[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
وتفسيروتفسير الريش بالزينة مروي عن ابن زيد وذكر بعض المحققين أنه مشترك بين الاسم والمصدر وعن ابن عباس ومجاهد والسدي أن المراد به المال ومنه تريش الرجل أي تمول وعن الأخفش أنه الخصب والمعاش وقال الطبرسي : إنه جميع ما يحتاج اليه
وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه وريشا وهو إما مصدر كاللباس أو جمع ريش كشعب وشعاب ولباس التقوى أي العمل الصالح كما روي عن ابن عباس أو خشية الله تعالى كما روي عن عروة بن الزبير
أو الحياء كما روي عن الحسن أو الايمان كما روي عن قتادة والسدي أو ما يستر العورة وهو اللباس الأول كما روي عن ابن زيد أو لباس الحرب الدرع والمغفر والآلات التي يتقي بها من العدو كما روي عن زيد بن على ابن الحسين رضي الله تعالى عنهم واختاره أبو مسلم أو ثياب النسك والتواضع كلباس الصوف والخشن من الثياب كما اختاره الجبائي فاللفظ إما مشاكلة وإما مجاز وإما حقيقة ورفعه بالابتداء وخبره جملة ذلك خير والرابط اسم الاشارة لأنه يكون رابطا كالضمير
وجوز أن يكون الخبر خير و ذلك صفة لباس واليه ذهب الزجاج وابن الانباري وغيرهما واعترض بان الأسماء المبهمة أعرف من المعرف باللام ومما أضيف اليه والنعت لابد أن يساوي المنعوت في رتبة التعريف أو يكون أقل منه ولا يجوز أن يكون أعرف منه فلذا قيل إن ذلك بدل أو بيان لا نعت وأجيب بأن ذلك غير متفق عليه فان تعريف اسم الاشارة لكونه بالاشارة الحسية الخارجة عن الوضع قيل : إنه أنقص من ذي اللام وقيل : انهما في مرتبة واحدة وعن ابي علي وهو غريب أن ذلك لا محل له من الاعراب وهو فصل كالضمير وقريء ولباس التقوى بالنصب عطفا على لباسا قال بعض المحققين : وحينئذ يكون اللباس المنزل ثلاثة أو يفسر لباس التقوى بلباس الحرب أو يجعل الانزال مشاكلة وذكر على القراء المشهورة أن ذلك إن كان اشارة للباس المواري فلباس التقوى حقيقة والاضافة لادنى ملابسة وان كان اللباس التقوى فهو استعارة مكنية تخييلية أو من قبيل لجين الماء وعلى كل تكون الاشارة بالبعيد للتعظيم بتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحسي فتأمل ولا تغفل
ذلك أي انزال اللباس المتقدم كله أو الأخير من ءايات الله الدالة على عظيم فضله وعميم رحمته لعلهم يذكرون
62
- فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح يا بني ءادم تكرير النداء للايذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به لا يفتننكم الشيطان أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يوسوس لكم بما يمنعكم به عن دخول الجنة فتطيعوه وقريء يفتننكم بضم حرف المضارعة من أفتنه حمله على الفتنة وقريء يفتنكم بغير توكيد وهذا نهي للشيطان في الصورة والمراد نهي المخاطبين عن متابعة وفعل ما يقود إلى الفتنة كما أخرج أبويكم من الجنة أي كما فتن أبويكم ومحنهما بان أخرجهما منها فوضع السبب موضع المسبب وجوز أن يكون التقدير لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم أولا يخرجنكم بفتنته اخراجا مثل اخراجه أبويكم ونسبة الاخراج اليه لأنه كان بسبب اغوائه وكذا نسبة النزع اليه في قوله سبحانه ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما والجملة حال من أبويكم أو من فاعل أخرج ولفظ المضارع على
(8/104)

ما قاله القطب لحكاية الحال الماضية لأن النزع السلب وهو ماض بالنسبة إلى الاخراج وإن كان العري باقيا
وقوله جل شأنه : انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم تعليل للنهي كما هو معروف في الجملة المصدرة بان في أمثاله وتأكيد للتحذير لأن العدو إذا أتى من حيث لايرى كان أشد وأخوف والضمير في إنه للشيطان
وجوز أن يكون للشأن وهو تأكيد للضمير المستتر في يراكم وقبيله عطف عليه لا على البارز لأنه لا يصلح للتأكيد وجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر و من لابتداء الغاية و حيث ظرف لمكان انتفاء الرؤية وجملة لاترونهم في محل جر بالاضافة : وعن أبي اسحاق أن حيث موصولة وما بعد صلة لها ولعل مراده أن ذلك كالموصول والا فلا قائل به غيره كما قال أبو على الفارسي والقبيل الجماعة فان كانوا من أب واحد فهم قبيلة والمراد بهم هنا جنوده من الجن وقرأ اليزيدي وقبيله بالنصب وهو عطف على أسم إن ويتعين كون الضمير للشيطان ولا يصح كونه للشأن خلافا لمن وهم فيه لانه لا يصلح العطف عليه ولا يتبع بتابع
والقضية مطلقة لا دائمة فلا تدل على ماذهب اليه المعتزلة من أن الجن لايرون ولا يظهرون للانس أصلا ولا يتمثلون
ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلى الله عليه و سلم لمقدمهم حين رام أن يشغله عليه الصلاة و السلام عن صلاته فامكنه الله تعالى منه وأراد أن يربطه من سواري المسجد يلعب به صبيان المدينة فذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه ورؤية ابن مسعود لجن نصيبين وما نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن من زعم أنه رآهم ردت شهادته وعزر لمخالفته القرآن محمولا كما قال البعض على زاعم رؤية صورهم التي خلقوا عليها إذ رؤيتهم بعد التشكل الذي أقدرهم الله تعالى عليه مذهب أهل السنة وهو رضي الله تعالى عنه من ساداتهم وما نوزع به القول بقدرتهم على التشكل من استلزامه رفع الثقة بشيء فان من رأى واو ولده يحتمل انه رأى جنيا تشكل به مردود بأن الله تعالى تكفل لهذ الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي لمثل ذلك المترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور وقول العلامة البيضاوي بعد تعريف الجن في سورتهم بما عرف وفيه دليل على انه صلى الله عليه و سلم ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله تعالى بذلك ناشيء من عدم الأطلاع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة المصرحة برؤيته صلى الله عليه و سلم لهم وقراءته عليهم وسؤالهم منه الزاد لهم ولدوابهم على كيفيات مختلفة وعندي أنه لا مانع من رؤيته صلى الله عليه و سلم للجن على صورهم التي خلقوا عليها فقد رأى جبريل عليه السلام بصورته الأصلية مرتين وليست رؤيتهم بأبعد من رؤيته ورؤية كل موجود عندنا في حيز الامكان واللطافة المانعة من رؤيتهم عند المعتزلة لا توجب الاستحالة ولا تمنع الوقوع خرقا للعادة وكذا تعليل الاشاعرة عدم الرؤية بأن الله تعالى لم يخلق في عيون الانس قوة الادراك لا يقتضي الاستحالة أيضا لجواز أن يخلق الله تعالى في عين رسوله عليه الصلاة و السلام الرائي له جل شأنه بعيني رأسه على الأصح ليلة المعراج تلك القوة فيراهم بل لا يبعد القول برؤية الاولياء رضي الله تعالى عنهم لهم كذلك لكن لم أجد صريحا ما يدل على وقوع هذه الرؤية وأما رؤية الأولياء بل سائر الناس لهم متشكلين فكتب القوم مشحونة بها ودفاتر المؤرخين والقصاص ملأى منها وعلى هذا لا يفسق
(8/105)

مدعي رؤيتهم في صورهم الأصلية إذا كانت مظنة للكرامة وليس في الآية أكثر من نفي رؤيتهم كذلك بحسب العادة على أنه يمكن أن تكون الآية خارجة مخرج التمثيل لدقيق مكرهم وخفي حيلهم وليس المقصود منها نفي الرؤية حقيقة ومن هذا يعلم أن القول بكفر مدعي تلك الرؤية خارج عن الانصاف فتدبر
إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لايؤمنون
72
- أي قرناء لهم مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بارسالهم عليهم وتمكينهم منهم والجملة اما تعليل آخر للنهي وتأكيد للتحذير اثر تأكيد واما فذلكة لحكاية السابقة وقوله سبحانه وإذأ فعلوا فاحشة جملة مبتدأ لا محل لها من الاعراب وجوز عطفها على الصلة والفاحشة الفعلة القبيحة المتناهية في القبح والتاء ام لأنها مجراة على الموصوف المؤنث أي فعلة فاحشة وإما للنقل من الوصفية الى الاسمية والمراد بها هنا عبادة الاصنام وكشف العورة في الطواف ونحو ذلك
وعن الفراء تخصيصها بكشف العورة وفي الآية على ما قاله الطبرسي حذف أي وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا جواب للناهين وجدنا ءاباءنا والله أمرنا بها محتجين بامرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه وتقديم المقدم للايذان بأنه المعول عليه عندهم أو للاشارة منهم إلى أن آبائهم إنما كانوا يفعلونها بامر الله تعالى على أن ضمير أمرنا كما قيل لهم ولآبائهم وحينئذ يظهر وجه الاعراض عن الأول في رد مقالتهم بقوله تعالى : قل إن الله لا يأمر بالفحشاء فان عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسن الاعمال والحث على مكارم الخصال وهو اللائق بالحكمة المقتضية أن لا لا يتخلف وقال الامام لم يذكر سبحانه جوابا عن حجتهم الأولى لانها اشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في العقول أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الاديان المتناقضة فلو كان التقليد حقا لزم القول بحقية الاديان المتناقضة وأنه محال فلما كان فساد هذا الطريق ظاهر الم يذكر الله تعالى الجواب عنه وذكر بعض المحققين أن الاعراض إنما هو عن التصريح برده والا فقوله سبحانه : إن الله الخ متضمن للرد لأنه سبحانه إذا أمر بمحاسن الاعمال كيف يترك أمره لمجرد اتباع اةباء فيما هو قبيح عقلا والمراد بالقبح العقلي هنا نفرة الطبع السليم واستنقاص العقل المستقيم لا كون الشيء متعلق الذم قبل ورود النهي عنه وهو المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة دون الاول كما حقق في الاصول فلا دلالة في اةية على ما زعموه وقيل : إن المذكور جوابا لسؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها لم فعلتم قالوا : وجدنا آباءنا فقيل ومن أين أخذا اباؤكم فقالوا الله امرنا بها والكلام حينئد على تقدير مضاف أي أمر آباءنا وقيل : لاتقدير والعدول عن أمرهم الظأهر حينئذ للاشارة إلى ادعاء أن أمر ابائهم أمر لهم وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه فلا دلالة في الآية على المنع من التقليد مطلقا
أتقولون على الله ما لا تعلمون
82
- من تمام القول المأمور به والهمزة لانكار الواقع واستقباحه والاشارة الى أنه لا ينبغي أن يكون وتوجيه الانكار إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدوره منه عز شأنه مع أن منهم من يقول عليه سبحانه ما يعلم عدم صدوره مبالغة في انكار تلك الصورة ولا دليل في الآية لمن نفى القياس بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم لأن ذلك مخصوص من عمومها باجماع الصحابة ومن يعتد به أو بدليل ءاخر وقيل المراد بالعلم ما يشمل الظن قل أمر ربي بالقسط بيان المأمور به إثر نفي ما أسند أمره اليه تعالى من الأمور المنهي عنها والقسط على ما قاله غير واحد العدل وهو الوسط من
(8/106)

كل شيء المتجافي عن طرفي الافارط والتفريط
وقال الراغب هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة ويقال : القسط لأخذ قسط غيره وذلك جوز والاقساط لاعطاء قسط غيره وذلك انصاف ولذلك يقال : قسط الرجل إذا جار وأقسط إدا عدل وهذا أولى مما قاله الطبرسي من أن أصله الميل فان كان إلى جهة الحق فعدل ومنه قوله سبحانه : ان الله يحب المقسطين وإن كان إلى جهة الباطل فجور ومنه قوله تعالى : وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا والمراد به هنا على ما نقل عن أبي مسلم جميع الطاعات والقرب
وروي عن ابن عباس والضحاك أنه التوحيد وقول لا إله إلا الله ومجاهد والسدي وأكثر المفسرين على أنه الاستقامة والعدل في الأمور وأقيموا وجوهكم أي توجهوا إلى عبادته تعالى مستقيمين غير عادلين إلى غيرها عند كل مسجد أي في وقت كل سجود كما قال الجبائي أو مكانه كما قال غيره فعند بعنى في والمسجد اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي وكان حقه فتح العين لضمها في المضارع إلا أنه مما شذ عن القاعدة وزعم بعضهم أنه مصدر ميمي والوقت مقدر قبله والسجود مجاز عن الصلاة وقال غير واحد : المعنى توجهوا إلى الجهة التي أمركم الله تعالى بالتوجه اليها في صلاتكم وهي جهة الكعبة والأمر على القولين للوجوب
واختار المغربي أن المعنى إذا أدركتم الصلاة في أي مسجد فصلوا ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم والأمر على هذا للندب والمسجد بالمعنى المصطلح ولا يخفى ما فيه من البعد ومثله ما قيل : إن المعنى اقصد المسجد في وقت كل صلاة على أنه أمر بالجماعة ندبا عند بعض ووجوبا عند ءاخرين والواو للعطف وما بعده قيل معطوف على الأمر الذي ينحل اليه المصدر مع أن أي أن اقسطوا والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر وقال الجرجاني إنه عطف على الخبر السابق المقول لقل وهو إنشاء معنى وإن أبيت فالكلام من باب الحكاية
وجوز أن يكون هناك قل مقدرا معطوفا على نظيره و أقيموا مقول له وأن يكون معطوفا على محذوف تقديره قل أقبلوا وأقيموا وادعوه أي اعبدوه مخلصين له الدين أي الطاعة فالدعاء بمعنى العبادة لتضمنها له والدين بالمعنى اللغوي وقيل : إن هذا أمر بالدعاء والتضرع اليه سبحانه على وجه الاخلاص أي ارغبوا اليه في الدعاء بعد اخلاصكم له في الدين كما بدأكم أي أنشأكم ابتداء تعودون
92
- اليه سبحانه فيجازيكم على أعمالكم فامتثلوا أوامره أو فاخلصوا له العبادة فهو متصل بالأمر قبله وقال الزجاج انه متصل بقوله تعالى فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ولا يخفى بعده ولم يقل سبحانه يعيدكم كما الملائم لما قبله إشارة الى أن الاعادة دون البدء من غير مادة بحيث تصور الاستغناء عن الفاعل لكان فيها دونه فهو كقوله تعالى : وهو أهون عليه سواء كانت الاعادة الايجاد بعد الاعدام بالكلية أو جمع متفرق الأجزاء وإنما شبهها سبحانه بالابداء تقريرا لامكانها والقدرة عليها وقال قتادة المعنى كما بدأكم من التراب تعودون اليه كما قال سبحانه منها خلقناكم وفيها نعيدكم وقيل المعنى كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تبعثون يوم القيامة
(8/107)

