو ذلك وقال الطيبي : أي فذاكحق وصواب أو واقع أو ثابت وإختار الأول أبو حيان والإعتراض عليه بأن الرجوع لا يترتب على تلك الإراءة فيحتاج إلى إلتزام كون الشرطيةإتفاقية ناشيء من الغفلة عن المعنى المراد والمراد من نعدهم وعدناهم إلا أنه عدل إلى صيغة الإستقبال لإستحضار الصورة أو للدلالة علىالتجدد والإستمرار أي نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار
وفي تخصيص البعض بالذكر قيل رمز إلى أن العدة بإراءة بعض الموعودوقد أراه صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك يوم بدر ثم الله شهيد على ما يفعلون 46 من الأفعال السيئة التي حكيت عنهم والمراد من الشهادة لازمها مجازاوهو المعاقبة والجزاء فكأنه قيل : ثم الله تعالى معاقب على ما يفعلون وجوز أن يراد منها إقامتها وأداؤها بإنطاق الجوارح وإلا فشهادةالله سبحانه بمعنى كونه رقيبا وحافظا أمر دائم في الدارين و ثم لا تناسب ذاك والظاهر أنها على هذين الوجهين على ظاهرها وفي الكشف وغيره على الأول للتراخي الرتبي وعلى الثاني على الظاهر وظاهر كلام البعض إستحسان حملها على التراخي الرتبي مطلقا ولا أرى لإرتكاب خلاف الظاهر بعد ذلك الإرتكاب داعيا وأن العطف بها على الجزاء لا علىمجموع الشرطية وأنت تعلم أن العطف على ذاك يمنع من إرادة التعذيب منه أو إراءته أو نحو ذلك مما لا يصح أن يكون المعنى المعطوف بثمبعده ومترتبا عليه ولعل ما إعتبروه هناك ليس تفسيرا للرجوع بل هوبيان للمقصود من الكلام وإظهار إسم الجلالة لإدخال الروعة وتربيةالمهابة وتأكيد التهديد وقرأ ابن أبي عبلة ثم بالفتح أي هنالك ولكل أمة يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به فإذا جاءرسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضي بينهم أي بعد أنيشهد بالقسط بالعدل وحكم بنجاة المؤمن وعقاب الكافر وهم لايظلمون 47 أصلا والجملة قيل تذييل لما قبلها مؤكدة له
وقيل : في موضع الحال أي مستمرا عدم ظلمهم ونظير هذه الآية على هذا قوله سبحانه : وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم أو لكل أمة منالأمم الخالية رسول يبعث إليهم بشريعة إقتضتها الحكمة ليدعوهم إلى الحقفإذا جاء رسولهم فبلغهم ودعاهم فكذبوه وخالفوه قضي بينهم أي بين كلأمة ورسولها بالعدل وحكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذبين والأول مما رواه ابن جرير وغيره عن مجاهد والإستقبال عليه على ظاهره ولا يحتاج إلى تقدير مثل ما أحتيج في التفسير الثاني وقد رجح بقوله تعالى
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صدقين 48 بناء على أن الظاهر أن المراد بالوعد الذي أشاروا إليه العذاب الدنيوي الموعود كما يرشدإليه ما بعد وإستشكل ما يقتضيه ظاهر الآية من أن الله تعالى لم يهملأمة من
(11/129)

الأمم قط بل بعث إلى كل واحدة منهم رسولا بأن أهل الفترة ليس فيهم رسول كما يشهد له قوله سبحانه : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم وأجيب بأن عموم الآية لا يقتضي أن يكون الرسول حاضرا مع كل أمة منهم لأن تقدمه على بعض منهم لا يمنع من كونه رسولا إلى ذلك البعض كما لا يمنع تقدم رسولنا صلى الله عليه و سلم من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد غاية ما في البابأن ما وقع من تخليط القوم في زمن الفترة يكون مؤديا إلى ضعف أثر دعوة الأنبياء عليهم السلام إنتهى وهو كما ترى وقد يقال : إن المراد منكل أمة كل جماعة أراد الله تعالى تكليفها حسبما سبق به علمه أو أرادسبحانه تنفيذ كلمته فيها أو نحو ذلك من المخصصات التي لا يلغو معها الحكم لا كل جماعة من الناس مطلقا فلا إشكال أصلا فتدبر ثم إن هذا القول من المكذبين إستعجال لما وعدوا به وغرضهم منه على ما قيلإستبعاد الموعود وأنه مما لا يكون وقد يراد بالإستفهام الإستبعاد إبتداء إذ المقام يقتضيه ولا مانع عنه والقول بأن ذلك إنما يكون إبتداء بأينوأنى ونحوهما دون متى غير مسلم كيف وهو معنى مجازي والمجاز لا حجر فيهوالخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة و السلام والمؤمنين الذين يتلونعليهم الآيات المتضمنة لذلك وجواب أن محذوف إعتمادا على ما تقدمه أي إن كنتم صادقين في أنه يأتينا فليأتنا عجلة ولكونه صلى الله تعالى عليه وسلم هوالواسطة في إتيان ذلك ومنه نشأ الوعد دون المؤمنين أمر صلى الله عليه و سلم بالجواببقوله سبحانه : قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا أي لا أقدر على شيءمنهما بوجه من الوجوه وتقديم الضر لما أن مساق النظم الكريم لإظهار العجز عنه وأما ذكر النفع فللتعميم إظهارا لكمال العجز وقيل : إنهإستطرادي لئلا يتوهم إختصاص ذلك بالضر والأول أولى وما وقع في سورة الأعراف من تقديم النفع فللإشعار بأهميته والمقام مقامه والمعنى لا أملك شيئا من شؤوني ردا وإيرادا مع إن ذلك أقرب حصولا فكيف أملك شؤونكم حتى أتسبب في إتيان عذابكم الموعود حسبما تريدون إلا ما شاء الله إستثناء منقطع عند جمع أي ولكن ما شاء الله تعالى كائن وقيل : متصل على معنى إلا ما شاء الله تعالى أن أملكه وتعقب بأنه يأباه مقام التبريء عن أن يكون له صلى الله تعالى عليه وسلم دخل في إتيان الوعد فإن ذلك يستدعي بيان كون المتنازع فيه مما لا يشاء أن يملكه عليه الصلاةوالسلام : والمعتزلة قالوا بإتصال الإستثناء وإستدلوا بذلك على أن العبد مستقل بأفعاله من الطاعات والمعاصي وأنت تعلم أن ذلك بمراحلعن إثبات مدعاهم نعم إستدل بها بعض من يرى رأي السلف من أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا أنه ليس له قدرة أصلا كما يقولهالجبرية ولا أن له قدرة لكنها غير مؤثرة كما هو المشهور عن الأشاعرة ولا أن له قدرة مؤثرة إن شاء الله تعالى وإن لم يشأ كما هو رأي المعتزلة وقال : المعنى لا أقدر على شيء من الضر والنفع إلاما شاء الله تعالى أن أقدر عليه منهما فأنى أقدر عليه بمشيئته سبحانه وقال بعضهم : إذا كان الملك بمعنى الإستطاعة يكون الإستثناء متصلاوإذا أبقى على ظاهره تعين الإ 4 نقطاع ولا يخفى أن الأصل الإتصال ولا ينبغي العدول عنه حيث أمكن من دون تعسف وأيا ما كان فظاهر كلامهم أنالإستثناء من المفعول إلا أنه على تقدير الإنقطاع ليس المعنى على إخراج المستثنى من حكم المستثنى منه ولذا جعل الحكم على ذلك التقدير أنه كائن دون أملكه مثلا فلا تدافع في كلام من حكم بالإنقطاع وقال
(11/130)

في بيان المعنى أي ولكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن مشيرا بذلك إلى النفع والضر فإنه صريح في كون المستثنى من جنس المستثنى منهالمقتضى للإتصال لأن المدار عند المحققين في الأمرين على الإخراج من الحكم وعدمه
ومما يقضي منه العجب زعم أن الإستثناء من فاعل لا أملك وجعل المعنىلا أملك أنا ولكن الله سبحانه هو المالك لكل ما يشاء يفعله بمشيئته لكل أمة من الأمم الذين أصروا على تكديب رسلهم أجل لعذابهم يحل بهم عند حلوله لا يتعدى إلى أمة أخرى إذا جاء أجلهم أي أجل كل أمة على ما هو الظاهر ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التقرير والإضافة لإفادة كمال التعيين وجوز أن يكون الضمير للأمم المدلول عليه بكل أمة ووجه إظهار الأجل مضافا لذلك بأنه لإفادة المعنىالمقصود هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بعينها من بينالأمم بواسطة إكتساب الأجل بإضافته عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل : إذا جاءتهم آجالهم بالجمع كما قرأ به ابن سيرين بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها ويفسر الأجل بحد معين منالزمان والمجيء عليه ظاهر وبما إمتد إليه من ذلك فمجيئه حينئذ عبارة عن إنقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه أي إذا تم وإنقضى أجلهم الخاص بهم فلا يستأخرون عنه ساعة أي شيئا قليلا من الزمان ولا يستقدمون 49 عليه والإستفعال عند جمع على أصله ونفى طلب التأخر ولتقدم أبلغ وقال آخرون : إنه بمعنى التفعل أي لا يتأخرون ولا يتقدمون والجملة الثانية إما مستأنفة أو معطوفة على القيد والمقيد ومنعوا عطفها على لا يستأخرون لئلا يرد أنه لا يتصور التقدم بعد مجيءالأجل فلا فائدة في نفيه وأجازه غير واحد والفائدة عنده في ذلك المبالغة في إنتفاء التأخر لأنه لما نظم في سلكه أشعر بأنه بلغ في الإستحالة إلى مرتبته فهو مستحيل مثله للتقدير الإلهي وإن أمكن في نفسه قيل : وهذا هو السر في إيراد صيغة الإستفعال أي أنه بلغ في الإستحالة إلى أنه لا يطلب إذ المحال لا يطلب ودفع بعضهم ذلك بأن جاء بمعنى قارب المجيء نحو قولك : إذا جاء الشتاء فتأهب له وتعقب بأنه ليس في تقييد عدم الإستئخار بالقرب والدنو مزيد فائدة وأشار الزمخشري إلى جواب آخر وهو أن لا يتأخر ولا يتقدم كناية عن كونه له حد معين وأجل مضروب لا يتعداه بقطع النظر عن التقدم والتأخر كقول الحماسي : وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متقدم عنه ولا متأخر فإنه أراد كما قال المرزوقي حبسني الهوى في موضع تستقرين فيه فألزمهولا أفارقه وأنا معك مقيمة وظاعنة لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك ووجه تقديم بيان إنتفاء الإستئخار على بيان إنتفاء الإستقدام قد تقدم في آية الأعراف مع بسط كلام فيها ثم لا يخفى أن هذه الآية داخلة في حيز الجواب ولم تعطف على ما قبلها إيذانا بإستقلالها فيه قال العلامةالطيبي طيب الله تعالى ثراه : إن الجواب بقوله سبحانه : قل لا أملك إلخ وارد علىالأسلوب الحكيم لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا إستعباد أن الموعود من الله تعالى وأنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه وهو الذي يدعي أن ذلك منه فطلبوا منه تعيين الوقت تهكما وسخرية فقيل في الجواب هذا التهكم إنما يتم إذا إدعيت بأني أنا الجالب لذلك الموعود : إذا كنت مقرأ بأني مثلكم في أني لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا كيف أدعى ماليس لي بحق ثم شرع في الجواب الصحيح ولم يلتفت صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تهكمهم واستعبادهم فقال : لكل أمة أجل إلخ وحاصله على ما في الكشاف إن عذابكم له أجل مضروب
(11/131)

عند الله تعالى وحد محدود من الزمان إذا جاء ذلك الوقت أنجز وعدكم لامحالة فلا تستعجلوا ومن هنا يعلم سر إسقاط الفاء من إذا جاء أجلهم وزيادتها في أفلا يستأخرون على عكس آية الأعراف حيث أتي بها أولا ولم يؤت بها ثانيا وذلك أنه لما سيقت الآية جوابا عن إستعجالهم العذاب الموعود حسبما علمت آنفا إعتنى بأمر الشرطية ولزومها كمال الإعتناء فأتي بها غير متفرعة على شيء كأنها من الأمور الثابتة في نفسها الغير المتفرعة على غيرها وقوى لزوم التالي فيها للمقدم بزيادة الفاء التي بها يؤتى للربط في أمثال ذلك ولا كذلك آية الأعراف كما لايخفى إلا على الأنعام فإحفظه فإنه من الأنفال و لا يأبه مامر في تقرير الإستفهام صدر الكلام كما هو ظاهر لدى ذوي الأفهام وكذا لا يأباه ما قيل في ربط هذهالآية بما قبلها من أنها بيان لما أبهم في الإستثناء وتقييد لما فيالقضاء السابق من الإطلاق المشعر بكون المقضي به أمرا منجزا غير متوقف على شيء غير مجيء الرسول وتكذيب الأمة لأنه على ما فيه إنكار المدخليةفي الجواب ولعل الغرض يتم بمجرد ذلك لحصول التغاير بين مساقي الأيتين به أيضا وقد يقال : إن إسقاط الفاء أولا لتكون الجملة في موضع الصفة لأجل تهويلا لأمره وتنويها بشأنه حسبما يقتضيه المقام أي لكل الأمة أجل موصوف بأنه إذا جاء لا يستأخرون عنه ولا يستقدم ونعليه البتة و والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير مثل ما مر آنفا وليس بذاك ومما تضحك منه الموتى ما قاله بعض العظاميين بعد أن كاد يقضي عليه فكرا من أن السر في إختلاف الآيتين الإشارة منه تعالى إلى جواز الأمرين عربية ولم يعلم عافاه الله تعالى أن القرآن الكريم لم ينزل معلما للعربية مبينا لقواعدها وشارحا لما يجوز فيها وما لايجوز بل نزل معجزا بفصاحته وبلاغتهو ماتضمنه من الأسرار أقواما كل منهم في ذلك الشأن الجذيل المحكك والعذيق المرجب
وذكر بعض من أحيا ميت الفضل علمه وصفا عن تخليط أبناء العصر فهمه صفاء الدين عيسى البندنيجي أن مساق هذه الآية لتثبيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وشرح صدره عليه الصلاة و السلام عما عسى يضيق به بحسب البشرية من قولهم : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ولتلقينه صلى الله تعالى عليه وسلم رد قولهم ذلك كما يشعر به السباق فناسب قطع كل من الجملتين عن الأخرى ليستقل كل منهمافي إفادة التثبيت والرد للتأكيد والمبالغة فيها ولذا لم يؤت بالفاء في صدر الشرطية وجيء بها في الجواب زيادة في ذلك لإفادتها تحقق ما بعدها عقيب ما يقتضيه بلا مهلة وآية الأعراف سيقت وعيدا لأهل مكة ومن البين أن محط الفائدة فيإشعار أنه وعيد وأن ما هو أدخل في التخويف الجملة الشرطية لأنها النص في نزول العذاب عند حلول الأجل وأنه لا محيص لهم عن ذلك عنده دون لكل أمة أجل فقط فكان المقام مقام ربط ووصل فجيء بالفاء لتدل على ذلك وتؤذن بإتحاد الجملتين في كونهما وعيدا ولمسامحته سبحانه فيالوعيد لم يؤت بالفاء في الجواب إنتهى ولعل ما قدمناه ليس بالبعيد عنه من وجه وإن خالفه من وجه آخر ولكل وجهة والله تعالى أعلم بأسرار كتابه
قل لهم بعد ما بينت لهم كيفية حالك وجريان سنة الله تعالى فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتهم على أن عذابهم أمر مقرر محتوم لا يتوقف إلا على مجيء أجله المعلوم إيذانا بكمال دنوه وتنزيلاله منزلة إتيانه حقيقة أرأيتم ان أتاكم عذابه الذي تستعجلون بهولعل إستعمال إن من باب المجاراة بياتا أي وقت بيات أو نهارا أي عند إشتغالكم بمشاغلكم وإنما لم يقل ليلا ونهارا ليظهر التقابل لأن المراد الإشعار بالنوم والغفلة والبيات متكفل بذلك لأنهالوقت الذي يبيت فيه العدو ويوقع فيه ويغتنم فرصة
(11/132)

غفلته وليس في مفهوم الليل هذا المعنى ولم يشتهر شهرة التهار بالإشتغال بالمصالح والمعاش حتى يحسن الإكتفاء بدلالة الإلتزام كما في النهار وقد يقال : النهار كله محل الغفلة لأنه إما زمان إشتغال بمعاش أو زمان قيلولة بخلاف الليل فإن محل الغفلة فيه ماقارب وسطه وهو وقت البيات فلذا خص بالذكر والبيات جاء بمعنى البيتوتة وبمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم والمعنى المراد هنا مبني على هذا ماذا يستعجل منه المجرمون 50 أي أي شيء يستعجلون من العذاب وليس شيء منه يوجب الإستعجال لما أن كله مكروه مر المذاق موجب للنفار فمن للتبعيض والضمير للعذاب والتنكير في شيء الفردية وجوز أن يكون المعنى على التعجب وهو مستفاد من المقام كأنه قيل : أي هولشديد بستعجلون منه فمن بيانية وتجريدية بناء على عد الزمخشري لها منها وقيل : الضمير لله تعالى وعليه فالمعنى على الثاني ولكنتزول فائدة الإبهام والتفسير وما فيه من التفخيم
وما قيل : إنه أبلغ على معنى هل تعرفون ما العذاب المعذب به هو اللهسبحانه 1 فهو مشترك على التقديرين ألا ترى إلى قوله تعالى : عذابه و ماذا بمعنى أي شيء منصوب المحل مفعولا مقدما وهو أولى من جعله مبتدأ ومن فعل قدر العائد ومن قال : إن ضمير منه هو الرابط مع تفسيره بالعذاب جنح إلى أن المستعجل من العذاب فهو شامل للمبتدأ فيقوم مقام رابطه لأن عموم الخبر في لإسم الظاهر يكون رابطا على المشهور ففي الضمير أولى وزعم أبو البقاء أن الضمير عائد إلى المبتدأ وهو الرابط وجعل ذلك نظير قولك : زيد أخذت منه درهما وليس بشيء كما لا يخفى والمراد من المجرمون المخاسبون وعدل عن الضمير إليه الدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من إتيان العذاب فضلا عن أن يستعجلوه وقيل : النكتة في ذلك إظهاره تحقيرهم وذمهم بهذهالصفة الفظيعة والجملة متعلقة بأرأيتم على أنها إستئناف بياني أو في محل نصب على المفعولية وعلق عنها الفعل للإستفهام وهو في الأصل إستفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية ثم إستعمل بمعنى أخبروني لما بين الرؤية والأخبار من السببية والمسببية في الجملة فهو مجاز فيما ذكر وإليه ذهب الكثير وذهب أبو حيان إلى أن ذلك بطريق التضمين ولم يستعمل إلا في الأمر العجيب وجواب الشرط محذوف أي إن أتاكم عذابه في أحد ذينك الوقتين تندموا أو تعرفوا الخطأ أوفاخبروني ماذا يستعجل مهنه المجرمون
وزعم أبو حيان تعين الأخير لأن الجواب إنما يقدر مما تقدمه لفظا أو تقديرا ولم يدر أن تقديره من غير جنس المذكور إذا قامت قرينة عليهليس بعزيز ولئن سلم صحة الحصر الذي إدعاه فما ذكر غير خارج عنه بناء على أن المقصود من أرأيتم ماذا يستعجل منه إلخ تنديمهم أوتجليلهم كما نص عليه بعض المحققين
وفي الكشف تقريرا لأحد الأوجه المذكورة في الكشاف أن ماذا إلخ متعلق الإستخبار والشرط مع جوابه المحذوف مقرر لمضمون الإستخبار ولهذا وسط بينهما ولما كان في الإستفهام تجهيل وتنديم قدر الجواب تندموا أوتعرفوا الخطأ ولا مانع من تقديرهما معا أو ما يفيد المعنيين ولهذا حذف الجواب ووسط تأكيدا على تأكيد إنتهى
وجوز كون ماذا يستعجل جوابا للشرط كقولك : إن أتيتك ماذا تطعمني والمجموع بتمامه متعلق بأرأيتم ورد بأن جواب الشرط إذا كان إستفهاما فلا بد فيه من الفاءتقول إن زارنا فلان فأي رجل هو ولا تحذف إلا ضرورة وقد صرح في المفصل بأن الجملة إذا كانت إنشائية لابد من الفاء معها والإستفهام وإن لم يرد به حقيقته لم يخرج عن الإنشائية والمثال مصنوع فلا يعول عليه
(11/133)

وأجيب بأن الرضى صرح بأن وقوع الجملة الإستفهامية جوابا بدون الفاء ثابت في كثير من الكلام الفصيح ولو سلم ما ذكر فيقدر القول وحذفه كثير مطرد بلا خلاف وأورد أيضا على هذا الوجه أن إستعجال العذاب قبل إتيانه فكيف يكون مرتبا عليه وجزاء له وأجيب بأنه حكاية عن حال ماضية أي ماذا كنتم تستعجلون ويشهد لهذا التصريح بكنتم فيما بعد والقرآن يفسر بعضه بعضا وأنت تعلم أن مجرد ذلك لا يجوز كونه جوابا لأن الإستعجال الماضي لا يترتب على إتيان العذاب فلا بد من تقدير نحو تعلموا أي تعلموا ماذا إلخ وقيل : إن أتاكم بمعنى إن قارب إتيانه إياكم أو المراد إن أتاكم أمارات عذابه وقيل : حيث أنالمراد إنكار الإستعجال بمعنى نفيه رأسا صح كونه جوابا واعترض على جعل مجموع الشرطية متعلقا بأرأيتم بأنه لا يصح أن يكون مفعولا به له بناء على أنه بمعنى أخبروني وهو متعد بعن ولا تدخل الجملة إلا أنها إذا إقترنت بالإستفهام وقلنا بحواز تعليقها وفيه كلام في العربية ودفع بأن مراد القائل بالتعلق التعلق اللغوي لأن المعنى أخبروني عن صنيعكم ان أتاكم إلخ والمراد بقوله سبحانه : أثم إذا ما وقع ءامنتم به زيادة التنديم والتجهيل والمعنى أئذا وقع العذاب وحلبكم حقيقة آمنتم به وعاد إستهزؤكم وتكذيبكم تصديقا وإذعانا وجيء بثم دلالة على زيادة الإستعباد وفيه أن هذا الثاني أبعد من الأول وأدخل في الإنكار
وجوز أن يكون هذا جواب الشرط والإستفهامية الأولى إعتراض والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابه آمنتم بهع بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان وأصل الكلام على ما قيل : إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ووقع وتحقق آمنتم ثم جيء بحرف التراخي بدل الواو دلالة على الإستعباد ثم زيد أداةالشرط دلالة على إستقلاله بالإستعباد وعلى أن الأول كالتمهيد له وجيء بإذا مؤكدا بما ترشيحا لمعنى الوقوع والتحقيق وزيادة للتجهيل وأنهم لم يومنوا إلا بعد إن لم ينفعهم البتة وهذا الوجه مما جوزه الزمخشري وتعقب بأنه في غاية البعد لأن ثم حرف عطف لم يسمع تصديرالجواب به والجملة المصدرة بالإستفهاتم لا تقع جوابا بدون الفاء وأجيب عن هذا بما مر
وأما الجواب عنه بأنه أجرى ثم مجرى الفاء فكما أن الفاء في الأصل للعطف والترتيب وقد ربطت الجزاء فكذلك هذه فمخالف لإجماع النحاة وقياسه على الفاء غير جلي ولهذه الدغدغة قيل : مراد الزمخشري أنهيدل على الجواب والتقدير إن أتاكم عذابه أمنتم به بعد وقوعه وما في النظم الكريم معطوف عليه للتأكيد نحو كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون وتعقب بأنه لايخفى تكلفه فإن عطف التأكيد بثم مع حذف المؤكدمما لا ينبغي إرتكابه ولو قيل : المراد إن آمنتم هو الجواب و أثم إذا ماوقع معترض فالإعتراض بالواو والفاء وأما بثم فلم يذهب إليه أحد وبالجملة قد كثر الجرح والتعديل لهذا الوجه لا يصلح العطارما أفسد الدهر وقريء ثم بفتح الثاء بمعنى هنالك وقوله سبحانه : آلآن على تقدير القول وهو الأظهر والأقوى معنى أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به فالآن في محل نصب على أنه ظرف لأمنتم مقدرا ومنع أن يكون ظرفا للمذكور لأن الإستفهام له صدرالكلام وقريء بدون همزة الإستفهام والظاهر عندي على هذا تعلقه بمقدر أيضا لأن الكلام على الإستفهام وبعض جوز تعلقه بالمذكور وليس بذاك وعن نافع أنه قرىء آلآن بحذف الهمزه التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام وقوله سبحانه :
(11/134)

وقد كنتم به تستعجلون 51 في موضع الحال من الفاعل آمنتم المقدر والكلام على ما قيل مسوق من جهته تعالى غير داخل تحت القول الملقن لتقرير مضمون ما سبق من إنكار التأخير والتوبيخ عليه وفائدةالحال تشديد التوبيخ والتقريع وزيادة التنديم والتحسير قال العلامة الطيبي : إن آلآن آمنتم به يقتضي أن يقال بعده : وقد كنتم به تكذبون لا تستعجلون إلا أنه وضع موضعه لأن المراد به الإستعجال السابق وهو ما حكاه سبحانه عنهم بقوله تعالى : متى هذا الوعد وكان ذلك تهكما منهم وتكذيبا وإستعبادا وفي العدول إستحضار لتلك المقالة الشنيعة فيكون أبلغ من تكذبون وتقديم الجار والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصل وقوله تعالى : ثم قيل إلخ عطف على قيل المقدر قبل آلآن لتوكيد التوبيخ للذين ظلموا أي وضعوا ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب موضع ما أمروا به من الإيمان والتصديق أو ظلموا أنفسهم بتعريضها للهلاك والعذاب ووضع الموصول موضع الضمير لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعليته لإصابه ما أصابهم ذوقوا عذاب الخلد أيالمؤلم على الدوام هل تجزون أي ما تجزون اليوم إلا بما كنتم تكسبون ... أي إلا ما إستمررتم على كسبه في الدنيا من أصناف الكفر التي من جملتها ما مر من الإستعجال وزاد غير واحد في البيان سائر أنواع المعاصي بناء أن الكفارمكلفون بالفروع فيعذبون على ذلك لكن هل العذاب عليه مستمر تبعا للكفر أو منته كعذاب غيرهم من العصاة قيل : الظاهر الثاني وبأجمع بين النصوص الدالة على تخفيف عذاب الكفار وما يعارضها فقالوا : إن المخفف عذاب المعاصي والذي لا يخفف عذاب الكفر ويستنبؤنك أي يستخبرونك أحق هو أي العذاب الموعود كما هو الأنسب بالسياق دون إدعاء النبوة الذي جوزه بعضهم ورجح عليه أيضا بأنه لا يتأتى إثبات النبوة لمنكريها بالقسم وأجيب بأنه ليس المراد منه إثباتها بل كون تلك الدعوى جدا لا هزلا أو أنه بالنسبة لمن يقنع بالإثبات بمثله وقديقال : ما ذكر مشترك الإلزام لأن العذاب الموعود لا يثبت عند الزاعمين أنه إفتراء قبل وقوعه بمجرد القسم أيضا فلا يصلح ماذكر مرجحا والحقأن القسم لم يذكر للإلزام بل توكيد لما أنكروه والإتفهام للإنكار والإستنباء على سبيل التهكم والإستهزاء كما هو المعلوم من حالهم فلايقتضي بقاءه على أصله وربما يقال : إن الإستنباء بمعنى طلب حقيقة لكن لا عن الحقية ومقابلها بالمعنى المتبادر لأنهم جازمون بالثاني بل المراد من ذلك الجد والهزل كأنهم قالوا : إنا جازمون بأن ما تقوله كذب لكنا شاكون في أنه جد منك أم هزل فأخبرنا عن حقيقة ذلك ونظير هذا قولهم : أفترى على الله كذبا أم به جنة على ماقرره الجماعة إلا أن ذلك خلاف الظاهر و حق خبر قدم على المبتدأ الذي هو هو ليلى الهمزة المسؤول عنه وجوز أن يكون مبتدأ وهو مرتفع به ساد مسد الخبر لأنه بمعنى ثابت فهو حينئذ صفة وقعت بعد الإستفهام فتعمل ويكتفي بمرفوعها عن الخبر إذا كان إسما ظاهرا أو فى حكمه كالضمير المنفصل هنا والمشهور أن إستنبأ تتعدى إلى إثنين أحدهما بدون واسطة والآخر بواسطة عن فالمفعول الأول على هذا ليستنبؤن الكاف والثاني قامت مقامه هذه الجملة على معنى يسألونك عن جواب هذا السؤال إذ الإستفهام لا يسأل عنه وإنما يسأل عن جوابه والزمخشري لما رأى أن الجملة هنا لا تصلح أن تكون مفعولا ثانيا معنى لما عرفت ولفظا
(11/135)

لأنه لايصح دخول عن عليها جعل الفعل مضمنا معنى القول أي قولون لك هذا والجملة في محل نصب مفعلول القول وقرأ الأعمش آلحق هو بالتعريف مع الإستفهام وهي تؤيد كون الإستفهام للإنكار لما فيها منالتعريض لبطلانه المقتضى لإنكاره لإفادة الكلام عليها القصر وهو من قصرالمسند على المسند إليه على المشهور والمعنى أن الحق ما تقول أم خلافه وجعله الزمخشري من قصر المسند إليه على المسند حيث قال كأنه قيل : أهو الحق لا الباطل أو أهو الذي سميتموه الحق وأشاربالترديد إلى أن الغرض من هذا الوجه لا يختلف جعل الحصر حقيقيا تهكما أو إدعائيا وإعترض ذلك بأنه مخالف لما عليه علماء المعاني في مثل هذا التركيب وفي الكشف أنه يتخايل أن الحصر على معنى أهو الحق لاغيره لا معنى أهو الحق لا الباطل على ما قرروه في قولهم : زيد المنطلق والنطلق زيد فعلى هذا لا يسد ما ذكره الزمخشري ولكنه يضمحل بما حققناه في قوله تعالى : وقودها الناس والحجارة وأن إنحصار أحدهما في الآخر يلاحظ بحسب المقام وحينئذ لا يبالي قدم أو أخر وههنا المعنى على حصر العذاب في الحقية لا على حصر الحقية في العذاب
وقد قال هناك : إن التحقيق أن نحو زيدالمنطلق وعكسه إنما يحكم فيه بقصر الثاني أعنى الإنطلاق على الأول لأن المناسب قصر العام على الخاص وكذلك نحو الناس هم العلماء والعلماء هم الناس وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه لأن المقصود بين وأما في نحو قولنا : الخاشعون هم العلماء والعلماء هم الخاشعون فالحكم مختلف تقديما وتأخيرا وأحد القصرين غير الآخر فينبغي أن ينظر إلى مقتضى المقام إن تعين أحدهما لذلك حكم به قدم أو أخر وإلا روعي التقديم والتأخير وقد يكون القصر متعاكسا نحو زيد المنطلق إذا أريد المعهود وهذا ذاك وكذلك الجنسان إذا إتحدا موردا كقولك : الضاحك الكاتب إلى آخر ما قال وكون المعنى ههنا على حصر العذاب في الحقية دون العكس هو المناسب ومخالفة علماء المعاني ليست بدعا من صاحب الكشاف وأمثاله والحق ليس محصورا بما هم عليه كما لا يخفى فتدبر قل إي وربي إنه الحق أي قل لهم غير مكترث بإستهزائهم مغضيا عما قصدوا بانيا للأمر على أساس الحكمة : نعم إن ذلك العذاب الموعود ثابت البتة فضمير إنه للعذاب أيضا وإي حرف جواب وتصديق بمعنى نعم قيل : ولا تستعمل كذلك إلا مع القسم خاصة كما أن هل بمعنى قد في الإستفهام خاصة ولذلك سمع من كلامهم وصلها بواو القسم إذ لم يذكر المقسم به فيقولون إيو ويوصلون به هاء السكت أيضا فيقولون : إيوه وهذه اللفظة شائعة اليوم في لسان المصريين وأهل ذلك الصقع وإدعى أبو حيان أنه يجوز إستعمالها مع القسم وبدونه إلاأن الأول هو الأكثر قال : وما ذكر من السماع ليس بحجة لأن اللغة فسدت بمخالطة غير العرب فلم يبق وثوق بالسماع وحذف المجرور بواو القسم والإكتفاء بها لم يسمع من موثوثق به وهو مخالف للقيلس وأكد الجواب بأتم وجوه التأكيد حسب شدة إنكارهم وقوته وقد زيد تقريرا وتحقيقا بقوله جل شأنه : وماأنتم بمعجزين 53 أي بفائتين العذاب على أنه من فإنه الأمرإذا ذهب عنه ويصح جعله من أعجزه بمعنى وجده عاجزا أي ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزا عن إدراككم وإيقاعه بكم وأيا ما كان فالجملة إما معطوفة على جواب القسم أو مستأنفة سيقت لبيان عجزهم عن الخلاص مع ما فيه من التقرير المذكور
ولو أن لكل نفس ظلمت أي بالكفر أو بالتعدي على الغير أو غير ذلك من أصناف الظلم كذا
(11/136)

قيل وربما يقتصر على الأول لأنه الفرد الكامل مع أن الكلام في حق الكفار و لو قيل بمعنى إن وقيل على ظاهرها وإستعبد ولا أراه بعيدا مافي الأرض أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالها ومنافعها قاطبة لافتدت به أي لجعلته فدية لها من العذاب من إفتداه بمعنى فداهفالمفعول محذوف أي لإفتدت نفسها به
وجوز أن يكون إفتدى لازما على أنه مطاوع فدى المتعدى يقال فداه فإفتدى وتعقب بانه غير مناسب للسياق إذ المتبادر منه أن غيره فداهلأن معناه قبلت الفدية والقابل غير الفاعل ونظر فيه بأنه قد يتحدالقابل والفاعل إذ فدى نفسه نعم المتبادر الأول وأسروا أي النفوس المدلول عليها بكل نفس والعدول إلى صيغة الجمع لإفادة تهويل الخطب بكون الإسرار بطريق المعية والإجتماع وإنما لم يراع ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كون جمع ما في الأرض لكل واحدة من النفوس وإيثار صيغ
ة جمع المذكر لحمل لفظ النفس على الشخص أو لتغليب ذكور مدلوله على إناثه والإسرار الإخفاء أي أخفوا الندامة أي الغم والأسف على ما فعلوا من الظلم والمراد إخفاء آثارها كالبكاء وعض اليد وإلا فهي من الأمور الباطنة التي لا تكون إلا سرا وذلك لشدةحيرتهم وبهتهم لما رأوا العذاب أي عند معاينتهم من فظاعة الحال وشدة الأهوال ما لم يمر لهم ببال فأشبه حالهم حال المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من الخطب ويغلب حتى لا يستطيع التفوه ببنت شفة ويبقى جلمدا مبهوتا وقيل : المراد بالإسرار الإخلاص أي أخلصوا الندامة وذلك إما لأن إخفاءها إخلاصها وإما من قولهم : سر الشيء لخالصه الذي من شأنه أن يخفى ويصان ويضن به وفيه تهكم بهم : وقال أبو عبيدة والجبائي : إن الأسرار هنا بمعنى الإظهار وفي الصحاج أسررت الشيء كتمته وأعلنته أيضا وهو من الأضداد والوجهان جميعا يفسران في قوله تعالى : وأسروا الندامة وكذلك في قول إمرؤ القيس :
لو يسرون مقتلي
إنتهى وفي القاموس أيضا أسره كتمه وأظهره ضد وفيه إختلاف اللغويين فإن الأزهري منهم إدعى أن إستعمال أسر بمعنى أظهر غلط وأن المستعمل بذلك المعنى هو أشر بالشين المعجمة لا غير ولعله قد غلط في التغليط وعليه فالإظهار أيضا بإعتبار الآثار على ما يخفى
وجوز بعضهم أن يكون المراد بالإسرار الإخفاء إلا أن المراد من ضمير الجمع الرؤساء أي أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم وفيه أن ضمير أسروا عام لا قرينة على تخصيصه على أن هول الموقف أشد من يتفكر معه في أمثال ذلك وجملة أسروا مستأنفة علىالظاهر وقيل : حال بتقدير قد و لما على سائر الأوجه بمعنى حين منصوب بأسروا وجوز أن يكون للشرط والجواب محذوف على الصحيح لدلالة ما تقدم عليه أي لما رأوا العذاب أسروا الندامة وقضي أي حكم وفصل بينهم أي بين النفوس الظالمة بالقسط أي بالعدل وهم لا يظلمون 54 أصلا لأنه لا يفعل به إلا ما يقتضيه إ ستعدادهم وقيل : ضمير بالقسط أي بالعدل وهم لا يظلمون 45 أصلا لأنه لا يفعل بهم إلا ما يقتضيه إستعدادهم وقيل : بينهم للظالمين السابقين في قوله سبحانه : ولو أن كل نفس ظلمت والمظلمومين الذين ظلموهم وإن لم يجر لهم ذكر لكن الظلم يدل بمفهومه عليهم وتخصيص الظلم بالتعدي والمعنى وقعت الحكومة بين الظالمين والمظلومين وعومل كل منهما بما يليق به وأنت تعلم أن المقام لا يساعد
(11/137)

على ذلك لأنه أن لم يقتض حمل الظلم على أعظم أفراده وهو الشرك فلا أقل من أنه يقتضي حمله على ما يدخل ذلك فيه دخولا أوليا والظاهر أن جملة قضى مستأنفة وجوز أن تكون معطوفة على جملة رأوا فتكون داخلةفي حيز لما ألا إن لله ما في السموات والأرض أي إن له سبحانه لا لغيره تعالى ما وجد في هذه الأجرام العظيمة داخلا في حقيقتها أو خارجاعنها متمكنا فيها وكلمة ما لتغليب غير العقلاء على العقلاء وهو تذليل لما سبق وتأكيد وإستدلال عليه بأن يملك جميع الكائنات ولهالتصرف فيها قادر على ما ذكر وقيل : إنه متصل بقوله سبحانه : ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الارض لافتدت به كأنه بيان لعقدهم ما يفتدون به وعدم ملكهم شيئا حيث أفاد أن جميع ما في السموات والأرض ملكه لا ملك لأحد فيه سواه جل وعلا وليس بشيء وإن ذكره بعض الأجلة وإقتصر عليه الا أن وعد الله أي جميع ما وعد به كائنا ما كان فيندرج فيه العذاب الذي إستعجلوه وماذكر في أثناء بيان حاله إندراجا أوليا فالمصدر بمعنى إسم المفعول ويجوز أن يكون باقيا على معناه المصدري أي وعده سبحانه بجميع ما ذكر حق أي ثابت واقع لا محالة أو مطابق للواقع والظاهر أن حمل الوعد على العموم بحيث يندرج فيه العذاب المذكور والعقاب للعصاة أو الوعد بهما يستدعي إعتبار التغليب في الكلام وبعضهم حمل الوعد على ما وعد به صلى الله تعالى عليه وسلم من نصره وعقاب من لم يتبعه وقال : إن إعتبار التغليب توهم وليس بالتعين وإظهار الإسم الجليل مضمونها لتفخيم شأن الوعد والإشعار بعلة الحكم وتصدير الجملتين بحرفي التنبيه والتحقيق للتسجيل على تحقق مضمونها المقرر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه على وجوب إستحضاره والمحافظة عليه
وذكر الإمام في توجيه ذكر أداة التنبيه في الجملة الأولى أن أهل هذاالعالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيضيفون الأشياء إلى ملاكها الظاهرة المجازية ويقولون مثلا الدار لزيد والغلام لعمرو والسلطنة للخليفة والتصرف للوزير فكانوا مستغرقين في نوم الجهل والغفلة حيث يظنون صحة تلك الإضافات فلذلك زادهم سبحانه بقوله عن إسمه : ألا إن لله إلخ وإستناد جميع ذلك إليه جل شأنه بالملوكية لم ثبت من وجوب وجوده لذاته سبحانه وأن جميع ما سواه ممكن لذاته وأنالممكن لذاته مستند إلى الواجب لذاته إما إبتداء أو بواسطة وذلك يقتضي أن الكل مملوك له تعالى والكلام في ذكر الأداة في الجملةالثانية على هذا النمط لا يخلو عن تكلف والحق ما أشرنا إليه في وجه التصدير ووجه إتصال هذه الجملة بما تقدم ظاهر مما قررنا وللطبرسي في توجيه ذلك كلام ليس بشيء ولكن أكثرهم لسوء إستعدادتهم وقصورعقولهم وإستيلاء الغفلة عليهم لا يعلمون 55 فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون هو يحي ويميت في الدنيا من غير دخل لأحد في ذلك وهذا على ما يفهم من كلام البعض إستدلال على البعث والنشور على معنى أنه تعالى يفعل الإحياء والإماتة في الدنيا فهو قادر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا ولا يخفى أن ذكر القدرة إستطرادي لا دخل له في الإستدلال على ذلك والظاهر عندى أنه كالذي قبله تذييل لما سبق وإليه ترجعون 56 في الآخرة بالبعث والحشر ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمومنين 57 إلتفات ورجوع إلى
(11/138)

إستمالتهم نحو الحق وإستنزالهم إلى قبوله وإتباعه غب تحذيرهم من غوائل الضلال بما تلا عليهم من القوارع وإيذان بأن جميع ذلك مسوق لمصالحهم وهذا وجه الربط بما تقدم وقال أبو حبان في ذلك : أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو المتصف بهذه الأوصافوالأول أولى ولا يأباه عموم الخطاب كما هو الظاهر وإختاره الطبري خلافا لمن جعله خاصا بقريش والموعظة كالوعظ والعظة تذكير ما يلين القلب من الثواب والعقاب وقيل : زجر مقترن بتخويف والشفاء الدواء ويجمع على أشفية وجمع الجمع أشافي والهدى معلوم مما مر غير مرة والرحمة الإحسان أو إرادته أو صفة غيرهما لائقة بمن قامت به و من ربكم متعلق بجاء و من إبتدائية أو بمحذوف وقع صفة لموعظة و من يبعيضية والكلام على حذف مضاف أي موعظة من مواعظ ربكم و لما إما متعلق بما عنده واللام مقوية وأما متعلق بمحذوف وقع نعتا له وكذا يقال على ما قيل فيما بعد والمراد قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد والمنافع كاشف عن أحوال الأعمال حسناتها وسيآتها مرغب في الأولى ورادع عن الأخرى ومبين للمعارف الحقة المزيلة لأدواء الشكوك وسوء مزاج الإعتقاد وهاد إلى طريق الحق واليقين بالإرشاد إلى الإستدلال بالدلائل الآفاقية والأنفسية ورحمة للمؤمنين حيث نجوا به من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان وتخلصوا من دركات النيران وإرتقوا إلى درجات الجنان قال بعض المحققين : إن في ذلك إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها أحدها تهذيب الظاهر عن فعل ما لا ينبغي وغليه الإشارة بالموعظة بناء على أن فيها الزجر عن المعاصي وثانيها تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية وإليهالإشارة بشفاء لما في الصدور وثالثها تحلي النفس بالعقائد الحقة والاخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى ورابعها تجلي أنوار الرحم الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمالالظاهر والباطن لذلك وقال الإمام : الموعظة إشارة إلى تطهر ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة والشفاء إلى تطهر الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة والهدى إلى ظهور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة والرحمة إلى بلوغ الكمال والأشراق حتى يكمل غيره ويفيض عليه وهو النبوة والخلافة فهذه درجات لا يمكن فيها تقديم ولا تأخير ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا والذي يقتضيه الظاهر كون المذكورات أوصافا للقرآن بإعتبار كونه سببا وآلة لها وجعلت عينهمبالغة وبينها تلازم في الجملة والتنكير فيها للتفخيم والهداية أن أخذت بمعنى الدلالة مطلقا فعامة أو بمعنى الدلالة الموصولة فخاصة وحينئذ يكون للمؤمنين قيد الأمرين ويؤيد تقييد الهدى بذلك قوله سبحانه : هدى للمتقين فالقرآن واعظ لما فيه من الترهيب والترغيب أو بما فيه من الزجر عن المعاصي كيفما كانت المقترن بالتخويف فقط بناء على التفسير الثاني للموعظة وشاف لما في الصدور من الأدواء المفضية إلى الهلاك كالجهل والشك والشرك والنفاق وغيرها ومرشد ببيان ما يليق وما لا يلقيق إلى مافيه النجاة والفوز بالنعيم الدائم أو موصل إلى ذلك وسبب الرحمة للمؤمنين الذين آمنوا به وإمتثلوا من الأحكام وأما إذا إرتكب خلاف الظاهر فيقال غير ما قيل أيضا مما ستراه إن شاء الله تعالى في باب الإشارة وإستدل كما قال الجلال السيوطي بالآية على أن القرآن يشفي من الأمراض البدنية كما يشفي من الأمراض القلبية فقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى النبي صلى اللهألأآ عليه وسلم فقال :
(11/139)

إني أشتكي صدري فقال عليه الصلاة و السلام : إقرأ القرآن يقول الله تعالى شفاء لما في الصدور وأخرج البيهقي في الشعب عن وائلة بن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وجع حلقه فقال : عليك بقراءةالقرآن وأنت تعلم أن الإستدلال بها على ذلك مما لا يكاد يسلم والخبرالثاني لا يدل عليه إذ ليس فيه أكثر من أمره صلى الله تعالى عليه وسلم الشاكي بقراءةالقرآن إرشادا له إلى ما ينفعه ويزول به وجعه ونحن لا ننكر أن لقراءة القرآن بركة قد يذهب الله تعالى بسببها الأمراض والأوجاع وإنما نكرالإستدلال بالآية على ذلك والخبر الأول وإن كان ظاهرا في المقصود لكن ينبغي تأويله كأن يقال : لعله صلى الله تعالى عليه وسلم إطلع على أن في صدرالرجل مرضامعنويا قلبيا قد صار سببا للمرض الحسي البدني فأمره عليه الصلاة و السلام بقراءة القرآن ليزول عنه الأول فيزول الثاني ولا يستعبد كون بعض الأمراض القلبية قد يكون سببا لبعض الأمراض القالبية فإنا نرى أننحو الحسد والحقد قد يكون سببا لذلك ومن كلامهم لله تعالى در الحسدما أعدله بدأ بصاحبه فقتله : وهذا أولى من إخراج الكلام مخرج الأسلوب الحكيم
والحسن البصري ينكر كون القرآن شفاء للأمراض فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال : إن الله تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور ولم يجعله شفاء لأمراضكم والحق ما ذكرنا قل تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليأمر الناس بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم منالفضل والرحمة أي قل لهم بفضل الله وبرحمته متعلق بمحذوف وأصل الكلام ليفرحوا بفضل الله تعالى وبرحمته ثم قدم الجار والمجرورعلى الفعل لإفادة إختصاصه بالمجرور ثم أدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية فصار بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم جيء بقوله سبحانه : فبذلك فليفرحوا للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالةالثاني علي والفاء الأولى قيل جزائية والثانية زائدة للتأكيد والأصل إن فرحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخر ثم زيدت الفاء لماذكر ثم حذف الشرط وقيل : إن الأولى هي الزائدة لأن جواب الشرط فيالحقيقة فليفرحوا وبذلك مقدم من تأخير لما أشير إليه وزيدت فيه الفاء للتحسين ولذلك جوز أن يكون بدلا من قوله سبحانه : بفضل الله وبرحمته وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف متعلقه ونظير ذلك في الإختلاف في تعيين الزائد فيه قول النمر بن تولب : لا تجزعي إن منفسا أهلكته فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي ومن غريب العربية ما أشار إليه بعضهم أن الآية من باب الإشتغال وقدأقيم إسم الإشارة مقام ضمير المعمول وتوحيده بإعتبار ما ذكر ونحوه كماهو شائع فيه ووجه غرابته أن المعروف في شرط الباب إشتغال العاملبضمير المعمول ولم يذكر أحد من النحاة إشتغاله بإسم الإشارة إليه وجوز أن يقدر متعلق الجار والمجرور فليعتنوا أي بفضل الله ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا والقرينة على تقدير ذلك أن ما يفرح به يكون مما يعتني ويهتم بشأنه أو تقديم الجار والمجرور على ما قيل وقال الحلبي : الدلالة عليه من السياق واضحة وليس شرط الدلالة أن تكونلفظية فقول أبي حيان : إن ذلك إضمار لا دليل عليه مما لا وجه له وأن يقدر جاءتكم بعد قل مدلولا عليه بما قبل أي قل جاءتكم موعظةوشفاء وهدى ورحمة بفضل الله وبرحمته ولا يجوز تعلقه بجاءتكم المذكورلأن قل تمنع من ذلك وذلك على إشارة إلى المصدر المفهوم من
(11/140)

الفعل وهو المجيء أي فبمجيء المذكورات فليفرحوا وتكرير الباء في برحمته على سائر الأوجه للإيذان بإستقلالها في إستيجاب الفرح والمرادبالفضل والرحمة إما الجنس ويدخل فيه ما في مجيء القرآن من الفضل والرحمة دخولا أوليا وإما ما في مجيئه من ذلك ويؤيده ما روي عن مجاهدأن المراد بالفضل والرحمة القرآن
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال قال : رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله وروي ذلك عن البراء وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما موقوفا وجاء عن جمع جم أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور وأخرج أبو الشيخ عنابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج الخطيب وابن عساكر عنه تفسير الفضل بالنبي عليه الصلاةوالسلام والرحمة بعلي كرم الله تعالى وجهه والمشهور وصف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالرحمة كما يرشد إليه قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين دون الأمير كرم الله تعالى وجهه وإن كان رحمة جليلة رضي الله تعالىعنه وأرضاه وقيل : المراد بهما الجنة والنجاة من النار غيرالأولى كما لا يخفى وروى رويس عن يعقوب أنه قرأ فلتفرحوا بتاء الخطاب ولام الأمر على أصل المخاطب المتروك بناء على القول بأن أصل صيغة الأمر الأمر باللام فحذفت مع تاء المضارعة وأجتلبت همزة الوصلللتوصل إلى الإبتداء بالساكن لا على القول بأنها صيغة أصلية وقدوردت هذه القراءة في حديث صحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أخرجه جماعة منهم أبو داود وأحمد والبيهقي من طرق عن أبي ابن كعب رضي الله تعالىعنه مرفوعا وقرأ بها أيضا ابن عباس وقتادة وغيرهما وفي تعليقات الزمخشري على كشافه كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما آثر القراءة بالأصل لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تصريحا به إيذانا بأن الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته بليغ التوصية به ليطابق التقرير والتكرير وتضمين معنى الشرط لذلك ونظيره مما إنقلب فيه ما ليس بفصيح فصيحا قوله سبحانه : ولم يكن له كفوا أحد من تقديم الظرف اللغو ليكون الغرض إختصاص التوحيد إنتهى وهو مأخوذ من كلام ابن جني في توجيه ذلك ونقل عن شرح اللب في توجيهه أنه لما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مبعوثا إلى الحاضروالغائب جمع بين اللام والتاء قيل : وكأنه عنى أن الأمر لما كان لجملة المؤمنين حاضرهم وغائبهم غلب الحاضرون في الخطاب على الغائبين وأتى باللام رعاية لأمر الغائبين وهي نكتة بديعة إلا أنه أمر محتمل وما نقل عن صاحب الكشاف أولىبالقبول
وقريء فافرحوا وهي تؤيد القراءة السابقة لأنها أمر المخطاب على الأصل وقريء فليفرحوا بكسر اللام هو خير مما يجمعون 58 من الأموال والحرث والأنعام وسائر حطام الدنيا فإنها صائرة إلى الزوال مشرفة عليه وهو راجع إلى لفظ ذلك بإعتبار مدلوله وهو مفرد فروع يلفظه وإن كان عبارة عن الفضل والرحمة
ويجوز إرجاع الضمير إليهما إبتداء بتأويل المذكور كما فعل في ذلك أو جعلهما في حكم شيء واحد ولك أن تجعله راجعا إلى المصدر أعني المجيء الذي أشير إليه و ما تحتمل الموصولية والمصدرية وقرأ ابن عامر تجمعون بالخطاب لمن خوطب بياأيها الناس سواء كان عاما أوخاصا بكفار قريش وضمير فليفرحوا للمؤمنين أي فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خبر مما تجمعون أيها المخاطبون وعلى قراءة فلتفرحوا وافرحوا
(11/141)

يكون الخطاب على ما قيل للمؤمنين وجوز أن يكون لهم على قراءة الغيبة أيضا لتفاتا وتعقب بأن الجمع أنسب بغيرهم وإن صح وصفهم بهفي الجملة فلا ينبغي أن يلتزم القول بما يستلزمه ما دام مندوحة عنه
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق أي ما قدر لإنتفاعكم من ذلك وإلافالرزق ليس كله منزلا وإستعمال أنزل فيما ذكر مجاز من إطلاق المسبب على السبب وجوز الإسناد مجازيا بأن أسند الإنزال إلى الرزق لأن سببه كالمطر منزل وقيل : إن هناك إستعارة مكنية تخيلية وهو بعيد وجعل الرزق مجازا عن سببه أو تقدير لفظ سبب مما لا ينبغي و ما إما موصولةفي موضع النصب على أنها مفعول أول لأرأيتم والعائد محذوف أي أنزله والمفعول الثاني ما ستراه إن شاء الله تعالى قريبا و ما إستفهامية في موضع النصب على أنه مفعول أنزل وقدم عليه لصدارته وهو معلق لما قبله إن قلنا بالتعليق فيه أي أي شيء أنزل الله تعالىمن رزق فجعلتم منه حراما وحلالا أي فبعضتموه وقسمتموه إلى حراموحلال وقلتم هذه انعام وحرث حجر و مافي بطون هذه الاتعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا إلى غير ذاك
قل ءالله أذن لكم في جعل البعض منه حراما والبعض الآخر حلالا أم على الله تفترون 59 أم والهمزة متعادلتان والجملة فيموضع المفعول الثاني لأرأيتم و قل مكرر للتأكيد فلايمنع من ذلك والعائد على المفعول الأول مقدر والمعنى أرأيتم الذيأنزله الله تعالى لكم من رزق ففعلتم فيه ما فعلتم أي الأمرين كائن فيه الإذن فيه من الله تعالى بجعله قسمين أم الإفتراء منكم وكان أصل آلله أذن لكم إلخ آلله أذن أم غيره فعدل إلى ما في النظم الجلي لدلالة على أن الثابت هو الشق الثاني وهم نسبوا ذلك إليه سبحانه فهم مفترون عليه جل شأنه لا على غيره زجر عظيم كما لا يخفى ولعل هذا مراد من قال : إن الإستفهام للإستخبار ولم يقصد به حقيقته لينا في تحقق العلم بإنتفاء الإذن وثبوت الإفتراء بل قصد به التقرير والوعيد وإلزام الحجة
وجوز أن يكون الإستفهام لإنكار الإذن وتكون أم منقطعة بمعنى بلالإضرابية والمقصود الإضراب عن ذلك لتقرير إفترائهم والجملة علىهذا معمولة للقول وليست متعلقة بأرأيتم وهو قد إكتفى بالجملةالأولى كما أشرنا إليه ومن الناس من جوز كون أم متصلة وكونها منفصلة على تقرير تعلق الجملة بفعل القول وأوجب الإتصال على تقدير تعلقها بأرأيتم وجعل الإسم الجليل مبتدأ مخبرا عنه بالجملةللتخصيص عند بعض ولتقوية الحكم عند آخر والإظهار بعد في مقامالإضمار للإيذان بكمال قبح إفترائهم وتقديم الجار والمجرور للقصرمطلقا في رأى ولمراعاة الفواصل على الوجه الأول وللقصر على الوجه الثاني في آخر
وإستدل المعتزلة بالآية على أن الحرام ليس برزق ولا دليل لهم فيها على ما ذكرناه لأن المقدر للإنتفاع هو الحلال فيكون المذكور هنا قسما من الرزق وهو شامل للحلال والحرام والكفرة إنما أخطأوا في جعل بعض الحلالحراما ومن جعل أهل السنة نظيرا لهم في جعلهم الرزق مطلقا منقسماإلى قسمين فقد أعظم الفرية وما ظن الذين يفترون على الله الكذب كلام مسوق من جهته تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به والتعبير عنهم بالموصول لقطع إحتمال الشق الأول منالترديد والتسجيل عليهم بالإفتراء وزيادة الكذب مع أن الإفتراء لا يكون إلا كذلك لإظهار
(11/142)

لإظهار كمال قبح ما إفتعلوا وكونه كذبا في إعتقادهم أيضا و ما إستفهامية مبتدأ و ظن خبرها هو مصدر مضاف إلى فاعله ومفعولاه محذوفان
وقوله سبحانه : يوم القيامة ظرف لنفس الظن لا يفترون لعدم صحته معنى ولا بمقدر لأن القتدير خلاف الظاهر أي أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أني فاعل بهم والمقصود التهديد والوعيد ويدل على تعلقه بالظن قراءة عيسى ابن عمر وما ظن بصيغة الماضي و ما في هذه القراءة بمعنى الظن في محل نصب على المصدرية والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بذلك في القرآن لما ذكر والعمل في الظرف المستقبل لا يمنع لتصييره الفعل نصا في الإستقبال التجوزالمذكور لأنه يقدر لتحققه أيضا ماضيا وقيل : الظرف متعلق بما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلا له ولما يقع فيه من الأهوال لمكان وضوح أمره في التحقق والتقرر منزلة المسلمعندهم أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن إفترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاء يسيرا ولذلك ما يفعلون يفعلون كلا إنهم لفي أشدالعذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي والآية السابقة قيل متصلة بقولهسبحانه : قل من يرزقكم من السماء والأرض إلخ كأنه قيل : حيث أقروا أنه سبحانه الرزاق قل لهم أرأيتم ما أنزل الله إلخ ونقل ذلك عن أبي مسلم وقيل : بقوله تعالى : يا أيها الناس إلخ وذلك أنه جل شأنهلما وصف القرآن بما وصفه وأمر نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرغب بإغتنام ما فيه عقبذلك بذكر مخالفتهم لما جاء به وتحريمهم ما أحل وقيل : إنها متصلةبالآيات الناعية عليهم سوء إعتقادهم كأنه سبحانه بعد أن نعى عليهم أصولهم بين بطلان فروعهم ولعل خير الثلاثة وسطها
إن الله لذو فضل أي عظيم لا يقدر ولا يكتنه كنهه على الناس جميعا حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبين لهم ما لا تستقل عقولهم بإدراكه وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد ورغبهم ورهبهم وشرح لهم الأحوال وما يلقاه الحائد عن الرشادمن الأهوال
ولكن أكثرهم لا يشكرون 60 ذلك الفضل فلا ينتفعون به ولعل الجملةتذييل لما سبق مقرر لمضمونه وما تكون في شأن أي في أمر معتنى به من شأنه بالهمز كسأله إذا قصده وقد تبدل همزته ألفا وهو في الأصلمصدر وقد أريد المفعول وما تتلوا منه الضمير المجرور للشأن والتلاوة أعظم شؤونه صلى الله عليه و سلم ولذا خصت بالذكر أو للتنزيل والإضمار قبلالذكر لتفخيم شأنه عز و جل و من قيل تبعيضية على الإحتمالين الأولين وإبتدائية على الثالث والتي في قوله سبحانه : من قرءان زائدة لتأكيد النفي على جميع التقادير وإلى ذلك ذهب القطب وقال الطيبي : إن من الأولى على الإحتمال الأخير إبتدائية والثانية مزيدة وعلى الإحتمال الأول الأولى للتبعيض والثانية للبيان وعلى الثاني الأولى إبتدائية والثانية للبيان
وفي إرشاد العقل السليم أن الضمير الأول للشأن والظرف صفة لمصدرمحذوف أي تلاوة كائنة من الشأن أو للتنزيل و من إبتدائية وتبعيضيةأو لله تعالى شأنه و من إبتدائية و من الثانية مزيدة وإبتدائية على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضية على الوجه الثاني والثالث وأنت تعلم أنه قد يكون الظرف متعلقا بما عنده وإلتزام تعلقه بمحذوف وقعصفة لمصدر كذلك في جميع الإحتمالات مما لا حاجة إليه نعم اللازم بناءعلى المشهور أن لا يتعلق حرفان بمعنى بمتعلق
(11/143)

واحد وذهب أبو البقاء إلى أن الضمير الأول للشأن و من الأولى للأجلكما في قوله سبحانه : مما خطيئاتهم أغرقوا و من الثانية مزيدةوما بعدها مفعول به لتتلو وله وجه ومما يقضي منه العجب ما قاله بعضهم إنه يحتمل أن يكون ضمير منه للشأن إما على تقدير ما تتلوا حالكون القراءة بعض شؤنك وإما أن يحمل الكلام على حذف المضاف أيوما تتلوا من أجل الشأن بأن يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله فإن الحالية مما لا تكاد تخطر ببال من له أدنى ذوق في العربية ولم نر القول بتقدير مضاف في الكلام إذا كان فيه من الأجلية أو نحوها وما في كلام غير واحد من الأفاضل في أمثال ذلك تقدير معنى لا تقديرإعراب ويبعد حمل هذا البعض على ذلك كما لا يخفى هذا ثم إن القرآن عام للمقروء كلا وبعضا وهو حقيقة في كل كما حقق في موضعه والقول بأنه مجاز في البعض بإطلاق الكل وإرادة الجزء مما لا يلتفت إليه ولاتعملون من عمل أي أي عمل كان والخطاب الأول خاص برأس النوعالإنساني وسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم وهذا عام ويشمل سائر العباد برهموفاجرهم لا الأخيرين فقط وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به فعبرفي مقام الخصوص في الأول بالشأن لأن عمل العظيم عظيم وفي الثاني بالعمل العام للجليل والحقير وقيل : الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما في قوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء إلا كنا عليكمشهودا إستثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له كذا قالوا ويفهم منه أن الجار والمجرور متعلق بما بعده ولعل تقديمه للإهتمام بتخويف من أريد تخويفه من المخاطبين وكأنه للمبالغة فيه جيء بضمير العظمة وأن المقصود من الإطلاع عليهم الإطلاع على عملهم إذ تفيضون فيه أي تشرعون فيه وتتلبسون به وأصل الإفاضة الإندفاع بكثرة أو بقوة وحيث أريد بالأفعال السابقةالحالةالمستمرة الدائمة المقارنة للزمان الماضي أيضا أوثر في الإستثناءصيغة الماضي وفي الظرف كلمة إذا التي تفيد المضارع معنى الماضي كذا قيل ولم أر من تعرض لبيان وجه إختيار النفي بما التي تخلص المضارع للحال عند الجمهور عند إنتفاء قرينة خلافه في الجملتين الأوليين والنفي بلا التي تخلص المضارع للإستقبال عند الأكثرين خلافالإبن مالك في الجملة الثالثة ولعل ذلك من آثار إختلاف الخطاب خصوصاوعموما فتأمله فإنه دقيق جدا وما يعزب عن ربك أي ما يبعد ومايغيب ومنه يقال : الروض العازب وروض عزيب إذا كان بعيدا من الناس والكلام على حذف مضاف أي وما يعزب عن علم ربك عز و جل أو هو كنايةعن ذلك وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه و سلم من الإشعار باللطف ما لا ي 4 خفى
وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب بكسر الزاي من مثقال ذرة من مزيدة لتأكيد النفي والمثقال إسم لما يوازن الشيء ويكون فيثقله وهو في الشرع أربعة وعشرون قيراطا وأخرج ذلك ابن أبي حاتم فيتفسيره عن أبي جعفر والصحيح أنه لم يختلف جاهلية وإسلاما فقد نقل الجلال السيوطي عن الرافعي أنه قال : أجمع أهل العصر الأول علىالتقدير بهذا الوزن وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإسلام والذرة واحدةالذر وهو النمل الأحمر الصغير وسئل
(11/144)

ثعلب عنها فقال : إن مائة نملة وزن حبة والذرة واحدة منها وقيل : الذرة ليس لها وزن ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة في الأرض ولا في السماء أي في جهتي السفل والعلو أو في دائرةالوجود والإمكان لأن العامة لا تعرف سواهما ممكنا ليس فيهما ولا متعلقابهما والكلام شامل لهما أنفسهما أيضا كما لا يخفى وتقديم الأرض على السماء مع أنها قدمت عليها في كثير من المواضع ووقعت أيضا في سبأ فينظير هذه الآية مقدمة لأن الكلام في حال أهلها والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه سبحانه بتفاصيلها وذكر السماء لئلا يتوهم إختصاص إحاطة علمه جل وعلا بشيء دون شيء وحاصل الإستدلال أنه سبحانه لا يغيبعنه شيء ومن يكون هذا شأنه كيف لا يعلم حال أهل الأرض وما هم عليه مع نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله سبحانه : ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين 61 جملة مستقلة ليست معطوفة على ما قبلها و لا نافية للجنس و أصغر إسمها منصوب لشبهه بالمضاف وكذا أكبر لتقدير عمله وقول السمين : إنهما مبنيان على الفتح ضعيف وهو مذهب البغداديين وزعم أنه سبق قلم متأخر عن حيز القبول و في كتاب متعلق بمحذوف وقعخبرا
وقرأ حمزة ويعقوب وخلف وسهل بالرفع على الإبتداء والخبر و لا يجوز الغاؤها إذا تكررت وأما قولهم : إن الشبيه بالمضاف يجب نصبه فالمراد منه المنع من البناء لا المنع من الرفع والإلغاء كماتوهمه بعضهم وجوز أن يكون ذلك على جعل لا عاملة عمل ليس وقيل : إن أصغر على القراءة الأولى عطف على مثقال أو ذرة بإعتباراللفظ وجيء بدلا عن الكسر لأنه لا ينصرف للوصف ووزن الفعل وعلى القراءة الأخرى معطوف على مثقال بإعتبار محله لأنه فاعل و من كماعرفت مزيد وإستشكل بأنه يصير التقدير ولا يعزب عنه أصغر من ذلك ولا أكبر منه إلا في كتاب فيعزب عنه ومعناه غير صحيح وأجيب بأن هذا على تقدير إتصال الإستثناء وأما على تقدير إنقطاعه فيصير التقدير لكن لاأصغر ولا أكبر إلا هو في كتاب مبين وهو مؤكد لقوله سبحانه : لا يعزب عنه إلخ وأجاب بعضهم على تقدير الإتصال بأنه على حد لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف فيرأي فالمعنى لا يبعد عن علمه شيء إلا ما في اللوح الذي هو محل صور معلوماته تعالى شأنه بناء على تفسير الكتاب المبين به أو إلا ما في علمه بناء على ما قيل : إن الكتاب العلم فإن عد ذلك من العزوب فهو عازب عن علمه وظاهر أنه ليس من العزوب قطعا فلا يعزب عن علمه شيء قطعا ونقلعن بعض المحققين في دفع الإشكال أن العزوب عبارة عن مطلق البعد والمخلوقات قسمان قسم أوجده الله تعالى من غير واسطة كالأرض والسماء والملائكة عليهم السلام وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث في العالم وقد تتباعد سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجبالوجود سبحانه فالمعنى لا يبعد عن مرتبة وحوده تعالى ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه سبحانه تلك المعلومات فهو إستثناء مفرغ من أعم الأحوال وإثبات العزوب بمعنى البعد عنه تعالى في سلسلة الإيجاد لا محذور فيه وهو وجه دقيق إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء وإن خالف ما هم عليه في الجملة
وقال الكواشي : معنى يعزب يبين وينفصل أي لا يصدر عن ربك شيء منخلقه إلا وهو في اللوح وتلخيصه
(11/145)

أن كل شيء مكتوب فيه وإعترض بأن تفسيره بيبين وينفصل غير معروف وقيل : المراد بالبعد عن الرب سبحانه البعد والخروج عن غيبه أي لا يخرج عن غيبه إلا ما كان في اللوح فيعزب عن الغيب ويبعد إذ لا يبقى ذلك غيبا حينئذ لإطلاع الملائكة عليهم السلام وغيرهم عليه فيفيد إحاطة علمه سبحانه بالغيب والشهادة
ومن هنا يظهر وجه آخر لتقديم الأرض على السماء وقيل : إن إلا عاطفة بمنزلة الواو كما قال بذلك الفراء في قوله تعالى : لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم والأخفش في قوله سبحانه : لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم وقوم في قوله جل شأنه : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وهو مقدر بعدها والكلام قد تم عند قوله سبحانه : ولا أكبر ثم إبتدأ بقوله تعالى : إلا في كتاب أي وهوفي كتاب ونقل ذلك مكي عن أبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني ثم قال : وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون إلا بمعنى الواو والإنصاف أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز على ذلك ولو إجتمع الخلق إنسهم وجنهم على مجيء إلا بمعنى الواو وقيل : إن الإستثناء منمحذوف دل عليه الكلام السابق أي ولا شيء إلا في كتاب ونظيره ما فرطنافي الكتاب من شيء ويكون من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى في كلمعلوم وإن كل شيء مكتوب في الكتاب ويشهد لهذا على ما قيل كثير من أساليب كلام العرب ونقل عن صاحب كتاب تبصرة المتذكر أه يجوزو أن يكون الإستثناء متصلا بما قبل قوله تعالى : ولا يعزب ويكون في الآية تقديم وتأخير وترتيبها وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعلمون من عمل إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه إلى ولا أكبر وتخليصه وما من شيء إلا وهو في اللوح المحفوظ ونحن نشاهده في كل آن ونظر فيه البلقيني في رسالته المسماة بالإستغناء بالفتح المبين في الإستثناء في ولا أكبر إلا في كتاب مبين بأنه على ما فيه من التكلف يلزم عليه القول بتركيب في الكلام المجيد لم يوجد في كلام العرب مثله أعني إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودا وليس ذلك نظير
أمر ربهم إلا الفتى إلا العلا
كما لا يخفى
وأنت تعلم أن أقل الأقوال تكلفا القول بالإنقطاع وأجلها قدراوأدقها سرا القول بالإتصال وإخراج الكلام مخرج إلا ما قد سلف ونظائره الكثيرة نثرا ونظما ولا عيب فيه إلا أن الآية عليه أبلغ فليفهم ثم إنه تعالى لما عمم وعده ووعيده في حق كافة من أطاع وعصى أتبعه سبحانه بشرح أحوال أوليائه تعالى المخلصين فقال عز من قائل : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون 62 وفي إرشاد العقل السليم أنه بيان على وجه التبشير والوعد لما هو نتيجة لأعمال المؤمنين وغاية لما ذكر قبله من كونه سبحانه مهيمنا على نبيه صلى الله عليه و سلم وأمته في كلما يأتون ويذرون وأحاطه علمه جل وعلا بعد ما أشير إلى فظاعة حال المفترين على الله تعالى يوم القيامة وما سيعتريهم من الهول إشارةإجمالية على طريق التهديد والوعيد وصدرت الجملة بحرف التنبيه والتحقيق لزيادة تقرير مضمونها والأولياء جمع ولي من الولي بمعنى القرب والدنو يقال : تباعد بعد ولي أي قرب والمراد بهم خلص المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه كما يفصح عنه تفسيرهعم الآتي ويفسر الولي بالمحب وبين المعنيين تلازم وسيأتي تمام الكلام على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى وجاء بمعنى النصير ويشير كلام البعض إلى صحة إعتبار هذا المعنى هنا والمراد من الجملتين المنفيتين المتعاطفتين دوام إنتفاء مدلولهما كما مر تحقيقه غير مرة قيل : والمعنى لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مطلوب في جميع الأوقات أي لا يعتريهم
(11/146)

ما يوجب ذلك أصلا لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لايعتريهم خوف وحزن أصلا بل يستمرون على النشاط والسرور وكيف لاوإستعشعار الخوف إستعطاما لجلال الله تعالى وإستقصارا للجد والسعي فيإقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين بل كلما إزداد العبد قربا من ربه سبحانه إزداد خوفا وخشية منه سبحانه ويرشد إلى ذلك غير ما خبر وقوله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء وإنما لايعتريهم ذلك لأن مقصدهم ليس إلا الله تعالى ونيل رضوانه المستتبع للكرامة والزلفى وذلك مما لا ريب في حصوله ولا إحتمال لفواته بموجب الوعد الإلهي وأما ما عدا ذلك من الأمور الدنيوية المترددة بين الحصول والفوات فهي عندهم أحقر من ذبالة عند الحجاج بل الدنيا بأسرها في أعينهم أقذر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد محذومفهيهات أن تنتظم في سلك مقصدهم وجودا وعدما حتى يخافوا من حصول ضارها أو يحزنوا من فوات نافعها وقيل : المراد بإنتفاء الخوف والحزن أمنهم من ذلك يوم القيامة بعدتحقق ما لهم من القرب والسعادة وإلا فالخوف والحزن يعرضان لهم قبل ذلك سواء كان سببهما دنيويا أو أخرويا ولا يجوز أن يراد أمنهم مما ذكر في الدنيا أو فيما يعمها والآخرة لأن في ذلك أمنا من مكر الله تعالى ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وهذا مبني على أن الخوف المنفي مسند إليهم وليس بالمتعين فقد ذهب بعض الجلة إلى أنه مسند إلى غيرهم أي غيرهم لا يخاف عليهم ولا يلزم من ذلك أنهم لا يخافون ليجيء حديث لزوم الأمن وجعل ذلك نكتة إختلاف أسلوب الجملتين والعدول عن لاهميخافون الأنسب بلادهم يحزنون إلى ما في النظم الجليل وقد يقال : إذا كان المراد أنهم لا يعتريهم ما يوجب الخوف والحزن لا يبقى لحديث لزوم الأمن من مكر الله تعالى مجال على ما لا يخفى على المتدبر لكن لا يظهرعليه نكتة إختلاف أسلوب الجملتين وكونها إختلاف شأن الخوف والحزنبشيوع وصف الأخير بعدم الثبات كما قيل
فلا حزن يدوم ولا سرور
دونالأول ولذا ناسب أن يعبر بالإسم في الأول وبالفعل المفيد للحدوثوالتجدد في الثاني كما ترى
وقيل : إن المراد نفي إستيلاء الخوف عليهم ونفي الحزن أصلا ومفاد ذلك إتصافهم بالخوف في الجملة ففيه إشارة إلى أنهم بين الرجاء والخوف غير آيسين ولا آمنين ولهذا لم يؤت بالجملتين على طرز واحد وكذا لم يقل لا خوف لهم مثلا والأوجه عندي ما نقل عن بعض الجلة من أن معنى لا خوف عليهم لا يخاف عليهم غيرهم ويجعل الجملة الأولى عليه كناية عن حسن حالهم وأنت في الجملة الثانية بالخيار والخوف على ما قال الراغب توقع المكروه وضده الأمن والحزن من الحزن بالفتح وهو خشونةفي النفس لما يحصل من الغم ويضاده الفرح وعلى هذا قالوا في بيان المعنى لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولاهم يحزنون من فوات مأمول الذين آمنوا أي بكل ما جاء من عند الله تعالى وكانوا يتقون 63 عما يحق الإتقاء منه من الأفعال والتروك إتقاء دائما حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل والموصولفي محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة إستئناف بياني كأنه قيل : من أولئك وما سبب فوزهم بما أشار إليه الكلام السابق فقيل : هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خيرالمجنبين عن كل شر ولك أن تقصر في السؤال على من أولئك فيكون ذلك بيانا وتفسيرا للمراد من الأولياء فقط وعلى هذا مع الإشارة إلى ما به نالوا مالوا وقيل : محله النصب أو الرفع على المدح أو علىأنه وصف للأولياء ورد بأن الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر وقد
(11/147)