وعن محمد بن كعب أن المراد أن من ابتدأ الله تعالى خلقه على الشقوة صار اليها وإن عمل بأعمال أهل السعادة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار اليها وإن عمل بعمل أهل الشقاوة ويؤيد ذلك مارواه الترمذي عن عمرو بن العاص قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي يده كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان قلنا : لا يا رسول الله فقال للذي في يه اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء اهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على ءاخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه فقال عليه الصلاة و السلام سددوا أو قاربوا فان صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وان عمل أي عمل وان صاحب أهل النار يختم له بعمل أهل النار وان عمل أي عمل ثم قال أي أشار ورسول الله صلى الله عليه و سلم بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير
وقريب من هذا ما روي عن ابن جبير من أن المعنى كما كتب عليكم تكونون وروي عن الحبر أن المعنى كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم يوم القيامة فهو كقوله تعالى هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن وعليه يكون قوله سبحانه فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة بيانا وتفصيلا لذلك ونظيره قوله تعالى خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون بعد قوله عز شأنه إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم قيل وهو الانسب بالسياق
وذكر الطيبي أن ههنا نكتة سرية وهي أن يقال إنه تعالى قدم في قوله سبحانه كما بدأكم تعودون المشبه به على المشبه لينبه العاقل على أن قضاء الشؤون لا يخالف القدر والعلم الأزلي البتة وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر روعيت في التفسير وزيد أخرى عليها وهي أنه سبحانه قدم مفعول هدى للدلالة على الاختصاص وان فريقا آخر ما أراد هدايتهم وقرر ذلك بأن عطف عليه وفريقا حق عليهم الضلالة وأبرزه في صورة الاضمار على شريطة التفسير أي أضل فريقا حق عليهم الضلالة وفيه مع الاختصاص التوكيد كما قرره صاحب المفتاح لتنقطع ريبة المخالف ولا يقول إن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالتهم انتهى
وكأنه يشير بذلك إلى رد قول الزمخشري في قوله تعالي إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به وهذا دليل على أن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وإنهم هم الضالون باختيارهم وتوليتهم الشياطين دون الله تعالى فجملة إنهم اتخذوا على هذا تعليل لقوله سبحانه : وفريقا حق عليهم الضلالة ويؤيد ذلك أنه قريء أنهم بالفتح ويحتمل أن تكون تأكيد لضلالهم وتحقيقا له وأنا والحق أحق بالاتباع مع القائل : إن علم الله تعالى لايؤثر في المعلوم وأن من علل الجبر به مبطل كيف والمتكلمون عن آخرهم قائلون إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه إنما الكلام في أن قدرة الله تعالى لا أثر لها على زعم الضلال أصحاب الزمخشري ونحن مانعون لذلك أشد المنع ولا منع من التعليل بالاتخاذ عند الاشاعرة
(8/108)

لثبوت الكسب والاختيار ويكفي هذه المدخلية في التعليل والزمخشري قدر الفعل في قوله سبحانه وفريقا حق خذل ووافقه بعض الناس وما فعله الطيبي هو المختار عند بعض المحققين لظهور الملاءمة فيه وخلوه عن شبهة الاعتزال
واختير تقديره مؤخرا لتتناسق الجملتان وهما عند الكثير في موضع الحال من ضمير تعودون بتقدير قد أو مستأنفتان وجوز نصب فريقا الأول وفريقا الثاني على الحال والجملتان بعدهما صفتان لهما ويؤيد ذلك قراء أبي تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا الخ والمنصوب على هذه القراءة إما بدل أو مفعول به لأعنى مقدرا ولم تلحق تاء التأنيث لحق للفصل أو لأن التأنيث غير حقيقي والكلام على تقدير مضاف عند بعض أي حق عليهم كلمة الضلالة وهي قوله سبحانه ضلوا ويحسبون أنهم مهتدون
3
- عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد
ولعل الكلام من قبيل بنو فلان قتلوا فلانا والأول لكونه في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطيء والثاني مختص بالثاني وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه واختلف في توجيه الذم على الأخير وخلوده في النار ومذهب البعض أنه معذور ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه فحيث يعذر الأول لعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك ولا يرون مجرد المالكية واطلاق التصرف حجة ولله تعالى الحجة البالغة والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم وأنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل مما لايقدم عليه الا مسلم معاند أو مسلم مستدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن البيوت وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطيء والظاهر ما قلنا وجعل الجملة حالية على معنى اتخذوا الشياطين أولياء وهم يحسبون أنهم مهتدون في ذلك الاتخاذ لا يخفى ما فيه يا بني ءادم خذوا زينتكم اي ثيابكم لمواراة عوراتكم لأن المستفاد من الأمر الوجوب والواجب إنما هو ستر العورة عند كل مسجد أي طواف أو صلاة والى ذلك ذهب مجاهد وأبو الشيخ وغيرهما وسبب النزول على ماروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان أناس من الاعراب يطوفون بالبيت عراة حتى أن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفلها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذباب وهي تقول : اليوم يبدوا بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله فأنزل الله تعالى هذه الآية وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه ونسب للباقر رضي الله تعالى عنه وروي عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له : يا ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم تلبس أجود ثيابك فقال ان الله تعالى جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول خذوا زينتكم عند كل مسجد فأحب أن ألبس أجمل ثيابي ولا يخفى أن الأمر حينئذ لا يحمل على الوجوب لظهور أن هذا التزيين مسنون لا واجب وقيل ان الآية على الاحتمال الأول تشير الى سنية التجمل لأنها لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة عند ذلك فهم منه في الجملة حسن تزيين بلبس ما فيه حسن وجمال عنده ونسب بيت الكذب الى الصادق رضي الله تعالى عنه أن أخذ الزينة التمشيط كأنه قيل تمشطوا عند كل صلاة ولعل ذلك من باب الاقتصار على بعض الزينة وليس المقصود حصرها فيما ذكر ومثل
(8/109)

ذلك ما أخرجه ابن عدي وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خذوا زينة الصلاة قالوا وما زينة الصلاة قال البسوا نعالكم فصلوا فيها
وأخرج ابن عساكر وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : في قوله سبحانه خذوا زينتكم الخ صلوا في نعالكم وكلوا واشربوا مما طاب لكم قال الكلبي : كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجهم فقال المسلمون : يا رسول الله نحن أحق بذلك فأنزل الله تعالى الآية ومنه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا ولا تسرفوا بتحريم الحلال كما هو المناسب لسبب النزول أو بالتعدي الى الحرام كما روي عن ابن زيد أو بالافراط في الطعام والشره كما ذهب اليه كثير وأخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : اياكم والبطنة من الطعام والشراب فانها مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة للصلاة وعليكم بالقصد فيهما فانه أصلح للجسد وأبعد من السرف وان الله تعالى ليبغض الحبر السمين وان الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه
وقيل المراد الاسراف ومجاوزة الحد بما هو أعم مما ذكر وعد منه أكل الشخص كلما اشتهى وأكله في اليوم مرتين فقد أخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ان من الاسراف أن تأكل كل ما اشتهيت وأخرج الثاني وضعفه عن عائشة قالت : رءاني النبي صلى الله عليه و سلم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا في جوفك الاكل في اليوم مرتين من الاسراف وعندي أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص ولا يبعد أن يكون ما ذكر من الافراط في الطعام وعد منه طبخ الطعام بماء الورد وطرح نحو المسك فيه مثلا من غير داع اليه سوى الشهوة وذهب بعضهم إلى أن الاسراف المنهي عنه يعم ما كان في اللباس أيضا وروى ذلك عن عكرمة وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة ورواه البخاري عنه تعليقا وهو لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء أنه ينبغي للانسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس كما قيل : نصحته نصيحة قالت بها الأكياس كل ما اشتهيت والبسن ما تشهتهيه الناس فانه لترك مالم يعتد بين الناس وهذا لاباحة كل ما اعتادوه وفي العجائب للكرماني قال طبيب نصراني لعلي بن الحسين بن واقد ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الابدان وعلم الأديان فقال له قد جمع الله تعالى الطب كله في نصف ءاية من كتابه قال وما هي قال كلوا واشربوا ولا تسرفوا فقال النصراني ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب فقال : قد جمع رسولنا صلى الله تعالى عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة فقال وما هي قال قوله صلى الله عليه و سلم المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته فقال ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا انتهى وما نسبه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو من كلام الحرث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه الى النبي صلى الله عليه و سلم وفي الأحياء مرفوعا البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعود وأكل جس ما اعتاد وتعقبه العراقي قائلا لم أجد له أصلا
وفي شعب الايمان للبيهقي ولقط المنافع لابن الجوزي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا المعدة حوض البدن
(8/110)

والعروق اليها واردة فاذا صحت المعدة صارت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صارت العروق بالسقم
وتعقبه الدارقطني قائلا : لانعرف هذا من كلام النبي صلى الله عليه و سلم وإنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أبحر
وفي الدر المنثور أخرج محمد لخلال عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها : يا عائشة الازم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا البدن ما اعتاد ولم أر من تعقبه نعم رأيت في النهاية لابن الأثير سأل عمرو الحرث بن كلدة ما الدواء قال : الأزم يعني الحمية وإمساك الأسنان بعضها على بعض نعم الاحاديث الصحيحة متظافرة في ذم الشبع وكثرة الأكل وفي ذلك ارشاد للامة إلى كل الحكمة إنه لا يحب المسرفين
13
- بل يبغضهم ولا يرضى أفعالهم والجملة في موضع التعليل للنهي وقد جمعت هذه الآية كما قيل أصول الأحكام الأمر والاباحة والنهي والخبر
قل من حرم زينة الله من الثياب وكل ما يتجمل به التي اخرج لعباده أي خلقها لنفعهم من النبات كالقطن والكتان والحيوان كالحرير والصوف والمعادن كالخواتم والدروع والطيبات من الرزق أي المستلذات وقيل : المحللات من الماكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها واستدل بالآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الاباحة لأن الاستفهام في من لانكار تحريمها على أبلغ وجه ونقل عن ابن الفرس أنه قال : استدل بها من أجاز لبس الحرير والخز للرجال وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فاذا أصاف تصدق به لايرى بذلك بأسا ويقول قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده
وروي أن الحسين رضي الله تعالى عنه أصيب وعليه جبة خز وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعثه علي كرم الله تعالى وجهه إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه وتطيب بأطيب طيبه وركب أحسن مراكبه فخرج اليهم فوافقهم فقالوا : يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم فتلا هذه الآية لكن روي عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال : لم يأمركم سبحانه بالحرير ولا الديباج ولكنه كان إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه فانكر عليهم ذلك والحق أن كل مالم يقم الدليل على حرمته داخل في هذه الزينة لا توقف في استعماله مالم يكن فيه نحو مخيلة كما أشير اليه فيما تقدم
وقد روي أنه صلى الله عليه و سلم خرج وعليه رداء قيمته ألف درهم وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يرتدي برداء قيمته اربعمائة دينار وكان يأمر أصحابه بذلك وكان محمد يلبس الثياب النفيسة ويقول : إن لي نساء وجواري فازين نفسي كي لا ينظرن إلى غيري وقد نص الفقهاء على أنه يستحب التجمل لقوله عليه الصلاة و السلام إن الله تعالى إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه وقيل لبعضهم : أليس عمر رضي الله تعالى عنه كان يلبس قميصا عليه كذا رقعة فقال : فعل ذلك لحكمة هي أنه كان أمير المؤمنين وعماله يقتدون به وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين نعم كره بعض الأئمة لبس المعصفر والمزعفر وكرهوا أيضا أشياء أخر تطلب من محالها
قل هي للذين ءامنوا في الحياة الدنيا أي هي لهم بالاصالة لمزيد كرامتهم على الله تعالى والكفرة
(8/111)

وإنوإن شاركوهم فيها فبالتبع فلا اشكال في الاختصاص المستفاد من اللام خالصة يوم القيامة لايشاركهم فيها غيرهم وعن الجبائي أن المعنى هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة وهي خالصة يوم القيامة من ذلك وانتصاب خالصة على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه متعلقة وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر بعد خبر أو هو الخبر و للذين متعلق به قدم لتأكيد الخلوص والاختصاص كذلك نفصل الآيات أي مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لقوم يعلمون
23
- ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة
وجوز أن يكون التشبيه على حد قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا ونظائره مما تقدم تحقيقه
قل إنما حرم ربي الفواحش أي ما تزايد قبحه من المعاصي وقيل : ما يتعلق بالفروج ما ظهر منها وما بطن بدل من ال الفواحش أي جهرها وسرها وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما ظهر الزنا علانية وما بطن الزنا سرا وقد كانوا يكرهون الأول ويفعلون الثاني فنهوا عن ذلك مطلقا
وعن مجاهد ما ظهر التعري في الطواف وما بطن الزنا وقيل : الأول طواف الرجال بالنساء والثاني طواف النساء بالليل عاريات والاثم أي ما يوجب الاثم وأصله الذم فاطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش وقيل : ان الاثم هو الخمر كما نقل عن ابن عباس والحسن البصري وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره وأنشدوا له قول الشاعر : نهانا رسول الله أن نقرب الزنا وأن نشرب الاثم الذي يوجب الوزرا وقول الأخر : شربت الأثم حتى ضل عقلي كذاك الاثم يذهب بالعقول وزعم ابن الانباري أن العرب لا تسم الخمر اثما في جاهلية ولا اسلام وان الشعر موضوع والمشهور ان ذلك من باب المجاز لأن الخمر سبب الاثم وقال أبو حيان وغيره : إن هذا التفسير غير صحيح هنا لأن السورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وأيضا يحتاج حينئذ الى دعوى أن الحصر اضافي فتدبر
والبغي الظلم والاستطالة على الناس وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه بغير الحق متعلق بالبغي لأن البغي لايكون إلا كذلك
وجوز أن يكون حالا مؤكدة وقيل : جيء به ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه فانه يسمى بغيا في الجملة لكنه بحق وهو كما ترى وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا أي حجة وبرهانا والمعنى على نفي الانزال والسلطان معا على أبلغ وجه كقوله :
لاترى الضب بها ينجحر
وفيه من التهكم بالمشركين مالايخفى وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
33
- بالالحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم : والله أمرنا بها ولا يخفى ما في توجيه التحريم إلى قولهم عليه سبحانه ما يعلمون وقوعه دون ما يعلمون عدم وقوعه من السر الجليل ولكل أمة من الأمم المهلكة أجل أي وقت معين مضروب لاستئصالهم كما قال الحسن وروي ذلك عن ابن عباس ومقاتل وهذا كما قيل وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل
(8/112)

معلوم عند الله تعالى كما نزل بالامم قبلهم ورجوع إلى الحث على الاتباع بعد الاستطراد الذي قاله البعض
وقد روعي نكتة في تعقيبه تحريم الفواحش حيث ناسبه أيضا وفسر بعضهم الأجل هنا بالمدة المعينة التي أمهلوها لنزول العذاب وفسره آخرون بوقت الموت وقالوا : التقدير ولكل أحد من أمة وعلى الأول لا حاجة إلى التقدير فاذا جاء أجلهم الضمير كما قال بعض المحققين إما للأمم المدلول عليها بكل أمة وإما لكل أمة وعلى الأول فاظهار الأجل مضافا إلى ذلك الضمير لافادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيؤه إياها بواسطة اكتساب الأجل بالاضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل : إذا جاء آجالهم بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها وعلى الثاني وهو الظاهر فالاظهار في موقع الاضمار لزيادة التقرير والاضافة لافادة أكمل التمييز وقرأ ابن سيرين آجالهم بصيغة الجمع واستظهرها ابن جني وجعل الافراد لقصد الجنسية والجنس من قبيل المصدر وحنه الاضافة إلى الجماعة والفاء قيل : فصيحة وسقطت في آية يونس لما سنذكره إن شاء الله تعالى هناك والمراد من مجيء قربه أو تمامه أي إذا حان وقرب أو انقطع وتم لايستأخرون عنه ساعة قطعة من الزمان في غاية القلة وليس المراد بها الساعة في مصطلح المنجمين المنقسمة إلى ساعة مستوية وتسمى فلكية هي زمان مقدار خمس عشرة درجة أبدا ومعوجة وتسمى زمانية هي زمان مقدار نصف سدس النهار أو الليل أبدا ويستعمل الأولى أهل الحساب غالبا والثانية الفقهاء وأهل الطلاسم ونحوهم وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا سواء كانت الساعة مستوية أو معوجة إلا أن كلا من الليل والنهار لا يزيد عى اثنتي عشرة ساعة معوجة أبدا ولهذا تطول وتقصر وقد تساوي الساعة المستوية وذلك عند استواء الليل والنهار والمراد لا يتأخرون أصلا وصيغة الاستغفار للاشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك مع طلبهم له ولا يستقدمون
43
- أي ولا يتقدمون عليه
والظاهر أنه عطف على ولا يستأخرون كما أعربه الحوفي وغيره واعترض بأنه لا يتصور الاستقدام عند مجيئه فلا فائدة في نفيه بل هو من باب الاخبار بالضروري كقولك : إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فيما مضى وقيل : إنه معططوف على الجملة الشرطية لا الجزائية فلا يتقيد بالشرط فمعنى الآية لكل أمة أجل فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه ولكل أمة أجل لا يستقدمون عليه وتعقبه العلامة السالكوتي بأنه لا يخفى أن فائدة تقييد قوله تعالى لايستأخرون فقط بالشرط غير ظاهرة وإن صح بل المتبادر الى الفهم السليم ما تقدم وفيه تنبيه على أن الأجل كما يمتنع التقدم عليه بأقصر مدة هي الساعة كذلك يمتنع التأخر عنه وإن كان ممكنا عقلا فان خلاف ما قدره الله تعالى وعلمه محال والجمع بين الأمرين فيما ذكر كالجمع بين من سوف التوبة إلى حضور الموت ومن مات على الكفر في نفي التوبة عنه في قوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيآت الآية ولعل هذا مراد من قال إنه عطف على الجزاء بناء على أن يكون معنى قووله تعالى : لايستأخرون ولا يستقدمون لا يستطيعون تغييره على نمط قووله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب وقولهم : كلمته فما رد على سوداء ولا بيضاء فلا يرد ما قيل وأنت خبير بأن هذا المعنى حاصل بذكر الجزاء بدون ذكر ولا يستقدمون والحق العطف على الجملة الشرطية وفي شرح المفتاح القيد إذا جعل جزأ
(8/113)

منمن المعطوف عليه لم يشاركه المعطوف فيه ومثل بالآية وعليه لا محذور في العطف على لايستأخرون لعدم المشاركة في القيد وأنت تعلم أنهم ذكروا في هذا الباب أنه إذا عطف شيء على شيء وسبقه قيد يشارك المعطوف المعطوف عليه في ذلك القيد لا محالة وأما إذا عطف على ما لحقه قيد فالشركة محتملة فالعطف على المقيد له اعتباران الأول أن يكون القيد سابقا في الاعتبار والعطف لاحقا فيه والثاني أن يكون العطف سابقا والقيد لاحقا فعلى الأول لايلزم اشتراك المعطوفين في القيد المذكور إذ القيد جزء من أجزاء المعطوف عليه وعلى الثاني يجب الاشتراك إذ هو حكم من أحكام الأول يجب فيه الاشتراك وبعضهم بنى العطف هنا على أن المراد بالمجيء الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك وتقديم بيان انتفاء الاتئخار كما قيل لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب وأما في قوله تعالى : ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هنا بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبيء عنه قوله سبحانه : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون فالأهم هناك بيان انتفاء السبق يا بني ءادم خطاب لكافة الناس ولا يخفى ما فيه من الاهتمام بشأن ما في حيزه وقد أخرج ابن جرير عن أبي يسار السلمي قال : إن الله تبارك وتعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال : يا بني آدم إما يأتينكم حتى بلغ فاتقون ثم بثهم والذي ذهب اليه بعض المحققين أن هذا حكاية لما وقع مع كل قوم وقيل : المراد ببني آدم أمة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو خلاف الظاهر ويبعد جمع الرسل في قوله سبحانه : إما يأتينكم رسل منكم أي من جنسكم والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل وأما هي إن الشرطية ضمت اليها ما لتأكيد معنى الشرط فهي مزيدة للتأكيد فقط وقيل : إنها تفيد العموم أيضا فمعنى إما تفعلن مثلا إن اتفق منك فعل بوجه من الوجوه
ولزمت الفعل بعد هذا الضم نون التأكيد فلا تحذف على ما ذهب اليه المبرد والزجاج ومن تبعهما إلا ضرورة ومن ذلك قوله : فاما تريني ولي لمة فان الحوادث أودي بها ورد بأن كثرة سماع الحذف تبعد القول بالضرورة ووجه هذا اللزوم عند بعض حذار انحطاط رتبة فعل الشرط على حرفة وقيل : إن نون التوكيد لا تدخل الفعل المستقبل المحض إلا بعد أن يدخل على أول الفعل ما يدل على التأكيد كلام القسم أو ما المزيدة ليكون ذلك توطئة لدخول التأكيد وعليه فامر الاستتباع بعكس ما تقدم وفي الاتيان بان تنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لاواجب وهو الذي ذهب اليه أهل السنة وقالت المعتزلة : إنه واجب على الله تعالى لأنه سبحانه بزعمهم يجب عليه فعل الأصلح
وقوله سبحانه : يقصون عليكم ءاياتي صفة لرسل وجوز أن يكون في موضع الحال منه أو من الضمير في الظرف أي يعرضون عليكم أحكامي وشرائعي ويخبرونكم بها ويبينونها لكم وقوله تعالى فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
53
- جواب الشرط و من إما شرطية أو موصولة ومنكم مقدر في نظم الكلام ليرتبط الجواب بالشرط والمراد فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله
(8/114)

فلا خوف الخ وتوحيد الضمير وجمعه لمراعاة لفظ من ومعناه والذين كذبوا منكم بآياتنا التي تقص واستكبروا عنها ولم يقبلوها اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
63
- لتكذيبهم واستكبارهم
وهذه الجملة عطف على الجملة السابقة وإيراد الاتقاء فيها للايذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب بل هو الاتقاء والاجتناب عنه وادخال الفاء في الوعد دون الوعيد للمبالغة في الأول والمسامحة في الثاني فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي تعمد الكذب عليه سبحانه ونسب اليه مالم يقل أو كذب بآياته أو كذب ما قاله جل شأنه والاستفهام للانكار وقد مر تحقيق ذلك أولئك إشارة إلى الموصول والجمع باعتبار المعنى كما أن الافراد في الضمير المستكن في الفعلين باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البعد للايذان بتماديهم في سوء الحال أي اولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب ينالهم أي يصيبهم نصيبهم من الكتاب أي مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال مع ظلمهم وافترائهم لا يحرمون ما قدر لهم من ذلك إلى انقضاء أجلهم فالكتاب بمعنى المكتوب وتخصيصه بما ذكر مروي عن جماعة المفسرين وعن ابن عباس أن المراد ما قدر لهم من خير أو شر ومثله عن مجاهد
وعن أبي صالح ما قدر من العذاب وعن الحسن مثله وبعضهم فسر الكتاب بالمكتوب فيه وهو اللوح المحفوظ ومن لابتداء الغاية وجوز فيها التبيين والتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من نصيبهم أي كائنا من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا أي ملك الموت وأعوانه يتوفونهم أي حال كونهم متوفين لأرواحهم وحتى غاية نيلهم وهي حرف ابتداء غير جارة بل داخلة على الجمل كما في قوله :
(8/115)

وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وقيل : إنها جارة وقيل : لادلالة لها على الغاية وليس بشيء وعن الحسن ان المراد حتى إذا جاءتهم الملائكة يحشرونهم إلى النار يوم القيامة وهو خلاف الظاهر وكان الذي دعاه الى ذلك قوله تعالى : قالوا أي الرسل لهم أين ما كنتم تدعون من دون الله أي أين الآلهة التي كنتم تعدونها في الدنيا وتستعينون بها في المهمات قالوا ضلوا أي غابوا عنا لاندري أين مكانهم فان هذا السؤال والجواب وكذا ما يترتب عليهما مما سيأتي إنما يكون يوم القيامة لا محالة ولعله على الظاهر أريد بوقت مجيء الرسل وحال التوفي الزمان الممتد من ابتداء المجيء والتوفي إلى نهاية يوم الجزاء بناء على تحقق المجيء والتوفي في ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما في أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي وما وصلت بأين في المصحف العثماني وحقها الفصل لأنها موصولة ولو كانت صلة لاتصلت
وشهدوا على أنفسهم أي اعترفوا على أنفسهم وليس في النظم ما يدل على أن اعترافهم كان بلفظ الشهادة فالشهادة مجاز عن الاعتراف أنهم كانوا في الدنيا كفرين
73
- عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا حيث اتضح لهم حاله والجملة يحتمل أن يكون استئناف اخبار من الله تعالى باعترافهم على أنفسهم بالكفر ويحتمل أن تكون عطفا على قالوا وعطفها على المقول لا يخفى ما فيه والاستفهام على ماذهب اليه غير واحد غير حقيقي بل للتوبيخ والتقريع وعليه فلا جواب وما
(8/0)

ولا تعارض بين ما في هذه الآية وقوله تعالى : والله ربنا ما كنا مشركين لأن الطوائف مختلفة أو المواقف عديدة أو الاحوال شتى قال أي الله عز و جل لاولئك الكاذبين المكذبين يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك : ادخلوا في أمم أي مع أمم والجار والمجرور في موضع الحال أي مصاحبين لأمم قد خلت أي مضت من قبلكم من الجن والانس يعني كفار الأمم من النوعين وقدم الجن لمزيد شرهم في النار متعلق بادخلوا وجوز أن يتعلق في أمم به ويحمل في النار على البدلية أو على أنه صفة أمم وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا اخبارا على جعله سبحانه إياهم في جملة اولئك من غير أن يكون هناك قول مطلقا أي أنه تعالى جعلهم كذلك وهو خلاف الظأهر كما لا يخفى كلما دخلت أمة من الامم تابعة أو متبوعة في النار لعنت أختها أي دعت على نظيرها في الدين فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة التي زادت في ضلالها وعن أبي مسلم يلعن الاتباع القادة يقولون أنتم أورتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى
حتى إذا اداركوا فيها جميعا غاية لما قبله أي يدخلون فوجا فوجا لاعنا بعضهم بعضا إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار وأصل اداركوا تداركوا فادغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل
وعن ابن عمرو أنه قرأ اداركوا بقطع ألف الوصل وهو كما قيل مبني على أنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم باتداء فقطع والا فلا مساغ لذلك في كلام الله تعالى الجليل وقرأ إذا ادركوا بألف واحدة ساكنة ودال بعدها مشددة وفيه جمع ساكنين وجاز لما كان الثاني مدغما ولا فرق بين المتصل والمنفصل قالت أخراهم منزلة وهم الاتباع والسفلة لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء أو قالت أخراهم دخولا لاولاهم كذلك وتقدم احد الفريقين على الآخر في الدخول مروي عن مقاتل واللام في لاولاهم للتعليل لا للتبليغ كما في قولك : قلت لزيد أفعل كذا لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم : ربنا هؤلاء اضلونا أي دعونا إلى الضلال وأمرونا به حيث سنوه فاتقدينا بهم فآتهم عذابا ضعفا أي مضاعفا كما روي عن مجاهد من النار والضعف على ما قاله أبو عبيد ونص عليه الشافعي في الوصايا مثل الشيء مرة واحدة وعن الأزهري أن هذا معنى عرفي والضعف في كلام العرب واليه يرد كلام الله تعالى المثل إلى مازاد ولا يقتصر على مثلين بل هو غير المحصور واختاره هنا غير واحد
وقال الراغب : الضعف بالفتح مصدر وبالكسر أسم كالثني والثني هو الذي يثنيه ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد مثله نحو أن يقال ضعف عشرة وضعف مائة فذلك عشورن ومائتان بلا خلاف وعلى ذلك قول الشاعر : جزيتك ضعف الود لما اشتكيته وما أن جزاك الضعف من أحد قبلي وإذا قيل : أعطه ضعفي واحد اقتضى ذلك الواحد ومثليه وذلك لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه هذا وإذا كان الضعف مضافا فاذا لم يكن مضافا فقلت : الضعفين فقد قيل : يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يزاوج الآخر فيقتضي ذلك اثنين لأن كل واحد منهما يضاعف الآخر فلا يخرجان منهما اه
(8/116)

ونصب ضعفا على أنه صفة لعذاب وجوز أن يكون بدلا منه و من النار صفة العذاب أو الضعف قال سبحانه وتعالى : لكل منكم ومنهم عذاب ضعف من النار أما القادة فلضلالهم واضلالهم وذلك سبب الدعاء السابق وأما الاتباع فلذلك أيضا عند بعض وكونهم ضالين ظاهر وأما كونهم مضلين فلان اتخاذهم اياهم رؤساء يصدرون عن أمرهم يزيد في طغيانهم كما قال سبحانه وتعالى وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا واعترض بعدم اطراده فان اتباع كثير من الاتباع غير معلوم للقادة إلا أن يقال : إنه مخصوص ببعضهم وقيل : الاحسن أن ياقل : إن ضعف الاتباع لاعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا عرض الدنيا اتباعا للهوى ويدل عليه قوله تعالى : وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وفيه ما فيه والأولى أن يقال : إن ذلك في الاتباع لكفرهم وتقليدهم ولا شك أن التقليد في الهدى ضلال يستحق فاعله العذاب ونقل الراغب عن بعضهم في الآية أن المعنى لكل منكم ومنهم ضعف ما يرى اةخر فان من العذاب ظاهرا وباطنا وكل يدرك من الآخر الظاهر دون الباطن فيقدر أن ليس له العذاب الباطن واختار أن المعنى لكن منهم ضعف مالكم من العذاب والظأهر ماعولنا عليه
ولكن لا تعلمون
83
- مالكم أو مالكل فريق فلذا تكلمتم بما يشعر باعتقادكم استحقاق الرؤساء الضعف دونكم فالخطاب على التقديرين للاتباع كما هو الظاهر
وقيل : إنه على الأول للاتباع وعلى الثاني للفريقين بتغليب المخاطبين الذين هم الاتباع على الغيب الذين هم القادة وقرأ عاصم لايعلمون بالياء التحتية على انفصال هذا الكلام عما قبله بأن يكون تذييلا لم يقصد به ادراجه في الجواب ومن ادعى أن الخطاب للفريقين على سبيل التغليب قال : إن هذه القراءة على انفصال القادة من الاتباع إذ عليها لايمكن القول بالتغليب إد لا يغلب الغائب على المخاطب
وقالت أولاهم لأخراهم حين سمعوا جواب الله تعالى لهم واللام هنا يجوز أن تكون للتبليغ لأن خطابهم لهم بدليل قوله سبحانه وتعالى : فما كان لكم علينا من فضل أي إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب وسببه وهذا مرتب على كلام الله تعالى على وجه التسبب لأن اخباره سبحانه بقوله جل وعلا : لكل ضعف سبب لعلمهم بالمساواة فالفاء جوابية لشرط مقدر أي إذا كان كذلك فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وقيل : إنها عاطفة على مقدر أي دعوتم الله تعالى فسوى بيننا وبينكم فما كان الخ وليس بشيء
وأياما كان فقد عنوا بالفضل تخفيف العذاب ووحدة السبب وأما ما قيل من أن المعنى ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا فكما ترى وقيل : المعنى ما كان لكم علينا في الدنيا فضل بسبب ابتاعكم إيانا بل اتباعكم وعدم اتباعكم سواء عندنا فاتباعكم إيانا كان باختياركم دون حملنا لكم عليه وعليه فليس مرتبا على كلام الله تعالى وجوابه كما في الوجه الأولي فذوقوا العذاب المضاعف بما كنتم تكسبون
93
- أي بسبب كسبكم او الذي تكسبونه والظاهر ان هذا من كلام القادة قالوه لهم على سبيل التشفي وترتبه على ما قبله على القول الأخير في معنى الآية في غاية الظهور وجوز أن يكون من كلام الله تعالى للفريقين على سبيل التوبيخ والوقف على فضل : وقيل : هو من مقول الفريقين أي قالت كل
(8/117)