أباه النحاة نعم جوزه الحفيد وجوز فيه البدلية أيضا والمرادمن التقوى عند جمع المرتبة الثالثة منها وهي التقوى المأمور بها في قوله تعالى : إتقوا الله حق تقاته وفسرت بتنزه الإنسان عن كل مايشغل سره عن الحق والتبتل إليه بالكلية وبذلك يحصل الشهودوالحضور والقرب الذي يدور إطلاق الإسم عليه وهكذا كان حال من دخلمعه صلى الله عليه و سلم تحت الخطاب بقوله سبحانه وتعالى : ولا تعملون من عمل إلخ خلا أن لهم في شأن التبتل والتنزه درجات متفاوتة حسبما درجات تفاوت إستعداداتهم وأقصى الدرجات ماإنتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاةوالسلام حتى جمعوا بذلك بين رياسة النبوة والولاية ولم يعقهم التعلقبعالم الأشباح عن الإستغراق في عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن التبتل إلى جناب الحق سبحانه عز و جل لكمال إستعداد نفوسهمالزكية المؤيدة بالقوة القدسية كذا قيل وفي كون حال كل من دخل معه صلى الله عليه و سلم تحت الخطاب مرادا به جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما أشار إليه من التقوى الحقيقية المأمور بها في الآية التي بها يحصل الشهود والحضور والقرب بحث وقصارى ما تحقق بعد نزاع طويل ذكرناه في جوابنالسؤال أهل لاهور أن الصحابة كلهم عدول من لابس منهم الفتنة ومن لميلابسها ودعوى أن العدالة تستلزم الولاية بالمعنى السابق إن تمت تمالمقصود وإلا فلا والآية ظاهرة في أن الأولياء هم المؤمنون المتقون وأقل ما يكفي في إطلاق الولي التقرب إليه سبحانه بالفرائض من إمتثالالأوامر وإجتناب الزواجر والأكمل التقرب إليه جل شأنه بكل ما يمكن من القرب وفي المبين المعين الولي هو من يتولى الله تعالى بذاته أمره فلا تصرف له أصلا إذ لا وجود له ولا ذات ولا فعل ولا وصف والتركيب يدل على القرب فكأنه قريب منه عز و جل لإستدامة عباداته وإستقامة طاعاتهأو لإستغراقه في بحر معرفته ومشاهدة طلعة عظمته إنتهى وفيه القول بأن الولى فعيل بمعنى مفعول وجوز أن يكون بمعنى فاعل وفسر بأنهمن يتولى عبادة الله تعالى وطاعته على التوالي من غير تخلل معصية وعن القشيري أن كلا الوصفين تولى الله تعالى أمره وتولية عبادة الله تعالى وطاعته شرط في الولاية غير أن الوصف الأول غالب على المجذوب المراد والثاني على السالك المريد ولا يخفى أن هذا الكلام وكذاما قبله يدل على أن تخلل المعصية مناف للولاية وهو الذي يشير إليه كلامغير واحد من الفضلاء وليس في ذلك قول بالعصمة التي لم يثبتهاالجماعة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل قصارى ما فيه القول بالحفظ وقد قيل : الأولياء محفوظون وفسر بعدم صدور الذنب مع إمكانه والقيد لإخراج العصمة
نعم جاءت العصمة بمعنى الحفظ المفسر بما ذكر وعلى ذلك خرج قولصاحب حزب البحر اللهم إعصمني في الحركات والسكنات لأن الدعاء بما هومن خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز كالدعاء بسائر المستحيلات كماحقق في محله وأطلق بعضهم القول بأن تخلل ذلك غير مناف إحتجاجا بماحكي عن الجنيد قدس سره أنه سئل هل يزني العارف فقال : نعم وكان أمر الله قدرا مقدورا وتعقب بأنه محمول على الإمكان سؤالا وجوابا ولا كلام فيه وإنما الكلام في أن الوقوع مناف أو غير مناف وقال بعضهم : لا شبهة في عدم بقاء وصف الولاية حال التلبس بالمعصية إذ لا تقوى حينئذ بالإجماع ومدار هذا الوصف عليها وكذا على الإيمان وهو غير كامل إذ ذاك عند أهل الحق وغير متحقق أصلا بل المتحقق الفسق المعنى بالواسطة أو الكفر عند خرين وكذا لا شبهة في عدم منافاة وقوع المعصية الإتصاف بالولاية بعده بأن يعود من إبتلى بذلك إلى قوى الله تعالى ويتصف بما تتوقف الولاية عليه وهو نظير من يتصف بالإيمان أو بالعدالة مثلا بعد أن لم
(11/148)

يكن متصفا بذلك بقي الكلام في منافاة الوقوع الاتصاف قبل فان قيل : إنه مناف له بمعنى أنه لذلك لم يكن متصفا قبل بما هو إيمان وتقوى عند الناس فلا شبهة أيضا في عدم المنافاة بهذا المعنى وهو ظاهر وإن قيل : إنه مناف له بمعنى أنه لم يكن لذلك متصفا بما ذكر عند الله تعالى بناء على أن المراد بالتقوى التي هي شرط الولى التقوى الكاملة التي يترتب عليها حب الله تعالى المترتب عليه الحفظ كما أشير اليه فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ص 9 ان الله تعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وماتقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها الحديث
وقد قال غير واحد في معنى الشرطية فاذا أحببته كنت حافظا حواسه وجوارحه فلا يسمع ولا يبصر ولا يأخذ ولا يمشي إلا فيما أرضى وأحب وينقلع عن الشهوات ويستغرق في الطاعات وقريب منه قول الخطابي : المراد من ذلك توفيقه في الاعمال التي يباشرها بهذه الاعضاء يعني ييسره عليه فيها سبيل مايحبه ويعصمه عن موافقة مايكرهه من إصغاء إلى لهو يسمعه ونظر إلى مانهى عنه ببصره وبطش بما لايحل بيده وسعى في باطل برجله وكذا قول بعضهم المعنى أجعل سلطان حبي غالبا عليه حتى أسلب عنه الاهتمام بشيء غير مايقربه إلي فيصير متخليا عن اللذات متجنبا عن الشهوات متى ما يتقلب وأينما يتوجه لقى الله تعالى بمرأى فيه ومسمع منه ويأخذ حب الله تعالى مجامع قلبه فلا يسمع ولا يرى ولا يفعل إلا مايحبه ويكون له في ذلك عونا ومويدا ووكيلا يحمى جوارحه وحواسهفله وجه لأنه إذا وقعت المعصية يعلم أنه لم يكن محفوظا وبه يعلم أنه لم يكن محبوبا وبذلك يعلم أنه لم يكن متقربا اليه تعالى شأنه ومتقيا إياه تقاته وان ظنه الناس كذلك فهو ليس من اوليائه سبحانه في نفس الامر نعم من اتصف بصفات الأولياء ظاهرا يجب تعظيمه واحترمه والتأدب معه والكف عن إيذائه بشيء من أنواع الايذاء التي لامسوغ لها شرعا كالانكار عليه عنادا أو حسدا دون المنازعة في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض ونحو ذلك لما دل عليه الحديث السابق المشتمل من تهديد المؤذى على الغاية القصوى والحكم على من ذكره لولاية إذ لم يكن هناك نص من معصوم على مايدل على تحققها في نفس الامر إنما هو بالنظر إلى الظاهر لا إلى ماعند الله تعالى لما أن من الذنوب مالايمكن أن يطلع عليه إلا علام الغيوب ومنها الذنوب القلبية التي هي أدواء قاتلة وسموم ناقعة مع ان الأعمال بخواتيمها وهي مجهولة إلا للمبدىء المعيد جل جلاله هذا وهو تحقيق يلوح عليه مخايل القبول ومن الناس من قسم الولاية إلى صغرى قد يقع فيها الذنب على الندرة لكن يبادر للتنصل منه فورا وعد العلامة ابن حجر عليه الرحمة من وقع منه الذنب كذلك فبادر للتنصل منه محفوظا فالوقوع عنده على المندرة مع المبادرة للتنصل لا ينافي الحفظ وإنما ينافيه تكرر الوقوع وكثرته وكذا ندرته مع عدم المبادرة للتنصل وكبرى لا يقع فيها الذنب أصلا مع إمكان الوقوع ولو قيل أو مع استحالته كما في ولاية الأنبياء عليهم السلام وادعى ان ذلك من خصوصيات ولا يتهم فيكون الحفظ أعم من العصمة لم يبعد وأنت تعلم أن قولهم الأنبياء معصومون ظاهر في كون العصمة من توابع النبوة ومعللة بها وهو مخالف لتلك الدعوى كما لايخفى وماذكر من التقسيم حسن ويعلم منه أن الكثير ممن يدعى الولاية في زماننا أو تدعى له ليس له منها سوى الدعوى لاصراره والعياذ بالله تعالى على كبائر تقع منه في اليوم مرارا عافانا الله تعالى والملسمين من ذلك وقد جاء النبي صلى الله عليه و سلم في تفسير
(11/149)

الأولياء ما يظن أنه مخالف لما دلت عليه الآية في ذلك فقد أخرج ابن المبارك : والترمذي في نوادر الأصول وأبو الشيخ وابن مردويه وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قيل : يا رسول الله من أولياء الله قال : الذين إذا رؤا ذكر الله تعالى أي لحسن سمتهم وإخباتهم
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي وجماعة عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لله تعالى عبادا ليسوا بأنبياء ولاشهداء يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله تعالى قال أعرابي : يا رسول الله إنعتهم لنا قال : هم أناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا في الله تعالى لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها يفزعالناس وهم لا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ولامخالفة في الحقيقة فان ما أشير إليه من حسن السمت والإخبات والتحاب في الله تعالى من الأحكام اللازمة للإيمان والتقوى والآثار الخاصة بهما الحقيقة بالتخصيص بالذكر لظهورها وقربها من أفهام الناس وقد أورد رسول الله صلى الله عليه و سلم كلا من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والتذكير ترغيبا لسائل أو حاضر فيما خصه بالذكر من أحكامهما وأريد بوصفهم بأنهم يغبطهم النبيون على مجالسهم وقربهم الإشارة إلى راحتهم مما يعترى الانبياء عليهم السلام من الإشتغال بأممهم والمراد أنهم يغبطونهم على مجموع الأمرين وعن الكواشي أن ذلك خارج مخرج المبالغة والمعنىأنه لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء وقال بعض المحققين : إن ذلك تصوير لحسن حالهم على طريقة التمثيل وأيا ما كان فلا دليل فيه علىأن الولاية أفضل من النبوة وقد كفر معتقد ذلك وقد يؤول له بحمل ذلك على أن ولاية النبي أفضل من نبوته كما حمل ما قاله العز بن عبدالسلام المخالف للأصح من أن النبوة أفضل من الرسالة على نحو ذلك وكذا لنظير ما ذكرنا لا يخالف ما دلت الآية عليه تفسير عيسى عليه السلام لذلك
فقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب قال : قال الحواريون : يا عيسى من أولياء الله تعالى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فقال عليه السلام : الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها وأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم فصار إستكثارهم منها إستقلالا وذكرهم إياها فواتا وفرحهم بما أصابوا منها حزنا وما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم رفضوها فكانوا برفضها هم الفرحين باعوها فكانوا ببيعها هم الرابحين ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة يحبون الله سبحانه وتعالى ويستضيؤون بنوره ويضيئون به لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه علموا ليس يرون نائلا مع ما نالوا ولا أماني دون ما يرجون ولا فرقا دون ما يحذرون
لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة إستئناف جيء به في موضع التعليل لنفي حزنهم والخوف عليهم في قول وفي آخر جيء به بيانا لماأولاهم سبحانه من خيرات الدارين بعد أن أخبر جل وعلا بإنجائهم
(11/150)

من شرورهما ومكارههما وكأنه على هذا قيل : هل لهم وراء ذلك من نعمةوكرامة فقيل : لهم البشرى إلخ وتقديم الأول لما أن التخلية سابقة على التحلية مع ما فيه من رعاية حق المقابلة بين حسن حال المؤمنين وسوء حال المفترين وتعجيل إدخال المسرة بتبشير الخلاص عن الأهوال وتوسيط البيان السابق بين التخلية والتحلية لإظهار كمال العناية بهمع الإيدان بأن إنتفاء ما تقدم لإيمانهم واتقائهم عما يؤدى إليه من الأسباب ومن الناس من فسر الأولياء بالذين يتولونه تعالى بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل الذين آمنوا إلخ تفسيرا لتوليهم إياه تعالى وهذه الجملة تفسير لتوليته تعالى إياهم
وتعقب بأنه لا ريب في إعتبار القيد الأخير في مفهوم الولاية غير مناسب لمقام ترغيب المؤمنين في تحصيلها والثبات عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخل بذلك إذ التحصيل إنما يتعلق بالمقدور والإستبشار لا يحصل إلا بما علم وجود سببه والقيد المذكور ليس بقدور لهم حتى يحصلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصوله حتى يعرفوا حصول الولاية لهم ويستبشروا بمحاسن آثارها بل التولى بالكرامة عين نتيجة الولاية فإعتباره في عنوان الموضوع ثم الإخبار بعدم الخوف والحزن مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل إنتهى وأنت تعلم أن ما إرتكبه ذلك البعض تكلف وعول عن الظاهر فلا ينبغي العدول اليه وإن كان ما ذكره المتعقب لا يخلو عن نظر
وجوز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره وفي بعض الأخبار ما يؤيده و البشرى في الأصل الخبر بما يظهر السرور في بشرة الوجه ومثلها البشارة وتطلق على المبشر به من ذلك وإلى إرادة كل ذهب بعض والظرفان بعده على الأول متعلقان به وعلى الثاني في موضع الحال منه والعامل ما في الخبر من معنى الإستقرار أي لهم البشرى حال كونها في الدنيا وحال كونها في الآخرة أي عاجلة وآجلة أو من الضمير المجرور أي حال كونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة والثابت في أكثر الروايات أن البشرى في الحياة الدنيا هي الرؤيا الصالحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة كما هو المشهور أو جزء من سبعين جزأ منها كما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر وأبي هريرة وهو وابن ماجه عن الأول فقد أخرج الطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي وابن ماجه والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله سبحانه : لهم البشرى في الحياة الدنيا قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وأخرج ابن مردويه عن اين مسعود أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فأجيب بما ذكر أيضا وأخرج من طريق أبي سفيان عن جابر مثل ذلك وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ وأبو القاسم ابن منده من طريق أبي جعفر عن جابر المذكور قال : أتى رجل من أهل البادية رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يارسول الله أخبرني عن قول الله تعالى : الذين آمنوا وكانوايتقون لهم البشرى إلخ فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام : أما قوله تعالى : لهم البشرى في الحياة الدنيا فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه وأما قوله سبحانه : وفي الآخرة فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك وجاء مرفوعا وموقوفا عن غير واحد تفسيرها بما ذكر وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن البشرى في الحياة الدنيا هي قوله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا وعن الزجاج والفراء أنها هذا وما يشاكله من قوله تعالى : وبشر الذين آمنوا أن لهم
(11/151)

قدم صدق عند ربهم وقوله سبحانه : يبشرهم ربهم برحمة منه الآية وقوله جل وعلا : وبشر الصابرين إلى غير ذلك وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الضحاك أنه قال في ذلك : إنهم يعلمون أين هم قبل أن يموتوا وجاء في تفسير البشرى في الآخرة ما سمعت في الخبر عن جابر الأخير
وأخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة مرفوعا أنها الجنة وعن عطاء أن البشرى في الدنيا أن تأتيهم الملائكة عند الموت بالرحمة قال الله تعالى : تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يردون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها وغير ذلك من البشارات وقيل : المراد بالبشرى العاجلة نحو النصر والفتح والغنيمة والثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس وغير ذلك وأما البشرى الآجلة فغنية عن البيان وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول الله صلىالله تعالى عليه وسلم في تفسير ذلك إذاصح وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن فالأولى أن يحمل البشرى في الدارين على البشارة بما يحقق نفي الخوف والحزن كائنا ما كان ويرشد إلى ذلك السباق ومن أجل بشرى الملائكة لهم بذلك وقتافوقتا حتى يدخلوا الجنة وقد نطق الكتاب العزيز في غير موضع بهذه البشرى من الله تعالى علينا بها برحمته وكرمه لا تبديل لكلمت الله أي لا تغيير لأقواله التي من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمومنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة ههنا دخولا أوليا ويثبت إمتناع الإخلاف فيها لطفا وكرما ثبوتا قطعيا وأريد من عدم تبديل كلماته سبحانه على تقدير أن يراد من البشرى الرؤيا الصالحة عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتي بطريق الوعد من قوله تبارك إسمه : لهم البشرى لا عدم الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية ولم يظهر لي وجهه بعد التدبر والمشهور أن الرؤيا الصالحة لا يتخلف ما تدل عليه وقد جاء من حديث الحكيم الترمذي وغيره عن عبادة رضى الله تعالى عنه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال له في الرويا الصالحة كلام يكلم به ربك عبده في المنام ذلك أي ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين هو الفوز العظيم 64 الذي لا فوز وراءه وجوز أن تكون الإشارة إلى البشرى بمعنى التبشير وقيل : إن ذلك إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى وجعل غير واحد الجملة الأولى وهذه الجملة إعتراضا جيء به لتحقيق المبشر به لتعظيم شأنه وهو مبني علىجواز تعدد الإعتراض وعلى أنه يجوز أن يكون في آخر الكلام و لذا قال العلامة الطيب : ولو جعلت الأولى معترضة و الثانية تذييلا للمعترض و المعترض فيه ومؤكدة لهما كان أحسن بناء على أن ما في آخر الكلام يسمى تذييلا لاإعتراضا وهو مجرد إصطلاح ومن جعل قوله سبحانه ولا يحزنك قولهم معطوفا على الجملة قبل أي أن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون فلا يحزنك قول أعداء الله تعالى فالإعتراض عنده بين متصلين لا في آخر الكلام لكنه ليس بشيء والذي عليه الجمهور أنه إستئناف سيق تسلية للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عما كان يلقاه من جهة الأعداء من الأذيةالناشئة من مقالاتهم الرديئة الوحشية وتبشيرا له عليه الصلاة و السلام بالنصر والعز إثر بيان أن له ولأتباعه أمنا من كل محذور وفوزا لكا مطلوب فهو متصل بقوله سبحانه : ألا إن أولياء الله إلخ معنى وقيل : إنه
(11/152)

متصل بقوله سبحانه : فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم الآية وإختاره على ما فيه من البعد الطبرسي
وقرأ نافع ولا يحزنك من أحزن وهو في الحقيقة نهى له صلى الله تعالى عليه وسلم عن الحزن كأنه قيل : لا تحزن بقولهم ولا تبال بكل ما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه وإنما عدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في النهي عن الحزن لما أن النهي عن التأثير نهى عن التأثر بأصله ونفى له بالمرة ونظير ذلك كما مرة قولهم لا أرينك ههنا ولا يأكلك السبع ونحوه وقد وجه فيه النهي إلى اللازم والمراد هو النهي عن اللزوم قيل : وتخصيص النهي عن الحزن بالإيراد مع شمول النفي السابق للخوف أيضا لما أنه لم يكن فيه صلى الله تعالى عليه و سلم شائبة خوف حتى ينهى عنه وربما كان يعتريه صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض الأوقات حزن فسلي عنه ولا يخفى أنه إذا قلنا أن الخوف والحزن متقاربان فإذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا كما علمت آنفا كان النهي عن الحزن نهيا عن الخوف أيضا إلا أن الأولى عدم إعتبار ما فيه توهم نسبة الخوف إلى ساحته عليه الصلاة و السلام وإن لم يكن في ذلك نقص فقد جاء نهى الأنبياء عليهم السلام عن الخوف كنهيهم عن الحزن بل قد ثبت صريحا نسبة ذلك إليهم وهو مما لا يخل بمرتبة النبوة إذ ليس كل خوف نقصا لينزهوا عنه كيف كان
إن العزة لله جميعا كلام مستأنف سيق لتعليل النهي وقيل : جواب سؤال مقدر كأنه قيل : لم لا يحزنه فقيل : لأن الغلبة والقهر لله سبحانه لا يملك أحد شيئا منها أصلا لا هم ولا غيرهم فلا يقهر ولا يغلب أولياءه بل يقهرهم و يغلبهم و يعصمك منهم وقرأ أبو حيوة أن بالفتح على صريح التعليل أي لأن وحمل قتيبة بن مسلم ذلك على البدل ثم أنكر القراءة لذلك لأنه يؤدي إلى أن يقال : فلا يحزنك أن العزة لله جميعا وهو فاسد وذكر الزمخشري أنه لو حمل على البدل لكان له جه أيضا على أسلوب ولا تكونن ظهيرا للكافرين ولا تدع مع الله الها ءاخر فيكون للتهييح والإلهاب والتعريض بالغير وفيه بعد هو السميع العليم 65 يسمع أقوالهم في حقك ويعلم ما يضمرونه عليك فيكافؤهم على ذلك وما ذكرناه في الآية هو الظاهر المتبادر وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله تعالى وأقاموا على كفرهم كبر ذلك على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجاءه من الله سبحانه فيما يعاقبه ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم يسمع ما يقولون ويعلمه فلو شاء بعزته لإنتصر منهم ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا مع ما فيه من تعليق العلم بما علق بالسمع ولعل عن الحبر غير معول عليها
ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض أي من الملائكة والثقلين كما يدل عليه التعبير بمن الشائع في العقلاء والتغليب غير مناسب هنا ووجه تخصيصهم بالذكر الإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيد الله مملوكين له سبحانه فما عداهم من الموجودات أولى بذلك والجملة مع ما فيها من التأكيد لما سبق من إختصاص العزة به جل شأنه الموجب لسلوته عليه الصلاة و السلام وعدم مبالاته بمقالات المشركين تمهيد لما لحق من قوله سبحانه : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ودليل على بطلان ظنونهم وأعمالهم المبنية عليها والإقتصار على أحد الأمرين قصور فلا تكن من القاصرين و ما نافية وشركاء مفعول يتبع ومفعول يدعون محذوف لظهوره أي ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء في
(11/153)

الحقيقة وإن سموها شركاء لجهلهم فالمراد سلب الصفة في الحقيقة ونفس الأمر فما ذكره أبو البقاء من عدم جواز هذا الوجه من الإعراب لأنه يدلعلى نفي إتباعهم الشركاء مع أنهم إتبعوهم ناشيء من الغفلة عما ذكرنا وجوز أن يكون شركاء المذكور مفعول يدعون ويكون مفعول يتبع محذوفا لإنفهامه من قوله سبحانه : أن يتبعون إلا الظن أي ما يتبعون يقينا وإنما يتبعون ظنهم الباطل أو ظنهم أنها شركاء بتقدير معمولالظن أو تنزيله منزلة اللازم وقدر بعضهم مفعول يتبعون شركاء ميلاإلى إعمال الثاني في التنازع وتعقب بأنه لا يصح أن يكون من ذلك الباب لأن مفعول الفعل الأول مقيد دون الثاني فلا يتحد المعمول والإتحاد شرط في ذلك وكون التقييد عارضا بعد الأعمال بقرينة عامله فلا ينافي ما شرط في الباب بالباب كما لا يخفى وجوز أيضا أن تكون ما إستفهامية منصوبة بيتبع و شركاء مفعول يدعون أي أي شيء يتبعالمشركون أي ما يتبعونه ليس بشيء وأن تكون موصولة معطوفة على من أي وله تعالى ما يتبعه المشركون خلقا وملكا فكيف يكون شريكا لهسبحانه وتخصيص ذلك بالذكر مع دخوله فيما سبق عبارة أو دلالة للمبالغة في بيان بطلان الإتباع وفساد مابنوه عليه من الظن الذي هو الفساد بمكان وجوز على إحتمال الموصولية أن تكون مبتدأ خبره محذوف أي باطل ونحوه أو الخبر قوله سبحانه : أن يتبعون والعائد محذوف أي في عبادته أو إتباعه
وقرأ السلمي تدعون بالتاء الخطابية وروي ذلك عن علي كرم اللهوجهه وهي قراءة متجهة خلافا لزاعم خلافه فإن ما فيها إستفهامية للتبكيت والتوبيخ والعائد على الذين محذوف و شركاء حال منه والمراد من الذين الملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل : أي شيء يتبع الذين تدعونهم حال كونهم شركاء في زعمكم من الملائكة والنبيين تقريرا لكونهم متبعين لله تعالى مطيعين له وتوبيخا لهم على عدم إقتدائهم بهم في ذلك كقوله سبحانه : أولئك الذين تدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة وحاصله أن الذين تعبدونهم يعبدون الله تعالى ولا يعبدون غيره فمالكم لا تقتدون بهم ولا تتبعونهم في ذلك ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقيل : إن يتبع هؤلاء إلا الظن لايتبعون ما يتبعه الملائكة والنبيون عليهم السلام من الحق وإن هم إلا يخرصون 66 أي يحرزون ويقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا أو يكذبون فيما ينسبونه إليه سبحانه وتعالى على أن الخرص إما بمعنى الحرز والتخمين كما هو الأصل الشائع فيه وإما بمعنى الكدب فإنه جاء إستعماله في ذلك لغلبته في مثله
هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا تنبيه على تفرده تعالى بالقدرة الكاملة والنعمة الشاملة ليدلهم على توحده سبحانه بإستحقاق العبادة فتعريف الطرفين للقصر وهو قصر تعيين وفي ذلك أيضا تقرير لما سلف من كون جميع الموجودات الممكنة تحت قدرتهوملكته المفصح عن إختصاص العزة به سبحانه
والجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق فمبصرا حال وإن كان معنى التصيير فلكم المفعول الثاني أو حال كما في الوجه الأول فالمفعول الثاني لتسكنوا فيه أو هو محذوف يدل عليه الفعول الثاني من الجملة الثانية كما أن العلة الغائية منها محذوفة إعتمادا على ما في الأولى والتقدير هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم فحذف من كل ما ذكر في الآخر إكتفاء بالمذكور عن المتروك وفيه على هذا صنعة الإحتباك والآية شائعة في التمثيل بها لذلك وهو الظاهر فيها وإن كان أمرا غير ضروري ومن هنا ذهب جمع إلىأنه لا إحتباك فيها والعدول عن لتبصروا فيه الذي يقتضيه ماقبل إلىما في النظم الجليل
(11/154)

للتفرقة بين الظرف المجرور الذي هو سبب يتوقف عليه في الجملة وإسناد الإبصار إلى النهار مجازى كالذي في قول جرير : لقد لمتنا باأم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم وقولهم : نهاره صائم وغير ذلك مما لا يحصى كثرة وإلى هذا ذهب ابن عطية وجماعة وقيل : إن مبصرا للنسب كلا بن تامر أي ذا إبصار إن في ذلك أي في الجعل المذكور أو في الليل والنهار وما في إسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه وعلو رتبته لآيت أي حججا ودلالات على توحيد الله تعالى كثيرة أو آيات أخر غير ما ذكر لقوم يسمعون 67 أي الحجج مطلقا سماع تدبر وإعتبار أو يسمعون هذه الآيات المتلوة ونظائرها المنبهة على تلك الآيات التكوينية الآمرة بالتأمل فيها ذلك السماع فيعملون بمقتضاها وتخصيص هؤلاء بالذكر مع أن الآيات منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها قالوا اتخذ الله ولدا شروع في ذكر ضرب آخر من أباطيل المشركين وبيان بطلانه والمراد بهؤلاء المشركين على ما قيل : كفار قريش والعرب فإنهم قالوا : الملائكة بنات الله تعالى واليهود والنصارى القائلون : عزير وعيسى عليهما السلام إبناه عز و جل والإتخاذ صريح في التبني وظاهر الآية يدل على أن ذلك قول كل المشركين وإذا ثبت أن منهم من يقول بالولادة والتوليد حقيقة كان ما هنا قول البعض ولينظر هل يجري فيه إحتمال إسناد ما للبعض للكل لتحقق شرطه أم لا يجري لفقد ذاك والولد يستعمل مفردا وجمعا
وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة بالكسر فيهما وولد الضم وهو يشمل الذكر والأنثى سبحانه تنزيه وتقديس له تعالى عما نسبوا إليه على ما هو الأصل في معنى سبحان وقد يستعمل للتعجب مجازا ويصح إرادته هنا والمرادالتعجب من كلمتهم الحمقى وجمع بعضهم بين التنزيه والتعجب ولعله مبني على أن التعجب معنى كنائي وأنه يصح إرادة المعنى الحقيقي في الكناية وهو أحد القولين في المسالة وقيل : إنه لا يلزم إستفادة معنى التعجب منه بإستعمال اللفظ فيه بل هو من المعاني الثواني وقوله سبحانه : هو الغني أي عن كل شيء في كل شيء علة لتنزهه تعالى وتقدس عن ذلك وإيذان بأن إتخاذ الولد مسبب عن الحاجة وهي التقوى أو بقاء النوع مثلا وقوله تعالى : له ما في السموات وما في الأرض أي من العقلاء وغيرهم تقرير لمعنى الغني لأن المالك لجميع الكائنات هو الغني وما عداه فقير وقيل : هو علة أخرى للتنزه عن التبني لأنه ينافى المالكية وقوله جل شأنه : إن عندكم من سلطان أي حجة بهذا أي بما ذكر من القول الباطل توضيح لبطلانه بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض والمنافي فإن نافية و من زائدة لتأكيد النفي ومجرورها مبتدأ والظرف المقدم خبره أو مرتفع على أنه فاعل لإعتماده على النفي و بهذا متعلق إما بسلطان لأنه بمعنىالحجة كما سمعت وإما بمحذوف وقع صفة له و قيل وقع حالا من الضمير المستتر في الظرف الراجع إليه وإما بما في عندكم من معنى الإستقرار ويتعين على هذا كون سلطان فاعلا للظرف لئلا يلزم الفصل بين العامل المعنوي ومتعلقه بأجنبي والإلتفات إلى الخطاب لمزيد المبالغة في الإلزام والإفحام وتأكيد ما في قوله تعالى :
(11/155)

أتقولون على الله ما تعملون 68 من التوبيخ والتقريع على جهلهم وإختلاقهم وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد بمعزل من الإهتداء ولا تصلح متمسكا لنفي القياس و العمل بخبر الآحاد لأن ذلك في الفروع وهي مخصوصة بالأصول لما قام من الأدلة على تخصيصها وإن عم ظاهرها
قل تلوين للخطاب وتوجيه له إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم ليبين سوء مغبتهم ووخامة عاقبتهم وفي ذلك إنذار لهم عن الإستمرار على ما هم فيهولغيرهم عن الوقوع في مثله إن الذين يفترون على الله الكذب في كل أمر ويدخل الإفتراء بنسبة الولد والشريك إليه تعالى دخولا أوليا وهو أولى من الإقتصار على ما الكلام فيه وحينئذ فالمراد بالموصول ما يعم أولئك المخاطبين وغيرهم أي إن من تكون هذه صفتهم كائنا ما كانوا لا يفلحون 69 لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب أصلا ويندرج في ذلك عدم النجاة من النار وعدم الفوز بالجنة والإقتصار عليهفي مقام المبالغة في الزجر عن الإفتراء عليه سبحانه دون التعميم فيالمناسبة
متاع في الدنيا خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع والتنوين للتحقير والتقليل والظرف متعلق بما عنده بمحذوف وقع نعتا له والجملة كلام مستأنف سيق جوابا لسؤال مقدر عما يتراءى فيهم بحسب الظاهر من نيل المطالب والفوز بالحظوظ الدنيوية على الإطلاق أوفي ضمن إفترائهم وبيانا لأن ذلك بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح كأنه قيل : كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم فقيل : هو أو ذلك متاع حقير قليلفي الدنيا وليس بفوز بالمطلوب ثم أشير إلى إنتفاء النجاة عن المكروه أيضا بقوله سبحانه : ثم إلينا مرجعهم أي إلى حكمنا رجوعهم بالموت فيلقون الشقاء المؤبد ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون 70 أي بسبب كفرهم المستمر أو بكفرهم في الدنيا فأين هم من الفلاح وما ذكرنا من كون متاع خبر كبتدأ محذوف هو الذي ذهب إليهغير واحد من العربين غير أن أبا البقاء وآخرين منهم قدروا المبتدأ حياتهم أو تقلبهم أو إفتراؤهم وإعترض على تقدير الأخير بأن المتاع إنما يطلق على ما يكون مطبوعا عند النفس مرغوبا فيه في نفسه يتمتع به وينتفع وإنما عدم الإعتداد به لسرعة زواله ونفس الإفتراء عليه سبحانه أقبح القبائح عند النفس فضلا عن أن يكون مطبوعا عندها وأجيب بأن إطلاق المتاع على ذلك بإعتبار أنه مطبوع عند نفوسهم الخبيثة وفيه إنتفاع لهم به حسبما يرونه إنتفاعا وإن كان من أقبح القبائح وغير منتفع به في نفس الأمر ولا يخفى أن الوجه الأول مع هذا أوجه وقيل إن المذكور مبتدأ محذوف الخبر أي لهم متاع إلخ وليس ببعيد والآية إما مسوقة من جهته سبحانه لتحقيق عدم إفلاحهم غير داخلة في الكلام المأمور به وهو الذي يقتضيه ظاهر قوله سبحانه : ثم إلينا مرجعهم وقوله تعالى : ثم نذيقهم وإما داخلة فيه على أن النبي صلى الله عليه و سلم مأمور بنقله وحكايته عنه تعالى شأنه وله نظائر في الكتاب العزيز واتل عليهم أي على المشركين من أهل مكة وغيرهم لتحقيق مسبق من عدم إفلاح المفترين وكون ما يتمتعون به على جناح الفوات وأنهم مشرفون على الشقاء المؤبد والعذاب الشديد نبأ نوح أي خبره الذي له شأن وخطرمع قومه الذين هم أضراب قومك في الكفر والعناد
(11/156)

ليتدبروا ما فيه مما فيه مزدجر فلعلهم ينزجرون عما هم عليه أو تنكسرشدة شكيمتهم ولعل بعض من يسمع ذلك منك ممن أنكر صحة نبوتك أن يعترف بصحتها فيؤمن بك بأن يكون قد ثبت عنده ما يوافق ما تضمنه المتلو من غير مخالفة له أصلا فيستحضر أنك لم تسمع ذلك من أحد ولم تستفده من كتاب فلا طريق لعلمك به إلا من جهة الوحي وهو مدار النبوة
وفي ذلك من تقرير ما سبق من كون الكل لله سبحانه وإختصاص العزة به تعالى وإنتفاء الخوف على أوليائه وحزنهم وتشجيع النبي صلى الله عليه و سلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى والإقتصار على بعض ذلك قصور وقد تقدم الكلام في نوح عليه السلام إذ قال لقومه اللام للتبليغ أو التعليل و إذ بدل من نبأ بدل إشتمال ومعمولة له لا لاتل لفساد المعنى وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من نبأ وأيا ما كان فالمراد بعض نبئه عليه الصلاة و السلام لا كل ما جرى بينه وبين قومه وكانوا على ما قال الأجهوري من بني قابيل ياقوم إن إن كان كبر أي عظم وشق عليكم مقامي أي نفسي على أنه في الأصل إسم مكان وأريد منه النفس بطريق الكناية الإيمائية كما يقال المجلس السامي ويجوز أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الإقامة يقال : قمت بالمكان وأقمت بمعنى أي إقامتي بين ظهرانيكم مدة مديدة وكونها ما ذكر الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما يقتضي أن يكون القول في آخر عمره ومنتهى أمره ويحتاج ذلك إلى نقل أو المراد قيامه بدعوتهم وقريب منه قيامه لتذكيرهم ووعظهم لأن الواعظ كان يقوم بين من يعظهم لأنه أظهر وأعون على الإستماع كما يحكي عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود وكثيرا ما كان نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم يقوم على المنبر فيعظ الجماعة وهم قعود فيجعل القيام كناية أو مجازا عن ذلك أو هو عبارة عن ثبات ذلك وتقرره وتذكيري إياكم بآيات الله الدالة على وحدانيته المبطلة لما أنتم عليه من الشرك فعلى الله توكلت لا على غيره والجملة جواب الشرط وهو عبارة عن عدم مبالاته والتفاته إلى إستثقالهم ويجوز أن تكون قائمة مقامه وقيل : الجواب محذوف وهذا عطف عليه أي فإفعلوا ماشئتم وقيل : المراد الاستمرار على تخصيص التوكل به تعالى ويجوز أن يكون المراد إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل وإلا فهو عليه السلام متوكل عليه سبحانه لا على غيره دائما وقوله سبحانه : فأجمعوا أمركم عطف على الجواب المذكور عند الجمهور والفاء لترتيب الأمر بالاجماع على التوكل لا لترتيب نفس الإجماع عليه وقيل : أنه الجواب وما سبق إعتراض وهو يكون بالفاء
فإعلم فعلم المرء ينفعه
ولعله أقل غائلة مما تقدم لما سمعته مع ما فيه من إرتكاب عطف الغنشاء على الخبر وفيه كلام و أجمعوا بقطع الهمزة وهو كما قال أبو البقاء من أجمعت على الأمر إذا عزمت إلا أنه حذف حرف الجر فوصل الفعل وقيل : إن أجمع متعد بنفسه وإستشهد له بقول الحرث بن حلزة : أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء ونص السدوسي على ان عدم الإتيان بعلى كأجمعت الأمر أفصح من الإتيان بها كأجمعت على الأمر وقال أبو الهيثم : معنى أجمع أمره جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل
(11/157)

كذا فإذا عزم فقد جمع ما تفرق من عزمه ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى وأصله التعدية بنفسه ولا فرق بين أجمع وجمع عند بعض وفرق آخرون بينهما بأن الأول يستعمل في المعاني والثاني في الأعيان فيقال : أجمعت أمري وجمعت الجيش ولعله أكثرى لا دائمي والمراد بالأمر هنا نحو المكر والكيد وشركاءكم أي التي زعمتم أنها شركاء لله سبحانه وتعالى وهو نصب على أنه مفعول معه من الفاعل لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم ويؤيد ذلك قراءة الحسن وابن أبي إسحق وأبي عبدالرحمن السلمي وعيسى الثقفي بالرفع فإن الظاهر إنه حينئذ معطوف على الضمير المرفوع المتصل ووجود الفاصل قائم مقام التأكيد بالضمير المفصل
وقيل : إنه مبتدأ محذوف الخبر أي وشركاؤكم يجمعون ونحوه وقيل : إن النصب بالعطف على أمركم بحذف المضاف أي وأمر شركائكم بناء على أن أجمع تتعلق بالمعاني والكلام خارج مخرج التهكم بناء على أن المراد بالشركاء الأصنام وقيل : إنه على ظاهره والمراد بهم من على دينهم وجوز أن لا يكون هناك حذف والكلام من الإسناد إلى المفعول المجازي على حد ما قيل في واسأل القرية وقيل : إن ذاك على المفعوليه به لمقدر كما قيل في قوله
علفتها تبنا وماء باردا
أي إدعوا شركاءكم كما قرأ به أبي رضي الله تعالى عنه وقرأ نافع فاجمعوا بوصلالهمزة وفتح الميم من جمع وعطف الشركاء على الأمر في ذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال : جمعت شركائي كما يقال : جمعت أمرى وزعم بعضهم أن المعنى ذوى أمركم وهو كما ترى والمعنى أمرهم بالعزم والإجماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم من المكر ونحوه ثقة بالله تعالى وقلة مبالاتهم وليس المراد حقيقة الأمر ثم لا يكن أمركم ذلك عليكم غمة أي مستورا من غمه إذا ستره ومنه حديث وائل ابن حجر لا غمة في فرائض الله تعالى أي لا تستر ولا تخفي وإنما تظهر وتعلن والجار والمجرور متعلق بغمة والمراد نهيهم عن تعاطي ما يجعل ذلك غمة فإن الامر لا ينهى ويستلزم ذلك الأمر بالإظهار فالمعنى أظهروا ذلك وجاهروني به فإن الستر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث إستحال ذلك في حقي لم يكن للستر وجه وكلمة ثم للتراخي في الرتبة وإظهار الأمر في مقام الإمضار لزيادة التقرير وقيل : أظهر لأن المراد به ما يعتريهم من جهته عليه السلام من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم لا الأمر الأول والمراد بالغمة الغم كالكربة والكرب والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع حالا منها ثم للتراخي في الزمان والمعنى ثم لاي كن حالكم غما كائنا عليكم وتخلصوا بهلاكي من ثقل مقامي وتذكيري بآيات الله تعالى وإعترض عليه بأنه لا يساعده قوله تعالى شأنه : ثم اقضوا إلي ولاتنظرون 71 أي أدوا إلى ذلك الأمر الذي تريدون ولا تمهلوني على أن القضاء من قضى دينه إذا أداه ومفعوله محذوف كما أشرنا إليه وفيه إستعارة مكنية والقضاء تخييل وقد يفسر القضاء بالحكم أي إحكموا بما تؤدوه إلي ففيه تضمين وإستعارة مكنية أيضا لأن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه والوجه الأول سالم عن ذلك وهو ظاهر وقيل : المراد بالغمة المعنى الأول وبالأمر ما تقدم وبالنهي الأمر بالمشاورة أي أجمعوا أمركم ثم تشاوروا فيه وفيه بعد لعدم ظهور كلا الترتيبين الدالة عليهما ثم سواء إعتبرت قراءة الجماعة أو قراءة نافع في اجمعوا وقرىء أفضوا إلى بالفاء أي إنتهوا إلى بشركم أو أبرزوا إلى من أفضى إذا خرج إلى الفضاء كأبرز إذا خرج إلى البراز وهو المكان الواسع فإن توليتم أي بقيتم على إعراضكم عن تذكيري أو
(11/158)

مخصوصا عن ذلك بعد وقوفكم على أمر ومشاهدتكم مني ما يدل على صحةقولي فماسألتكم بمقابلة تذكيري ووعظي من أجر تؤدونه إلي حتى يؤدى ذلك إليكم إلى توليكم إما لإتهامكم إياي بالطمع أو لثقل دفع المسؤول عليكم أو حتى يضرني توليكم المؤدي إلى الحرمان فالأول لإظهاربطلان التولي ببيان عدم ما يصححه والثاني لإظهار عدم مبالاته عليه السلامبوجوده وعدمه وعلى التقدير فالفاء الأولى لترتب هذا الشرط على الجزاء قبله والفاء الثانية لسببية الشرط للإعلام بمضمون الجزاء بعده كما ذكره بعض المحققين أي إن توليتم فإعلموا أن ليس في مصحح لهأولا تأثر منه على حد ما قيل في قوله تعالى : وإن يمسسك بخير فهو علىكل شيء قدير
وذهب بعضهم إلى أن جواب الشرط محذوف أقيم ما ذكر وهو علته مقامه أي فلا باعث لكم على التولي ولا موجب له أو فلا ضير علي بذلك وكلام البعض مشعر بأنه مع إعتبار الحذف والإقامة المذكورين يجيء حديث إعتبارسببية الشرط للإعلام وهو الذي يميل إليه الذوق و من زائدة للتأكيد أي فما سألتكم أجرا وقوله تعالى : إن أجري إلا على الله تأكيد لما قبله على المعنى الأول وتعليل لإستغنائه عليه السلام على المعنى الثانيأي ماثوابي على العظة والتذكير إلا عليه تعالى يثيبني بذلك آمنتم أو توليتم وقوله سبحانه : وأمرت أن أكون من الملسمين 72 تذييل علىما قيل لمضمون ما قبله مقرر له والمعنى وأمرت بأن أكون منتظما في عداد الملسمين الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا ولا يطلبون بهدينا وفيه حمل الإسلام على ما يساوق الإيمان وإعتبار التقييد وعدلعنه بعضصهم لما فيه من نوع تكلف فحمل الإسلام على الإستسلام والإنقيادولم يقيد أي وأمرت بأن أكون من جملة المنقادين لحكمه تعالى لاأخالف أمره ولا أرجوا غيره وفيه على هذا المعنى أيضا من تأكيدما تقدم وتقرير مضمونه ما لا يخفى ولا يظهر أمر التأكيد على تقدير أن يكون المعنى من المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء في طاعة الله تعالى ظهوره على التقديرين السابقين وبالجملة أنه عليه السلام لم يقصر في إرشادهم بهذا الكلام وبلغ الغاية القصوى فيه
وذكر بعضهم وجه نظمه على هذا الأسلوب على بعض الأوجه المحتملة فقال : إنه عليه الصلاة و السلام قال في أول الأمر : فعلى الله توكلت فبين وثوقه بربه سبحانه أي إني وثقت به فلا تظنوا بي أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى ثم أورد عليهمما يدل على صحة دعواه فقال : فأجمعوا أمركم كأنه يقول : أجمعوا كلما تقدرون عليه من الأشياء التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر علىذلك بل أمرهم أن يضيفوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانهم وبالتقرب إليهم ثم لم يقتصر على هذين بل ضمإليهما ثالثا وهو قوله : ثم لا يكن أمركم عليكم غمة فأراد أن يسعوافي أمره غاية السعي ويبالغوا فيه غاية المبالغة حتى يطيب عيشهم ثملم يقتصر على ذلك حتى ضم إليه رابعا فقال : ثم اقضوا إلي آمرا لهم بأداء ذلك كله إليه ثم ضم إلى ذلك خامسا ولا تنظرون فنهاهم عن الإمهال وفي ذلك من الدلالة على أنه عليه الصلاة و السلام قد بلغ الغايةفي التوكل على الله سبحانه وأنه كان قاطعا بأن كيدهم لا يضره ولا يصلإليه وأن مكرهم لا ينفذ فيه ما هو أظهر من الشمس وأبين من أمس ثم إنه عليه السلام أراد أن يجعل الحجة لازمة عليهم ويبرىء ساحته فنفى سؤاله إياهم شيئا من الأجر وأكد ذلك بأن أجره على الله سبحانه لا على غيرهمشيرا إلى مزيد
(11/159)

كرمه جلا جلاله وأنه يثيبه على فعله سأله أو لم يسأله ولذا لم يقل إن سؤالي الأجر إلا من الله تعالى ثم لم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنهمأمور بما يندرج فيه عدم سؤالهم والإلتفات إلى ما عندهم وأن يتصف بهعلى أتم وجه لأن من المسلمين أبلغ من مسلما كما تحقق في محله وفيذل قطع ما عسى أن يحول بينهم وبين إجابة دعوته والإتعاظ بعظته إلا أنالقوم قد بلغوا الغاية في العناد والتمرد
فكذبوه أي فأصروا بعد أن لم يبق عليهم عليه السلام في قوس الإلزاممنزعا وفي كأس بيان أن لا سبب لتوليهم غير التمرد مكرعا على ما هم عليه من التكذيب الدال عليه السباق واللحاق وهو عطف على جملة قوله تعالى : قال لقومه والفاء في قوله تعالى : فنجيناه فصيحة في رأى أي فحقت عليهم كلمة العذاب فأنجيناه وأنكر ذلك الشهاب وإدعى أن ذكر ما يشير إليه في عبارة بعض المفسرين توطئة للتفريع لا إشارة إلى أن الفاء فصيحة وأنا لا أرى فيه بأسا إلا أن تقدير فعاملنا كلا بما تقتضيه الحكمة ونحوه عندي أولى ومتعلق الإنجاء محذوف أي من الغرقكما يدل عليه المقام وقيل : من أيدي الكفار فخلصناه من ذلك ومنمعه من المؤمنين به وكانوا في المشهور أربعين رجلا وأربعين إمرأةوقيل دون ذلك في الفلك أي السفينة وهو مفرد ههنا والجار كما قال الأجهوري وغيره متعلق بأنجيناه أي وقع الإنجاء في الفلك ويجوز أن يتعلق بالإستقرار الذي تعلق به الظرف قبله الواقع صلة أي والذين إستقروا معه في الفلك وجعلناهم خلائف عمن هلك بالإغراق بالطوفان وهو جمع خليفة وأغرقنا الذيبن كذبوا بآياتنا وهم الباقون منقومه والتعبير عنهم بالموصول للإيذان بعلية مضمون الصلة للإغراق وتأخير ذكره عن ذكر الإنجاء والإستخلاف لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات جرائم المجرمين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين 73 المخوفين بالله تعالى وعذابه والمراد بهمالمكذبين والتعبير عنهم بذلك للإشارة إلى إصرارهم على التكذيب حيثلم ينجع الإنذار فيهم ولم يفدهم شيئا وقد جرت عادة الله تعالى أن لا يهلك قوما بالإستئصال إلا بعد الإنذار لأن من أنذر فقد أعذر والنظركما قال الراغب يكون بالبصر والبصيرة والثاني أكثر عند الخاصة وسيقالكلام لتهويل ما جرى عليهم وتحذير من كذب بالرسول عليه الصلاة و السلام والتسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد إعتبر ما أخبر الله تعالى به لأنه لا يمكن أن ينظر إليه هو صلى الله عليه و سلم ولامن أنذره ثم بعثنا أي أرسلنا من بعده أي من بعد نوح عليه الصلاة و السلام رسلا أي كراما ذوى عذر كثيرفالتنكير للتفخيم والتكثير إلى قومهم قيل أي إلى أقوامهم على معنى أرسلنا كل رسول الله إلى قوم خاصة مثل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص لا على معنى أرسلنا كل رسولمنهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم أي قوم كانوا وفيه إشارة إلى أن عموم الرسالة إلى البشر لم يثبت لأحد من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام وظاهر كلامهم الإجماع على أن ذلك مخصوص بنبينا صلى الله عليه و سلم ولم يثبت لأحد ممن أرسل بعد نوح وإختلف فيه عليه السلام هل بعث إلى أهل الأرض كافة أو إلى أهل
(11/160)

صقع منها وعليه يبنى النظر في الغرق هل عم جميع أهل الأرض أو كان لبعضهم وهم أهل دعوته المكذبين به كما هو ظاهر كثير من الآيات والأحاديث قال ابن عطية : الراجح عند المحققين هو الثاني وكثير من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الغرق والأول لا ينافيالقول بإختصاص عموم الرسالة على العموم المشهور بين الخصوص والعموم بنيينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأنها لمن بعده إلى يوم القيمة
وزعم بعضهم أن الغرق عاما مع خصوص البعثة ولا مانع من أن يهلك اللهتعالى من لا جناية له مع من له جناية ولا إعتراض عليه سبحانه فيما ذكر إذ هو تصرف في خالص ملكه لا يسئل عما يفعل وفي قوله سبحانه : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة نوع إشارة إلى ذلك نعم قد ثبت لنوح عليه السلام عموم الرسالة إنتهاء حيث لم يبق على وجه الأرض بعد الطوفان سوى من كان معه وهم جميع أهل الأرض إذ ذاك فالفرق بين رسالته عليه السلام ورسالة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهر فإن رسالة نبينا عليهالصلاة والسلام عامة إبتداء وإنتهاء ورسالته عليه السلام عامة إنتهاء لا إبتداء ولا يخلو عن نظر والأولى أن يعتبر في إختصاص عموم رسالة نبينا عليه الصلاة و السلام كونها لمن بعده إلى يوم القيامة فإن عدم ثبوت ذلك لأحد من الرسل عليهم السلام قبل نوح وبعده مما لا يتنازع فيه وهذا كله إذا لم يلاحظ في العموم الجن وكذا الملائكة إذا لوحظ كما يفيده قوله سبحانه : لتكون للعالمين نذيرا فآمر الإختصاص أظهر وأظهر
فجاءوهم أي فأتى كل رسول قومه المخصوصين به بالبينات أي بالمعجزات الواضحة الدالة على صدق ما يقولون والباء إما متعلقة بما عندما على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المرفوع أي متلبسين بالبينات لكن لا بأن يأتى كل رسول ببينة فقط بل بأن يأتى ببينة أو ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب إقتضاء الحكمة وإلى نفي إرادة الإتيان ببينة وإرادة الإتيان ببينات كثيرة ذهب شيخ الإسلام ثم قال : فإن مراعاة إنقسام الآحاد على الآحاد إنما هي في ضميري جاؤوهم كما أشير إليه ولعل صنيعنا أحسن من صنيعه ويفهم من كلام بعض المحققين أن إنفهام إرسال كل رسول إلى قومه من إضافة القوم إلى ضمير رسلا وليس ذلك من مقابلة الجمع بالجمع المقتضى لإنقسام الآحاد على الآحاد ولا شك أن إنفهام مجيء كل رسول قومه المخصوصين به تابع لذلك وبعد هذا كله إذا أعتبر مقابلة الجمع بالجمع في جاؤوهم بالبينات وقيل بإنقسام الآحاد على الآحاد لا يلزم أن يكون رسول بينة جاء بها كما أن باع القوم دوابهم لا يقتضي أن يكون لكل واحد من القوم دابة واحدة باعها فإن معناه باع كل من القوم ما له من الدواب وهو يعم الدابة الواحدة وغيرها وهذا بخلاف ركب القوم دوابهم فإنه يتعين فيه إرادة كل واحدة من الدواب لإستحالة ركوب الشخص دابتين مثلا وقد نص العلامة أبو القاسم السمرقندي في حواشيه على المطول أنه لا يشترط في مقابلة الجمع بالجمع إنقسام الآحاد على الآحاد بمعنى أن يكون لكل واحد من أحد الجمعين واحد من الجمع الآخر وهو ظاهر فيما قلنا والمعول عليه في كون الآية من قبيل المثال الأول أمر خارج فإن من المعلوم أن الرسول الواحد من الرسل عليهم السلام قد جاء قومه ببينات فوق الواحدة فما كانوا ليومنوا بيان
(11/161)

لإستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي أي فما صح ولا إستقام في وقت من الأوقات أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم ومزيد عنادهم وضمير الجمع هنا للقوم المبعوث إليهم وكذا في قوله تعالى : بما كذبوا به من قبل والباء فيه صلة يؤمنوا و ما موصولة والمراد بها جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها والمراد بعدم إيمانهم بها إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبتكذيبهم من قبل تكذيبهم من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان الإصرار والعناد وهذا بناء على أن المحكي آخر أحوالهم حسبما يشير إليه حكاية قوم نوح عليه السلام ولم يجعل التكذيب مقصودا بالذات كما جعل عدم إيمانهم كذلك إيذانا بأنه بين في نفسه غني عن البيان وإنما المحتاج إليه عدم إيمانهم بعد تواتر البينات وتظاهر المعجزات التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أهل العقول وإذا كان المحكي جميع أحوال أولئك الأقوام فالمراد بهدم إيمانهم المفاد بالنفي السابق كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان إصرارهم وبعدم إيمانهم المفهوم من جملة الصلة كفرهم قبل مجيء الرسل عليهم السلام ويراد حينئذ من الموصول أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهمإليها كالتوحيد ولوازمه مما يستحيل تبدله وتغيره ومعنى تكذيبهم بذلك قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا أهل جاهلية بحيث لم يسمعوا بذلك قط بل كأن كل قوم يتسامعون به من بقايا من قبلهم فيكذبونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وقيل : المراد أنهم لم ينتفعوا بالبعثة وكانت حالهم بعد البعثة كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية والأول أولى وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما إجتمعت عليه الكافة فلأن لا يؤون بما تفرد به البعض أولى وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لأن ما عليه يدور أمر العذاب عند إجتماع التكذيبين هو التكذيب الواقع بعد البعثة والدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وإنما ذكر ما وقع قبل بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب وفكك بعضهم بين الضمائر فقيل : ضمير كانوا و يؤمنوا لقوم الرسل وضمير كذبوا لقوم نوح عليه السلام أي ماكان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي بمثله والمراد به ما بعثالرسل عليهم السلام لإبلاغه
وجوز على هذا القول أن يراد بالموصول نوح نفسه أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بنوح عليه السلام إذ لو آمنوا بأنبيائهم عليهم السلام ولا يخفى ما في ذلك ومن الناس من جعل الباء سببية و ما مصدرية والمعنى كذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله تعالى أنهم لو يكونوا بيومنوا بسبب تكذيبهم من قبل وأيده بالآية الآتية وفيه مخالفة الجمهور من جعل ما المصدرية إسما كما هو رأي الأخفش وابن السراج ليرجع الضمير إليها وفي إرجاعه إلى الحق بإدعاء كونه مركوزا في الأذهان ما لا يخفى من التعسف وقيل : ما موصوفة والباء للسببية أيضا أو للملابسة أس بشيء كذبوا به وهو العناد والتمرد وهو كما ترى كذلك أي مثل ذلك الطبع المحكم مطبع فالإشارة على حد ما قرر في قوله سبحانه : وكذلك جعلناكم أمة وسطا ونظائره مما مر وجعل الإشارة إلى الإغراق كما فعل الخازن ليس بشيء والطبع يطلق على تأثير بنقش الطابع وعلى الأثر الحاصل عن النقش والختم مثله في ذلك على ما ذكره الراغب أيضا وذكرأنه تصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدراهم وأنه أعم من الختم وأخص من النقش والأكثرون على تفسبره بالختم مرادا به المنع أي نختم
(11/162)

6969 - على قلوب المعتدين 74 أي المتجاوزين عن الحدود المعهودة في الكفر والعناد ونمنعها لذلك عن قبول الحق وسلوك سبيل الرشاد وقدجاء الطبع بمعنى الدنس ومنه طبع السيف لصدئه ودنسه وبعضهم حمل ما في الآية على ذلك وفسره المعتزلة حيث وقع منسوبا إليه تعالى بالخذلان تطبيقا له على مذهبهم ومن هنا قال الزمخشري : إن 4 ه جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم لأن من عاند وثبت على اللجاج خذله الله تعالى ومنعه التوفيق واللطف فلا يزال كذلك حتى يتراكم الرين والطبع على قلبه ومراده كما قيل أن نطبع بمعنى نخذل على سبيل الإستعارة التصريحية التبعية لكن لما كان الطبع الذي هو الخذلان تابعا لعنادهم ولجاجهم لازما لهما أجري مجرى الكناية عنهما وقريء يطبع بالياء على أن الضمير لله سبحانه وتعالى ثم بعثنا عطف على ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم عطف قصة على قصة من بعدهم أي من بعد أولئك الرسل عليهم السلام موسى وهارون أوثر التنصيص على بعثتهما عليهما السلام مع ضرب تفصيل إيذانا بخطر شأن القصة وعظم وقعها إلى فرعون وملائه أي أشراف قومه الذين يجتمعون على رأي فيملأون العين رواء والنفوس جلالة وبهاء وتخصيصهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالح والمهمات ومراجعة الكل إليهم في النوازل والملمات وقيل : المراد بهم هنا مطلق القوم من إستعمال الخاص في العام بآياتنا أي أدلتنا ومعجزاتنا وهي الآيات المفصلات في الأعراف والباء للملابسة أي متلبسين بها فاستكبروا أي تكبروا وأعجبوا بأنفهم وتعظموا عن الأتباع والفاء فصيحة أي فأتياهم فبلغاهمالرسالة فإستكبروا وأشير بهذا الإستكبار إلى ما وقع منهم أول الأمر من قول العين لموسى عليه السلام : ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وغير ذلك وكانوا قوما مجرمين 75 جملة معترضة تذييليةوجوز فيها الحالية بتقدير قد وعلى الوجهين تفيد إعتيادهم الإجرام وهو فعل الذنب العظيم أي وكانوا قوما شأنهم ودأبهم ذلك
وقد يؤخذ مما ذكر تعليل إستكبارهم والحمل على العطف الساذج لا يناسب البلاغة القرآنية ولا يلائمها فمعلوم هذا القدر من سوابق أوصافهم فلما جاءهم الحق من عندنا الفاء فصيحة أيضا معربة عما صرح به في مواضع أخر كأنه قيل : قال موسى : قد جئتكم ببينة من ربكم إلى قوله تعالى فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظريم فلما جاءهم الحق قالوا من فرط عنادهم وعتوهم مع تناهي عجزهم : إن هذا لسحر مبين 76 أي ظاهر كونه يحرا أو واضح في بابه فيما بين أضرابه فمبين من أبان بمعنى ظهر وإتضح لا بمعنى أظهر وأوضح كما هو أحد معنييه والإشارة إلى الحق الذي جاءهم والمراد به كما قال غير واحد الآيات وقد أقيم مقام الضمير للإشارة إلى ظهور حقيته عند كل أحد ونسبة المجيء إليه على سبيل الإستعارة تشير أيضا إلى غاية ظهوره وشدة سطوعه بحيث لا يخفى على من له أدنى مسكة ومن هنا قيل في المعنى : فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه قالوا إلخ فالإعتراض عليه بأنه لا دلالة في الكلام على هذه المعرفة وإنما تعلم من موضع آخر كقوله سبحانه : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم من قلة المعرفة لظهور دلالة ما علمت وكذا ما قالوا بناء على ما قيل من دلالته على الإعتراف وتناهى العجز عليها وقريء لساحر
(11/163)

وعنوا به موسى عليه السلام لأنه الذي ظهر على يده ما أعجزهم قال موسى إستئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال لهم موسى عليه السلام فقيل : قال لهم على سبيل الإستفهام الإنكاري التوبيخي : أتقولون للحق الذي هو أبعد شيء من السحر الذي هو الباطل البحت لما جاءكم أي حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه وهو الذي يقتضيه ما أشير إليه آنفا أو من أول الامر من غير تأمل وتدبر كما قيل وإيا ما كان فهو مما ينافي القول الذي في حيز الإستفهام والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه وإيذانا بأنه مما لا ينبغي أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحر مبين يعنى به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم وجوز أن يكون مقول القول قوله عز و جل : أسحر هذا على أن مقصودهم بالإستفهام تقريره عليه السلام لا الإستفهام الحقيقي لأنهم قد بتوا القول بأنه سحر فكيف يستفهمون عنه والمحكي في أحد الموضعين مفهوم قولهم ومعناه وإلا فالقصة واحدة والصادر فيها بحسب الظاهر إحدى المقالتين ولا يخفى ضعفه وأن يكون القول بمعنى العيب والطعن من قولهم : فلان يخاف القالة وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه ونظيره الذكر في قوله تعالى : سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم وحينئذ يستغني عن المفعول واللام لبيان المطعون فيه كما في قوله تعالى : هيت لك 4 أي أتعيبونه وتطعنون فيه وعلى هذا الوجه وكذا الوجه الأول يكون قوله سبحانه : أسحر ذا إنكارا مستأنفا من جهة موسى عليه السلام سحرا وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم عليه إثر توبيخ وتجهيلإثر تجهيل أما على الوجه المتقدم فظاهر وأما على الوجه الأخيرفوجه إيثار إنكار كونه سحرا على إنكار كونه معيبا بأن يقال : أفيه عيب حسبما يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار الأول على أن ليس فيه سائبةعيب ما وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار وما في إسم الإشارة من عمنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه وإستحضار ما فيه من الصفاتالدالة على كونه آية باهرة من آيات الله تعالى المنادية على إمتناع كونه سحرا هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لايرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة وثقوله سبحانه : ولا يفلح السحرون 77 تأكيد للإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل وقد إستلزم القول بكونه سحرا القول بكون من أتى به ساحرا والجملة في موضع الحال من ضميرالمخاطبين والرابط الواو بلا ضمير كما في قوله
جاء الشتاء ولست أملك عدة
وقولك : جاء زيد ولم تطلع الشمس أي أتقولون للحق إنهسحر والحال أنه لا يفلح فاعله أي لا يظفر بمطلوب ولا ينحو من مكروه وأنا قد أفلحت وفزت بالحجة ونجوت من الهلكة وجملة أسحر هذا معترضة بين الحال وذيها لتأكيد الإنكار السابق ببيان إستحالة كونه سحرا بالنظر إلى ذاته قبل بيان إستحالته بالنظر إلى صدوره منه عليه السلام ومن جعلها مقول القول أبقى الحالية على حالها ولا إعتراض عنده وكان المعنى على ذلك أتحملوني على الإقرار بأنه سحر وما أنا عليه من الفلاح دليل على أن بينه وبين السحر أبعد مما بين المشرق والمغرب : يجوز أن تكون هذه الجملة كالتي قبلها في حيز قولهم وهي حالية أيضا لكن على نمط آخر والإستفهام مصروف إليها والمعنى أجئتنا بسحر تطلب به الفلاح والحال أنه لا يفلح الساحر أوهم يتعجبون من فلاحه وهو ساحر ولا يخفى أن السباق والسياق يأبيان
(11/164)

هذا التجويز فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك وفي إرشاد العقلالسليم أن تجويز أن يكون الكل مقو القول مما لا يساعده النظم الكريم أصلا أما أولا فلأن ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه فصرف جوابه عليه السلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يفهم منه مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله وكون ذلك إعتراضا عن رد الإنكار السابق إلى رد ما هو أبلغ منه في الإنكار لا أراه يحسن الإلتفات هنا إلى قبول ذلك التجويز في كلام الله تعالى العزيز
وأما ثانيا فلأن التعرض لعدم إفلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعض منهم في معارضته عليه السلام ولو كان ذلك كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة والإعتذار بأن التشبث بأذيال بعض السحرة لا ينافي التعرض لعدم إفلاحهم على الإطلاق لجواز أن يكون إعتقادهم عدم الفلاح مطلقا وتشبثهم بعد بما تشبثوا به من باب تلقى الباطل بالباطل لا أراه إلا من باب تشبث الغريق بالحشيش وأما ثالثا فلأن قوله عز و جل : قالوا أجئتنا إلخ مسوق لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجر فإنقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه عليه السلام فضلا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الذي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معالج لجوج على أنه إستئناف وقع جوابا عما قبله من كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم على طريقة قال موسى كما أشير إليه كأنه قيل : فماذا قالوا لموسى عليه السلام حين قال لهم ما قال فقيل : قالوا عاجزين عن المحاجة : أجئتنا لتلفتنا أي لتصرفنا وبين اللفت والفتل مناسبة معنوية وإشتقاقية وقد نص غير واحد على أنهما أخوان وليس أحدهما مقلوبا من الآخر كما قال الأزهري عما وجدنا عليه ءاباءنا أي من عبادة غير الله تعالى ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذعلى تقدير كونه محكيا من قبلهم يكون جوابه عليه السلام خاليا عن التبكيت الملجيء لهم إلى العدول عن سنن المحاجة ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم : أجئتنا إلخ وبين إنكاره عليه السلام لما حكى عنهم مصححة لكونه جوابا عنه وهذا ظاهر إلا على من حجب عن إدراك البديهيات وبالجملة الحق أن لا وجه لذلك التجويز بوجه والإنتصار لهمن الفضول كما لا يخفى وتكون لكما الكبرياء أي الملك كما روي عن مجاهد فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم وعن الزجاج أنه إنما سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا وقيل : أي العظمة والتكبر على الناس بإستتباعهم وقرأ حماد بن يحيى عن أبي بكر وزيد عن يعقوب يكون بالياى التحتانية لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل
في الأرض أي أرض مصر وقيل : أريد الجنس والجار متعلق بتكون أو بالكبرياء أو بالإستقرار في لكما لوقوعه خبرا أو لمحذوف وقع حالا من الكبرياء أو من الضمير في لكما لتحمله إياه ومانحن لكما بمومنين 78 أي بمصدقين فيما جئتما به أصلا وفيه تأكيد لما يفهم من الإنكار السابق والمراد بضمير المخاطبين موسى وهرون عليهما السلام وإنما لم يفردوا موسى عليه السلام بالخطاب هنا كما أفردوه به فيما تقدم لأنه المشافه لهم بالتوبيخ والإنكار تعظيما لأمر ما هو أحد سببي الإعراض معنى ومبالغة في
(11/165)

اغاظة موسى عليه السلام وإقناطه عن الإيمان بما جاء به وفي إرشادالعقل السليم أن تثنية الضمير في هذين الموضعين بعد إفراده فيما تقدم من المقامين بإعتبار شمول الكبرياء لهما عليهما السلام وإستلزامالتصديق لأحدهما التصديق للآخر وأما اللفت والمجيء له فحيث كانا منخصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه السلام خاصة إنتهى فتدبر وقال فرعون أسند الفعل إليه وحده لأن الأمر من وظائفه دون الملأ وهذا بخلاف الأفعال السابقة من الإستكبار ونحوه فإنها مما تسند إليهوإلى ملئه لكن الظاهر أنه غير داخل في القائلين أجئتنا لتلفتناعما وجدنا عليه آباءنا لأنه عليه اللعنة لم يكن يظهر عبادة أحد كماكان يفعله ملؤه وسائر قومه أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادئ الإلزام بالفعل بعد اليأس عن الإلزام بالقول ائتوني بكل ساحر عليم 79 بفنون السحر حاذق ماهر فيه وقرأ حمزة والكسائي سحار فلما جاء السحرة عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانابسرعة إمتثالهم للأمر كما هو شأن الفاء الفصيحة وقد نص على نظيرذلك في قوله سبحانه : فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفحرت أي فأتوا به فلما جاؤا قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون 80 أي ما ثبتم وإستقر رأيكم على إلقائه كائنا ما كان من أصنف السحر وأصل الإلقاءطرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في العرف إسما لكل طرح وكانهذا القول منه عليه السلام بعد ما قالوا له ما حكى عنهم في السور الأخرمن قولهم : إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ونحو ذلك ولم يكن في إبتداء مجيئهم و ما موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف أي ملقون إياه ولا يخفى ما في الإبهام من التحقير والإشعار بعدم المبالاة والمراد أمرهم بتقديم ما صمموا على فعله ليظهر إبطاله وليس المراد الأمر بالسحر والرضا به فلما ألقوا ما ألقوا من العصي والحبال وإسترهبوا الناس وجاءوا بسحر عظيم قال لهم موسى غيرمكترث بهم وبما صنعوا ما جئتم به السحر ما موصولة وقعت مبتدأ و السحر خبر وأل فيه للجنس والتعريف لإفادة القصر إفرادا أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وملؤه من آيات الله تعالى سحرا وهو للجنس ونقل عن الفراء أن أل للعهد لتقدم السحر في قوله تعالى : إنهذا لسحر ورد بأن شرط كونها للعهد إتحاد المتقدم والمتأخر ذاتا كما في أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ولا إتحاد فيما نحنفيه فإن السحرالمتقدم ما جاء به موسى عليه السلام وهذا ما جاء به السحرة ومن الناس من منع إشتراط الإتحاد الذاتي مدعيا أن الإتحاد في الجنس كاف فقد قالوا في قوله تعالى : والسلام علي إن أل للعهد مع أن السلام الواقع على عيسى عليه السلام غير السلام الواقع على يحيى عليه السلام ذاتا والظاهر إشتراط ذلكوعدم كفاية الإتحاد في الجنس وإلا لصح في رأيت رجلا وأكرمت الرجل إذا كان الأول زيدا والثاني عمرا مثلا أن يقال : إن أل للعهد لأن الإتحاد في الجنس ظاهر ولم نجد من يقوله بل لا أظن أحدا تحدثه نفسه بذلك وما في الآية من هذا القبيل بل المغايرة بين المتقدم والمتأخر أظهر إذ الأول سحر إدعائي والثاني حقيقي و السلام فيما قلوا متحد وتعدد من وقع عليه لا يجعله متعددا في العرف والتدقيق الفلسفي لا يلتفت إليه في مثلذلك
وقد ذكر بعض المحققين أن القول بكون التعريف للعهد مع دعوى إستفادةالقصر منه مما يتنافيان لأن
(11/166)