فرقةفرقة للأخرى ذوقوا الخ وهو خلاف الظاهر جدا
إن الذين كذبوا بآياتنا الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدته والدالة على النبوة والمعاد ونحو ذلك واستكبروا عنها أي بالغوا في احتقارها وعدم الاعتناء بها ولم يلتفتوا اليها وضموا أعينهم عنها ونبذوها وراء ظهورهم ولم يكتسوا بحلل مقتضاها ولم يعملوا به لاتفتح لهم أي لأرواحهم إذا ماتوا أبواب السماء كما تفتح لأرواح المؤمنين أخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قالالميت تحضره الملائكة فاذا كان الرجل صالحا قال : أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقولون : فلان بن فلان : مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة وإذا كان الرجل سواء قال أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها الى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا فيقولون فلان بن فلان فيقال : لامرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير في القبر والأخبار في ذلك كثيرة وقيل : لاتفتح لأعمالهم ولا لدعائهم أبواب السماء
وروي ذلك عن الحسن ومجاهد وقيل : لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم وروي ذلك عن ابن جريج وقيل : المراد لا يصعد لهم عمل ولا تنزل عليهم البركة وكون السماء لها أبواب تفتح للأعمال الصالحة والأرواح الطيبة قد تفتحت له أبواب القبول للنصوص الواردة فيه وهو أمر ممكن أخبر به الصادق فلا حاجة إلى تأويله وكون السماء كروية لا تقبل الخرق والالتئام مما لايتم له دليل عندنا وظاهر كلام أهل الهيئة الجديدة جواز الخرق والالتئام على الافلاك وزعم بعضهم أن القول بالأبواب لا ينافي القول بامتناع الخرق والالتئام وفيه نظر كما لا يخفى والتاء في تفتح لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرة الفعل لعدم مناسبة المقام وقرأ أبو عمرو بالتخفيف وحمزة والكسائي به وبالياء التحتية وروي ذلك عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم مع وجود الفاصل
وقريء على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء الفوقية على أن الفعل مسند إلى الآيات مجازا لأنها سبب لذلك وبالياء على أنه مسند إلى الله تعالى ولا يدخلون الجنة يوم القيامة حتى يلج أي يدخل الجمل هو البعير إدا بزل وجمعه جمال وأجمال ويجمع الأخير على جمالات وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال : هو زوج الناقة
وعن الحسن أنه قال ابن الناقة الذي يقوم في المربد على اربع قوائم وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة
(8/118)

إلى أن طلب معنى آخر تكلف والعرب تضرب به المثل في عظم الخلقة فكأنه قيل : حتى يدخل ما هو مثل في عظ الجرم في سم الخياط أي ثقبة الابرة وهو مثل عندهم أيضا في ضيق المسلك وذلك مما لايكون فكذا ما توقف عليه بل لا تتعلق به القدرة لعدم امكانه مادام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه وهي إنما تتعلق بالممكنات الصرفة والممكن الولوج بتصغير العظيم أو توسيع الضيق وقد كثر في كلامهم مثل هذه الغاية فيقولون لا أفعل كذاحتى شيب الغراب وحتي يبيض القار وحتى يؤوب القارظان ومرادهم لا أفعل كذا أبدا وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعكرمة والشعبي الجمل بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل
وقرأ عبد الكريم وحنظلة وابن عباس وابن جبير في رواية أخرى الجمل بالضم والفتح مع التخفيف كنغر
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ الجمل بضم الجيم وسكون الميم كالقفل و الجمل بضمتين كالنصب وقرأ أبو السمال الجمل بفتح الجيم وسكون الميم كالحبل وفسر في جميع ذلك بالحبل الغليظ من القنب وقيل : هو حبل السفينة وقريء في سم بضم السين وكسرها وهما لغتان فيه والفتح أشهر ومعناه الثقب الطغير مطلقا وقيل : أصله ما كان في عضو كأنه وأذن وقرأ عبد الله في سم المخيط بكسر الميم وفتحها وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم والقناع والمقنع وكذلك أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين
4
- أي جنسهم وأولئك داخلون فيه دخولا أوليا وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ويقال : أجرم صار ذا جرم كاتمر وأثمر ويستعمل في كلامهم لاكتساب المكروه ولا يكاد يقال للكسب المحمود
لهم من جهنم مهاد أي فراش من تحتهم وتنويه للتفخيم وهو فاعل الظرف أو مبتدأ والجملة إما مستأنفة أو حالية ومن تجريدية والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من مهاد لتقدمه ومن فوقهم غواش أي أغطية جمع غاشية وعن ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي أنها اللحف والآية على ما قيل مثل قوله تعالى : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل والمراد أن النار محيطة بهم من جميع الجوانب وأخرج أبن مردويه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم تلا هذه الآية ثم قال : هي طبقات من فوقه وطبقات من تحته لايدري ما فوقه أكثر أو تحته غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا ويضيق فيما بينهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح وتنوين غواش عوض عن الحرف المحذوف أو حركته والكسرة ليست للاعراب وهو غير منصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع وبعض العرب يعربه بالحركات الظاهرة على ما قبل الياء لجعلها محذوفة نسيا منسيا ولذا قريء غواش بالرفع كما في قوله تعالى : وله الجوار المنشآت في قراءة عبد الله
وكذلك أي ومثل ذلك الجزاء الشديد نجزي الظالمين
14 - عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى للتنبيه على أنهم بتكذيبهم بالآيات واستكبارهم عنها جمعوا الصفتين وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الاجرام ولا يخفى على المتأمل في الطائف القرآن العظيم ما في اعداد المهاد والغواشي لهؤلاء المستكبرين عن الآيات ومنعهم من العروج إلى الملكوت وتقييد عدم دخولهم الجنة بدخول البعير بخرق الأبرة من اللطافة فليتأمل والذين ءامنوا أي بآياتنا ولم يكذبوا بها وعملوا الأعمال الصالحات ولم يستكبروا عنها لانكلف نفسا إلا وسعها أي ما تقدر عليه
(8/119)

بسهولة دون ماتضييق به ذرعا والجملة اعتراض وسط بين المبتدأ وهو الموصول والخبر الذي هو جملة أولئك أصحاب الجنة للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله وتيسر تحصيله وقيل : المعنى لانكلف نفسا إلا ما يثمر لها السعة أي جنة عرضها السموات والأرض وهو خلاف الظاهر وإن كانت الآية عليه لاتخلو عن ترغيب أيضا وجوز أن يكون اسم الاشارة بدلا من الموصول وما بعده خبر المبتدأ وما فيه من معنى البعد للايذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف
وجوز أيضا أن تكون جملة لانكلف الخ خبر المبتدأ بتقدير العائد أي منهم وقوله سبحانه هم فيها خالدون
24
- حال من أصحاب الجنة وجوز كونه حالا من الجنة لاشتماله على ضميرها أيضا والعامل فيها معنى الاضافة أو اللام المقدرة وقيل : خبر لاولئك على رأي من جوزه وفيها متعلق بخالدون قدم عليه رعاية للفاصلة
ونزعنا ما في صدورهم من غل أي قلعنا ما قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال إن أهل الجنة إذا سيقوا الى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال بلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يحبس أهل الجنة بعدما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل وقيل المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لايحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضا وأيا ماكان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للايذان بتحققه
وقيل ان هذا النزع إنما كان في الدنيا والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبد عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانا بالنزع مجازا ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فانهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضا كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية
ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبيء بظاهره عن الغل إنه لم يكن الا عن اجتهاد اعلاءا لكلمة الله تعالى ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعده ظاهر الصيغة و من غل على سائر الاحتمالات حال من ما وقوله سبحانه تحري من تحتهم الانهار حال أيضا إما من الضمير في صدورهم لأن المضاف جزء من المضاف اليه والعامل معنى الأضافة أو العامل في المضاف وإما من ضمير نزعنا على ما قيل والعامل الفعل واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للاخبار عن صفة أحوالهم والمراد تجري من تحت غرفها مياه الانهار زيادة في لذتهم وسرورهم وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا الفوز العظيم والنعيم المقيم والمراد الهداية لما أدى اليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازا وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها
(8/120)

وقيل : المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا اليه ومن الناس من جعل الاشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئا وما كنا لنهتدي أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها لولا أن هدانا الله وفقنا له واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول نهتدي وهدانا الثاني محذوف لظهور المراد أو لارادة التعميم كما أشير اليه والجملة حالية أو استئنافية وفي مصاحف أهل الشام ماكنا بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للاولى وهذا كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لايقوله للفرح ولا للقربة وقوله سبحانه : لقد جاءت رسل ربنا بالحق جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضا وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهم السلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء وقيل : تعليل لهدايتهم
والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك ودونك فاعرض قول المعتزلة في الدنيا المهتدي من اهتدي بنفسه على قول الله تعالى حكاية عن قول الموحدين في مقعد صدق وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله واختر لنفسك أي الفرقين تقتدي به ولا أراك أيها العاقل تعدل بما نوه الله تعالى به قول ضال يتذبذب مع هواه وتعصبه ولما رأى الزمخشري هذه الآية كافحه في وجوه قومه فسر الهدى باللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه وهو لعمري كلام من حرم اللطف نسأل الله تعالى العفو والعافية ونودوا أي نادتهم الملائكة وجوز بعضهم احتمال أن المنادي هو الله والآثار تؤيد الأول
أن تلكم الجنة أي أي تلكم على ان أن مفسرة لما في النداء من معنى القول ويجوز أن تكون مخففة من أن وحرف الجر مقدر واسمها ضمير شأن محذوف أي بأنها أو بأنه تلكم وأوجب البعض الثاني بناء على أنه يجب أن يؤنث ضمير الشأن إذا كان المسند اليه في الجملة المفسرة مؤنثا والصحيح عدم الوجوب على ماصرح به ابن الحاجب وابن مالك ومعنى البعد في اسم الاشارة اما لرفع منزلتها وبعد مرتبتها وإما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد وإا للاشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا واليه يشير كلام الزجاج
والظاهر أن تلكم الجنة مبتدأ وخبر وقوله سبحانه : أورثتموها حال من الجنة والعامل فيها معنى الاشارة ويجوز أن تكون الجنة نعتا لتلكم أو بدلا و اورثتموها الخبر ولا يجوز أن يكون حالا من المبتدأ ولا من كم كما قاله أبو البقاء وهو ظاهر والتزم بعضهم في توجيهالبعد أن تلكم خبر مبتدأ محذوف أي هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبل أو مبتدأ حذف خبره أي تلك الجنة التي أخبرتم عنها أو وعدتم بها في الدنيا هي هذه ولا حاجة اليه
والمنادى له اولا وبالذات كونها موروثة لهم وما قبله توطئة له والميراث مجاز عن الاعطاء أي اعطيتموها بما كنتم تعملون
34
- في الدنيا من الاعمال الصالحة والباء للسببية وتجوز بذلك عن الاعطاء اشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا وإن كان سببا بحسب الظاهر كما أن الارث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلا
(8/121)

سببا له والباء في قوله صلى الله عليه و سلم على ما في بعض الكتب : لن يدخل أحدكم الجنة بعمله وكذا في قوله عليه الصلاة و السلام على ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر لن ينجو أحد منكم بعمله للسبب التام فلا تعارض وجوز أن تكون الباء فيما نحن فيه للعوض أي بمقابلة أعمالكم وقيل : تلك الاشارة إلى منازل في الجنة هي لأهل النار لو كانوا أطاعوا جعلها الله تعالى ارثا للمؤمنين : فقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال : ما من مؤمن ولا كافر الأوله في الجنة والنار منزل مبين فاذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله تعالى ثم يقال : يا اهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقتسم أهل الجنة منازلهم وأنت تعلم أن القول بهذا الأرث الغريب لا يدفع الحاجة إلى المجاز
وزعم المعتزلة أن دخول الجنة بسبب الأعمال لا بالتفضيل لهذه الآية ولا يخفى أنه لا محيص لمؤمن عن فضل الله تعالى لأن اقتضاء الأعمال لذاتها دخول الجنة أو ادخال الله تعالى ذويها فيها مما لا يكاد يعقل وقصارى ما يعقل أن الله تعالى تفضل فرتب عليها دخول الجنة فلولا فضله لم يكن ذلك وأنا لا أرى أكثر جرأة من المعتزلة في هذا الباب ككثير من الأبواب فان مآل كلامهم فيه أن الجنة ونعيمها الذي لايتناهى اقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى الذي لاينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء لاتفضل له عليهم في ذلك بل هو بمثابة دين أدي إلى صاحبه سبحانك هذا بهتان عظيم وتكذيب لغير ما خبر صحيح
ونادى أصحاب الجنة بعد الاستقرار فيها كما هو الظاهر وصيغة الماضي لتحقق الوقوع والمعنى ينادي ولابد كل فريق من أهل الجنة أصحاب النار أي من كان يعرفه في الدنيا من أهلها تبجحا بحالهم وشماتة بأعدائهم وتحسيرا لهم لا لمجرد الاخبار والاستخبار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله عليهم السلام من النعيم والكرامة حقا حيث نلنا ذلك فهل وجدتم ماوعد ربكم أي ما وعدكم من الخزي والهوان والعذاب حقا وحذف المفعول تخفيفا وايجازا واستغناء بالأول وقيل : لأن ما ساءهم من الوعود لم يكن بأسره مخصوصا بهم وعده كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة فانهم قد وجدوا جميع ذلك حقا وإن لم يكن وعده مخصوصا بهم
وتعقب بأنه لا خفاء في كون أصحاب الجنة مصدقين بالكل والكل مما يسرهم فكان ينبغي أن يطلق وعدهم أيضا فالوجه الحمل على ما تقدم ونصب حقا في الموضعين على الحالية وجوز أن يكون على أنه مفعول ثان ويكون وجد بمعنى علم والتعبير بالوعد قيل : للمشاكلة وقيل : للتهكم ومن الناس من جوز أن يكون مفعول وعد المحذوف نا وحينئذ فلا مشاكلة ولا تهكم وأيا ما كان لا يستبعد هذا النداء هناك وان بعد ما بين الجنة والنار من المسافة كما لا يخفى
قالوا في جواب أصحاب الجنة نعيم قد وجدنا ذلك حقا وقرأ الكسائي نعم بكسر العين وهي لغة فيه نسبت إلى كنانة وهذيل ولا عبرة بمن أنكره مع القراءة به واثبات أهل اللغو له بالنقل الصحيح
نعم ما روي من أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل قوما عن شيء فقالوا : نعم فقال عمر أما النعم فالأبل قولوا :
(8/122)