القصر إنما يكون إذا كان التعريف للجنس نعم إذا لم يرد بالنكرة المذكورة أو لا معين ثم عرفت لا ينافي التعريف الجنسية لأن النكرة تساوي تعريف الجنس فينئذ لا ينافي تعريف العهد القصر وإن كان كلامهم يخالفهظاهرا فليحرر إنتهى وأقول : دعوى الفراء العهد هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ولعله أراد الجنس وأن عبر بالعهد بناء على ما ذكرهالجلال السيوطي في همع الهوامع نقلا عن ابن عصفور أنه قال : لا يبعدعندي أن يسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين لأن الإجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها والعهد تقدم المعرفة وإدعى أبو الحجاجيوسف بن معزوز أن أل لا تكون إلا عهدية وتأوله بنحو ما ذكر إلا أن ظاهرالتعليل لا يساعد ذلك وقرأ عبدالله سحر بالتنكير وأبي ما أتيتمبه سحر والكلام على ذلك مفيد للقصر أيضا لكن بواسطةالتعريض لوقوعهفي مقابلة قولهم : إن هذا لسحر مبين وجوز في ما في جميع هذاالقراآت أن تكون إستفهامية و السحر خبر مبتدأ محذوف وقرأ أبوعمرو وأبو جعفر آلسحر بقطع الألف ومدها على الإستفهام فما إستفهامية مرفوعة على الإبتداء و جئتم به خبرها و السحر خبر مبتدأمحذوف أو مبتدأ خبره محذوف أي شيء جسيم جئتم به أهو السحر أو السحر هو وقد يجعل السحر بدلا من ما كما تقول ما عندك أدينار أمدرهم وقد تجعل ما نصبا بفعل محذوف يقدر بعدها أي أي شيء أتيتم به و جئتم به مفسر له وفي السحر الوجهان الأولان
وجوز أن تكون موصولة مبتدأ والجملة الإسمية أي أهو السحر أو السحر هو خبره وفيه الإخبار بالجملة الإنشائية ولا يجوز أن تكون على هذاالتقدير منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا
إن الله سيبطله أي سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلا أو سيظهر بطلانه وفساده للناس والسين للتأكيد إن الله لا يصلح عمل المفسدين 81 أي جنسهم على الإطلاق فيدخلفيه السحرة دخولا أوليا ويجوز أن يراد بالمفسدين المخاطبون فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلةالحكم والجملة تذييل لتعليل ما قبلها وتأكيده والمراد بعدم إصلاح ذلك عدم إثباته أو عدم تقويته بالتأييد الإلهى لا عدم جعل الفاسدصالحا لظهور أن ذلك مما لا يكون أي أنه سبحانه لا يثبت عمل المفسدين ولا يديمه بل يزيله ويمحقه أو لا يقويه ولا يؤيده بل يظهر بطلانه ويجعلهمعلوما
وإستدل بالآية على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له وأنت تعلم أن في إطلاق القول بأن السحر لا حقيقة له بحثا والحق أن منه ما له حقيقةومنه ما هو تخيل باطل ويسمى شعبذة وشعوذة ويحق الله الحق أييثبته ويقويه وهو عطف على قوله سبحانه : سيبطله وإظهار الإسم الجليل في المقامين لإلقاء الروعة وتربية المهابة بكلماته أي بأوامرهوقضاياه وعن الحسن أي بوعده النصر لمن جاء به وهو سبحانه لا يخلف ذلك وعن الجبائي أي بما ينزله مبينا لمعاني الآيات التي أتى بها نبيه عليه السلام وقرىء بكلمته وفسرت بالأمر واحد الأوامر حسبمافسرت الكلمات بالأوامر وأريد منها الجنس فيتطابق القراءتان وقيل : يحتمل أن يراد بها قول كن وأن يراد بها الأمر واحد الأمور ويراد بالكلمات الأمور والشؤون ولو كره المجرمون 82 ذلك والمراد بهم كل من إتصف بالإجرام من السحرة وغيرهم فما آمن لموسى عطف علىمقدر فصل في موضع آخر أي فألقى
(11/167)

عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون إلخ وإنما لم يذكر تعويلا على ذلك وإيثار اللإيجاز وإيذانا بأن قوله تعالى : إن الله سيبطله ممالايحتمل الخلف أصلا ولعل عطفه على ذلك بالفاء بإعتبار الإيجاب الحادث الذي هو أحد مفهومي الحصر فإنهم قالوا : معنى ماقام إلا زيد قام زيد ولم يقم غيره وبعضهم لم يعتبر ذلك وقال : إن عطفه بالفاء على ذلك مع كونه عدما مستمرا من قبيل ما في قوله تعالى : فاتبعوا أمر فرعون وما في قولك : وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر والسر فيذلك أن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان إستمراراعليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث أي فما آمن له عليهالسلام في مبدأ أمره إلا ذرية من قومه أي إلا اولاد بعض بنيإسرائيل حيث دعا عليه السلام الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم فالمراد من الذرية الشبان لاالأطفال
و من للتبعيض وجوز أن تكون للإبتداء والتبعيض مستفاد من التنوين والضمير لموسى عليه السلام كما هو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضيالله تعالى عنهما وأخرج ابن جرير عنه أن الضمير لفرعون وبه قالجمع فالمؤمنون من غير بني إسرائيل ومنهم زوجته آسية وماشطته ومؤمن آل فرعون والخازن وإمرأته وفي إطلاق الذرية على هؤلاء نوع خفاء ورجح بعضهم إرجاع الضمير لموسى عليه السلام بأنه المحدث عنه وبأن المناسب على القول الآخر الإضمار فيما بعد ورجح ابن عطية إرجاعالضمير لفرعون بأن المعروف في القصص أن بني إسرائيل كانوا في قهرفرعون وكانوا قد بشروا بأن خلاصهم على يد مولود يكون نبيا صفته كذاكذا فلما ظهر موسى عليه السلام إتبعوه ولم يعرف أن أحدا منهم خالفهفالظاهر القول الثاني وما ذكر من أن المحدث عنه موسى عليه السلام لا يخلو عن شيء فإن لقائل أن يقابل ذلك بأن الكلام في قوم فرعون لأنهمالقائلون إنه ساحر ولأن وعظ أهل مكة وتخويفهم المسوق له الآيات قاض بأن المقصود هنا شرح أحوالهم وأنت تعلم أن للبحث في هذا مجالاوالمعروف بعد تسليم كونه معروفا لا يضر القول الأول لأن المراد حينئذفما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فإنهمأخفوه ولم يظهروه على خوف حال من ذرية و على بمعنى مع كما قيل في قوله تعالى : وآتى المال على حبه والتنوين للتعظيم أي كائنين مع خوف عظيم من فرعون وملائهم الضمير لفرعون والجمع عند غير واحد على ما هو المعتاد في ضمائر العظماء ورد بأن الوارد في كلام العربالجمع في ضمير المتكلم كنحن وضمير المخاطب كما في قوله تعالى : رب ارجعون وقوله
ألا فإرحموني يااله محمد
ولم ينقل في ضمير الغائب كما نقل عن الرضي وأجيب بأن الثعالبي والفارسي نقلاه في الغائب أيضا والمثبت مقدم على النافي وبأنه لا يناسب تعظيم فرعون فإن كانعلى زعمه وزعم قومه فإنما يحسن في كلام ذكر أنه محكى عنهم وليس فليس ويجاب بأن المراد من التعظيم تنزيله منزلة المتعدد وكونه لا يناسب في حيز المنع لم لا يجوز أن يكون مناسبا لما فيه من الإشارة إلى مزيدعظم الخوف المتضمن زيادة مدح المومنين وقيل : إن ذلك وارد على عادتهم في محاوراتهم في مجرد جمع ضمير العظماء وإن لم يقصد التعظيم أصلا فتأمله وجوز أن يكون الجمع لأن المراد من فرعون آله كما يقال : ربيعة ومضر وإعترض عليه بأن هذا إنما عرف في القبيلة وأبيها إذ يطلق إسم الأب عليهم وفرعون ليس من هذا القبيل على أنه قد قيل : إن إطلاق أبي نحو القبيلة عليها لا يجوز ما لم يسمع ويتحقق جعله علما لها ألا تراهم لا يقولون :
(11/168)

فلان من هاشم ولا من عبد المطلب بل من بني هاشم وبني عبدالمطلب فكيف يراد من فرعون آله ولم يتحقق فيه جعله علما لهم ودعوى التحقق هنا أول المسئلة فالقول بأن الجمع لأن المراد به آله كربيعة ليس بشيء إلا أن يراد أن فرعون ونحوه من الملوك إذا ذكر خطر بالبال خطر أتباعهمعه فعاد الضمير على ما في الذهن وتمثيله بما ذكر لأنه نطيره في الجملة ثم إنه لا يخفى أنه إذا أريد من فرعون آله ينبغي أن يراد من آل فرعون فرعون وآله على التغليب وقيل : إن الكلام على حذف مضافأي آل فرعون فالضمير راجع إلى ذلك المحذوف وفيه أن الحذف يعتمد القرينة ولا قرينة هنا وضمير الجمع يحتمل رجوعه لغير ذلك المحذوف كما ستعلمه قريبا إن شاءالله تعالى فلا يصلح لأن يكون قرينة وأما أن المحذوف لا يعود إليه ضميركما قال أبو البقاء فليس بذاك لأنه إن أريد أنه لا يعود إليه مطلقافغير صحيح وإن أريد إذا حذف لقرينة فممنوع لأنه حينئد في قوة المذكور وقد كثر عود الضمير إليه كذلك في كلام العرب وقريب من هذا القيل زعم أن هناك معطوفا محذوفا إليه يعود الضمير أي على خوف من فرعون وقومه وملئهم ويرد عليه أيضا ما قيل : إن هذا الحذف ضعيف غير مطرد
وقيل : الضمير للذرية أو للقوم أي على خوف من فرعون ومن أشراف بنيإسرائيل حيث كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم أو على أنفسهم أومن أشراف القبط ورؤسائهم حيث كانوا يمنعونهم إنتصارا لفرعون ولعل المنساق إلى الذهن رجوعه إلى الذرية والجمع بإعتبار المعنى ويؤولالمعنى إلى أنهم آمنوا على خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنهم أي يبتليهم ويعذبهم وأصل الفتن كما قال الراغب إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته وإستعمل في إدخال الإنسان الناركما في قوله سبحانه : يوم هم على النار يفتنون ويسمى ما يحصل منهالعذاب فتنة ويستعمل في الإختبار وبمعنى البلاء والشدة وهو المراد هنا و أن وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من فرعون بدل إشتمال أي علىخوف من فرعون فتنته ويجوز أن يكون مفعول خوف لأنه مصدر منكر كثرإعماله وقيل : إنه مفعول له والأصل لأن يفتنهم فحذف الجار وهو ممايطرد فيه الحذف ولا يضر في مثل هذا عدم إتحاد فاعل المصدر والمعللبه على أن مذهب بعض الأئمة عدم إشتراط ذلك في جواز النصب وإليه مال الرضي وأيده بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف وإسنادالفعل إلى فرعون خاصة لأنه مدار أمر التعذيب وفي الكلام إستخدام في رأى حيث أريد من فرعون أولا آله وثانيا هو وحده وأنت تعلم ما فيه
وإن فرعون لعال في الأرض أي لغالب قاهر في أرض مصر وإستعمال العلو بالغلبة والقهر مجاز معروف وإنه لمن المسرفين 83 أيالمتجاوزي الحد في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء أو في الكبروالعتو حتى إدعى الربوبية وإسترق أسباط الأنبياء عليهم السلام والجملتان إعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق وفيهما من التأكيد ما لا يخفى وقال موسى لما رأى تخوف المؤمنين يقوم إن كنتم ءامنتمبالله أي صدقتم به وبآياته فعليه توكلوا أي إعتمدوا لا على أحدسواه فإنه سبحانه كافيكم كل شر وضر
(11/169)

إن كنتم ملسمين 84 أي مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل من تعليق شيئين بشرطين لأنه علقوجوب التوكل المفهوم من الأمر وتقديم المتعلق بالإيمان فإنه المقتضىله وعلق نفس التوكل ووجوده بالإسلام والإخلاص لأنه لا يتحقق مع التخليط ونظير ذلك إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت عليه فإن وجوب الإجابة معلق بالدعوة ونفس الدعوة معلقة بالقدرة وحاصله إن كنتم آمنتم باللهفيجب عليكم التوكل عليه سبحانه فإفعلوه وإتصفوا به إن كنتم مستسلمين له تعالى
وهذا النوع على ما في الكشف يفيد مبالغة في ترتب الجزاء على الشرط على نحو إن دخلت الدار فأنت طالق إن كنت زوجتي وجعله بعضهم من باب التعليق بشرطين المقتضى لتقدم الشرط الثاني على الأول في الوجودحتى لو قال : إن كلمت زيدا فأنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل قبل الكلام لأن الشرط الثاني شرط للأول فيلزم تقدمه عليه وقررهبأن ههنا ثلاثة أشياء : الإيمان والتوكل والإسلام والمراد بالإيمان التصديق وبالتوكل إسناد الأمور إليه عز و جل وبالإسلام تسليم النفس إليه سبحانه وقطع الأسباب فعلق التوكل بالتصديق بعد تعليقه بالإسلام لأن الجزاء معلق بالشرط الأول وتفسير للجزاء الثاني كأنه قيل : إن كنتممصدقين بالله تعالى وآياته فخصوه سبحانه بإسناد جميع الأمور إليهوذلك لا يتحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين لله تبارك وتعالى مستسليمنبأنفسكم له سبحانه ليس للشيطان فيكم نصيب وإلا فأتركوا أمر التوكل
ويعلم منه أن ليس لكل أحد من المومنين الخوض في التوكل بل للآحاد منهم وأن مقام التوكل دون مقام التلسيم والأكثر على الأول ولعله أدق نظرا فقالوا مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم وبلع ريق في ذلك على الله توكلنا لا على غيره سبحانه ويؤخذ من هذا القصر و التعبير بالماضي دون نتوكل أنهم كانوامؤمنين مخلصين قيل : ولذا أجيب دعاؤهم ربنا لا تجعلنا فتنة للقومالظلمين 85 أي موضع فتنة وعذاب لهم بأن تسلطهم علينا فيعذبونا أويفتنونا عن ديننا أو يفتنوا بنا ويقولوا : لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا ونجنا برحمتك من القوم الكفرين 86 دعاء بالإنجاء من سوءجوارهم وسوء صنيعهم بعد الإنجاء من ظلمهم ولذا عبر عنهم بالكفربعد ما وصفوا بالظلم ففيه وضع المظهر موضع المضمر وجوز أن يراد منالقوم الظالمين الملأ الذين تخوفوا منهم ومن القوم الكافرين ما يعمهم وغيرهم وفي تقديم التوكل على الدعاء وإن كان بيانا لإمتثال أمر موسى عليه السلام لهم به تلويح بأن الداعي حقه أن يبني دعاءه علىالتوكل على الله تعالى فإنه أرجى للإجابة ولا يتوهمن أن التوكل مناف للدعاء لأنه أحد الأسباب للمقصود والتوكل قطع الأسباب لأن المراد بذاك قطع النظر عن الأسباب العادية وقصره على مسببها عز و جل وإعتقاد أن الأمر مربوط بمشيئته سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وقدصرحوا أن الشخص إذا تعاطى الأسباب معتقدا ذلك يعد متوكلا أيضا ومثل التوكل في عدم المنافاة للدعاء على ما تشعر به الآية الإستسلام نعم في قول بعضهم : إن الإستسلام من صفات إبراهيم عليه السلام وكان من آثارهترك الدعاء حين ألقى في النار وإكتفاؤه عليه السلام بالعلم المشارإليه بقوله : حسبي من سؤالي علمه بحالي ما يشعر بالمنافاة ومن عرف المقامات وأمعن النظر هان عليه أمر الجمع وأوحينا إلى موسى وأخيهأن تبوءا أن مفسرة لأن في الوحي معنى القول ويحتمل أن
(11/170)

تكون مصدرية والتبوؤ إتخاذ المباءة أي المنزل كالتوطن إتخاذ الوطن والجمهور على تحقيق الهمزة ومنهم من قرأ تبويا لقومكما بمصربيوتا فجعلها ياء وهي مبدلة من الهمزة تخفيفا والفعل على ما قيلمما يتعدى لواحد فيقال : تبوأ زيد كذا لكن إذا أدخلت اللام علىالفاعل فقيل : تبوأ لزيد كذا تعدى لما كان فاعلا باللام فيتعدى لإثنين وخرجت الآية على ذلك فلقومكما أحد المفعولين وقيل : هو متعد لواحد و لقومكما متعلق بمحذوف وقع حالا من البيوت واللام على الوجهين غير زائدة وقال أبو علي : هو متعد بنفسه لإثنين واللام زائدة كما في ردف لكم وفعل وتفعل قد يكونان بمعنى مثل علقتهاوتعلقها والتقدير بوئا قومكما بيوتا يسكنون فيها أو يرجعون إليها للعبادة و مصر غير منصرف لأنه مونث معرفة ولو صرفته لخفته كما صرفت هندا لكان جائزا والجار متعلق بتبوآ وجوز أن يكون حالا من بيوتا أومن قومكما أومن ضمير الفاعل في تبوآ وفيه ضعف واجعلوا أنتما وقومكما ففيه تغليب المخاطب على غيره بيوتكم تلك فالأضافة للعهد قبلة أي مصلى وقيل : مساجد متوجهة نحوالقبلة يعني الكعبة فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها وعلى التفسرين تكون القبلة مجازا فيما فسرت به بعلاقة اللزوم أو الكلية والجزئية والإختلاف في المراد هنا ناظر للإختلاف في أن تلك البيوتالمتخذة هل للسكنى أو للصلاة فإن كان الأول فالقبلة مجاز عن المصلى وإن كان الثاني فهي مجاز عن المساجد
وإعترض القول بحمل القبلة على المساجد المتوجهة إلى الكعبة بأن المنصوص عليه في الحديث الصحيح أن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس ولم يشتهر أن موسى عليه السلام كان يستقبل الكعبة في صلاته فالقول به غريب وأغرب منه ما قاله العلائي : من أن الأنبياء عليهم السلام كانت قبلتهم كلهم الكعبة قيل : وجعل البيوت مصلى ينافيهما في الحديث جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا من أن الأمم السالفةكانوا لا يصلون إلا في كنائسهم وأجيب عن هذا بأن محله إذا لم يضطروا فإذا إضطروا جازت لهم الصلاة في بيوتهم كما رخص لنا صلاة الخوف فإن فرعون لعنه الله تعالى خرب مساجدهم ومنعهم من الصلاة فأوحى إليهم أن صلوا في بيوتكم كما روي عن ابن عباس وابن جبير وقد يقال : إنه لا منافاةأصلا بناء على أن المراد تعيين البيوت للصلاة وعدم صحة الصلاة في غيرهافيكون حكمها إذ ذاك حكم الكنائس اليوم وما هو من الخصائص صحة الصلاةفي أي مكان من الأرض وعدم تعين موضع منها لذلك فلا حاجة إلى ما يقال : من أن اعتبار جعل الأرض كلها مسجدا خصوصية بالنظر إلى ما إستقرت عليهشريعة موسى عليه السلام من تعين الصلاة في الكنائس وعدم جوازها في أيمكان أراده المصلي من الأرض وما تقدم من إستقبال اليهود الصخرة فالمشهور أنه كان في بيت المقدس وأما قبل بعد نزول التوراة فكانوا يستقبلون التابوت وكان يوضع في قبة موسى عليه السلام على أنه قد قيل : إن الإستقبال في بيت المقدس كان للتابوت أيضا وكانوا يضعونهعلى الصخرة فيكون إستقباله إستقبالها وأما إستقبالهم في مصر فيحتمل أنه كان للكعبة كما روي عن الحسن وما في الحديث محمول على آخرأحوالهم ويحتمل أنه كان للصخرة حسبما هو اليوم ويحتمل غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقيل : معنى قبلة متقابلة ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي إجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضها بعضا وأقيموا الصلاة فيها قيل : أمروا بذلك أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذونهم ويفتنونهم
(11/171)

في دينهم وهو مبني على أن المراد بالبيوت المساكن أما لو أريد بها المساجد فلا يصح كما لا يخفى ولعل التوجيه على ذلك هو أنهم أمروا بالصلاة ليستعينوا ببركتها على مقصودهم فقد قال سبحانه : واستعينوا بالصبر والصلاة وهي في المساجد أفضل فتكون أرجى للنفع وبشر المؤمنين 87 بحصول مقصودهم وقيل : بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى وإنما ثني الضمير أولا لأن التبوأ للقوموإتخاذ المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور ثم جمع ثانيا لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد مع أن في إدخال موسىوهرون عليهمما السلام مع القوم في الأمرين المذكورين ترغيبا لهم في الإمتثال ثم وحد ثالثا لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة وهي من الأعظم أسر وأوقع في النفس ووضعالمؤمنين موضع القوم لمدحهم بالإيمان وللإشعار بأنه المدار في التبشير وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأه زينة أي ما يتزين به مناللباس والمراكب ونحوها وتستعمل مصدرا وأموالا أنواعا كثيرةمن المال كما يشعر به الجمع والتنوين وذكر ذلك بعد الزينة من ذكر العام بعد الخاص للشمول وقد يحمل على ما عداه بقرينة المقابلة وفسر بعضهم الزينة بالجمال وصحة البدن وطول القامة ونحوه في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك أي لكي يضلوا عنها وهو تعليل للإيتاء السابق والكلام إخبار من موسى عليه السلام بأن الله تعالىإنما أمدهم بالزينة والأموال إستدراجا ليزدادوا إثما وضلالة كما أخبر سبحانه عن أمثالهم بقوله سبحانه : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وإلى كون اللام للتعليل ذهب الفراء والظاهر أنه حقيقة فيكون ذلك الضلال مراد الله تعالى ولا يلزم ما قاله المعترلة من أنه إذا كان كرادا يلزم أن يكونوا مطيعين به بناء على أن الإرادة أمر أو مستلزم له لما أنه قد تبين بطلان هذا المبنى في الكلام وقدر بعضهم حذرا منذلك لئلا يضلوا كما قدر في شهدنا أن تقولوا شهدنا أن لا تقولوا ولاحاجة إليه وقيل : إن التعليل مجازي لأنهم لما ضلوا بسبب ذلك جعل إيتاؤه كأنه للضلال فيكون في اللام إستعارة تبعية وقال الأخفش : اللام للعاقبة فيكون ذالك إخبارا منه عليه السلام لممارسته لهم وتفرسه بهم أو لعلمهم بالوحي على ما قيل بأن عاقبة ذلك الإيتاء الضلال
والفرق بين التعليل المجازي وهذا إن قلنا بأنه معنى مجازي أيضا أنفي التعليل ذكر ما هو سبب لكن لم يكن إيتاؤه لكونه سببا وفي لامالعاقبة لم يذكر سبب أصلا وهي كإستعارة أحد الضدين الآخر وقال ابن الأنباري : إنها للدعاء ولا مغمز على موسى عليه السلام في الدعاء عليهمبالضلال إما لأنه عليه السلام علم بالممارسة أو نحوها أنه كائن لا محالة فدعا به وحاصله أنه دعاء بما لا يكون إلا ذلك فهو تصريح بما جرى قضاءالله تعالى به ونحوه لعن الله تعالى الشيطان وإما لأنه ليس بدعاءحقيقة وليس النظر إلى تنجيز المسئول وعدمه بل النظر إلى وصفهمبالعتو وإبلاء عذره عليه السلام في الدعوة فهو كناية إيمائية على هذا وما قيل : هذا شهادة بسوء حالهم بطريق الكناية في الكناية لأن الضلال رديف الإضلالوهو منع اللطف فكني بالضلال عن الأضلال والإضلال رديف كونهم كالمطبوع فكان هذا كشفا وبيانا لحالهم بطريق الكناية فهو على ما فيه شيء عنهغني لأن الطبع مصرح به بعد بل النظر ههنا إلى الزبدة والخلاصة من هذهالمطالب كلها ويشعر كلام الزمخشري بإختيار كونها للدعاء وفي الإنتصاف أنه إعتزال أدق من دبيب النمل يكاد الإطلاع عليه يكون كشفا والظاهر أنها للتعليل وقال صاحب الفرائد لولا التعليل لم يتجه قوله : إنك آتيت فرعون وملأه زينة ولم ينتظم
(11/172)

وأورد عليه أيضا أنه ينافي غرض البعثة وهو الدعوة إلى الإيمانوالهدى ولا يخفى أن دفع هذا يعلم مما قدمنا آنفا وأما وجه إنتظامالكلام فهو كما قال غير واحد : إن موسى عليه السلام ذكر قوله : إنك آتيت إلخ تنهيدا للتخلص إلى الدعاء عليهم أي أنك أوليتهم هذهالنعمة ليعبدوك ويشكروك فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا وإذا كانت الحال هذه فليضلوا عن سبيلك ولو دعا إبتداء لم يحسن إذ ربما لم يعذرفقدم الشكاية منهم والنعي بسوء صنيعهم ليتسلق منه إلى الدعاء مع مراعاة تلازم الكلام من إيراد الأدعية منسوقة نسقا واحدا وعدم الإحتياج إلى الإعتذار عن تكرير النداء كما إحتاج القول بالتعليل إلى الإعتذارعنه بأنه للتأكيد وللإشارة إلى أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة للدعاء عليهم بعد وإدعى الطيبي أنه لا مجال للقول بالإعتراض لأنه إنمايحسن موقعه إذا إلتذت النفس بسماعه ولذا عيب قول النابغة
لعل زيادا لا أبالك غافل
وفي كلامه ميل إلى القول بأن اللام للدعاء وهو لدى المنصف خلاف الظاهر وما ذكروه له لا يفيده ظهورا
وقرىء ليضلوا بضم الياء وفتحها ربنا إطمس على أموالهم أي أهلكها كما قال مجاهد فالطمس بمعنى الإهلاك وفعله من باب ضرب ودخل ويشهد له قراءة إطمس بضم الميم ويتعدى ولا يتعدى وجاء بمعنى محو الأثر والتغيير وبهذا فسره أكثر المفسرين قالوا : المعنى ربنا غيرها عن جهة نفعها إلى جهة لا ينتفع بها
وأنت تعلم أن تغييرها عن جهة نفعها إهلاك لها أيضا فلا ينافي ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك أنه بعد هذا الدعاء صارت دراهمهم ودنانيرهم ونحاسهم وحديدهم حجارة منقوشة وعن محمد القرظي قال : سألني عمر بن عبدالعزيز عن هذه الآية فأخبرته أن الله تعالى طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة فقال عمر : مكانك حتى آتيك فدعا بكيس مختوم ففكه فإذا فيه البيضة مشقوقة وهي حجارة وكذاالدراهم والدنانيروأشباه ذلك وفي رواية عنه أنه صار سكرهم حجارةوأن الرجل بينما هو مع أهله إذ صارا حجرين وبينما المرأة قائمة تخبزإذ صارت كذلك وهذا مما لا يكاد يصح أصلا وليس في الآية ما يشير إليهبوجه وعندي أن أخبار تغيير أموالهم إلى الحجارة لا تخلو عن وهن فلايعول عليها ولعل الأولى أن يراد من طمسها إتلافها منهم على أتم وج والمراد بالأموال ما يشمل الزينة من الملابس والمراكب وغيرها واشدد على قلوبهم أي إجعلها قاسية وإطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هوقضية 4 شأنهم فلا يؤمنوا جواب للدعاء أعنى اشدد دون إطمس فهو منصوب ويحتمل أن يكون دعاء بلفظ النهي نحو إلهي لا تعذبني فهو مجزوم وجوز أن يكون عطفا على ليضلوا وما بينهما دعاء معترض فهو حينئذ منصوب أو مجزوم حسبما علمت من الخلاف في اللام حتى يروا العذاب الأليم 88 أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك والمرادبه جنس العداب الأليم وأخرج غير واحد عن ابن عباس تفسيره بالغرق
وإستدل بعضهم بالآية على أن الدعاء على شخص بالكفر لا يعد كفرا إذا لميكن على وجه الإستيجاز والإستحسان للكفر بل كان على وجه التمني لينتقمالله تعالى من ذلك الشخص أشد إنتقام وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام خواهرزاده فقولهم : الرضا بكفر الغير ليس على إطلاقه عنده بل هو مقيد بما إذا
(11/173)

كان على وجه الإستحسان لكن قال صاحب الذخيرة : قد عثرنا على رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الرضا بكفر الغير كفر من غيرتفصيل والمنقول عن علم الهدى أبي منصور الماتريدي التفصيل ففيالمسئلة إختلاف قيل : والمعول عليه أن الرضا بالكفر من حيث أنه كفركفر وأن الرضا به لا من هذه الحيثية بل من حيثية كونه سببا للعذاب الأليم أو كونه أثرا من آثار قضاء الله تعالى وقدره مثلا ليس بكفروبهذا يندفع التنافي بين قولهم : الرضا بالكفر كفر وقولهم : الرضا بالقضاء واجب بناء على حمل القضاء فيه على المقضي وعلى هذا لا يتأتىما قيل : إن الرضا العبد بكفر نفسه كفر بلا شبهة على إطلاقه بل يجري فيه التفصيل السابق في الرضا بكفر الغير أيضا ومن هذا التحقيق يعلم ما في قولهم : إن من جاءه كافر ليسلم فقال له : إصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان من النظر ويؤيده ما في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : يا رسول الله بايعه فكف صلى الله عليه و سلم يده عن بيعته ونظر إليه ثلاث مرات كل ذلك يأبى أن يبايعه فبايعه بعد الثلاث ثم أقبل صلى الله عليه و سلم على أصحابه فقال : أماكان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله قالوا : وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك فقال عليه الصلاة و السلام : إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين وقد أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص وهو معروف في السير فإنهظاهر في أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا فليتأمل قال قد أجيبت دعوتكما هو خطاب لموسى وهرون عليهما السلام وظاهره أن هرون عليهالسلام دعا بمثل ما دعا موسى عليه السلام حقيقة لكن إكتفى بنقل دعاء موسى عليه السلام لكونه الرسول بالإستقلال عن نقل دعائه وأشرك بالبشارة إظهارا لشرفه عليه السلام ويحتمل أنه لم يدع حقيقة لكن أضيفت الدعوة إليه أيضا بناء على أن دعوة موسى في حكم دعوته لمكان تابعاووزيرا له والذي تضافرت به الآثار أنه عليه السلام كان يؤمن لدعاءأخيه التأمين دعاء فإن معنى آمين أستجيب وليس إسما من أسمائه تعالى كما يروونه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قيل : ولكونهدعاء إستحب الحنفية الإسرار به وفيه نظر لأن الظاهر أن مدار إستحباب الأسرار والجهر ليس كونه دعاء فإن الشافعية إستحبوا الجهر به مع أن المشهور عنهم أنهم قائلون أيضابكونه دعاء وظاهر كلام بعض المحققين أن إضافة الرب الى ضمير المتكلم مع الغير في المواقع الثلاثة تشعر بأنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء موسى عليه السلام ولا يخفى ما في ذلك الإشعار من الخفاء وقرىء دعواتكما بالجمع ووجهه ظاهر فاستقيما فإمضيا لأمري وأثبتا على ما أنتم عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ما طلبتماه كائن في وقته لا محالة أخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالىعنهما قال : يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة وأخرجابن جرير عن ابن جريج مثله وأخرج الترمذي عن مجاهد أن الدعوةأجيبت بعد أربعين سنة ولم يذكر الزعم ولا تتبعان سبيل الذينلا يعلمون 89 بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلة في عدم الوثوق بوعد الله سبحانه والنهي لا يقتضي صحةوقوع المنهي عنه فقد كثر نهي الشخص عما يستحيل وقوعه منه ولعلالغرض منه هنا مجرد تأكيد أمر الوعد وإفادة أن في تأخير إنجازه
(11/174)

حكما إلهية وعن ابن عامر أنه قرأ ولا تتبعان بالنون الخفيفة المكسورة لإلتقاء الساكنين ووجه ذلك ابن الحاجب بأن لا نافيةوالنون علامة الرفع والجملة إما في موضع الحال من الضمير المرفوع في استقيما كأنه قيل : إستقيما غير متبعين والجملة المضارعيةالمنفية بلا الواقعة حالا يجوز إقترانها بالواو وعدمه خلافا لمنزعم وجوب عدم الإقتران بالواو إلا أن يقدر مبتدأ وإما معطوفة على الجملة الطلبية التي قبلها وهي وإن كانت خبرية لفظا إلا أنها طلبيةمعنى لأن المراد منها النهي كما في قوله تعالى : تؤمنون بالله ورسوله ولا تعبدون إلا الله والنهي المخرج بصورة الخبر أبلغ من النهي المخرج بصورته ويجوز أن تعتبر الجملة مستأنفة للإخبار بأنهما لا يتبعان سبيل الجاهلين ومن الناس من جعل لا في قراءة العامة نافية أيضا وهو ضعيف لأن النفي لا يؤكد على الصحيح وقيل : لا ناهية والنون نون التوكيد الخفيفة كسرت لإلتقاء الساكنين وهو تخريج لين فإن الكسائي وسيبويه لا بحيزانه لأنهما يمنعان وقوع الخفيفة بعد الألف سواء كانت ألف التثنية أو الألف الفاصلة بين نون الإناث ونون التوكيد نحوهل تضربنان يا نسوة وأيضا النون الخفيفة إذا لقيها ساكن لزم حذفها عند الجمهور ولا يجوز تحريكها ولكن يونس والفراء أجازا ذلك وفيه عنهما روايتان إبقاؤها ساكنة لأن الألف لخفتها بمنزلة الفتحة وكسرها على أصل التقاء الساكنين وعلى هذا يتم ذاك التخريج
وقيل : إن هذه النون هي نون التوكيد الثقيلة إلا أنها خففت وهو كما ترى وعنه أيضا ولا تتبعان بتخفيف التاء الثانية وسكونها وبالنون المشددة من تبع الثلاثي وأيضا ولا تتبعان وهي كالأولى إلا أن النون ساكنة على احدى الروايتين عمن تقدم في تسكين النون الخفيفة بعد الألف على الأصل وإغتفار إلتقاء الساكنين إذا كان الأول ألفا كما في محياي ثم اعلم أنه إشتهر في تعليل كسر النون في قراءة العامة بأنه لإلتقاءالساكنين وظاهره أنه بذلك زال إلتقاء الساكنين وليس كذلك إذ الساكنان هما الألف والنون الأولى ولا شيء منهما بمتحرك وإنما المتحرك النون الثانية ومن هنا قال بعض محققي النحاة : إن أصل التحريك ليتأتى الأدغام وكونه بالكسر تشبيها بنون التثنية وإلتقاء الساكنين أعني الألف والنون الأولى غير مضر لما قالوا من جوازه اذا كان الأولحرف مد والثاني مدغما في مثله كما في دابة لإرتفاع اللسان بهما معا حينئذ وقد حقق ذلك في موضعه فليراجع هذا والله تعالى أعلم
ومن باب الإشارة في الآيات
ومنهم من يستمعون اليك أفأنت تسمعالصم ولو كانوا لايعقلون أشار سبحانه إلى أنهم يستمعون لكن حكمهم حكم الأصم في عدم الإنتفاع وذلك لعدم إستعدادهم حقيقة أو حكما بأن كان ولكن حجب نوره رسوخ الهيآت المظلمة وكذا يقال فيما بعد ثم أنهتعالى رفع ما يتوهم من أن كونهم في تلك الحالة ظلم منه سبحانه لهم بقوله جل شأنه : إن الله لا يظلم الناس شيئا بسلب حواسهم وعقولهم مثلا ولكن الناس أنفسهم يظلمون حيث طلب إستعدادهم الغير المجعول ذلك ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار لذهولهم بتكاثف ظلمات المعاصي على قلوبهم يتعارفون بينهم بحكم سابقة الصحبة وداعيةالهوى اللازمة للجنسية الأصلية وهذا التعارف قد يبقى إذا إتحدوا في الوجهة وإتفقوا في المقصد وقد لا يبقى وذلك إذا إختلفت الأهواء وتباينت الآراء فحينئذ تتفاوت الهيئات المستفادة من لواحق النشأة فيقع التناكر وعوارض العادة قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوامهتدين
(11/175)

لما ينتفعون به ولكل أمة رسول من جنسهم ليتمكنوا من الإستفاضة منه فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بإنجاء من إهتدى به وإثابته وإهلاك من أعرض عنه وتعذيبه لظهور أسباب ذلك بوجوده وهم لا يظلمون فيعاملوابخلاف ما يستحقون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين إنكار للقيامة لإحتجابهم بما هم فيه من الكثافة قل لا أملك نفعا ولا ضرا إلاما شاء الله سلب لإستقلاله في التأثير وبيان لأنه لا يملك إلا ما أذن اللهتعالى فيه وهذا نوع من توحيد الأفعال وفيه إرشاد لهم بأنه لا يملك إستعجال ما وعدهم به ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم أي تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد والزجر عن الذنوب المتسببة للعقاب والتحريض على الطاعة الموجبة بفضل الله تعالى للثواب وشفاء لما في الصدور أي دواء للقلوب من أمراضها التي هي أشد من أمراض الأبدان كالشك والنفاق والحسد والحقد وأمثال ذلك بتعليم الحقائق والحكمالموجبة لليقين والتصفية والتهيء لتجليات الصفات الحقة وهدى لأرواحكم إلى الشهود الذاتي ورحمة بإفاضة الكمالات اللائقة بكل مقام من المقامات الثلاثة بعد حصول الإستعداد في مقام النفس بالموعظة ومقامالقلب بالتصفية ومقام الروح بالهداية للمؤمنين بالتصديق أولا ثم باليقين ثانيا ثم بالعيان ثالثا
وذكر بعضهم الموعظة للمريدين والشفاء للمحبين والهدى للعارفين والرحمة للمستأنسين والكل مؤمنون إلا أن مراتب الإيمان متفاوتة والخطاب في الآية لهم وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر ويقال : إنه سبحانه بدأ بالموعظة لمريض حبه لأنها معجون لإسهال شهواته فإذا تطهر عن ذلك يسقيه شراب ألطافه فيكون ذلك شفاء له مما به فإذا شفي يغذيه بهدايته إلى نفسه فإذا كمل بصحبته يطهره بمياه رحمته من وسخ المرض ودرن الإمتحان قل بفضل الله بتوفيقه للقبول في المقامات وبرحمته بالمواهب الخلقية والعملية والكشفية فيها فبذلك فليفرحوا لا بالأمور الفانية القليلة المقدارالدنية القدر هو خير مما يجمعون من الخسائس والمحقرات وفسر بعضهم الفضل بإنكشاف صباح الأزل لعيون أرواح المريدين وزيادة وضوحه في لحظة حتى تطلع شموس الصفات وأقمار الذات فيطيرون في أنوار ذلك بأجنحة الجذبات إلى حيث شاء الله تعالى والرحمة بتتابع مواجيد الغيوب للقلوب بنعت التفريد بلا إنقطاع من هنا قال ضرغام أجمة التصوف أبو بكر الشبلي قدس سره : وقتى سرمد وبحري بلا شاطىء وقيل : فضله الوصال ورحمته الوقاية عن الإنفصال وقيل : فضله إلقاء نيران المحبة في قوب المريدين ورحمته جذبه أرواح المشتاقين وقيل : فضله سبحانه على العارفين كشف الذات وعلى المحبين كشف الصفات وعلى المريدين كشف أنوار الآيات ورحمته جل شأنه على العارفين العناية وعلىالمحبين الكفاية وعلى المريدين الرعاية وقال الجنيد : فضل اللهتعالى في الإبتداء ورحمته في الإنتهاء وهو مناسب لما قلنا وقال الكتاني : فضل الله تعالى النعم الظاهرة ورحمته النعم الباطنة وقيل غير ذلك قل أرأيتم ما أنزل الله لكم أي أخبروني ما أنزل اللهسبحانه من رزق معنوي كالمعارف الحقانية وكالآداب الشرعية فجعلتم منه حراما كالقسم الأول حيث أنكرتموه على أهله ورميتموه بالزندقة وحلالا كالقسم الثاني حيث قبلتموه قل الله أذن لكم في الحكم بالتحليل والتحريم أم على الله تفترون في ذلك ثم أنه سبحانه أوعد المفترين بقوله عز من قائل : وما ظن الذين يفترون إلخ ففي الآية إشارة إلى سوء حال المنكرين على من تحلى بالمعارف الألهية ولعل منشأ ذلك زعمهم إنحصار العلم
(11/176)

فيما عندهم ولم يعلموا أن وراء علومهم علوما لا تحصى يمن الله تعالى بها على من يشاء وفي قوله تعالى : وقل رب زدني علما إشارة إلى ذلك فما أولاهم بأن يقال لهم : ما أوتيتم من العلم إلا قليلا ومن العجيب أنهم إذا سمعوا شيئا من أهل الله تعالى مخالفا لما عليه مجتهدوهم ردوه وقالوا : زيغ وضلال وإعتمدوا في ذلك على مجرد تلك المخالفة ظنا منهم أن الحق منحصر فيما جاء به أحرا أولئك المجتهدين مع أن الإختلاف لم يزل قابما بينهم على ساق
على أنه قد يقال لهم : ما يدريكم أن هذا القائل الذي سمعتم منه ما سمعتم وأنكرتموه أنه مجتهد أيضا كسائر مجتهديكم فإن قالوا : إن للمجتهد شروطا معلومة وهي غير موجودة فيه قلنا : هذه الشروط التيوضعت للمجتهد في دين الله تعالى هل هي منقولة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صريحا أو صنعتموها أنتم من تلقاء أنفسكم أو صنعها المجتهد فإن كانت منقولة عن الرسول عليه الصلاة و السلام فأتوا بها وإتلوها وصححوا نقلها إن كنتم صادقين وهيهات ذاك وإن كان الواضع لها انتم وأنتم أجهل من ابن يوم فهي رد عليكم ولا حبا ولا كرامة على أن في إعتبارها أخذا بكلام من ليس مجتهدا وأنتم لا تجوزونه وإن كان الواضع لها المجتهد فإثبات كونه مجتهدا متوقف على إعتبار تلك الشروط وإعتبار تلك الشروط متوقف على إثبات كونه مجتهدا وهل هذا الا دور وهو محال لو تعقلونه وأيضا لم لا يجوز أن تكون تلك الشروط شروطا للمجتهد النقلي وهناك مجتهد آخر شرطه تصفية النفس و تزكيتها وتخلقها بالخلق الرباني وتهيؤها وإستعدادها لقبول العلم من الله تعالى و أي مانع من أن يخلق الله تعالى العلم في من صفت نفسه و تهيأت بالفقر و اللجأ إلى الله تعالى و صدق عزمه في الأخذ ولم يتكل علىحوله وقوته كما يخلقه فيمن إستوفى شروط الإجتهاد عندكم فإجتهد وصرف فكره ونظره والقول بأنه سبحانه إنما يخلق العلم في هذا دون ذاك حجر على الله تعالى وخروج عن الإنصاف كما لا يخفى فلا ينبغي المصنف العارف بأن الفضل بيد الله يوتيه من يشاء من عباده إلا أن يسلم لمنظهرت فيه آثار التصفية والتهيء وسطعت عليه أنوار التخلق بالخلق الرباني ما أتى به ولو لم يأت به مجتهد ما لم يخالف ما علم مجيئه من الدين بالضرورة ويأبى الله تعالى أن يأتى ذلك بمثل ما ذكر
لكن ذكر مولانا اللإمام الرباني ومجدد الألف الثاني قدس سره في بعض مكتوباته الفارسية أنه لا يجوز تقليد أهل الكشف في كشفهم لأن الكشف لا يكون حجة على الغير وملزما له وقد يقال : ليس في هذا أكثر من منع تقليد أهل الكشف و محل النزاع الإنكار عليهم و رميهم العياذ بالله تعالى بالزندقة وليس في الكلام أدنىرائحة منه كما لا يخفى إن الله لذو فضل على الناس بصنفي العلمين وإفاضتهما بعد تهيئة الإستعداد لقبولهما ولكن أكثرهم لا يشكرون ذلك ولا يعرفون قدره فيمنعون عن الزيادة وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه إخبار منه تعالى بعظيم اطلاعه سبحانه على الخواطر وما يجري في الضمائر فلا يخفى عليه جل شأنه خاطر ولا ضمير 0 ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ثمأخبر جل وعلا عن سلطان إحاطته على كل ذرة من العرش إلى ما تحت الثرى بقوله تبارك إسمه : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء أي إن علمه سبحانه محيط بما في العالم السقلي والعلوي فكل ذرة من ذارته داخلة في حيطة علمه كيف لا وكلها قائمة به جل شأنه ينظر إلى كل في كل آن
(11/177)

نظر الحفظ والرعاية ولولا ذلك لهلكت الذرات وإضمحلت سائر الموجودات ألا إن اولياء الله لا خوف عليهم إذ لم يبق منهم بقية يخاف بسببها من حرمان ولا هم يحزنون لإمتناع فوات شيء من الكمالات واللذات منهم الذين آمنوا الإيمان الحقيقي وكانوا يتقون بقاياهم وظهور تلوناتهم لهم البشرى في الحياة الدنيا بوجود الإستقامة والأخلاق المبشرة بجنة النفوس و في الآخرة بظهور أنوار الصفات والحقائق عليهم المبشرة بجنةالقلوب والظاهر أن الموصول بيان للأولياء فالولي هو المؤمن المتقى على الكمال ولهم في تعريفه عبارات شتى تقدم بعضها
وفي الفتوحات : هو الذي تولاه الله تعالى بنصرته في مقام مجاهدته الأعداء الأربعة الهوى والنفس والشيطان والدنيا وفيها تقسيم الأولياء إلى عدة أقسام منها الأقطاب والأوتاد والأبدال والنقباء والنخباء وقد ورد ذلك مرفوعا وموقوفا من حديث عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأنس وحذيفة بن اليمان وعبادة ابن الصامت وابن عباس وعبدالله بن عمر وابن مسعود وعوف بن مالك ومعاذ بن جبل وواثلة ابن الأسقع وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وأبي الدرداء وأم سلمة ومن مرسل الحسن وعطاء وبكر ابن خميس ومن الآثار عن التابعين ومن بعدهم ما لا يحصى وقد ذكر الجلال السيوطي في رسالة مستقلة له وشيد أركانه وأنكره كما قدمنا بعضهم والحق مع المثبتين وأنا والحمد لله تعالى منهم وإن كنت لم أشيد قبل أركان ذلك والأئمة والحواريون والرجبيون والختم والملامية والفقراء وسقيط الرفرف ابن ساقط العرش والامناء والمحدثون إلى غير ذلك وعد الشيخ الأكبر قدس سره منهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والبيانالذي في الآية صادق عليهم عليهم السلام على أتم وجه ونسب غليه رضى الله تعالى عنه القول بتفضيل الولي على النبي والرسول وخاض فيه كثيرمن المنكرين حتى كفروه وحاشاه بسبب ذلك وقد صرح في غير موضع من فتوحانه وكذا من سائر تاليفاته بما ينافي هذا القول حسبما فهمهالمنكرون وقد ذكر في كتاب القربة أنه ينبغي لمن سمع لفظة من عارف متحقق مبهمة كأن يقول الولاية هي النبوة الكبرى أو الولي العارف مرتبتهفوق مرتبة الرسول أن يتحقق المراد منها ولا يبادر بالطعن ثم ذكر في بيان ما ذكر مانصه : أعلم أنه إعتبار للشخص من حيث ماهو انسان فلا فضل ولا شرف في الجنس بالحكم الذاتي وإنما يقع التفاضل بالمراتب فالأنبياء صلوات الله تعالى عليهم ما فضلوا الخلق إلابها فالنبي صلى الله عليه و سلم له مرتبة الولاية والمعرفة والرسالة ومرتبة الولاية والمعرفة دائمة الوجود ومرتبة الرسالة منقطعة فإنها تنقطع بالتبليغ والفضل للدائم الباقي والولي العارف مقيم عنده سبحانه والرسول خارج وحالة الإقامة أعلى من حالة الخروج فهو صلى الله تعالى عليه وسلم من حيثية كونه وليا وعارفا أعلى وأشرف من حيثية كونه رسولا وهو صلى الله عليه و سلم الشخص بعينه وإختلفت مراتبه لا أن الولي منا أرفع من الرسول نعوذ بالله تعالى من الخذلان فعلى هذا الحد يقول تلك الكلمة أصحاب الكشف والوجود إذ لا إعتبار عندنا إلا للمقامات ولا نتكلم إلا فيها لا في الأشخاص فإن الكلام في الأشخاص قد يكون بعض الأوقات غيبة والكلام على المقامات و الأحوال من صفات الرجال ولنا في كل حظ شرب معلوم ورزق مقسوم إنتهى وهو صريح في أنه قدس سره لا يقول هو ولا غيره من الطائفة بأن الولي أفضل من النبي حسبما ينسب إليه وقد نقل الشعراني عنه أنه قال : فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لادخولا فكدت أحترق فينبغي تأويل جميع ما يوهم القول بذلك كأخباره في كتابه التجليات وغيره بإجتماعه ببعض الأنبياء عليهم السلام وإفادتهلهم من العلم ما ليس
(11/178)

عندهم وكقول الشيخ عبدالقادر الجيلي قدس سره وقد تقدم : يا معاشر الأنبياء أوتيتم الألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه إلى غير ذلك فإن إعتقاد أفضلية ولي من الأولياء على نبي من الأنبياء كفر عظيم وضلال بعيد ولوساغ تفضيل ولي على نبي لفضل الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه على أحد من الأنبياء لأنه أرفع الأولياء قدرا كما ذهب إليه أهل السنة ونص عليه الشيخ قدس سره في كتاب القربة أيضا مع أنه لم يفضل كذلك بل فضل على من عداهم كما نطق به ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق فمتى لم يفضل الصديق وهو الذي وقر في صدره ما وقر ونال من الكمال ما لا يحصر فكيف يفضل غيره
وفضل كثير من الشيعة عليا كرم الله تعالى وجهه وكذا أولاده الأئمةالطاهرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين على كثير من الأنبياء والمرسلين من أولي العزم وغيرهم ولا مستند لهم في ذلك إلا أخبار كاذبة وأفكار غير صائبة
وبالجملة متى رأينا الشخص مؤمنا متقيا حكمنا عليه بالولاية نظرالظاهر الحال ووجب علينا معاملته بماهو أهله من التوقير والإحترام غيرغالين فيه بتفضيله على رسول أو نبي أو نحو ذلك مما عليه العوام اليوم في معاملة من يعتقدونه وليا التي هي أشبه شيء بمعاملةالمشرك من يعتقدونه إلها نسأل الله تعالى العفو والعافية ولا يشترط فيه صدور كرامة على يده كما يشترط في الرسول صدور معجزة ويكفيه الإستقامة كرامة كما يدل عليه ما إشتهر عن أبي يزيد قدس سره بل الولي الكامل لاإلتفات له إليها ولا يود صدورها على يده إلا إذا تضمنت مصلحة للمسلمين خاصة أو عامة وفي الجواهر والدر للشعراني سمعت شيخنا يقول : إذا زل الولي ولم يرجع لوقته عوقب بالحجاب وهو أن يجيب إليه إظهار خرق العوائد المسماة في لسان العامة كرامات فيظهر بها ويقول : لو كنت مؤاخذا بهذه الذلة لقبض عني التصريف وغاب عنه أن ذلك إستدراج بل ولو سلم من الزلة فالواجب خوفه من المكر والإستدراج وقال بعضهم : الكرامة حيض الرجال ومن إغتر بالكرامات بالكرى مات وأضر الكرامات للولى ما أوجب الشهرة فإن الشهرة آفة وقد نقل عن الخواص أنها تنقص مرتبة الكمال وأيد ذلك بالأثر المشهور خص بالبلاء من عرفه الناس نعم ذكر في أسرار القرآن أن الولاية لا تتم إلا بأربع مقامات الأول مقام المحبة والثاني مقام الشوق والثالث مقام العشق والرابع مقام المعرفة ولا تكون المحبة إلا بكشف الجمال ولا يكون الشوق إلا بإستنشاق نسيم الوصال ولا يكون العشق إلا بدنو الأنوار ولا تكون المعرفة إلا بالصحبة وتتحقق الصحبة بكش الألوهية مع ظهور أنوار الصفات ولحصول ذلك آثار وعلامات مذكورة فيه فليراجعه من أرادها والكلام في هذا المقام كثير وكتب القوم ملأى منه وما ذكرناه كفاية لغرضنا وأحسن ما يعتمد عليه في معرفة الولي اتباع الشريعة الغراء وسلوك المحجة البيضاء فمن خرج عنها قيد شبر بعد عن الولاية بمراحل فلا ينبغي أن يطلق عليه إسم الولي ولو أتى بألف خارق فالولي الشرعي اليوم أعز من الكبريت الأحمر ولا حول ولا قوة إلا بالله
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها لا تبديل لكلمات الله أي لما سبق لهم في الأزل من حسن العناية أو لاتبديل لحقائقه سبحانه الواردة عليهم وأسمائه تعالى المنكشفة لهم وأحكلم تجلياته جل وعلا النازلة بهم أولا تبديل لفطرهم التي فطرهم عليها ويقال لكل محدث كلمة لأنه أثر الكلمة ولا يحزنك قولهم أي لا تتأثر به إن العزة لله جميعا لا يملك أحد سواه منها شيئا فسيكفيكهم الله تعالى ويقهرهم و هو السميع لأقوالهم العليم بما ينبغي أن يفعل بهم
(11/179)

ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض أي إن كل من في ذلك تحت ملكه سبحانه وتصرفه وقهره لا يقدرون على شيء من غير إذنه فهو كالتأكيد لما أفادته الآية السابقة أو أن من فيها من الملائكة والثقلين الذين همأشرف المكنات عبيد له سبحانه لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل أحق بأن لا يصلح لذلك فهو كالدليل على قوله سبحانه : وما يتبع الدين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا ما يتوهمونه ويتخلونه شريكا ولا شركة له في الحقيقة هو الدي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه إشارة إلى سكون العشاق والمشتاقين في الليل إذا مد أطنابه ونشر جلبابه وميلهم إلى مناجاة محبوبهم وإنجذابهم إلى مشاهدة مطلوبهم وتلذذهم بما يرد عليهم من الواردات الإلهية وإستغراقهم بأنواع التجليات الربانية ومن هنا قال بعضهم : لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا وهذه حالة عشاق الحضرة وهم العشاق الحقيقيون نفعنا الله تعالى بهم وأنشد بعض المجازيين : أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني بالليل والهم جامع نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليل هزتني إليك المضاجع والنهار مبصرا أي ألبسه سربال أنوار القدرة لتقضوا فيها حاجاتكم الضرورية وقيل : الإشارة بذلك إلى ليل الجسم ونهار الروح لتبصروا به حقائق الأشياء وما تهتدون به إن في ذلك لقوم يسمعون كلام الله تعالى فيقيمون بواطنه وحدوده ويطلعون به على صفاته وأسمائه سبحانه وقالوا اتخذ الله ولدا أي معلو لا يجانسه سبحانه أي أنزهه جل وعلامن ذلك هو الغني الذي وجوده بذاته وجود كل شيء وذلك ينافي الغني وأكد غناه جل شأنه لبقوله تعالى : له ما في السموات الخ وقوله سبحانه : واتل عليهم نبأ نوح إلخ أمر له صلى الله عليه و سلم أن يتلو عليهم نبأ نوح عليه السلام في صحة توكله على الله تعالى ونظره إلى قومه وشركائهم بعين الغنى وعدم المبالاة بهم وبمكايدهم ليعتبروا به حاله عليه الصلاة و السلام فإن الأنبياء عليهم السلام في ملة التوحيد والقيام بالله تعالى وعدم الإلتفات إلى الخلق سواء أو أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يتلو نبأ نوح مع قومه ليتعظ قومه وينرجروا عما هم عليه مما يفضي إلى إهلاكهم وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله أي إيمانا حقيقا فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين أي منقادين أي إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا بشرط أن لا يكون لكم فعل ولا تروا لأنفسكم ولا لغيركم قوة ولا تأثير بل تكونوا منقادين كالميت بين يدي مغسلة فإن شرط صحة التوكل فناء بقايا الافعال والقوى قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما أي على ماأنتما عليه من الدعوة شكرا لتلك الإجابة وقيل : أي إستقيما على معرفتكما مقام السؤال وهو مقام الرضوان ليستجاب لكما بعد إذا دعوتما فإن من لم يعرف مقام السؤال قد يوقعه في غير مقامه فيسيء الأدب فلا يستجاب له وقيل : إن هذا عتاب لهما عليهما السلام أي قد أجيب دعوتكما لضعفكما عن تحمل وارد إمتحاني فإستقيما بعد ذلك على تحمل بلائي والصبر فيه فإنه اللائق بشأنكما وقد قيل : المعرفة تقتضي الرضا بالقضاء والسكون في البلاء وقيل : أي إستقيما في دعائكما والإستقامة في الدعاء على ماقال ذو النون المصري أن لا يغضب الداعي لتأخير الغجابة ولا يسأل سوال خصوص نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر من جاوز المكان إذا قطعه وتخطاه وهو متعد إلى المفعول الأول الذي كان فاعلا في الأصل بالباء وإلى الثاني بنفسه والمعنى
(11/180)

جعلناهم مجاورين البحر بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط وقرأ الحسن وجوزنا بالتضعيف وفعل بمعنى فاعل فهو من التجويزالمرادف للمجاورة بالمعنى السابق وليس بمعنى نفذ لأنه لا يحتاج إلىالتعدية بالباء ويتعدى إلى المفعول الثاني بفي كما في قوله : ولا بد من جار يجيز سبيلها كما جوز السكي في الباب فيتق فكان الواجب هنا من حيث اللغة أن يقال : وجوزنا بني إسرائيل البحر أي نفذناهم وأدخلناهم فيه وفي الآية إشارة إلى إنفصالهم عن البحر وإلى مقارنة العناية الإلهية لهم عند الجواز كما هو المشهور في الفرق بين أذهبه وذهب به فأتبعهم قال الراغب : يقال تبعه وأتبعه إذا قفا أثره إما بالجسم أو بالإرتسام والإئتمار وظاهره أن الفعلين بمعنى
وقال بعض المحققين : يقال تبعته حتى أتبعته إذا كان سبقك فلحقته فالمعنى هنا أدركهم ولحقهم فرعون وجنوده حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان بغيا وعدوا أي ظلما وإعتداء وهما مصدران منصوبان علىالحال بتأويل إسم الفاعل أي باغين وعادين أو على المفعولية لأجله أي للبغي والعدوان
وقرأ الحسن وعدوا بضم العين والدال وتشديد الواو وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر موسى وهرون عليهما السلام بإجابة دعوتهما أمر موسى عليه السلام بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا وكانوا كما ذكره غير واحد ستمائة ألف فخرج بهم على حين غفلة من فرعون وملئه فلما أحس بذلك خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين فإلتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم فقالوا : يا موسى هذا فرعون وجنوده وراءنا وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فإنفلق إثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وصار لكل سبط طريق فسلكوا ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله بمن معه أجمعين فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ما غشيهم حتى إذا أدركه الغرق أي لحقه والمراد بلحوقه إياه وقوعه فيه وتلبسه بأوائله وقيل : معنى أدركه قارب إدراكه كجاء الشتاء فتأهب لأن حقيقة اللحوق تمنعه من القول الذي قصه سبحانه بقوله جل شأنه : قال ءامنت إلخ من الناس من أبقى الإدراك على ظاهره وحمل القول على النفسي وزعم أن الآية دليل على ثبوت الكلام النفسي ونظر فيه بأن قيام الإحتمال يبطل صحة الإستدلال وأياما كان فليس المراد الإخبار بإيمان سابق كما قيل بل إنشاء إيمان أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنوا إسرائيل أي بأنه وقدر الجار لأن الإيمان وكذا الكفر متعد بالباء ومحل مدخوله بعد حذفه الجر أوالنصب فيه خلاف شهير وجعله متعديا بنفسه فلا تقدير لأنه في أصل وضعه كذلك مخالفة للإستعمال المشهور فيه : وقرأ حمزة والكسائي إمه بالكسر على إضمار القول أي وقال إنه أو على الإستئناف لبيان إيمانه أو الإبدال من جملة آمنت والجملة الإسمية يجوز إبدالها من الفعلية والغستئناف على البدلية بإعتبار المحكى لا الحكاية لأن الكلام في الأول والجملة الأولى في كلامه مستأنفة والمبدل من المستأنف مستأنف والضمير للشأن وعبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلته إيمان بني إسرائيل به تعالى ولم يقل كما قال السحرة آمنا برب العالمين رب موسى
(11/181)

وهرون للإشعار برجوعه عن الإستعصاء وإتباعه لمن كان يستتبعهم طمعا في القبول والإنتظام معهم في سلك النجاة وأنا من المسلمين 90 أي الذين أسلموا نفوسهم لله تعالى أي جعلوها خالصة سالمة له سبحانه وأراد بهم إما بني إسرائيل خاصة وإما الجنس وهم إذ ذاك داخلون دخولاأوليا والظاهر أن الجملة على التقديرين معطوفة على جملة آمنت وإيثار الإسمية لإدعاء الدوام والإستمرار
وقيل : إنها على الأول معطوفة وعلى الثاني تحتمل الحالية أيضا من ضمير المتكلم أي آمنت مخلصا لله تعالى منتظما في سلك الراسخين في ذلك ولقد كرر المعنى الواحد بثلاث عبارات وبالغ ما بالغ حرصا على القبول المقتضى للنجاة وليت بعض ذلك قد كان حين ينفعه الإيمان وذلك قبل اليأس فإن إيمان اليأس غير مقبول كما عليه الإئمة الفحول ءالآن الإستفهام للإنكار والتوبيخ والظرف متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا أي آلآن تومن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات وقدر مؤخرا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله فيه والكلام على تقدير القول أي فقيل له ذلك وهو معظوف على قال وهذا إلى آية حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول ومقابلة ما أظهره بالرد الشنيع وتقريعه بالعصيان والإفساد إلى غير ذلك وفي حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكى في صورة الإنشاء من الدلالة علىعظم السخط وشدة الغضب ما لا يخفى والقائل له ذلك فقيل : هو الله تعالى وقيل : هو جبريل عليه السلام وقيل : إنه ميكائيل عليه السلام فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام : ما أبغضت شيئا من خلق الله تعالى ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد وماابغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتصم بكلمة الإخلاص فينجو فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال آلآن الخ وماتضمنه هذا الخبر من فعل جبريل عليه السلام جاء في غير ما خبر ومن ذلك ما أخرجه الطيالسي وابن حبان وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب والترمذي والحاكم وصححاه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله تعالى صلى الله عليه و سلم قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون مخافة أن تدركه الرحمة وغستشكل هذا التعليل
وفي الكشاف أن ذلك من زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته عليهم السلام : وفيه جهالتان : إحداهما أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الاخرس فحال البحر لا يمنعه والاخرى أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه علىالكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر وإرتضاه ابن المنير قائلا : لقد أنكر منكرا وغضب لله تعالى وملائكته عليهم السلام كما يجب لهم والجمهور على خلافه لصحة الحديث عند الأئمة الثقات كالترمذي المقدم على المحدثين بعد مسلم وغيره وقد خاضوا في بيان المراد منه بحيث لا يبقى فيه إشكال
ففي إرشاد العقل السليم أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية أي النجاة التي هي طلبة المخذول وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان كما في إيمان قوم يونس عليه السلام حتى يلزم من كراهته ما لا يتصور في شأن جبريل عليه السلام من الرضا بالكفر إذ لا إستحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان وان كان ذلك في حالة البأس واليأس فيحمل دسه عليه السلام على سد باب الإحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد إنتهى
(11/182)

ولا يخفى أن حمل الرحمة على الرحمة الدنيوية بعيد ويكاد بأبى عنه ما أخرجه ابن جرير والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لي جبريل عليه السلام : لو رأيتني يا محمد وأنا أغط فرعون بإحدى يدي وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله تعالى فيغفر له فإنه رتب فيه المغفرة على إدراك الرحمة وهو ظاهر في أنه ليس المراد بها الرحمة الدنيوية لأن المغفرة لاتترب عليها وإنما يترتب عليها النجاة
وقال بعض المحققين : إنما فعل جبريل عليه السلام ما فعل غضبا عليه لما صدر منه وخوفا أنه إذا كرر ذلك ربما قبل منه على سبيل خرق العادة لسعة بحر الرحمة الذي يستغرق كل شيء وأما الرضا بالكفر فالحق أنه ليس بكفر مطلقا بل إذا إستحسن وإنما الكفر رضاه بكفر نفسه كمل في التأويلات لعلم الهدى إنتهى وقد تقدم آنفا ما يتعلق بهذه المسألة فتذكره فما في العهد من قدم نعم قيل : إن الرضا بكفر نفسه إنما يكون وهو كافر فلا معنى لعده كفرا والكفر حاصل قبله وهو على ما له وما عليه بحث آخر لا يضر فيما نحن فيه
والطيبي بعد أن أجاب أردف ذلك بقوله : على أنه ليس للعقل مجال في مثل هذا النقل الصحيح إلا التلسيم ونسبة القصور إلى النفس وقد يقال : إن الخبر متى خالف صريح العقل أو تضمن نسبة ما لا يتصور شرعا في حق شخص إليه ولم يمكن تأويله على وجه يوافق حكم العقل ويندفع به نسبةالنقص لا يكون صحيحا وإتهام الراوي بما يوهن أمر روايته أهون من إتهام العقل الصريح ونسبة النقص إليه دون نسبة النقص إلى من شهد الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه بعصمته وكماله فتأمل والله تعالى الموافق وقوله سبحانه : وقد عصيت قبل في موضع الحال من فاعل الفعل العامل في الظرف جيء به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لما عسى يعد عذرا بل كان ذلك على طريقة الرد والإستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى : وكنت من المفسدين 91 عطف على عصيت داخل في حيز الحال والتحقيق أي وقد كنت من المفسدين الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان فهذا عبارة عن فساده الراجع إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدى وصد بني إسرائيل عن السبيل والأول عن عصيانه الخاص به وقوله جل شأنه : فاليوم ننجيك ببدنك تهكم به وتخييب له وحسم لأطماعه بالمرة والمراد فاليوم نخرجك مماوقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ملابسا ببدنك عاريا عن الروح إلا أنه عبر عن ذلك بالتنجية مجازا وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المخاطب لذلك مع ما فيه من التلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة وقيل : معنى الحال عاريا عن اللباس أو تام الأعضاء كاملها
وجعل بعض الأفاضل الكلام على التجريد وجوز أن يكون الباء زائدة وبدنك بدل بعض من ضمير المخاطب كأنه قيل : ننجي بدنك وجعل الباء للآية ليكون على وزان قولك أخذته بيدك ونظرته بعينك إيذانا بحصول هذا المطلوب البعيد التناول وجه لكنه غير وجيه كما لا يخفى وقيل : التنجية الإلقاء على النجوة وهي المكان المرتفع قيل : وسمي به لنجاته عن السيل وإلى هذا مذهب يونس بن حبيب النحوي فقد أخرج ابن الأنباري وأبو الشيخ عنه أنه قال : المعنى نجعلك على نحوة من الأرض كي يراك بنو إسرائيل فيعرفوا أنك قدمت وجاء تفسير البدن بالدرع وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي وكانت له درع من
(11/183)

ذهب يعرف بها وفي رواية أنها كانت من لؤلؤ
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جهضم موسى بن سالم أنه كان لفرعون شيء يلبسه يقال له البدن يتلالأ وقرأ يعقوب ننجيك من باب الأفعال وهو معنى التفعيل بمعنييه السابقين وأخرج ابن الأرنباري عم محمد بن السميقع اليماني ويزيد البربري أنهما قرآ ننجيك بالحاءالمهملة ونسبت إلى أبي بن كعب وأبي السمال أي نجعلك في ناحية ونلقيك على الساحل وقرأ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بأبدانك على صيغة الجمع يجعل كل عضو بمنزلة البدن فأطلق الكل على الجزءمجازا وعلى هذا جمع الإجرام في قوله : وكم موطن لولاي طحت كما هوى باجرامه من قلة النيق منهوي أو بغراده دروعك بناء على أن المخذول كان لا بسا درعا على درع وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قرأ بندائك أي بدعائك لتكون لمن خلفك ءاية أي لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا حال أمرك ممن شاهد حالك وما عراك عبرة ونكالا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلوالكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الألوهية والربوبية وقيل : المراد بمن خلفه من بقى بعده من بني إسرائيل أي لتكون لهم علامة على صدق موسى عليه السلام إذ كان في نفوسهم من عظمتهما خيل غليهم أنه لا يهلك فكذبوا لذلك خبر موسى عليه السلام بهلاكه حتى عاينوه على ممرهم من الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور وروي هذا عن مجاهد وقريء من خلفك فعلا ماضيا أي حل مكانك ونسب إلى ابن السميقع وأبي السمال أنهما أيضا قرآ لمن خلقك بفتح اللام والقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر الآيات فإن إفراده سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه قصد منه جل شأنه لكشف تزويرك وغماطة الشبهات في أمرك وبرهان نير على كمال علمه وقدرته وحكمته وإرادته وهو معنى لا بأس به يصح أن توجه به الآية على القراءة المشهورة أيضا ذكر في النشر أن مما لا يوثق بنقله قراءة ابن السميقع وأبي السمال ننجيل بالحاء و لمن خلقك بالقاف وفي تليل تنجيته بما ذكر كما قاله بعض المحققين إيدان بأنها ليست لإعزازه ولفائدة أخرى عائدة إليه بل لكمال الإستهانة به وتفضيحه على رءوس الإشهاد وزيادة تفظيع حاله كمن يقتل ثم يجر جسده ي الأسواق ويطرح جيفة في الميدان أو يدار برأسه في النواحي والبلدان واللام الأولى متعلقة بالفعل والثانية بمحذوف وقع حالا من آية أي كائنة لمن خلفك وجاد الرد على هذا المخذول على طرز ما أتى به في قوله : آمنت أنه إلخ في إشتماله على المبالغة كما لا يخفى على من تفكر في الآية وقد قرر فحوى المحكي بقول سبحانه : وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغفلون 92 أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها وهو إعتراض تذييلي جيء به عند الحكاية لذلك ولهذه الآية وأشباهها وقع الإجماع على كفر المخذول وعدم قبول إيمانه ويشهد لذلك أيضا ما رواه ابن عدي والطبراني من أنه صلى الله عليه و سلم قال : خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا : فهو من أهل النار المخلدين فيها بلا ريب وبذلك قال الشيخ الأكبر قدس سره في أول كتابه الفتوحات في الباب الثاني والستين منه حيث ذكر أن الذين خدلهم الله تعالى من العباد جعلهم طائفتين طائفة لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم وإليهم الإشارة بقوله تعالى : والله يعدكم مغفرة منه وفضلا وهؤلاء لا تمسهم النار بما
(11/184)

تاب الله تعالى عليهم واستغفار الملأ الأعلى ودعائهم لهم
وقسم الطائفة الأخرى إلى قسمين قسم أخرجهم من النار بالشفاعة وهم طائفة من المؤمنين وأهل التوحيد ماتوا ولم تكفر عنهم خطاياهم وقسم آخر أبقاهم في النار وهم المجرمون خاصة الذين يقولون لهم يومالقيامة : وامتازوا اليوم أيها المجرمون ولهم يقال : أهل النار لأنهم الدين يعمرونها وهم على أربع طوائف كلهم في النار لا يخرجون منها الطائفة الأولى المتكبرون على الله تعالى كفرعون وأشباهه ممن إدعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله تعالى فقال : ما علمت لكم من اله غيري وقال : أنا ربكم الأعلى يريد به مافي السماء غيري وكذلك نمروذ وغيره
والثانية المشركون وهم الدين أثبتوا الله تعالى إلا أنهم جعلوا معه آلهة أخرى وقالوا : ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى والثالثةالمعطلة وهم الذين نفوا الإله جملة واحدة فلم يثبتوا للعالم إلها أصلا والرابعة المنافقون وهم الذين أطهروا الإيمان للقهر الذي حكم عليهم وهم في نفوسهم على ما هم عليه من إعتقادا إحدى هذه الطوائف الثلاث فهولاء الأصناف الأربعة هم أهل النار الذين لا يخرجون منها من الجن والإنس إنتهى وهو صريح فيما قلنا إلا أنه ذهب في موضع آخر من الكتاب المذكور إلى خلافه فقال في الباب السابع والستين ومائة ما حاصله : إنالله تعالى لما علم أنه قد طبع على كل قلب مظهر للجبروت والكبرياء وأن فرعون في نفسه أذل الأذلاء أمر موسى وهرون عليهما السلام أن يعاملاه بالرحمة واللين لمناسبة باطنه وإستنزال ظاهره من جبروته وكبريائه فقال سبحانه : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ولعل وعسى من الله تعالى واجبتان فتذكر بما يقابله من اللين والمسكنة ما هو عليهفي باطنه ليكون الظاهر والباطن على السواء فما زالت تلك الخميرة معهتعمل في باطنه مع الترجي الإلهي الواجب فيه وقوع المترجى ويتقوى حكمها إلى حين إنقطاع يأسه من إتباعه وحال الغرق بينه وبين أطماعه لجأ إلى ماكان مستترا في باطنه من الذلة والإفتقار ليتحقق عندالمؤمنين وقوع الرجاء الإلهي فقال : آمنت أنه لاإله إلا الذي آمنت بهبنو إسرائيل وأنا من المسلمين فرفع الإشكال من الإشكال كما قالت السحرة لما آمنت : آمنا برب العالمين رب موسى وهرون أي الذي يدعوان إليه فجاءت بذلك لدفع الإرتياب ورفع الإشكال وقوله : وأنا من المسلمين خطاب منه للحق تعالى لعلمه أنه سبحانه يسمعه ويراه فخاطبه الحق بلسان الغيب وسمعه آلآن أظهرت ما قد كنت تعلمه وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين لأتباعك وما قال له وأنت من المفسدين فهي كلمة بشرىله عرفنا بها لنرجو رحمته مع إسرافنا وإجرامنا ثم قال سبحانه : فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية يعني لتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية أي علامة إذا قال ما قلته تكون له النجاة مثل ما كانت لك وما في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع وأن إيمانه لم يقبل وإنما فيها أن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال نزوله إلا قوم يونس عليه السلام فقوله سبحانه : فاليوم ننجيك ببدنك بمعنى أن العذاب لا يتعلق إلا بظاهرك وقد أريت الخلق نجاته من العذاب فكان إبتداء الغرق عذابا فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم يتخللها معصية فقبض على أفضل عمل وهو التلفظ بالإيمان كل ذلك حتى لا يقنط أحد من رحمة الله تعالى والأعمال بخواتيمها فلم يزل الغيمان بالله تعالى يجول في باطنه وقد حال الطابع الإلهي الذاتي في الخلق بين الكبرياءواللطائف الإنسانية فلم يدخلها قط كبرياء وأما قوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا فكلام محقق في غاية الوضوح فإن النافع هو الله تعالى فما نفعهم إلا
(11/185)