نعم لا أراه صحيحا لما فيه من المخالفة لأصح الفصيح فأذن مؤذن هو على ماروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه صاحب الصور عليه السلام وقيل : مالك خازن النار وقيل : ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك ورواية الامامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله تعالى وجهه مما لم يثبت من طريق أهل السنة وبعيد عن هذا الامام أن يكون مؤذنا وهو إذ ذاك في حظائر القدس بينهم أي الفريقين لابين القائلين نعم كما قيل ولا يرد أن الظاهر أن يقال بينهما لأنه غيره متعين أن لعنة الله على الظألمين
44
- بأن المخففة او المفسرة والمراد الاعلام بلعنة الله تعالى لهم زيادة لسرور أصحاب الجنة وحزن أصحاب النار أو ابتداء لعن
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي أن لعنة الله بالتشديد والنصب : وقرأ الأعمش بكسر الهمزة على إرادة القول بالتضمين أو التقدير أو على الحكاية باذن لأنه في معنى القول فيجري مجراه
الذين يصدون عن سبيل الله أي يصدون بأنفسهم عن دينه سبحانه ويعرضون عنه فالموصول صفة مقررة للظالمين لأن هذا الاعراض لازم لكل ظالم وجوز القطع بالرفع أو النصب وكلاهما على الذم وأمر الوقف ظاهر وفسر الامام النسفي الصد هنا بمنع الغير وعليه فلا تقرير والمعنى يمنعون الناس عن دين الله تعالى بالنهي عنه وإدخال الشبه في دلائله ويبغونها عوجا أي يطلبون إعوجاجها ويذمونها فلا يؤمنونبها أو يطلبون لها تأويلا وإالة إلى الباطل فالعوج إما على أصله وهو الميل وإما بمعنى التعويج والامالة ونصبه قيل على الحالية وقيل : على المفعولية وجوز الطبرسي أن يكون نصبا على المصدر كرجع القهقري واشتمل الصماء وذكر أن العوج بالكسر يكون في الدين والطريق وبالفتح في الخلقة فيقال في ساقه عوج بالفتح وفي دينه عوج بالكسر وقال الراغب : العوج يقال فيما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه والعوج يقال فيما يدرك بفكرة وبصيرة كما يكون في أرض بسيط وكالدين والمعاش وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى
وهم بالآخرة كافرون
54
- أي غير معترفين بالقيامة وما فيها والجار متعلق بما بعده والتقديم لرعاية الفواصل والعدول عن الجملة الفعلية الى الاسمية للدلالة على الدوام والثبات إشارة إلى رسوخ الكفر فيهم
وبينهما حجاب أي بين الفريقين كقوله تعالى : فضرب بينهم بسور أو بين الجنة والنار حجاب عظيم ليمنع وصول أثر احداهما إلى الأخرى وان لم يمنع وصول النداء وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا
وعلى الاعراف أي أعراف الحجاب أي أعاليه وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الدابة والديك وقيل : العرف ما ارتفع من الشيء أي أعلى موضع منه لأنه أشرف وأعرف ما فيه مما أنخفض منه وقيل : ذاك جبل أحد
فقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحد يحبنا ونحبه و أنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم وهم إن شاء الله تعالى من أهل الجنة وقيل : هو الصراط وروي عن الحسن بن المفضل وحكي عن بعضهم أنه لم يفسر الاعراف بمكان وأنه قال : المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال والحق أنه مكان والرجال طائفة من الموحدين قصرت بهم سيآتهم عن الجنة وتجاوزت
(8/123)

بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضي بين الناس فبينماهم كذلك إذ أطلع عليهم ربهم فقال لهم : قوموا ادخلوا الجنة فاني غفرت لكم أخرجه أبو الشيخ والبيهقي وغيرهما عن حذيفة وفي رواية أخرى عنه يجمع الله تعالى الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف ماتنتظرون قالوا : ننتظر أمرك فيقال : إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتي ورحمتي وإلى ذا ذهب جمع من الصحابة والتابعين وقيل : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم على سائر أهل القيامة واظهارا لشرفهم وعلو مرتبتهم
وروى الضحاك عن ابن عباس أنهم العباس وحمزة وعلي وجعفر ذو الجناحين رضي الله تعالى عنهم يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها وقيل : إنهم عدول القيامة الشاهدون على الناس بأعمالهم وهم من كل أمة حكاه الزهري وأخرج البيهقي وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال هم أناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله وقيل : هم أناس رضي عنهم أحد أبويهم دون الآخر
وقال الحسن البصري : أنهم قوم كان فيهم عجب وقال مسلم بن يسار : هم قوم كان عليهم دين وقيل : هم أهل الفترة وقيل : أولاد المشركين وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أولاد الزنا وعنه أيضا أنهم مساكين أهل الجنة
وعن أبي مسلم أنهم ملائكة يرون في صورة الرجال لا أنهم رجال حقيقة لأن الملائكة لايوصفون بذكورة ولا أنوثة وقيل وقيل وأرجح الأقوال كما قال القرطبي الأول وجمع بعضهم بينها بأنه يجوز أن يجلس الجميع ممن ورد فيهم أنهم أصحاب الأعراف هناك مع تفاوت مراتبهم على أن من هذه الأقوال ما يخفى تداخله
ومن الناس من استظهر القول بأن أصحاب الأعراف قوم علت درجاتهم لأن المقالات الآتية وما تتفرع هي عليه لا تليق بغيرهم يعرفون كلا من أهل الجنة والنار بسيماهم بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجوه بالنسبة إلى أهل الجنة وسوادها بالنسبة إلى أهل النار
ووزنه فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه فوزنه عقلى ويقال سيماء بالمد وسيمياء ككبرياء قال الشاعر :
له سيماء ما تشق على البصر
ومعرفتهم أن كذا علامة الجنة وكذا علامة النار تكون بالالهام أو بتعليم الملائكة وهذا كما روي عن أبي مجلز رضي الله تعالى عنه قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار واستظهره بعضهم إذ لا حاجة بعد الدخول للعلامة ويشعر كلام آخرين أنه بعده والباء للملابسة ونادوا أي رجال الأعراف أصحاب الجنة حين رأوهم وعرفوهم أن سلام عليكم بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الاخبار بنجاتهم من المكاره لم يدخلوها حال من فاعل نادوا أو مفعوله
وقوله سبحان : وهم يطمعون
64
- حال من فاعل يدخلوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم
(8/124)

طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعون قال بعضهم
وفسر الطمع باليقين الحسن وأبو علي وبه فسر في قوله تعالى حكاية عن ابراهيم عليه السلام والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي وفي الكشاف أن جملة لم يدخلوها الخ لامحل لها لأنها استئناف كأن سائلا سال عن حال أصحاب الأعراف فقيل : لم يدخلوها وهم يطمعون وجوز أن يكون في محل الرفع صفة لرجال وضعف الفصل
وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار أي إلى جهتهم وهو في الأصل مصدر وليس في المصادر وما هو على وزن تفعال بكسر التاء غيره وغير تبيان وزلزال ثم استعمل ظرف مكان بمعنى جهة اللقاء والمقابلة ويجوز عند السبعة إثبات وهمزة أصحاب وحذف الأولى وإثبات الثانية وفي عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة والتعبير عن تعلق أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار كما قال غير واحد بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل والثاني بخلافه فمن زعم أن في الكلام الأول شرطا محذوفا لم يأت بشيء قالوا متعوذين بالله سبحانه من سوء مارأوا من حالهم ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين
74
(8/125)

أي لا تجمعنا وإياهم في النار وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط بل ما يؤدي اليه من الظلم وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أنه سبحانه لايجب عليه شيء وزعم بعضهم أنه ليس المقصود فيها الدعاء بل مجرد استعظام حال الظالمين وقرأ الأعمش وإذا قلبت أبصارهم وعن ابن مسعود وسالم مثل ذلك
ونادى أصحاب الأعراف كرر ذكرهم مع كفاية الاضمار لزيادة التقرير وقيل : لم يكتف بالاضمار للفرق بين المراد منهم هنا والمراد منهم فيما تقدم فان المنادي هناك الكل وهنا البعض وفي إطلاق أصحاب الأعراف على اولئك الرجال بناء على أن مآلهم الى الجنة دليل على أن عنوان الصحبة للشيء لا يستدعي الملازمة له كما زعمه البعض رجالا من رؤساء الكفرة كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل حتى رأوهم فيما بين أصحاب النار يعرفونهم بسيماهم بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها من سواد الوجه وتشويه الخلق وزرقة العين كما قال الجبائي أو بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا كما قال أبو مسلم أو بعلامتهم الدالة على سوء حالهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا كما قيل ولعله الأولى وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده ويفهم من كلام بعضهم وفيه بعد أنه متعلق بنادى والمعنى نادوا رجالا يعرفونهم في الدنيا بأسمائهم وكناهم وما يدعون به من الصفات
قالوا بيان لنادى أو بدل منه ما أغنى عنكم استفهام للتقريع والتوبيخ ويجوز أن يراد النفي أي ما كفاكم ما أنتم فيه جمعكم أتباعكم وأشياعكم أو جمعكم المال فهو مصدر مفعوله مقدر وما كنتم تستكبرون
84
- أي واستكباركم المستمر عن قبول الحق أو على الخلق وهو الأنسب بما بعده
وقريء تستكثرون من الكثرة و ما على هذه القراءة تحتمل أن تكون اسم موصول على معنى ما أغنى عنكم أتباعكم والذي كنتم تستكثرونه من الأموال
ويحتمل عندي أن تكون في القراءة السبعية كذلك والمراد بها حينئذ الأصنام ومعنى استكبارهم
(8/0)

إياهاإياها اعتقادهم عظمها وكبرها أي ما أغنى عنكم جمعكم وأصنامكم التي كنتم تعتقدون كبرها وعظمها
أهؤلاء الذين أقسمتم لاينالهم الله برحمة من تتمة قولهم للرجال فهو في محل نصب مفعول القول أيضا أي قالوا ما أغنى وقالوا : أهؤلاء والاشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كان الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنهم لا يصيبهم الله تعالى برحمة وخير ولا يدخلهم الجنة كسلمان وصهيب وبلال رضي الله تعالى عنهم أو يفعلون ما ينبيء عن ذلك كما قيل ذلك في قوله تعالى : أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال
ادخلوا الجنة لاخوف عليكم ولا أنتم تحزنون
94
- من كلام أصحاب الاعراف أيضا أي فالتفتوا إلى اولئك المشار اليهم من أهل الجنة وقالوا لهم : دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة
وقيل : هو أمر بأصل الدخول بناء على أن يكون كونهم على الاعراف وقولهم هذا قبل دخول بعض أهل الجنة الجنة
وقال غير واحد : إن قوله سبحانه : أهؤلاء الخ استئناف وليس من تتمة قول أصحاب الأعراف والمشار اليهم أهل الجنة والقائل هو الله تعالى أو بعض الملائكة والمقول له أهل النار في قول وقيل : المشار اليهم هم أهل الأعراف وهم القائلون أيضا والمقول لهم أهل النار و ادخلوا الجنة من قول أهل الاعراف أيضا أي يرجعون فيخاطب بعضهم بعضا ويقول : ادخلوا الجنة ولا يخفى بعده وقيل : لما عير أصحاب الاعراف أصحاب النار أقسم أصحاب النار أن أصحاب الاعراف لايدخلون الجنة فقال الله تعالى أو بعض الملائكة خطابا لأهل النار أهؤلاء الذين أقسمتم لاينالهم الله برحمة مشيرا إلى أصحاب الاعراف ثم وجه الخطاب اليهم فقيل : ادخلوا الجنة الخ وقري ادخلوا ودخلوا بالمزيد المجهول وبالمجرد المعلوم وعليهما فلابد أن يكون لاخوف عليكم الخ مقولا لقول محذوف وقع حالا ليتجه الخطاب ويرتبط الكلام أي ادخلوا أو دخلوا الجنة مقولا لهم لا خوف الخ
وقريء أيضا أدخلوا بأمر المزيد للملائكة والظاهر أنها تحتاج إلى زيادة تقدير
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة بعد أن استقر بكل من الفريقين القرار واطمأنت به الدار : أن أفيضوا أي صبوا علينا شيئا من الماء نستعين به على ما نحن فيه وظاهر الآية يدل على أن الجنة فوق النار أو مما رزقكم الله أي أو من الذي رزقكموه الله تعالى من سائر الأشربة ليلائم الافاضة أو من الاطمعنة كما روي عن السدي وابن زيد ويقدر في المعطوف عامل يناسبه أو يؤول العامل الأول بما يلائم المتعاطفين أو يضمن ما يعمل في الثاني أو يجعل ذلك من المشاكلة ويكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدة جوعهم وأن ما هم فيه من العذاب لايمنعهم عن طلب أكل وشرب وبهذا رد موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه فيما يروى على هرون الرشيد إنكاره أكل أهل المحشر محتجا بأن ما هم فيه أقوى مانع لهم عن ذلك
واختلف العلماء في أن هذا السؤال هل كان مع رجاء الحصول أو مع اليأس منه حيث عرفوا دوام ما هم فيه وإلى كل ذهب بعض قالوا استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا قالوا فقيل قالوا : في جوابهم : إن الله حرمها على الكافرين
5
- أي منع كلا منها أو منعها منع المحرم عن المكلف فلا سبيل إلى ذلك قطعا ولا يحتمل التحريم على معناه الشائع لأن الدار ليست بدار تكليف الذين اتخذوادينهم الذي أمرهم الله تعالى به أو الذي يلزمهم التدين به لهوا ولعبا فلم يتدينوا به أو فحرموا ماشاءوا واستحلو
(8/126)

ماشاءوا واللهو كما قيل صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف اليه واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب وقد تقدم تفصيل الكلام فيهما فتذكر وغرتهم الحياة الدنيا شغلتهم بزخارفها العاجلة ومواعيدها الباطلة وهذا شأنها مع أهلها قاتلها الله تعالى تغر وتضر وتمر فاليوم ننساهم نفعل بهم فعل الناسي بالمنسي من عدم الاعتداد بهم وتركهم في النار تركا كليا فالكلام خارج مخرج التمثيل وقد جاء النسيان بمعنى الترك كثيرا ويصح أن يفسر به هنا فيكون استعارة او مجازا مرسلا وعن مجاهد أنه قال : المعنى نؤخرهم في النار وعليه فالظاهر أن ننساهم من النسء لا من النسيان والفاء في قوله تعالى فاليوم فصيحة وقوله عز وعلا كما نسوا لقاء يومهم هذا قيل : في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ننساهم مسيانا مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي لاينبغي أن ينسى وليس الكلام على حقيقته أيضا لأنهم لم يكونوا ذاكري ذلك حتى ينسوه بل شبه عدم أخطارهم يوم القيامة ببالهم وعدم استعدادهم له بحال من عرف شيئا ثم نسيه
وعن ابن عباس ومجاهد والحسن أن المعنى كما نسوا العمل للقاء يومهم هذا وليس هذا التقدير ضروريا كما لا يخفى وذهب غير واحد إلى أن الكاف للتعليل متعلق بما عنده لا للتشبيه إد يمنع منه قوله تعالى : وما كانوا بآياتنا يجحدون
15
- لأنه عطف على مانسوا وهو يستدعي أن يكون مشبها به النسيان مثله
وتشبيه النسيان بالجحود غير ظاهر ومن ادعاه قال : المراد نتركهم في النار تركا مستمرا كما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله تعالى إنكارا مستمرا قال القطب : الجحود في معنى النسيان وظاهر كلام كثير من المفسرين أن كلام أهل الجنة إلى وغرتهم الحياة الدنيا لا أن الله حرمها على الكافرين فقط وقال بعضهم إنه ذلك لا غير وعليه فيجوز أن يكون الذين مبتدأ وجملة اليوم ننساهم خبره والفاء فيه مثلها في قولك : الذي يأتيني فله درهم كما قيل
ولقد جئناهم بكتب فصلناه بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة والضمير للكفرة قاطبة وقيل : لهم وللمؤمنين والمراد بالكتاب الجنس وقيل : للمعاصرين من الكفرة أو منهم ومن المؤمنين والكتاب هو القرآن وتنوينه للتفخيم وقد نظم بعضهم ما اشتمل عليه من الانواع بقوله : حلال حرام محكم متشابه بشير نذير قصة عظة مثل والمراد منع الخلو كما لا يخفى على علم منا بوجه تفصيله وهو في موضع الحال من فاعل فصلناه وتنكيره للتعظيم أي عالمين على أكمل وجه بذلك حتى جاء حكيما متقنا وفي هذا كما قيل دليل على أنه سبحانه يعلم بصفة زائدة على الذات وهي صفة العلم وليس علمه سبحانه عين ذاته كما يقوله الفلاسفة ومن ضاهاهم وللمناقشة فيه مجال ويجوز أن يكون في موضع الحال من المفعول أي مشتملا على علم كثير وقرأ ابن محيصن فضلناه بالضاد المعجة وظاهر كلام البعض أن الجار والمجرور على هذه القراءة في موضع الحال من الفاعل ولا يجعل حالا من المفعول أي فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك وجوز بعضهم أن يجعل حالا من المفعول على نحو ما مر وقيل : إن على للتعليل كما في قوله سبحتنه : : ولتكبروا الله على ا هداكم ةهي متعلقة بفضلناه أي فضلناه على سائر الكتب لأجل علم فيه أي لاشتاله على علم لم يشتمل عليه غيره منها وقيل : : سإن عل في القرائتين متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول جئناهم أي جئناهم بذلك حال كونهم من ذؤي العلم
(8/127)