هو سبحانه وقوله عز و جل : سنة الله التي قد خلت في عباده فيعني بذلك الإيمان عند رؤية البأس الغير المعتاد وقد قال تعالى : ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها فغاية هذا الإيمان أن يكون كرها وقد أضافه الحق سبحانه إليه والكراهة محلها القلب والإيمان كذلك والله تعالى لا يأخذ العبد بالأعمال الشاقة عليه من حيث ما يجده من المشقة فيها بل يضاعف له فيها الاجر وأما في هذا الموطن فالمشقة منه بعيدة بل جاء طوعا في إيمانه وما عاش بعد ذلك بل قبض ولم يؤخر لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى ولو قبض ركاب البحر الذين قال سبحانه فيهم : ضل من تدعون إلا إياه عند نجاتهم لماتوا موحدين وقد حصلت لهم النجاة ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه : وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون على معنى قد ظهرت نجاتك آية أي علامة على حصول النجاة فغفل أكثر الناس عن هذه الآية فقضوا على المؤمن بالشقاء وأما قوله تعالى : فأوردهم النار فليس فيه أنه يدخلها معهم بلقال جل وعلا : أدخلوا آل فرعون أشد العداب ولم يقل أدخلوا فرعون وآله ورحمة الله تعالى أوسع من أن لا يقبل إيمان المضطر وأي إضطرار أعظم من إضطرار فرعون في حال الغرق والله تبارك وتعالى يقول : أم من يجيب المضطر غذا دعاه ويكشف السوء فقرن للمضطر إذ دعاه بالإجابة وكشف السوء عنه وهذا آمن الله تعالى خالصا وما دعاه في البقاء في الحياة والدنيا خوفا من العوارض و أن يحال بينه وبين هذا الإخلاص الذي جاءه في هذه الحال فرجح جانب لقاء الله تعالى على البقاء بالتلفظ بالإيمان وجعل ذلك الغرق نكال الآخرة والأولى فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الأجاج وقبضه على أحسن صفة وهذا هو الذي يعطيه ظاهر اللفظ وهو معنى قوله تعالى : إن في ذلك لعبرة لمن يخشى يعني في أخذه نكال الآخرة والأولى
وقدم سبحانه : ذكر الآخرة على الأولى ليعلم أن ذلك العذاب أعني عذاب الغرق هو نكال الآخرة وهذا هو الفضل العظيم إنتهى وهو نص في إيمانه بل في كونه من الشهداء بناء على أن الموت غرقا شهادة للمومنين كماأجمع عليه أئمة الدين على خلاف في موت من قصر في تعلم السباحة غريقا هل يعد شهادة أم لا فإن بعض الشافعية ذهب إلى أن المقصر المذكور إذا مات غريقا عاصيا لاشهيدا وإنما الشهيد من مات كذلك وكان عارفا بالسباحة أو غير مقصر في تعلمها لكن لم يتعلم وكأن الشيخ قدس سرهلايقول بهذا التفصيل أو كان يعلم أن فرعون كان ممن يعلم السباحة أو ممن لم يقصر في تعلمها أو أنه يقول : إن الإيمان كفر عنه كل معصية قبله ومن جملة ذلك معصية التقصير مثلا التي هي دون قوله : أنا ربكم الأعلى و ماعلمت لكم من إله غيري بألف ألف مرتبة لكن لا أدري هل الغريق شهيد في شريعة موسى عليه السلام كما هو كذلك في شريعتنا أم هذا الأمر من خواص هذه الشريعة التي أنعم الله تعالى على أهلها بما أنعم كرامة لنبيها صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ذهب قدس سره في كتابه فصوص الحكم إلى نحو ما ذهب إليه أخيرا في كتابه الفتوحات وقد إعترض عليه بذلك غير واحد وهو عندي ليس باعظم من قوله قدس سره بغيمان قوم نوح عليه السلام وكثير من إضرابهم ونجاتهم يوم القيامة وقد نص على ذلك في الفصوص والعجب أنه لم يكثر معترضوه في ذلك كثرتهم في القول بإيمان فرعون وقد إنتصر له بعض الناس ومنهم في المشهور الجلال الدواني وله رسالة في ذلك أتى فيها بما لا يعد شيئا عند أصاغر الطلبة لكن في تاريخ حلب للفاضل الحلبي كما قال مولانا الشهاب أنها ليست للجلال وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي وقد ردها القزويني
(11/186)

وشنع عليه وقال : إنما مثله مثل رجل خامل الذكر لما قدم مكة بال فيزمزم ليشتهر بين الناس وفي المثل خالف تعرف ويؤيد كونها ليست للجلال أنه شافعي المذهب كما يشهد لذلك حاشيته على الأنوار وفي فناوي ابن حجر أن بعض فقهائنا كفر من ذهب إلى إيمان فرعون مع ماعليه تلك الرسالة من إختلال العبارة وظهور الركاكة وعدم مشابهتها لسائر تأليفاته ولولا خوف الإطالة لسردتها عليك وبالجملة ظواهر الآي صريحة في كفر فرعون وعدم قبول إيمانه ومن ذلك قوله سبحانه : وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فإنه ظاهر في إستمرار فرعون على الكفر والمعاصي الموجبة لما حل به كما يدل عليه التعبير بكان والفعل المضارع ومع الإيمان لا إستمرار على أن نظمه في سلك من ذكر معه ظاهر أيضا في المدعى وألحق بعضهم بذلك قوله تعالى : يأخذه عدو لي وعدو له بناء على أن عدو صفة مشبهة وهي للثبوت فيدل على ثبوت عداوته لله تعالى وعداوته لرسوله عليه السلام وثبوت إحدى العداوتين كاف في سوء حاله خلافا لمن وهم وقد صرحوا أيضا بأن إيمان البأس واليأس غير مقبول ولا شك أن إيمان المخذول كان من دلك القبيل وإنكاره مكابرة وقد حكى إجماع الأئمة المجتهدين على عدم القبول ومستندهم فيه الكتاب والسنة وما ينقل عن الإمام مالك من القبول لم يثبت عند المطلعين على أقوال المجتهدين وإختلافاتهم نعم صرح الغمام القاضي عبدالصمد من ساداتنا الحنفية في تفسيره بأن مذهب الصوفية أن الإيمان ينتفع به ولو عند معاينة العذاب وهذا الإمام متقدم على الشيخ الأكبر قدس سره بنحو مائة سنة وحينئذ تشكل حكاية الإجماع إلا أن يقال : بعدم تسليم صحة ذلك عن الصوفية الذين هم من أهل الإجتهاد المعول عليهم لما فيه من المخالفة للادلة الظاهرة في عدمالنفع فلا يخل ذلك بالإجماع بالإجماع وفي الزواجر أنه على تقدير التسليم لا يضرنا ذلك في دعوى إجماع الأمة على كفر فرعون لأنا نحكم بكفره لأجل إيمانه عند البأس فحسب بل لما إنضم إليه من أنه لم يؤمن بالله تعالى ايمانا صحيحا بل كان تقليدا محضا بدليل قوله : إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل فكأنه إعترف بانه لا يعرف الله تعالى وإنما سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلها فآمن بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يقرون بوجوده وهذا هو محض التقليد الذي لا يقبل لا سيما من مثل فرعون الذي كان دهريا منكرا لوجود الصانع فانه لابد له من برهان قطعي يزيل ما هو عليه من الإعتقاد الخبيث البالغ نهاية القبح والفحش وأيضا لا بد في إسلام الدهري ونحوه ممن كان قد دان بشيء أن يقر ببطلان ذلك الشيء الذي كفر به فلو قال : آمنت بالذي لاإله غيره لم يكن مسلما وفرعون لم يعترف ببطلان ما كان كفر به من نفي الصانع وإدعاء الإلهية لنفسه الخيثة وقوله : إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل لا يدري ما الذي اراد به فلذا صرح الأئمة بأن آمنت بالذي لا إله غيره لا يحصل الإيمان للإحتمال فكذا ما قاله وعلى التنزل فالإجماع منعقد على أن الإيمان بالله تعالى مع عدم الإيمان بالرسول لا يصح فلو سلمنا أن فرعون آمن بالله تعالى إيمانا صحيحا فهو لم يومن بموسى عليه السلام ولا تعرض له أصلا فلم يكن إيمانه نافعا ألاترى أن الكافر لو قال ألوفا من المرات أشهد أن لاإله إلا الله أو إلا الذي آمن به المسلمون لا يكون مؤمنا حتى يقول وأن محمدا رسول الله
(11/187)

والسحرة تعرضوا في إيمانهم للإيمان بموسى عليه السلام بقولهم : آمنا برب العالمين رب موسى وهرون فلا يقال : إن ايمان فرعون على طرز إيمانهم لذلك على أن حين آمنوا كان بمعجزة موسى عليه السلام والإيمان بالله تعالى مع الإيمان بمعجزة الرسول إيمان بالرسول فهم آمنوا بموسى عليه السلام بخلاف فرعون فإنه لم يتعرض للإيمان به عليه السلام أصلا بل في ذكره بني إسرائيل دونه مع أنه الرسول العارف بالإله وما يليق به والهادي إلى طريقه إشارة ما إلى بقائه على كفره به وما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في توجيه آية حتى إذا أدركه الغرق إلخ خارج عن ذوق الكلام العربي وتجشم تكلف لا معنى له ويرشدك إلى بعض ذلك أنه قدس سره حمل قوله تعالى : ءالآن وقد عصيت إلخ على العتب والبشرى مع أنه لا يخفى أنه لو صح إيمانه وإسلامه لكان الأنسب بمقام الفضل الذي إليه طمح نظر الشيخ أن يقال له : الآن نقبلك ونكرمك لإستلزام صحة إيمانه رضا الحق عنه ومن وقع له الرضا لا يخاطب بمثل ذلك الخطاب كما لا يخفى على من له وقوف علىأساليب كلام العرب ومحاوراتهم وأيضا كيف يخاطب من محا الإيمان عصيانه وإفساده بما هو ظاهر في التأنيب المحض والتقريع الصرف والتوبيخ البحت فما ذلك إلا لإقامة أعظم نواميس الغضب عليه وتذكيره بقبائحه التي قدمها وإعلامه بأنها هي التي منعته عند النطق بالإيمان إلى حيث لا ينفعه وكذا تأويله فلم يك ينفعهم إيمانهم بأن النافع هوالله تعالى مع أن إصطلاح الكتاب والسنة نسبة الأشياء إلى أسبابها إيجابا وسلبا فإذا قيل : لا ينفع الإيمان فليس معناه الشرعي إلا الحكم عليه بأنه باطل لا يعتد به وأي معنى سوغ تخصيص نفع الله تعالى بذه التي هي حالة وقوع العذاب مع النظر إلى ما هو الواقع من أن الله تعالى هو النافع حقيقة في كل وقت ولو نفعهم لما إستأصلهم بالعذاب وقوله تعالى : وخسر هنالك المبطلون دليل واضح على أن المراد بلم يك ينفعهم إيمانهم أنهم باقون مع ذلك الإيمان على الكفر إلى غير ذلك مما لا يخفى على الناظر في كرمه قدس سره فالذي ينبغي أن يعول عليه ما ذهب أولا إليه وقد قالوا : إذا إختلف كلام إمام يؤخذ منه بما يوافق الأدلة الظاهرة ويعرض عما خالفها ولا شك أن ما ذهب إليه أولا هو الموافق لذلك على أنه لو لم يكن له قدس سره إلا القول بقبول إيمانه لا يلزمنا إتباعه في ذلك والأخذ به لمخالفته ما دل عليه الكتاب والسنة وشهدت به أئمة الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المجتهدين وجلالة قائله لا توجب القبول فقد قال مالك وغيره : ما من أحد إلامأخوذ من قوله ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعن علي كرم الله تعالى وجهه : لا تنظر إلى من قال وإنظر إلى ما قال وكأنالشيخ قدس سره قال ذلك من طريق النظر والنظر يخطيء ويصيب ومن علم أن للنبي عليه الصلاة و السلام إجتهادا جاء الوحي بخلافه لم يستعظم ما قيل في الشيخ وإن كان هو هو على أنه قال ذلك من طريق إلا أنه أبدى الإستدلال تفهيما وإرشادا إلى أن فهمه لم يخالف ما يدل عليه الكتاب لم يلزمنا أيضا تقليده بل قد مر عن الإمام الرباني قدس سره أنه لا يجوز تقليد الكشف وصرح غير واحد بأنه ليس بحجة على الغير كالإلهام ولا يثبت به حكم شرعي وأنت تعلم أنه لو كان كل من القولين من طريق الكشف يلزم إنقسام الكشف إلى صواب وخطأ كالنظر ضرورة عدم إجتماع الإيجاب والسلب على الكذب ولا على الصدق وهو ظاهر وقد قال بعضهم : بالإنقسام ويخفي وجهه ومن الناس من أول كلام الشيخ المثبت لقبول الإيمان بأن المراد بفرعون فيه النفس
(11/188)

الإمارة وبموسى وهرون المأمورين بالقول اللين موسى الروح وهرون القلب وأخذ يقرر الكلام على هذا السنن ولا يخفى أن إرتكاب ذلك على ما فيه من التكلف الظاهر الكلف في كلام الشيخ مايأباه ولعله خلاف مطمح نظرهولذلك لم يرتكبه أجلة أصحابه بل أبقوا كلامه على ظاهره وهو الظاهر وإكفار بعض المنكرين له فيه ضلال وأي ضلال وظلم عظيم موجب للنكالفإن له قدس سره في ذلك مستندا كغيره المقابل له وإن إختلفا في القوة والضعف على أن الوقوف على حقيقة هذه المسئلة ليس مما كلفنا به فلا يضر الجهل بها في الدين والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ولقد بوأنا بني إسرائيل كلام مستأنف سيق لبيان النعم الفائضة عليهم أثرنعمة الإنجاء على وجه الإجمال وإخلالهم بشكرها وبوأ بمعنى أنزل كأباء والإسم منه البيئة بالكسر كما في القاموس وجاء بوأه منزلا وبوأه فيمنزل وكذا بوأت له مكانا إذا سويته وهو مما يتعدى لواحد ولإثنين أي إنرلناهم بعد أن أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم مبوأ صدق أي منزلاصالحا مرضيا وهو إسم مكان منصوب على الظرفية ويحتمل المصدرية بتقدير مضاف أي مكان مبوأ وبدونه وقد يجعل مفعولا ثانيا وأصل الصدق ضد الكدب لكن جرت عادة العرب على أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا : رجل صدق مثلا إذا كان كاملا في صفته صالحا للغرض المطلوب منه كأنهم لاحظوا إن كل ما يطن به فهو صادق والمراد بهذا المبوأ كما رواه ابن المنذر وغيره الضحاك الشام ومصر فإن بني إسرائيل الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام وهم المراد هنا ملكواذلك حسبما ذهب إليه جمع من الفضلاء
وأخرج أبو الشيخ غيره عن قتادة أن المراد به الشام وبيت المقدس وإختاره بعضهم بناء على أن أولئك لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك وأنت تعلم أنه ينبغي أن يراد ببني إسرائيل عن القولين ما يشتمل ذريتهم بناء على أنهم ما دخلوا الشام في حياة موسى عليه السلام وإنما دخلهاأبناؤهم وقد تقدم لك ما يتعلق بهذا المقام فتذكره
وقيل : المراد به أطراف المدينة إلى جهة الشام وببني إسرائيل بنوإسرائيل الذين كانوا على عهد نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام ورزقناهم من الطيبت أي اللذائذ قيل : وقد يفسر بالحول فما اختلفوا في أمور دينهم بل كانوا متبعين أمر رسولهم عليه السلام حتى جاءهم العلم أي إلا بعدما علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها وقيل : المعنى ما إختلفوا في أمر محمد صلى الله عليه و سلم إلا بعدما علموا صدق نبوته بنعوته المذكورة في كتابهم وتظاهر معجزاته وهو ظاهر على القول الأخير في المراد من بني إسرائيل المبوئين وأما على القول الأول ففيه خفاء لأن أولئك المبوئين الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام لم يختلفوا في أمر نبينا صلى الله عليه و سلم ضرورة لينسب إليهم ذلك الإختلاف حقيقة وليس هذا نظير قوله تعالى : وإذا أنجيناكم من آل فرعون الآية ولا قوله سبحانه : فلم تقتلون أنبياء الله ليعتبر المجاز وزعمالطبرسي أن المعنى أنهم كانوا جميعا على الكفر لم يختلفوا فيه حتى أرسل إليهم موسى عليه السلام ونزلت التوراة فيها حكم الله تعالى فمنهم من آمن ومنهم من أصر على كفره وليس بشيء أصلا كما لا يخفى إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون 93 فيميز بينالحق والمبطل بالإثابة والعقوبة فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك أي في شك ما يسير والخطاب قيل : له صلى الله عليه و سلم والمراد إن كنت في ذلك على سبيل الفرض والتقدير لأن الشك لا يتصور منه عليه الصلاة و السلام لإنكشاف الغطاء له ولذا عبر بان التي تستعمل غالبا فيما لا تحقق له حتى تستعمل في المستحيل عقلا وعادة
(11/189)

كما في قوله سبحانه : قل إن كان للرحمن ولد وقوله تعالى : فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض وصدق الشرطية لا يتوقف على وقوعها كماهو ظاهر والمراد بالموصول القصص أي إن كنت في شك من القصص المنزلة إليك التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم حسبما أنزلناه اليك وخصت القصص بالذكر لأن الأحكام المنزلة إليه عليه الصلاة و السلام ناسخة لأحكامهم مخالفة لها فلا يتصور سؤالهم عنها والمراد بالكتاب جنسه فيشمل التوراة والإنجيل وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويويده أنه قريء الكتب بالجمع وفسر الموصول بمن لم يؤمن من أهل الكتاب لأن أخبارهم بما يوافق ما أنزل المترتب على السوال أجدى في المقصود وفسره بعضهم بالمومنين منهم كعبد الله بن سلام وتميم الداري ونسب ذلك إلى ابن عباس والضحاك ومجاهد
وتعقب بأن ابن سلام وغيره إنما أسلموا بالمدينة وهذه السورة مكية وينبغي أن يكون المراد الإستدلال على حقية المنزل والإستشهاد بما في الكتب المتقدمة على ما ذكر وأن القرآن مصدق لها ومحصل ذلك أن الفائدة دفع الشك إن طرأ لأحد غيره صلى الله عليه و سلم بالبرهان أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوته صلى الله عليه و سلم وتوبيخهم على ترك الإيمان أو تهييج الرسول عليه الصلاة و السلام وزيادة تثبيته وليس الغرض إمكان وقوع الشك له صلى الله تعالى عليه وسلم أصلا ولذلك قال عليه الصلاة و السلام حين جاءته الآية على ما أخرج عبدالرزاق وابن جرير عن قتادة : لاأشك ولا أسأل
وزعم الزجاج أن أن نافية وقوله سبحانه : فاسأل جواب الشرط مقدر أي ما كنت في شك مما أنزلنا إليك فإن أردت أن تزداد يقينا فإسأل وهو خلاف الظاهر وفيما ذكر غني عنه ومثله ما قيل : إن الشك بمعنى الضيق والشدة بما يعايته صلى الله عليه و سلم من تعنت قومه وأذاهم أي إن ضقت ذرعا بما تلقى من أذى قومك وتعنتهم فإسأل أهل الكتاب كيف صبر الأنبياء عليهم السلام على أذى قومهم وتعنتهم فإصبر كذلك بل هو أبعد جدا من ذلك وقيل : الخطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد به أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيهاالسامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك فإسأل فأنزلنا إليك على هذا نظير قوله سبحانه : وأنزلنا اليكم نورا مبينا وفي جعل القراءة صلة الموصول إشارة إلى أن الجواب لا يتوقف على أكثر منها وفي الآية تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي له مراجعة من يزيلها من أهل العلم بل المسارعة إلى ذلك حسبما تدل عليه الفاءالجزائية بناءا على أنها تفيد التعقيب لقد جاءك الحق الواضح الذي لا محيد عنه ولا ريب في حقيته من ربك القائم بما يصلح شأنك فلا تكونن من الممترين 94 أي بالتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين ودم على ذلك كما كنت من قبل والإمتراء الشك والتردد وهو أخف من التكذيب فلذا ذكر أولا وعقب بقوله سبحانه : ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله أي بشيء منها فتكون بذلك من الخسرين 95 أنفسا وأعمالا والتعبير بالخاسرين أظهر في التحذير من التعبير بالكافرين وفائدة النهي في الموضعين التهييج والإلهاب نظير مامر والمراد بذلك إعلام أن الإمتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما فكيف بمن يمكن إتصافه وفيه قطع لأطماع الكفرة
(11/190)

إن الذين حقت عليهم إلخ بيان المنشأ إصرار الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلال إلى حيث لا ينتفعون بالإيمان أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة ربك أي حكمه وقضاؤه المفسر عند الأشاعرة بإرادته تعالى الأزلية المتعلقة بالاشياء على ما هي عليه فيما لا يزال بأنهم يموتون على الكفر أو يخلدون في النار لا يؤمنون 96 إذ لا يمكن أن ينتقض قضاءه سبحانه و تتخلف إرادته جل جلاله ولو جاءتهم كل آية واضحة المدلول مقبولة لدى العقول حتى يروا العذاب الأليم 97 الإغراق ونحوه وحينئذ يقال لهم الصيف ضعيتاللبن وفسر الزمخشري الكلمة بقول الله تعالى الذي كتبه في اللوح وأخبر سبحانه به الملائكة إنهم يموتون كفارا وجعل تلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد ولا ضمير في تفسير الكلمة بذلك إلأ أن جعل الكتابة كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد مبني على مذهب الإعتزال والذي عليهأهل السنة أن أفعال العباد بأسرها معلومة له تعالى ومرادة ولا يكون إلا ما أراده سبحانه وعلمه عز شأنه وإرادته متوافقان ولا تجوزالمخالفة بينهما ولا يتعلق علمه سبحانه إلا بما عليه الشيء في نفسه ولايريد إلا ما علم ولا يقدر إلا ما يريد ولا جبر هناك ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين وفسره المولى الكوراني في شرحه للمقدمات الأربع المذكورة في توضيح الأصول بأن العبد مجبور بإختياره وفصله بما لا مزيد عليه وبإثبات الإستعداد وانه غير مجعول تتضح الحجة البالغة وبسط الكلام في علم الكلام وقد تقدم بعض ما ينفع في هذا المقام وإن أردت ما يطمئن به الخاطر وتنشرح له الضمائر فعليك برسائل ذلك المولى في هذا الشان فإنها واضحة المسالك في تحصيل الإيقان فلو كانت كلام مستأنف لتقرير هلاكهم و لولا هنا تحضيضية فيها معنى التوبيخ كهلا ومثلها ما في قول الفرزدق : تعدون عقر النيب أفضل مجدكم
بني ضوطري لولا الكمى المقنعا ويشهد لذلك قراءة أبي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما فهلا والتوبيخ على ما نقل عن السفاقسي على ترك الإيمان المذكور بعد وكان كما إختاره بعض المحققين ناقصة وقوله تعالى : قرية إسمها وجملة قوله سبحانه : آمنت خبرها وقوله جل شأنه : فنفعها إيمانها معطوف على الخبر أي فهلا كانت قرية من القرىالتي أهلكت هلاك الإستئصال آمنت قبل معاينة العذاب ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته كما أخر فرعون إيمانه فنفعها ذلك بأن يقبله الله تعالى منها ويكشف بسببه العذاب عنها وذهب السمين وغيره إلى أنها تامة وقرية فاعلها وجملة آمنت صفة ونفعها معطوفة عليها وتعقب بأنه يلزم حينئذ أن يكون التحضيض والتوبيخ على الوجود مع أنه ليس بمراد وأجيب بأن لا مانع من أن يكون التحضيض على الصفة وحينئذ لا غبار على ما قيل وأيا ما كان فالمراد بالقرية أهلها مجازا شائعا والقرينة هنا أظهر من أن تخفى وقوله تبارك وتعاى : إلا قوم يونس إستثناء منقطع كما قال الزجاج وسيبويه والكسائي وأكثر النحاةأي لكن قوم يونس لما ءامنوا عند ما رأوا أمارات العذاب ولم يؤخروا إلى حلوله كشفنا عنهم عذاب الخزي أي الذل والهوان في الحياة الدنيا بعد ما أظلهم وكاد
(11/191)

ينزل بهم ومتعناهم بمتاع الدنيا بعد كشف العذاب عنهم إلى حين 98 أي زمان من الدهر مقدر لهم في علم الله تعالى ونقل عن ابن عباس أن المراد إلى يوم القيامة فهم اليوم أحياء إلا أن الله تعالى سترهم عن الناس على حد ما يقال في الخضر عليه السلام ورأيت في بعض الكتب ما يوافقه إلا أنه ذكر فيه أنهم يظهرون أيام المهدى ويكونون من جملة أنصاره ثم يموتون والكل مما لا صحة له وقال آخرون : الإستثناء متصل ويراد من القرية أهلها المشرفون على الهلاك
وقيل : العاصون ويعتبر النفي الذي يشعر به التحضيض و هو مشعر بالأمر أيضا ولذا جعلوه في حكمه إلا أنه لا يصح إعتباره على تقدير الإتصال لما يلزمه من كون الإيمان من المستثنين غير مطلوب وهو غير مطلوب بل فاسد وقيل لا مانع من ذلك على ذلك التقدير لأن أهل القرى محضوضون علىالإيمان النافع و ليس قوم يونس محضوضين عليه لأنهم آمنوا والذوق يأبى إلا إعتبار النفي فقط حال إعتبار الإتصال ويكون قوله سبحانه : لما آمنوا إستئنافا لبيان نفع إيمانهم وقريء إلا قوم بالرفع على البدل من قرية المراد بها أهلها وأيد بذلك القول بالإتصال وإعتبار النفي لأن البدل لا يكون إلا في غير الموجب وخرج بعضهم هذه القراءة على أن الا بمعنى غير وهي صفة ظهر إعرابها فيما بعدها كما في قولهعلى رأي
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان وظاهر كلامهم أن الإستثناء مطلقا من قرية وعن الزمخشري أنه على الأول من القرية لا من الضمير في آمنت وعلل بأن المنقطع بمعنى لكن فيتوسط بين الكلامين المتايرين فلا يعتمد ما لا يستقل ولأنه لا مدخل للوصف أعنى الإيمان في المشتثنى منه فالإستثناء عن أصل الكلام وأما على الثاني فهو إستثناء من الضمير من حيث المعنى جعل في اللفظ منه أو من القريةإذ لا فرق في قولك : كان القوم منطلقين إلا زيدا بين جعله من الإسم أو من الضمير في الخبر لأن الحكم إنما يتم بالخبر وإنما الفرق في نحو ضربت القوم العالمين إلا زيدا ثم قال : ونظير هذا في الوجهين قوله تعالى : انا ارسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط ووجه ذلك ظاهرا وفي الكشف أن وجه الشبه إختلاف معنى الهلاك على الوجهين كإختلاف معنى الإرسال هنالك على الوجهين وكأنه عني بالهلاك المأخوذ قيدا في قوله فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها فتدبر وفي يونس لغات تثليث النون مهموزا وغير مهموز والمتواتر منها الضم بلا همز
وكان من قصة هولاء القوم على ما روي عن غير واحد أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فدعاهم إلى الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوهفأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من جوف الليل فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم ليس بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل وجاء أنه غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشي مدينتهم وإسودت أسطحتهم فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وفرقوا بين الوالدة وولدها من الناس والدواب فحن البعض إلى البعض و علت الأصوات
(11/192)

وعجوا جميعا وتضرعوا إليه تعالى وأخلصوا النية فرحمهم ربهم وإستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب وكان ذلك يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة
قال ابن مسعود : إنه من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه ويردهإلى صاحبه وجاء في رواية عن قتادة أنهم عجوا إلى الله تعالى أربعين صباحا حتى كشف ما نزل بهم وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وغيرهما عن ابن غيلان قال : لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : ما ترى قال : قولوا : ياحي حين لاحي وياحي محي الموتى وياحي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف عنهم العذاب وقال الفضيل بن عياض : قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فإفعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله وكان يونس عليه السلام إذ ذهب عنهم قعد في الطريق يسأل الخبر كما جاء مرفوعا فمر بهرجل فقال له : ما فعل قوم يونس فحدثه بما صنعوا فقال : لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وإنطلق مغاضبا حسبما قصه الله تعالى في غير هذا الموضع مما سبأتي إن شاء الله تعالى وظاهر الآية يستدعي أن القوم شاهدوا العذاب لمكان كشفنا وهو الذي يقتضيه أكثر الأخبار وإليه ذهب كثير من المفسرين ونفع الإيمان لهم بعد المشاهدة من خصوصياتهم فإن إيمان الكفار بعد مشاهدة ما وعدوا به إيمان بأس غير نافع لإرتفاع التكليف حينئذ وعادة الله إهلاكهم من غير إمهال كما أهلك فرعون والقول بأنه بقى حيا إلى ما شاء الله تعالى وسكن أرض الموصل من مفتريات اليهود
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض تحقيق لدوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته سبحانه مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته ومفعول المشيئة هنا محذوف حسب المعهود في نظائره أي لو شاء سبحانه إيمان من في الأرض من الثقلين لآمن كلهم بحيث لا يشذ منهم أحد جميعا أي مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لم يشأ ذلك لأنه سبحانه لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما له ثبوت في نفسه فيمالا ثبوت له أصلا لا يعلم ومالايعلم لا يشاء وإلى هذا التعليل ذهب الكورانيعليه الرحمة وأصال الكلام في تحريره والذب عنه في غير ما رسالة والجمهور على أنه سبحانه لا يشاؤه لكونه مخالفا للحكمة التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع والآية حجة على المعتزلة الزاعمين أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع الخلف فلم يؤمن إلا بعضهم والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يحوز تخلف الشيء عنها وقسرية لا يجوز التخلف عنها وحملوا ما في الآية على هذا الأخير فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئةإلجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا لكنه سبحانه لم يشأ كذلك بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم إختيارا له ولضده وفوض الأمر إليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا ديدنهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه وفيه أنه لا قرينة على التقييد مع أن قوله سبحانه : أفأنت تكره الناس يأباه فيما قيل فإن الهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة من تأخير على ما عليه الجمهور والفاء للتفريع والمقصود فرع الإنكار على ما قبل
(11/193)

فائدة بل لا وجه لإعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفرع الإنكار وقيل : أن الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل : أربك لا يشاء ذلك فأنت تكرههم حتى تكونوا مؤمنين 99 والإنكار متوجه إلى ترتيب الغكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى والإباء هو الإباء فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع مبالغة وجوز أنت أن يكون فاعلا بمقدر يفسرهما بعده وأن يكحون مبتدأ خبره الجملة بعده ويعدونه فاعلا معنويا وتقديمه لتقوية حكم الإنكار كما ذهب إليه الشريف قدس سره في شرح المفتاح وذكر فيه أن المقصود إنكار صدور الفعل من المخاطب لاإنكار كونه هو الفاعل مع تقرر أصل الفعل وقيل : إن التقديم للتخصيص ففيه إيذان بأن الإكراه أمر ممكن لكن الشأن في المكره من هو وما هو إلا سبحانه وحده لا يشارك فيه لأنه جل شأنه القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر
وما كان لنفس بيان لتبعية إيمان النفوس التي علم الله تعالى إيمانها لمشيئته تعالى وجودا وعدما بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك وقيل : هو تقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل أي ما صح وما إستقام لنفس من النفوس التي علم اللهتعالى أنها تؤمن أن تؤمن إلا بإذن الله أي بمشيئته وإرادته سبحانه والأصل في الإذن بالشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجز عنه وجعلوا ما ذكر من لوازمه كالتسهيل الذي ذكره بعضهم في تفسيره وخصصت النفس بالصفة المذكورة ولم تجعل من قبيل قوله تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله قيل لأن الإستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تومن في حال من أحوالها إلا حال كونها ملابسة بإذنه سبحانه فلا بد من كون الإيمان مما يؤول إليه حالها كما أن الموت حال لكل نفس لا محيص لها عنه فلا بد من التخصيص بما ذكر فإن النفوس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن ليس لها حال تؤمن فيها حتى تستثني تلك الحال من غيرها إنتهىوقد يقال أن هذا الإستثناء بالنظر إلى النفس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن مفيد لعدم إيمانها على أتم وجهعلى حد ما قيل في قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ماقد سلف فكأنه قيل : ما كان لنفس علم الله تعالى أنها لا تؤمن أن تؤمن في حال من الأحوال كسلامة العقل وصحة البدن وغيرهما إلا في حال ملابستها إذن الله تعالى وإرادته أن تؤمن وهي تابعة لعلمه بذلك وعلمه به محال لأنهقد علم نقيضه فيلزم إنقلاب العلم جهلا فتكون إرادته ذلك محالا فيكون إيمانها محالا إذ الموقوف على المحال محال وفي الحواشي الشهابية أن ما كان إن كان بمعنى ما وجد إحتاج إلى تقييد النفس بمن علم أنها تؤمن وإن كان بمعنى ما صح لا يحتاج إليه ولذا ذكره من ذكره وتركه من تركه وفيه خفاء فتأمل ويجعل الرجس أي الكفر كما في قوله تعالى : فزادتهم رجسا إلى رجسهم بقرينة ما قبله وأصله الشيء الفاسد المستقذر وعبر عنه بذلك لكونه علما في الفساد والإيتقذار وقيل : المراد به العذاب وعبر عنه بذلك لإشتراكهما في الإستكراه والتنفر وأن إرادة الكفر منه بإعتبار أنه نقل أولا عن المستقذر إلىالعذاب للإشتراك فيما ذكر ثم أطلق الكفر لأنه سبببه فيكون مجازا فيالمرتبة الثانية وإختار الإمام التفسير الأول تحاشيا مما في إطلاق المستقذر على عذاب الله تعالى من الإستقذار وبعض الثاني لما أن كلمة على في قوله تعالى على الذين لا يعقلون 100 أي لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أولا يعقلون دلائله
(11/194)

وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع تأبى الأول وتعقب بأن المعنى يقدره عليهم فلا إباء ويفسر الذين لايعقلون بما يكون به تأسيسا كما سمعت في تفسيره ومنه تعلم أن الفعل منزل منزلة الللام أوله مفعول مقدر وقد يفرق بين التفسيرين بأنهم على الأول لم يسلبوا قوة النظر لكنهم لم يوافقوا لذلك وعلى الثاني بخلافه والأمر الآتي ظاهر فيالأول والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل : فيأذن لهم بالإيمان ويجعل إلخ أو فيأذن لبعضهم بذلك ويجعل إلخ وقريء الرجز بالزاي وقرأ حماد ويحيى عن أبي بكر ونجعل بالنون قل انظروا خطاب لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأمر الكفرة الدين هو عليه الصلاة و السلام بين ظهرانيهم بالتفكر في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من عجائب الآيات الأفاقية والأنفسية ليتضح له صلى الله عليه و سلم أنهم من الدين لا يعقلون وكأنه متعلق بما عنده وتعليقه بقوله سبحانه : أفأنت تكره الناس إلخ على معنى لا تكره الناس على الإيمان ولكن أؤمرهم بما يتوصل به إليه عادة من النظر لا يخلو عن النظر وقيل : إنه تعالى لما أفاد فيما تقدم أن الإيمان يخلقه سبحانه وأنه لا يؤمن من يؤمن إلا من بعد إذنه وأن الذين حقت عليهم الكلمة لا يؤمنون أمر نبيه عليه الصلاة و السلام أن يأمربالنظر لئلا يزهد فيه بعد تلك الإفادة وأرى الأول أولى وجاء ضم لام قل وكسرها وهما قراءتان سبعيتان وقوله سبحانه : ماذا في السموات والأرض في محل نصب بإسقاط الخافض لأن الفعل قبله معلق بالإستفهام لأن ما إستفهامية وهي مبتدأ و ذا بمعنى الذي والظرف صلته وهو خبر المبتدأ ويجوز أن يكون ماذا كله إسم إستفهام مبتدأ والظرف خبره أي أي شيء بديع في السموات والأرض من عجائب صنعته تعالى الدالة على وحدته وكمال قدرته جل شأنه
وجوز أن يكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي وهو في محل نصب بالفعل قبله وضعفه السمين بأنه لا يخلو حينئذ من أن يكون النظر قلبيا كما هو الظاهر فيعدى بفي وأن يكون بصريا فيعدى بإلى
وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون 101 أي ما تكفيهم وما تنفعهم وقريء بالتذكير والمراد بالآيات ما أشير إليه بقوله سبحانه : ماذا في السموات والأرض ففيه إقامة الظاهر مقام المضمر والنذر جمع نذير بمعنى منذر أي الرسل المنذرون أو بمعنى إنذار أي الإنذارات وجمع لإرادة الأنواع وجوز أن يكون النذر نفسه مصدرا بمعنى الإنذار والمراد بهولاء القوم المطبوع على قلوبهم أي لا يؤمنون في علم الله تعالى وحكمه و ما نافية والجملة إعتراضية وجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير قل وفي القلب من جعلها حالا من ضمير انظروا شيء فإنظروا ويتعين كونها إعتراضية إذا جعلت ما إستفهامية إنكارية وهي حينئذ في موضع النصب على المصدرية للفعل بعدها أو على أنه مفعول به له والمفعول على هذا وكدا على إحتمال النفي محذوف إن لم ينزل منزلة اللازم أي ما تغني شيئا فهل ينتظرون أي هؤلاء المأمورون بالنظر من مشركي مكة وأشرافهم إلا مثل أيام الذين خلوا أي مثل وقائعهم ونزول بأس الله تعالى بهم إذ لا يستحقون غير ذلك وجاء إستعمال الأيام في الوقائع كقولهم : أيام العرب وهو مجاز مشهور منالتعبير بالزمان عما وقع فيه كما يقال : المغرب للصلاة الواقعة فيه والمراد بالموصول المشركون من الأمم الماضية من قبلهم متعلق بخلوا جيء به للتأكيد والإيماء بأنهم سيخلون كما خلوا قل تهديدا
(11/195)

لهم فانتظروا ذلك إني معكم من المنتظرين 102 إياه فمتعلق الإنتظار واحد بالذات وهو الظاهر وجوز أن يكون مختلفا بالذات متحدا بالجنس أي فإنتظروا إهلاكي إني معكم من المنتظرين هلا ككم ثم ننجي رسلنا بالتشديد وعن الكسائي ويعقوب بالتخفيف وهو عطف على مقدر يدل عليه قول سبحانه : مثل أيام الذين خلوا وما بينهما إعتراض جيء به مسارعة إلى التهديد ومبالغة في تشديد الوعيد كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي المرسل إليهم والذين آمنوا بهم وعبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية لتهويل أمرها بإستحضار صورها وتأخير حكاية التنجية عن حكاية الإهلاك على عكس ما جاء في غيره موضع ليتصل به قول سبحانه : كذلك حقا علينا ننج المؤمنين 103 أي ننجيهم إنجاء كذلك الإنجاء الذي كان لمن قبلهم على أن الإشارة إلى الإنجاء والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع صفة لمصدر محذوف وجوز أن يكون الكاف في محل نصب بمعنى مثل سادة مسد المفعول المطلق ويحتمل عند بعض أن يكون في موقع الحال من الإنجاء الذي تضمنه ننجي بتأويل نفعل الإنجاء حال كونه مثل ذلك الإنجاء وأن يكون في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك و حقا نصب بفعله المقدر أي حق ذلك حقا والجملة إعتراض بين العامل والمعمول على تقدير أن يكون كذلك معمولا للفعل المذكور بعد وفائدتها الإهتمام بالإنجاء وبيان أنه كائن لا محالة وهو المراد بالحق ويجوز أن يراد به الواجب ومعنى كون الإنجاء واجبا أنه كالأمر الواجب عليه تعالى وإلا فلا وجوب حقيقة عليه سبحانه وقد صرح بأن الجملة إعتراضية غير واحد من المعربين ويستفاد منه أنه لا بأس 1 الجملة الإعتراضية إذا بقي شيء من متعلقاتها وجوز أن يكون بدلا من الكاف التي هي بمعنى مثل أو من المحذوف الذي نابت عنه
وقيل : إن كذلك منصوب بننجي الأول و حقا منصوب بالثاني وهوخلاف الظاهر والمراد بالمؤمنين إما الجنس المتناول للرسل عليهم السلام وأتباعهم وأما الأتباع فقط وإن ما لم يذكر إيذانا بعدم الحاجة إليه وأيا ما كان ففيه تنبيه على أن مدار الإنجاء هو الإيمان وجيء بهذه الجملة تذييلا لما قبلها مقررا لمضمونه قل لجميع من شك في دينك وكفر بك ياأيها الناس أوثر الخطاب بإسم الجنس مصدرا بحرف التنبيه تعميما للتبليغ و إظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم إن كنتم في شك من ديني الذي أعبد الله تعالى به وأدعوكم إليه ولم تعملوا ما هو ولا صفته حتى قلتم أنه صبا
فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله في وقت من الأوقات ولكن أعبدالله الذي يتوفيكم ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب وجعل هذهالجملة بإعتبار مضمونها جوابا بتأويل الأخبار وإلا فلا ترتب لها علط الشرط بحسب الظاهر فالمعنى إن كنتم في شك من ذلك فأخبركم أنهتخصيص العباده به تعالى ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلا وقد كثر جعل الأخبار بمفهوم الجملة جزاء نحو أن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس وعلى هذا الطرز قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله فإن إستقرار النعمة ليس سببا لحصولها من الله تعالى بل الأمر بالعكس وإنما سبب للأخبار بحصولها منه تعالى كما قرره ابن الحاجب
(11/196)

وقد يكون المعنى إن كنتم في شك من صحة ديني وسداده فأخبركم أن خلاصته العبادة لا له هذا شأنه دون ما تعبدونه مما هو بمعزل عن ذلك الشأن فأعرضوا ذلك على عقولكم وأجيلوا فيه أفكاركم وإنظروا بعين الإنصاف لتعلموا صحته وحقيته وذكر بعضهم أنه لا يحتاج على هذا إلى جعل المسبب الإخبار والإعلام بل يعتبر الجزاء الأمر بعرض ما ذكر على عقولهم والتفكر فيه والأظهر إعتبار كون الأخبار جزاء كما في المعنى الأول والتعبير عما هم عليه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأنأقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب هو الشك في الصحة وأما القطع بعدمها فما لا سبيل إليه وقيل : لا نسلم أنهم كانوا قاطعين بل كانوافي شك وإضطراب عند رؤية المعجزات وجيء بأن للإشارة إلا أنه مما لا ينبغي أن يكون لوجود ما يزيله
وجوز أن يكون المعنى إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه أمأتركه وأوافقكم فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمري وإقطعوا عنى أطماعكم وإعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله تعالى : قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا يخفى أن ما قبل أوفق بالمقام وتقديم ترك عبادة غير الله تعالى على عبادته سبحانه لتقدم التخلية على التحلية كما في كلمة التوحيد والإيذان بالمخالفة من أول الأمر وتخصيص التوفي من بين سائر صفات الأفعال بالذكر متعلقا بهم للتخويف فإنه لا شيء أشد عليهم من الموت وقيل : المراد أعبد الله الذي خلقكم ثم يتوفاكم ثم يعيدكم وفيه إيماء إلى الحشر الذي ينكرونه وهو من أمهات أصول الدين ثم حذف الطرفان وأبقي الوسط ليدل عليهما فإنهما قد كثر إقترانهما به في القرآن وأمرت أن أكون من المؤمنين 104 أي أوجب الله تعالى على ذلك فوجوب إيمان بالله تعالى شرعي كسائر الواجبات وذكر المولى صدر الشريعة أن للشرعي معنيين ما يتوقف على الشرع كوجوب الصلاة والصوم وما ورد به الشرع ولا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان بالله سبحانه ووجوب تصديقه صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه لا يتوقف على الشرع فهو ليس بشرعي بالمعنى الأول وذلك لأن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته وكلامه وعلى التصديق بنبوة النبي عليه الصلاة و السلام بدلالة معجزاته فلو يتوقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور ولقائلأن يمنع توقف الشرع على وجوب الإيمان ونحوه سواء أريد بالشرع خطاب الله تعالى أو شريعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتوقف التصديق بثبوت شرع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على الإيمان بالله تعالى وصفاته وعلى التصديق بنبوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ودلالة معجزاته لا يقتضي توقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا على العلم بوجوبهما غايته أنه يتوقف على نفس الإيمان والتصديق وهو غير مفيد لتوقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا مناف لتوقف وجوب الإيمان ونحوه على الشرع كما هو المذهب عندهم من أن لا وجوب إلا بالسمع وقول الزمخشري هنا : إنه عليه الصلاة السلام أمر بالعقل والوحي لا يخلو عن نزغة إعتزالية كما هو دأبه في كثير من المواضع ومن قال من المفسرين منا : إنه وجب على ذلك بالعقل والسمع أراد بالعقل التابع لما سمع بالشرع فلا تبعية والكلام على حذف الجار أي أمرت بأن 4 أكون وحذفه من أن وأن مطرد وإن قطع النظر عن ذلك فالحذف بعد أمر مسموع عن العرب كقوله :
(11/197)

أمرتك الخير فإفعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب وأدخل بعضهم هذه الجملة في الجزاء وليس بمتعين وأن أقم وجهك للدين عطف كما قال غير واحد على أن أكون وإعتراض بأن أن في المعطوف عليه مصدرية بلا كلام لعملها النصب والتي في جانب المعطوف لا يصح أن تكون كذلك لوقوع الأمر بعدها وكذا لا يصح أن تكون مفسرة لعطفها على المصدرية ولأنه يلزم دخول الباء المقدرة عليها والمفسرة لا يدخل عليها ذلك ودفع ذلك بإختيار كونها مصدرية ووقوع الأمر بعدها لا يضر في ذلك فقد نفل عن سيبويه أنه يجوز وصلها به ولا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب والخبر لأنه إنما منع في الموصول الإسمي لأنه وضع للتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل والجمل الطلبية لا تكون صفة والمقصود من أن هذه يذكر بعدها ما يدل على المصدر الذي تأول به وهو يحصل بكل فعل وكون تأويله يزيل معنى الأمر المقصود منه مدفوع بأنه يؤول كما أشرنا إليه فيما مر بالأمر بالإقامة إذ كما يؤخذ المصدر من المادة قد يؤخذ من الشيغة مع أنه لا حاجة إليه هنا لدلالة قوله تعالى : أمرت عليه وفي الفرائد أنه يجوز أن يقدر وأوحي إلي أن أقم وتعقبه الطيبي بأن هذا سائغ إعرابا إلا أن في ذلك العطف فائدة معنوية وهي أن وأن أقم إلخ كالتفسير لأن أكون إلخ على أسلوب أعجبني زيد وكرمه داخل معه في حكم المأمور فلو قدر ذلك فات غرض التفسير وتكون الجملة مستقلة معطوفة على مثلها وفيه تأمل لجواز أن تكون هذه الجملة مفسرة للجملة المعطوفة هي عليها وقدر أبو حيان ذلك وزعم أن أن حينئذ يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لأن في الفعل المقدر معنى القول دون حروفه وأن على دلك يزول قلق العطف ويكون الخطاب في وجهك في محله ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها وأما صحة وقوع المصدرية فاعلا أو مفعولا فليس بلازم ولا قلق في العطف الذي عناه وأمر الخطاب سهل لأنه لملاحظة المحكى والأمر المذكور معه
وإقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى والإعراض عمن سواه فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر إستقصاء يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا إذ لو إلتفت بطلت المقابلة والظاهر أن الوجه على هذا على ظاهره ويجوز أن يراد به الذات والمراد أصرف ذاتك وكليتك للدين وإجتهد بأداء الفرائض والإنتهاء عن القبائح قاللام صلة أقم وقيل : الوجه على ظاهره وإقامته توجيهه للقبلة أي إستقبل القبلة ولا تلتفت إلى اليمين أوالشمال فاللام للتعليل وليس بذاك ومثله القول بأن ذلك كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين حنيفا أي مائلا عن الأديان الباطلة وهو حال إما من الوجه أو من الدين وعلى الأول تكون حالا مؤكدة لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل وعلى الثاني قيل تكون حالا منتقلة وفيه نظر ويجوز أن يكون حالا من الضمير في أقم ولا تكونن من المشركين 105 عطف على أقم داخل تحت الأمر وفيه تأكيد له أي لا تكونن منهم إعتقادا ولا عملا ولا تدع من دون الله إستقلالا ولا إشتراكا مالا ينفعك بنفسه إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب ولا يضرك إذا تركته بسلب المحبوب دفعا أو رفعا أو بإيقاع المكروه والجملة قيل معطوفة على جملة النهي قبلها وإختار بعض المحققين عطفها على قوله سبحانه : قل ياأيها الناس فهي غير داخلة
(11/198)

تحت الأمر لأن ما بعدها من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض ولا وجه لإدراج الكل تحت الأمر وأنت تعلم أنه لو قدر فعلالإيحاء في وأن أقم كما فعل أبو حيان وصاحب الفرائد لا مانع من العطف كما هو الظاهر على جملة النهي المعطوفة على الجملة الأولى وإدراج جميع المتسقات تحت الإيحاء وقد يرجح ذلك التقدير بأنه لا يحتاج معه إلى إرتكاب خلاف الظاهر من العطف على البعيد وقيل : لا حاجة إلى تقدير الإيحاء والعطف كما قيل والأمر السابق بمعنى الوحي كأنه قيل : وأوحى إلى أن أكون إلخ والإندراج حينئذ مما لا بأس به وهو كما ترى ولا أظنك تقبله فإن فعلت فإنك إذا من الظلمين 106 أي معدودا في عدادهم والفعل كناية عن الدعاء كأنه قيل : فإن دعوت ما لا ينفع ولا يضر وكنى عن ذلك على ما قيل تنويها لشأنه عليه الصلاة و السلام وتنبيها على رفعة مكانه صلى الله عليه و سلم من أن ينسب إليه عبادة غير الله تعالى ولو في ضمن الجملة الشرطية
والكلام في فائدة نحو النهي المذكور قد مر آنفا و وجواب الشرط علىما في النهي جملة فإنك وخبرها أعنى من الظالمين وتوسطت إذا بين الإسم والخبر مع أن رتبتها بعد الخبر رعاية للفاصلة وفي الكشاف أن إذا جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان فجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك إن الشرك لظلم عظيم وهذه عبارة النحويين وفسرت كما قال الشهاب : بأن المراد أنها تدل على أن ما بعدها مسبب عن شرط محقق أو مقدر وجواب عن كلام محقق أو مقدر وقد ذكر الجلال السيوطي عليه الرحمة في جمع الجوامع بعد أن بين أن إذا الظرفية قد يحذف جزء الجملة التي أضيفت هي إليها أو كلها فيعوض عنه التنوين وتكسر للساكنين لا للإعراب خلافا للأخفش وقد تفتح أن شيخه الكافيجي ألحق بها إذن ثم قال في شرحه همع الهوامع : وقد أشرت بقولي : وألحق شيخنا بها في ذلك إذن إلى مسئلة غريبة قل من تعرض لها وذلك أني سمعت شيخنا عليه الرحمة يقول في قوله تعالى : ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ليست اذن هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي يضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ وكنت أستحسن هذا جدا وأظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك حتى رأيت بعض المتأخرين جنح إلى ما جنح إليه الشيخ وقد أوسعت الكلام في ذلك في حاشية المغنى إنتهى
وأنت تعلم أن الآية التي ذكرها كالآية التي نحن فيها وما ذكره مما يميل إليه القلب ولا أرى فيه بأسا ولعله أولى مما قاله صاحب الكشاف ومتبعوه فليحمل ما في الآية عليه وكان كثيرا ما يخطر لي ذلك إلا أني لم أكد أقدم على إثباته حتى رأيته لغيري ممن لا ينكر فضله فأثبته حامدا لله تعالى وإن يمسسك الله بضر تقرير لما أورد في حيز الصلةمن سلب النفع من المعبودات الباطلة وتصوير لإختصاصه به سحانه أي وإن يصبك بسوء ما فلا كاشف له عنك كائنا من كان و ما كان إلا هو وحده فثبت عدم كشف الأصنام بالطريق البرهاني وهو بيان لعدم النفع برفع المكروه المستلزم لعدم النفع بجلب المحبوب إستلزاما ظاهرا فإن رفع المكروه أدنى مراتب النفع فإذا انتفى إنتفى النفع بالكلية وإن يردك بخير تحقيق لسلب الضرر الوارد في حيز الصلة أي إن يرد أن يصيبك بخير فلا راد لفضله الذي من جملته ما أرادك به من خير فهو دليل على جواب الشرط لا نفس
(11/199)

الجواب وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل والكرممن غير إستحقاق عليه سبحانه أي لا أحد يقدر على رده كائنا من كانفيدخل فيه الأصنام دخولا أوليا وهو بيان لعدم ضرها بدفع المحبوب قبلوقوعه المستلزم لعدم ضرها برفعه أو بإيقاع المكروه إستلزاما جليا ولعل ذكره الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين لأن ما يريدهسبحانه يصيب وما يصيب لا يكون إلا بإرادته تعالى للإيذان بأن الخير مقصودلله تعالى بالذات والضر إنما يقع جزاء على الأعمال وليس مقصودابالذات ويحتمل أنه أريد معنى الفعلين في كل من الخير والضر لإقتضاءالمقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب إلا أنه قصد الإيجاز في الكلام فذكر في أحدهما المس وفي الآخر الإرادة ليدل بما ذكر في جانب على ما ترك في الجانب الآخر ففي الآية نوع من البديع يسمى إحتباكا وقدتقدم في غير آية ولم يستثن سبحانه في جانب الخير إظهارا لكمال العناية به وينبىء عن ذلك قوله تعالى : يصيب به من يشاء من عباده حيث صرح جل شأنه بالإصابة بالفضل المنتظم لما أراد من الخير وقيل : إنما لم يستثن جل وعلا في ذلك لأنه قد فرض فيه أن تعلق الخير به واقع بإرادته تعالى وصحة الإستثناء تكون بإرادة ضده في ذلك الوقت وهو محال وهذا بخلاف مس الضر فإن إرادة كشفه لا تستلزم المحال وهو تعلق الإرادتين بالضدين في وقت واحد وفي العدول عن يرد بك الخير إلىما في النظم الجليل إيماء كما قيل إلى أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله وما أشرنا إليه من رجوع ضمير به إلى الفضلهو الظاهر المناسب وجوز رجوعه لما ذكر وليس بذاك وحمل الفضل على العموم أولا وآخرا حسبما علمت هو الذي ذهب إليه بعض المحققين رادا منجعله عبارة عن ذلك الخير بعينه على أن يكون الإتيان به أولا ظاهرا منباب وضع المظهر موضع المضمر إظهارا لما ذكر من الفائدة بأن قولهسبحانه : من يشاء من عباده يأبى ذلك لأنه ينادي بالعموم ويجوز عندي أن يكون الكلام من باب عندي درهم ونصفه وقوله سبحانه : وهو الغفور الرحيم 107 تذييل لقوله تعالى : يصيب به إلخ مقررلمضمونه والكل تذييل للشرطية الأخيرة مقرر لمضمونها وذكر الإمام في هده الآيات أن قوله تعالى : ولا تكونن من المشركين لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الاوثان لأن ذلك مذكور في قوله سبحانه أول الآية : لا أعبد الذين تعبدون من دون الله فلا بد من حمل هذا الكلام على ما فيه فائدة زائدة وهي أن من عرف مولاه لو إلتفت بعد ذلك إلى غيره كانذلك شركا وهو الذي يسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي ويجعل قولهسبحانه : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك إشارة إلى مقام هوآخر درجات العارفين لأن ما سوى الحق ممكن لذاته موجود بإيجاده والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق وحينئذ فلا نافع إلاالحق ولا ضار إلا هو وكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك فلا رجوع إلاإليه عن شأنه في الدارين
ومعنى فان فعلت إلخ فإن إشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير اللهتعالى من الظالمين أي الواضعين للشيء في غير موضعه إذ ما سوى اللهتعالى معزول عن التصرف فإضافة التصرف إليه وضع للشيء في غير موضعه وهو الظلم وطلب الإنتفاع بالأشياء التي خلقها الله تعالى للإنتفاع بها من الطعام والشراب ونحوهما لا ينافي الرجوع بالكلية إلى اللهتعالى بشرط أن يكون بصر العقل عند التوجه إلى شيء
(11/200)

من ذلك مشاهدا لقدرة الله تعالى وجوده وإحسانه في إيجاد تلك الموجودات وإيداعتلك المنافع فيها مع الجزم بأنها في أنفسها وذواتها معدومة وهالكةولا وجود لها ولا بقاء ولا تأثير إلا بإيجاد الله تعالى وإبقائه وإفاضة ما فيها من الخواص عليها بجوده وإحسانه وقوله تبارك وتعالى : وإن يمسسك الله إلخ تقرير لأن جميع الممكنات مستندة إليه سبحانه وتعالى وأنه لا معول إلا عليه عز شأنه وهو كلام حسن بيد أن زعمه أن قولهتعالى : ولا تكونن من المشركين لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان إلخ لا يخفى ما فيه وقد ذكر نحو ما هو الكلام في الآيات ساداتنا الصوفية ففي أسرار القرآن أنه سبحانه خوف نبيه صلى الله عليه و سلم من الإلتفات إلى غيره في إقباله عليه سبحانه بقوله : ولا تكونن من المشركين أي من الطالبين غيري والمؤثرين على جمال مشاهدتي ما لا يليق من الحدثان وقد ذكروا أن إقامة الملة الحنيفية بتصحيح المعرفة وهو لا يكون إلا بترك النظر إلى ما سوى الحق جل جلاله ثم أنه تعالى زاد تأكيدا للإقبال عليهوالإعراض عما سواه بقوله جل شأنه : ولا تدع إلخ حيث أشار فيه إلى أن من طلب النفع أو الضر من غيره تعالى فهو ظالم أي واضع للربوبية في غير موضعها ومن هنا قال شقيقالبلخي : الظالم من طلب نفعه ممن لا يملك نفع نفسه وإستدفع الضر ممن لا يملك الدفاع عن نفسه ومن عجز عن إقامة نفسه كيف يقيم غيره وقررذلك بقوله تعالى : وإن يمسسك إلخ
ومن ذلك قال ابن عطاء : إنه تعالى قطع على عباده الرهبة والرغبة إلامنه وإليه بإعلامه أنه الضار النافع وقد يكون الضر إشارة إلى الحجاب والخير إشارة إلى كشف الجمال أي إن يمسسك الله بضر الحجاب فلاكاشف لضرك إلا هو بظهور أنوار وصاله وإن يردك بكشف جماله فلا راد لفضل وصاله من سبب وعلة فإن المختص في الأزل بالوصال لا يحتجب بشيء منالأشياء لأنه في الفضل السابق مصون من جريان القهر هذا ولعله مغن عنالكلام من باب الإشارة في الآيات حسبما هو العادة في الكتاب قل يا أيها الرسول مخاطبا لأولئك الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحي إليك أوللمكلفين مطلقا كما قال الطبرسي يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم وهو القرآن العظيم الظاهر الدلالة المشتمل على محاسن الأحكام التي من جملتها ما مر آنفا من أصول الدين وإطلعتهم على ما في تضاعيفهمن البينات والهدى ولم يبق لكم عذر وقيل : المراد من الحق النبي صلى الله عليه و سلم وفيه من المبالغة ما لا يخفى وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن الحق هو ما دل عليه قوله تعالى : وان يمسك إلخ وهو كما ترى فمن اهتدى بالإيمان والمتابعة فانما يهتدي لنفسه أي منفعة إهتدائه لها ومن ضل بالكفر والإعراض فانما يضل عليها أي فوبال ضلاله عليها وقيل : والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه الصلاة و السلام من جلب نفع ودفع ضر ويلوح إليه إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته صلى الله عليه و سلم وما أنا عليكم بوكيل 108 أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير وفي الآيةإرادة إلى أنه عليه الصلاة و السلام لا يجبرهم على الإيمان ولا يكرههم عليه وإنما عليه البلاغ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخةبآية السيف واتبع في جميع شؤونك
(11/201)

من الإعتقاد والعمل والتبليغ مايوحى إليك على نهج التجددوالإستمرار والتعبير عن بلوغ الحق المفسر بالقرآن إليهم بالمجيء وإليه صلى الله تعالى عليه وسلم بالوحي تنبيه على ما بين المرتبتين من التنافي وإذا أريدمن الحق ما قيل فالأمر ظاهر جدا واصبر على ما يعتريك من مشاق التبليغ وأذى من ضل حتى يحكم الله بالنصرة عليه أو بالأمر بالقتال وهو خير الحاكمين 109 إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لإطلاعه على السرائر كإطلاعه على الظواهر وغيره جل شأنه من الحاكمين إنما يطلع على الظواهر فيقع الخطأ في حكمه ولا يخفى ما في هذه الآيات من الموعظة الحسنة وتسلية النبي صلى الله عليه و سلم ووعد المؤمنين والوعيد للكافرينوالحمد لله تعالى رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي يؤنس ذكره قلوب الموحدين وعلى آله وصحبه أجمعين
سورة هود عليه السلام مكية
11 - كما أخرج ذلك ابن النحاس في تاريخه وأبو الشيخ وابن مردويه منطرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن مردويه عن عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولم يستثنيا منها شيئا وإلى ذلك ذهب الجمهور وإستثنى بعضهم منها ثلاث آيات فعلك تارك
أفمن كان على بينة من ربه
أقم الصلاة طرفي النهار وروي إستثناء الثالثة عن قتادة قال الجلال السيوطي : ودليله من عدةطرق أنها نزلت بالمدينة في حق أبي اليسر وهي كما قال الداني في كتاب العدد مائة وإحدى وعشرون آية في المدني الأخير وإثنتان فيالمدني الأول وثلاث في الكوفي ووجه إتصالها بسورة يونس عليه السلامأنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه السلام مختصرة جدا مجملةفشرحت فيهذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور ولا سورة الأعراف على طولها ولا سورة إنا أرسلنا نوحا التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة وبسطا له ثم إن مطلعها شديدالإرتباط بمطلع تلك فإن قوله تعالى هنا : الر كتاب أحكمت آياته نظير قوله سبحانه هناك : الر تلك آيات الكتاب الحكيم بل بين مطلع هذهوختام تلك شدة إرتباط أيضا حيث ختمت بنفي الشرك وإتباع الوحي وأفتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك وورد في فضلها ما ورد فقد أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اقرأوا هودا يوم الجمعة وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو بكر رضيالله تعالى عنه : يا رسول الله قد شبت قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وأخرج ابن عساكر منطريق يزيد الرقاشي عن أنس عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال : يا رسول الله أسرع إليك الشيب قال : أجل شيبتني سورة هود وأخواتهاالواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل : :
وقد جاء في بعض الروايات أيضا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لهE : أسرع إليك الشيب يا رسول الله فأجابه بنحو ما ذكر إلا أنه ذكر من الأخوات الواقعة وعم وإذا الشمس كورت وفي روايةأخرى عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول الله لقد شبت فقال : شيبتني هود والواقعة إلى
(11/202)

آخر ما في خبر عمر وفي بعضها الإقتصار على شيبتني هود وأخواتها وفي بعض آخر بزيادة وما فعل بالأمم من قبلي وقد أخرج ذلك ابنعساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما مرفوعا
وأخرج ابن مردويه وغيره عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالله أصحابه : أسرع إليك الشيب فقال : شيبتني هود وأخواتها من المفصل والواقعة وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما إشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لإسراع الشيب إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار وأخرج البيهقي في شعبالإيمان عن أبي علي الشتري قال : رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام : فقلتيا رسول الله روي عنك أنك قلت : شيبتني هود قال : نعم فقلت : ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهم السلام وهلاك الأمم قال : لا ولكن قوله تعالى : فاستقم كما أمرت وهذا هو الذي إ 4 عتمد عليه بعض السادةالصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وبينه بما بينه والحق أن الذي شيبه صلى الله تعالى عليه وسلم ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره مما عظم أمرهعلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع وهذا هوالمنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله صلى الله عليه و سلم أصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل إكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام
ودعوى أن المتبادر لهم رضي الله تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلكلم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم لم يسألوا عما شيبه عليهالصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة وهلاكالأمم دون ذلك الأمر وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي أخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه صلى الله عليه و سلم وكون ما ذكر مشيبا مفهوما ما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي وإتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها وسيأتي في آخر السورة إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم
بسم الله الرحمن الرحيم الر إسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه وغيرهما أو للقرآن على ماروي عن الكلبي والسدي وقيل : إنها إشارة إلى إسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه وقيل : هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادىء كتبه المنرلةومباني أسمائه الكريمة وقيل وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا علىأتم تفصيل وإختار غير واحد من المتأخرين كونها إسما للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بالر وقيل : محلها الرفع على الإبتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو أذكر أو إقرأ وقولهسبحانه : كتاب خبر لها على تقدير إبتدائيتها أو لمبتدا محذوف علىغيره من الوجوه وادتنوين فهه للتعظهم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر أحكمت ءاياته أي نظمت نظما محكما لا يطرأ عليه إختلال فلايكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالأحكام مستعار من إحكام البناء بمعنى اتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالإحكام من أحكمه إذا منعه ويقال أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة ومنه قول جرير ... أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم إن أغضبا
(11/203)

وقيل المراد منعت من الفساد أخذا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح فكأن ما فيها بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعها الدلائل من الجماح ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه ولعل الذوق يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلا أو بعضا على حسب ما أشرنا إليه وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غيرمنسوخة بشيء أصلا وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه وإدعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه : إنما أنت نذير والله على كل شيءوكيل
وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف و من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها الآية ونسخت بقوله سبحانه من كان يريد العاجلة عجلنا لهفيها ما نشاء لمن نريد ولا يخلو عن نظر ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكيمة أي ذات حكمة لإشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما ومنه قول نمر بن تولب : وأبغض بغيضك بغضا رويدا إذا أنت حاولت أن تحكما فقد قال الأصمعي : إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيما وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لا سيما إذاأريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصىغاياته ما لا يخفى ثم فصلت أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائدالتي تجعل بين اللآليء ووجه جعلها كذلك إشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلا فصلا من السور ويراد بالكتاب القرآن وقيل : يصح أن يراد به هذه السورة أيضا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه أو فرقت فيالتنريل فلم تنزل جملة بل نزلت نجما نجما على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة و ثم على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادرمن التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لهاحقيق بأن يرتب على وصف أحكامها وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير وقيل : للتراخي بين الإخبارين وإعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازا أو يقال بوجوده بإعتبار إبتداء الخبر الأول وإنتهاء الثاني
وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخي رتبةالتفصيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الإحكام أمر ظاهر وبالمعنىالثالث فيه نوع خفاء ولا يخفى عليك أن الإحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني الإحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في إحتمالات المراد بثم تبلغ إثنين ثلاثين أو ثمانية وأربعين إحتمالا ولا حجر والزمخشري ذكر للإحكام على ما في الكشف ثلاثة أوجه
(11/204)

أخذه من أحكام البناء نظرا إلى التركب البالغ حد الإعجاز أو منالإحكام جعلها حكيمة أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد وللتفصيل أربعة جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيهامن دلائل التوحيد وأخواتها وجعلها فصولا سورة سورة وآية آية وتفريقها في التنزيل وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها رويهذا عن مجاهد وقال : إن معنى ثم ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل وفلانكريم الأصل ثم كريم الفعل
والظاهر أنه أراد في جميع الإحتمالات كذلك وفيه أيضا أنه إذا أريد بالإحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبي لأن الإحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى وبالمعنى الثاني وإن كان معنويا لكن التفصيل إكمال لما فيه من الإجمال وان أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الإحكام بالنظر إلى كل آية في نفسهاوجعلها فصولا بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جملمن الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي ولما كان الكلام من السائلات كان زمانيا أيضا ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقا حملا على التراخي فيالإخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وإلافإخباري والأحسن أن يراد بالإحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين حكيم و خبير و احكمت و فصلت ثم قال : ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبي والإخباري إنتهى فليتأمل وقريء أحكمت بالبناء للفاعل المتكلم و فصلت بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير والمعنى ثم فرقت بين الحقوالباطل وقيل : فصلت هنا مثلها في قوله تعالى : ولما فصلت العير أي إنفصلت وصدرت من لدن حكيم خبير 1 صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بإحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات إبانةلجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر أوهو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده إحكامها وتفصيلها وإختار هذا في الكشف وفي الكشاف أن فيه طباقا حسنا لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر وأصل الكلام على ما قال الطيبي : أحكم آياته الحكيم وفصلها الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال على قراءة البناء للمفعول وقوله : لبيك يريد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لا سيما وقد جيء بالإسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي و لدن من الظروف المبنية وهيلأول غاية زمان أو مكان والمراد هنا الأخير مجازا وبنيت لشبهها بالحرف في لزومها إستعمالا واحدا وهي كونها مبدأ غاية وإمتناع الإخباربها وعنها ولا يبنى عليها المبتدأ بخلاف عند و لدي فإنهما لا يلزمان إستعمالا واحدا بل يكونان لإبتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأكما في قوله سبحانه : وعنده مفاتح الغيب ولدينا مزيد قيل : ولقوةشبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت نعم جاء عن قيس إعرابها تشبيها
(11/205)

بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم بأسا شديدا من لدنه بالجر وإشمامالدال الساكنة الضم وإقترانها بمن كما في الآية وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن من وقد تضاف إلى جملة إسمية كقوله
وتذكر نعماه لدن أنت يافع
وفعلية كقوله : صريع غوان راقهن ورقنه لدن شب حتى شاب سود الذوائب ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقديرأن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله : وليت فلم تقطع لدن أن وليتنا قرابة ذي قربى ولا حق مسلم ولا يخفى ما في إلترام ذلك من التكلف لا سيما في مثل لدن أنت يافع وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة وجاء نصب غدوة بعدها في قوله
لدن غدوة حتى دنت لغروب
وخرج على التمييز وحكى الكوفيون رفعهابعدها وخرج على إضمار كان وفيها ثمان لغات فمنهم من يقول لدن بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة وتخفف الضمةكما في عضد وحينئذ يلتقي ساكنان فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى لد بفتح اللام وسكون الدال ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول لدن بفتح اللام والدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرككسرا فيقول لدن بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة وحينئذ يلتقي ساكنان أيضا فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول لد بضم اللام وسكون الدال ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بضم اللام وسكون الدال وكسر النون فهذه سبع لغات وجاء لد بحذف نون لدن التي هي أم الجميع وبذلك تتم الثمانية ويدل على أن أصل لد لدن إنك إذا أضفتهلمضمر جئت بالنون فتقول : من لدنك ولا يجوز من لدك كما نبه عليه سيبويه وذكر لها في همع الهوامع عشر لغات ما عدا اللغة القيسية فليراجع
ألا تعبدوا إلا الله في موضع العلة للفعلين السابقين على جعل أن مصدرية وتقدير اللام معها كأنه قيل : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلاتعبدوا إلا الله أي لتتركوا عبادة غيره عز و جل وتتمحضوا لعبادته سبحانه فإن الإحكام والتفصيل مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة
وجوز أن تكون مفسرة لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه كأنهقيل : فصل وقال : لا تعبدوا إلا الله أو أمر أن لا تعبدوا إلا الله وقيل : إن هذا كلام منقطع عما قبله غير متصل به إتصالا لفظيا بل هو إبتداء كلام قصد به الإغراء على التوحيد على لسانه صلى الله عليه و سلم و أن وما بعدها في حيز المفعول به لمقدر كأنه قيل : إلزموا ترك عبادة غيره تعالى وإحتمال أن يكون ما قبل أيضا مفعولا به بتقدير قل أول الكلام خلاف الظاهر ومثله إحتمال كون أن والفعل في موقع المفعول المطلق وقد صرح بعض المحققين أن ذلك مما لا يحسن أو يجوز فلا ينبغي أن يلتفت إليه انني لكم منه نذير وبشير 2 ضمير الغائب المجرور لله تعالىو من لإبتداء الغاية والجار والمجرور في الأصل صفة النكرة فلما قدم عليها صار حالا كما هو المعروف في أمثاله أي إني لكم من جهتهتعالى نذير أنذركم عذابه إن لم تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه وبشير
(11/206)

أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمحضتم في عبادته عز و جل وجوز كون من صلة النذير والضمير إما له تعالى أيضا والمعنى حينئذ على ما قالأبو البقاء نذير من أجل عذابه وإما للكتاب على معنى إني لكم نذير من مخالفته وبشير لمن آمن به وقوله تعالى : وأن استغفروا ربكم
عطف على أن لا تعبدوا إلا الله سواء كان نهيا أو نفيا وفي أن الاحتمالان السابقان وقد علمت أن الحق أن أن المصدرية توصل بالأمر والنهي كما توصل بغيرهما وفي توسيط جملة إني لكم الخ بين المتعاطفين ما لا يخفى من الإشارة إلى علو شأن التوحيد ورفعة قدر النبي ص - وقد روعي في تقديم الإنذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية لتتجاوب الأطراف والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وأرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يذكر من التمتيع وإيتاء الفضل
وقوله سبحانه ثم توبوا إليه عطف على استغفروا واختلف في توجيه توسيط ثم بينهما مع أن الاستغفار بمعنى التوبة في العرف فقال الجبائي إن المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها فكلمة ثم على ظاهرها من التراخي في الزمان وقال الفراء إن ثم بمعنى الواو كما في قوله
... بهز كهز الرديني ... جرى في الأنابيب ثم اضطرب ...
والعطف تفسيري وقيل لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل هو ترك المعصية والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة ولئن سلم أنهما بمعنى فثم للتراخي في الرتبة والمراد بالتوبة الاخلاص فيها والاستمرار عليها وإلى هذا ذهب صاحب الفرائد وقال بعض المحققين الاستغفار هو التوبة إلا أن المراد بالتوبة في جانب المعطوف التوصل إلى المطلوب مجازا من إطلاق السبب على المسبب وثم على ظاهرها وهي قرينة على ذلك
وأنت تعلم أن أصل معنى الاستغفار طلب الغفر أي الستر ومعنى التوبة الرجوع ويطلق الأول على طلب ستر الذنب من الله تعالى والعفو عنه والثاني على الندم عليه مع العزم على عدم العود فلا اتحاد بينهما بل ولا تلازم عقلا لكن اشترط شرعا لصحة ذلك الطلب وقبوله الندم على الذنب مع العزم على عدم العود إليه وجاء أيضا استعمال الأول في الثاني والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر وأما على ذاك فلأن الظاهر أن المراد من الاستغفار المأمور به الاستغفار المسبوق بالتوبة بمعنى الندم فكأنه قيل استغفروا ربكم بعد التوبة ثم توبوا إليه ولا شبهة في ظهور احتياجه إلى التوجيه حينئذ والقلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثاني على الإخلاص في التوبة والاستمرار عليها والتراخي عليه يجوز أن يكون رتبيا وأن يكون زمانيا كما لا يخفى يمتعكم متاعا حسنا مجزوم بالطلب ونصب متاعا على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله تعالى أنبتكم من الأرض نباتا ويجوز أن يكون مفعولا به على أنه اسم لما ينتفع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك والمعنى كما قيل يعشكم في أمن وراحة ولعل هذا لا ينافي كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ولا كون أشد الناس بلاء الأمثل فالأمثل لأن المراد بالأمن أمنه من غير الله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه وبالراحة طيب عيشه برجاء الله تعالى والتقرب إليه حتى بعد المحنة منحة
(11/207)