القابلين لفهم ما جئناهم به فتأمل
هدى ورحمة حال من مفعول فصلناه وجوز أن يكون مفعولا لأجله وان يكون حالا من الكتاب لتخصيصه بالوصف والكلام في وقوع مثل ذلك حالا مشهور وقري بالجر على البدلية من علم وبالرفع على اضمار المبتدأ أي هو هدى عظيم ورحمة كذلك لقوم يؤمنون
25
- لأنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بنواره هل ينظرون أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم ايمانهم به شيئا إلا تأويله أي عاقبته وما يؤل اليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد والمراد أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم من حيث أن ماذكر يأتيهم لا محالة وحينئذ فلا يقال : كيف ينتظرونه وهم جاحدون غير موقعين له
وقيل : إن فيهم أقواما يشكون ويتوقعون فالكلام من قبيل بنو فلان قتلوا زيدا يوم يأتيهم تأويله وهو يوم القيامة وقيل هو يوم بدر يقول الذين نسوه أي تركوه ترك المنسي فاعرضوا عنه ولم يعملوا به من قبل أي من قبل اتيان تأويله قد جاءت رسل ربنا بالحق أي قد تبين أنهم قد جاءوا بالحق وإنما فسر بذلك لأنه الواقع هناك ولأنه الذي يترتب عليه طلب الشفاعة المفهوم من قوله سبحانه : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا اليوم ويدفعوا عنا ما نحن فيه أو نرد عطف على الجملة قبله داخل معه في حكم الاستفهام و من مزيدة في المبتدأ
وجوز أن تكون مزيدة في الفاعل بالظرف كأنه قيل هل لنا من شفعاء أو هل نرد الى الدنيا ورافعه وقوعه موقعا يصلح للأسم كما تقول : ابتداء هل يضرب زيد ولا يطلب له فعل ءاخر يعطف عليه فلا يقدر هل يشفع لنا شافع أو نرد قاله الزمخشري وأراد كما في الكشف لفظا لأن الظرف مقدر بجملة و هل مما له اختصاص بالفعل والعدول للدلالة على أن تمني الشفيع أصل وتمني الرد فرع لأن ترك الفعل إلى الأسم مع استدعاء هل للفعل يفيد ذلك فلو قدر لفاتت نكتة العدول معنى مع الغني عنه لفظا وقرأ ابن أبي اسحق أو نرد بالنصب عطفا على فيشفعوا لنا المنصوب في جواب الاستفهام أو لأن أو بمعنى إلى أن أو حتى أن على ما اختاره الزمخشري اظهارا لمعنى السببية قال القاضي : فعلى الرفع المسئول أحد الأمرين الشفاعة والرد إلى الدنيا وعلى النصب المسؤل أن يكون لهم شفعاء اما لأحد الأمرين من الشفاعة في العفو عنهم والرد ان كانت أو عاطفة وإما لأمر واحد إذا كانت بمعنى إلى أن إذ معناه حينئذ يشفعون إلى الرد وكذا إذا كانت بمعنى حتى ان يشفعون حتى يحصل الرد فنعمل بالنصب جواب الاستفهام الثاني أو معطوف على نرد مسبب عنه على قراءة ابن أبي اسحق
وقرأ الحسن بنصب نرد ورفع نعمل أي فنحن نعمل غير الذي كنا نعمل أي في الدنيا من الشرك والمعصية قد خسروا أنفسهم بصرف أعمارهم التي هي رأس مالهم إلى الشرك والمعاصي وضل عنهم غاب وفقد ما كانوا يفترون
35
- أي الذي كانوا يفترونه من الأصنام شركاء لله سبحانه وشفعاءهم يوم القيامة والمراد أنه ظهر بطلانه ولم يفدهم شيئا
(8/128)

ومن باب الإشارة في الآيات ويا ءادم اسكن انت وزوجك أي النفس وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إد الحوة اللون الذي يغلب عليه السواد وبعضهم يجعل ءادم إشارة إلى القلب لأنه من الادمة وهي السمرة وهو لتعلقه بالجسم دون النفس سمي بذلك ولشرف ءادم عليه السلام وجه النداء اليه وزوجه تبع له في السكنى الجنة هي عندهم اشارة الى سماء عالم الأرواح التي هي روضة القدس فكلا من حيث شئتما لاحجر عليكما في تلقي المعاني والمعارف والحكم التي هي الاقوات القلبية والفواكه الروحانية ولا تقربا هذه الشجرة أي شجرة الطبيعة والهوى التي بحضرتكما فتكونا من الظالمين الواضعين النور في محل الظلمة أو الناقصين من نور استعدادكما وأول بعضهم الشجرة بشجرة المحبة المورقة بانواع المحنة أي لا تقرباها فتظلما أنفسكما لما فيها من احتراق أنانية المحب وفناء هويته في هوية المحبوب ثم قال : ان هذه الشجرة غرسها الرحمن بيده لآدم عليه السلام كما خمر طينته بيده لها فلم تك تصلح الا له ولم يك يصلح إلا لها وأن المنع كان تحريضا على تناولها فالمرء حريص على مامنع واختار هذا النيسابوري وتكلف في باقي الآية ما نكلف فان اردته فارجع اليه فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري من سوآتهما أي ليظهر لهما بالميل إلى شجرة الطبيعة ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الرذيلة التي هي عورات عند العقل وقال مانهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين أوهمهما أن في الاتصاف بالطبيعة الجسمانية لذاتا ملكية وخلودا فيها أو ملكا وياسة على القوى بغير زوال إن قريء ملكين بكسر اللام
فدلاهما فنزلهما من غرف القدس إلى التعلق بها والركون اليها بغرور بما غرهما من كأس القسم المترعة من حميا ذكر الحبيب فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما والقليل منها بالنسبة اليهما كثير وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة اي يكتمان هاتيك السوآت والفواحش الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العلمية ويخفيانها بالحيل العملية وناداهما ربهما ألم أنهكما بما أودعت في عقولكما من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين وذلك القول بما ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضاده مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه قالا ربنا ظلمنا أنفسنا بالميل إلى جهة الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها : وإن لم تغفر لنا بالباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها علينا وترحمنا بافاضة المعارف الحقيقية لنكونن من الخاسرين الذين أتلفوا الاستعداد الذي هو مادة السعادة وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي قال أهبطوا إلى الجهة السفلى التي هي العالم الجسماني بعضكم لبعض عدو لأن مطالب الجهة السفلية جزئية لا تحتمل الشركة فكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية
وجمع الخطاب لأنه في قوة خطاب النوع يا بني ءادم قد أنزلنا عليكم لباسا وهو لباس الشريعة يواري سوآتكم يستر قبائح أوصافكم وفواحش افعالكم بشعاره ودثاره وريشا زينة وجمالا في الظاهر والباطن تمتازون به عن سائر الحيوانات ولباس التقوى أي صفة الورع والحذر من صفات النفس ذلك خير من سائر أركان الشرائع والحمية رأس الدواء ويقال : لباس التقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفي ولباس الأول
(8/129)

منها الصدق في طلب المولى ويتوارى به سوءة الطمع وما فيها ولباس الثاني محبة ذي المجد الاسنى ويتوارى به سوءة التعلق بالسوى ولباس الثالث رؤية العلي الأعلى ويتوارى به سوءة رؤية غيره في الأولى والأخرى ولباس الرابع البقاء بهوية ذي القدس الاسني ويتوارى به سوءة هوية ما في السموات وما في الارض وما تحت الثرى قيل : وهذا إشارة إلى الحقيقة وربما يقال : اللباس المواري للسوآت إشارة إلى الشريعة والريش إشارة إلى الطريقة لما أن مدارها حسن الأخلاق وبذلك يتزين الانسان ولباس التقوى إشارة إلى الحقيقة لما فيها من ترك السوى وهو أكمل أنواع التقوى ذلك أي لباس التقوى من آيات الله أي من أنوار صفاته سبحانه إد التوقي من صفات النفس لايتيسر إلا بظهور تجليات صفات الحق أو إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على الله سبحانه وتعالى لعلكم تذكرون عند ظهور تلك الأنوار لباسكم الأصلي النوري أو تذكرون معرفتكم له عند أخذ العهد فتتمسكون بأذيالها اليوم يا بني آدم لايفتننكم الشيطان بنزع لباس الشريعة والتقوى فتحرموا من دخول الجنة كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما الفطري النوري إنه يراكم هو وقبيله من حيث لاترونهم وذلك بمقتضى البشرية وقد يرون بواسطة النور الرباني
قل أمر ربي بالقسط بالعدل وهو الصراط المستقيم وأقيموا وجوهكم اي ذؤاتكم بمنعها عن الميل إلى أحد طرفي الافراط والتفريط عند كل مسجد أي مقام سجود أو وقته والسجود عندهم كما قاله البعض أربعة أقسام سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه عنده بالاخلاص وترك الالتفات إلى السوى ومراعاة موافقة الأمر وصدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور وسجود الفناء في الافعال وإقامة الوجه عنده بان لايرى مؤثرا غير الله تعالى أصلا وسجود الفناء في الصفات وإقامة الوجه عنده بأن لايكره شيئا من غير أن يميل إلى الافراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا التفريط بالتسخيط على المخالف والتعيير له والاستخفاف به وسجود الفناء في الذات وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الانية والاثنينية فلا يطغى بحجاب الانية ولا يتزندق بالاباحة وترك الاطاعة
وادعوه مخلصين له الدين بتخصيص العمل لله سبحانه أو برؤية العمل منه أو به جل شأنه كما بدأكم أظهركم بافاضة هذه التعينات عليكم تعودن اليه أو كما بدأكم لطفا أو قهرا تعودون اليه فيعاملكم حسبما بدأكم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة كما ثبت ذلك في علمه انهم أتخذوا الشياطين من القوى النفسانية الوهمية والتخيلية أولياء من دون الله للمناسبة التامة بين الفريقين ويحسبون أنهم مهتدون لقوة سلطان الوهم يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد فاخلصوا العمل لله تعالى وتوكلوا عليه وقوموا بحق الرضا وتمكنوا في التحقق بالحقيقة ومراعاة حقوق الاستقامة ولكل مقام مقال وكلوا واشربوا ولا تسرفوا بالافراط والتفريط فان العدالة صراط الله تعالى المستقيم
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده أي منع عنها وقال : لايمكن التزين بها والطيبات من الررق كعلوم الاخلاص ومقام التوكل والرضا والتمكين قل هي للذين ءامنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة الكبرى عن التلون وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات قل إنما حرم ربي الفواحش رذائل
(8/130)

القوة البهيمية ماظهر منها وما بطن والاثم والبغي رذائل القوة السبعية وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون رذائل القوة النطقية وكل ذلك من موانع الزينة ولكل أمة أجل ينتهون عنده إلى مبدئهم فاذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون لأن وقوع مايخالف العلم محال يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم من جنسكم وقيل : هي العقول وقال النيسابوري : التأويل إما يأتينكم الهامات من طريق قلوبكم واسراركم وفيه أن بني ءادم كلهم مستعدون لاشارات الحق والهاماته فمن اتقى في الفناء وأصلح بالاستقامة عند البقاء فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون لوصولهم إلى مقام الولاية والذين كذبوا بآياتنا أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم واستكبروا عنها بالاتصاف بالرذائل اولئك أصحاب النار نار الحرمان هم فيها خالدون لسوء ما طبعوا عليه فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا بأن قال : أكرمني الله تعالى بالكرامات وهو الذي بالكرى مات أو كذب بآياته بأن أنكر على أولياء الله سبحانه الفائزين من الله تعالى بالحظ الأوفى أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب مما كتب لهم في لوح القضاء والقدر
وقيل : الكتاب الانسان الكامل ونصيبهم منه نصيب الغرض من السهم إن الذين كذبوا بآياتنا الدالة علينا واستكبروا عنها ولم يلتفتوا اليها لوقوفهم مع أنفسهم لاتفتح لهم ابواب السماء فلا تعرج أرواحهم الى الملكوت ولا يدخلون الجنة أي جنة المعرفة والمشاهدة والقربة حتى يلج الجمل اي جمل أنفسهم المستكبرة في سم الخياط أي خياط أحكام الشريعة الذي به يخاط ما شقته اليد الشقاق : وسمه ءاداب الطريقة لأنها دقيقة جدا وقد يقال : الخياط إشارة إلى خياط الشريعة والطريقة وسمه ما يلزمه العمل به من ذلك وولوج ذلك الجمل لايمكن مع الاستكبار بل لابد من الخضوع والانقياد وترك الحظوظ النفسانية وحينئذ يكون الجمل اقل من البعوضة بل أدق من الشعرة فحينئذ يلج في ذلك السم لهم من جهنم الحرمان مهاد ومن فوقهم غواش أي أن الحرمان أحاط بهم وقيل : لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس وقطع الهوى لحاف فتذيبهم وتحرق أنانيتهم ونادى أصحاب الجنة المرحومون أصحاب النار المحرمون أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا من القرب حقا فهل وجدتم ماوعد ربكم من البعد حقا فأذن مؤذن وهو مؤذن العزة والعظمة بينهم أن لعنة الله على الظالمين الواضعين الشيء في غير موضعه الذين يصدون السالكين عن سبيل الله أي الطريق الموصلة اليه سبحانه وقيل : يصدون القلب والروح عن ذلك ويبغونها عوجا بأن يصفوها بما ينفر السالك عنها من الزيغ والميل عن الحق وقيل : يطلبون صرف وجوههم الى الدنيا وما فيها وهم بالآخرة أي الفناء بالله تعالى أو بالقيامة الكبرى كافرون لمزيد أحتجابهم بما هم فيه وبينهما أي بين أهل الجنة وهي جنة ثواب الأعمال من العباد والزهاد وبين أهل النار حجاب فكل منهم محجوب عن صاحبه وعلى ألاعراف أي أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب رجال وأي رجال وهم العرفاء أهل الله سبحانه وخاصته وقيل : وإنما سموا رجالا لأنهم يتصرفون باذن الله تعالى فيما سواه عز و جل تصرف الرجال بالنساء ولا يتصرف فيهم من ذلك يعرفون كلا بسيماهم لما اعطوا من نور الفراسة ونادوا أصحاب الجنة : أي جنة ثواب الأعمال أن سلام عليكم بما من الله تعالى عليكم به من الخلاص من النار وقيل :
(8/131)

إنإن سلامهم على أهل الجنة بامدادهم باسباب التزكية والتخلية والأنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهم لم يدخلوها أي لم يدخل أولئك الرجال الجنة لعدم احتياجهم اليها وهم يطمعون في كل وقت بما هو أعلى وأغلى وقيل : هم أي أهل الجنة يطمعون في دخول أولئك الرجال ليقتبسوا من نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم ويستأنسوا بحضورهم وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ليعتبروا قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين بأن تحفظ قلوبنا من الزيغ ونادى أصحاب الأعراف رجالا من رؤساء أهل النار واطلاق الرجال عليهم وعلى أصحاب الاعراف كاطلاق المسيح على الدجال اللعين وعلى عيسى عليه السلام أهؤلاء إشارة إلى أهل الجنة ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أي الحياة التي أنتم فيها : أو مما رزقكم الله أي النعيم الذي من الله تعالى به عليكم أو أفيضوا علينا من العلم أو العمل لننال به مانلتم قالوا ان الله حرمها في الأرل على الكافرين لسوء استعدادهم وقيل : ان الكفار لما كانوا عبيد البطون حراصا على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا وادخلوا النار على ماماتوا طلبوا الماء أو الطعام ولقد جئناهم بكتاب وهو النبي صلى الله عليه و سلم الجامع لكل شيء والمظهر الأعظم لنا فصلناه أي أظهرنا منه ما أظهرنا على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون لأنهم المنتفعون منه وان كان من جهة أخرى رحمة للعالمين هل ينظرون إلا تأويله أي مايؤول اليه عاقبة أمره وقيل : الكتاب الذي فصل على علم إشارة إلى البدن الانساني المفصل إلى أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الالهي وتأويله ما يؤول اليه أمره في العاقبة من الانقلاب الا ما لا يصلح لذلك عند البعث من هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله سبحانه سيجزيهم وصفهم وكما قال سبحانه : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما انتهى
ويحتمل أن يكون الكتاب المذكور اشارة إلى اةفاق والأنفس وما يؤول اليه كل ظاهر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام شروع في بيان مبدأ الفطرة أثر بيان معاد الكفرة ويحتمل أنه سبحانه لما ذكر حال الكفار وأشار إلى عبادتهم غيره سبحانه احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته جل شأنه ودلهم بذلك على أنه لا معبود سواه فقال مخاطبا بالخطاب العام أن ربكم أي خالقكم ومالككم الذي خلق السموات السبع والارض بما فيها كما يدل عليه ما في سورة السجدة على ما يأتي ان شاء الله تعالى تحقيقه في ستة أوقات كقوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره أو في مقدار ستة أيام كقوله سبحانه لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا
فان المتعارف ان اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ نعم العرش وهو المحدد على المشهور موجود إذ ذاك على ما يدل عليه بعض الآيات وليس بقديم كما يقوله من ضل عن الصراط المستقيم لكن ذاك ليس نافعا في تحقق اليوم العرفي والى حمل اليوم على المتعارف وتقدير المضاف ذهب جمع من العلماء وادعوا وهو قول عبد الله بن سلام وكعب الأحبار والضحاك ومجاهد واختاره ابن جرير الطبري ان ابتداء الخلق كان يوم الأحد ولم يكن في السبت خلق آخذا له من السبت بمعنى القطع لقطع الخلق فيه ولتمام الخلق في يوم الجمعة واجتماعه فيه سمي بذلك وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أنه سمي
(8/132)

تلك الأيام بابو جاد وهواز وحطي وكلمون وسعفص وقريشات وقال محمد بن اسحق وغيره : ان ابتداء الخلق في يوم السبت وسمي سبتا لقطع بعض خلق الأرض فيه على ما قاله ابن الأنباري أو لما أن الأمر كأنه قطع وشرع فيه على ما قيل واستدل لهذا القول بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيدي فقال : خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الاربعاء وخلق فيها الدواب يوم الخميس وخلق ءادم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ولا يخفى أن هذا الخبر مخالف للآية الكريمة فهو إما غير صحيح وان ما رواه مسلم وأما مؤول وأنا أرى أن أول يوم وقع فيه الخلق يقال له الأحد وثاني يوم الاثنين وهكذا ويوم جمع فيه الخلق الجمعة فافهم والى حمله على اللغوي وعدم التقدير ذهب ءاخرون وقالوا : كان مقدار كل يوم ألف سنة وروي ذلك عن زيد بن أرقم وفيه خلقه سبحانه الأشياء مدرجا على ما روي عن ابن جبير تعليم للخلق التثبيت والتأني في الأمور كما في الحديث التأني من الله تعالى والعجلة من الشيطان وقال غير واحد : إن في خلقها مدرجا مع قدرته سبحانه على ابداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار واعترض عليه بانه يجوز أن يكون الفاعل موجبا ويمون وجود المعلول مشروطا بشرائط توجد وقتا فوقتا وبأن ذلك يتوقف على ثبوت تقدم خلق الملائكة على خلق السموات والأرض وليس ذلك بالمحقق
وأجيب بأن الأول مبني على الغفلة عن قوله مع القدرة على ابداعها دفعة وبيانه أن الفاعل إذا كان مختارا كما يقوله أهل الحق يتوقف وجود المعلول على تعلق الارادة به فهو جزء العلة التامة حينئذ فيجوز أن يتخلف المعلول عن الفاعل لانتفاء تعلق الارادة فلا يلزم من قدمه قدم المعلول وأما إذا كان الفاعل موجبا مقتضيا لذاته فيضان الوجود على ما تم استعداده فان كان المعلول تام الاستعداد في ذاته كالكبريت بالنسبة إلى النار يجب وجوده ويمتنع تخلفه والالزم التخلف عن العلة التامة فيلزم من قدم الفاعل حينئذ قدمه والاجرام الفلكية من هذا القبيل عند الفلاسفة وإن توقف تمام استعداده على أمر متجدد فما لم يحصل يمتنع إيجاده كالحطب الرطب فانه مالم ييبس لم تحرقه النار والحوادث اليومية من هذا القبيل عندهم ولهذا اثبتوا برزخا بين عالمي القدم والحدوث ليتأتى ربط الحوادث بالمباديء القديمة ففي صورة كون الفاعل موجبا مشروطا وجود معلوله بشرائط متعاقبة يمتنع الابداع دفعة فامكان وجود هذه الأشياء المنبيء عن عدم التوقف على شيء آخر أصلا دفعة مع الخلق التدريجي المستلزم لتأخر وجود المعلول عن وجود الفاعل لايجامع الوجوب المستلزم لامتناع التأخر حينئذ ويستلزم الاختيار المصحح لذلك التأخر كما علمت وبأن الابادع التدريجي للأشياء عبارة عن إيجادات يتعلق كل منها بشيء فيدل على تعلق العلم والارادة والقدرة بكل منها تفصيلا بخلاف الايجاد الدفعي لها فانه إيجاد واحد متعلق بالمجموع فيدل على تعلق ما ذكر بالمجموع من حيث هو مجموع اجمالا واستوضح ذلك من الفرق بين ضرب الخاتم على نحو القرطاس وبين أن تكتب تلك الكلمات فانك في الصورة الثانية تتخيلها كلمة فكلمة بل حرفا فحرفا وتريدها كذلك فتوقعها في الصحيفة بخلاف الصورة الأولى وهو ظاهر فالنظار يعتبرون من الخلق التدريجي ويفهمون شمول علمه سبحانه وارادته وقدرته للأشياء تفصيلا قائلين : سبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وأيضا قالوا : إنا فعلنا شيئا تصورناه أولا ثم اعتقدنا
(8/133)

لهله فائدة ثم تحصل لنا حال شوقية ثم ميلان نفساني هي الارادة ثم تنبعث القوة الباعثة للقوة المحركة للاعضاء نحو ايجاده فيحصل لنا ذلك الشيء فلكل واحد من تلك الامور دخل في وجود ذلك الشيء ثم قالوا : فكما لابد في صدور الافعال الاختيارية فينا من هذه الامور كذلك لابد من صدور الافعال الاختيارية للواجب من نحو ذلك مما لايمتنع عليه سبحانه فاثبتوا له تعالى علما وارادة وقدرة وفائدة لافعاله واستدلوا على ذلك من كونه سبحانه مختارا فالخلق التدريجي لما كان دالا على الاختيار الدال على ما ذكر صدق أن فيه اعتبار للنظار
وحاصل هذا أن المراد من النظار أصحاب النظر والبصيرة من العقلاء فلا يتوقف ما ذكر على ما تقدم خلق الملائكة على أن من قال بتقدم خلق العرش والكرسي على خلق الأرض والسموات قائل بتقدم خلق الملائكة بل قيل : إن من الناس من قال بتقدم خلق نوع من الملائكة قبل العرش والكرسي وسماهم المهيمين
وأنت تعلم أن هذا لا يفيدنا لأن المهيمين عند هذا القائل لا يشعرون بسماء ولا أرض بل هم مستغرقون فيه سبحانه على أن ذلك ليس بالمحقق كما يقوله المعترض أيضا وقيل : إن الشيء إذا حدث دفعة واحدة فلعله يخطر بالبال أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الاتفاق فاذا حدث شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة وقيل : إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة والتثبت أبلغ في الحكمة فاراد الله تعالى اظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبيت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن
ثم استوى على العرش وهو في المشهور الجسم المحيط بسائر الأجسام وهو فلك الافلاك سمي به اما لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فانه يقال له عرش ومنه قوله تعالى ورفع أبويه على العرش 9 لأن الأمور والتدبيرات تنزل منه ويكنى به عن العز والسلطان والملك فيقال : فلان ثل عرشه أي ذهب عزه وملكه وأنشدوا قوله : إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم وأودت كما أودت إياد وحمير وقوله : إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعيينة بن الحرث بن شهاب وذكر الراغب أن العرش مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم وليس هو كما تذهب اليه أوهام العامة فانه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك وليس كما قال قوم إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب وفيه نظر والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور وفسر الاستواء بالاستقرار وروي ذلك عن الكلبي ومقاتل ورواه البيهقي في متابه الاسماء والصفات بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها وما روي عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه سئل كيف استوى فأطرق رأسه مليا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل : وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج ليس نصا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله : غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول ومن قوله : والكيف غير معقول ان كل ماهو من صفة الله تعالى لايدرك العقل له كيفية لتعاليه عن ذلك فكف الكيف عنه مشلولة
ويدل على هذا ما جاء في رواية أخرى عن عبد الله بن وهب أن مالكا سئل عن الاستواء فأطرق وأخذة الرحضاء ثم قال : الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال له : كيف وكيف عنه مرفوع إلى آخر
(8/134)

ماقال ثم أن هذا إن كان مع نفي اللوازم فالأمر فيه هين وإن كان مع القول بها والعياذ بالله تعالى فهو ضلال وأي ضلال وجهل وأي جهل بالملك المتعال وما أعرف ما قاله بعض العارفين الذين كانوا من تيار المعارف غارفين على لسان حال العرش موجها الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليلة المعراج حين أشرقت شمسه عليه الصلاة و السلام في الملأ الأعلى فتضاءل معها كل نور وسراج كما نقله الامام القسطلاني معرضا بضلال مثل أهل المذهب الثاني ولفظه مع حذف ولما انتهى صلى الله عليه و سلم إلى العرش تمسك بأذياله وناداه بلسان حاله يا محمد أنت في صفاء وقتك آمنا من مقتك إلى أن قال : يا محمد أنت المرسل رحمة للعالمين ولابد لي من نصيب من هذه الرحمة ونصيبي يا حبيبي أن تشهد بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلي وتقوله أهل الغرور علي وزعموا أني أوسع من لا مثل له وأحيط بمن لا كيفية له يا محمد من لا حد لذاته ولا عد لصفاته كيف يكون مفتقرا إلي ومحمولا علي إذا كان الرحمن أسمه والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته كيف يتصل بي أو ينفصل عني يا محمد وعزته لست بالقريب منه وصلا ولا بالبعيد عنه فصلا ولا بالمطيق له حملا أوجدني منه رحمة وفضلا ولو محقني لكان حقا منه وعدلا يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته أه وذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين إلى أن العرش على معناه واستوى يمعنى استولى واحتجوا عليه بقوله : قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق وخص العرش بالاخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ورد هذا المذهب بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم في ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها ونسب ذلك للاشعرية وبالغ أبن القيم في ردهم ثم قال : إن لام الأشعرية كنون اليهودية وهو ليس من الدين القيم عندي وذهب الفراء واختاره القاضي الى أن المعنى ثم قصد الى خلق العرش ويبعده تعدي الاستواء بعلى وفيه قول بأن خلق العرش بعد خلق السموات والأرض وهو كما ترى وذهب القفال إلى أن المراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة واستقامة الملك لكنه أخرج ذلك على الوجه الذي ألفه الناس من ملوكهم واستقر في قلوبهم وقيل : ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه في سورة يونس : ثم استوى على العرش يدبر الأمر فان يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله استوى على العرش وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى وذكر أن القفال بفسر العرش بالملك ويقول ما يقول واعترض بأن الله تعالى لم يزل مستقيم الملك مستويا عليه قبل خلق السموات والأرض وهذا يقتضي أنه سبحانه لم يكن كذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وأجيب بأن الله تعالى كان قبل خلق السموات والارض مالكها لكن لا يصح أن يقال : شبع زيد الا بعد أكله الطعام فاذا فسر العرش بالملك صح أن يقال إنه تعالى إنما استوى ملكه بعد خلق السموات والارض ومنهم من يجعل الاسناد مجازيا ويقدر فاعلا في الكلام أي استوى أمره ولا يضر حذف الفاعل إذا قام ما أضيف اليه مقامه وعلى هذا لا يكون الاستواء صفة له تعالى وليس بشيء ومن فسره بالاستيلاء أرجعه إلى صفة القدرة
ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة وغيرهما من أفعاله سبحانه لأن ثم للتراخي انما يكون في الافعال وحكى الاستاذ
(8/135)

أبوأبو بكر بن قومك عن بعضهم أن استوى بمعنى علا ولا يراد بذلك العلو بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكنا فيه ولكن يراد معنى يصح نسبته اليه سبحانه وهو على هذا من صفات الذات وكلمة ثم تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء أو أنها للتفاوت في الرتبة وهو قول متين
وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه الى الله تعالى فهم يقولون : استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه منزها عن الاستقرار والتمكن وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مرذول إذ القائل به لا يسعه أن يقول كاستيلائنا بل لابد أن يقول : هو استيلاء لائق به عز و جل فليقل من أول الأمر هو استواء لائق به جل وعلا
وقد اختار ذلك السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وهو أعلم وأسلم وأحكم خلافا لبعضهم ولعل لنا عودة إلى هذا البحث ان شاء الله تعالى يغشى الليل النهار أي يغطي سبحانه النهار بالليل ولما كان المغطي يجتمع من المغطى وجودا وذلك لا يتصور هنا قالوا : المعنى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا فيكون التجوز في الاسناد باسناد مالمكان الشيء اليه ومكانه هو الجو على معنى أنه مكان للضوء الذي هو لازمه لا أنه مكان لنفس النهار لأن الزمان لا مكان له وجوز أن يكون هناك استعارة بأن يجعل غشيان مكان النهار واظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه فكأنه لف عليه لف الغشاء أو يشبه تغييبه له بطريانه عليه بستر اللباس للملابسة وجوز أن يكون المعنى يغطي سبحانه الليل بالنهار
ورجح الوجه الاول بان التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار وبأنه يلزم على الثاني أن يكون الليل مفعولا ثانيا والنهار مفعولا أولا وقد ذكر أبو حيان أن المفعولين إذا تعدى اليهما فعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى يلزم أن يكون هو الاول منهما عندهم كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمرا ورتبة التقديم هي الموضحة لأنه الفاعل معنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى بخلاف أعطيت زيدا درهما فان تعين المفعول الأول لايتوقف على التقديم ورجح القثاني بان حميد بن قيس قرأ يغشى الليل النهار بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار ويلزم عليها أن يكون الطالب النهار والليل ملحق به وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما
وبأن قوله تعالى : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار يعلم منه على ما قال المرزوقي أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ فالنهار بالادراك أولى وبأن قوله سبحانه : يطلبه حثيثا أي محمولا على السرعة ففعيل بمعنى مفعول أوفق بهذا الوجه فان هذا الطلب من النهار أظهر وقد قالوا : إن ضوء النهار هو الهاجم على ظلمة الليل وأنشد بعضهم : كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى نطير غرابا ذا قوادم جون ولبعض المتأخرين من أبيات : وكأن الشرق باب للدجى ماله خوف هجوم الصبح فتح وحديث ان التغشية أنسب بالليل قيل مسلم لو كان المراد بالتغشية حقيقتها لكن ليس المراد ذلك بل المراد اللحوق والادراك وهذا أنسب بالنهار كما علمت والقاعدة المذكورة لا تخلوا عن كلام على أنه لا يبعد على ما نقرر أن يكون الكلام من قبيل أعطيت زيدا درهما والقول بأن معنى الآية أنه سبحانه يجعل الليل أغشى
(8/136)