8 - ... وتعذيبكم عذب لدي وجوركم ... علي بما يقضي الهوى لكم عدل ...
وقال الزجاج المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد إلى أجل مسمى مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة ويؤت أي يعط كل ذي فضل أي زيادة في العمل الصالح فضله أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطى وقد يقال لا حاجة إلى تقدير المضاف والمراد المبالغة على حد سيجزيهم وصفهم والضمير لكل ويجوز أن يعود إلى الرب والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الأعطاء ثواب وحينئذ يستغنى عن التأويل
واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العاملين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل ويعط كل فاضل جزاء فضله أما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مرد له انتهى
ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه بإحدى الدارين ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمل وقيل في الآية لف ونشر فإن التمتيع مرتب على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى
وأيا ما كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه وإن تولوا أي تستمروا على الإعراض عما ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة وأصله تتولوا فهو مضارع مبدوء بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله وقيل إن تولوا ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهو خلاف الظاهر وأخر الإنذار عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه ذلك يستدعى سابقه ذكره
وقرأ عيسى بن عمرو واليماني تولوا بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع ولى من قولهم ولى هاربا أي أدبر فإني أخاف عليكم بمقتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع عذاب يوم كبير هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضا وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه وقيل المراد به زمان ابتلاهم الله تعالى فيه في الدنيا وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف وأياما كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له إلى الله مرجعكم مصدر ميمي وكان قياسه فتح الجيم لأنه من باب ضرب وقياس مصدره الميمي ذلك كما علم من محله أي إليه تعالى رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره جميعا لا يتخلف منكم أحد وهو على كل شيء قدير
(11/208)

فيندرج في تلك الكلية قدرته سبحانه على إماتتكم ثم بعثكم وجزائكم فيعذبكم بأفانين العذاب وهذا تقرير وتأكيد لما سلف من ذكر اليوم وتعليل للخوف
ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه كأنه جواب سؤال مقدر وذلك أنه لما ألقى إليهم ما ألقى وسيق إليهم ما سيق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال هل قابلوه بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل مصدرا بكلمة التنبيه إشعارا بأن ما بعدها من هناتهم أمر ينبغي أن يفهم ويتعجب منه ألا إنهم الخ فضمير إنهم للمشركين المخاطبين فيما تقدم ويثنون بفتح الياء مضارع ثنى الشيء إذا لواه وعطفه ومنه على ما قيل الاثنان لعطف أحدهما على الآخر والثناء لعطف المناقب بعضها على بعض وكذا الاستثناء للعطف على المستثنى منه بالإخراج وأصله يثنيون فأعل الإعلال المعروف في نحو يرمون وفي المراد منه احتمالات منها أن الثني كناية أو مجاز عن الإعراض عن الحق لأن من أقبل على شيء واجهه بصدره ومن أعرض صرفه عنه أي أنهم يثنون صدورهم عن الحق ويتحرفون عنه والمراد استمرارهم على ما كانوا عليه من التولي والإعراض المشار إليه بقوله سبحانه فإن تولوا الخ ومنها أنه مجاز عن الإخفاء لأن ما يجعل داخل الصدر فهو خفي أي أنهم يضمرون الكفر والتولي عن الحق وعداوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومنها أنه باق على حقيقته والمعنى أنهم إذا رأوا النبي عليه الصلاة و السلام فعلوا ذلك وولوه ظهورهم والظاهر أن اللام متعلقة - بيثنون - على سائر الاحتمالات وكأن بعضهم رأى عدم صحة التعلق على الاحتمال الأول لما أن التولي عن الحق لا يصلح تعليله بالاستخفاء لعدم السببية فقدر لذلك متعلقا فعل الإرادة على أنه حال أو معطوف على ما قبله أي ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله عليه الصلاة و السلام والمؤمنين على أغراضهم وجعله في قود المعنى إليه من قبيل الإضمار في قوله تعالى اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فضرب فانفلق لكن لا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثني الصدور والاستخفاء ليس بمثابة انسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر والانفلاق كما ذكره العلامة القسطلاني وغيره وقيل إنه لا حاجة إلى التقدير في الاحتمالين الأولين لأن انحرافهم عن الحق بقلوبهم وعطف صدورهم على الكفر والتولي وعداوة النبي ص - وعدم إظهارهم ذلك يجوز أن يكون للاستخفاء من الله تعالى لجهلهم بما لا يجوز على الله تعالى وأما على الاحتمال الثالث فالظاهر أنه لا بد من التقدير إلا أن يعاد الضمير منه إلى الرسول ص - وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما ذكره أبو حيان من أن الآية نزلت في بعض الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي ص - تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه عليه الصلاة و السلام وهم يظنون أنه يخفى عليه ص - لكن ظاهر قوله تعالى الآتي يعلم ما يسرون وما يعلنون يقتضي عود الضمير إليه تعالى واختار بعض المحققين الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاث وأمر التعليل والضمير عليه ظاهر وأيده بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول الله ص - المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها لكنه ليس بمجمع عليه لما سمعت عن أبي حيان
(11/209)

وقيل إنه كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن شداد أنها نزلت في المنافقين كان أحدهم إذا مر بالنبي ص - ثنى صدره وتغشى لئلا يراه وهو في معنى ما تقدم عن أبي حيان إلا أن فيه بعض الكفار دون المنافقين فلا يرد عليه ما أورد على هذا من أن الآية مكية والنفاق إنما حدث بالمدينة فكيف يتسنى القول بأنها نزلت في المنافقين وقد أجيب عن ذلك بأنه ليس المراد بالنفاق ظاهره بل ما كان يصدر من بعض المشركين الذين كان لهم مداراة تشبه النفاق وقد يقال إن حديث حدوث النفاق بالمدينة ليس إلا غير مسلم بل ظهوره إنما كان فيها والامتياز إلى ثلاث طوائف ثم لو سلم فلا إشكال بل يكون على أسلوب قوله سبحانه كما أنزلنا على المقتسمين إذا فسر باليهود ويراد به ما جرى على بني قريظة فإنه إخبار عما سيقع وجعله كالواقع لتحققه وهو من الإعجاز لأنه وقع كذلك فكذا ما نحن فيه نعم الثابت في صحيح البخاري وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق محمد بن عباد بن جعفر أنه سمع ابن عباس يقرأ الآية فسأله عنها فقال أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وإن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم وليس في الروايات السابقة ما يكافىء هذه الرواية في الصحة وأمر يثنون عليها ظاهر خلا أنه إذا كان المراد بالأناس جماعة من المسلمين كما صرح به الجلال السيوطي أشكل الأمر وذلك لأن الظاهر من حال المسلم إذا استحيا من ربه سبحانه فلم يكشف عورته مثلا في خلوة كان مقصوده مجرد إظهار الأدب مع الله تعالى مع علمه بأنه جل شأنه لا يحجب بصره حاجب ولا يمنع علمه شيء ومثل هذا الحياء أمر لا يكاد يذمه أحد بل في الآثار ما هو صريح في الأمر به وهو شعار كثير من كبار الأمة والقول بأن استحياء أولئك المسلمين كان مقرونا بالجهل بصفاته عز و جل فظنوا أن الثني يحجب عن الله سبحانه فرد عليهم بما رد لا أظنك تقبله وبالجملة الأمر على هذه الروايات لا يخلو عن إشكال ولا يكاد يندفع بسلامة الأمر والذي يقتضيه السياق ويستدعيه ربط الآيات كون الآية في المشركين حسبما تقدم فتدبر والله تعالى أعلم
وقرأ الحبر رضي الله تعالى عنه ومجاهد وغيرهما تثنوني بالتاء لتأنيث الجمع وبالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي وهو مضارع اثنوني كما حلولى فوزنه تفعوعل بتكرير العين وهو من أبنية المزيد الموضوعة للمبالغة لأنه يقال حلى فإذا أريد المبالغة قيل احلولى وهو لازم فصدورهم فاعله ويراد منه ما أريد من المعاني في قراءة الجمهور إلا أن المبالغة ملحوظة في ذلك فيقال المعنى مثلا تنحرف صدورهم انحرافا بليغا وعن الحبر أيضا وعروة وغيرهما أنهم قرأوا تثنون بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة والأصل تثنونن بوزن تفعوعل من الثن بكسر الثاء وتشديد النون وهو ما هش وضعف من الكلأ أنشد أبو زيد
... يا أيها المفضل المعني ... إنك ريان فصمت عني ... تكفي اللقوح أكلة من ثن ...
ولزم الإدغام لتكرير العين إذا كان غير ملحق وصدورهم على هذه مرفوع أيضا على الفاعلية والمعنى على وصف قلوبهم بالسخافة والضعف كذلك النبت الضعيف فالصدور مجاز عما فيها من القلوب وجوز أن يكون مطاوع ثناه فإنه يقال ثناه فانثنى واثنوني كما صرح به ابن مالك في التسهيل فقال وافعوعل للمبالغة وقد يوافق استفعل ويطاوع فعل ومثلوه بهذا الفعل فالمعنى أن صدورهم قبلت الثني ويؤول إلى معنى انحرفت
(11/210)

كما فسر به قراءة الجمهور وعن مجاهد وكذا عروة الأعشى أنه قرأ تثنئن كتطمئن وأصله يثنان فقلبت الألف همزة مكسورة رغبة في عدم التقاء الساكنين وإن كان على حده ويقال في ماضيه اثنأن كاحمأر وابيأض وقيل أصله تثنون بواو مكسورة فاستثقلت الكسرة على الواو فقلبت همزة كما قيل في وشاح إشاح وفي وساة إسادة فوزنه على هذا تفوعل وعلى الأول تفعال ورجح باطراده وهو من الثن الكلأ الضعيف أيضا وقرىء تثنوى كترعوى ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا وغلط النقل بأنه لا حظ للواو في هذا الفعل إذ لا يقال ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى ووزن ارعوى من غريب الأوزان وفي الصحاح تقديره افعول ووزنه افعلل وإنما لم يدغم لسكون الياء وتمام الكلام فيه يطلب من محله وقرىء بغير ذلك وأوصل بعضهم القراءآت إلى ثلاث عشرة وفصلها في الدر المصون ومن غريبها أنه قرىء يثنون بالضم واستشكل ذلك ابن جني بأنه لا يقال أثنيته بمعنى ثنيته ولم يسمع في غير هذه القراءة وقال أبو البقاء لا يعرف ذلك في اللغة إلا أن يقال معناه عرضوها للانثناء كما تقول أبعت الفرس إذا عرضته للمبيع ألا حين يستغشون ثيابهم أي يجعلونها أغشية ومنه قول الخنساء
... أرعى النجوم وما كلفت رعيتها ... وتارة أتغشى فضل أطماري ...
وحاصله حين يأوون إلى فراشهم ويلتحفون بما يلتحف به النائم وهو وقت كثيرا ما يقع فيه حديث النفس عادة عن ابن شداد حين يتغطون بثيابهم للاستخفاء وأيا ما كان فالمراد من الثياب معناه الحقيقي وقيل المراد به الليل وهو يستر كما تستر الثياب ومن مثل ذلك قولهم الليل أخفى للويل والظرف متعلق بقوله سبحانه يعلم أي ألا يعلم ما يسرون وما يعلنون حين يستغشون ثيابهم ولا يلزم منه تقييد علم الله تعالى بذلك الوقت لأن من يعلم فيه يعلم في غيره بالطريق الأولى وجوز تعلقه بمحذوف وقدره السمين وأبو البقاء يستخفون وبعضهم يريدون وما في الموضعين إما مصدرية أو موصولة عائدها محذوف أي الذي يسرونه في قلوبهم والذين يعلنونه أي شيء كان ويدخل ما يقتضيه السياق دخولا أوليا وخصه بعضهم به وقدم هنا السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه سبحانه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه وحاصل المعنى يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه سبحانه ما عسى أن يظهروه
وقرأ ابن عباس على حين يستغشون قال ابن عطية ومن هذا الاستعمال قول النابغة
... على حين عاتبت المشيب على الصبا ...
إنه عليم بذات الصدور تلعيل لما سبق وتقرير له والمراد - بذات الصدور - الأسرار المستكنة فيها أو القلوب التي في الصدور وأيا ما كان فليست الذات مقحمة كما في ذات غدوة ولا من إضافة المسمى إلى اسمه كما توهم أي أنه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم أو بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون وكان التعبير بالجملة الإسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالما بذلك وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي وهذا مما لا ينكره أحد سوى شرذمة من المعتزلة قالوا إنه تعالى إنما يعلم الأشياء بعد حدوثها تعالى عن ذلك علوا كبيرا ولا يلزم هذا بعض المتكلمين المنكرين للوجود الذهني
(11/211)

لأنهم إذا لم يقولوا به مع إنكار الوجود الذهني يلزمهم القول بتعلق العلم بالمعدوم الصرف وامتناعه من أجل البديهيات والإنكار مكابرة أو جهل بمعنى التعلق بالمعدوم الصرف وقد أورد ذلك عليهم المحقق الدواني وهو ناشىء على ما قيل عن الذهول عن معنى إنكار الوجود الذهني وبعد تحقيق المراد منه يندفع ذلك
وبيانه أنه ليس معنى إنكارهم ذلك أنه لا يحصل صورة عند العقل إذا تصورنا شيئا أو صدقنا به لأن حصولها عنده في الواقع بديهي لا ينكره إلا مكابر وكيف ينكره الجمهور والعلم الحادث مخلوق عندهم والخلق إنما يتعلق بأعيان الموجودات بل هو بمعنى أن ذلك الحصول ليس نحوا آخر من وجود الماهية المعلومة بأن يكون لماهية واحدة كالشمس مثلا وجودان أحدهما خارجي والآخر ذهني كما يقول به مثبتوه فهم لا ينكرون الوجود عن صور الأشياء وأشباحها وهي موجودات خارجية وكيفيات نفسانية وهي المخلوقة عندهم وإنما ينكرون الوجود الذهني عن أنفس تلك الأشياء وذلك بشهادة أدلتهم حيث قالوا لو حصلت النار في الأذهان لاحترقت الأذهان بتصورها واللازم باطل فإنه كما ترى إنما ينفي الوجود عن نفس النار لا عن شبحها ومثالها فالحق أن الجمهور إنما أنكروا ما ذهب إليه محققوا الحكماء من أن الحاصل في الأذهان أنفس ماهيات الأشياء ولم ينكروا ما ذهب إليه أهل الأشباح وحينئذ يقال علم الواجب عندهم إما تعلقه بأشباح الأشياء أو صفة ذات ذلك التعلق فلا يلزمهم القول بما قاله الشرذمة ولا يتجه عليهم أن التعلق بتلك الأشباح الموجودة في الأزل لكونه نسبة بينها وبينه تعالى متأخر عنها فيلزم إيجاد تلك الأشباح بلا علم وهو محال لأنا نقول لما كان الواجب تعالى موجبا في علمه وسائر صفاته الذاتية كان وجود تلك الصور الإدراكية التي هي تلك الأشباح مقتضى ذاته تعالى فلا بأس في كونها سابقة على العلم بالذات وإنما المسبوق بالعلم هو أفعاله الاختيارية ثم ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى قولهم إن علم الواجب تبارك وتعالى بالأشياء أزلي وتعلقه بها حادث أنه ليس هناك إلا تعلق حادث لأنه يلزم حدوث نفس العلم فيعود ما ارتكبه الشرذمة للقطع بأنه لا يصير المعلوم معلوما قبل تعلق العلم به وهو من الفساد بمكان بل معناه أن التعلق الذي لا تقتضيه حقيقة العلم حادث وهناك تعلق تقتضيه تلك الحقيقة وهو قديم وذلك لأن الأشباح والأمثال معلومة بالذات وبواسطتها تعلم الأشياء فتعلق العلم عندهم أعم من تعلقه بذات الشيء المعلوم أو بمثاله وشبحه ولما لم يكن وجود الحوادث في الأزل كان العلم الممكن بالنسبة إليها بالتعلق بأمثالها وأشباحها وبعد حدوثها يتجدد التعلق بأن يكون بذات تلك الحوادث وبالجملة تعلق العلم بأمثال الحوادث وأشباحها أزلي وبأنفسها وذواتها حادث ولا إشكال فيه أصلا وبهذا التحقيق يندفع شبهات كثيرة كما قيل لكن أورد عليه أن برهان التطبيق جار في هاتيك الأشباح لما أنها متميزة الآحاد في نفس الأمر فيلزم أحد المحذورين
وفي المقام ابحاث طويلة الذيل وقد بسط الكلام في ذلك مولانا اسمعيل أفندي الكلنبوي في حواشيه على شرح العضدية وللمولى الشيخ إبراهيم الكورانى تحقيق على طرز آخر ذكره في كتابه مطلع الجود فارجع إليه وبالجملة لا تخفي صعوبة هذه المسئلة وهي مما زلت فيها أقدام أقوام ولعل الله سبحانه يرزقك تحقيقها بمنه سبحانه وقد قال به افضل المتأخرين مولانا اسمعيل أفندي الكلنبوى
تم الجزء الحادى عشر بحول الله وقوته ويليه الجزء الثاني عشر وأوله وما من دابة 12
(11/212)

بسم الله الرحمن الرحيم وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها الدابة إسم لكل حيوان ذي روح ذكرا كان أو أنثى عاقلا أو غيره مأخوذ من الدبيب وهو في الأصل المشي الخفيف ومنه قوله : زعمتني شيخا ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا وإختصت في العرف بذوات القوائم الأربع وقد تخص بالفرس والمراد بها هنا المعنى اللغوي بإتفاق المفسرين أي وما من حيوان يدب على الأرض إلا على الله تعالى غذاؤه ومعاشه والمراد أن ذلك كالواجب عليه تعالى إذا لا وجوب عليه سبحانه عند أهل الحق كما بين في الكلام فكلمة على المستعملة للوجوب مستعارة إستعارة تبعية لما يشبهه ويكون من المجاز بمرتبتين وذكر الإمام أن الرزق واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان على معنى أنه باق على تفضله لكن لما وعده سبحانه وهو جل شأنه لا يخل بما وعد صوره بصورة الوجوب لفائدتين : التحقيق لوصوله وحمل العباد على التوكل فيه ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب مع العلم بأنه سبحانه المسبب لها ففي الخبر إعقل وتوكل وجاء لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله تعالى واجملوا في الطلب ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة سبب فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة سبب أصلا وفي بعض الآثار إن موسى عليه السلام عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه صخرة فضرب فإنشقت الصخرة وخرجت صخرة ثانية فضربها فخرجت ثالثة فضربها فإنشقت عن دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها وسمعها تقول : سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني وما أحسن قول ابن أذينة : لقد علمت وما الإشراف من خلقي إن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطلبه ولو أقمت أتاني لا يعنيني وقد صدقه الله تعالى في ذلك يوم وفد على هشام فقرعه بقوله هذا فرجع إلى المدينة فندم هشام على ذلك وأرسل بجائز إليه ويقرب من قصة الثقفي مع عبيدالله بن عامر خال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة حكاها ابن أبي الدنيا ونقلها غير واحد وقد ألغى أمر الأسباب جدا من قال : مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متعبا وإذا وليت عنه تبعك
(12/2)

وبالجمله ينبغي الوثوق بالله تعالى وربط القلب به سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وإحتج أهل السنة بالآية على أن الحرام رزق وإلا فمن لم يأكل طول عمره إلا من الحرام يلزم أن لا يكون مرزوقا وأجيب بأن هذا مجرد فرض إذ لا أقل من التغذي بلبن الأم مثلا وهو حلال على أن المراد أن كل حيوان يحتاج إلى الرزق إذا رزق فإنما رزقه من الله تعالى وهو لا ينافي أن يكون هناك من لا رزق له كالمتغذي بالحرام وكذا من لم يرزق أصلا حتى مات جوعا وروي هذا عن مجاهد وقد تقدم الكلام في ذلك
ويعلم مستقرها موضع قرارها في الأصلاب ومستودعها موضعها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوه فالمستقر والمستودع إسما مكان وجوز فيهما أن يكونا مصدرين وأن يكون المستودع إسم مفعول لتعدي فعله ولا يجوز في المستقر ذلك لأن فعله لازم والأول هو الظاهر وإنما خص كل من الإسمين بما خص به من المحل كما قال بعض الفضلاء لأن النطفة مثلا بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعي ومنشئها الخلقي وأما بالنسبة إلى الأرحام مثلا فهي مودعة فيها إلى وقت معين وعن عطاء تفسير المستقر بالأرحام والمستودع بالأصلاب وكأنه أخذ تفسير الأول بذلك من قوله سبحانه : ونقر في الأرحام ما نشاء وجوز أن يكون المراد بالمستقر مساكنها من الأرض حيث وجدت بالفعل وبالمستودع محلها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقرة وهذا عام لجميع الحيوانات بخلاف الأول إذ من الحيوانات ما لم يستقر في صلب كالمتكون من عفونة الأرض مثلا ولعل تقديم محلها بإعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة في الأرض والمعنى على ما قيل : ما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقه إليها ويعلم موادها المختلفة المندرجة في مراتب الإستعدادات المتفاوتة المتطورة في الأطوار المتباينة ومقارها المتنوعة يفيض عليها في كل مرتبة ما يليق بها من مبادي وجودها وكمالاتها المتفرعة عليها ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا وأخرج عبدالرزاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مستقرها حيث تأوي ومستودعها حيث تموت وتعقب بأن تفسير المستودع بذلك لا يلائم مقام التكفل بأرزاقها وقد يقال : لعل ذلك إشارة إلى نهاية أمد ذلك التكفل وفي خبر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إشارة إلى ما هو كالمبدأ له أيضا فقد أخرج عنه ابن جرير والحاكم وصححه أنه قال : مستقرها الأرحام ومستودعها حيث تموت فكأنه قيل : إنه سبحانه متكفل برزق كل دابة ويعلم مكانها أول ما تحتاج إلى الرزق ومكانها آخر ما تحتاج إليه فهو سبحانه يسوقه إليها ولا بد إلى أن ينتهي أمد إحتياجها وجوز في هذه الجملة أن تكون إستئنافا بيانيا وأن تكون معطوفة على جملة على الله رزقها داخلة في حيز إلا وعليه إقتصر الأجهوري
كل في كتاب مبين
6
- أي كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها أوكل ما ذكره وغيره مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم السلام أو المظهر لما أثبت فيه للناظرين والجملة على ما قال الطيبي كالتتميم لمعنى وجوب تكفل الرزق كمن أقر بشيء في ذمته ثم كتب عليه صكا وفي الكشف إن الأظهر أنها تحقيق للعلم وكأنه تعالى لما ذكر أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون أردفه بما يدل على عموم علمه ثم أتى سبحانه بما يدل على عظيم قدرته جل شأنه من قوله تبارك وتعالى : وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام تقريرا للتوحيد لأن من شمل علمه وقدرته هو الذي
(12/3)

يكون إلها لا غيره مما لا يعلم ولا يقدر على ضرر ونفع وتأكيدا لما سبق من الوعد والوعيد لأن العالم القادر يرجى ويخشى وجوز أن تكون الآية تقريرا لقوله سبحانه : يعلم ما يسرون وما يعلنون وما بعدها تقريرا لقوله سبحانه : وهو على كل شيء قدير وفيه بعد وكأن المراد بخلق السموات والأرض إلخ خلقهما وما فيهما أو تجعل السماوات مجازا عن العلويات فتشملها وما فيها وتجعل الأرض مجازا بمعنى السفليات فتشملها وما فيها من غير تقدير وإحتيج لذلك لإقتضاء المقام إياه وإلا فخلقهما في تلك المدة لا ينافي خلق غيرهما فيها والمراد باليوم الوقت مطلقا لا المتعارف إذ لا يتصور ذلك حين لا شمس ولا أرض وقيل أريد به مدة زمان دور المحدد المسمى بالعرش دورة تامة وإليه ذهب الشيخ الأكبر قدس سره وقد علمت حاله فيما تقدم وقيل : غير ذلك
وفي عدم خلقهما دفعة كما علمت دليل كما قال غير واحد على كونه سبحانه قادرا مختارا مع ما فيه من الإعتبار للنظار والحث على التأني في الأمور وقد تقدم ما قيل في وجه تخصيص هذا العدد دون الزائد عليه كالسبعة أو الناقص عنه كالخمسة للخلق ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر وإيثار صيغة الجمع في السماوات لإختلافها بالأصل والذات دون الأرض وإن قيل : إنها مثل السماء في كونها سبعا طباقا بين كل أرض وأرض مسافة وفيها مخلوقات وبذلك فسر قوله سبحانه : ومن الأرض مثلهن والكثير على أن الأرض كرة واحدة منقسمة إلى سبعة أقاليم وحملوا الآية على ذلك
وكان عرشه على الماء عطف على جملة خلق مع ضميره المستتر أو حال من الضمير بتقدير قد على ما هو المشهور في الجملة الحالية الماضوية من إشتراط قد ظاهرة أو مقدرة والمضي المستفاد من كان بالنسبة للحكم لا للتكلم أي كان عرشه على الماء قبل خلقهما وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد وبه صرح القاضي البيضاوي ثم قال : لم يكن حائل بينهما أي العرش والماء لا أنه كان موضوعا على متن الماء وإستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم إنتهى وكذا صرح به العلامة أبو السعود مفتي الديار الرومية لكنه قال : ليس تحته يعني العرش شيء غيره أي الماء سواء كان بينهما فرجة أو موضوعا على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش و إنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السموات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما إنتهى ولا يخفى ما بين القاضي والمفتي من المخالفة والأكثرون على أن الحق مع المفتي كما ستعلمه إن شاء الله تعالى
وإنتصر بعضهم للقاضي بأنه لو كان موضوعا على متن الماء للزم قبل خلق تمام العالم أحد الأمور الستة : إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي أو خروج العرش عن حيزه الطبيعي أو تخلخل الماء أو نموه أو تخلخل العرش أو نموه وحين خلق العالم أحد الأمور الخمسة : إما حركة العرش بالإستقامة إلى حيزه الطبيعي أو تكائف الماء أو ذبوله أو تكائف العرش أو ذبوله وهذه الأمور باطلة كما لا يخفى على من تدرب في الحكمة ويحمل الإمكان في كلامه على الإمكان الوقوعي أو يراد به الإمكان الذاتي وبالخلاء الخلاء في عالمنا هذا فإنه المتنازع فيه فكأنه قيل وإستدل به على أن الخلاء في عالمنا ممكن بالإمكان الذاتي وتوجيه الإستدلال به حينئذ على ذلك هو أن الخلاء قبل عالمنا هذا كان واقعا ووقوع شيء في وقت شيء من الأوقات دليل على إمكانه الذاتي في جميع الأوقات فإن ثبوت الإمكان للممكن واجب فالممكن في وقت ممكن في وقت آخر كما حققه شارح حكمه العين ووجه الدلالة على أن الماء أول
(12/4)

حادث بعد العرش أن كل جسم بسيط فله مكان طبيعي وأن المكان من لوازم وجود الجسم فإن الفاعل إذا أوجد الجسم أوجده لا محالة في مكان كما صرحوا به والمكان للخفيف من الأجسام هو الفوق والثقيل التحت على حسب الثقل والخفة وتحددهما إنما هو بالفلك الأعظم فوجود الماء في جوف العرش يتوقف على وجود مكانه المتوقف على وجود العرش فيتأخر عنه حدوثا ولا يخفى ما في هذا الوجه من النظر ولا أقل من أن يقال لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى العرش والماء معا على أنه قد جاء في بعض الآثار ما هو ظاهر في أن الماء كان مخلوقا قبل العرش فقد أخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات وغيرهم عن أبي رزين العقيلي قال : قلت : يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض قال : كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء وقال بعض في بيان وجه ذلك : أنه لما كان معنى كون العرش على الماء أنه موضوع فوقه لا مماسه وأن خلق السموات والأرض إنما كان بعدهما إقتضى ذلك أن العرش مخلوق قبل وأن الماء أول حادث بعده وهو من فحوى الخطاب وقوله : لا أنه كان موضوعا إلخ لأن سياقه لبيان قدرته تعالى يقتضيه وفيه ما فيه كما لا يخفى وتعقب بعض فضلاء الروم ما ذكروا أولا بأن حاصله أن الشق الثاني من الشقين المذكورين في كلام العلامة الثاني مستلزم لأحد أمور تقرر في علم الحكمة بطلانها فيتعين الأول منهما وهو الذي ذهب إليه العلامة الأول وهو إنما يتم أن لو كانت المقدمات المذكورة في إبطال تلك الأمور يقينية وهو ممنوع فإن أكثرها مبني على أصول الفلاسفة وقد بين القاضي نفسه بطلان أكثرها في الطوالع وهو إنما يراعي القواعد الحكمية إذا لم تكن مخالفة للقواعد الإسلامية على أن في كلام ذلك المنتصر خللا من وجوه : الأول أن قوله : يلزم إما خروج الماء على حيزه الطبيعي إلخ يقال في جوابه : أنه يجوز أن يخرج الماء عن حيزه الطبيعي وذلك غير محال وأن كان خروجه بنفسه بطريق السيلان عن حيزه الطبيعي محالا ويشهد لذلك أنهم ذكروا أن الماء لثقله الإضافي يقتضي أن يكون فوق الأرض والأرض لثقلها الحقيقي تقتضي أن تكون مغمورة بأسرها فيه بحيث يمكن أن يفرض في جوفها نقطة تكون الخطوط الخارجة منها إلى سطح الماء متساوية من جميع الجهات مع أن الأمر اليوم ليس كذلك لإنكشاف ربع شمالي من الأرض وإنحسار الماء عنه إما بسبب قرب الشمس من الجنوب إلى الأرض عند كونها في الحضيض بقدر ثخن المتمم المحوي كما قيل أو لأمر آخر يعلمه الله تعالى الثاني أن ما ذكره من إستحالة تخلخل الماء ممنوع عندهم أيضا وما يقال : إن القول بالتخلخل لا يتصور في البسائط الحقيقية للزوم تركيب ما فيه مدفوع فقد صرح في حكمة العين وشرحها بأن التخلخل الحقيقي وهو أن يزداد مقدار الجسم من غير أن يزاد عليه شيء من خارج ممكن وحققه سيد المحققين في حواشيه بأن الجسم سواء كان مركبا من الهيولي والصورة أو لم يكن يمكن التخلخل والتكاثف فيه لأن مقدار الجسم زائد عليه والجسم من حيث هو لا مقدار في ذاته فنسبته إلى جميع المقادير على السواء فأمكن أن يتصف بأكبر مما هو متصف به أو أصغر وأيضا الجسم متصل واحد والمقدار زائد عليه والجسم البسيط جزؤه يساوي كله فإذا إتصف الكل بمقدار خاص فجزؤه إذا إنفرد وجب أن يكون قابلا للإتصاف بذلك المقدار والكل بالعكس ضرورة تساوي المتماثلات في الأحكام وحينئذ يتحقق إمكان ذلك والثالث أن التوجيه بحمل الإمكان على الإمكان الذاتي إلخ منظور فيه إذ لا يلزم من وقوع شيء في وقت من الأوقات إلا إمكان وجوده في ذلك الوقت وإن كان ذلك الإمكان مستمرا واجبا في جميع الأوقات فقوله : إن ثبوت الإمكان للممكن واجب فالممكن في وقت ممكن في كل وقت
(12/5)

إن أراد به أن إمكانه أمر ثابت له في كل وقت على أن قوله في كل وقت ظرف للإمكان فهو مسلم لكن اللازم منه أن يكون ذلك الشيء متصفا بالإمكان إمكانا مستمرا دائما مسبوق بعدم الإتصاف ولا سابق عليه ولا يلزم منه أن يكون وجوده في كل وقت ممكنا لجواز أن يكون وجود الشيء في الجملة ممكنا إمكانا مستمرا ولا يكون وجوده في كل وقت ممكنا بل ممتنع ولا يلزم من هذا أن يكون الشيء من قبيل الممتنعات دون الممكنات فإن إمكان الشيء ليس معناه جواز إتصافه بجميع أنحاء الوجود بل معناه جواز إتصافه بوجود ما في الجملة فيكفي في إمكان الشيء جواز إتصافه بالوجود الواقع في وقت والممتنع هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه وإن أراد أنه ممكن الوجود في كل وقت على أن يكون في كل وقت ظرفا للوجود فهو ممنوع ولا يتفرع على كون ثبوت الإمكان للممكن واجبا فإنه قد حقق المحقق الدواني في بعض تصانيفه أن إمكان الممكن وإن كان مستمرا في جميع الأزمنة لا يستلزم إمكان وجود ذلك الممكن في تلك الأزمنة وعلى هذا إعتمد المتكلمون في الجواب على إستدلال الفلاسفة على قدم العالم بأنه ممكن الوجود في الأزل وإلا لزم الإنقلاب وهو محال بالضرورة وقدرة الباري تعالى أزلية بالإتفاق فلو كان العالم حادثا لزم ترك الجود وهو إفاضة الوجود وما يتبعه من الكمالات على الممكنات مدة غير متناهية وهو محال على الجواد الحق الكريم وحاصل الجواب أن قولكم العالم ممكن الوجود في الأزل إن أردتم به أنه يمكن له الوجود الأزلي على أن يكون في الأزل متعلقا بالوجود فهو ممنوع لجواز أن يكون وجوده في الأزل ممتنعا وإن أردتم به أن إمكان وجوده في الجملة مستمر في الأزل على أن يكون الظرف متعلقا بالإمكان فمسلم ولا يلزم أن يكون وجود العالم في الأزل ممكنا لجواز أن يكون وجوده في الأزل مستحيلا مع أنه في الأزل متصف بإمكان وجوده فيما لا يزال وهذا ما يقال إن أزلية الإمكان لا تستلزم إمكان الأزلية وما قيل في إثبات الإستلزام إن إمكانه إذا كان مستمرا في الأزل لم يكن هو في ذاته مانعا من قبول الوجود في شيء من أجزاء الأزل فيكون عدم منعه أمرا مستمرا في جميع تلك الأجزاء فإذا نظر إلى ذاته من حيث هو لم يمنع من إتصافه بالوجود في شيء منها بل جاز إتصافه به في كل منها بدلا فقط بل معا أيضا وجواز إتصافه في كل منها هو إمكان إتصافه بالوجود المستمر في جميع أجزاء الأزل بالنظر إلى ذاته فأزلية الإمكان مستلزمة لإمكان الأزلية صحيح إلى قوله : لم يمنع من إتصافه بالوجود في شيء منها فإنه إن أراد أن ذاته لا تمنع في شيء من أجزاء الأزل من الإتصاف بالوجود في الجملة بأن يكون قوله في شيء منها متعلقا بعدم المنع فيكون معناه أنه لا يمنع في شيء من أجزاء الأزل من الوجود بعده فهو بعينه أزلية الإمكان ولا يلزم منه عدم منعه من الوجود الأزلي الذي هو إمكان الأزلية وإن أراد به أن ذاته لا تمنع من الوجود في شيء من أجزاء الأزل بأن يكون الجار متعلقا بالوجود فهو بعينه إمكان الأزلية والنزاع إنما وقع فيه فهو مصادرة على المطلوب وليت شعري كيف صدر هذا الكلام من قائله مع أن من الموجودات ما هو إني الوجود كبعض الحروف ومع التصريح بأنه ماهية الزمان تقتضي لذاتها عدم إجتماع أجزائها وتقدم بعضها على بعض إذ يلزم منه إمكان وجود كل من تلك الأجزاء في الأزل نظرا إلى ذاته وتمام الكلام في ذلك يطلب من شرح المواقف وحواشيه
وأورد على كون المراد بالخلاء الخلاء في عالمنا لأنه المتنازع فيه أنه صرح غير واحد بأن المتنازع فيه إنما هو الخلاء داخل العالم وحقيقته أن يكون الجسمان بحيث لا يتماسان وليس بينهما ما يماسهما بناءا على كونه مقتدرا
(12/6)

قطعا وأما الخلاء خارج العالم فمتفق عليه إذ لا تقدر هناك بحسب نفس الأمر فالنزاع إنما هو في التسمية بالبعد فالفلاسفة يقولون حقه أن لا يسمى بعدا ولا خلاءا والمتكلمون يسمونه بعدا موهوما ولا شك أن عالم كون العرش على الماء من داخل العالم فالخلاء فيه داخل في المتنازع وقد نص عليه أيضا المتأخرين
ومن الناس من إعترض على قوله : إنه لو كان موضوعا على متن الماء للزم إلخ بأن الأمور التي يلزم أحدها ذلك التقدير وهي فاسدة أكثرها مما ذكر وسود وجه القرطاس ببيان ذلك وهو مما لا يحتاج إليه بل ولا يعول عليه وزعم البعض أن ما راعاه القاضي في هذا الفصل ليس شيء منه مخالفا للقواعد الإسلامية ووسوست له نفسه أن خروج الماء عن حيزه مما لا يجوز لأن الله سبحانه إن كان موجبا بالذات فلا يتصور الإخراج منه سبحانه لأن نسبته إليه على السوية بحسب الأوقات فلا يمكن كونه قاصرا في بعض دون بعض وإن كان مختارا يقال : إن ذلك الخروج ممتنع في نفسه وهو سبحانه لا يفعل الممتنع ولا تتعلق قدرته به وكذا يقال في التخلخل والتكاثف ويجوز أن يكون بالطبع وإلا لكانا دائمين لأن مقتضى الذات لا يتخلف عنه وممن ذهب إلى إمتناعهما الأصفهاني في شرح حكمة المطالع ثم تكلم منتصرا لنفسه وللقاضي بما لا يسمن ولا يغني وقال ابن صدر الدين بعد نقل كلام العلامتين : قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام أن ليس لمجموع كرات العناصر بالنسبة إلى الفلك الأعظم الذي هو المراد بالعرش قدر محسوس فلا يتصور كونه موضوعا على متن كرة الماء فإن ذلك إنما يكون إذا كان عظم كرة الماء بحيث يملأ جوف العرش مماسا محد به مقعره وإلا لم يكن موضوعا على متنه الذي هو عبارة عن السطح المحدب بل إما لا يتماسا أصلا أو يتماسا بنقطة على ما يشهد به التخيل الصحيح وكيف يتصور كونه مالئا له وهو الآن لم يمتليء إلا بالسموات والأرض والكرسي والعناصر بجملتها وليس لك أن تقول : لعل الماء في إبتداء الخلقة قد كان على هذا المقدار الصغير الذي الآن عليه فتخلخل إلى حيث ملأ جوفه لإمتناع الخلاء فلما خلق سائر الأجرام العلوية والسفلية عاد بطبعه إلى ما تراه لأنا نقول : التخلخل عبارة عن إزدياد مقدار الجسم من غير أن ينضم إليه شيء فيستدعي حركة أينية وهي تستدعي وجود فضاء خال عن الشاغل وهو المراد بالخلاء وكذا ليس لك أن تقول : فليكن في إبتداء الخلقة عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش وتكاثف بعد خلق سائر الأجرام إلى هذا المقدار الصغير لأنا نقول أيضا : التكاثف الذي هو عبارة عن إنتقاص مقدار الجسم من غير أن ينقص منه شيء سببه على ما تقرر عندهم أمران : أحدهما التخلخل السابق العارض له يوجبه فإذا زال ذلك العارض عاد بطبعه إلى مقداره الأول كما في المد والجزر وفي الصورة المذكورة لا يتصور هذا لأن المفروض أنه خلق إبتداءا عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش فكيف يتصور أن يتخلخل بعارض حتى يعود عند زواله إلى مقداره الطبيعي الصغير وهو ظاهر وثانيهما الإنجماد بإستيلاء البرودة الشديدة وهذا أيضا لا يتصور ههنا أما أولا فلأن الماء المنعقد جمدا وإن كان أصغر مقدارا منه غير منعقد لكنه لا إلى مرتبة لا يكون له قدر محسوس بالنسبة إلى مقداره الأول بل يقرب منه في الحس كما يشاهد في المياه المنعقدة ولا قدر لكرة الماء الموجودة الآن بالنسبة إلى الماليء جوف العرش وهذا مثل أن ينعقد البحر فيصير كالعدسة ولا يلتزمه عاقل
وأما ثانيا فلأن كرة الماء على ما يشاهد غير متجمدة بل باقية على طبعها من الذوبان فإن قلت : بقي على تقدير كون الماء في إبتداء الخلقة عظيم المقدار مالئا لجوف العرش إحتمال آخر وهو أن يفرز بعض أجزاء هذه الكرة العظيمة ويجعل مادة لسائر الأجرام السماوية والأرضية كما في سورة إنقلاب بعض العناصر إلى بعض
(12/7)

ويؤيده ما ورد في الأثر من أن العرش كان قبل خلق السموات والأرض على الماء ثم أنه تعالى أحدث في الماء إضطرابا فأزبد فإرتفع منه دخان وبقي الزبد على وجه الماء فخلق فيه اليبوسة فصار أرضا وخلق من الدخان السماوات وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ثم استوى إلى السماء وهي دخان قلنا : إن هذا الإحتمال غير واقع أما على تقدير تركب الجسم من الهيولي والصورة على ما ذهب إليه المشاءون من الفلاسفة فلأن هيولي العناصر وإن كانت واحدة بالشخص قابلة لأن يتوارد عليها صور العناصر بواسطة إستعدادات متعاقبة تعرض إلا أن هيولي كل فلك مخالفة لهيولي فلك آخر لا تقبل إلا الصورة التي حصلت فيها وأما على تقدير تركبه من الجواهر الفردة على ما هو مذهب أهل الحق فلأنها متخالفة الحقائق عند محققي المتأخرين على ما صرحوا به فما يتركب منه الماء لا يجوز أن يتركب منه سائر الجسام وأما ما ورد في الأثر وأشارت إليه الآية من جعل الدخان المرتفع من الماء مادة للسموات فمصروف عن ظاهره إذ الدخان أجزاء نارية خالطها أجزاء صغار أرضية تلطفت بالحرارة ولا تمايز بينهما في الحس لغاية الصغر فقبل خلق السموات والأرض بما فيهما لم تكن نار وأرض فمن أين يتولد الدخان وكذا إن أريد بالدخان البخار لأنه أجزاء هوائية مازجتها أجزاء صغار مائية تلطفت بالحرارة بحيث لا تمايز بينهما في الحس أيضا فحيث لا هواء لا بخار ولهذا قال القاضي في تفسير وهي دخان : أمر ظلماني ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها ومن هنا ظهر أن ما في الأثر لا يؤيد كون العرش موضوعا على متن الماء ملتصقا به بل يؤيد أن لا يكون بينهما حائل إذ إرتفاع الدخان والبخار يستدعي وجود فضاء تتحرك فيه تلك الأجزاء وفي صورة الإلتصاق لا يمكن ذلك كما لا يخفى على من له تخيل سليم
ويعلم مما ذكر أنه يجب تفسير الآية بما فسرها به القاضي ولا مجال للقول بالوضع على المتن فيتم الإستدلال وأما قول أبي السعود : إنه لو دل إلخ ففيه أن الوقوع أدل دليل على إمكان الشيء ومثل هذا الإستدلال شائع ذائع في كلامهم وأما أن المراد بالإمكان الإمكان الوقوعي فكلا إذ النزاع في الإمكان لا الوقوع وما ينقل عن الأصمعي من أن هذا كقولهم السماء على الأرض مع أن أحدهما ليس ملتصقا بالآخر وحينئذ يكون معنى قول القاضي : لم يكن حائل بينهما أنه لم يكن حائل محسوس بينهما وكان حائل غير محسوس وهو الهواء ليس بشيء ولا يصلح ما ذكر معنى لذلك إذ الفوقية كانت قبل خلق جميع أجرام هذا العالم فعلى تقدير عدم الإلتصاق لا يتصور حائل أصلا ثم بين وجه دلالة الآية على أن الماء أول حادث بعد العرش بنحو ما قدمنا ذكره إنتهى المراد منه
وأقول إن هذا الإحتمال الذي أجاب عنه بزعمه قوي جدا وما ذكره عن محققي المتأخرين صرح الجمهور بخلافه وقد حقق ذلك في موضعه فلا مانع من أن يخلق الله تعالى من الماء الأجرام السماوية والأرضية بل وكل شيء وما ذكره في حيز تعليل صرف الأثر عن ظاهره ليس بشيء أصلا إذ يجوزظ أن يحيل سبحانه بعض ذلك الماء الماليء أجزاء نارية وبعضه أجزاء أرضية ويجعل المجموع دخانا وكذا يجوز أن يحيل البعض أجزاء هوائية فتمازج أجزاء صغارا مائية متلطفة بحرارة يخلقها حيث شاء فتكون البخار وفي الأثر عن وهب بن منبه أنه جل شأنه قبض قبضة من الماء ثم فتح القبضة فإرتفع الدخان ثم قضاهن سبع سموات في يومين ويؤول حديث الإرتفاع بما لا يستدعي الفضاء نحو أن يكون المعنى فوجد بعضه دخانا مرتفعا وقد يقال : يجوز أن يكون الماء في إبتداء الخلقة مالئا للعرش ثم أنه سبحانه لما أراد أن يخلق ما يخلق أفنى منه ما أراد وخلق بلا فاصل يتحقق معه الخلاء بدله ما خلق لا من شيء والقول بإستحالة هذا الخلق مفض إلى فساد عظيم وخطب جسيم لا يكاد يستسهله أحد من المسلمين وهو ظاهر
(12/8)

وما ذكره في دفع قول شيخ الإسلام : أنه لو دل لدل إلخ غير ظاهر فيه قيل : إذ الإعتراض بطريق أنه دل لدل على وجود الخلاء لا على إمكانه الصرف لأن الشيء إذا كان موجودا كان وجوده ضروريا لا ممكنا صرفا على ما بين في محله وينادي على أن الإعتراض كذلك تقييد الإمكان في عبارته بقيد فقط مع القول بالدلالة على الوجود
وأورد بعضهم على قوله : قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام إلخ أن ذلك مبني على ظن أن الماء في الآية هو الماء العنصري وأنه من بعض الظن إذ ذاك إنما خلق بعد خلق الأرض فكيف يتصور أن يكون العرش الذي خلق قبل السموات والأرض عليه فضلا على أن يكون موضوعا على متنه أو غير موضوع عليه من غير حائل بينهما وإنما هو الماء الطبيعي النوري العمائي الذي تكون العرش منه وفيه صرف اللفظ عن ظاهره ونظير ذلك ما قاله الكامل بن الكمال : ليس المراد من العرش تاسع الأفلاك ولا من الماء أحد العناصر لما شهد بذلك شهادة صحيحة لا مرد لها ما أخرجه مسلم في صحيحه من قوله صلى الله عليه و سلم : كان الله تعالى ولم يكن معه شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض فلا وجه للإستدلال به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بل عرشه سبحانه عبارة عن قيوميته بناءا على أنه في الأصل سرير الملك وهو مظهر سلطانه والماء إشارة إلى صفة الحياة بإعتبار أن منه كل شيء حي فمعنى وكان عرشه على الماء وكان حيا قيوما وفي لفظة على تنبيه على ترتب أحدهما على الآخر فتدبر إنتهى
ولعل وجه شهادة الخبر بذلك النفي تضمنه على تقدير الإثبات ما ينافي ما تضمنه النفي إذ يكون حينئذ شيآن معه سبحانه فضلا عن شيء ولا يخفى أن هذا إنما يتم لو كانت الجملة الماضوية في موضع الحال والظاهر أنها كغيرها معطوفة على الجملة المستأنفة وليس في الكلام ما يقتضي أن المعنى وكان عرشه على الماء مع وجوده تعالى بدون معية شيء له ليضطر إلى حمل الماء والعرش على ما علمت من صفتيه تعالى ولا أرى في الحديث أكثر من إفادة ثبوت ما تضمنته المتعاطفات قبل خلق السموات والأرض وأما أن كونه تعالى ولم يكن معه شيء وكون عرشه سبحانه على الماء وكتابه في الذكر ما كتب كلها في وقت واحد هو وقت وجوده تعالى الواقع بعده خلق السموات والأرض بمهلة وتراخ فلا أراه وقد جاء في بعض الروايات عطف الخلق على ما قبله بالواو كسائر المعطوفات
أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمران بن حصين قال : قال أهل اليمن : يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان قال : كان الله تعالى قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء وخلق السموات والأرض الخبر ثم إنه لا يتم أمر الشهادة بمجرد ما تقدم بل لا بد أيضا من حمل الكتابة في الذكر على التقدير ونفى أن يكون هناك كتابه وكتوب فيه حسبما يتبادر منهما ويلتزم هذا في الخبر الثاني أيضا ومع ذلك يعكر على القول بكون زمن التقدير متحدا كزمن قيوميته وحياته تبارك وتعالى مع زمن وجوده سبحانه ما أخرجه مسلم والترمذي والبيهقي عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء لأن أجزاء الزمان الموهوم الفاصل بين زمان وجوده تعالى ووجود صفاته وزمان وجود الخلق غير متناهية فكيف تقدر بخمسين ألف سنة وضربها في نفسها وضرب الحاصل من ذلك بنفسه ألف ألف مرة أقل قليل بل لا شيء يذكر بالنسبة إلى غير المتناهي ويعارض هذه
(12/9)

الشهادة أيضا ما تقدم في حديث أبي رزين العقيلي من قوله عليه الصلاة و السلام : وخلق عرشه على الماء فإنه نص في أن العرش مخلوق ولا يجوز أن تكون القيومية مخلوقة وكذا ما روي عن كعب من أنه سبحانه خلق ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماءا ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء وجاء حديث كون الماء على متن الريح عن ابن عباس وقد أخرج ذلك عنه ابن جرير وابن المنذر والحاكم و صححه والبيهقي وغيرهم وإباء ما ذكر كون الماء بمعنى صفة الحياة له تعالى ظاهر ومثله ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه قال : كان عرشه سبحانه على الماء فلما خلق السموات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفا تحت العرش وهو البحر المسجور فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور فينزل منه مثل الطل فتنبت منه الأجسام وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى ولعل وجه الأمر بالتدبر في كلام هذا الفاضل الإشارة إلى ما ذكرنا
وبالجملة لا شك أن المتبادر من الماء ما هو أحد العناصر ومن العرش الجسم الذي جاء في الأخبار من وصفه ما يبهر العقول وشهادة الخبر السابق مع كونها شهادة نفي عارضتها شهادات إثبات غير نص في المطلوب كما علمت ومن كون العرش على الماء ما يعمم الشقين كونه موضوعا على متنه مماسا له وكونه فوقه من غير أن يكون بينهما ما يماسهما وتخصيصه بالشق الثاني مما لا يتم له دليل ولا يصفو عن القال والقيل وأن الآية لا تصلح دليلا على كون الماء أول حادث بعد العرش ومن رجع إلى الأخبار المعول عليها رأي بعضها كخبر أبي رزين الذي حسنه الترمذي ظاهرا في أن الماء قبل العرش وقصارى ما يقال في هذا المقام : إن الحق مع شيخ الإسلام وإن نصرة القاضي وإن كان ناصر الدين نصرة خارجة عن الطريق المستبين فلا تلتفت هداك الله سبحانه إلى من أطال في ذلك بلا طائل وأتى بكلام لا يشبه كلام عاق وزعم أن ذاك من الحكمة وهو عنها علم الله بمراحل ولو لا الوقوع في العبث لنقلناه ونبهنا على ما فيه وإن كان حال ظاهره مؤذيا بحال خافيه نعم قد يقال : إن البيضاوي إنما ذكر أنه إستدل بالآية على كذا وكذا ولم يدع أن فيها دليلا على ذلك فما يتوجه من الإعتراضات إنما يتوجه على المستدل دونه وكأن من وجه إليه ذلك إدعى إرتضاءه للإستدلال بدليل ما وطأه له من المقال وزعم الجبائي أن في الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السموات والأرض حي مكلف لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف بمكلف يمكنه الإستدلال به ورده علي ابن عيسى بأنه لا يلزم ذلك ويكتفي بكون الإخبار به نافعا للمكلفين وإختاره المرتضى ومنشأ ذلك الإعتزال والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب
ليبلوكم اللام للتعليل مجازا متعلقة ب خلق أي خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ورتب فيهما ما تحتاجون إليه من مباديء وجودكم وأسباب معاشكم وأودع في تضاعيفهما ما تستدلون به من تعاجيب الصنائع والعبر على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم
أيكم أحسن عملا فيجازيكم حسب أعمالكم وقيل : متعلق بفعل مقدر أي أعلم بذلك ليبلوكم وقيل : التقدير وخلقكم ليبلوكم وقيل : في الكلام جملة محذوفة أي وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الآخرة وفعل ذلك ليبلوكم والكل كما ترى والإبتلاء في الأصل الإختبار والكلام خارج مخرج التمثيل
(12/10)

والإستعارة ولا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأنه إنما يكون لمن لا يعرف عواقب الأمور
وقيل : إنه مجاز مرسل عن العلم للتلازم بين العلم والإختبار وهو محوج إلى تكلف أن يراد ليظهر تعلق علمه الأزلي وإلا فالعلم القديم الذاتي ليس متفرعا على غيره وما تقدم لا تكلف فيه وهو مع بلاغته مصادف محزه والمراد بالعمل ما يشمل عمل القالب ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردوية عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : تلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذه الآية ليبلوكم إلخ فقلت : ما معنى ذلك يا رسول الله قال : ليبلوكم أيكم أحسن عقلا ثم قال : وأحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله تعالى وأعملكم بطاعة الله تعالى لكن ذكر الحافظ السيوطي أن سنده واه
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن معنى أحسن عملا أزهد في الدنيا وعن مقاتل أتقى لله تعالى وعن الضحاك أكثرهم شكرا ولعل أخذ العمل شاملا للأمرين أولى وأفضلها ما كان عمل القلب كيف لا ومدار العبادة القالبية الواجبة على العباد معرفة الله تعالى التي تحل القلب وقد يرفع به للعبد في يوم مثل عمل أهل الأرض
وفي بعض الآثار تفكر ساعة يعدل عبادة سبعين سنة وإعتبار خلق السموات في ضمن المفرع عليه لما أن في السموات مما هو مبادي النظر وتهيئة أسباب المعاش الأرضية التي بها قوام القالب ما لا يخفى وقريب من هذا أن ذكر السموات وخلقها لتكون أمكنة الكواكب والملائكة العاملين فيها لأجل الإنسان
وقال بعض المحققين : إن كون خلق الأرض و ما فيها للإبتلاء ظاهر وأما خلق السموات فذكر تتميما وإستطرادا مع أن السموات مقر الملائكة لحفظة وقبلة الدعاء ومهبط الوحي إلى غير ذلك مما له دخل في الإبتلاء في الجملة ولعل ما أشير إليه أولا أولى وجملة الإستفهام في موضع المفعول الثاني لفعل البلوى على المشهور وجعل في الكشاف الفعل هنا معلقا لما فيه من معنى العلم ومنع في سورة الملك تسمية ذلك تعليقا مدعيا أنه إنما يكون إذا وقع بعد الفعل ما يسد مسد المفعولين جميعا كعلمت أيهما فعل كذا وعلمت أزيد منطلق وبين كلاميه في السورتين إضطراب بحسب الظاهر وأجاب عنه في الكشف بما حاصله أن للتعليق معنيين : مصطلح ويعدى بعن وهو المنفي في تلك السورة ولغوي ويعدى بالباء وعلى وهو خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين ولا يكون إلا في الإستفهام خاصة دون ما فيه لام الإبتداء ونحوه ومعنى تعليق الفعل على ما فيه ذلك أن يرتبط به معنى وإعرابا سواء كان لفظا أو محلا وهو المثبت ههنا وقال الطيبي : يمكن أن يكون ههنا على إضمار العلم كأنه قيل : ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملا والتعليق فيه ظاهر وما هناك على تضمين الفعل معنى العلم كأنه قيل : ليعلمكم أيكم إلخ فيصح النفي ولا يخفى على من راجع كلامه أن فيه ما يأبى ذلك وقد يقال : إن التعليق لا يختص بما كان من الأفعال بمعنى العلم كما ذهب إليه ثعلب والمبرد وابن كسيان وإن وجهه أويس بما في همع الهوامع ورجحه الشلوبين ولا بالفعل القلبي مطلقا بل يكون فيه وفي غيره مما ألحق به لكن مع الإستفهام خاصة وإقتصر بعضهم في الملحق على بصر وتفكر وسأل وزاد ابن خروف نظر ووافقه ابن عصفور وابن مالك وزاد الأخير نسي كما في قوله
ومن أنتم إنا نسينا من أنتم
ونازعه أبو حيان بأن من تحتمل الموصولية والعائد محذوف أي من هم أنتم وكذا زاد أيضا ما قارب المذكورات من الأفعال التي لها تعلق بفعل القلب كترى البصرية في قوله : أما ترى أي برق هنالك وكيستنبئون في قوله تعالى :
(12/11)

ويستنبئونك أحق هو وكنبلو فيما نحن فيه ونازعه أبو حيان بأن ترى في الأول علمية وأيكم في الأخير موصولة حذف صدر صلتها فبنيت وهي بدل من ضمير الخطاب بدل بعض ونقل ذلك عنه الجلال السيوطي ولم أجده في بحره وفي الرضى أن جميع أفعال الحواس تعلق عن العمل وفي التسهيل ما يؤيده وأجاز يونس تعليق كل فعل غير ما ذكر وخرج عليه ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد والجمهور لم يوافقوه على ذلك وقد ذكر بعض الفضلاء أن الفعل القلبي وما جرى مجراه إما متعد إلى واحد أو إثنين فالأول يجوز تعليقه سواء تعدى بنفسه كعرف أو بحرف كتفكر لأن معموله لا يكون إلا مفردا وبالتعليق بطل عمله في المفرد الذي هو مقتضاه وتعلق بالجملة ولا معنى للتعليق إلا إبطال العمل لفظا لا محلا وإن تعدى لإثنين فإما أن يجوز وقوع الثاني جملة كما في باب علم أولا فإن جاز علق عن المفعولين نحو علمت لزيد قائم لا عن الثاني لأنه يكون جملة بدون تعليق فلا وجه لعده منه إذ لا فرق بين أداة التعليق وعدمها فالتعليق لا يبطل عمل الفعل أصلا كما في علمت زيدا أبوه قائم وعلمت زيدا لا أبوه قائم فإن عمله في محل الجملة لا فرق فيه بين وجود حرف التعليق وعدمه وإن لم يجز وورد فيه كلمة تعليق كان منه نحو يسئلونك ماذا ينفقون فإن المسئول عنه لا يكون إلا مفردا
والفعل فيما نحن فيه يحتمل أن يكون عاملا فيما بعده وهو المختبر به غير متضمن علما وفعل البلوى إذا كان كذلك يتعدى بالباء إلى المختبر به ولا يكون إلا مفردا كما في قوله تعالى : ولنبلونكم بشيء والإستفهام قد أبطل مقتضاه لفظا وهو التعليق ويحتمل أن يكون متضمنا معنى العلم ويكون العلم عاملا فيه وهو مفعوله الثاني وحينئذ لا تعليق ومن هنا يظهر أن تعليق الفعل في الآية إنما هو على تقدير إعمال فعل البلوى وعدم تعليقه على تقدير إعمال العلم فلا معنى منافاة بين الكلامين إنتهى وهو نفصيل حسن وفي الهمع أن الجملة بعد المعلق في باب علم وأخواتها في موضع المفعولين فإن كان التعليق بعد إستيفاء المفعول الأول فهي في موضع المفعول الثاني وأما غير هذا الباب فإن كان الفعل مما يتعدى بحرف الجر فالجملة في موضع نصب بإسقاطه نحو فكرت أهذا صحيح أم لا وجعل ابن مالك منه فلينظر أيها أزكى طعاما وإن كان مما يتعدى لواحد فهي في موضعه نحو عرفت أيهم زيد فإن كان مفعوله مذكورا نحو عرفت زيدا أبو من هو فالجملة بدل منه على ما إختاره السيرافي وابن مالك وهو بدل كل من كل بتقدير مضاف أي قصة زيد أو أمره عند بن عصفور وإلتزم ذلك ليكون المبدل منه جملة المعنى وبدل إشتمال ولا حاجة إلى التقدير عند الصائغ وذهب المبرد والعلم وابن خروف وغيرإلى أن الجملة في موضع نصب على الحال وذهب الفارسي إلى أنها في موضع المفعول الثاني لعرفت على تضمينه معنى علمت وإختاره أبو حيان وفيه نوع مخالفة في الظاهر لما تقدم تظهر بالتأمل إلا أنه إعتراض القول بأن ما بعد فعل البلوى مختبر به بأن المختبر به إنما هو خلق السموات والأرض وأجيب بأن ذلك وإن كان في نفس الأمن مختبرا عنه والمختبر به ما ذكر إلا أنه جعل مختبرا به بإعتبار ترتبه على ذلك ولا يخفى ما فيه وقال بعض أرباب التحقيق في دفع المخالفة : إن الزمخشري جعل قوله سبحانه هنا : ليبلوكم أيكم أحسن عملا بجملته إستعارة تمثيلية فتكون مفرداته مستعملة في معناها الحقيقي معطاة ما تستحقه وفعل البلوى يعلق عن المفعول الثاني لأنه لا يكون جملة إذ هو يتعدى له بالباء وحرف الجر لا يدخل على الجمل وجرى التعليق فيه بناءا على أنه مناسب لفعل القلوب معنى وقد صرح غير واحد بجريانه في ذلك وجعله ثمة مستعارا لمعنى العلم والفعل إذ تجوز به عن معنى فعل آخر عمل عمله وجرى عليه حكمه وعلم لا يعلق عن المفعول الثاني فكذا
(12/12)

ما هو بمعناه فيكون في سلك في كل من الموضعين مسلكا تفننا وكثيرا ما يفعل ذلك في كتابه ولعله لم يعكس الأمر لأن ما فعله في كل أنسب بما قبله من خلق السموات والأرض وما فيها من النعم والمنافع وخلق الموت والحياة ولا يخفى أن هذا قريب مما تقدم وفيه ما فيه
والإتيان بصيغة التفضيل الدالة على الإختصاص بالمختبرين الأحسنين أعمالا مع شمول الإختبار لفرق المكلفين وتتفاوت أعمال الكفار منهم إلى حسن شرعي وقبيح لا إلى حسن وأحسن كما في أعمال المؤمنين للتحريض على أحاسن المحاسن والتحضيض على الترقي دائما لدلالته على أن الأصل المقصود بالإختبار ذلك الفريق ليجازيهم أكمل الجزاء فكأنه قيل : المقصود أن يظهر أفضليتكم لأفضلكم فإن ذلك مفروغ عنه لا يحيد عنه ذو لب وجوز أن يكون من باب الزيادة المطلقة وأن يكون من باب أي الفريقين خير مقاما وأياما كان فالخطاب ليس خاصا بالمؤمنين لأن إظهار حال غيرهم مقصود أيضا لكنه لا بالذات على الوجه الأول
ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين
7
-
أي مثله في الخديعة والبطلان فالتركيب من التشبيه البليغ والإشارة إلى القول المذكور وجوز أن تكون للقرآن كأنه قيل : لو تلوت عليهم من القرآن ما فيه إثبات البعث لقالوا هذا المتلو سحر والمراد إنكار البعث بطريق الكناية الإيمائية لأن إنكار البعث إنكار للقرآن وقيل : إن الإخبار عن كونهم مبعوثين وإن لم يجب عن كونه بطريق الوحي المتلو إلا أنهم عند سماعهم ذلك تخلصوا إلى القرآن لأنبائه عنه في كل موضع وكونه علما عندهم في ذلك فعمدوا إلى تكذيبه وتسميته سحرا تماديا منهم في العناد وتفاديا عن سنن الرشاد وهو خلاف الظاهر وقيل : الإشارة إلى نفس البعث وتعقب بأنه لا يلائمه التسمية بالسحر فإنه إنما يطلق على شيء موجود ظاهرا لا أصل له في الحقيقة ونفس البعث عندهم معدوم بحت وفيه بحث لجواز أنهم أرادوا من السحر الأمر الباطل والشيء الذي لا أصل له ولا حقيقة لشيوعه فيما بينهم بذلك حتى كأنه علم له
وجوز أن تكون الإشارة إلى القائل والإخبار عنه بالسحر للمبالغة والخطاب في إنكم إن كان لجميع المكلفين فالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولن الكافرون منهم وإن كان للكافرين فذكر الموصول ليتوصل به إلى ذمهم بعنوان الصلة وتعلق الآية الكريمة بما قبلها إما من حيث أن البعث من تتمات الإبتلاء المذكور فيه كأنه قيل : الأمر كما ذكر ومع ذلك إن أخبرتم بمقدمة فذة من مقدماته وقضية فردة من تتماته يقولون ما يقولون فضلا عن أنهم يصدقون بما وقع هذا تتمة له وإما من حيث أن البعث خلق جديد فكأنه قيل : وهو الذي خلق المخلوقات ليترتب عليها ما يترتب ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه سبحانه يعيدهم تارة أخرة وهو أهون عليه يعدون ذلك ما يعدون فسبحان الله عما يصفون
وقرأ عيسى الثقفي ولئن قلت بضم التاء على أن الفعل مسند إليه تعالى أي ولئن قلت ذلك في كتابي المنزل عليك ليقولن الذين كفروا إلخ وفي البحر أن المعنى على ذلك ولئن قلت مستدلا على البعث من بعد الموت إذ في قوله تعالى : وهو الذي خلق إلخ دلالة على القدرة العظيمة فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه إنتهى وهو لدى الذوق السليم كماء البحر
وقرأ الأعمش أنكم بفتح الهمزة على تضمين قلت معنى ذكرت ولئن قلت ذاكرا أنكم مبعوثون فإن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول للذكر واستظهر بعضهم كون القول بمعنى الذكر مجازا وتعقب بأن
(12/13)

الذكر والقول مترادفان فلا معنى للتجوز حينئذ ولما كان القول باقيا في النضمين جاء الخطاب على مقتضاه
وجوز أن تكون أن بمعنى عل ونقل ذلك عن سيبويه وجاء إئت السوق علك تشتري لحما وأنك تشتري لحما وهي لتوقع المخاطب لكن لا على سبيل الإخبار فإنهم لا يتوقعون البعث بل على سبيل الأمر كأنه قيل : توقعوا بعثكم ولا تبتوا القول بإنكاره وبذلك يندفع ما يقال : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاطع بالبعث فكيف يقول لعلكم مبعوثون وأيضا القراءة المشهورة صريحة في القطع والبت وهذه صريحة في خلافه فيتنافيان ومنهم من قال : يجوز أن يكون هذا من الكلام المنصف والإستدراج فربما ينتبهون إذا تفكروا ويقطعون بالبعث إذا نظروا
وقرأ حمزة والكسائي إلا ساحر والإشارة إلى القائل ولا مبالغة في الإخبار كما كانت على هذا الإحتمال في قراءة الجمهور ويجوز أن تكون للقول أو للقرآن وفيه من المبالغة ما في قولهم : شعر شاعر ولئن أخرنا عنهم العذاب أي المترتب على بعثهم أو الموعود بقوله سبحانه : وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير وقيل : عذاب يوم بدر وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قتل جبريل عليه السلام المستهزئين وهم خمسة نفر أهلكوا قبل بدر والظاهر أن المراد العذاب الشامل للكفرة ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : لما نزل اقترب للناس حسابهم قال ناس : إن الساعة قد اقتربت فتناهوا فتناهى القوم قليلا ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء فأنزل الله سبحانه أتى أمر الله فلا تستعجلوه فقال أناس من أهل الضلالة : هذا أمر الله تعالى قد أتى فتناهى القوم ثم عادوا إلى عكرهم عكر السوء فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى أمة معدودة أي طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل
وقيل : المراد من الأمة الجماعة من الناس أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة يتعارفون ولا يكون فيهم مؤمن ونقل هذا عن علي بن عيسى وعن الجبائي أن المعنى إلى أمة بعد هؤلاء نكلفهم فيعصون فتقتضي الحكمة إهلاكهم وإقامة القيامة وروى الإمامية وهم بيت الكذب عن أبي جعفر وأبي عبدالله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالأمة المعدودة أصحاب المهدي في آخر الزمان وهم ثلثمائة وبضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر ليقولن ما يحبسه أي أي شيء يمنعه من المجيء فكأنه يريده ويمنعه مانع وكانوا يقولون ذلك بطريق الإستعجال وهو كناية عن الإستهزاء والتكذيب لأنهم لو صدقوا به لم يستعجلوه وليس غرضهم الإعتراف بمجيئه والإستفسار عن حابسه كما يرشد إليه ما بعد
ألا يوم يأتيهم ذلك العذاب الأخروي أو الدنيوي ليس مصروفا عنهم أي أنه لا يرفعه رافع أبدأ أو لا يدفعه عنهم دافع بل هو واقع بهم والظاهر أن يوم منصوب بمصروفا الواقع خبر ليس واستدل بذلك جمهور البصريين على جواز تقديم خبرها عليها كما يجوز تقديمه على إسمها بلا خلاف معتد به لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل بطريق الأولى وإلا لزم مزية الفرع على أصله وذهب الكوفيون والمبرد إلى عدم الجواز وادعوا أن الآية لا تصلح حجة لأن القاعدة المشار إليها غير مطردة ألا ترى قوله سبحانه : فأما اليتيم فلا تقهر كيف تقدم معمول الفعل مع امتناع تقديمه لأن الفعل لا يلي أما وجاء عن الحجازيين أنهم يقولون ما اليوم زيد ذاهبا مع أنه لا يجوز تقديم خبر ما اتفاقا وأيضا المعمول فيها ظرف والأمر فيه مبني على
(12/14)

التسامح مع أنه قيل : إنه متعلق بفعل محذوف دل عليه ما بعده والتقدير ألا يصرف عنهم العذاب أو يلازمهم يوم يأتيهم ومنهم من جعله متعلقا بيخافون محذوفا أي ألا يخافون يوم الخ وقيل : هو مبتدأ لا متعلق بمصروفا ولا بمحذوف وبني على الفتح لإضافته للجملة ونظير ذلك قوله سبحانه : هذا يوم ينفع الصادقين على قراءة الفتح وأنت تعلم أن في بناء الظرف المضاف لجملة صدرها مضارع معرف خلافا بين النحاة وأن الظاهر تعلقه بمصروفا نعم عدم صلاحية الآية للإحتجاج بما لا ريب فيه وفي البحر قد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة وقول الشاعر : فيأبى فما يزداد إلا لجاجة وكنت أبيا في الخنى لست أقدم وحاق بهم أي نزل وأحاط وأصله حق فهو كزل وزال وذم وذام والمراد يحيق بهم
ما كانوا به يستهزءون
8
- إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع والمراد بالموصول العذاب وعبر به عنه تهويلا لمكانه وإشعارا بعلية ما ورد في حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته ووضع الإستهزاء موضع الإستعجال لأنه كان استهزاءا ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة أي أعطيناه نعمة من صحة وأمن وجدة وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها فالإذاقة مجاز عن هذا الإعطاء ثم نزعنها أي سلبنا تلك الرحمة منه صلة النزع والتعبير به للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليه إنه ليؤس شديد اليأس كثيره قطوع رجاءه من عود مثل تلك النعمة عاجلا أو آجلا بفضل الله تعالى لعدم صبره وتوكله عليه سبحانه وثقته به
كفور
9
- كثير الكفران لما سلف لله تعالى عليه من النعم وتأخير هذا الوصف عن وصف يأسهم لرعاية الفواصل على أن اليأس من باب الكفران للنعمة السالفة أيضا ولئن أذقناه نعمآء كصحة وأمن وجدة بعد ضرآء مسته كسقم وخوف وعدم وفي إسناد الإذاقة إليه تعالى دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصودة بالذات دون مس الضر بل هو مقصود بالعرض ومن هنا قال بعضهم : إنه ينبغي أن تجعل من في قوله سبحانه : منه للتعليل أي نزعناها من أجل شؤمه وسوء صنيعه وقبح فعله ليكون منا و منه مشيرا إلى هذا المعنى ومنطبقا عليه كما قال سبحانه : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ولا يخفى أن تفسير منه بذلك خلاف الظاهر المتبادر ولا ضرورة تدعو إليه وإنما لو يؤت ببيان تحول النعمة إلى الشدة وبيان العكس على طرز واحد بل خولف التعبير فيهما حيث بديء في الأول بإعطاء النعمة وإيصال الرحمة ولم يبدأ في الثاني بإيصال الضر على نمطه تنبيها على سبق الرحمة على الغضب واعتناءا بشأنها وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه إسم الملاقاة من مراتبها من اللطف ما لا يخفى ولعله يقوي عظم شأن الرحمة
وذكر البعض أن في لفظ الإذاقة والمس بناءا على أن الذوق ما يختبر به الطعوم والمس أول الوصول تنبيها على أن ما يجد الإنسان في الدنيا من المنح والمحن نموذج لما يجده في الآخرة وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء ليقولن ذهب السيئات عني أي المصائب التي تسوؤني ولن يعتريني بعد أمثالها إنه لفرح
(12/15)

بطر بالنعمة مغتر بها وأصله فارح إلا أنه حول لما ترى للمبالغة وفي البحر أن فعلا بكسر العين هو قياس اسم الفاعل من فعل اللازم وقريء فرح بضم الراء كما تقول : ندس ونطس وأكثر ما ورد الفرح في القرآن للذم فإذا قصد المدح قيد كقوله سبحانه : فرحين بما آتاهم الله من فضله فخور
10
- متعاظم على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها واللام في لئن في الآيات الأربع موطئة للقسم وجوابه ساد مسد جواب الشرط كما في قوله : لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها وأمكنني منها إذا لا أقبلها إلا الذين صبروا استثناء من الإنسان وهو متصل إن كانت أل فيه لاستغراق الجنس وهو الذي نقله الطبرسي مخالفا لابن الخازن عن الفراء ومنقطع إن كانت للعهد إشارة إلى الإنسان الكافر مطلقا وعن ابن عباس أن المراد منه كافر معين وهو الوليد بن المغيرة وقيل : هو عبدالله بن أمية المخزومي وذكره الواحدي وحديث الإنقطاع على الروايتين متصل ونسب غير مقيد بهما إلى الزجاج والأخفش وأياما كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقا أو لا حقا إيمانا بالله تعالى واستسلام لقضائه تعالى
وعملوا الصالحات شكرا على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة قال المدقق في الكشف : لما تضمن اليأس عدم الصبر والكفران عدم الشكر كان المستثنى من ذلك ضده ممن اتصف بالصبر والشكر فلما قيل : إلا الذين الخ كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا وذلك من صفات المؤمن فكني بهما عنه فلذا فسره الزمخشري بقوله : إلا الذين آمنوا فإن عادتهم إذا أتتهم رحمة أن يشكروا وإذا زالت عنهم نعمة أن يصبروا فلذا حسنت الكناية به عن الإيمان ثم عرض بشيخه الطيبي بقوله : وأما دلالة صبروا على أن العمل الصاح شكر لأنه ورد في الأثر الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر ودلالة عملوا على أن الصبر إيمان لأنهما ضميمتان في الأكثر فغير مطابق لما نحن فيه إلا أن يراد وجه آخر كأنه قيل : إلا المؤمن الصالح الصابر الشاكر وهو وجه لكن القول ما قالت حذام لأن الكناية تفيد ذلك مع ما فيها من الحسن والمبالغة أولئك إشارة إلى الوصول باعتبار اتصافه بما حيز الصلة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الحميدة لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم ما كانت وأجر ثواب لأعمالهم الحسنة كبير
11
- وصف بذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف والأمن من العذاب ورضا الله سبحانه عنهم والنظر إلى وجهه الكريم في جنة عرضها السماوات والأرض ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر أن عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من الكفر نعماء الله تعالى وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من البطر والفخر قيل : وهو إشارة إلى أن الوجه تضمن الآيات تعليل الحيق ويبعده وتعليله بما في حيز الصلة قبل واختار بعضهم أنه الإشتراك في الذم فما تضمنه الآيات قبل بيان بعض هنا تهم وما تضمنته هذه بيان بعض آخر
وقال بعض المحققين : إن وجه التعلق من حيث أن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الإبتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال في قوله سبحانه : ليبلوكم أيكم أحسن عملا والمعنى أن كلا من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدي إلى سنن الصواب بل يحيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلال
(12/16)

فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين أو من حيث أن إنكارهم البعث واستهزاءهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل : إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك انتهى ولا يخفى ما في الأول من البعد والثاني أقرب والله تعالى أعلم
ومن باب الإشارة في الآيات الر إشارة إلى ما مرت الإشارة إليه أحكمت آياته أي حقائقه وأعيانه في في العالم الكلي فلا تتبدل ولا تتغير ثم فصلت في العالم الجزئي وجعلت مبينية معينة بقدر معلوم من لدن حكيم فلذا أحكمت خبير فلذا فصلت وقد يقال : الإشارة إلى آيات القرآن قد أحكمت في قلوب العارفين ثم فصلت أحكامها على أبدان العالمين وقيل : أحكمت بالكرامات ثم فصلت بالبينات أن لا تعبدوا إلا الله أي أن لا تشركوا في عبادته سبحانه وخصصوه عز و جل بالعبادة إني لكم منه نذير عقاب الشرك وتبعته وبشير بثواب التوحيد وفائدته وقيل : نذير بعظائم قهره وبشير بلطائف وصله وأن استغفروا ربكم اطلبوا منه سبحانه أن يستركم عن النظر إلى الغير حتى أفعالكم وصفاتكم ثم توبوا إليه ارجعوا بالفناء ذاتا وقيل استغفروا ربكم من الدعاوي وتوبوا إليه من الخطرات المذمومة يمتعكم متاعا حسنا بتوفيقكم لاتباع الشريعة حال البقاء بعد الفناء ويقال : المتاع الحسن صفاء الأحوال وسناء الأذكار وحلاوة الأفكار وتجلي الحقائق وظهور اللطائف والفرح برضوان الله تعالى وطيب العيش بمشاهدة أنواره سبحانه والمتاع مشاهدة المحب حبيبه ولله در من قال : مناي من الدنيا لقاؤك مرة فإن نلتها استوفيت كل منائيا إلى أجل مسمى هو وقت وفاتكم ويؤت كل ذي فضل بالسعي والإجتهاد وبذل النفس فضله في الدرجات والقرب إليه سبحانه ويقال : يؤت كل ذي فضل في الإستعداد فضله في الكمال وسئل أبو عثمان عن معنى ذلك فقال : يحقق آمال من أحسن به ظنه وإن تولوا أي تعرضوا عن امتثال الأمر والنهي فأنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير وهو يوم الرجوع إلى الله تعالى الذي يظهر فيه عجز ما سواه تعالى ويتبين قبح مخالفة ما أمر به وفظاعة ارتكاب ما نهى عنه ألا إنهم يثنون يعطفون صدورهم على ما فيها من الصفات المذمومة ليستخفوا منه تعالى وذلك لمزيد جهلهم بما يجوز عليه جل شأنه ومالا يجوز ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون من الأقوال والأفعال وسائر الأحوال وقيل : ما يسرون من الخطرات وما يعلنون من النظرات وقيل : ما يسرون بقلوبهم وما يعلنون بأفواههم وقيل : ما يسرون بالليل وما يعلنون بالنهار والنعميم أولى ومن الناس من جعل ضمير منه للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وقد علمت أنه يبعده ظهور أن ضمير يعلم له تعالى لكن ذكر في أسرار القرآن أنه تعالى كسا أنوار جلاله أفئدة الصديقين فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات كما يرون الظواهر بالعيون الظاهرة وقد جاء إتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى وعلى هذا فيمكن أن يكون ضمير يعلم للرسول عليه الصلاة و السلام وأياما كان فالآية نازلة في غير المؤمنين حسبما يقتضيه الظاهر وقد تقدم لك أن الأمر على ما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه مشكل
وقال بعض أرباب الذوق : إن الآية عليه إشارة إلى أن أولئك الأناس لم يصلوا إلى مقام الجمع ولم يتحققوا بأعلى مراتب التوحيد وفيه خفاء أيضا فتفطن وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها أي ما تتغذى به
(12/17)

شبحاشبحا وروحا ويقال : لكل رزق عليه تعالى بقدر حوصلته فرزق الظاهر للأشباح ورزق المشاهدة للأرواح ورزق الوصلة للأسرار ورزق الرهبة للنفوس ورزق الرغبة للعقول ورزق القربة للقلوب وهذا بالنظر إلى الإنسان وأما بالنظر إلى سائر الحيوانات فلها أيضا رزق محسوس ورزق معقول يعلمه الله تعالى ويعلم مستقرها ومستودعها فمستقر الجميع أصلاب العدم ومستودعها أرحام الحدوث وهو الذي خلق السماوات والأرض وما في كل في ستة أيام وكان عرشه على الماء أي كان حيا قيوما كما قال ابن الكمال
وقيل : الماء إشارة إلى المادة الهيولانية والمعنى وكان عرشه قبل خلق السماوات والأرض بالذات لا بالزمان ميتعليا على المادة فوقها بالرتبة وقيل : غير ذلك وإن شئت التطبيق على ما في تفاصيل وجودك فالمعنى على ما قيل : خلق سماوات قوى الروحانية وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستوليا عليه متعلقا به التصوير والتدبير ليبلوكم أيكم أحسن عملا قيل : جعل غاية الخلق ظهور الأعمال أي خلقنا ذلك لنعلم العلم التفصيلي للوجود الذي يترتب عليه الجزاء أيكم أحسن عملا ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة إلخ تضمن الإشارة إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السراء والضراء واثقا بربه تعالى متوكلا عليه غير محتجب عنه برؤية الأسباب لئلا يحصل له اليأس والكفران والبطر والفخر بذلك وجودا وعدما فإن آتاه رحمة شكره أولا برؤية ذلك منه جل شأنه بقلبه
وثانيا باستعمال جوارحه في مراضيه وطاعاته والقيام بحقوقه تعالى فيها وثالثا بإطلاق لسانه بالحمد والثانء على الله تعالى وبذلك يتحقق الشكر المشار إليه بقوله تعالى : وقليل من عبادي الشكور وإلى ذلك أشار من قال : أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا وبالشكر تزداد النعم كما قال تعالى : لإن شكرتم لأزيدنكم وعن علي كرم الله تعالى وجهه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر ثم إن نزعها منه فليصير ولا يتهم الله تعالى بشيء فإنه تعالى أبر بالعبد وأرحم وأخبر بمصلحته وأعلم ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يبطر ويغتر ويفتخر بها على الناس فإن الإغترار والإفتخار بما لا يملكه من الجهل بمكان وقد أفاد سبحانه أن من سجايا الإنسان في الشدة بعد الرحمة اليأس والكفران وبالنعماء بعد الضراء والفرح والفخر إلا الذين صبروا مع الله تعالى في حالتي النعماء والضراء والشدة والرخاء فالفقر والغنى مثلا عندهم مطيتان لا يبالون أيهما امتطوا وعملوا الصالحات ما فيه صلاحهم في كل أحوالهم أولئك لهم مغفرة من ذنوبهم ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر وأجر كبير من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانهما والله تعالى ولي التوفيق
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك أي تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به فاسم الفاعل للمستقبل ولذا عمل و لعل للترجي وهو يقتضي التوقع ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه لجواز أن يوجد ما يمنع منه فلا يشكل بأن توقع التبليغ منه صلى الله عليه و سلم مما لا يليق بمقام النبوة والمانع من ذلك فيه عليه الصلاة و السلام عصمته كسائر الرسل الكرام عليهم السلام عن كتم الوحي المأمور بتبليغه والخيانة فيه وتركه تقية والمقصود من ذلك تحريضه صلى الله عليه و سلم وتهييج داعيته لأداء الرسالة ويقال نحو ذلك في كل توقع نظير هذا التوقع وقيل : إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل
(12/18)

لأن المعاني الإنشائية قائمة به وتارة للمخاطب وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار والمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم ما أوحي إليك أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه وقيل : إن لعل هنا ليست للترجي بل هي للتبعيد وقد تستعمل لذلك كما تقول العرب : لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه فالمعنى لا تترك وقيل للإستفهام الإنكاري كما في الحديث لعلنا أعجلناك واختار السمين وغيره كونها للترجي بالنسبة إلى المخاطب على ما علمت آنفا ولا يجوز أن يكون المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحي إليك مما شق عليك بإذني ووحي مني وهو أن يرخص لك فيه كأمر الواحد بمقاومة عشرة إذ أمروا بمقاومة الواحد لإثنين وغير ذلك من التخفيفات لأنه وإن زال به الإشكال إلا أن قوله تعالى بعد أن يقولوا يأباه نعم قيل : لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد والضرب والطعان لأن هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال صح لكن في الكشف بعد كلام : إعلم لو أخذت التأمل لاستبان لك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري لمن تصدى لهذه الرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه في الدارين من العوائد لا على التسلي عليه الصلاة و السلام فإنه لا يطابق المقام وانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله سبحانه : وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه تقض العجب وهو يبعد هذه الإرادة إن قلنا : إن ذلك من باب التخفيف المؤذن بالتسلي فتأمله والضمير في قوله سبحانه : وضآئق به لما يوحى أو للبعض وهو الظاهر عند أبي حيان وقيل : للتبليغ أو للتكذيب وقيل : هو مبهم يفسره أن يقولوا والواو للعطف وضائق قيل : عطف على تارك وقوله تعالى : صدرك فاعله وجوز أن يكون الوصف خبرا مقدما و صدرك مبتدأ والجملة معطوفة على تارك وقيل : يتعين أن تكون الواو للحال والجملة بعدها حالية لأن هذا واقع لا متوقع فلا يصح العطف ونظر فيه بأن ضيق صدره عليه الصلاة و السلام بذاك إن حمل على ظاهره ليس بواقع وإنما يضيق صدره الشريف لما يعرض له في تبليغه من الشدائد وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى ضائق اسم الفاعل ليدل على أن الضيق مما يعرض له صلى الله تعالى عليه وسلم أحيانا وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد الحدوث تحول إلى فاعل فتقول في سيد وجواد وسمين مثلا : سائد وجائد وسامن وعلى ذاك قول بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه : بمنزلة أما اللئيم فسامن بها وكرام الناس باد شكوبها وظاهر كلام البحر أن ذلك مقيس فكل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والإستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد معنى الحدوث من غير توقف على سماع وقيل : إن العدول لمشاركة تارك وليس بذلك
أن يقولوا لو لا أنزل عليه كنز أي مال كثير وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي كما يشير إليه سبب النزول أي لو لا أعطى ذلك ليتحقق عندنا صدقه
أو جآء معه ملك يصدقه لنصدقه روي أنهم قالوا : اجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون بنبوتك إن كنت رسولا فنزلت وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن كلا من القولين قالته طائفة
(12/19)

فقال عليه الصلاة و السلام : لا أقدر على ذلك فنزلت وقيل : القائل لكل عبدالله بن أمية المخزومي ووجه الجميع عليه يعلم مما مر غير مرة ومحل أن يقولوا نصب أو جر وكان الأصل كراهة أو مخافة أن يقولوا أو لئلا أو لأن أو بأن يقولوا ولوقوع القول قالوا : إن المضارع بمعنى الماضي و أن المصدرية خارجة عن مقتضاها ورجحوا تقدير الكراهة على المخافة لذلك وقد يراد عند تقديرها مخافة أن يكرروا هذا القول واختار بعض أن يكون المعنى على الجميع أن يقولوا مثل قولهم لو لا إلخ فأن على مقتضاها ولا يرد شيء إنما أنت نذير أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي غير مبال بما يصدر عنهم والله على كل شيء وكيل
12
- أي قائم به وحافظ له فيحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم والإقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز والآية قيل : منسوخة وقيل : محكمة
أم يقولون افتراه إضراب بأن المنقطعة عن ذكر ترك اعتدادهم بما يوحى وعدم اكتفائهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على صدق الدعوى وشروع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم وتقدر ببل والهمزة الإنكارية أي بل أيقولون وذهب ابن القشيري إلى أن أم متصلة والتقدير أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون إنه ليس من عند الله والأول أظهر وأيا ما كان فالضمير البارز في إفتراه لما يوحى قل إن كان الأمر كما تقولون فأتوا أنتم أيضا بعشر سور مثله في البلاغة وحسن النظم وهو نعت لسور وكان الظاهر مطابقته لها في الجمع لكنه أفرد باعتبار مماثلة كل واحدة منها إذ هو المقصود لا مماثلة المجموع وقيل : مثل وإن كان مفردا يجوز فيه المطابقة وعدمها فيوصف به الواحد وغيره نظرا إلى أنه في الأصل كقوله تعالى : أنؤمن لبشرين مثلنا وقد يطابق كقوله سبحانه : ثم لا يكونوا أمثالكم وقيل : إنه هنا صفة لمفرد مقدر أي قدر عشر سور مثله وقيل : إنه وصف لمجموع العشر لأنها كلام وشيء واحد وأيضا عشر ليس بصيغة جمع فيعطى حكم المفرد كنخل منقعر وقوله سبحانه : مفتريات نعت آخر لسور قيل : أخر عن نعتها بالمماثلة لما يوحى لأنه النعت المقصود بالتكليف إذ به قعودهم على العجز عن المعارضة وأما نعت الإفتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة له في الإفتراء والمعنى فآتوا بعشر سور مماثلة له في البلاغة مختلفات من عند أنفسكم إن صح أنى اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء بلغاء ومبادي ذلك فيكم من ممارسة الخطب والأشعار ومزاولة أساليب النظم والنثر وحفظ الوقائع والأيام أتم
والكثير على أن هذا التحدي وقع أولا فلما عجزوا تحداهم بسورة من مثله كما نطقت به سورة البقرة ويونس وهو وإن تأخر تلاوة متقدم نزولا وأنه لا يجوز العكس إذ لا معنى للتحدي بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشر معينة من القرآن
وروي عن ابن عباس أن المراد ذلك وجعل العشر ما تقدم من السور إلى هنا واعترضه أبو حيان بأن أكثر ما ذكر مدني وهذه السورة حسبما علمت مكية فكيف تصح الحوالة بمكة على مالم ينزل بعد ثم قال : ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذهب ابن عطية إلى أن هذا التحدي إنما وقع بعد التحدي بسورة وروي هذا عن المبرد وأنكر تقدم نزول هذه السورة على نزول تينك السورتين وقال : بل نزلت سورة يونس أولا ثم نزلت سورة هود
(12/20)

وقد أخرج ذلك ابن الضريس في فضائل القرآن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووجه ذلك بأن ما وقع أولا هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والإشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه وضعفه في الكشف وقال : إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه ولا ينافي تقدم السورة إنتهى
وتعقبه الشهاب بأن قوله لا يطرد مما لا وجه له لأن مراد المبرد إشتماله على شيء من الأنواع السبعة ولا يخلو شيء من القرآن عنها وادعاء تأخر نزول تلك الآية خلاف الظاهر ومثله لا يقال بالرأي وادعى أن الحق ما قاله المبرد من أنه عليه الصلاة و السلام تحداهم أولا بسورة مثله في النظم والمعنى ثم تنزل فتحداهم بعشر سور مثله في النظم من غير حجر في المعنى ويشهد له توصيفها بمفتريات وأيد بعضهم نظر المبرد بأن التكليف في آية البقرة كان بسبب الريب ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة وهو في هذه الآية ليس إلا بسبب قولهم : افتراه فكلفوا نحو ما قالوا وفيه أن الأمر في سورة يونس كالأمر هنا مسبوق بحكاية زعمهم الإفتراء قاتلهم الله تعالى مع أنهم لم يكلفوا إلا بنحو ما كلفوا به في آية البقرة على أن في قوله : ولا يزيل الريب إلخ منعا ظاهرا وللعلامة الطيبي ههنا كلام زعم أنه الذي يقتضيه المقام وهو على قلة جدواه لا وجه لما أسسه عليه كما بين ذلك صاحب الكشف
هذا ونقل الإمام أنه إستدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا بإشتماله على المغيبات وكثرة العلوم إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله سبحانه : مفتريات معنى أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الكلام تظهر إن صدقا وإن كذبا واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الإفتراء والإختلاق إ نعم ما ذكر إنما يدل على كون وجه الإعجاز ذلك ولا يمنع إحتمال كونه الأسلوب الغريب وعدم إشتماله على التناقض كما قيل به
وادعوا من استطعتم أي إستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون والكهنة الذين تلجأون إلى آرائهم الملمات ليسعدوكم في ذلك
من دون الله متعلق بادعوا أي متجاوزين الله تعالى وفيه على ما قال غير واحد إشارة إلى أنه لا يقدر على مثله إلا الله عز و جل إن كنتم صادقين
13
- في أني افتريته فإن ذلك يستلزم الإتيان بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتكم عليه وجواب إن محذوف دل عليه المذكور قبل فإلم يستجيبوا لكم الخطاب على ما روي عن الضحاك للمأمورين بدعاء من استطاعوا وضمير الجمع الغائب عائد إلى من أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله تعالى إلى الإسعاد والمظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه فاعلموا أنما أنزل بعلم الله أي ما أنزل إلا ملتبسا بعلمه تعالى لا بعلم غيره على ما تقتضيه كلمة أنما فإنها تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح قيل : وهو معنى قول من قال : أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يقدر عليه سواه
وادعى بعضهم أن الحصر إنما أفادته الإضافة كما في قوله تعالى : لا يظهر على غيبه أحدا والمراد بما
(12/21)

لا يعلمه غيره تعالى الكيفيات والمزايا التي بها الإعجاز والتحدي وذكر عدم قدرة غيره سبحانه مما يقتضيه السياق وإلا فالمذكور في النظم الكريم العلم دون القدرة وقيل : ذاك لأن نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم والجملة الشرطية داخلة في حيز القول وإيراد كلمة الشك مع الجزم بعدم الإستجابة من جهة من يدعونه تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الإستجابة من حيث أنه مسبوق بالدعاء المسبوق بتعجيزهم واضطرارهم فكأنه قيل : فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وصاعت عليكم الحيل وعيت بكم العلل فاعلموا إلخ أو من حيث أن من يدعونهم إلى المعارضة أقوى منهم في إعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور عجز أنفسكم يكون عجزهم أظهر وأوضح
وبمجموع ما ذكرنا يظهر أن لا إشكال في الآية ومما يقضي منه العجب قول العز بن عبدالسلام في أماليه : إن ترتيب هذا المشروط يعني العلم على ذلك الشرط يعني عدم الإستجابة مشكل وكذا قوله سبحانه : أنزل بعلم الله مشكل أيضا إذ لا تصح الباء للسببية إذ ليس العلم سببا في إنزاله ولا للمصاحبة إذ العلم لا يصحبه في إنزاله وأن الجواب أنه ليس المراد بالعلم إلا علمنا نحن وأضيف إليه عز و جل لأنه مخلوق له تعالى ونظير ذلك ما في قوله جلا وعلا : ولا نكتم شهادة الله حيث أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه باعتبار أنه تعالى شرعها والقرآن قد نزل بأدلة العلم بأحكام الله تبارك إسمه فعبر بالمدلول على الدليل والتقدير فاعلموا أنما أنزل مصحوبا بإنتشار علم الأحكام وهي الأدلة ولا شك أنه يناسب إذا عجزوا عن معارضته أن يعلموا أن هذه الآيات أدلة أحكام الله تعالى إنتهى وليت شعري كيف غفل هذا العالم الماهر عن ذلك التفسير الظاهر ولعله كما قيل : من شدة الظهور الخفاء وأن لا إله إلا هو أي واعلموا أيضا أنه تعالى المختص بالألوهية وأحكامها وأن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة له تعالى في ذلك فهل أنتم مسلمون
14
- أي داخلون في الإسلام إذا لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلان ما أنتم فيه من الشرك فيدخل فيه الإذعان بكون القرآن من عند الله تعالى دخولا أوليا أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون ما أنتم عليه من المكابرة والعناد وفي الإستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال المانع ولهذا جيء بالفاء وفي التعبير بمسلمون دون تسلمون تأييد لما يقتضيه ترتيب ما ذكر على ما قبل بها من وجوبه بلا مهلة قيل : وفي ذلك أيضا إقناط لهم من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله تعالى شأنه وعز سلطانه وجوز أم يكون الضمير في لكم للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ويؤيده أنه جاء في آية أخرى فإن لم يستجيبوا لك وروي ذلك عن مجاهد وكان المناسب للأمر بقل الإفراد لكنه جمع للتعظيم وهو لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضي ومن ذلك
وإن شئت حرمت النساء سواكم
والجملة غير داخلة في حيز القول بل هي من قبله تعالى للحكم بعجزهم كقوله سبحانه : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا وعبر بالإستجابة إيماء إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم على كمال الأمن من أمره كأن أمره عليه الصلاة و السلام لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه ويجوز أن يكون الضمير له صلى الله تعالى عليه وسلم وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلى الله تعالى عليه وسلم في الأمر بالتحدي وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه
(12/22)

عليه الصلاة و السلام ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان ولذلك رتب على ما ترتب
والمراد بالعلم المأمور به ما هو في المرتبة العليا التي كأن ما عداها من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة ويعلم من ذلك سر إيراد كلمة الشك مع القطع بعدم الإستجابة فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الإستجابة منزلة الشك ويجوز أن يكون المأمور به الإستمرار على ما هم عليه من العلم ومعنى مسلمون مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه والكلام من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين وإختار تفسير الآية بذلك الجبائي وغيره وذكر شيخ الإسلام أنه أنسب بما سلف من قوله تعالى : وضائق به صدرك ولما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه : فلا تك في مرية منه وأشد بما يعقبه وقد يؤيد أيضا بما أشرنا إليه لكن لا يخفى أن الكلام على التفسير الأول موافق لما قبله لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار والضمير في هذه ضمير الجمع فليكن لهم أيضا ولأن الكفار أقرب المذكورين فرجوع الضمير إليهم أولى ولأن في التفسير الثاني تأويلات لا يحتاج إليها في الأول
ومن هنا استظهره أبو حيان واستحسنه الزمخشري ولعل مرجحاته أقوى من مرجحات الأخير عند من تأمل فلذا قدمناه وإن قيل : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك ويكتب فالم في المصحف على ما قال الأجهوري بغير نون وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما نزل بفتح النون والزاي وتشديدها وفي البحر أن ما يحتمل أن تكون مصدرية أي أن التنزيل وأن تكون موصولة بمعنى الذي أي أن الذي نزله وحذف العائد المنصوب في مثل ما ذكر شائع وفاعل نزل ضميره تعالى وجوز بعضهم كون ما موصولة على قراءة الجمهور أيضا ويبعد ذلك بحسب المعروف في مثله أنها موصولة فافهم
من كان يريد أي بأعماله الصالحة بحسب الظاهر الحياة الدنيا وزينتها أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك وإدخال كان للدلالة على الإستمرار أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلا نوف إليهم أعملهم فيها أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية فالكلام على حذف مضاف وقيل : الأعمال عبارة عن الأجور مجازا وإليه يشير كلام شيخ الإسلام والأول أولى و نوف متضمن معنى نوصل ولذا عدى بإلى وإلا وإلا فهو مما يتعدى بنفسه وقيل : إنه مجاز عن ذلك وقرأ طلحة بن ميمون يوف بالياء وإسناد الفعل إلى الله تعالى وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما يوف بالياء مخففا مضارع أوفي وقريء توف بالتاء مبنيا للمفعول ورفع أعمالهم والفعل في كل ذلك مجزوم على أنه جواب الشرط كما انجزم في قوله سبحانه : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه وحكى الفراء أن كان زائدة ولذا جزم الجواب وتعقبه أبو حيان بأنه لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد وكان يكون مجزوما وأجيب بأنه يحتمل أنه أراد بكونها زائدة أنها غير لازمة في المعنى وقرأ الحسن نوفي بالتخفيف وإثبات الياء وذلك إما على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله
ألم يأتيم والأنباء تنمي
أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضيا من عدم جزم الجزاء وإما لأن الأداة لما لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في لفظ الجزاء البعيد فعملت في محله
(12/23)

ونقل عن عبدالقاهر أنها لا تعمل فيه أصلا لضعفها والمشهور فيه عن النحاة مذهبان : كون الجزاء في نية التثديم وكونه على تقدير الفاء والمبتدأ ويمكن أن يرد ذلك إلى هذا وليس هذا مخصوصا فيما إذا كان الشرط كان على الصحيح لمجيئه في غيره كثيرا ومنه وإن أتاه خليل يوم مسبغة يقول : لا غائب مالي ولا حرم وهم فيها لا يبخسون
15
- أي لا ينقصون والظاهر أن الضمير المجرور للحياة الدنيا وقيل : الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارا بلا فائدة ورد بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق ولذلك قال الراغب : هو نقص الشيء على سبيل الظلم مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل من كونها مستوجبة لذلك كما قال بعض المحققين بناءا للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقض كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل الأمر دائر على المشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله سبحانه : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد
وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نسخت الآية التي نحن فيها وأنت تعلم أنه لا نسخ في الأخبار ولعل هذا إن صح محمول على المسامحة أولئك إشارة إلى المذكورين باعتبار استمرارهم على إرادة الحياة الدنيا أو باعتبار توفيتهم أجورهم فيها من غير بخس أو باعتبارهما معا وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لأن هممهم كانت مصروفة إلى اقتناص الدنيا وأعمالهم كانت ممدودة ومقصورة على تحصيلها وقد ظفروا بما يترتب على ذلك ولم يريدوا به شيئا آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد
وحبط ما صنعوا فيها أي في الآخرة كما هو الظاهر فالجار متعلق بحبط و ما تحتمل المصدرية والموصولية أي ظهر في الآخرة حبوط صنعهم أو الذي صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواي الأخروي لو كانت معمولة للآخرة ويجوز أن يعود الضمير إلى الدنيا فيكون الجار متعلقا بصنعوا و ما على حالها والمراد بحبوط الأعمال عدم مجازاتهم عليها لفقد الإعتداد بها لعدم الإخلاص الذي هو شرط ذلك وقيل : لجزائهم عليها في الدنيا وباطل ما كانوا يعملون
16
- قال أبو حيان : هو تأكيد لقوله سبحانه : حبط إلخ والظاهر أنه حمل ما كانوا يعملون على معنى ما صنعوا والبطلان على عدم النفع وهو راجع إلى معنى الحبوط
ولما رأى بعضهم أن التأسيس أولى من التأكيد أبقى ما يعملون على ذلك المعنى وحمل بطلان ذلك على فساده في نفسه لعدم شرط الصحة وقال : كأن كلا من الجملتين علة لما قبلها على معنى ليس لهم في الآخرة إلا النار لحبوط أعمالهم وعدم ترتب الثواب عليها لبطلانها وكونها ليست على ما ينبغي والأولى ما صنعه المولى
(12/24)

أبو السعود عليه الرحمة حيث حمل البطلان على الفساد في نفسه و ما كانوا يعملون على أعمالهم في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية ثم قال : ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبيء عن الحدوث وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلا بالإسمية الدالة على كون ذلك وصفا لا زمالة ثابتا فيه وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماء إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الإستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي مقدمات اطالبهم الدنيئة إنتهى
ويحتمل عندي على بعد أن يراد بما كانوا يعملون هو ما استمروا عليه من إرادة الحياة الدنيا وهو غير ما صنعوه من الأعمال التي نسب إليها الحبوط وإطلاق مثل ذلك على الإرادة مما لا بأس به لأنها من أعمال القلب ووجه الإتيان بكان فيه موافقته لما أشار هو إليه وفي الجملة تصريح باستمرار بطلان تلك الإرادة وشرح حالها بعد شرح المريد وشرح أعماله أراد بها الحياة الدنيا وزينتها وأياما كان فالظاهر أن باطل خبر مقدم و ما كانوا هو المبتدأ وجوز في البحر كون باطل خبر بعد خبر و ما مرتفعة به على الفاعلية وقريء وبطل بصيغة الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذاك وما يستتبعه من الخطوط الدنيوية مما لا طائل تحته أو إنقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقا وقرأ أبي وابن مسعود وباطلا بالنصب ونسب ذلك إلى عاصم وخرجه صاحب اللوامح على أن ما سيف خطيب وباطل مفعول ليعلمون وفيه تقديم معمول كان وفيه كتقديم الخبر خلاف والأصح الجواز لظاهر قوله تعالى : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ومن منع تأول وجوز أن يكون منصوبا بيعلمون و ما إبهامية صفة له أي باطلا أي باطل ونظير ذلك حديث ما على قصره ولأمر ما جدع قصير أنفه وأن يكون مصدرا بوزن فاعل وهو منصوب بفعل مقدر و ما اسم موصول فاعله أي بطل بطلانا الذي كانوا يعملونه ونظيره خارجا في قول الفرزدق : ألم ترني عاهدت ربي وأنني لبين رتاج قائما ومقام علي حلفة لا أشتم الدهر مسلما ولا خارجا من في زور كلام فإنه أراد ولا يخرج من في زور كلام خروجا وفي ذلك على ما في البحر إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الإستفهام والأمر هذا والظاهر أن الآية في مطلق الكفرة الذين يعملون البر لا على الوجه الذي ينبغي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في اليهود والنصارى ولعل المراد كما قال ابن عطية أنهم سبب النزول فيدخلون فيها لا أنها خاصة بهم ولا يدخل فيها غيرهم وقال الجبائي : هي في الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل الله تعالى حظهم من ذلك سهمهم في الغنائم وفيه أن ذلك إنما كان بعد الهجرة والآية مكية وقيل : في أهل الرياء يقال لقاريء القرآن منهم : أردت أن يقال : فلأن قاريء فقد قيل : اذهب فليس لك عندنا شيء وهكذا لغيره من المتصدق والمقتول في الجهاد وغيرهما ممن عمل من أعمال البر لا لوجه الله تعالى وربما يؤيد ذلك ما روي عن معاوية حين حدثه أبو هريرة بما تضمن ذلك فبكى وقال : صدق الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها إلى قوله سبحانه : وباطل ما كانوا يعملون وعليه فلا بد من
(12/25)

تقييد قوله عز و جل : ليس لهم في الآخرة إلا النار بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك وهو خلاف الظاهر والسياق يقتضي أنها في الكفرة مطلقا وبرهم كما قلنا ومن هنا اشتهر أن الكافر يجعل له ثواب أعماله في الدنيا بتوسعة الرزق وصحة البدن وكثرة الولد ونحو ذلك وليس لهم في الآخرة من نصيب لكن ذهب جماعة إلى أنه يخفف بها عنه عذاب الآخرة ويشهد له قصة أبي طالب وذهب آخرون إلى أن ما يتوقف على النية من الأعمال لا ينتفع الكافر به في الآخرة أصلا لفقدان شرطه إذ لم يكن من أهل النية لكفره وما لا ينتفع به ويخفف به عذابه وبذلك يجمع بين الظواهر المقتضي بعضها للإنتفاع في الجملة وبعضها لعدمه أصلا فتدبر
ووجه ارتباط هذه الآية بما قبلها على ما في مجمع البيان أنه سبحانه لما قال : فهل أنتم مسلمون فكأن قائلا قال : إن أظهرنا الإسلام لسلامة النفس والمال يكون ماذا فقيل : من كان يريد الحياة الدنيا إلخ أو يقال : أن فيما قبل ما يتضمن إقناط الكفرة من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه كما تقدم وذكره بعض المحققين فلا يبعد أن يكون سماعهم ذلك سببا لعزمهم على إظهار الإسلام أو فعل بعض الأعمال الصالحة ظنا منهم أن ذلك مما يجيرهم وينفعهم فشرح لهم حكم مثل ذلك بقوله سبحانه : من كان يريد إلخ لكن أنت تعلم أن هذا يحتاج إلى إدعاء أن ذلك العزم من باب الإحتياط وفي البحر في بيان المناسبة أنه سبحانه لما ذكر شيئا من أحوال الكفار في القرآن ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة وأبو السعود بين ذلك على وجه يقوي به ما إدعاه من أنسبية كون الخطاب فيما سلف له عليه الصلاة و السلام والمؤمنين فقال : والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم إندراجا أوليا فإنه عز و جل لما أمر نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم الله سبحانه وبأن لا قدرة لغيره سبحانه على شيء أصلا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله تعالى عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلاإ قتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم على المطالب الدنيوية وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه ولقد بين ذلك أي بيان إنتهى ولا يخفى أنه يمكن أن يقرر هذا على وجه لا يحتاج فيه إلى توسيط حديث جعل الخطاب السابق له صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين فليفهم واستدل في الأحكام بالآية على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من حظوظ الدنيا فمن أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة وإدعى الكيا أنها مثل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات وتدل على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان وعلى أن من توضأ للتبرد أو التنظف لا يصح وضوؤه وفي ذلك خلاف مبسوط بماله وعليه في محله
أفمن كان على بينة من ربه تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره ويدخل في ذلك الإسلام دخولا أوليا وإقتصر عليه بعضهم بناءا على أنه المناسب لما بعد وأصل البينة كما قيل : الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة وتطلق على الدليل مطلقا وهاؤها للمبالغة أو النقل وهي وإن قيل : إنها من بان بمعنى تبين واتضح لكنه إعتبر فيها دلالة الغير والبيان له وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة والتنوين فيها
(12/26)

هنا للتعظيم أي بينة عظيمة الشأن والمراد بها القرآن وباعتبار ذلك أو البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله سبحانه : ويتلوه أي يتبعه شاهد عظيم يشهد بكونه من عند الله تعالى شأنه وهو كما قال الحسين ابن الفضل الإعجاز في نظمه ومعنى كون ذلك تابعا له أنه وصف له لا ينفك عنه حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها فلا يستطيع أحد من الخلق جيلا بعد جيل معارضته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
وكذا الضمير في منه وهو متعلق بمحذوف وقع صفة لشاهد ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه
وجوز أن يكون هذا الضمير راجعا إلى الرب سبحانه ومعنى كونه منه تعالى أنه وارد من جهته سبحانه للشهادة وعلى هذا يجوز أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنها من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من قبله عز و جل وأمر التبعية فيها ظاهر والمراد بالموصول كل من إتصف بتلك الكينونة من المؤمنين
وعن أبي العالية أنه النبي عليه الصلاة و السلام ولا يخفى أن قوله سبحانه الآتي : أولئك إلخ لا يلائمه إلا أن يحمل على التعظيم وأيضا إن السياق كما ستعلم إن شاء الله تعالى للفرق بين الفريقين المؤمنين ومن يريد الحياة الدنيا لا بينهم وبين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفسر أبو مسلم وغيره البينة بالدليل العقلي والشاهد بالقرآن وضمير منه لله تعالى ومن إبتدائية أو للقرآن فقد تقدم ذكره ومن حينئذ إما بيانية وإما تبعيضية بناءا على أن القرآن ليس كله شاهدا وليس من التجريد على ما توهم الطيبي فيكون في الآية إشارة إلى الدليلين العقلي والسمعي ومعنى كون الثاني تابعا للأول على ما قيل : إنه موافق له لا يخالفه أصلا ومن هنا قالوا : إن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح ولذا أولوا الدليل السمعي إذا خالف ظاهره الدليل العقلي ولعل في التعبير عن الأول بالبينة التي جاء إطلاقها في كلام الشارع على شاهدين وعن الثاني بالشاهد الإيماء إلى أن الدليل العقلي أقوى دلالة من الدليل السمعي لأن دلالة الأول قطعية ودلالة الثاني ظنية غالبا للإحتمالات الشهيرة التي لا يمكن القطع معها وقد يقال : إن التعبير عن الثاني بالشاهد لمكان التلو
وعن ابن عباس ومجاهد والنخعي والضحاك وعكرمة وأبي صالح وسعيد بن جبير أن البينة القرآن والشاهد هو جبريل عليه السلام ويتلو من التلاوة لا التلو وضمير منه لله تعالى وفي رواية عن مجاهد أن الشاهد ملك يحفظ القرآن وليس المراد لحفظ المتعارف لأنه كما قال ابن حجر خاص بجبريل عليه السلام وضمير منه كما في سابقه إلا أن يتلو من التلو والضمير المنصوب للبينة وقيل : لمن كان عليها وعن الفراء أن الشاهد هو الإنجيل ويتلوه وضمير منه على طرز ما روي عن مجاهد سوى أن ضمير يتلوه للقرآن
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن الحنفية أن الشاهد لسانه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ذكر أهل اللغة ذلك وكذا الملك من معانيه و يتلو حينئذ من التلاوة والإسناد مجازي ومفعوله للبينة وضمير منه للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بناءا على أنه المراد بالموصول ومن تبعيضية وقيل : الشاهد صورته عليه الصلاة و السلام ومخايله لأن كل عاقل يراه يعلم أنه عليه الصلاة و السلام رسول الله
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : ما من رجل من قريش إلا نزل
(12/27)

فيه طائفة من القرآن فقال له رجل : ما نزل فيك قال : أما تقرأ سورة هود أفمن كان على بينة الآية من كان على بينة من ربه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا شاهد منه وأخرج المنهال عن عبادة بن عبدالله مثله وأخرج ابن مردوية بوجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أفمن كان على بينة من ربه أنا ويتلوه شاهد علي
وأخرج الطبرسي نحو ذلك عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وتعلق به بعض الشيعة في أن عليا كرم الله تعالى وجهه هو خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الله تعالى سماه شاهدا كما سمى نبيه عليه الصلاة و السلام كذلك في قوله سبحانه : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا والمراد شاهدا على الأمة كما يشهد له عطف مبشرا ونذيرا عليه فينبغي أن يكون مقامه كرم الله تعالى وجهه بين الأمة كمقامه عليه الصلاة و السلام بينهم وحيث أخبر سبحانه أنه يتلوه أي يعقبه ويكون بعده دل على أنه خليفته وأنت تعلم أن الخبر مما لا يكاد يصح وفيما سيأتي في الآية إن شاء الله تعالى إباء عنه ويكذبه ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه قال : قلت لأبي كرم الله تعالى وجهه : إن الناس يزعمون في قوله تعالى : ويتلوه شاهد منه أنك أنت التالي قال : وددت أني هو ولكنه لسان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على أن في تقرير الإستدلال ضعفا وركاكة بلغت الغاية القصوى كما لا يخفى على من له أدنى فطنة
ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفيه ما فيه وفي عطف يتلوه احتمالان : الأول أن يكون على ما وقع صفة لبينة والثاني أن يكون على جملة كان ومرفوعها وقوله سبحانه : ومن قبله كتاب موسى عطف على شاهد والضمير المجرور له وقد توسط الجار والمجرور بينهما والظاهر أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب أي ويتلوه في التصديق كتاب موسى منزلا من قبله وحاصله أفمن كان على بينة من ربه ويشهد لصدقه شاهد منه وشاهد آخر من قبله وهو كتاب موسى قيل : وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفا لازما له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو وهذا على تقدير أن يكون المراد بالشاهد الإعجاز كما إختاره بعض المحققين وقد يقال : إن تأخير بيان شهادة هذا الشاهد عن بيان شهادة الشاهد الأول لأنها ليست في الظهور عند الأمة كشهادة الأول وهو جار على غير ذلك التقدير أيضا وتخصيص كتاب موسى عليه السلام بالذكر بناء على عدم إرادة الإنجيل فيما تقدم لأن الملتين مجتمعتان على أنه من عند الله تعالى بخلاف الإنجيل فإن اليهود مخالفون فيه فكان الإستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى
وأوجب بعضهم كون ومن قبله كتاب موسى جملة مبتدأة غير داخلة في حيز شيء مما قبلها وهو مبني على كثير من الإحتمالات السابقة في الشاهد وقرا محمد بن السائب الكلبي وغيره كتاب بالنصب على أنه معطوف على مفعول يتلوه أو منصوب بفعل مقدر أي ويتلو كتاب موسى والأول أولى لأن الأصل عدم التقدير ويتلو في هذه القراءة من التلاوة والضمير المنصوب للقرآن والمجرور لمن و من تبعيضية لا تجريدية والمعنى على ما يقتضيه كلام الكشاف أفمن كان على بينة على أن القرآن حق لا مفترى والمراد به أهل الكتاب ممن كان يعلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الحق وأن كتابه هو الحق لما كانوا وجدوه في التوراة ويقرأ القرآن شاهدين من هؤلاء ويقرأ من قبل القرآن كتاب موسى والمراد بهذا الشاهد ما أريد به
(12/28)

في قوله سبحانه : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله وهو عبدالله بن سلام رضي الله تعالى عنه ففي الآية مدح أهل الكتاب وخص من بينهم تالي الكتابين وشاهدهم بالذكر دلالة على مزيد فضله وتنبيها على أنهم مشايعون في إتباع الحق وإن لم يبلغوا رتبة الشاهد وفي قوله تعالى : يتلوه إستحضار للحال ودلالة على استمرار التلاوة وهو كما قيل في غاية التطابق للكلام إماما أي مؤتما به في الدين ومقتدى وفي التعرض لهذا الوصف بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلو والتنوين فيه للتعظيم وكذا في قوله سبحانه : ورحمة أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة بإعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب أولئك أي الموصوفون بتلك الصفة الحميدة وهي الكون على بينة يؤمنون به أي يصدقون بالقرآن حق التصديق حسبما يشهد به تلك الشواهد الحقة المعربة عن حقيته ولا يقلدون أحدا من عظماء الدين فالضمير للقرآن وقيل : إنه لكتاب موسى عليه السلام لأنه أقرب ولا يناسب ما بعد وإن لم يك خاليا عن الفائدة وقيل : إنه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن يكفر به أي بالقرآن ولم يعتد بتلك الشواهد الحقة ولم يصدق بها من الأحزاب من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله بعضهم وأخرج عبدالرزاق عن قتادة أن الأحزاب الكفار مطلقا فإنهم تحزبوا على الكفر وروي ذلك عن ابن جبير وفي رواية أبي الشيخ عن قتادة أنهم اليهود والنصارى وقال السدي : هم قريش وقال مقاتل : هم بنو أمية وبنو المغيرة بن عبدالله المخزومي وآل أبي طلحة بن عبيد الله فالنار موعده أي يردها لا محالة حسبما نطق به قوله سبحانه : ليس لهم في الآخرة إلا النار وآيات أخر والموعد إسم مكان الوعد كما في قول حسان : أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لاقيها وفي جعل النار موعد إشعار بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب فلا تك في مرية منه أي في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله تعالى غب ما شهدت به الشواهد وظهر فضل من تمسك به أو لا تك في شك من كون النار موعدهم وادعى بعضهم أنه الأظهر وليس كذلك وأياما كان فالخطاب إن كان عاما لمن يصلح له فالمراد التحريض على النظر الصحيح المزيل للشك وإن كان للنبي صلى الله عليه و سلم فهو بيان لأنه ليس محلا للشك تعريضا بمن شك فيه ولا يلزم من نهيه عليه الصلاة و السلام عنه وقوعه ولا توقعه منه صلى الله عليه و سلم وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي والحسن مرية بضم الميم وهي لغة أسد وتميم والكسر لغة أهل الحجاز إنه الحق من ربك أي الذي يربيك في دينك ودنياك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون
17
- بذلك إما لقصور أنظارهم وإختلال أفكارهم وإما لإستكبارهم وعنادهم و الناس على ما روي عن ابن عباس أهل مكة وقال صاحب الفينان : جميع الكفار هذا والهمزة في أفمن قيل : للتقرير و من مبتدأ والخبر محذوف أي أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وحذف معادل الهمزة ومثله كثير واختار هذا أبو حيان والذي يقتضيه كلام الزمخشري ولعله الأولى خلافه حيث قال : المعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم ولا يقاربونهم في المنزلة إلى آخر ما قال وحاصله على ما في الكشف أن الفاء عاطفة
(12/29)

للتعقيب مستدعية ما يعطف عليه وهو الدال عليه قوله سبحانه : من كان الآية فالتقدير أمن كان يريد الحياة الدنيا على أنها موصولة فمن كان على بينة من ربه والخبر محذوف لدلالة الفاء أي يعقبونهم أو يقربونهم والإستفهام للإنكار فيفيد أن لا تقارب بين الفريقين فضلا عن التماثل فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا وأما إنها عطف على قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا فلا وجه له لأنه يصير من عطف الجملة ولا يدل على إنكار التماثل ولا معنى لتقدير الإستفهام في الأول فإن الشرط والجزاء لا إنكار عليه إنتهى وهو جار على أحد مذهبين للنحاة في مثله ويعلم مما تقرر أن الآية مرتبطة بقوله سبحانه : من كان إلخ ومساقها عند شيخ الإسلام للترغيب أيضا فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيد والإسلام وإدعى الطبرسي أنها مرتبطة بقوله تعالى : قل فأتوا بعشر سور مثله وأن المراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم : أفمن كان على بينة ولا بينة له على ذلك
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم : الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقولهم لآلهتهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله والمراد من الآية ذم أولئك الكفرة بأنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه سبحانه ويجوز أن تكون لنوع آخر من الدلالة على أن القرآن ليس بمفترى فإن من يعلم حال من يفتري على الله سبحانه كيف يرتكبه وأن تكون من الكلام المنصف أي لا أحد أظلم مني أن أقول لما ليس بكلام الله تعالى إنه كلامه كما زعمتم أو منكم إن كنتم نفيتم أن يكون كلامه سبحانه مع تحقق أنه كلامه جل وعلا وفيه من الوعيد والتهويل ما لا يخفى ويجوز عندي إذا كان ما قبل في مؤمني أهل الكتاب أن يكون هذا في بيان حال كفرتهم الذين أسندوا إليه سبحانه ما لم ينزله من المحرف الذي صنعوه ونفوا عنه سبحانه ما أنزله من القرآن أو من نعت النبي صلى الله ليه وسلم وأيا ما كان فالمراد نفي أن يكون أظلم من ذلك أو مساويا في الظلم على ما تقدم أولئك أي الموصوفون بالظلم البالغ وهو الإفتراء يعرضون من حيث أنهم موصوفون بذلك على ربهم أي مالكهم الحق والمتصرف فيهم حسبما يريد وفيه على ما قيل : إيماء إلى بطلان رأيهم في إتخاذهم أربابا من دونه سبحانه وتعالى وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف أي تعرض أعمالهم أو على إرتكاب المجاز ولا يحتاج إلى ذلك على ما أشير إليه لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه أبلغ فإن عرض العامل بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته والظاهر أنه لا حذف في قوله سبحانه : على ربهم ويفوض من يقف على الله
وقيل : هناك مضاف محذوف أي على ملائكة ربهم وأنبياء ربهم وهم المراد بالإشهاد في قوله تعالى : ويقول الأشهد وتفسيرهم بالملائكة مطلقا هو المروي عن مجاهد وعن ابن جريج تفسيرهم بالحفظة من الملائكة عليهم السلام وقيل : المراد بهم الملائكة والأنبياء والمؤمنون وقيل : جوارحهم وعن مقاتل وقتادة هم جميع أهل الموقف وهو جمع شاهد بمعنى حاضر كصاحب وأصحاب بناءا على جواز جمع فاعل على أفعال أو جمع شهيد بمعناه كشريف وأشراف أي ويقول الحاضرون عند العرض أو في موقف القيامة هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ويحتمل أن يكون شهادة على تعيين من صدر منه الكذب كأن وقوعه
(12/30)

أمر واضح غني عن الشهادة وإنما المحتاج إليها ذلك ولذا لم يقولوا : هؤلاء كذبوا بدون الموصول ويحتمل أن يكون ذما لهم بتلك الفعلة الشنيعة لا شهادة عليهم كما يشعر به قوله تعالى : ويقول دون ويشهد وتوطئة لما يعقبه من قوله تعالى : ألا لعنة الله على الظالمين
18
- أي بالإفتراء المذكور والظاهر أن هذا من كلام الأشهاد على الإحتمالين ويؤيده ما أخرجه الشيخان وخلق كثير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن الله تعالى يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول : رب أعرف حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطي كتاب حسناته وأما الكفار والمنافقون فيقول : الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين
وجوز على الإحتمال الأول أن يكون من كلام الله تعالى وحينئذ بجوز أن يراد بالظالمين ما يعم الظالمين بالإفتراء والظالمين بغير ذلك ويدخل فيه الأولون دخولا أوليا ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران قال : إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول : ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم
وربما يجوز ذلك على الإحتمال الثاني أيضا وأيا ما كان فهؤلاء الذين مبتدأ وخبر وإحتمال أن يكون هؤلاء مبتدأ و الذين تابع له وجملة ألا لعنة الله على الظالمين خبره وقد أقيم الظاهر مقام المضمر أي عليهم لذمهم بمبدأ الإشتقاق مع الإشارة إلى علة الحكم كما ترى وجملة يقول الأشهاد قيل : مستأنفة على أنها جواب سؤال مقدر كأن سائلا سأل إذا سمع أنهم يعرضون على ربهم ماذا يكون إذ ذاك فأجيب بما ذكر وقيل وهو الظاهر إنها معطوفة على جملة يعرضون على معنى أولئك يعرضون ويقول الأشهاد في حقهم أو ويقول أشهادهم والحاضرون عند عرضهم هؤلاء إلخ وكأن هذا البيان أنها مرتبطة في التقدير بالمبتدأ كإرتباط الجملة المعطوفة هي عليها به وقيل : كفى إسم الإشارة القائم مقام الضمير للتحقير رابطا فتدبر
والذين يصدون أي كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد عن سبيل الله أي دينه القويم وإطلاق ذلك عليه كالصراط المستقيم مجاز ويبغونها عوجا أي يبطلون لها انحرافا والمراد أنهم يصفونها بذلك وهي أبعد شيء عنه وإطلاق الطلب على الوصف مجاز من إطلاق السبب على المسبب ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها ويرتدوا وقيل : المعنى يطلبونها على عوج ونصب عوجا على أنه مفعول به وقيل : على أنه حال ويؤول بمعوجين وهم بالآخرة هم كافرون
19
- أي والحال أنهم لا يؤمنون بالآخرة وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم وإختصاصهم به لأنه بمنزلةالفصل فيفيد الإختصاص وضربا من التأكيد والإختصاص إدعائي مبالغة في كفرهم بالآخرة كأن كفر غيرهم بها ليس بكفر في جنبه وقيل : إن التكرير للتأكيد وتقديم بالآخرة للتخصيص والأولى كون تقديمه لرءوس الآي
أولئك الموصوفون بما يوجب التدمير لم يكونوا معجزين لله تعالى مفلتين أنفسهم من أخذه لو أراد ذلك
(12/31)

في الأرض مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب وجعلها بعضهم كناية عن الدنيا وما كان لهم من دون الله من أولياء ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه و من زائدة لإستغراق النفي وجمع أولياء إما بإعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل : وما كان لأحد منهم من ولي أو بإعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية يضاعف لهم العذاب جملة مستأنفة بين فيها ما يكون لهم ويحل بهم وإدعى أنها تتضمن حكمة تأخير المؤاخذة وزعم بعضهم أنها من كلام الأشهاد وهي دعائية ليس بشيء
وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعف بالتشديد ما كانوا يستطيعون السمع أي أنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ويستكرهونه إلى أقصى الغايات حتى كأنهم لا يستطيعونه وهو نظير قول القائل : العاشق لا يستطيع أن يسمع كلام العاذل ففي الكلام إستعارة تصريحية تبعية ولا مانع من إعتبار الإستعارة التمثيلية بدلها وإن قيل به وبالجملة لا ترد الآية على المعتزلة وكذا على أهل السنة لأنهم لا ينفون الإستطاعة رأسا وإن منعوا إيجاد العبد لشيء ما وكأنه لما كان قبح حالهم في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم سائر الآيات المنوطة بالإبصار بالغ سبحانه في نفي الأول عنهم حسبما علمت وإكتفى في الثاني بنفي الإبصار فقال عز قائلا : وما كانوا يبصرون
20
- أي أنهم كانوا يتعامون عن آيات الله تعالى المبسوطة في الأنفس والآفاق وكأن الجملة جواب سؤال مقدر عن علة مضاعفة العذاب كأنه قيل : ما لهم إستوجبوا تلك المضاعفة فقيل : لأنهم كرهوا الحق أشد الكراهة واستثقلوا سماعه أعظم الإستثقال وتعاموا عن آيات الملك المتعال ولا يشكل على هذا قوله سبحانه : من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون بناءا على أن المراد بمثل السيئة ما تقتضيه من العقاب عند الله تعالى فلعل ما فعلوه من السيئات يقتضي تلك المضاعفة فتكون هي المثل كما أن مثل سيئة الكفر هو الخلود في النار وقيل : إن المضاعفة لإفترائهم وكذبهم على ربهم وصدهم عن سبيل الله تعالى وبغيهم إياها العوج وكفرهم بالآخرة على ما يدل عليه نسبة مضاعفة العذاب إلى هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات وبه جمع بين ما هنا وقوله سبحانه : من جاء بالسيئة الآية ولعل التعليل بما تفيده الجملة على هذا لأنه الأصل الأصيل لسائر قبائحهم ومعاصيهم
وزعم بعضهم أن المضاعفة لحفظ الأصل إذ لولا ذلك لإرتفع ولم يبق عذابا للإلف بطول الأمد وفيه ما فيه وقيل : إن الجملة بيان لما نفى من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل عن الولاية وقوله سبحانه : يضاعف إلخ إعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر بسوء العاقبة وفيه أنه مخالف للسياق ومستلزم تفكيك الضمائر وجوز أبو البقاء أن تكون ما مصدرية ظرفية أي يضاعف لهم العذاب مدة إستطاعتهم السمع وإبصارهم والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد وأجاز الفراء أن تكون مصدرية وحذف حرف الجر منها كما يحذف من أن وأن وفيه بعد لفظا ومعنى أولئك الموصوفون بتلك القبائح
الذين خسروا أنفسهم بإشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى شأنه وقيل : خسروا بسبب تبديلهم الهداية بالضلالة والآخرة بالدنيا وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرياسة
وفي البحر أنه على حذف مضاف أي خسروا سعادة أنفسهم وراحتها فإن أنفسهم باقية معذبة
(12/32)

وتعقب بأن إبقاءه على ظاهره أولى لأن البقاء في العذاب كالإبقاء وضل عنهم ما كانوا يفترون
21
- من الآلهة وشفاعتها لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون
22
- أي لا أحد أبين أو أكثر حسرانا منهم فأفعل للزيادة إما في الكم أو الكيف وتعريف المسند بلام الجنس لإفادة الحصر وإن جعل هم ضمير فصل أفاد تأكيد الإختصاص وإن جعل مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر أن أفاد تأكيد الحكم وفي لا جرم أقوال : ففي البحر عن الزجاج أن لا نافية ومنفيها محذوف أي لا ينفعهم فعلهم مثلا و جرم فعل ماض بمعنى كسب يقال : جرمت الذنب إذا كسبته وقال الشاعر : نصبنا رأسه في جذع نخل بما جرمت يداه وما اعتدينا وما بعده مفعوله وفاعله ما دل عليه الكلام أي كسب ذلك أظهرية أو أكثرية خسرانهم وحكى هذا عن الأزهري ونقل عن سيبويه أن لا نافية حسبما نقل عن الزجاج و جرم فعل ماضي بمعنى حق وما بعد فاعله كأنه قيل : لا ينفعهم ذلك الفعل حق أنهم في الآخرة إلخ
وذكر أبو حيان أن مذهب سيبويه وكذا الخليل أيضا كون مجموع لا جرم بمعنى حق وأن ما بعده رفع به على الفاعلية وقيل : لا صلة و جرم فعل بمعنى كسب أو حق وعن الكسائي أن لا نافية وجرم إسمها مبني معها على الفتح نحو لا رجل والمعنى لا ضد ولا منع والظاهر أن الخبر على هذا محذوف وحذف حرف الجر من أن ويقدر حسبما يقتضيه المعنى وقيل : إن جرم إسم لا ومعناه القطع من جرمت الشيء أي قطعته والمعنى لا قطع لثبوت أكثرية خسرانهم أي إن ذلك لا ينقطع في وقت فيكون خلافه
ونقل السيرافي عن الزجاج أن لا جرم في الأصل بمعنى لا يدخلنكم في الجرم أي الإثم كإثمه أي أدخله في الإثم ثم كثر إستعماله حتى صار بمعنى لا بد ونقل هذا المعنى عن الفراء وفي البحر أن جرم عليه إسم لا وقيل : إن جرم بمعنى باطل إما على أنه موضوع له وإما أنه بمعنى كسب والباطل محتاج له ومن هنا يفسر لا جرم بمعنى حقا لأن الحق نقيض الباطل وصار لا باطل يمينا كلا كذب في قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أنا النبي لا كذب وفي القاموس أنه يقال : لا جرم ولا ذا جرم ولا أن ذا جرم ولا عن ذا جرم ولا جرم ككرم و لا جرم بالضم أي لا بد أو حقا أو لا محالة وهذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام فيقال : لا جرم لآتينك إنتهى وفيه مخالفة لما نقله السيرافي عن الزجاج وما ذكره من لا جرم ككرم رواه بعضهم عن أبي عمرو في الآية ومن لا ذا جرم حكاه الفراء عن بني عامر وحكى أيضا لا جرم بالضم عن أناس من العرب ولكن قال الشهاب : إن في ثبوت هذه اللغة في فصيح كلامهم ترددا وجرم فيها يحتمل أن يكون إسما وأن يكون فعلا مجهولا سكن للتخفيف وحكى بعضهم لا ذو جرم ولا عن جرم ولا جر بحذف الميم لكثرة الإستعمال كما حذفت الفاء من سوف لذلك في قولهم : سو ترى
والظاهر أن المقحمات بين لا و جرم زائدة وإليه يشير كلام بعضهم وحكي بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا حرم فليراجع ذاك والله تعالى يتولى هداك
ثم إنه تعالى لما ذكر طريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم وما لهم شرع في شرح حال أضدادهم وهم المؤمنون وبيان ما لهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسن المؤمنين المذكورة عند جمع في قوله سبحانه :
(12/33)

أفمن كان على بينة من ربه الآية لتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقال عز من قائل : إن الذين آمنوا أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من القرآن وغيره ولا يكون ذلك إلا بإستماع الحق ومشاهدة الآيات الآفاقية والأنفسية والتدبر فيها أو المعنى فعلوا الإيمان واتصفوا به كما في فلان يعطي ويمنع وعملوا الصالحات أي الأعمال الصالحات ولعل المراد بها ما يشمل الترغيب في سلوك سبيل الله عز و جل ونحوه مما على ضده فريق الكفار وأخبتوا إلى ربهم أي إطمأنوا إليه سبحانه وخشعوا له وأصل الإخبات نزول الخبت وهو المنخفض من الأرض ثم أطلق على إطمئنان النفس والخشوع تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم صار حقيقة فيه ومنه الخبيت بالتاء المثناة للدنيء وقيل : إن التاء بدل من الثاء المثلثة أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة الشأن أصحاب الجنة هم فيها خالدون
23
- دائمون أبدا وليس المراد حصر الخلود فيهم لأن العصاة من المؤمنين يدخلون الجنة عند أهل الحق ويخلدون فيها ولعل من يدعي ذلك يريد بنفي الخلود عن العصاة نقصه من أوله كما قيل به فيما ستسمعه إن شاء الله تعالى مثل الفريقين المذكورين من المؤمنين والكفار أي حالهما العجيب وأصل المثل كالمثل النظير ثم استعير لقول شبه مضربه بمورده ولا يكون إلا لما فيه غرابة وصار في ذلك حقيقة عرفية ومن هنا يستعار للقصة والحال والصفة العجيبة
كالأعمى والأصم والبصير والسميع أي كحال من جمع بين العمى والصمم ومن جمع بين البصر والسمع فهناك تشبيهان : الأول تشبيه حال الكفرة الموصوفين بالتعامي والتصام عن آيات الله تعالى بحال من خلق أعمى أصم لا تنفعه عبارة ولا إشارة والثاني تشبيه حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم إهتداءا إلى الجنة وإنكفاءا عما كانوا خابطين فيه من ضلال الكفر والدجنة بحال من هو بصير سميع يستضيء بالأنوار في الظلام ويستفيء بمغانم الإنذار والأبشار فوزا بالمرام والعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات كما في قوله : يا لهف زيابة للحرث الص
ابح فالغانم فالآيب ويحتمل أن يكون هناك تشبيهات بأن يعتبر تشبيه حال كل من الفريقين الفريق الكافر والفريق المؤمن بحال إثنين أي من الفريقين الكافر كالأعمى ومثله أيضا كالأصم ومثل الفريق المؤمن كالبصير ومثله أيضا كالسميع وقد يعتبر تنويع كل من الفريقين إلى نوعين فيشبه نوع من الكفار بالأعمى ونوع منهم بالأصم ويشبه نوع من المؤمنين بالبصير ونوع منهم بالسميع واستبعد ذلك إذ تقسيم الكفار إلى مشبه بالأول ومشبه بالثاني وكذلك المؤمنون غير مقصود البتة بدليل نظائره في الآيات الأخر كقوله سبحانه : وما يستوي الأعمى والأصم وكقوله تعالى : ختم الله على قلوبهم في الكفار الخلص وقوله تبارك وتعالى : صم بكم عمي في المنافقين وللآية على إحتمالاتها شبه في الجملة بقول أمريء القيس : كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي فتدبره وقد يعتبر التشبيه تمثيليا بأن ينتزع من حال الفريق الأول في تصامهم وتعاميهم المذكورين ووقوعهم بسبب ذلك في العذاب المضاعف والخسران الذي لا خسران فوقه هيئة منتزعة ممن فقد مشعري البصر والسمع
(12/34)

فتخبط في مسلكه فوقع في مهاوي الردى ولم يجد إلى مقصده سبيلا وينتزع من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرهم في آيات الله تعالى حسبما ينبغي وفوزهم بدار الخلود هيئة تشبه بهيئة منتزعة ممن له بصر وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مرامه ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ولعل أظهر الإحتمالات ما أشير إليه أولا والكلام من باب اللف والنشر واللف إما تقديري إن اعتبر في الفريقين لأنه في قوة الكافرين والمؤمنين أو تحقيقي إن اعتبر فيما دل عليه قوله تعالى : ومن أظلم ممن افترى إلخ وقوله سبحانه : إن الذين آمنوا الآية وأمر النشر ظاهر ولا يخفى ما فيه من الطباق بين الأعمى والبصير وبين الأصم والسميع وقدم ما للكافرين قيل : مراعاة لما تقدم ولأن السياق لبيان حالهم وقدم الأعمى على الأصم لكونه أظهر وأشهر في سوء الحال منه
وفي البحر إنما لم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع ليكون كل من المتقابلين على إثر مقابله لأنه تعالى لما ذكر إنسداد العين أتبعه بإنسداد السمع ولما ذكر إنفتاح البصر أتبعه بإنفتاح السمع وذلك هو الأسلوب في المقابلة والأتم في الإعجاز وسيأتي إن شاء الله تعالى نظير ذلك في قوله سبحانه : إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ثم الظاهر مما تقدم أن الكلام على حذف مضاف وهو مجرور بالكاف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مثل
وجوز أن تكون الكاف نفسها خبرا لمبتدأ ويكون معناها معنى المثل ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي مثل الفريقين مثل الأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان يعني الفريقين المذكورين والإستفهام إنكاري مذكر على ما قيل : لما سبق من إنكار المماثلة في قوله سبحانه : أفمن كان على بينة من ربه إلخ مثلا أي حالا وصفة ونصبه على التمييز المحول عن الفاعل والأصل هل يستوي مثلهما
وجوز ابن عطية أن يكون حالا وفيه بعد أفلا تذكرون
24
- أي أتشكون في عدم الإستواء وما بينهما من التباين أو تغفلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ذكر لكم من المثل فالهمزة للإستفهام الإنكاري وهو وارد على المعطوفين معا أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون الإنكار واردا على عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب أي أفلا تفعلون التذكر أو أفلا تعقلون ومعنى إنكار عدم التذكر إستبعاده من المخاطبين وأنه مما لا يصح أن يقع وليس من قبيل الإنكار في أفمن كان على بينة من ربه و هل يستويان فإن ذلك لنفي المماثلة ونفي الإستواء ثم إنه تعالى شرع في ذكر قصص الأنبياء الداعين إلى الله تعالى وبيان حالهم مع أممهم ليزداد صلى الله تعالى عليه وسلم تشميرا في الدعوة وتحملا لما يقاسيه من المعاندين فقال عز من قائل : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه الواو إبتدائية واللام واقعة في جواب قسم محذوف ويقدر حرفه ياء لا واو وإن كان هو الشائع لئلا يجتمع واوان وبعضهم يقدرها ولا يبالي بذلك
ونوح في المشهور ابن لمك بن متوشلخ بن إدريس عليه السلام وأنه أول نبي بعث بعده قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بعث عليه السلام على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومه ما قص الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة وقال مقاتل : بعث وهو ابن مائة سنة وقيل : ابن خمسين وقيل : ابن مائتين وخمسين ومكث يدعو قومه ما قص سبحانه وعاش بعد
(12/35)

الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة إني لكم نذير بالكسر على إرادة القول أي فقال أو قائلا
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالفتح على إضمار حرف الجر أي ملتبسا بذلك الكلام وهو إني لكم نذير فلما إتصل الجار فتح كما فتح في كان والمعنى على الكسر وهو قولك : إن زيدا كالأسد بناءا على أن كان مركبة وليست حرفا برأسه وليس في ذلك خروج من الغيبة إلى الخطاب خلافا لأبي علي ولعل الإقتصار على ذكر كونه عليه السلام نذيرا لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشاره عليه السلام مبين
25
- أي موضح لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه أن لا تعبدوا إلا الله أي بأن لا تعبدوا إلا الله على أن أن مصدرية والياء متعلقة بأرسلنا و لا ناهية أي أرسلنا ملتبسا بنهيهم عن الإشراك إلا أنه وسط بينهما بيان بعض أوصافه ليكون أدخل في القبول ولم يقل ذلك في صدر السورة لئلا يكون من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه وجوز كون أن وما بعدها في تأويل مصدر مفعولا لمبين أي مبينا النهي عن الإشراك ويجوز أن تكون أن مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير أو بمبين أي أرسلناه بشيء أو نذير بشيء أو مبين شيئا هو أن لا تعبدوا إلا الله لكن قيل : الإنذار في هذا غير ظاهر وهذا على قراءة الكسر فيما مر وأما على قراءة الفتح فإن لا إلخ بدل من إني لكم إلخ ويقدر القول بعد أن فيكون التقدير أرسلنا بقوله : إني لكم نذير وبقوله لا تعبدوا فهو يدل البعض أو الكل على المبالغة وادعاء أن الإنذار كله هو وجاز أن لا يقدر القول فالأظهر حينئذ بدل الإشتمال ومن زعم أنه كذلك مطلقا إذ لا علاقة بينهما بجزئية أو كلية فقد غفل عن أنه على تقدير القول يكون قوله تعالى : إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم
26
- المعلل به النهي من جملة المقول وهو إنذار خاص فيكون ذلك بعضا له أو كلا على الإدعاء والظاهر أن المراد باليوم يوم القيامة وجوز أن يكون يوم الطوفان ووصفه بالأليم أي المؤلم على الإسناد المجازي لأن المؤلم هو الله سبحانه نزل الظرف منزلة الفاعل نفسه لكثرة وقوع الفعل فيه فجعل كأنه وقع الفعل منه وكذا وصف العذاب بذلك في غير موضع من القرآن العظيم ويمكن إعتباره هنا أيضا وجعل الجر للجوار ووجه التجوز حينئذ أنه جعل وصف الشيء لقوة تلبسه به كأنه عينه فأسند إليه ما يسند إلى الفاعل ونظير ذلك على الوجهين نهاره صائم وجد جده وقد يقال : إن وصف العذاب بالإيلام حقيقة عرفية ومثله يعد فاعلا في اللعة فيقال : آلمه العذاب من غير تجوز قيل : وهذه المقالة وكذا ما في معناها مما قص في غير آية لما لم تصدر عنه عليه السلام مرة واحدة بل كان يكررها في مدته المتطاولة حسبما نطق به قوله تعالى حكاية عنه : رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا الآيات عطف على فعل الإرسال المقارن لها أو القول المقدر بعده جوابهم المعترض لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه بعد اللتيا والتي بالفاء التعقيبية فقال سبحانه : فقال الملأ الذين كفروا من قومه أي الأشراف منهم وهو كما قال غير واحد من قولهم : فلأن مليء بكذا إذا كان قادرا عليه لأنهم ملئوا بكفاية الأمور وتدبيرها أو لأنهم متمالئون أي متظاهرون متعاونون أو لأنهم يملأون القلوب جلالا والعيون جمالا والأكف نوالا أو لأنهم مملؤون بالآراء الصائبة والأحلام الراجحة على أنه من الملأ لازما ومتعديا
(12/36)

ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة
ما نراك إلا بشرا مثلنا أرادوا ما أنت إلا بشر مثلنا ليس فيك مزية تخصك من بيننا بالنبوة ولو كان ذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل لكن لا نراه وكذا الحال في وما نراك أتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي فالفعلان من رؤية العين وبشرا وإتبعك حالان من المفعول بتقدير قد في الثاني أو بدونه على الخلاف ويجوز أن يكونا من رؤية القلب وهو الظاهر فهما حينئذ المفعول الثاني وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا البشرية فقط ويفهم من الكشاف أن في الآية وجهين : الأول أنهم أرادوا التعريض بأنهم أحق بالنبوة كأنهم قالوا : هب أنك مثلنا في الفضيلة والمزية من كثرة المال والجاه فلم إختصصت بالنبوة من دوننا والثاني أنهم أرادوا أنه ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا وتعقب هذا بأن فيه إعتزالا خفيا وقد بينه العلامة الطيبي ونوزع في ذلك ففي الكشف أن قولهم مثلنا علية لتحقيق البشرية وقولهم وما نراك اتبعك إلخ استدلال بأنهم ضعفاء العقول لا تمييز لهم فجوزوا أن يكون الرسول بشرا وقولهم الآتي وما نرى لكم علينا من فضل تسجيل بأن دعوة النبوة باطلة لإدخاله عليه السلام والأراذل في سلك على أسلوب يدل على أنهم أنقص البشر فضلا عن الإرتقاء وليس في هذا الكلام إعتزال خفي ولا المقام عنه أبي إنتهى
وفي الإنتصاف يجوز أن يكونوا قد أرادوا الوجهين جميعا كأنهم قالوا : من حق الرسول أن يكون ملكا لا بشرا وأنت بشر وإن جاز أن يكون الرسول بشرا فنحن أحق منك بالرسالة ويشهد لإرادتهم الأولى قوله في الجواب ولا أقول إني ملك ويشهد لأرادتهم الثانية وما نرى لكم إلخ والظاهر أن مقصودهم ليس إلا إثبات أنه عليه السلام مثلهم وليس فيه مزية يترتب عليها النبوة ووجوب الإطاعة والإتباع ولعل قولهم وما نراك اتبعك إلخ جواب عما يرد عليهم من أنه عليه السلام ليس مثلهم حيث إتبعه من وفق لإتباعه فكأنهم قالوا : إنه لم يميزك إتباع من إتبعك فيوجب علينا إتباعك لأنه لم يتبعك إلا الذين هم أراذلنا أي أخساؤنا وأدانينا وهو جمع أرذل الأغلب الأقيس في مثله إذا أريد جميعا أن يجمع جمع سلامة كالأخسرون جمع أخسر لكنه كسر هنا لأنه صار بالغلبة جاريا مجرى الإسم ولذا جعل في القاموس الرذل والأرذل بمعنى وهو الخسيس الدنيء ومعنى جريانه مجرى الإسم أنه لا يكاد يذكر الموصوف معه كالأبطح والأبرق
وجوز أن يكون جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع ونظير ذلك أكالب وكلب وكونه جمع رذل مخالف للقياس وإنما لم يقولوا : إلا أراذلنا مبالغة في إسترذالهم وكأنهم إنما إسترذلوهم لفقرهم لأنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكثر منها حظا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه ومثل هؤلاء في الجهل كثير من أهل هذا الزمان عافانا الله سبحانه مما هم فيه من الخذلان والحرمان وكان القوم على ما في بعض الأخبار حاكة وأساكفة وحجامين وأرادوا بقولهم بادي الرأي ظاهره وهو ما يكون من غير تعمق والرأي من رؤية الفكر والتأمل وقيل : من رؤية العين وليس بذاك
وجوز أن يكون البادي بمعنى الأول وهو على الأول من البدو وعلى الثاني من البدء والياء مبدلة
(12/37)

من الهمزة لإنكسار ما قبلها وقد قرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي بها وإنتصابه على القراءتين على الظرفية لأتبعك على معنى إتبعوك في ظاهر رأيهم أو أوله ولم يتأملوا ولم يتثبتوا ولو فعلوا ذلك لم يتبعوك وغرضهم من هذا المبالغة في عدم إعتبار ذلك الإتباع وجعل ذلك بعضهم علة الإسترذال وليس بشيء وقيل : المعنى إنهم إتبعوك في أول رأيهم أو ظاهره وليسوا معك في الباطن
وإستشكل هذا التعلق بأن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا إذا كان مستثنى منه ما قام إلا زيدا القوم أو مستثنى نحو جاء القوم إلا زيدا أو تابعا للمستثنى منه نحو ما جاءني أحد إلا زيدا خير من عمرو و بادي الرأي ليس واحدا من هذه الثلاثة في بادي الرأي وأجيب بأنه يغتفر ذلك في الظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره وإستشكل أمر الظرفية بأن فاعلا ليس بظرف في الأصل وقال مكي : إنما جاز في فاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل كقريب ومليء لإضافته إلى الرأي وهو كثيرا ما يضاف إلى المصدر الذي يجوز نصبه على الظرفية نحو جهد رأيي أنك منطلق
وقال الزمخشري : وتابعه غيره أن الأصل وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه ولعل تقدير الوقت ليكون نائبا عن الظرف فينتصب على الظرفية وإعتبار الحدوث بناءا على أن إسم الفاعل لا ينوب عن الظرف وينتصب والمصدر ينوب عنه كثيرا فأشاروا بذكره إلى أنه متضمن معنى الحدوث بمعنييه فلذا جاز فيه ذلك وليس مرادهم أنه محذوف إذ لا داعي لذلك في المعنى على التفسيرين وما ذكروه هنا من أن الصفات لا ينوب منها عن الظرف إى فعيل من الفوائد الغريبة كما قال الشهاب لكن إستدركه بالمنع لأن فاعلا وقع ظرفا كثيرا كفعيل وذلك مثل خارج الدار وباطن الأمر وظاهره وغير ذلك مما هو كثير في كلامهم وقيل : هو ظرف لنراك أي ما نراك في أول رأينا أو فيما يظهر منه وقيل : لأراذلنا أي أنهم أراذل في أول النظر أو ظاهره لأن رذالتهم مكشوفة لا تحتاج إلى تأمل
وقيل : هو نعت لبشرا وقيل : منصوب على أنه حال من ضمير نوح في اتبعك أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة فيك وقيل : إنتصب على النداء لنوح عليه السلام أي يا بادي الرأي أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد وقيل : هو مصدر على فاعل منصوب على المفعولية المطلقة والعامل فيه ما تقدم على تقدير الظرفية
وما نرى لكم خطاب له عليه السلام ولمتبعيه جميعا على سبيل التغليب أي وما نرى لك ولمتبعيك
علينا من فضل أي زيادة تؤهلهم لإتباعنا لكم وعن ابن عباس تفسير ذلك بالزيادة في الخلق والخلق وعن بعضهم تفسيره بكثرة الملك والملك ولعل ما ذكرناه أولى وكأن مرادهم نفي رؤية فضل بعد الإتباع أي ما نرى فيك وفيهم بعد الإتباع فضيلة علينا لنتبع وإلا فهم قد نفوا أولا أفضليته عليه السلام في قولهم ما نراك إلخ وصرحوا بأن متبعيه وحاشاهم أراذل وهو مستلزم لنفي رؤية فضل لهم عليهم وقيل : إن هذا تأكيد لما فهم أولا وقيل : الخطاب لأتباعه عليه السلام فقط فيكون إلتفاتا أي ما نرى لكم علينا شرف في تلك التبعية لنوافقكم فيها وحمل الفضل على التفضل والإحسان في إحتمالي الخطاب على أن يكون مراد الملأ من جوابهم له عليه السلام حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه أنا لا نتبعك ولا نترك ما نحن عليه لقولك لأنك بشر مثلنا ليس فيك
(12/38)

ما يستدعي نبوتك وكونك رسول الله تعالى إلينا بذلك وأتباعك أراذل إتبعوك من غير تأمل وتثبت فلا يدل إتباعهم على أن فيك ما يستدعي ذلك وخفى عنا وأيضا لست ذا تفضل علينا ليكون تفضلك داعيا لنا لموافقتك كيفما كنت ولا أتباعك ذوو تفضل علينا لنوافقهم وإن كانوا أراذل مراعاة لحق التفضل فإن الإنسان قد يوافق الرذيل لتفضله ولا يبالي بكونه رذيلا لذلك مما يدور في الخلد إلا أن في القلب منه شيئا بل نظنكم كاذبين
27
- جميعا لكون كلامهم واحدا ودعوتكم واحدة أو إياك في دعوة النبوة وإياهم في تصديقك قيل : واقتصروا على الظن إحترازا منهم عن نسبتهم إلى المجازفة كما أنهم عبروا بما عبروا أولا لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليه السلام بطريق الآراء على نهج الإنصاف قال إستئناف بياني يقوم أرءيتم أي أخبروني وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور إن كنت على بينة حجة ظاهرة من ربي وشاهد يشهد لي بصحة دعواي وآتاني رحمة من عنده هي النبوة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة من الله تعالى رحمة ونعمة عظيمة منه سبحانه ووجه إفراد الضمير في قوله تعالى : فعميت عليكم أي أخفيت على هذا ظاهر وإن أريد بها النبوة وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالإفراد لإرادة كل واحدة منهما أو لكون الضمير للبينة والإكتفاء بذلك لإستلزام خفاء البينة خفاء المدعي وجملة وآتاني رحمة على هذا معترضة أو لكونه للرحمة وفي الكلام مقدار أي أخفيت الرحمة بعد إخفاء البينة وما يدل عليها وحذف للإختصار وقيل : إنه معتبر في المعنى دون تقدير أو لتقدير عميت غير المذكور بعد لفظ البينة وحذف إختصارا وفيه تقدير جملة قبل الدليل
وقرأ أكثر السبعة فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل وهو من العمى ضد البصر والمراد به هنا الخفاء مجازا يقال : حجة عمياء كما يقال : مبصرة للواضحة وفي الكلام إستعارة تبعية من حيث أنه شبه خفاء الدليل بالعمى في أن كلا منهما يمنع الوصول إلى المقاصد ثم فعل ما لا يخفى عليك وجوز أن يكون هناك إستعارة تمثيلية بأن شبه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك مفازة لا يعرف طرقها وإتبع دليلا أعمى فيها وقيل : الكلام على القلب والأصل فعميتم عنها كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ومنه قول الشاعر :
ترى الثور فيها يدخل الظل رأسه
وقوله سبحانه : فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله وتعقبه أبو حيان بأن القلب عند أصحابنا مطلقا لا يجوز إلا في الضرورة وقول الشاعر ليس منه بل من باب الإتساع في الظرف وكذا الآية ليست منه أيضا لأن أخلف يتعدى إلى مفعولين والوصف منه كذلك ولك أن تضيفه إلى أيهما شئت على أنه لو كان ما ذكر من القلب لكان التعدي بعن دون على ألا ترى أنك تقول : عميت عن كذا ولا تقول : عميت على كذا
وروى الأعمش عن وثاب وعميت بالواو الخفيفة وقرأ أبي والسلمي والحسن وغيرهم فعماها عليكم على أن الفعل لله تعالى وقريء بالتصريح به وظاهر ذلك مع أهل السنة القائلين بأن الحسن والقبيح منه تعالى ولذا أوله الزمخشري حفظا لعقيدته أنلزمكموها أي أنكرهكم على الإهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط
(12/39)

وفي البحر أنه في موضع المفعول الثاني له ومفعوله الأول البينة مقدرا وجواب الشرط محذوف دل عليه أرأيتم أي إن كنت إلخ فأخبروني وحيث إجتمع ضميران ومنصوبان وقد قدم أعرفهما وهو ضمير المخاطب الأعرف من ضمير الغائب جاز في الثاني الوصل والفصل فيجوز في غير القرآن أنلزمكم إياها وهو الذي ذهب إليه ابن مالك في التسهيل ووافقه عليه بعضهم وقال ابن أبي الربيع : يجب الوصل في مثل ذلك ويشهد له قول سيبويه في الكتاب : فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا فبدأت بالمخاطب قبل الغائب فإن علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك نحو أعطيتكه وقد أعطاكه قال الله تعالى : أنلزمكموها فهذا كهذا إذ بدأت بالمخاطب قبل الغائب إنتهى ولو قدم الغائب وجب الإنفصال على الصحيح فيقال : أنلزمها إياكم
وأجاز بعضهم الإتصار وإستشهد بقول عثمان رضي الله تعالى عنه : أراهمني ولم يقل : أراهم إياي وتمام الكلام على ذلك في محله وجيء بالواو تتمة لميم الجمع وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم الأولى تخفيفا ويجوز مثل ذلك عند الفراء وقال الزجاج : أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر كقوله تعالى : فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل وقوله وناع يخبرنا بمهلك سيد تقطع من وجد عليه الأنامل وأما ما روي عن أبي عمرو من الإسكان فلم يضبطه عنه الراوي وقد روى عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها وهذا هو الحق وذكر نحو ذلك الزمخشري وقال : إن الإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين وفي قراءة أبي أنلزمكموها من شطر أنفسنا وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ من شطر قلوبنا أي من تلقائها وجهتها وفي البحر أن ذلك على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف وأنتم لها كارهون
28
- أي لا تختارونها ولا تتأملون فيها والجملة في موضع الحال قال السمين : إما من الفاعل أو من أحد المفعولين وإختير أنها في موضع الحال من ضمير المخاطبين وقدم الجار رعاية للفواصل ومحصول الجواب أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة دعواي إلا أنها خافية عليكم غير مسلمة لديكم أيمكننا أن نكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين فيها أي لا يكون ذلك كذا قرره شيخ الإسلام ثم قال : وظاهره مشعر بصدوره عنه عليه السلام بطريق إظهار اليأس عن إلزامهم والقعود عن محاجتهم كقوله ولا ينفعكم نصحي إلخ لكنه محمول على أن مراده عليه السلام ردهم عن الإعراض عنها وحثهم على التدبر فيها بصرف الإنكار المستفاد من الهمزة إلى الإلزام حال كراهتهم لا إلى الإلزام مطلقا وقال مولانا سعدي جلبي : إن المراد من الإلزام هنا الجبر بالقتل ونحوه لا الإيجاب لأنه واقع فليفهم
وجوز أن يراد بالبينة دليل العقل الذي هو ملاك الفضل وبحسبه يمتاز أفراد البشر بعضها عن بعض وبه تناط الكرامة عند الله عز و جل والإجتباء للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات عليه وبخفائها على الكفرة على أن يكون الضمير للبينة عدم إدراكهم لكونهم عليه السلام عليها وبالرحمة النبوة التي أنكروا إختصاصه عليه السلام بها بين ظهرانيهم ويكون المعنى إنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضيلة على سائر الناس مستتبعة لإختصاصه به دونهم أخبروني إن إمتزت عليكم بزيادة مزية وحيازة فصيلة من ربي وآتاني
(12/40)

بحسبها نبوة من عنده فخفيت عليكم تلك البينة ولم تصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لهما والحال أنكم كارهون لذلك ثم قيل : فيكون الإستفهام للحمل على الإقرار وهو الأنسب بمقام المحاجة وحينئذ يكون كلامه عليه السلام جوابا عن شبهتهم التي أدرجوها في خلال مقالهم من كونه عليه السلام بشرا قصارى أمره أن يكون مثلهم من غير فضل له عليهم وقطعا لشأفة آرائهم الركيكة إنتهى وفيه أن كون معنى أنلزمكموها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها غير ظاهر على أن في أمر التبعية نظرا كما لا يخفى ولعل الإتيان بما أتى به من الشرط من باب المجاراة وإسناد الإلزام لضمير الجماعة إما للتعظيم أو لإعتبار متبعيه عليه السلام معه ذلك ويا قوم ناداهم بذلك تلطفا بهم وإستدراجا لهم لا أسئلكم عليه أي التبليغ المفهوم مما تقدم وقيل : الضمير للإنذار وأفرد الله سبحانه بالعبادة وقيل : للدعاء إلى التوحيد وقيل : غير ذلك وكلها أقوال متقاربة أي لا أطلب منكم على ذلك مالا تؤدونه إلى بعد إيمانكم وأجرا لي في مقابلة إهتدائكم إن أجري إلا على الله فهو سبحانه يثيبني على ذلك في الآخرة ولا بد حسب وعده الذي لا يخلف فالمراد بالأجر الأجر على التبليغ وجوز أن يراد الأجر على الطاعة مطلقا ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا وفي التعبير بالمال أولا وبالأجر ثانيا ما لا يخفى من مزية ما عند الله تعالى على ما عندهم وما أنا بطارد الذين آمنوا قيل : هو جواب عما لوحوا به بقولهم وما نراك إتبعك إلا الذين هم أراذلنا من أنه لو إتبعه الأشراف لوافقوهم وإن إتباع الفقراء مانع لهم هم ذلك كما صرحوا به في قولهم أنؤمن لك واتبعك الأرذلون فكان ذلك التماسا منهم لطردهم وتعليقا لإيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الإنتظام معهم في سلك واحد إنتهى والمروي عن ابن جريج أنهم قالوا له يا نوح : إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء وذلك كما قال قريش للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم : أطرد هؤلاء عنك ونحن نتبعك فإنا نستحي أن نجلس معهم في مجلسك فهو جواب عما لم يذكر في النظم الكريم لكن فيه نوع إشارة إليه وقريء بطارد بالتنوين قال الزمخشري : على الأصل يعني أن إسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الإستقبال فأصله أن يعمل ولا يضاف وهو ظاهر كلام سيبويه واستدرك عليه أبو حيان بأنه قد يقال : إن الأصل الإضافة لأنه قد إعتوره شبهان : أحدهما شبهه بالمضارع وهو شبه بغير جنسه والآخر شبهه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة وإلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه إنتهى وربما يقال : إن أولوية إلحاقه بالأسماء إنما يتم القول بها إذا كانت الإضافة في الأسماء هي الأصل وليس فليس إنهم ملقوا ربهم تعليل للإمتناع من طردهم كأنه قيل : لا أطردهم ولا أبعدهم عن مجلسي لأنهم من أهل الزلفى المقربون الفائزون عند الله تعالى وإنفهام الفوز بمعونة المقام وإلا فملاقاة الله تعالى تكون للفائز وغيره أو أنهم ملاقوا ربهم فيخاصمون طاردهم عنده فيعاقبه على ما فعل وحمله على أنهم مصدقون في الدنيا بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطردهم خلاف الظاهر على أن هذا التصديق من توابع الإيمان وقيل : المعنى إنهم يلاقونه تعالى فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء أمرهم على باديء الرأي من غير تعمق في الفكر وما على أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون وفيه أنه مع كونه
(12/41)

مبينا على أن سؤال الطرد لعدم إخلاصهم لا لاسترذالهم وحاله أظهر من أن يخفى يأباه الجزم بترتب غضب الله تعالى على طردهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى ولكني أراكم قوما تجهلون
29
- أي بكل ما ينبغي أن يعلم ويدخل فيه جهلهم بمنزلتهم عند الله تعالى وبما يترتب من المحذور على طردهم وبركاكة رأيهم في التماس ذلك وتوقيف إيمانهم عليه وغير ذلك وإيثار صيغة الفعل للدلالة على التجدد والإستمرار وعبر بالرؤية موافقة لتعبيرهم وجوز أن يكون الجهل بمعنى الجناية على الغير وفعل ما يشق عليه لا بمعنى عدم العلم المذموم وهو معنى شائع كما في قوله : ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا أي ولكني أراكم قوما تتسفهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخساسة ويا قوم من ينصرني من الله أي من يصونني منه تعالى ويدفع عني حلول سخطه والإستفهام للإنكار أي لا ينصرني أحد من ذلك إن طردتهم وأبعدتهم عني وهم بتلك المثابة والزلفى منه تعالى وفي الكلام ما لا يخفى من تهويل أمر طردهم أفلا تذكرون
30
- أي أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل فلا تتذكرون ما ذكر من حالهم حتى تعرفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب قيل : ولكون هذه العلة مستقلة بوجه مخصوص ظاهر الدلالة على وجوب الإمتناع عن الطرد أفردت عن التعليل السابق وصدرت بياقوم ولا أقول لكم عندي خزائن الله شروع على ما قال غير واحد في دفع الشبه التي أوردوها تفصيلا وذلك من قبيل النشر المشوش ثقة بعلم السامع وتخلل بين شبههم وجوابها على ما قال العلامة الطيبي لأنه مقدمة وتمهيد للجواب وبينه بأن قوله يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده إثبات لنبوته يعني ما قلت لكم إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إلا عن بينة على إثبات نبوتي وصحة دعوتي لكن خفيت عليكم وعميت حتى أوردتم تلك الشبه الواهبة ومع ذلك ليس نظري فيما إدعيت إلا إلى الهداية وإني لا أطمع بمال حتى ألازم الأغنياء منكم وأطرد الفقراء وأنتم تجهلون هذا المعنى حيث تقولون : أطرد الفقراء وأن الله سبحانه ما بعثني إلا للترغيب في طلب الآخرة ورفض الدنيا فمن ينصرني إن كنت أخالف ما جئت به ثم شرع فيما شرع وفي الكشف إن قوله أرأيتم الآية جواب إجمالي عن الشبه كلها مع التعبير بأنهم لا يرجعون فيما يرمون إلى أدنى تدبر وقوله ويا قوم لا أسئلكم تتميم للتعبير وحث على ما ضمنه من التشويق إلى ما عنده وقوله ما أنا بطارد تصريح بجواب ما ضمنوه في قولهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا من خسة الشركاء وأنه لولا مكانهم لكان يمكن الإتباع إظهارا للتصلب فيها هو فيه وأن ما يورده ويصده عن برهان من الله تعالى يوافيه وأنى يدع الحق الأبلج بالباطل اللجلج ثم شرع في الجواب التفصيلي بقوله ولا أقول إلخ وهو أحسن مما ذكره الطيبي وجعلوا هذا ردا لقولهم وما نرى لكم إلخ كأنه يقول : عدم إتباعي وتكذيبي إن كان لنفيكم عني فضل المال والجاه فأنا لم أدعه ولم أقل لكم إن خزائن رزق الله تعالى وماله عندي حتى أنكم تنازعوني في ذلك وتنكرونه وإنما كان مني دعوى الرسالة المؤيدة بالمعجزات ولعل جوابه عليه السلام عن ذلك من حيث أنه معنى به مستتبع للجواب عنه من حيث أنه عني به متبعوه عليه السلام أيضا وجعله جوابا عن قولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا كما جوزه الطبرسي ليس بشيء وحمل الخزائن على ما أشرنا إليه هو المعول عليه
(12/42)

وقال الجبائي : وأبو مسلم : إن المراد بها مقدورات الله تعالى أي لا أقول لكم حين أدعي النبوة عندي مقدورات الله تعالى فأفعل ما أشاء وأعطي ما أشاء وأمنع ما أشاء وليس بشيء ومثله بل أدهى وأمر قول ابن الأنباري : إن المراد بها غيوب الله تعالى وما إنطوى عن الخلق وجعل ابن الخازن هذه الجملة عطفا على لا أسألكم إلخ والمعنى عنده لا أسألكم عليه مالا ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى إتباعي عليها لأعطيكم منها ولا أعلم الغيب عطف على عندي خزائن الله المقول للقول وذكر معه النفي مع أن العطف على مقعول القول المنفي منفي أيضا من غير أن يذكر معه أداة نفي لتأكيد النفي السابق والتذكير به ودفع إحتمال أن لا يقول هذا المجموع فلا ينافي أن يقول أحدهما أي ولا أقول أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني لاستبعاد ذلك وما ذكرت من دعوى النبوة والإنذار بالعذاب إنما هو بوحي وإعلام من الله تعالى مؤيد بالبينة والغيب ما لم يوح به ولم يقم عليه دليل ولعله إنما لم ينف عليه السلام القول بعلم الغيب على نحو ما فعل في السابق واللاحق مبالغة في نفي هذه الصفة التي ليس لأحد سوى الله تعالى منها نصيب أصلا ويجوز عطفه على أقول أي لا أقول لكم ذلك ولا أدعي علم الغيب في قولي إني نذير مبين إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم حتى تسارعوا إلى الإنكار والإستبعاد وقيل : هو معطوف على هذا أو ذاك إلا أن المعنى لا أعلم الغيب حتى أعلم أن هؤلاء إتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب ولا يخفى حاله وإعترض على الأول بأنه غير ملائم للمقام ثم قيل : والظاهر أنه صلى الله عليه و سلم حين إدعى النبوة سألوه عن المغيبات وقالوا له : إن كنت صادقا أخبرنا عنها فقال : أنا أدعي النبوة بآية من ربي ولا أعلم الغيب إلا بإعلامه سبحانه ولا يلزم أن يذكر ذلك في النظم الكريم كما أن سؤال طردهم كذلك إنتهى وفيه أن زعم عدم الملاءمة ليس على ما ينبغي وأيضا لا يخفى أنه لا قرينة تدل على وقوعه جوابا لما لم يذكر وأما سؤال طردهم فإن الإستحقار قرينة عليه في الجملة وقد صرح بعض السلف به ومثله لا يقال من قبل الرأي ولا أقول إني ملك رد لقولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا أي لا أقول ترويجا لما أدعيه من النبوة إني ملك حتى تقولوا لي ذلك وتكذبوني فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من مباديها يعني كما قيل : إنكم إتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي يتعلق بشيء منها وإنما الذي أدعيه يتعلق بالفضائل التي تتفاوت بها مقادير البشر وقيل : أراد بهذا لا أقول : إني روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بل إنما أنا بشر مثلكم فلا معنى لردكم علي بقولكم ما نراك إلا بشرا مثلنا وعلى القولين لا دليل فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم السلام خلافا لمن إستدل به وجعل ذلك كلاما آخر ليس ردا لما قالوه سابقا مما لا وجه له فتدبر ولآ أقول للذين تزدري أعينكم أي تستحقرهم والأصل تزتري بالتاء إلا أنها قلبت دالا لتجانس الزاي في الجهر لأنها من المهموسة وأصل الإزدراء الإعابة يقال : إزدراه إذا عابه والتعبير بالمضارع للإستمرار أو لحكاية الحال لأن الإزدراء قد وقع وإسناده إلى الأعين مجاز للمبالغة في رأي من حيث أنه إسناد إلى الحاسة التي لا يتصور منها تعييب أحد فكأن من لا يدرك ذلك يدركه وللتنبيه على أنهم إستحقروهم بادي الرؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل وتدبر في معانيهم وكمالاتهم وعائد الموصول محذوف كما أشرنا إليه واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد يؤتيكم أي لا أقول مساعدة لكم ونزولا على هواكم في شأن الذين إسترذلتموهم وإستحقرتموهم لفقرهم من المؤمنين
(12/43)

أن يؤتيهم الله خيرا في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله سبحانه يؤتيهم خيري الدارين
الله أعلم بما في أنفسهم مما يستعدون به لإيتاء ذلك وفي إرشاد العقل السليم من الإيمان وفيه توجيه لعطف نفي هذا القول الذي ليس مما يستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه عليه السلام أصالة وإستتباعا على نفي هاتيك الأقوال التي هي مما يستنكرونه ويتوهمون صدوره عنه عليه السلام إن ذلك من جهة أن كلا النفيين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة من إدعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وأن العثور على مكانها وإغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل فأجاب عليه السلام بنفي ذلك جميعا فكأنه قال : لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير وإقتصر عليه السلام على نفي القول المذكور مع أنه عليه السلام جازم بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيرا عظيما في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جريا على سنن الإنصاف مع القوم وإكتفاءا بمخالفة كلامهم وإرشادا لهم إلى مسك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجارف فيما ليس فيه على بينة إنتهى وأنت تعلم أنه عليه السلام قد بت القول بفوز هؤلاء في قوله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم بناءا على أنهم المعنيون بالذين آمنوا وأن المراد من كونهم ملاقوا ربهم مقربون في حضرة القدس كما قال به غير واحد وكذا الحكم إذا كان المعنى بالموصول من إتصف بعنوان الصلة مطلقا إذ يدخلون فيه دخولا أوليا لما أن المسئول صريحا أو تلويحا طردهم ولعل البت تارة وعدمه أخرى لإقتضاء المقام وذلك وأن في كون الكفرة قد زعموا أن العثور على مكان النبوة وإغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل خفاءا مع دعوى أنهم لوحوا بقولهم وما نراك اتبعك إلخ الذي هو مظنة ذلك الزعم إلى إلتماس طردهم وتعليق إيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الإنتظام معهم في سلك واحد
وفي البحر أن معنى ولا أقول للذين إلخ ليس إحتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله تعالى ولا يبطل أجورهم ولست أحكم عليهم بشيء من هذا وإنما الحكم بذلك للذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه وقيل : إن هذا رد لقولهم وما نراك اتبعك إلخ 2 على معنى لست أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير لظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم الله أعلم بما في نفوسهم إنتهى ولا يخفى ما فيه
وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي أنه فسر الخير بالإيمان أي لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله إيمانا وإستشكل بأن الظاهر أن المراد بالموصول أولئك المتبعون المسترذلون وهم مؤمنون عندهم فلا معنى لنفي القول بإيتاء الله تعالى إياهم الإيمان مساعدة لهم ونزولا على هواهم
وأجيب بأن المراد من هذا الإيمان هو المعتد به الذي لا يزول أصلا كما ينبيء عن ذلك التعبير عنه بالخير وهم إنما أثبتوا لهم الإتباع بادي الرأي وأرادوا بذلك أنهم آمنوا إيمانا لا ثبات له ويجعل ذلك ردا لذلك القول ويراد من لن يؤتيهم ما آتاهم فكأنهم قالوا : إنهم إتبعوك وآمنوا بك بلا تأمل ومثل ذلك الإيمان في معرض الزوال فهم لا يثبتون عليه ويرتدون فرد عليهم عليه السلام بأني لا أحكم على أولئك بأن الله تعالى ما آتاهم إيمانا لا يزول وأنهم سيرتدون كما زعمتم ويكون قوله عليه السلام : الله أعلم بما في أنفسهم تفويضا للحكم بذلك إليه تعالى أو إشارة إلى جلالة ما آتاهم الله تعالى إياه من الإيمان كما يقال الله تعالى :
(12/44)

أعلم بما يقاسي زيد من عمرو إذا كان ما يقاسيه منه أمرا عظيما لا يستطاع شرحه فكأنه قيل : إن إيمانهم عظيم القدر جليل الشأن فكيف أقول لن يؤتيهم الله تعالى إيمانا ثابتا وفيه من التكلف والتعسف ما الله تعالى به أعلم وحمل الموصوف على أناس مسترذلين جدا غير أولئك ولم يؤمنوا بعد أي لا أقول للذين تزدريهم أعينكم ولم يؤمنوا بعد لن يوفقهم الله تعالى للإيمان حيث كانوا في غاية من رثاثة الحال والدناءة التي تزعمونها مانعة من الخير الله أعلم بما في أنفسهم مما يتأهلون به لإفاضة التوفيق عليهم وهو المدار لذلك لا الأحوال الظاهرة مما لا أقول به إني إذا أي إذا قلت ذلك لمن الظالمين
31
- لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم أو من الظالمين لأنفسهم بذلك وفيه تعريض بأنهم ظالمون في إزدرائهم وإسترذالهم
ويجوز أن يكون إذا قلت شيئا مما ذكر من حيازة الخزائن وإدعاء علم الغيب والملكية ونفي إيتاء الله تعالى أولئك الخير والقوم لمزيد جهلهم محتاجون لأن يعلل لهم نحو الأقوال الأول بلزوم الإنتظام في زمرة الظالمين
قالوا يا نوح قد جادلتنا أي خاصمتنا ونازعتنا وأصله من جدلت الحبل أي أحكمث فتله ومنه الجديل وجدلت البناء أحكمته ودرع مجدولة والأجدل الصقر المحكم البينة والمجدل القصر المحكم البناء وسميت المنازعة جدالا لأن المتجادلين كأنهما يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه وقيل : الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة فأكثرت جدالنا عطف على ما قبله على معنى شرعت في جدالنا فأطلته أو أتيت بنوع من أنواع الجدال فأعقبته بأنواع أخر فالفاء على ظاهرها ولا حاجة إلى تأويل جادلتنا بأردت جدالنا كما قاله الجمهور في فوله تعالى : إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ونظير ذلك جادل فلان فأكثر وجعل بعضهم مجوع ذلك كناية عن التمادي والإستمرار
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جدلنا وهو كما قال ابن جني إسم بمعنى الجدال ولما حجهم عليه السلام وأبرز لهم ما ألقمهم به الحجر ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل وقالوا : فأتنا بما تعدنا من العذاب المعجل وجوز أن يكون المراد به العذاب الذي أشير إليه في قوله : إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم بناءا على أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة و ما موصولة والعائد محذوف أي بالذي تعدنا به وفي البحر تعدناه وجوز أن تكون مصدرية وفيه نوع تكلف إن كنت من الصادقين
32
- في حكمك بلحوق العذاب إن لم نؤمن بك
قال إنما يأتيكم به الله إن شاء أي إن ذلك ليس إلى ولا مما هو داخل تحت قدرتي وإنما هو لله عز و جل الذي كفرتم به وعصيتم أمره يأتيكم به عاجلا أو آجلا إن تعلقت به مشيئته التابعة للحكمة وفيه كما قيل : ما لا يخفى من تهويل الموعود فكأنه قيل : الإتيان به أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله تعالى
وفي الإتيان بالإسم الجليل الجامع تأكيد لذلك التهويل وما أنتم بمعجزين بمصيريه سبحانه وتعالى عاجزا بدفع العذاب أو الهرب منه والباء زائدة للتأكيد والجملة الإسمية للإستمرار والمراد إستمرار النفي وتأكيده لا نفي الإستمرار والتأكيد وله نظائر ولا ينفعكم نصحي النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح وهو كلمة جامعة وقيل : هو إعلام مواقع الغي ليتقي ومواضع الرشد ليقتفي وهو من قولهم : نصحت له الود أي أخلصته
(12/45)

وناصح العسل خالصه أو من قولهم نصحت الجلد خطته والناصح الخياط والنصاح الخيط وقرأ عيسى ابن عمر الثقفي نصحي بفتح النون وهو مصدر وعلى قراءة الجماعة على ما قال أبو حيان يحتمل أن يكون مصدرا كالشكر وأن يكون إسما إن أردت أن أنصح لكم شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه وليس جوابا له لإمتناع تقدم الجواب على الشرط على الأصح الذي ذهب إليه البصريون أي إن أردتم أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي والجملة كلها دليل جواب قوله سبحانه : إن كان الله يريد أن يغويكم والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي وجعلوا الآية من باب إعتراض الشرط على الشرط وفي شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان مثلا كقولك : إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك فالجواب للأول وإستغنى به عن جواب الثاني وزعم ابن مالك أن الشرط الثاني مقيد للأول بمنزلة الحال فكأنه قيل في المثال : إن جئتني في حال وعدي لك أحسنت إليك والصحيح في المسألة أن الجواب للأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الثاني وجوابه عليه فإذا قلت : إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر فأنت حر جواب إن دخلت وهو وجوابه دليل جواب إن كلمت وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء والدليل على الجواب جواب في المعنى والجواب متأخر فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني فكأنه قيل إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقع هكذا مجيء ثم كلام ثم دخول وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وليس مذهب الإمام الشافعي فقط وقال بعض الفقهاء : إن الجواب للأخير والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني والشرط الثاني وجوابه جواب الأول وعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء وقال بعضهم : إذا إجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحو إن جئتني أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك وإن كان بالواو فالجواب لهما وإن كان بالفاء فالجواب للثاني وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف وإدعى ابن هشام أن في كون الآية من ذلك الباب نظرا قال : إذ لم يتوال شرطان وبعدهما جواب كما فيما سمعت من الأمثلة وكما في قول الشاعر : إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معاقل عز زانها كرم إذ لم يذكر فيها جواب وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للأول فينبغي أن يقدر إلى جانبه ويكون الأصل إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم وأما أن يقدر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدما إلى جانب الشرط الأول فلا وجه له إنتهى
وقد ألف في المسألة رسالة كما قال الجلال السيوطي وأوردها في حاشيته على المغنى حسنة ولا يخفى عليك أن المقدر في قوة المذكور والكثير في توالي شرطين بدون عاطف تأخره سماعا فيقدر كذلك ويجري عليه حكمه
والكلام على ما تقدم متضمن لشرطين مختلفين : أحدهما جواب للآخر وقد جعل المتأخر في الذكر متقدما في المعنى على ما هو المعهود في المسألة وهو عند الزمخشري على ما قيل شرطية واحدة مقيدة حيث جعل لا ينفعكم دليل الجواب لأن كان وجعل إن أردت قيدا لذلك نظير إن أحسنت إليك إن أمكنني فتأمل والكلام متعلق بقولهم : قد جادلتنا فأكثرت جدالنا صدر عنه عليه السلام إظهارا للعجز عن ردهم
(12/46)

عما هم عليه من الضلال بالحجج والبينات لفرط تماديهم في العناد وإيذانا بأن ما سبق منه إنما كان بطريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وأنه لم يأل جهدا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادته سبحانه لإغوائهم وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محالة للإيذان بأن ذلك النصح مقارن للإرادة والإهتمام به ولتحقيق المقابلة بين ذلك وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم وإنما إقتصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للإهتمام به لا يجديهم نفعا عند مجرد إرادة الله تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم وزيادة كان للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانا كتقدمه رتبة وللدلالة على تجددها وإستمرارها وقدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم : فأتنا بما تعدنا من قوله : إنما يأتيكم به الله إن شاء ردا عليهم من أول الأمر وتسجيلا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من إتصال الجواب بالسؤال قال ذلك مولانا شيخ الإسلام ثم إن إن أردت إن أبقي على الإستقبال لا ينافي كونه نصحهم في الزمن الماضي وقيل : إنه مجاراة لهم لإستظهار الحجة لأنهم زعموا أن ما فعله ليس بنصح إذ لو كان نصحا قبل منه واللام في لكم ليست للتقوية كما قد يتوهم لتعدي الفعل بنفسه كما في قوله : نصحت بني عوف فلم يتقبلوا رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي لما في الصحاح أنه باللام أفصح وفي الآية دليل على أن إرادة الله تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده سبحانه محال وإلا لم تصدق الشرطية الدالة على لزوم الجواب للشرط والمعتزلة وقعوا في حيص بيص منها وإختلفوا في تأويلها فقيل : إن يغويكم بمعنى يهلككم من غوى الفصيل إذا بشم من كثرة شرب اللبن فهلك وقد روي مجيء الغوي بمعنى الهلاك الفراء وغيره وأنكره مكي
وقيل : إن الإغواء مجاز عن عقوبته أي إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم
وقيل : إن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى أراد إغوائهم فأخرج عليه السلام ذلك مخرج التعجب والإنكار أي إن نصحي لا ينفعكم إن كان الأمر كما تزعمون وقيل : سمى ترك إلجائهم تخليتهم وشأنهم إغواء مجازا وقيل : إن نافية أي ما كان الله يريد أن يغويكم ونفي ذلك دليل على نفي الإغواء ويكون لا ينفعكم نصحي إلخ إخبارا منه عليه السلام لهم وتعزية لنفسه عنهم لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة الظاهر المعروف في الإستعمال وإرتكاب ما لا ينبغي إرتكاب مثله في كلام الملك المتعال
ومن الناس من إعترض الإستدلال بأن الشرطية لا تدل على وقوع الشرط ولا جوازه فلا يتم ولا يحتاج إلى التأويل ولا إلى القال والقيل ودفع بأن المقام ينبو عنه لعدم الفائدة في مجرد فرض ذلك فإن أرادوا إرجاعه إلى قياس إستثنائي فأما أن يستثنى عين المقدم فهو المطلوب أو نتميض التالي فخلاف الواقع لعدم حصول النفع
وبالجملة الآية ظاهرة جدا فيما ذهب إليه أهل السنة والله سبحانه الموفق هو ربكم أي خالقكم ومالك أمركم وإليه ترجعون
34
- فجازيكم على أفعالكم لا محالة
أم يقولون افتراه قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يعني نوحا عليه السلام أي بل أيقول قوم نوح أن نوحا افترى ما جاء مسندا إلى الله عز و جل قل يا نوح إن افتريته بالفرض البحت
(12/47)

فعلى إجرامي أي وباله فهو على تقدير مضاف أو على التجوز بالسبب عن المسبب وفسر الإجرام بكسب الذنب وهو مصدر أجرم وجاء على قلة جرم ومن ذلك قوله : طريد عشيرة ورهين ذنب بما جرمت يدي وجنى لساني وقريء أجرامي بفتح الهمزة على أنه كما قال النحاس : جمع جرم وإستشكل العز بن عبدالسلام الشرطية بأن الإفتراء المفروض هنا ماض والشرط يخلص للإستقال بإجماع أئمة العربية وأجاب أن المراد كما قال ابن السراج إن ثبت أني إفتريته فعلى إجرامي على ما قيل في قوله تعالى : إن كنت قلته فقد علمته وأنا بريء مما تجرمون أي من إجرامكم في إسناد الإفتراء إلى قيل : والأصل إن إفتريته فعلى عقوبة إفترائي ولكنه فرض محال وأنا بريء من إفترائكم أي نسبتكم إياي إلى الإفتراء وعدل عنه إدماجا لكونهم مجرمين وأن المسألة معكوسة وحملت ما على المصدرية لما في الموصولية من تكلف حذف العائد مع أن ذلك هو المناسب لقوله إجرامي فيما قبل وما يقتضيه كلام ابن عباس من أن الآية من تتمة قصة نوح عليه السلام وفي شأنه هو الظاهر وعليه الجمهور وعن مقاتل أنه في شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع مشركي مكة أي بل أيقول مشركو مكة إفترى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خبر نوح قيل : وكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقا لحقيقتها وتأكيدا لوقوعها وتشويقا للسامعين إلى إستماعها لا سيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه عليه السلام وبين قومه من المحاجة وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم ولا يخفى أن القول بذلك بعيد وإن وجه بما وجه وقال في الكشف : إن كونها في شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أظهر وأنسب من كونها من تتمة قصة نوح عليه السلام لأن أم يقولون افتراه كالتكرير لقوله سبحانه : أم يقولون افتراه دلالة على كمال العناد وأن مثله بعد الإتيان بالقصة على هذا الأسلوب المعجز مما لا ينبغي أن ينسب إلى إفتراء فجاء زيادة إنكار على إنكار كأنه قيل : بل أمع هذا البيان أيضا يقولون افتراه وهو نظير إعتراض قوله سبحانه في سورة العنكبوت : وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم بين قصة إبراهيم عليه السلام في أحد الوجهين إنتهى ولا أراه معولا عليه
وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن إقناط له عليه السلام من إيمانهم وإعلام بأنه لم يبق فيهم من يتوقع إيمانه أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن نوحا عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم وإتفق أن جاءه رجل ومعه إبنه وهو يتوكأ على عصا فقال : يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك قال : يا أبت أمكني من العصا فأخذ العصا ثم قال : ضعني على الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء فقال نوح عليه السلام : رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك حاجة فاهدهم وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله تعالى إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن وقال سبحانه : يا نوح إنه لن يؤمن إلخ والمراد بمن آمن قيل : من إستمر على الإيمان وللدوام حكم الحدوث ولذا لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال حنث وقيل : المراد إلا من قد إستعد للإيمان و توقع منه و لا يراد ظاهره و إلا كان المعنى إلا من آمن فإنه يؤمن و أورد عليه أنه مع بعده
(12/48)

يقتضي أن من القوم من آمن بعد ذلك وهو ينافي تقنيطه من إيمانهم وقد يقال : المراد ما هو الظاهر والإستثناء على حد الإستثناء في قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف على ما قاله غير واحد فيفيد الكلام الإقناط على أتم وجه وأبلغه أي لن يحدث من قومك إيمانا ويحصله بعد إلا من قد أحدثه وحصله قبل وذلك مما لا يمكن لما فيه من تحصيل الحاصل وإحداث المحدث فإحداث اإيمان وتحصيله بعد مما لا يكون أصلا وفي الحواشي الشهابية لو قيل : إن الإستثناء منقطع وأن المعنى لا يؤمن أحد بعد ذلك غير هؤلاء لكان معنى بليغا فتدبر وقرأ أبو البر هسم وأوحى مبنيا للفاعل وأنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين وعلى إجراء أوحى مجرى قال على مذهب الكوفيين وإستدل بالآية من أجاز التكليف بما لا يطاق
فلا تبتئس بما كانوا يفعلون
36
- أي لا تلتزم البؤس ولا تحزن بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والإستهزاء والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد حان وقت الإنتقام منهم وأصنع الفلك بأعيننا عطف على فلا تبتئس والأمر قيل : للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها وقيل : للإباحة وليس بشيء وأل في الفلك إما للجنس أو للعهد بناءا على أنه أوحي إليه عليه السلام من قبل أن الله سبحانه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء يصنعه بأمره تعالى من شأنه كيت وكيت وإسمه كذا والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل والأعين حقيقة في الجارحة وهي جارية مجرى التمثيل كأن لله سبحانه أعينا تكلؤه من تعدي الكفرة ومن الزيغ في الصنعة والجمع للمبالغة وقد إنسلخ عنه لإضافته على ما قيل معنى القلة وأريد به الكثرة وحينئذ يقوي أمر المبالغة وزعم بعضهم أن الأعين بمعنى الرقباء وأن في ذلك ما هو من أبلغ أنواع التجريد وذلك أنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته مبالغة بكمالها كما أنشد أبو علي : أفات بنو مروان ظلما دماءنا وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل وقد جرد ههنا من ذات المهيمن جماعة الرقباء وهو سبحانه الرقيب نفسه وقيل : إن ملابسة العين كناية عن الحفظ وملابسة الأعين لمكان الجمع كناية عن كمال الحفظ والمبالغة فيه ونظير ذلك بسط اليد وبسط اليدين فإن الأول كناية عن الجود والثاني عن المبالغة فيه وجوز أن يكون المراد الحفظ الكامل على طريقة المجاز المرسل لما أن الحفظ من لوازم الجارحة وقيل : المراد من أعيننا ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك والجمع حينئذ على حقيقته لا للمبالغة ويفهم من صنيع بعضهم أن هذا من المتشابه والكلام فيه شهير ففي الدر المنثور عند الكلام على هذه الآية أخرج البيهقي عن سفيان بن عيينة قال : ما وصف الله تبارك وتعالى نفسه في كتابه فقراءته تفسيره ليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية وقرأ أبو طلحة ابن مصرف بأعينا بالإدغام ووحينا إليك كيف تصنعها وتعليمنا أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن إجعل رأسها كرأس الديك وجؤجؤها كجؤجؤ الطير وذنبها كذنب الديك وإجعل لها أبوابا في جنبها وشدها بدسر وأمره أن يطليها بالقار ولم يكن في الأرض قار ففجر الله تعالى له عين القار حيث ينحتها يغلي غليانا حتى طلاها الخبر وفيه أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فعلمه صنعتها وقيل : كانت الملائكة عليهم السلام تعلمه
(12/49)

ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل : ولا تدعني فيهم وحيث كان فيه ما يلوح بما يستتبعه أكد التعليل فقيل : إنهم مغرقون
37
- أي محكوم عليهم بالإغراق وقد جرى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه والظاهر أن المراد من الموصول من لم يؤمن من قومه مطلقا وقيل : المراد واعلة زوجته وكنعان ابنه وليس بشيء ويصنع الفلك حكاية حال ماضية لإستحضار صورتها العجيبة
وقيل : تقديره وأخذ أو أقبل يصنع الفلك وكانت على ما روي عن قتادة وعكرمة والكلبي من خشب الساج وقد غرسه بنفسه ولم يقطعه حتى صار طوله أربعمائة ذراع والذراع إلى المنكب في أربعين سنة على ما روي عن سليمان الفراسي وقيل : أبقاه عشرين سنة وقيل : مكث مائة سنة يغرس ويقطع وييبس وقال عمرو بن الحرث : لم يغرسه بل قطعه من جبل لبنان
وعن ابن عباس أنها كانت من خشب الشمشاد وقطعه من جبل لبنان وقيل : إنه ورد في التوراة أنها كانت من الصنوبر وروي أنه كان سام وحام ويافث ينحتون معه وفي رواية أنه عليه السلام كان معه أيضا أناس إستأجرهم ينحتون وذكر أن طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراع وإرتفاعها في السماء ثلاثون
وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وصنع لها بابا في وسطها وأتم صنعها على ما روي عن مجاهد في ثلاث سنين
وعن كعب الأحبار في أربعين سنة وقيل : في ستين وقيل : في مائة سنة وقيل : في أربعمائة سنة وإختلف في أنه في أي موضع صنعها فقيل : في الكوفة وقيل : في الهند وقيل : في أرض الجزيرة وقيل : في أرض الشام وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها إذ هي غير سالمة عن عيب فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وإرتفاعها ومن أي خشب صنعها وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة هذا في التعبير بيصنع على ما قيل : ملاءمة للإستمرار المفهوم من الجملة الواقعة حالا من ضميره أعني قوله تعالى : وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه أي إستهزأوا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية إستعمالها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه ويشهد لعدم معرفتهم ما روي عن ابن عباس أنه عليه السلام حين قال الله تعالى له : اصنع الفلك قال : يا رب وما الفلك قال : بيت من خشب يجري على وجه الماء قال يا رب : وأين الماء قال : إني على ما أشاء قدير وإما لأنه عليه السلام كان يصنعها في برية بعيدة عن الماء وكانوا يتضاحكون ويقولون : يا نوح صرت نجارا بعد ما كنت نبيا وهذا مبني على أن السفينة كانت معروفة بينهم ويشهد له ما أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه وضعفه الذهبي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعملها سفينة فيرونه ويسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون : تعمل سفينة في البر وكيف تجري فيقول : سوف تعلمون الحديث والأكثرون كما قال ابن عطية على أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ولا كانت إذ ذاك وقد ذكر في كتب
(12/50)

الأوليات أن نوحا عليه السلام أول من عمل السفينة والحق أنه لا قطع بذلك و كل منصوب على الظرفية و ما مصدرية وقتية أي كل وقت مرور والعامل فيه جوابه وهو سخروا وقوله سبحانه : قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم إستئناف بياني كأن سائلا سأل فقال فما صنع نوح عليه السلام عند بلوغهم منه هذا المبلغ فقيل : قال : إن تسخروا منا لهذا العمل ومباشرة أسباب الخلاص من العذاب فإنا نسخر منكم لما أنتم فيه من الإعراض عن إستدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الإستمرار على الكفر والمعاصي والتعرض لأسباب حلول سخط الله تعالى التي من جملتها سخريتكم منا وإستهزاؤكم بنا وإطلاق السخرية عليهم حقيقة وعليه عليه السلام للمشاكلة لأنها لا تليق بالأنبياء عليهم السلام وفسرها بعضهم بالإستجهال وهو مجاز لأنه سبب للسخرية فأطلقت السخرية وأريد سبها
وقيل : إنها منه عليه السلام لما كانت لجزائهم من جنس صنيعهم لم تقبح فلا حاجة لإرتكاب خلاف الظاهر وجمع الضمير في منا إما لأن سخريتهم منه عليه السلام سخرية من المؤمنسن أيضا أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضا إلا أنه إكتفى بذكر سخريتهم منه عليه السلام ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله : نسخر منكم فتكافأ الكلام من الجانبين والتشبيه في قوله سبحانه : كما تسخرون
38
- إما في مجرد التحقق والوقوع وإما في التجدد والتكرر حسبما صدر عن ملأ بعد ملأ وقيل : لا ما نع من أن يراد الظاهر ولا ضرر في ذلك لحديث الجزاء ومن هنا قال بعضهم : إن في الآية دليلا على جواز مقابلة نحو الجاهل والأحمق بمثل فعله ويشهد له قوله تعالى : فمن إعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى وجزاء سيئة سيئة مثلها وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به إلى غير ذلك والظاهر أن كلا الفعلين واقع في الحال
وقال ابن جريج : المعنى إن تسخروا منا في الدنيا فإنا نسخر منكم في الآخرة وقيل : في الدنيا عند الغرق وفي الآخرة عند الحرق قال الطبرسي : إن المراد من نسخر منكم على هذا نجازيكم على سخريتكم أو نشمت بكم عند غرقكم وحرقكم وفيه خفاء هذا وجوز أن يكون عامل كلما قال وهو الجواب وجملة سخروا صفة لملأ أو بدل من مر بدل إشتمال لأن مرورهم للسخرية فلا يضر كون السخرية ليست بمعنى المرور ولا نوعا منه وأبو حيان جعل ذلك مبعدا للبدلية وليس بذلك ويلزم على هذا التجويز إستمرار هذا القول منه عليه السلام وهو ظاهر وعلى الإعراب قيل : لا إستمرار وإنما أجابهم به في بعض المرات ورجح بأن المقصود بيان تناهيهم في إيذائه عليه السلام وتحمله لأذيتهم لا مسارعته عليه السلام إلى الجواب كلما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام وقد يقال : إن في ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام بعد أن يئس من إيمانهم لم يبال بإغضابهم ولذا هددهم التهديد البليغ بقوله : فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه أي يفضحه أو يذله أو يهلكه وهي أقوال متقاربة والمراد بذلك العذاب الغرق ويحل عليه حلول الدين المؤجل عذاب مقيم
39
- أي دائم وهو عذاب النار و من عبارة عنهم وهي موصولة في محل نصب مفعول للعلم وهو بمعنى المعرفة فيتعدى إلى واحد
وجوز ابن عطية أن يراد العلم المتعدي إلى مفعولين لكنه إقتصر على واحد وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز حذف الثاني اقتصارا لأن أصله خبر مبتدأ ولا إختصارا هنا لأنه لا دليل على حذفه
(12/51)

وقيل : إن من إستفهامية مبتدأ والجملة بعدها خبر وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها سادة مسد المفعول أو المفعولين قيل : ولما كان مدار سخريتهم إستجهالهم إياه عليه السلام في مكابدة المشاق الفادحة لدفع ما لا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد في عمل السفينة وكانوا يعدونه عذابا قيل : بعد إستجهالهم فسوف إلخ يعني أن ما أباشره ليس فيه عذاب لاحق بي فسوف تعلمون من يعذب ولقد أصاب العلم بعد إستجهالهم محزه إنتهى وهو ظاهر على تقدير حمل السخرية المنسوبة إليه عليه السلام على الإستجهال
ولعله يمكن إجراؤه على تقدير حملها على ظاهرها أيضا بأدنى عناية فإفهم ووصف العذاب بالإخزاء لما في الإستهزاء والسخرية من لحوق الخزي والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالغة في التهديد وفيه من المجاز ما لا يخفى وتخصيصه بالمؤجل وإيراد الأول بالإتيان غاية الجزالة وحكى الزهراوي أنه قريء يحل بضم الحاء
حتى إذا جآء أمرنا غاية لقوله سبحانه : يصنع الفلك و حتى إما جارة متعلقة به و إذا لمجرد الظرفية وإما إبتدائية داخلة على الشرط وجوابه والجملة لا محل لها من الإعراب وحال ما وقع في البين قد مرت الإشارة إليه والأمر إما واحد الأوامر بركوب السفينة أو بالفوران أو للسحاب بالإرسال أو للملائكة عليهم السلام بالتصرف فيما يراد أو نحو ذلك وإما واحد الأمور وهو الشأن أعني نزول العذاب بهم وفار التنور أي نبع منه الماء وإرتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها وفيه من الإستعارة ما لا يخفى والمراد من التنور تنور الخبز عند الجمهور وكان على ما روي عن الحسن ومجاهد تنور الحواء تخبز فيه ثم صار لنوح عليه السلام وكان من حجارة وقيل : هو تنور في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة وجاء ذلك في رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه وقيل : تنور بالهند وقيل : بعين وردة من أرض الجزيرة العمرية أو من أرض الشام وقيل : ليس المراد به تنورا معينا بل الجنس والمراد فار الماء من التنانير وفي ذلك من عجيب القدرة ما لا يخفى ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه : وفجرنا الأرض عيونا إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض أو يراد بالأرض أماكن التنانير ووزنه تفعول من النور وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لإنضمامها ثم حذفت تخفيفا ثم شددت النون عوضا عما حذف ونقل هذا عن ثعلب وقال أبو علي الفارسي : وزنه فعول وقيل : على هذا أنه أعجمي ولا إشتقاق له ومادته تنر وليس في كلام العرب نون قبل راء ونرجس معرب أيضا والمشهور أنه مما إتفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون والسمور وعن ابن عباس وعكرمة والزهري أن التنور وجه الأرض هنا وعن قتادة أنه أشرف موضع منها أي أعلاه وأرفعه وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه تنوير الصبح والظاهر أنه لم يستعمل في اللغة العجمية بهذه المعاني الأخيرة وجوز أن يكون فوران التنور عن ظهور العذاب وشدة الهول وهذا كما جاء في الخبر حمى الوطيس مجازا عن شدة الحرب وليس بين الجملتين كثير فرق في المعنى وهو معنى حسن بعيد عما جاءت به الأخبار قلنا احمل فيها أي في الفلك وأنث الضمير لأنه بمعنى السفينة والجملة إستئناف أو جواب إذا من كل أي من كل نوع من الحيوانات ينتفع به الذين ينجون من الغرق وذراريهم بعد ولم تكن العادة جارية بخلقه من غير ذكر وأنثى
(12/52)

والجار والمجرور متعلق باحمل أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أعني قوله س 4 بحانه : زوجين وهو تثنية زوج والمراد به الواحد المزدوج بآخر من جنسه فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له وقد يطلق على مجموعهما وليس بمراد وإلا لزم أن يحمل من كل صنف أربعة ولئلا يراد ذلك وصف بقوله تعالى : اثنين وحاصل المعنى احمل ذكرا وأنثى من كل نوع من الحيوانات وقرأ الأكثرون من كل زوجين بالإضافة فاثنين على هذا مفعول احمل و من كل زوجين حال منه ولو أخر لكان صفة له أي أحمل إثنين من كل زوجين أي صنف ذكر وصنف أنثى وقيل : من زائدة وما بعدها مفعول إحمل و اثنين نعت لزوجين بناءا على جواز زيادة من في الموجب ثم ما ذكرناه في تفسير العموم هو الذي مال إليه البعض وأدرج فيه أناس الهوام والطير وذكر أنه روي أنه عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة بطون وحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعل معترضا بين الرجال والنساء وكان حمله بوصية منه عليه السلام وتوارثها ولده حتى وصلت إلى نوح عليه السلام ويعارض هذا التقسيم ما روي أن الطبقة السفلى للوحش والوسطى للطعام والعليا له عليه السلام ولمن آمن وتوسع بعضهم في العموم فأدرج فيه ما ليس من جنس الحيوان وأيد بما أخرجه إسحاق بن بشر وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا أن نوحا عليه السلام حمل معه في السفينة من جميع الشجر وبما أخرجه أبو الشيخ عن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما قال : أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه من كل زوجين اثنين فحمل من التمر العجوة واللون
وأخرج النسائي عن أنس بن مالك أن نوحا عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم فقال : هذا لي وقال نوح : هو لي فآصطلحا على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثيها ولا يكاد يعول على مثل هذه الأخبار عند التنقير ومما يحمل معها في سفينة ما أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : تأذى أهل السفينة بالفأر فعطس الأسد فخرج من منخريه سنوران ذكر وأنثى فأكلا الفأر إلا ما أراد الله تعالى أن يبقى منه وتأذوا بأذى أهل السفينة فعطس الفيل فخرج من منخريه خنزيران ذكر وأنثى فأكلا أذى أهل السفينة وفي رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وغيرهما عنه أن نوحا عليه السلام شكا إلى الله تعالى قرض الفأر حبال السفينة فأوحى الله إليه فمسح جبهة الأسد فخرج سنوران وشكا عذرة في السفينة فأوحى إليه سبحانه فمسح ذنب الفيل فخرج خنزيران فأكلا العذرة
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه مرفوعا أن أهل السفينة شكوا الفأرة فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها ولم يذكر فيه بحث الخنزير ويفهم منها على ما فيها أن الهرة لم تكن عند الحمل ومن الأولين أنها والخنزير لم يكونا وفي بعض الآثار ما يخالفه فقد أخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال لما أمر الله تعالى نوحا عليه السلام بالحمل قال : كيف أصنع بالأسد والبقرة وكيف أصنع بالعناق والذئب وكيف أصنع بالحمام والهر فقال الله تعالى : من ألقى بينهما العداوة قال : أنت يا رب قال : فأني أؤلف بينهم حتى لا يتضارون ولا يخفى ما بين هذا وبين التقسيم الأول أيضا وجاء في شأن الأسد روايات مختلفة : ففي رواية أن أصحابه عليه السلام قالوا : كيف نطمئن ومعنا الأسد فسلط الله تعالى عليه الحمى وكانت أول حمى نزلت الأرض
(12/53)

وفي رواية أنه كان يؤذيهم في السفينة فألقيت عليه الحمى ليشتغل بنفسه وفي أخرى أنه عليه السلام حين أمر بالحمل قال : با رب كيف بالأسد والفيل فقال له سبحانه : سألقي عليهما الحمى وهي ثقيلة وفي أخرى عن أبي عبيدة أنه عليه السلام حين أمر بالحمل لم يستطع أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى فحمله فأدخله ولا يخفى أنها دلالة بعضها على أن إلقاء الحمى قبل الدخول وبعضها على أنه بعده وكان يغني عن إلقائها بعد دفعا لأذاء التأليف بينه وبين الإنسان كما ألف بين ما مر بعضه مع بعض ولعل لدفع الأذى بالحمى دون التأليف إن صح ذلك حكمة لكنها غير ظاهرة لنا وجاء في بعض الآثار ما يفهم منه أنه كان معه عليه السلام في السفينة من الجن ما كان وفي بعضها أن إبليس عليه اللعنة كان أيضا
فعن ابن عباس لما أراد الله تعالى أن يدخل الحمار السفينة أخذ نوح بأذني الحمار وأخذ إبليس بذنبه فجعل نوح يجذبه وجعل إبليس يجذبه فقال نوح عليه السلام : أدخل شيطان فدخل الحمار ودخل إبليس معه فلما سارت السفينة جلس في ذنبها يتغنى فقال له نوح : ويلك من أذن لك قال : أنت قال : متى قال : إذ قلت للحمار أدخل شيطان فدخلت بإذن منك وفي رواية أخرى عنه أن نوحا عليه السلام قال للحمار : ويحك أدخل وإن كان الشيطان معك كلمة جرت على لسان فدخل معه الشيطان
وأخرج ابن عساكر عن عطاء أن اللعين جاء ليركب السفينة فدفعه نوح عليه السلام فقال : يا نوح إني منظور ولا سبيل لك علي فعرف أنه صادق فأمره أن يجلس على خيزران السفينة وهو بظاهره مخالف لما روي عن ابن عباس وإختلفوا في أنه كيف جمعت الحيوانات على تفرقها في أكناف الأرض فقيل : إنها أحست بالعذاب فإجتمعت وعن الزهري أن الله تعالى بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين من الطير والسباع والوحش والبهائم
وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فحشرنا فجعل عليه السلام يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيدخلهما السفينة حتى أدخل عدة ما أمر الله تعالى به وروي إسحاق بن بشر وغيره عن زيد بن ثابت أنه إستعصت عليه عليه السلام الماعزة فدفعها في ذنبها فمن ثم إنكسر وبدا حياها ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياها
وفي كتب الأخبار كثير من هذه الآثار التي يقتضي منها العجب وأنا لا أعتقد سوى أن الله عزت قدرته خلق الماعزة والنعجة من قبل على ما هما عليه اليوم وأنه سبحانه لم يخلق الهرة من الأسد وإن أشبهته صورة ولا الخنزير من الفيل وإن كان بينهما شبه ما كما شاهدناه عام مجيء الفيل إلى بغداد ولو كلف الفيل أكل العذرة لكان أحب إلى أهل السفينة من زيادة خنزير فيها وأحب من ذلك كله إليهم أن لا يكون في السفينة غيرهم أو يكون حيوان واحد يخلق لهم من عطاسه ما يريدونه من الحيوانات ويحتاجون إليه بعد
والذي يميل القلب إليه أن الطوفان لم يكن عاما كما قال به البعض وأنه عليه السلام لم يؤمر بحمل ما جرت العادة يتكونه من عفونة الأرض كالفأر والحشرات بل أمر بحمل ما يحتاج إليه إذا نجا ومن معه من الغرق لئلا يغتنموا لفقده ويتكلفوا مشقة جلبه من الأصقاع التي لم يصلها الغرق فكأنه قيل : قلنا إحمل فيها من كل ما تحتاجونه إذا نجوتم زوجين إثنين وإن قلنا بعموم الغرق نقول أيضا : إنه عليه السلام لم يكلف بحمل شيء من المتكونات من العفونة بل كلف بالحمل مما يتناسل من الحيوانات لمصلحة بقاع النوع وكانت السفينة بحيث
(12/54)

تسع ذلك عادة أو معجزة وقدرة الله تعالى أجل من أن تضيق عن ذلك وإن قيل بالعموم على وجه يبقى معه بعض الجبال جاز أن يقال : عليه السلام لم يحمل إلا مما مهرب له ويضر فقده بجماعته ولو قيل : إن العموم على إطلاقه وأنه عليه السلام لم يحمل في السفينة إلا ما تتسع له عادة مما يحتاج إليه لئلا يضيق أصحابه ذرعا بفقده بالكلية حسبما تقتضيه الطباع البشرية وغرق ما عدا ذلك لكن الله تعالى جلت قدرته خلق نظير ما غرق بعد على الوجه الذي فعل قبل لم يكن ذلك بدعا ممن أمره بين الكاف والنون جل شأنه وعظم سلطانه
هذا وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين قيل : لكونه عريقا بالحمل المأمور به لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام في تمييز بعض عن بعض وتعيين الأزواج وأما البشر فإنما يدخل الفلك بإختياره فيخف فيه معنى الحمل أو لأن ذلك إنما يحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياه ويجوز أن يكون التقديم حفظا للنظم الكريم عن الإنتشار وأياما كان فقوله سبحانه : وأهلك عطف على زوجين أو على اثنين والمراد بأهله على ما في بعض الآثار إمرأته المسلمة وبنوه منها وهم سام عليه السلام وهو أبو العرب وأصله على ما قال البكري : بالشين المعجمة وحام وهو أبو السودان قيل : إنه أصاب زوجته في السفينة فدعا نوح عليه السلام أن تغير نطفته فغيرت وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن أبي صالح ويافث كصاحب وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج وزوجة كل منهم إلا من سبق عليه القول بأنه من المغرقين لظلمهم وذلك في قوله سبحانه : ولا تخاطبني في الذين ظلموا الآية والمراد زوجة له أخرى تسمى واعلة بالعين المهملة وفي رواية والقة وابنه منها كنعان وكان إسمه فيما قيل : يام وهذا لقبه عند أهل الكتاب وكانا كافرين وفي هذا دلالة على أن الأنبياء عليهم السلام يحل لهم نكاح الكافرة بخلاف نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله تعالى : يا أيها النبي إنا أحللنا لك الآية والإستثناء جوز أن يكون متصلا إن أريد بالأهل الأهل إيمانا وأن يكون منقطعا إن أريد به الأهل قرابة ويكفي في صحة الإستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم وجيء بعلى لكون السابق ضارا لهم كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين وقوله سبحانه : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ومن آمن عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم وإفراد أولئك منهم للإستثناء المذكور وإيثار صيغة الإفراد في آمن محافظة على لفظ من للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى : وما آمن معه إلا قليل
40
- قيل : كانوا سبعة زوجته وأبناؤه الثلاثة وكنائنه الثلاث وروي هذا عن قتادة والحكم بن عقبة وابن جريج ومحمد بن كعب ويرده عطف ومن آمن على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوجة فإنه قد ثبت بهذا المعنى لكن قيل : إنه خلاف الظاهر والإستثناء عليه منقطع أيضا وعن ابن إسحاق أنهم كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة وعنه أنهم كانوا مع نوح عليه السلام عشرين نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساؤهم وقيل : كانوا ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم أناث وقيل : كانوا ثمانين رجلا وثمانين إمرأة وقيل : وقيل والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين زوجته وبنوه الثلاثه ونساؤهم وإثنان وسبعون رجلا وإمرأة من غيرهم من بني شيث وإعتبار المعية في الإيمان للإيماء إلى المعية في مقر الإيمان والنجاة
وقال أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين كما ينبيء عنه قوله تعالى : إن ربي لغفور رحيم
(12/55)

وقيل : الضمير لله تعالى وفيه أنه لو كان كذلك لكان المناسب إن ربكم إلخ ولعل هذا القول بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل : فحمل الأزواج حسبما أمر أو أدخلها في الفلك وقال للمؤمنين اركبوا فيها أي صيروا فيها وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض ففيه إستعارة تبعية من حيث تشبيه الصيرورة فيها بالركوب وقيل : إستعارة مكنية والتعدية بفي لإعتبار الصيرورة وإلا فالفعل يتعدى بنفسه وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي وقيل : التعدية بذلك لأنه ضمن معنى إدخلوا وقيل : تقديره اركبوا الماء فيها وقيل : في زائدة للتوكيد وكأن الأول أولى وقال بعض المحققين : الركوب العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه وإستعماله بفي ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الروايات أنه عليه السلام ركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك
والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما فإذا إستعمل في الأول توفر له حظ الأصل فيقال : ركبت الفرس وعليه قوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وإن إستعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال : ركبت في السفينة وعليه الآية الكريمة وقوله سبحانه : فإذا ركبوا في الفلك و حتى إذا ركبا في السفينة خرقها إنتهى وظاهره أن الركوب ههنا حقيقي وصرح بعضهم أنه ليس به
وقال الراغب : الركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان وقد يستعمل في السفينة وفيه تأكيد لما صرح به البعض بسم الله حال من فاعل اركبوا والباء للملابسة ولما كانت ملابسة إسم الله عز إسمه بذكره قالوا : المعنى إركبوا مسمين الله وجوزوا أن تكون الحال محذوفة وهذا معمول لها ساد مسدها ولذلك سموه حالا والأصل اركبوا قائلين بسم الله مجريها ومرسها نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما إسما زمان أو مصدران ميميان بمعنى الإجراء والإرساء ويقدر مضاف محذوف وهو وقت كما في قولك : أتيتك خفوق النجم فإن التقدير وقت خفوقه إلا أنه لما حذف المضاف سد المضاف إليه مسده وإنتصب إنتصابه وهو كثير في المصادر ويجوز أن يكونا غسمي مكان وإنتصابهما بالإستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور أو بقائلين ولا يجوز أن يكون باركبوا إذ ليس المعنى على اركبوا في وقت الإجراء والإرساء أو في مكانهما وإنما المعنى متبركين أو قائلين فيهما وتعقب القول بإنتصابهما مطلقا بأنهما محدودان ومحدود المكان لابد له من في وبعضهم يجوز النصب في مثل ذلك بما فيه من الإبهام وجوز رفعهما فاعلين بالظرف لإعتماده على ذي الحال أو على أنهما مبتدأ ومعطوف عليه و بسم الله خبرا والخبر محذوف تقديره متحققان ونحوه وهو صلة لهما والجملة إما مقتضية منقطعة عما قبلها لإختلافهما خبرا وطلبا على أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب في السفينة ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى أو بأن إجراءها وإرساءها باسمه تعالى متحققان لا يشك فيهما وفي ذلك حث على الركوب وإزالة لما عسى يختلج في قلوبهم من خوف الغرق ونحوه ويروى عن الضحاك أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجريها يقول بسم الله فتجري وإذا أراد
(12/56)

أن يرسيها قال : بسم الله فترسو وإما في موضع الحال من ضمير الفلك أي إاركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله وهي حال مقدرة إذ لا إجراء ولا إرساء وقت الركوب كذا قيل وتعقبه في التقريب بأن الحال إنما تكون مقدرة إذا كانت مفردة كمجراة أما إذا كانت جملة فلا لأن معنى إركبوا وإجراؤها بسم الله وهذا واقع حال الركوب إنتهى وأجاب عنه في الكشف بأنه لا فرق بين قوله تعالى : ادخلوها خالدين وقول القائل : إدخلوها وأنتم مخلدون في عدم المقارنة والرجوع إلى الحال المقدرة فكذلك ما نحن فيه وإعترض على المجيب بأن مراد ذلك القائل إجراؤها مجرى المفرد على نحو كلمته فوه إلي في بأنه تكلف لا حاجة إليه وهو غير مسلم في المستشهد به أيضا وإنما ذلك في قول القائل كلمته فاه إلى في إنتهى وكأنه لم ينكشف له مراد صاحب التقريب فإنهم ذكروا أن الفرق بين الحال إذا كانت مفردة وإذا كانت جملة أن الثانية تقتضي التحقق في نفسها والتلبس بها وربما أشعرت بوقوعها قبل العامل وإستمرارها معه كما إذا قلت : جاءني وهو راكب فإنه يقتضي تلبسه بالركوب وإستمراره عليه وهذا ينافي كونها منتظرة ولا أقل من أن لا يحسن الحمل عليه حيث تيسر الإفراد فافهم وجوز أن تكون حالا مقدرة أيضا من فاعل اركبوا وإعترض بأنه لا عائد على ذي الحال وضمير بسم الله للمبتدأ وتقديره أي فإجراؤها معكم أو بكم كائن بسم الله تكلف والقول بأن الرضي قد ذكر أن الجملة الحالية إذا كانت إسمية قد تخلو من الرابطين عند ظهور الملابسة نحو خرجت زيد على الباب ليس بشيء لضعف ما ذكر في العربية فلا ينبغي التخريج عليه نعم كون الإسمية لابد فيها من الواو والقول بأن الحال المقدرة لا تكون جملة مطلقها كل منهما في حيز المنع كما لا يخفى وجوز أن يكون الإسم مقحما كما في قول لبيد : فقوما وقولا بالذي قد عرفتما ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر إلى الحول ثم إسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد إعتذر ويراد بالله إجراؤها وإرسالها أي بقدرته أو بأمره أو بإذنه ويقدر ذلك أو يراد معنى وخص بعضهم هذا الجواز بما إذا لم يقدر مسمين أو قائلين إذ لا يظهر المعنى حينئذ ويجري على تقديري الكلام الواحد والكلامين وكذا على تقدير الزمان والمكان في رأى ويعتبر الإسناد مجازيا من قبيل نهاره صائم وطريق بر
وقرأ مجراها ومرساها بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين على أنهما من جرى ورسا الثلاثيين وقرأ مجاهد مجريها ومرسيها بصيغة إسم الفاعل وخرج ذلك أبو البقاء على أنهما صفتان للأسم الجليل وقيل عليه : إن إضافة إسم الفاعل إذا كان بمعنى المستقبل لفظية فهو نكرة لا يصح توصيف المعرفة به فالحق البدلية والقول بأن مراد المعرب الصفة المعنوية لا النعت النحوي فلا ينافي البدلية بعيد لكن عن الخليل إن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة فتعرف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرف والرسو الثبوت والإستقرار ومنه قول الشاعر : فصبرت نفسا عند ذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع إن ربي لغفور رحيم
41
- قيل : الجملة مستأنفة لبيان الموجب أي لو لا مغفرته لفرطانكم ورحمته إياكم لما نجاكم من هذه الطامة إيمانكم وفيه دلالة على أن نجاتهم لم تكن عن إستحقاق بسبب أنهم كانوا مؤمنين بل بمحض رحمة الله تعالى وغفرانه على ما عليه أهل السنة ومنع صلاحية كونها علة لإركبوا لعدم المناسبة
(12/57)

فيقدر ما يصح به الكلام بأن يقال : هذا الحكم لينجيكم من الهلاك بمغفرته ورحمته أو يقال : اركبوا فيها ذاكرين الله تعالى ولا تخافوا الغرق لما عسى فرط منكم من التقصير لأن الله تعالى شأنه غفور للخطايا والذنوب رحيم بعباده وجعلها بعضهم تعليلا بالنظر إلى ما فيها من الإشارة إلى النجاة فكأنه قيل : إركبوا لينجيكم الله سبحانه وقوله سبحانه : وهي تجري بهم في موج كالجبال جوز فيه ثلاثة أوجه : الأول أن يكون مستأنفا الثاني أن يكون حالا من الضمير المستتر في بسم الله أي جريانها إستقر بسم الله حال كونها جارية الثالث أنه حال من شيء محذوف دل عليه السياق أي فركبوا فيها جارية والفاء المقدرة للعطف و بهم متعلق بتجري أو بمحذوف أي ملتبسة والمضارع لحكاية الحال الماضية ولا معنى للحالية من الضمير المستتر في الحال الأول كما لا يخفى والموج ما إرتفع من الماء عند إضطرابه واحده موجة و كالجبال في موضع الصفة لموج أي في موج مرتفع متفاوت في الإرتفاع متراكم وقيل : إنها جرت بهم في موج كذلك وقد بقي منها فوق الماء ستة أذرع واستشكل هذا الجريان مع ما روي أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وأن السفينة كانت تجري في داخله كالسمك وأجيب بأن الرواية مما لا صحة لها ويكاد العقل يأبى ذلك نعم أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن عساكر وعبد بن حميد من طريق مجاهد عن عبيد بن عمير قال : إن الماء علا رأس كل جبل خمسة عشر ذراعا على أنه لو سلم صحة ما ذكر فهذا الجريان كان في إبتداء الأمر قبل أن يتفاقم الخطب كما يدل عليه قوله سبحانه : ونادى نوح ابنه إلخ فإن ذلك إنما يتصور قبل أن تنقطع العلاقة بين السفينة والبر إذ حينئذ يمكن حريان ما جرى بين نوح عليه السلام وبين ابنه من المفاوضة والإستدعاء إلى السفينة والجواب بالإعتصام بالجبل
وقال بعض المحققين : إن هذا النداء إنما كان قبل الركوب في السفينة والواو لا تدل على الترتيب وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ابنها على أن ضمير التأنيث لإمرأته وفي إضافته إليها إشعار بأنه ربيبة لأن الإضافة إلى الأم مع ذكر الأب خلاف الظاهر وإن جوزوه ووجه بأنه نسب إليها لكونه كافرا مثلها وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله سبحانه : فخانتاهما فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن الله تعالى قد طهر الأنبياء عليهم السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بأصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين ونسبة هذا القول إلى الحسن ومجاهد كما زعم الطبرسي كذب صريح وقرأ محمد بن علي وعروة ابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ابنه بهاء مفتوحة دون ألف إكتفاءا بالألف عنها وهو لغة كما قال ابن عطية ومن ذلك قوله : أما تقود بها شاة فتأكلها أو أن تبيعه في بعض الأراكيب قيل : وهو ضعيف في العربية حتى خصه بعضهم بالضرورة والضمير للأم أيضا وقرأ ابن عباس ابنه بسكون الهاء وهي على ما قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي لغة أزد فإنهم يسكنون هاء الكناية من المذكر ومنه قوله :
ونضواي مشتاقان له أرقان
وقيل : إنها لغة لبني كلاب وعقيل ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشد :
(12/58)

وأشرب الماء مابي نحوه عطش إلا لأن عيونه سيل واديها وقرأ السدي ابناه بألف وهاء سكت وخرج ذلك على الندبة واستشكل بأن النحاة صرحوا بأن حرف النداء لا يحذف في الندبة وأجيب بأن هذا حكاية والذي منعوه في الندبة نفسها لا في حكايتها وعن ابن عطية أبناه بفتح همزة القطع التي للنداء وفيه أنه لا ينادي المندوب بالهمزة وأن الرواية بالوصل فيها والنداء بالهمزة لم يقع في القرآن ويبعد القول بالندبة أنها لا تلائم الإستدعاء إلى السفينة بعد كما لا يخفى ولو قيل : إن ابناه على هذه القراءة مفعول نادى أيضا كما في غيرها من القراآت والألف للإشباع والهاء الساكنة هاء الضمير في بعض اللغات لم يكن هناك محذور من جهة المعنى وهو ظاهر نعم يتوقف القول بذلك على السماع في مثله ومتى ثبت تعين عندي تخريج القراءة إن صحت عليه وقرأ الجمهور ابنه بالإضافة إلى ضمير نوح ووصلوا بالهاء واوا وتوصل في الفصيح وتنوين نوح مكسور عند الجمهور دفعا لإلتقاء الساكنين وقرأ وكيع بضمه إتباعا لحركة الإعراب
وقال أبو حاتم : هي لغة سوء لا تعرف وكان في معزل أي مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه والمراد بعده عنهم إما حسا أو معنى وحاصله المخالفة لهم في الدين فمعزل بالكسر إسم مكان العزلة وهي إما حقيقية أو مجازية وقد يكون إسم زمان وإذا فتح كان مصدرا وقيل : المراد كان في معزل عن الكفار قد إنفرد عنهم وظن نوح عليه السلام أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة وقيل : إنما ناداه لأنه كان ينافقه فظن أنه مؤمن واختاره كثير من المحققين كالما تريدي وغيره وقيل : كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه السلام ظن أنه عند مشاهدة تلك الأهوال وبلوغ السيل الزبى ينزجز عما كان عليه ويقبل الإيمان وقيل : لم يجزم بدخوله في الإستثناء لما أنه كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على أن ناداه يبني بفتح الياء التي هي لام الكلمة إجتزاءا بالفتحة على الألف المبدلة من ياء الإضافة في قوله يا بنيا وقيل : إنها سقطت لإلتقائها ساكنة مع الراء الساكنة بعدها ويؤيد الأول أنه قريء كذلك حيث لا ساكن بعد
ومن الناس من قال : فيه ضعف على ما حكاه يونس من ضعف يا أب ويا أم بحذف الألف والأجتزاء عنها بالفتحة
وقرأ الجمهور بالكسر إقتصارا عليه من ياء الإضافة وقيل : إنها حذفت لإلتقاء الساكنين كما قيل ذلك في الألف ونداؤه بالتصغير من باب التحنن والرأفة وكثيرا ما ينادي الوالد ولده كذلك اركب معنا أي في السفينة ولتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع إغناء المعية عن ذكرها لم تذكر وأطلق الركوب وتخفيف الباء وإدغامها في الميم قراءتان سبعيتان ووجه الإدغام التقارب في المخرج ولا تكن مع الكافرين تأكيد للأمر وهو نهى عن معايشة الكفرة والدخول في غمارهم وقطع بأن الدخول فيه يوجب الغرق على الطريق البرهاني قال سئاوى أي سأنضم إلى جبل من الجبال وقيل : عنى طورزيتا يعصمني أي يحفظني بإرتفاعه من الماء فلا يصل إلي قال ذلك زعما منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقى منها بالصعود إلى مرتفع وجهلا منه بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة فلا بد أن يدركهم ولو كانوا في قلل الجبال
(12/59)

قال مبينا له حقيقة الحال وصارفا له عن ذلك الفكر المحال لا عاصم اليوم من أمر الله نفي لجنس العاصم المنتظم لنفي جميع أفراده ذاتا وصفة للمبالغة في نفي كون الجبل عاصما وزاد اليوم للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالإلتجاء إلى بعض الأسباب العادية وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر الله أي عذابه الذي أشير إليه أولا بقوله سبحانه : حتى إذا جاء أمرنا تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره وتنبيها لإبنه على خطئه في تسميته ماءا وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة وتعليلا للنفي المذكور فإن أمر الله سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد وتمهيدا لحصر العصمة في جناب الله تعالى عز جاره بالإستثناء كأنه قيل : لا عاصم من أمر الله تعالى إلا هو تعالى وإنما قيل : إلا من رحم تفخيما لشأنه الجليل جل شأنه وإشعارا بعلية رحمته بموجب سبقها غضبه كل ذلك لكمال عنايته عليه السلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرف عنانه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه ولذا عدل عما يقتضيه الظاهر من الجواب بقوله : لا يعصمك الجبل منه كذا ذكره بعض المحققين وهو أحد أوجه في الآية وأقواها
والوجه الثاني أن عاصما صيغة نسبة والمراد بالموصول المرحوم أي لا ذا عصمة أي معصوم إلا من رحمه الله تعالى وأيد ذلك بأنه قريء إلا من رحم بالبناء للمفعول واعترضه في الكشف بأن فاعلا بمعنى النسبة قليل وأجيب بأنه أراد قلته في نفسه فممنوع وإن بالنسبة إلى الوصف فلا يضر
والثالث أن عاصما على ظاهره و من رحم بمعنى المرحوم والإستثناء منقطع لا متصل كما في الوجهين الأولين أي لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله تعالى فهو معصوم وأورد عليه بأن مثل هذا المنقطع قليل لأنه في الحقيقة جملة منقطعة تخالف الأولى لا في النفي والإثبات فقط بل في الإسمية والفعلية أيضا والأكثر فيه مثل ما جاءني القوم إلا حمارا والرابع أن عاصما بمعنى معصوم كدافق بمعنى مدفوق وفاتن بمعنى مفتون في قوله : بطيء القيام رخيم الكلا م أمسى فؤادي به فاتنا ومن رحم بمعنى الراحم والإستثناء منقطع أيضا أي لا معصوم إلا الراحم على معنى لكن الراحم يعصم من أراد والخامس أن الكلام على إضمار المكان والإسثناء متصل أي لا عاصم إلا مكان من رحمه الله من المؤمنين هو السفينة قيل : وهو وجه حسن فيه مقابلة لقوله : يعصمني وهو المرجح بعد الأول والعاصم على هذا حقيقة لكن إسناده إلى المكان مجازي وقيل : إنه مجاز مرسل عن مكان الإعتصام والمعنى لا مكان إعتصام إلا مكان من رحمه الله وادعى أنه أرجح من الكل لأنه ورد جوابا عن قوله : سآوي إلى جبل إلخ وليس بمسلم والسادس ما أبداه صاحب الكشف عنده وهو أن المعنى لا معصوم إلا مكان من رحمه الله تعالى ويراد به عصمة من فيه على الكناية فإن السفينة إذا عصمت عصم من فيها والسابع أن الإستثناء مفرغ والمعنى لا عاصم اليوم أحدا أو لأحد إلا من رحمه الله أو لمن رحمه الله سبحانه وعده بعضهم أقربها ولا أظنك تعدل بالوجه الأول وجها وهو الذي إختاره والظاهر على ما قال أبو حيان : أن خبر لا محذوف للعلم به أي لا عاصم موجود والأكثر الحذف في مثل ذلك عند الحجازيين والتزم الحذف فيه بنو تميم
(12/60)

ويكون اليوم منصوبا على إضماره فعل يدل عليه عاصم أي لا عاصم يعصم اليوم والجار والمجرور متعلق بذلك الفعل ومنع جواز أن يكون اليوم منصوبا بإسم لا وأن يكون الجار متعلقا به لأنه يلزم حينئذ أن يكون معربا منونا للطول
وجوز الحوفي أن يكون اليوم متعلقا بمحذوف وقع خبرا للا والجار متعلق بذلك المحذوف أيضا وأن يكون متعلقا بمحذوف هو الخبر و اليوم في موضع النعت لعاصم ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبرا عن الجثة والتزم كونه معمول من أمر الله وكون الخبر هو الجار والمجرور ورد أبو حيان جواز النعتية بأن ظرف الزمان لا يكون نعتا للجثث كما لا يكون خبرا عنها وحال بينهما الموج أي بين نوح عليه السلام وابنه فإنقطع ما بينهما من المجاوبة قيل : كانا يتراجعان الكلام فما إستتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكبا على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه وليس في الآية هنا إلا إثبات الحيلولة وأما علمه عليه السلام بغرقه فلم يحصل إلا بعد وقال الفراء : بينهما أي بين ابن نوح عليه السلام والجبل وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن القاسم بن أبي بزة وتعقبه العلامة أبو السعود بأن قوله تعالى : فكان من المغرقين
43
- إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه السلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل لأنه بمعزل عن كونه عاصما وإن لم يحل بينه وبين الملتجأ إليه موج وأجيب بأن التفريع لا ينافي ذلك لأن المراد فكان من غير مهلة أو هو بناء على ظنه أن الماء لا يصل إليه وفي الآية دلالة على غرق سأ الكفرة على أبلغ وجه فكأن ذلك أمر مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان وفي إيراد كان دون صار مبالغة في كونه منهم وقيل يأرض ابلعي أي انشفي استعير من إزدراد الحيوان ما يأكله للدلالة على أن ذلك ليس كالكشف المعتاد التدريجي وتخصيص البلع بما يؤكل هو المشهور عن اللغويين وقال الليث : يقال : بلع الماء إذا شربه وهو ظاهر في أنه غير خاص بالمأكول وذكر السيد أن ذلك مجاز وأخرج ابن المنذر وغيره عن وهب بن منبه أن البلع بمعنى الإزدراء لغة حبشية وأخرج أبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه بمعنى الشرب لغة هندية مآءك أي ما على وجهك من ماء الطوفان وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل ويسماء اقلعي أي إمسكي عن إرسال المطر يقال : أقلعت السماء إذا إنقطع مطرها وأقلعت الحمى إذا كفت والظاهر أن المطر لم ينقطع حتى قيل للسماء ما قيل وهل فوران الماء كان مستمرا حتى قيل للأرض ما قيل أم لا لم أر فيه شيئا والآية ليست نصا في أحد الأمرين وغيض الماء أي نقص يقال : غاضه إذا نقصه وجميع معانيه راجعة إليه
وقول الجوهري : غاض الماء إذا قل ونضب وغيض الماء فعل به ذلك لا يخالفه فإن القلة عين النقصان وتفسير ذلك بالنقص مروي عن مجاهد وقضي الأمر أي أنجز ما وعد الله تعالى نوحا عليه السلام من إهلاك كفار قومه وإنجائه بأهله المؤمنين وجوز أن يكون المعنى أتم الأمر واستوت إستقرت يقال : إستوى على السرير إذا إستقر عليه على الجودي بتشديد الياء وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيفها وهما لغتان كما قال ابن عطية وهو جبل بالموصل أو بالشام أو بآمل بالمد وضم الميم والمشهور
(12/61)

وجاء في بعض الآثار أن الجبال تشامخت إذ ذاك وتواضع هو لله تعالى شأنه فأكرمه سبحانه بإستواء السفينة عليه ومن تواضع الله سبحانه رفعه وكان إستواؤها عليه يوم عاشوراء فقد أخرج أحمد وغيره عن أبي هريرة قال : مر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال : ما هذا الصوم فقيل : هذا اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون وهذا يوم إستوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله تعالى فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أنا أحق بموسى عليه السلام وأحق بصوم هذا اليوم فصامه وأمر أصحابه بالصوم وأخرج الأصبهاني في الترغيب عنه رضي الله تعالى عنه أنه اليوم الذي ولد فيه عيسى عليه السلام أيضا وأن صيامه يعدل سنة مبرورة وكان ركوبه عليه السلام فيما روي عن قتادة في عشر خلون من رجب
وأخرج ابن جرير عن عبدالعزيز بن عبد الغفور عن أبيه مرفوعا أنه عليه السلام ركب في أول يوم من رجب فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر فإنتهى ذلك إلى المحرم فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح عليه السلام وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرا لله
وفي بعض الآثار أنها طافت بهم الأرض كلها ولم تدخل الحرم لكنها طافت به أسبوعا وأن الحجر الأسود خبيء في جبل أبي قبيس وأن البيت رفع إلى السماء وفي رواية ابن عساكر عن مجاهد أنه لم يدخل الحرم من الماء شيء والظاهر على هذا أنه لا خبء كما أنه لا رفع وعندي أن رواية ثبوتهما جميعا مما لا تكاد تصح وبفرض صحتها لا يظهر لي سر رفع بلا حجر وخبء الحجر بلا بيت بل عندي في رفع البيت مطلقا تردد وإن كنت ممن لا يتردد في أن الله تعالى على كل شيء قدير وقيل بعدا للقوم الظالمين
44
- أي هلاكا لهم واللام صلة المصدر وقيل : متعلق بقيل وإن المعنى قيل لأجلهم بعدا وهو خلاف الظاهر والتعرض لوصف الظلم للإشعار : لميته للهلاك ولتذكير ما سبق في قوله سبحانه : ولا تخاطبني في الذين ظلموا ولا يخفى ما في هذه الآية من الدلالة على عموم هلاك الكفرة ويشهد لذلك آيات أخر وأخبار كثيرة بل فيها ما هو على علاته ظاهر في عموم هلاك من على الأرض ما عدا أهل السفينة فعن عبيد بن عمير أن فيمن أصاب الغرق إمرأة معها صبي لها فوضعته على صدرها فلما بلغها الماء وضعته على منكبها فلما بلغها الماء وضعته على يديها فقال الله سبحانه : لو رحمت أحدا من أهل الأرض لرحمتها ولكن حق القول مني
وزعم بعضهم أنه لم ينج أحد من الكفار سوى عوج بن عوق وكان الماء يصل إلى حجرته وسبب نجاته أن نوحا عليه السلام إحتاج إلى خشب ساج فلم يمكنه نقله فحمله عوج من الشام إليه عليه السلام فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك وظاهر كلام القاموس يقتضي نجاته فقد ذكر فيه عوج بن عوق بعضهما رجل ولد في منزل آدم عليه السرم فعاش إلى زمن موسى عليه السلام والحق أنه لم ينج أحد من الكفار أصلا وخبر عوج يرويه هيان ابن بيان فلا تعج إلى القول به ولا يشكل إغراق الأطفال الذين لا ذنب لهم لما أنه مجرد سبب للموت بالنسبة إليهم وأي محذور في إماتة من لا ذنب له وفي كل وقت يميت الله سبحانه من ذلك ما لا يحصى وهو جل شأنه المالك الحق والمتصرف المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يحتاج في الجواب إلى ما أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن عبد الله بن زياد بن سمعان عن رجال سماهم أن الله تعالى أعقم رجالهم قبل الطوفان بأربعين عاما وأعقم نساءهم فلم يتوالدوا أربعين عاما منذ دعا نوح عليه السلام حتى أدرك الصغير فبلغ الحنث وصارت لله تعالى
(12/62)

عليهم الحجة ثم أنزل السماء عليهم بالطوفان إذ يبقى عليه مع ضعفه والتعارض بينه وبين الخبر السابق آنفا أمر إهلاك ما لم يكن في السفينة من الحيوانات وقد جاء عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن نوحا عليه السلام لما حمل من حمل في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب فجعلت تلحس قدمه عليه السلام وتقول : أحملنا معك فيقول : إنما أمرت أن أحمل من كل زوجين إثنين ولم يحملهما وكذا لا يحتاج إلى الجواب بأن الله تعالى إنما أهلك أولئك الأطفال لعلمه جل شأنه بما كانوا فاعلين وذلك كما يقال في وجه إدخال أطفال الكفار النار يوم القيامة على قول من يراه لما أن فيه ما فيه وبالجملة إماتة الأحياء بأي سبب كان دفعة أو تدريجا مما لا محذور فيه ولا يسئل عنه
هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها واستذلت مقاصع العرب فسفعت بنواصيها وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان ويروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان كما في القاموس فصيحا بليغا بل قيل : إنه أفصح أهل وقته رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا فإجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل وقال : أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة وهو الذي قاله علماء هذا الشأن وأنشد بعض الفرس في ذلك : در بيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن ورجه كوينده بودجون حافظ وجون أصمعي در كلام أيزد بيجون كه وحي منزلست كي بود تيت يدا جون قيل : يا أرض عي إبلعي وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل وتذكير لفاضل غافل فنقول : ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة البيان ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والإستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فإرتد وأن نقطع طوفان السماء فإنقطع وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضي وأن نسوي السفينة على الجودي فإستوت وأبقينا الظلمة غرقى بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته من الآمر العصيان وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لإقتداره سبحانه العظيم وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا
(12/63)

كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته وأحاطوا علما بوجوب الإنقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده وتصوروا مزيد إقتداره فعظمت مهابته في نفوسهم وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والإنقياد ولا لأمره بغير الإذعان والإمتثال ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا : قيل على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو يا أرض ويا سماء إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له ثم قال سبحانه كما ترى : يا أرض ويا سماء مخاطبا لهما على سبيل الإستعارة للشبه المذكور والظاهر أنه أراد أن هناك إستعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان إدعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا
وقد يقال : أراد أن الإستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناءا على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه إبتداءا بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ! على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل ثم إستعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي
وفي الكشاف جعل البلع مستعار لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا ثم إستعار الماء للغذاء إستعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوى الآكل بالطعام وجعل قرينة الإستعارة لفظة ابلعي لكونها موضوعة للإستعمال في الغذاء دون الماء
ولا يخفى عليك إذا أعتبر مذهب السلف في الإستعارة يكون ابلعي إستعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للإستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ينقضون عهد الله وأما إذا أعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في نطقت الحال فيلزمه القول بالإستعارة التبعية كما هو المشهور إنه تعالى أمر على سبيل الإستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحا لإستعارة النداء
والحاصل أن في لفظ ابلعي بإعتبار جوهره إستعارة لغور الماء وبإعتبار صورته أعني كونه صورة أمر إستعارة أخرى لتكوين المراد وبإعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للإستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها وأما جعل النداء إستعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه ثم قال جل وعلا : ماءك بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لإتصال الماء بالأرض بإتصال الملك بالمالك وإختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الإختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الإستعارة من حيث أن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل : إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء ثم إختار لإحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي اقلعي
(12/64)

إستعارة بإعتبار جوهره وكذا بإعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ والخطاب فيه أيضا ترشيح لإستعارة النداء والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في ابلعي ثم قال سبحانه : وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء ولا بمن قضي الأمر وسوى السفينة وقال بعدا كما لم يصرح سبحانه بقائل يا أرض ويا سماء في صدر الآية سلوكا في كل واحد في ذلك لسبيل الكناية لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا : يا أرض و يا سماء ولا غائض ما غاض ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره
والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعل بعينه إستتبع لذلك أن يترك ذكره ويبنى الفعل لمفعوله أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل ويسند إلى ذلك المفعول فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية هنا : إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفعل وتعينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم لما أن استوت غير مبني للمفعول كقيل وغيض ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعرض تنبيها لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل عليهم السلام ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة إستحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو بإعتبار المكان ويكون في المحسوس وقد يقال في المعقول نحو ضلوا ضلالا بعيدا واستعماله في الهلاك مجاز قال ناصر الدين : يقال بعد بعدا بضم فسكون وبعدا بالتحريك إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ثم أستعير للهلاك وخص بدعاء السوء ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال : البعد معروف والموت وفعلهما ككرم وفرح بعدا وبعدا فإفهم
وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر فقيل لهما حقيقة ما قيل وأن القائل بعدا نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه والكلام على الأول أبلغ وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه أختير يا دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الإستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ولم يقل يا أرض بالكسر لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفا للأرض وتكريما لها فترك إمدادا للتهاون لم يقل يا أيتها الأرض مع كثرته في نداء الأجناس قصدا إلى الإختصار والإحتراز على تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائها كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء لكونهما أخضر وأورد في الإستعمال وأوفى بالمطابقة فإن تقابلهما إنما إشتهر بهذين الإسمين واختير لفظ ابلعي على إبتلعي لكونه أخضر وأوفر تجانسا باقلعي لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساويا في عدد الحرف وإلا تقاربا فيه بخلاف إابتلعي وقيل : ماءك بالإفراد دون الجمع لما فيه من صورة الإستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل ابلعي بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الإبتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى
(12/65)

مقام عظمة الآمر المهيب وكمال إنقياد المأمور ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال الماء فلم يذكر متعلق اقلعي إختصارا واحترازا عن الحشو المستغنى عنه وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر فلم يقل قيل يا أرض ابلعي فبلعت ويا سماء اقلعي فقلعت لأن مقام الكبرياء وكمال الإنقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة واختير غيض على غيض المشدد لكونه أخضر
وقيل : الماء دون ماء طوفان السماء وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد لقصد الإختصار والإستغناء بحرف التعريف عن ذلك لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود واختير إستوت على سويت أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول إعتبارا لكون الفعل المقابل للإستقرار أعني الجريان منسوبا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله تعالى : وهي تجري بهم مع أن استوت أخضر من سويت واختير المصدر أعني بعدا على ليبعد القوم طلبا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الإختصار في العبارة وهو نزول بعدا وحده منزلة ليبعدوا بعدا مع فائدة أخرة هي الدلالة على إستحقاق الهلاك بذكر اللام وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء إختيارهم في التكذيب من حيث أن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل : يا أرض ابلعي ويا سماء اقلعي دون أن يقال : إبلعي يا أرض واقلعي يا سماء جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح للإستعارة المكنية في الأرض والسماء ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرا إلى كون إبتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا ثم جعل قوله سبحانه : وغيض تابعا لأمر الأرض والسماء لإتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها ألا ترى أصل الكلام قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ماءها ويا سماء اقلعي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله وغيض الماء النازل من السماء فغاض
وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقا لأن إبتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه : ابلعي ماءك
واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين الأرضي والسمائي وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجه ولهذا حمل الزمخشري الماء على مطلقه وأشعر كلامه بأن غيض الماء إخبار عن الحصول المأمور به من قوله سبحانه : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص الماء
ورجح الطيبي ما ذهب إليه السكاكي زاعما أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري وهو عنده مخالف للمعنى الذي ذكره الزمخشري فقال : إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحا للإستعارة تشبيها لإتصاله بها بإتصال الملك بالمالك ولذا جيء الخطاب اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي سببه صارت الأرض مهيأة للخطاب بمنزلة المأمور المطيع وهو المعهود في قوله تعالى : وفار التنور وبهذا الإعتبار يحصل التواغل في تناسى التشبيه والترشيح ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد وكم بينهما هذا ولو حمل على العموم
(12/66)

لاستلزم تعميم إبتلاعه المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي وليس بذاك وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين إذ لا معهود والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذى في النفع والتقوية وصيرورته جزءا منه ولا نظر فيه إلى كونه مملوكا أو غير ذلك وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لإنحصار الماء في الأرضي والسمائي وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه فبلعت وقوله تعالى : وغيض ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان هذا والمطابق تفسير الزمخشري ألا ترى إلى قوله جلا وعلا : فالتقى الماء أي الأرضي والسمائي وههنا تقدم الماء أن في قوله سبحانه : ماءك ويا سماء أقلعي لأن تقديره عن إرسال الماء على زعمهم فإذا قيل : وغيض الماء رجع إليهما لا محالة لتقدمهما ثم إذا جعل من توابع إقلعي خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة أعني وقيل يا أرض إبلعي كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الإنباع ورجعت إلى الإعتدال المطلوب وليس في الإختصاص بالنضوب هذا المعنى البتة إنتهى
وزعم الطبرسي أن أئمة البيت رضي الله تعالى عنهم على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار وأنه هو الذي إبتلع وغاض لا غير وأن ماء السماء صار بحارا وأنهارا
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده وهذا مخالف لما يقتضيه كلام السكاكي مخالفة ظاهرة وفي القلب من صحته ما فيه ثم إنه تعالى إتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة وهو قوله جلت عظمته : وقضي الأمر ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود ثم ختمت القصة بالتعريض الذي علمته هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى للمعاني لطيف وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الكفر في طلب المراد ولا التواء الطريق إلى المرتاد بل إذا جربت نفسك عند إستماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها من لفظة فيها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسة على الأسلات كل منها كالماء في السلالة وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة ولله تعالى در التنزيل ماذا جمعت آياته : وعلى تفنن واصفيه بحسنه يفنى الزمان وفيه مالم يوصف وما ذكر في شرح مزايا هذه الآية بالنسبة إلى ما فيها قطرة من حياض وزهرة من رياض وقد ذكر ابن أبي الأصبع أن فيها عشرين ضربا من البديع مع أنها سبع عشرة لفظة وذلك المناسبة التامة في إبلعي و إقلعي والاستعارة فيهما والطباق بين الأرض والسماء والمجاز في يا سماء فإن الحقيقة يا مطر السماء والإشارة في وغيض الماء فإنه عبر به عن معان كثيرة لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها فينقص ما على وجه الأرض والإرداف في واستوت والتمثيل في وقضى الأمر والتعليل فإن غيض الماء علة للإستواء وصحة التقسيم فإنه استوعب أقسام الماء حال نقصه والإحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق
(12/67)

لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك فإن عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى والإيجاز فإنه سبحانه قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة والتسهيم لأن أول الآية يدل على آخرها والتهذيب لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في محلها مطمئنة في مكانها والإنسجام وزاد الجلال السيوطي بعد أن نقل هذا عن ابن أبي الأصبع الإعتراض وزاد آخرون أشياء كثيرة إلا أنها ككلام ابن أبي الأصبع قد أشير إليها بأصبع الإعتراض وقد ألف شيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين رسالة في هذه الآية الكريمة جمع فيها ما ظهر له ووقف عليه من مزاياها فبلغ ذلك مائة وخمسين مزية وقد تطلبت هذه الرسالة لأذكر شيئا من لطائفها فلم أظفر بها وكأن طوفان الحوادث أغرقها لعل فيما نقلناه سدادا من عوز والله تعالى الموفق للصواب وعنده علم الكتاب
ونادى نوح ربه أي أراد ذلك بدليل تفريع قوله سبحانه : فقال رب إن إبني من أهلي عليه وقيل : النداء على حقيقته والعطف بالفاء لكون حق التفصيل يعقب الإجمال وإن وعدك الحق أي وإن وعدك ذلك أو كل وعد تعده لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا
وأنت أحكم الحاكمين
45
- لأنك أعلمهم وأعدلهم وقد ذكر أنه إذا بنى أفعل من الشيء الممتنع من التفضيل والزيادة يعتبر فيها يناسب معناه معنى الممتنع وقال العز بن عبد السلام في أماليه : إن هذا ونحوه من أرحم الراحمين وأحسن الخالقين مشكل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى جنسه وهنا ليس كذلك لأن الخلق من الله سبحانه بمعنى الإيجاد ومن غيره بمعنى الكسب وهما متباينان يعني على المشهور من مذهب الأشاعرة والرحمة من الله تعالى إن حملت على الإرادة أو جعلت من مجاز التشبيه صح وإن أريد إيجاد فعل الرحمة كان مشكلا أيضا إذ لا موجد سواه سبحانه وأجاب الآمدي بأنه معنى أعظم من يدعي بهذا الإسم واستشكل بأن فيه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه وهو يناسب مذهب المعتزلة فافهم وقيل : المعنى هنا أنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكم كالدارع من الدرع واعترض عليه بأن الباب ليس بقاسي وأنه لم يسمع حاكم بمعنى حكيم وأنه لا يبني منه أفعل إذا لأنه ليس جاريا على الفعل لا يقال : ألبن وأتمر من فلان إذ لا فعل بذلك المعنى والجواب بأنه قد كثر في كلامهم فجوز على أن يكون وجها مرجوحا وبأنه من قبيل أحنك الشاتين لا يخلو عن تعسف كما في الكشف وتعقب بأنه للحكمة فعلا ثلاثيا وهو حكم وأفعل من الثلاثي مقيس وأيضا سمع إحتنك الجراد وألبن وأتمر فغايته أن يكون من غير الثلاثي ولا يخفى ما فيه ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة كقولهم : آبل من أبل بمعنى أعلم وأحذق بأمر الإبل وأيا ما كان فهذا النداء منه عليه السلام يقطر منه الإستعطاف وجميل التوسل إلى من عهده منعما مفضلا في شأنه أولا وآخرا وهو على طريقة دعاء أيوب عليه السلام إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فيكون ذلك قبل الغرق والواو لا تقتضي الترتيب وقيل : إن النداء إنما كان بعده والمقصود منه الإستفسار عن سبب عدم إنجائه مع سبق وعده تعالى بإنجائه أهله وهو منهم وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك قال إستئناف بياني كأنه قيل ما قال له ربه سبحانه حين ناداه بذلك فقيل : قال : يا نوح إنه ليس من أهلك أي ليس منهم
(12/68)

أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية وقد إنقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر ولذا لم يتوارثا وقد ذكروا أن قرابة الدين أقرب من قرابة النسب كما أشار إلى ذلك أبو فراس بقوله : كانت مودة سلمان له نسبا ولم يكن بين نوح وإبنه رحم أو ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالإستثناء وحكى هذا عن ابن جرير وعكرمة والأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى القولين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم وكأنه لما كان دعاؤه عليه السلام بتذكير وعده جل ذكره مبينا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الإستئناف التحقيقي بقوله سبحانه إنه عمل غير صلح وأصله إنه ذو عمل فاسد فحذف ذو للمبالغة بجعله عين عمله لمداومته عليه ولا يقدر المضاف لأنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة منه ونظير ذلك ما في قول الخنساء ترثي أخاها صخرا : ما أم سقب على بو تحن له قد ساعدتها على التحنان آظار ترتع ما رتعت حتى إذا أدركت فإنما هي إقبال وإدبار يوما بأوجع حين فارقتني صخر وللعيش إحلاء وإمرار وأبدل فاسد بغير صالح إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالمظالم وإما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هو لصلاحه
وقرأ الكسائي ويعقوب إنه عمل غير صالح على صيغة الفعل الماضي ونصب غير وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأنس وعائشة وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والأصل عمل عملا غير صالح وبه قريء أيضا كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه وذلك شائع مطرد عند إنكشاف المعنى وزوال اللبس وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول : عمل غير صالح وإنما تقول عمل عملا غير صالح وليس بشيء وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لإبن نوح لأنه فيها له قطعا فيضعف ما قيل : إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك عمل غير صالح على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا يخفى ومثله في ذلك ما قيل : إنه لنداء نوح عليه السلام أي إن نداءك هذا عمل غير صالح وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلا لما تقدم ويفوت ما في ذاك من الفائدة ولا يكون الكلام على مساق واحد نعم روي عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أنه قال : إن نساء الأنبياء عليهم السلام لا يزنين ومعنى الآية مسألتك إياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك
وفي رواية ابن جرير عنه سؤالك ما ليس به علم عمل غير صالح ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الخبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه وهو رضي الله تعالى عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور ثم إنه لما كان دعاؤه عليه السلام مبنيا على كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيه ما ذكر إندراجا أوليا فقال سبحانه : فلا تسئلن
(12/69)

أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني ما ليس لك به علم أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ما عبارة عن المسئول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون النهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال قاله شيخ الإسلام وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي واردا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى وأياما كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا وسمي النداء سؤالا لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله : ربيته حتى إذا تمعددا كان جزائي بالعصا أن أجلدا وإما أن يتعلق بالمستقر في ذلك وكذا الكلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى والآية ظاهرة في أن نداءه عليه السلام لم يكن استفسارا عن سبب عدم إنجائه مع تحقق سبب الإنجاء فيما عنده كما جوزه القاضي بناءا على أنه كان بعد الغرق بل هو دعاء منه عليه السلام لإنجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج مثلا أو بتقريبها إليه وقيل : أو بإنجائه بسبب آخر ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك ومجرد حيلولة الموج لا يستوجب الهلاك فضلا عن العلم به لظهور إمكان عصمة الله تعالى عليه إياه برحمته وقد وعده بإنجاء أهله ولم يعتقد أن فيه مانعا من الإنتظام في سلكهم لمكان النفاق وعدم المجاهرة بالكفر لما في ذلك لفظا من الإحتياج إلى القول بالحذف والإيصال ومعنى من أن النهي عن الإستفسار عما لا يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الإستفسار عنه لا إلى تركه
وقيل : إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة وشبه الإعتراض فيه أنه تعين له عليه السلام أنه من المستثنين بهلاكه فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف
وقيل : إن النهي إنما هو سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهم أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للإسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى
ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر
فالحق أن ذلك مسألة الإنجاء وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها ولم يكن عالما بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهرا به وإلا لم يدع له بل يدعه أيضا ولا تكن مع الكافرين لا يدل على أنه كافر عنده بل هو نهي عن الدخول في غمارهم وقطع بأنه ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا وكأنه عليه السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهول عن إعطاء التأمل حقه فلذلك طلب ما طلب فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند ويرجع هذا إلى ترك الأولى وهو المراد بقوله سبحانه : إني أعظك أن تكون من الجاهلين
46
-
وذكر شيخ الإسلام أن إعتزاله قصده الإلتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بإنحصار النجاة في الفلك وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه أو لكراهة الإحتباس في الفلك بل قوله سآوي إلى جبل يعصمني من الماء بعد ما قال له نوح ولا تكن مع الكافرين ربما يطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين
(12/70)

ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له : إني الخ وهو ظاهر في أن مدار العتاب لاشتباهه كما ذكرنا وإليه ذهب الزمخشري قال : إن الله تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخاطبه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنى لا من المستثنى منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه وكأنه أراد أن الإستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويفحص في الأهل عن وجوده وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلا فيسأل إجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولى العزم مؤاخذون بالنقير والقمطير وحسنات الأبرار سيئات المقربين وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابا قال : في كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله ثم قال : ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلا عن نصها مع تبرئة نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول : لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه ولا مطلقا على باطن أمره بل كان معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله تعالى فيه بناءا على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتابا فإن نوحا عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيبا وأما قوله سبحانه : إني أعطك الخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن علمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهي عنه كما يدل عليه قوله سبحانه : قال رب أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ولا يخفى سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدا وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال : بلغني أن نوحا عليه السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يوما وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال : لما عاتب الله تعالى نوحا في ابنه وأنزل عليه إني أعظك بكى ثلثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء
وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره وذلك أن نوحا عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة والده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك واعترض بأنه إذا كان عالما بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرا من المناكير فتدبر والظاهر على ما قررنا أن قوله : رب الخ توبة مما وقع منه عليه السلام وما هنا أيضا عبارة إما عن السئول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشيتبه الحال أولا أعلم أنه صواب أو غير صواب ولم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة
(12/71)

وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول : أتوب إليكم أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في البقرة من قول موسى عليه السلام أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين
هذا وفي مصحف ابن مسعود إنه عمل غير صالح أن تسألني ورجح به كون ضمير إنه في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال وقرأ ابن كثير فلا تسألن بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذا قرأ نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألني فحذفت نون الوقاية لإجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء إكتفاءا بالكسرة وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر وقرأ الحسن وابن أبي مليكة تسألني من غير همز من سال يسال فهما يساولان وهي لغة سائرة وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو وحذفها الباقون وإلا تغفر لي ما صدر عني من السؤال المذكور وترحمني بقبول توبتي أكن من الخاسرين
47
- أعمالا بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه : فكان من المغرقين حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل : ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على إستقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب إلخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا
واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء الله تعالى ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجزة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما بتمام القصة وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم إقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين ولهذه النكتة إزداد حسن موقع الإيجاز البليغ وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد فكان من المغرقين لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك إلخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء ثم قال تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها بقوله عز و جل : قيل يا نوح اهبط إلخ وهو الحسن بمكان وبني الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو الله تعالى وقيل : القائل الملائكة عليهم السلام والهبوط النزول قيل : أي أنزل من الفلك وقيل : من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة إستوت على الجودي في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك
(12/72)

شهرا ثم قيل له إهبط فهبط بأرض الموصل وبنى قرب الجبل قرية يقال لها : قرية الثمانين عدد من في السفينة وفي رواية عن ابن عباس أنه بنى كل منهم بيتا فسميت سوق الثمانين
وأخرج ابن مردوية عن عمر رضي الله تعالى عنه قال : لما إستقرت السفينة على الجودى لبث نوح عليه السلام ما شاء الله تعالى ثم أذن له بالهبوط فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال : إئتني بخبر الأرض فإنحدر إلى الأرض وفيها الغرقى من قوم نوح فوقع على جيفة منهم فأبطأ علبه فلعنه ودعا الحمامة فوقفت على كفه فقال : إهبطي فأتني بخبر الأرض فإنحدرت فلم تلبث قليلا حتى جاءت تنقض ريشها بمنقارها فقالت : إهبط فقد أنبتت الأرض فقال نوح : بارك الله تعالى فيك وفي بيت يأويك وحببك إلى الناس ولولا أن يغلبك الناس على نفسك لدعوت الله سبحانه أن يجعل رأسك من الذهب والظاهر عندي أن الهبوط من الجودى الذي إستقرت عليه السفينة إلى الأرض وليس في الكلام ما يستعدي أن يكون بعد الإستقرار بلا مهلة ليقال : إن ما تحت الجبل مغمور إذ ذاك بالماء والتعبير بالهبوط على هذا في غاية الظهور ولعل ذلك على أن يكون المراد من السفينة لمكان الركوب وخبر الحمامة والغراب قد طار في الآفاق وأولع به القصاصون والله تعالى أعلم بصحته وغالب الظن أنه لم يصح وكذا إشتهر خبر قرية الثمانين في أرض الموصل لما ضاقت عليهم تحولوا إلى بابل فبنوها
وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أنه قال : أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران ودمشق ثم بابل وقريء اهبط بضم الباء بسلم أي ملتبسا بسلامة مما تكره كائنة منا أي من جهتنا ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلما عليك من جهتنا وبركات عليك أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق أو مباركا عليك أي مدعوا لك بالبركة بأن يقال : بارك الله تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله : السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وأصل البرك كما قال الراغب صدر البعير يقال : برك البعير إذا ألقى بركه واعتبر فيه اللزوم ولذا سمي الماء بركة والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة
ولما كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة : هو مبارك وفيه بركة ولما في ذلك من الإشعار باللزوم وكونه غير محسوس إختص تبارك بالإستعمال في الله تبارك وتعالى كما قيل وفي الكشف كل شيء ثبت وأقام فقد برك وأخذ بروك البعير منه ثم البرك بمعنى الصدر من الثاني لأنه آلة بروكه أظهر وحكى عبدالعزيز بن يحيى عن الكسائي أنه قرأ وبركة بالتوحيد وفي الآية على القرائتين صنعة الإحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأول وذكر فيه ما حذف من الأول والتقدير سلام منا عليك وبركات أو وبركة منا عليك وهذا منه تعالى إعلام وبشارة بقبول توبته عليه السلام وخلاصه من الخسران مع الإشارة إلى عود الأرض إلى حالها من الإنبات وغيره وعلى أمم ناشئة ممن معك متشعبة منهم فمن إبتدائية والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة والمراد ممن معه أولاده من إطلاق العام وإرادة الخاص بناءا على ما قيل : إنه لم يعقب غيرهم فالناس كلهم على هذا من نسل نوح عليه السلام ومن هنا سمي عليه السلام آدم الثاني وآدم الأصغر واستدل لذلك بقوله تعالى : وجعلنا ذريته
(12/73)

هم الباقون وقد يقال ببقاء من على عمومه بناءا على ما عليه أكثر المفسرين من عدم إختصاص النسل بأولاده عليه السلام بل لمن معه نسل باق أيضا والكلام في إستدلال الأولين سيأتي إن شاء الله تعالى وقوله سبحانه : وأمم بالرفع وهو على ما ذهب إليه الزمخشري مبتدأ وجملة قوله تعالى : سنمتعهم صفته والخبر محذوف أي ومنهم أمم وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشبعة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركا له في السلام والبركات بل منهم أمم يتمتعون في الدنيا ثم يمسهم فيها أو في الآخرة أو فيهما منا عذاب أليم
48
- وجوز أبو حيان أن يكون أمم مبتدأ محذوف الصفة والصفة وهي المسوغة للإبتداء بالنكرة والتقدير وأمم منهم وجملة سنمتعهم هو الخبر كما قالوا : السمن منوان بدرهم وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضا سنمتعهم ومسوغ الإبتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر : إذا ما بكى من خلقها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول وقول القرطبي : إنه إرتفع أمم على معنى ويكون أمم إن أراد به تفسير معنى فحسن وإن أراد الإعراب فليس يجيد لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون وقال الأخفش : هذا كما تقول : كلمت زيدا وعمرو جالس يحتمل أن يكون من باب العطف ويحتمل أن يكون الواو للحال وتكون الجملة هنا حالا مقدرة لأن وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة
وقال أبو البقاء : إن أمم معطوف على الضمير في اهبط والتقدير اهبط أنت وأمم وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد و سنمتعهم نعت لأمم وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى : ومن آمن ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم الله سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد
وجوز أن تكون من في ممن معك بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك وسموا أمما لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازا فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه : وأمم سنمتعهم بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة
وفي الكشاف إن الوجه هو الأول قيل : ليقابل قوله تعالى : وأمم سنمتعهم ولأنه أشمل ولأن من الإبتدائية لا سيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به قوله سبحانه : إنه عمل غير صالح ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني واكتفى بسلام نوح عليه السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والإتحاد معه عليه السلام فلا يراد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلما عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الإعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة وإن جعل من باب إن إبراهيم كان أمة لم يلائم تفخيم نوح عليه السلام وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه السلام مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال : حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم
(12/74)

فيما تقدم نعم قيل : إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاءا لأن من المذكورة بيانية والمحذوفة تبعيضية أو إبتدائية وربما يجاب عنه أيضا بإلزام أن لا حذف أصلا كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفا فتدبر جميع ما ذكر
والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن محمد القرظي قال : دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال في الآية ما زال الله تعالى يأخذ لنا بسهمنا وحظنا ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا كلما هلكت أمة خلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس وقيل : المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام وبالعذاب ما نزل بهم وبالغ بعضهم في عموم الأمم في الأول فجعلها شاملة لسائر الحيوانات التي كانت معه عليه السلام فإن الله تعالى جعل فيها البركة وليس بشيء كما لا يخفى وههنا لطيفة وهي أنه تكرر في هذه الآية حرف واحد مرات مع غاية الخفة ولم تتكرر الراء مثله في قوله : وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر ومع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق ولله تعالى شأن التنزيل ما أكثر لطائفه تلك إشارة إلى قصة نوح عليه السلام وهي لتقضيها في حكم البعيد ويحتمل أنه أشير بأداة البعد إلى بعد منزلتها وقيل : إن الإشارات إلى آيات القرآن وليس بذاك وهي في محل الرفع على الإبتداء وقوله سبحانه : من أنباء الغيب أي بعض أخباره التي لها شأن وكونها بعض ذلك بإعتبار أنها على التفصيل لم تبق لطول العهد معلومة لغيره تعالى حتى إن المجوس على ما قيل : ينكرونها رأسا وقيل : إن كونها من الغيب لغير أهل الكتاب وقد ذكر غير واحد أن الغيب قسمان : ما لا يتعلق به علم مخلوق أصلا وهو الغيب المطلق وما لا يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف بالنسبة إلى ذلك المخلوق وهو مراد الفقهاء في تكفير الحاكم على الغيب وقوله سبحانه : نوحيها خبر ثان لتلك والضمير لها أي موحاة إليك أو هو الخبر من أنباء متعلق به وفائدة تقديمه نفى أن يكون علم ذلك بكهانة أو تعلم من الغير والتعبير بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو من أنباء هو الخبر وهذا في موضع الحال من أنباء والمقصود من ذكر كونها موحاة إلجاء قومه صلى الله تعالى عليه وسلم للتصديق بنبوته عليه الصلاة و السلام وتحذيرهم مما نزل بالمكذبين وقوله تعالى : ما كنت تعلمها أنت ولا قومك خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك من قبل هذا أي الإيحاء إليك المعلوم مما مر وقيل : أي الوقت وقيل : أي العلم المكتسب بالوحي
وفي مصحف ابن مسعود من قبل هذا القرآن ويحتمل أن يكون حالا من الهاء في نوحيها أو الكاف من إليك أي غير عالم أنت ولا قومك بها وذكر القوم معه صلى الله عليه و سلم من باب الترقي كما تقول : هذا الأمر لا يعلمه زيد ولا أهل بلده لأنهم مع كثرتهم إذا لم يعلموا ذلك فكيف يعلمه واحد منهم وقد علم أنه لم يخالط غيرهم
فاصبر متفرع على الإيحاء أو على العلم المستفاد منه المدلول عليه بما تقدم من قبل هذا أي وإذ قد أوحيناها إليك وعلمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح عليه السلام على ما سمعته من أنواع
(12/75)

البلايا في هذه المدة المتطاولة وقيل : وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله سبحانه : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك إلخ إن العقبة بالظفر في الدنيا وبالفوز بالآخرة للمتقين
49
- كما سمعت ذلك في نوح عليه السلام وقومه قيل : هو تعليل للأمر بالصبر وتسلية له صلى الله عليه و سلم والمراد بالتقوى الدرجة الأولى منها وجوز أن يراد بها الدرجة الثالثة وهي بذلك المعنى منطوية على الصبر فكأنه قيل : فإصبر فإن العاقبة للصابرين وقيل : الآية فذلكة لما تقدم وبيان للحكمة في إيحاء ذلك من إرشاده صلى الله تعالى عليه وسلم وتهديد قومه المكذبين له والله تعالى أعلم
ومن باب الإشارة في الآيات فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك إلخ لما كان مقتضى الطباع البشرية عدم نشاط المتكلم إذا لم يجد محلا قابلا لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلى الله عليه و سلم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة وقال سبحانه : إنما أنت نذير ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين : رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل والله على كل شيء وكيل فكل الهداية إليه من كان يريد بعمله الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة الحياة الدنيا كالجاه والمدح نوف إليهم أعمالهم أي جزاءها فيها إن شئنا وهم لا يبخسون أي لا ينقصون شيئا منها أولئم الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية وخطب ما صنعوا فيها من أعمال البر فلم ينتفعوا بها وجاء إنما الأعمال بالنيات ولكل امريء ما نوى الحديث أفمن كان على بينة من ربه أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي ويتلوه شاهد منه وهو القرآن المصدق لذلك ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية ويحكم بكون الكشف صحيحا إذا شهدت له ووافقته ولذا قالوا : كل كشف خالف ما جاء عن الله تعالى ليس بمعتبر ومن قبله كتاب موسى أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليه السلام في حالة كونه إماما يؤتم به في تحقيق المطالب ورحمة لمن يهتدي به وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم وقد قدمنا ما فيها من الإحتمالات وقد ذكروا أن المراد بيان بعد ما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه
وللصوفية قدست أسرارهم عيارات شتى في البينة فقال رويم : هي الإشراف عن القلوب والحكم على الغيوب وقال سيد الطائفة : هي حقيقة يؤيدها ظاهر العلم وقيل : غير ذلك وعن أبي بكر بن طاهر أن من كان على بينة من ربه كانت جوارحه وقفا على الطاعات والموافقات ولسانه مشغولا بالذكر ونشر الآلاء والنعماء وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق وسره وروحه مشاهدين للحق في جميع الأوقات وكان عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ورؤيته يقين لا شك فيه وحكمه على الخلق كحكم الحق لا ينطق إلا بالحق ولا يرى إلا الحق لأنه مستغرق به فأنى يرى سواه ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا إلخ جعله بعضهم إشارة إلى المثبتين لغيره سبحانه وجودا وهم أهل الكثرة والحجاب وفسر الأشهاد بالموحدين الذين لا يشهدون في الدار غيره سبحانه ديارا
ومن الناس من عكس الأمر وجعلها ردا على أهل الوحدة القائلين : إن كل ما شاهدته بعينك أو تصورته بفكرك فهو الله سبحانه بمعنى كفر النصارى إيمان بالنسبة إليه وحاشا أهل الله تعالى من القول به على ما يشعر به ظاهره ومنهم من جعلها مشيرة إلى حال من يزعم أنه ولي الله تعالى ويتزيا بزي السادات ويتكلم بكلماتهم وهو في الباطن أفسق من قرد وأجهل من حمار تومه مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع قيل : البصير من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته والسميع من يسمع ما يخاطب من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال وقيل : البصير الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ولا يتعجب
(12/76)

من شيء والسميع من يسمع من الحق فيميز الإلهام من الوسواس وقيل : البصير هو الذي يشهد أفعاله بعلم اليقين وصفاته بعين اليقين وذاته بحق اليقين فالغائبات له حضور والمستورات له كشف والسميع من يسمع من دواعي العلم شرعا ثم من خواطر التعريف قدرا ثم يكاشف بخاطب من الحق سرا وقيل : السميع من لا يسمع إلا كلام حبيبه و البصير من لا يشاهد إلا الأنوار
فهو في ضيائها ليلا ونهارا وإلى هذا يشير قول قائلهم : ليلى من وجهك شمس الضحى وإنما السدفة في الجو الناس في الظلمة من ليلهم ونحن من وجهك في الضو وفسر كل من الأعمى والأصم بضد ما فسر به البصير والسميع والمراد من قوله سبحانه : هل يستويان أنهما لا يستويان لما بينهما من التقابل والتباعد إلى حيث لا تتراءى نارهما ثم إنه تعالى ذكر من قصة نوح عليه السلام مع قومه ما فيه إرشاد وتهديد وعظة ما عليها مزيد فقال الملأ الذين كفروا من قومه أي الأشراف المليؤول بأمور الدنيا الذين حجبوا بما هم فيه عن الحق ما نراك إلا بشرا مثلنا لكونهم واقفين عند حد العقل المشوب بالوهم فلا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه ولم يشعروا بمقام النبوة ومعناها وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وصفوهم بذلك لفقرهم حيث كانوا لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ولم يعلموا أن الشرف بالكمال لا بالمال
وما نرى لكم علينا من فضل وتقدم يؤهلكم لما تدعونه بل نظنكم كاذبين فلا نبوة لك ولا علم لهم قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي يجب عليكم الإذعان بها وآتاني رحمة هداية خاصة كشفية متعالية عن درجة البرهان من عنده فوق طور عقولكم من العلوم اللدنية ومقام النبوة فعميت عليكم لإحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة أنلزمكموها ونجبركم عليها وأنتم لها كارهون لا تلتفتون إليها كأنه عليه السلام أراد أنه لا يكون إلزام ذلك مع الكراهة لكن إن شئتم تلقيه فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوا ذلك وفيه إشارة إلى أن المنكر لا يمكن له الإستفاضة من أهل الله تعالى ولا يكاد ينتفع بهم ما دام منكرا ومن لم يعتقد لم ينتفع ويا قوم لا أسئلكم عليه مالا أي ليس لي مطمح في شيء من أموالكم التي ظننتم أن الشرف بها إن أجرى إلا على الله فهو يثيبني بما هو خير وأبقى وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم أي إنهم أهل الزلفة عنده تعالى وهم حمائم أبراج الملكوت وبزاة معارج الجبروت ولكني أراكم قوما تجهلون تسفهون عليهم وتؤذونهم ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم كما تريدون وهم بتلك المثابة أفلا تذكرون لتعرفوا إلتماس طردهم ضلال وفيه إشارة إلى أن الإعراض عن فقراء المؤمنين مؤد إلى سخط رب العالمين
قال أبو عثمان : في الآية ما أنا بمعرض عمن أقبل على الله تعالى فإن من أقبل على الله تعالى بالحقيقة أقبل الله تعالى عليه ومن أعرض عمن أقبل الله تعالى عليه فقد أعرض عن الله سبحانه ولا أقول لكم عندي خزائن الله إلخ أي أنا لا أدعي الفضل بكثرة المال بالإطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك وبمنافاة البشربة لما أنا عليه ولا أقول للذين تنظرون إليهم بعين الحقارة لن يؤتيهم الله خيرا كما تقولون أنتم إذ الخير عندي ما عند الله تعالى لا المال الله أعلم بما في أنفسهم من الخير مني ومنكم وهو أعلم بقدرهم
(12/77)

وخطرهم إني إذا أي إذ نفيت لمن الظالمين مثلكم واصنع الفلك بأعيننا قيل : فيه إشارة إلى عين الجمع المشار إليه بخبر لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل الحديث
وقيل : أي كن في أعين رعايتنا وحفظنا ولا تكن في رؤية عملك والإعتماد عليه فإن من نظر إلى غيري إحتجب به عني وقال بعضهم : أي أسقط عن نفسك تدبيرك واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا دون مشاهدة نفسك أو أحد من خلقي وقيل : أي إصنع الفلك ولا تعتمد عليه فإنك بأعيننا رعاية وكلاءة فأن إعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت من أعيننا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فيه إشارة إلى رقة قلبه عليه السلام بعد إحتمال جفوتهم وأذيتهم وهكذا شأن الصديقين والكلام في باقي الآية ظاهر ولا يخفى أنه يجب الإيمان بظاهرها والتصديق بوقوع الطوفان حسبما قص الله سبحانه وإنكار ذلك كفر صريح لكن ذكر بعض السادة أنه بعد الإيمان بذلك يمكن إحتمال التأويل على أنه حظ الصوفي من الآية وذلك بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه والطوفان بإستيلاء بحر الهيولي وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبي وتزكية نفس كما جاء في مخاطبات إدريس عليه السلام لنفسه ما معناه إن هذه الدنيا بحر مملوء ماءا فإن إتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت وعلى هذا يقال : معنى ويصنع الفلك يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر العلوم تنتظم بها الأعمال وتحكم وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه كما هو المشاهد في أرباب الخلاعة الممطتين غارب الهوى يسخرون من المتشرعين المتقيدين بقيود الطاعة قال إن تسخروا منا بجهلكم فإنا نسخر منكم عند ظهور وخاصة عاقبتكم كما تسخرون فسوف تعلمون عند ذلك من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا من حلول ما لا يلائم غرضه وشهوته ويحل عليه عذاب مقيم في الآخرة من إستيلاء نيران الحرمان وظهور هيئات الرذائل المظلمة حتى إذا جاء أمرنا بإهلاك أمته وفار التنور بإستيلاء الأخلاط الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولي على نار الروح الحيوانية أو أمرنا بإهلاكهم المعنوي وفار التنور بإستيلاء ماء هوى الطبيعة على القلب وإغراقه في بحر الهيولي الجسماني قلنا احمل فيها من كل زوجين أي من كل صنفين من نوع إثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء الأشخاص
ومعنى حملهما فيها علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الأنسية فإن علمه جزء من السفينة المتركبة من العلم والعمل فمعلوميتهما محموليتهما وعالميته بهما حامليته إياهما فيها وأهلك ومن يتصل بك في سيرتك من أقاربك إلا من سبق عليه القول أي الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره ومن آمن من أمتك وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها أي بسم الله تعالى الأعظم الذي هو وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إجراء أحكامها وترويجها في بحر العالم الجسماني وإثباتها وأحكامها كما ترى من إجراء كل شريعة وأحكامها بوجود الكامل ممن ينسب إليها إن ربي لغفور لهيآت نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم المغرقة في بحرها وذلك بمتابعة الشريعة رحيم بإضافة المواهب العلمية والكشفية والهيآت النورانية التي ينجيكم بها وهي تجري بهم في موج من بحر الطبيعة الجسمانية كالجبال الحاجبة للنظر المانعة من السير وهم لا يبالون بذلك محفوظون من أن يصيبهم شيء من ذلك الموج وهذا الجريان يعرض للسالك في إبتداء أمره ولو لا أنه محفوظ في لزوم سفينة الشرع لهلك
(12/78)

ولعل في الآية على هذا تغلبنا ونادى نوح ابنه المحجوب بالعقل المشوب بالوهم وكان في معزل لذلك الحجاب عن الدين والشريعة يا بني اركب معنا أي أدخل في ديننا ولا تكن مع الكافرين المحجوبين الهالكين بأمواج هوى النفس المغرقين في بحر الطبع قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي سألتجيء إلى الدماغ وأستعصم بالعقل المشرق هناك ليحفظني من إستيلاء بحر الهيولي فلا أغرق فيه قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وهو الله الذي رحم أهل التوحيد وأفاض عليهم من شآبيب لطفه ما عرفوا به دينه الحق وحال بينهما الموج أي موج هوى النفس وإستيلاء ماء بحر الطبيعة وحجب عن الحق فكان من المغرقين في بحر الهيولي الجسمانية وقيل : من جهة الحق على لسان الشرع لأرض الطبيعة يا أرض ابلعي ماءك وقفي على حد الإعتدال ولسماء العقل المحجوبة بالعادة والحسن المشوبة بالوهم المغيمة بغيم الهوى يا سماء اقلعي عن إمداد الأرض وغيض الماء أي ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق المانعة للحياة الحقيقية وقضي الأمر بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك واستوت أي سفينة شريعته على الجدوى وهو جبل وجود نوح وقيل بعدا للقوم الظالمين الذين عبدوا الهوى دون الحق ووضعوا الطبيعة مكان الشريعة ونادى نوح ربه إلخ الكلام على هذا الطرز فيه ظاهر قيل يا نوح اهبط من محل الجمع وذروة مقام الولاية والإستغراق في التوحيد إلى مقام التفصيل وتشريع النبوة بالرجوع إلى الخلق ومشاهدة الكثرة في عين الوحدة غير معطل للمراتب بسلام منا أي سلامة عن الإحتجاب بالكثرة وبركات من تقنين قوانين الشرع عليك وعلى أمم ناشئة ممن معك على دينك إلى آخر الزمان وأمم أي وينشأ ممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا ثم يمسهم منا في العقبى عذاب أليم بإحراقهم بنار الآثار وتعذيبهم بالهيآت المظلمة
هذا ثم ذكر أنه إذا شئت التطبيق على ما في الأنفس أولت نوحا بروحك والفلك بكمالك العلمي والعملي الذي به نجاتك عند طوفان بحر الهيولي والتنور بتنور البدن وفورانه إستيلاء الرطوبة الغريبة والأخلاط الفاسدة وما أشار إليه من كل زوجين اثنين بجيوش القوى الحيوانية والطبيعة وطيور القوى الروحانية وأولت ما جاء في القصة من البنين الثلاثة والزوجة بحام القلب وسام العقل النظري ويافث العقل العملي وزوجة النفس المطمئنة والإبن الآخر الوهم والزوجة الأخرى الطبيعة الجسمانية التي يتولد منها الوهم والجبل بالدماغ واستواءها على الجودي وهبوطه بمثل نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان إنتهى ومن نظر بعين الإنصاف لم يعول إلا على ظاهر القصة وكان له به غنى عن هذا التأويل واكتفى بما أشار إليه من أن النسب إذا لم يحط الصلاح كان غريقا في بحر العدم
فما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من بأهله ومن أنه ينبغي للإنسان التحري بالدعاء وأن لا تشغله الشفقة عن ذلك إلى غير ما ذكر والآية نص في كفر قوم نوح عليه السلام الذين أغرقهم الله تعالى وفي نصوص الحكم للشيخ الأكبر قدس سره ما هو نص في إيمانهم ونجاتهم من العذاب يوم القيامة وذلك أمر لا نفهمه من كتاب ولا سنة وفوق كل ذي علم عليم والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وإلى عاد متعلق بمحذوف معطوف على قوله سبحانه : أرسلنا في قصة نوح وهو الناصب لقوله تعالى : أخاهم أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحدا منهم في النسب كقولهم :
(12/79)

يا أخا العرب وقدم المجرور ليعود الضمير عليه وقيل : إن إلى عاد أخاهم عطف على قوله تعالى : نوحا إلى قومه المنصوب على المنصوب والجار والمجرور على الجار والمجرور وهو من العطف على معمولي عامل واحد وليس من المسألة المختلف فيها نعم الأول أقرب كما في البحر لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المفردات المتعاطفة وقوله سبحانه : هودا عطف بيان لأخاهم وجوز أن يكون بدلا منه وكان عليه السلام ابن عم أبي عاد وأرسل إليهم من هو منهم ليكون ذلك أدعى إلى إتباعه قال إستئناف بياني حيث كان إرساله عليه السلام مظنة للسؤال عما قال لهم ودعاهم كأنه قيل : فما قال لهم حين أرسل إليهم فقيل : قال : يا قوم ناداهم بذلك إستعطافا لهم وقرأ ابن محيصن يا قوم بالضم وهي لغة في المنادى المضاف إلى ياء حكاها سيبويه وعيره اعبدوا الله أي وحده وكانوا مشركين يعبدون الأصنام ويدل على أن المراد ذلك قوله تعالى : ما لكم من إله غيره فإنه إستئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل للأمر بها كأنه قيل : أفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله غيره سبحانه على أنه لا إعتداد بالعبادة مع الإشراك فالأمر بها يستلزم الأمر بإفراده سبحانه بها و غيره بالرفع صفة لإله بإعتبار محله لأنه فاعل للظرف لإعتماده على النفي وقرأ الكسائي بالجر على أنه صفة له جار على لفظه إن أنتم ما أنتم بجعلكم الألوهية لغيره تعالى كما قال الحسن أو بقولكم : إن الله تعالى أمرنا بعبادة الأصنام إلا مفترون
50
- عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني خاطب به كل رسول قومه إزاحة لما عسى أن يتوهموه وتمحيضا للنصيحة فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير وإيراد الموصول للتفخيم وجعل الصلة فعل الفطر الذي هو الإيجاد والإبداع لكونه أبعد من أن يتوهم نسبته إلى شركائهم ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله مع كونه أقدم النعم الفاضلة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجريان على موجب أمره سبحانه الغالب معرضا عن المطالب الدنيوية التي من جملتها الأجر ولعل فيه إشارة إلى أنه عليه السلام غني عن أجرهم الذي إنما يرغب فيه للإستعانة به على تدبير الحال وقوام العيش بالله تعالى الذي أوجده بعد أن لم يكن وتكفل له بالرزق كما تكفل لسائر من أوجده من الحيوانات أفلا تعقلون
51
- أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله تعالى ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك فتنقادون لما يدعوكم إليه أو تجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئا أصلا فإن الأمر مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء
ويا قوم استغفروا ربكم من الشرك ثم توبوا أي إرجعوا إليه تعالى بالطاعة أو توبوا إليه سبحانه وأخلصوا التوبة واستقيموا عليها وقيل : الإستغفار كناية عن الإيمان لأنه من روادفه وحيث أن الإيمان بالله سبحانه لا يستدعي الكفر بغيره لغة قيل : ثم توبوا فكأنه قيل : آمنوا به ثم توبوا إليه تعالى من عبادة غيره وتعقب بأن قوله سبحانه : اعبدوا الله دل على إختصاصه تعالى بالعبادة فلو حمل استغفروا على ما ذكر لم يفد فائدة زائدة سوى ما علق عليه وقد كان يمكن تعليقه بالأول والحمل على غير الظاهر مع قلة الفائدة مما يجب الإحتراز عنه في كلام الله تعالى المعجز وقيل المراد بالإستغفار التوبة عن الشرك وبالتوبة التوبة عما صدر منهم
(12/80)

غير الشرك وأورد عليه أيضا أن الإيمان يجب ما قبله وقيل : المراد بالأول طلب المغفرة بالإيمان والثاني التوسل إليه سبحانه بالتوبة عن الشرك وأورد عليه أن التوسل المذكور لا ينفك عن طلب المغفرة بالإيمان لأنه من لوازمه فلا يكون بعده كما تؤذن به ثم وقيل : وقيل وقد تقدم بعض الكلام في ذلك أول السورة
ويرسل السماء أي المطر كما في قوله : إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا عليكم مدرارا كثير الدر متتابعه من غير إضرار فمفعال للمبالغة كمعطار ومقدام
ويزدكم قوة إلى قوتكم أي عزا مضموما إلى عزكم أو مع عزكم ويرجع هذا إلى قوله تعالى : ويمددكم بأموال وبنين لأن العز الدنيوي بذلك وعن الضحاك تفسير القوة بالخصب وعن عكرمة تفسيرها بولد الولد وقيل : المراد بها قوة الجسم ورغبهم عليه السلام بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات وقيل : حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم هود عليه السلام على الإستغفار والتوبة كثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل وقيل : القوة الأولى في الإيمان والثانية في الأبدان أي يزدكم قوة في إيمانكم إلى قوة أبدانكم ولا تتولوا أي لا تعرضوا عما دعوتكم إليه مجرمين
52
- مصرين على ما أنتم عليه من الإجرام وقيل : مجرمين بالتولي وهو تكلف
قالوا يا هود ما جئتنا ببينة أي بحجة واضحة تدل على صحة دعواك وإنما قالوه لفرط عنادهم أو لشدة عماهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات فإعتقدوا أن ما هو آية ليس بآية وإلا فهو وغيره من الأنبياء عليهم السلام جاءوا بالبينات الظاهرة والمعجزات الباهرة وإن لم يعين لنا بعضها ففي الخبر ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وما نحن بتاركي آلهتنا أي بتاركي عبادتها عن قولك أي بسبب قولك المجرد عن البينة فعن للتعليل كما قيل في قوله تعالى : إلا عن موعدة وعدها إياه وإلى هذا يشير كلام ابن عطية وغيره فالجار والمجرور متعلق بتاركي
وذهب بعض المحققين إلى أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستتر فيه أي صادرين وهو من الصدر مقابل الورد بمعنى الرجوع عن الماء وقد شاع في كلامهم إستعمال الصدر والورد كناية عن العمل والتصرف ومنه قوله : ما أمس الزمان حاجا إلى من يتولى الأيراد والإصدارا أي يتصرف في الأمور بصائب رأيه وقد يكتفي بالصد في ذلك لإستلزامه للورد فيقولون : لا يصدر إلا عن رأيه والمعنى هنا حينئذ ما نحن بتاركي آلهتنا عاملين بقولك والنفي فيه راجع إلى القيد والمقيد جميعا لأنهم لا يتركون آلهتهم ولا يعملون بقوله عليه السلام وقيل : إن صادرين بمعنى معرضين وهو قيد للنفي والمعنى إنتفى تركنا عبادة آلهتنا معرضين عن قولك ويكون هذا جوابا لقوله : لا تتولوا وجعل بعضهم إرادة ذلك من باب التضمين لا من باب تقدير المتعلق بقرينة عن وجعله كناية كما علمت وكلام الزمخشري ظاهر في هذا كما يكشف عنه كلام الكشف وما نحن لك بمؤمنين
53
- أي بمصدقين فيما جئت به أو في كل ما تأتي وتذر ويندرج فيه ذلك وقد بالغوا في الإباء عن الإجابة فأنكروا الدليل على نبوته عليه السلام
(12/81)

ثم قالوا مؤكدين لذلك وما نحن بتاركي إلخ ثم كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الإسمية مع زيادة الباء وتقديم المسند إليه المفيد للتقوى دلالة على أنهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه وفي ذلك من الدلالة على الإقناط ما فيه إن نقول إلا اعتراك أي أصابك من عراه يعروه وأصله من إعتراه بمعنى قصد عراه أي محله وناحيته بعض آلهتنا بسوء أرادوا به قاتلهم الله تعالى الجنون والباء للتعدية والتنكير فيه قيل : للتقليل كأنهم لم يبالغوا في العتو كما ينبيء عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها وقيل : للتكثير إشارة إلى أن ما قاله لا يصدر إلا عمن أصيب بكثير سوء مبالغة في خروجه عن قانون العقل وذكر البعض تعظيما لأمر آلهتهم وأن البعض منها له من التأثير ما له والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الإستثناء مفرغ وأصله أن نقول قولا إلا قولنا هذا فحذف المستثنى منه وحذف القول المستثنى وأقيم مقوله مقامه أو اعتراك هو المستثنى لأنه أريد به لفظه فلا حاجة إلى تقدير قول بعد إلا وليس مما إستثنى فيه الجملة ومعنى هذا أنه أفسد عقلك بعض آلهتنا لسبك إياها وصدك عن عبادتها وحطك لها عن رتبة الألوهية بما مر من قولك : ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون وغرضهم من هذا على ما قيل : بيان سبب ما صدر عن هود عليه السلام بعد ما ذكروا من عدم إلتفاتهم لقوله عليه السلام وقيل : هو مقرر لما مر من قولهم : وما نحن بتاركي إلخ وما نحن لك إلخ فإن إعتقادهم بكونه عليه السلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدم الإعتداد بقوله وعده من قبيل الخرافات فضلا عن التصديق والعمل بمقتضاه يعنون أنا لا نعتقد كلامك إلا ما لا يحتمل الصدق من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نؤمن به ونعمل بموجبه ! ولقد سلكوا طريق المخالفة والعناد إلى سبيل الترقي من السيء إلى الأسوأ حيث أخبروا أولا عن عدم مجيئه بالبينة مع إحتمال كون ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد وثانيا عن ترك الإمتثال لقوله عليه السلام : بقولهم : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له في كلامه ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه السلام بقولهم : وما نحن لك بمؤمنين مع كون كلامه عليه السلام مما يقبل التصديق ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون إنتهى
وللبحث فيه مجال ولعل الإتيان بهذه الجملة غير مقترنة بالعاطف كالجملتين الأوليين يؤيد كونها ليست مسوقة للتأكيد مثلهما نعم تضمنها لتقرير ما تقدم مما لا يكاد ينكر فتدبر
قال إني أشهد الله وأشهدوا أني بريء مما تشركون
54
- أي مما أنتم تجعلونه شريكا وهو سبحانه لم يجعله شريكا ولم ينزل به سلطانا فما موصولة و من دونه متعلق بتشركون لا حال من فاعله أي تشركون مجاوزين الله تعالى في هذا الحكم إذ لا فائدة في التقييد به وجوز أن تكون مصدرية أيضا أي من إشراككم وقد جوز كلا الإحتمالين الزمخشري فقال : أي من إشراككم آلهة من دونه أو مما تشركونه آلهة من دونه وأمر تعلق الجار فيهما واحد وتقدير آلهة لإيضاح المعنى والإشارة إلى أن المفعول مراد لسوق الكلام ولا يصلح أن يكون الظرف صفة له على الوجهين لأن بيانه حاصلهما بنحو ما ذكرناه في بيان حاصل الأول إنما يستقيم إذا تعلق المذكور وليس المعنى على آلهة غير الله على ذلك التفسير وللطيبي ما يخالف ذلك وليس بذاك وأني بريء متنازع فيه للفعلين قبله وقد يتنازع المختلفان في التعدي الإسم الذي يكون صالحا لأن يعملا فيه تقول : أعطيت ووهبت لعمرو درهما كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو قام وضربت زيدا
(12/82)