بالنهار أي مبيضا بنور الفجر بناء على ما في الصحاح من أن الاغشى من الخيل وغيره ما أبيض رأسه كله من بين جسده كالأرخم مما لا يكاد يقدم عليه وذكر سبحانه أحد الامرين ولم يذكرهما معا كما في قوله تعالى : يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل للعلم بالآخر من المذكور لأنه يشير اليه أو لأن اللفظ يحتمله على ما قيل وقال بعض المحققين : إن الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمر الاستبدال فيدل على تغيير كل منهما بالآخر باخصر عبارة من غير تكلف ومخالفة لما اشتهر من قواعد العربية وجملة يغشى على ماقاله ابن جني على قراءة حميد حال من الضمير في قوله سبحانه : ثم استوى والعائد محذوف أي يغشى الليل النهار بأمره أو باذنه وقوله جل وعلا : يطلبه حثيثا بدل من يغشى الخ للتوكيد وعلى قراءة الجماعة حال من الليل أي يغشى الليل النهار طالبا له حثيثا و حثيثا حال من الضمير في يطلبه وجوز غيره أن تكون الجملة حالا من النهار على تقدير قراءة حميد أيضا
وجوز أبو البقاء الاستئناف في الجملة الاولى وقال بعضهم : يجوز في حثيثا أن يكون حالا من الفاعل بمعنى حاثا أو من المفعول أي محثوثا وأن يكون صفة مصدر محذوف أي طلبا حثيثا وإنما وصف الطلب بذلك لأن تعاقب الليل والنهار على ما قال الامام وغيره إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فان الانسان إذا كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ واعترض بأن الفلك الأعظم ان كان هو العرش كما قالوا فحركته غير مسلمة عند جمهور المحدثين بل هم لا يسلمون حركة شيء من سائر الافلاك أيضا وهو الكرسي والسموات السبع بل ادعوا ان النجوم بأيدي ملائكة تسير بها حيث شاء الله تعالى وكيف شاء وقال الشيخ الأكبر قدس سره إنها تجري في نحن الافلاك جري السمك في الماء كل في فلك يسبحون وفسر فيما نقل عنه قوله سبحانه : يغشى الليل النهار يجعله غاشيا له غشيان الرجل المرأة وقال : ذكر سبحانه الغشيان هنا والايلاج في آية أخرى وهذا هو التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات وان صح هذا فما اصح قولهم : الليلة حبلى وما ألطفه وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح والحاصل من هذا الغشيان عند من يقول به ما في هذا العالم من معدن ونبات وحيوان وهي المواليد الثلاث أو من الحوادث مطلقا ويقرب من هذا قوله : أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي وأنت تعلم أن لا مؤثر في الوجود على الحقيقة إلا الله تعالى ووجه ذكره سبحانه هذا بعد ذكره الاستواء على ما نقل عن القفال أنه جل شأنه لما أخبر العباد باستوائه أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه لينظم العيان الى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات ولا يخفى ان هذا قد يحسن وجها لذكر ذلك وما بعده ذكر استواء وأما لذكره بخصوصه هناك دون تسخير الشمس والقمر فلا وذكر صاحب الكشف في توجيه اختيار صاحب الكشاف هنا أن الغاشي هو النهار وفي الرعد هو الليل وتفسيره التغشية هناك بالالباس وهنا بالالحاق نظرا الى الخلاصة ما يفهم منه وجه تقديم التغشية على التسخير الآتي في هذه الآية وعكسه في آية الرعد حيث قال : والنكتة في ذلك أن تسخير الشمس والقمر ذكر هنالك من قبل في تعديد الآيات فلما فرغ ذكر ادخال الليل على النهار ليطابقه ولانه
(8/137)

أظهر في الآية وأن الشمس مسخرة مأمورة وههنا جاء به على أسلوب ءاخر تمهيدا لقوله سبحانه : ادعوا ربكم أي من هذ الطاقة وآياته في شأنكم فرجح جانب اللفظ على الآصل وللجمع بين القراءتين أيضا اه فتدبر ولا تغفل
وقريء يغشى بالتشديد للدلالة على التكرار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره أي خلقهن حال كونهن مذللات تابعات لتصرفه سبحانه فيهن بما شاء غير ممتنعات عليه جل شأنه كأنهن مميزات أمرن فانقدن فتسمية ذلك أمرا على سبيل التشبيهوالاستعار ويصح حمل الأمر على الارادة كما قيل أي هذه الاجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لارادته ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامي وقال : أنه سبحانه أمر هذ الأجرام بالسير الدائم والحركية المستمرة على الوجه المخصوصإلى حيث شاء ولا مانع من أن يعطيها الله تعالى ادراكا وفهما لذلك بل ادعى بعضهم أنها مدركة مطلقا وفي بعض الأخبار ما يدل على أن لبعضها ادراكا لغير ما ذكر وأفراد الشمس والقمر بالذكر مع دخولهما في النجوم لاظهار شرفهما عليها لما فيها من مزيد الاشراق والنور وبسيرهما في المنازل تعرف الاوقات وقدم الشمس على القمر ورعاية للمطابقة مع ما تقدم وهي من البديع ولأنها اسنى من القمر وامسى مكانة ومكانا بناء على ما قيل من أنها في السماء الرابعة وأنه في السماء الأولى وليس بمسلم عند المحدثين كالقول بأن نوره مستفاد من نورها لاختلاف تشكلاته على أنحاء متفاوتة بحسب وضعه من الشمس في القرب والبعد عنها مع ما يلحقه من الخسوف لا لاختلاف التشكلات وحده فانه لايوجب الحكم بان نور القمر مستفاد من الشمس قطعا لجواز أن يكون نصفه مضيئا من ذاته ونصفه مظلما ويدور على نفسه بحركة مساوية لحركة فلكه فاذا تحرك بعد المحاق يسيرا رأيناه هلالا ويزداد فنراه بدرا ثم يميل نصفه المظلم شيئا فشيئا إلى أن يؤول إلى المحاق وفي كونها مسخرات دلالة على أنها لا تأثير لها بنفسها في شيء أصلا وقرأ جميعها ابن عامر بالرفع على الابتداء والخبر والنصب بالعطف على السموات والحالية كما أشرنا اليه وجوز تقدير جعل وجعل الشمس مفعولا أولا و مسخرات مفعولا ثانيا ألا له الخلق والأمر كالتذييل للكلام السابق أي أنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ويدخل في ذلك السموات والأرض دخولا أوليا وهو الذي دبرها وصرفها على حسب ارادته ويدخل في ذلك ما أشير اليه بقوله سبحانه : مسخرات بأمره لا أحد غيره كما يؤذن به تقديم الظرف
وفسر بعضهم الأمر هنا بالارادة أيضا وفسر آخرون الأمر بما هو مقابل النهي والخلق بالمخلوق أي له تعالى المخلوقون لأنه خلقهم وله أن يأمرهم بما أراد واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله تعالى شأنه ليس بمخلوق فقال : إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني من جعل الأمر الذي هو كلامه سبحانه من جملة ما خلقه فقد كفر لأن المخلوق لايقوم إلا بمخلوق مثله كذا في تفسير الخازن وليس بشيء كما لا يخفى وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك وشاع عند بعضهم إطلاق عالم الأمر على عالم المجردات تبارك الله رب العالمين
45
- أي تقدس وتنزه عن كل نقص ويدخل في ذلك تنزهه تعالى عن نقص في الخلق أو في الأمر دخولا أوليا
ففي إشارة إلى أنهما طبق الحكمة وفي غاية الكمال ولا يقال ذلك في غيره تعالى بل هو صفة خاصة به سبحانه كما في القاموس وقال الامام : إن البركة لها تفسيران أحدهما البقاء والثبات والثاني كثرة الآثار
(8/138)

الفاضلة فان حملته على ألاول فالثابت الدائم هو الله تعالى وإن حملته على الثاني فكل الخيرات والكمالات من الله تعالى فهذا الثناء لا يليق إلا بحضرته جل وعلا واختار الزجاج أنه من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ولم يجيء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل مثلا وقال البيضاوي : المعنىي تعالى بالوحدانية والألوهية وتعظم بالتفرد والربوبية وعلى هذا فهو ختام لوحظ فيه مطلعه ثم حقق الآية بما لا يخلو من دغدغة ومخالفة لما عليه سلف الأمة ثم انه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عباده أنه يدعوه مخلصين متذللين فقال عز من قائل : أدعوا ربكم الذي عرفتم شؤونه الجليلة والمراد من الدعاء كما قال غير واحد السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها اليه ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات
وقيل : المراد منه هنا العبادة لانه عطف عليه ادعوه خوفا وطمعا والمعطوف يجب أن يكون مغاير للمعطوف عليه وفيه نظر أما أولا فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيدا وضربت عمرا
وأما ثانيا فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إا هنا أو هنا وأما ثالثا فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى تضرعا أي ذوي تضرع أو متضرعين فتصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل وجوز نصبه على المصدرية وكذا الكلام فيما بعد وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان وقال الزجاج التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا وقيل : التضرع مقابل الخفية واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية وخفية أي سرا
أخرج ابن المبارك وأبن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال : لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول : ادعوا ربكم تضرعا وخفية وأنه سبحانه ذكر عبدا صالحا فرضى له فعله فقال تعالى : إذ نادى ربه نداء خفيا وفي رواية عنه أنه قال : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا وجاء من حديث أب موسى الاشعري أنه صلى الله عليه و سلم قال لقوم يجهرون : أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لاتدعون أضم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته والمعنى ارفقوا وأقصروا من الصياح في الدعاء
ومن هنا قال جمع بكراهة رفع الصوت به وفي الالتصاف حسبك في تعين الاسرار فيه اقترانه في الآية بالتضرع فلاخلال به كالاخلال بالضراعة إلى الله تعالى وان لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار يصحبه وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستك المسامع وتستد ولا يدرون انهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد
وروى ابن جرير عن ابن جريج أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار اليه بقوله سبحانه إنه لا يحب المعتدين
55
- وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن زيد بن أسلم وذهب بعضهم الى أنه مما لا بأس به ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي كرتبة الانبياء عليهم السلام والصعود إلى
(8/139)

السماء وان منه ماذهب جمع إلى أنه كفر كطلب دخول ابليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة وطلب نزول الوحي والتنبي ونحو ذلك من المستحيلات لما فيه من طلب اكذاب الله تعالى نفسه وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب اليها من قول وعمل ثم قرأ إنه لايحب المعتدين وفصل آخرون فقالوا : الاخفاء أفضل عند خوف الرياء والاظهار أفضل عند عدم خوفه وأولى منه القول بتقديم الاخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصل أو نائم أو قاريء أو مشتغل بعلم شرعي وبتقديم الجهر على الاخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد تعليم جاهل أو نحو ازالة وحشة عن مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو ادخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعة أو نحو ذلك ومنه الجهر بالترضي عن الصحابة والدعاء لامام المسلمين في الخطبة وقد سن الشافعية الجهر بآمين بعد الفاتحة وهو دعاء ويجهر بها الامام والمأموم عندهم
وفرق بعضهم بين رفع الصوت جدا كما يفعله المؤذنون في الدعاء بالفرج على المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده فقال : لابأس في الثاني غالبا ولا كذلك الأول والظأهر أن المراد بالمعتدين المجاوزون ما أمروا به في كل شيء ويدخل فيهم المعتدون في الدعاء دخولا أوليا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى في الآية ادعوا ربكم في كل حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة ولا تعتدوا فتدعوا على مؤمن ومؤمنة بشر كالخزي واللعن وقد اختلف العلماء في كفر من دعا على آخر بسلب الايمان أو الموت كافرا وهو من أعظم أنواع الاعتداء والمفتى به عدم الكفر وذكرواالدعاء آدابا كثيرة منها الكون على طهارة واستقبال القبلة وتخلية القلب من الشواغل وافتتاحه واختتامه بالتصلية على النبي صلى الله عليه و سلم ورفع اليدين نحو السماء واشراك المؤمنين فيه وتحري ساعات الاجابة ومنها يوم الجمعة عند كثير ساعة الخطبة ويدعو فيها بقلبه كما نص عليه أفضل متأخري مصره الفاضل الطحاطاوي في حواشيه على الدر المختار فيما نقله عنه أفقه المعاصرين ابن عابدين الدمشقي ووقت نزول الغيث والافطار وثلث الليل الأخير وبعد ختم القرآن وغير ذلك مما هو مبسوط في محله
ولا تفسدوا في الأرض نهى عن سائر أنواع الافساد كافساد النفوس والاموال والانساب والعقول والاديان بعد إصلاحها أي اصلاح الله تعالى لها وخلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وبعث فيها الأنبياء بما شرعه من الأحكام وادعوه خوفا وطمعا أي ذوي خوف من الرد لقصوركم عن أهلية الأجابة وطمع في اجابته تفضلا منه وقيل : خوفا من عقابه وطمعا في جزيل ثوابه
وقال ابن جريج المعنى خوف العدل وطمع الفضل وعن عطاء خوفا من اليزان وطمعا في الجنان وأصل الخوف انزعاج القلب لعدم أمن الضرر وقيل : توقع مكروه يحصل فيما بعد والطمع توقع محبوب يحصل له ونصبهما على الحالية كما أشير اليه
وجوز أن يكون على المفعولية لأجله قيل : ولما كان الدعاء من الله تعالى بمكان كرره وقيده أولا بالأوصاف الظاهرة وآخرا بالأوصاف الباطنة وقيل : الأمر السابق من قبيل بيان شرط الدعاء والثاني من قبيل بيان فائدته وقيل : لا تكرار فما تقدم أمر بالدعاء بمعنى السؤال وهذا أمر بالعاء بمعنى العبادة والمعنى
(8/140)

أعبدوهأعبدوه جامعين في أنفسكم الخوف والرجاء في عبادتكم القلبية والقالبيةوهو كما ترى ومن الناس من أبقى الدعاء على المعنى الظاهر وعمم في متعلق الخوف والطمع والمعنى عنده ادعوه وأنتم جامعون في أنفسكم الخوف والرجاء في أعمالكم كلها وليس بشيء والمختار عند جلة المفسرين ما تقدم
إن رحمت الله قريب من المحسنين
65
- أعمالهم ومن الأحسان في الدعاء أن يكون مقرونا بالخوف والطمع وقد كثر الكلام في توجيه تذكير قريب مع أنه صفة مخبر بها عن المؤنث وقد نقل ابن هشام في ذلك وجوها ذاكرا مالها وما عليها الأول أن الرحمة في تقدير الزيادة والعرب قد تزيد المضاف قال سبحانه وتعالى : سبح اسم ربك الاعلى أي سبح ربك ألا ترى أنه يقال في التسبيح سبحان ربي ولا يقال سبحان اسم ربي والتقدير إن الله تعالى قريب فالخبر في الحقيقة عن الاسم الأعظم وتعقبه بأن هذا لا يصح عند علماء البصرة لأن الأسماء لاتزاد في رأيهم وإنما تزاد الحروف ومعنى اةية عندهم نزه اسماء ربك عما لايليق بها فلا تجر عليه سبحانه اسما لا يليق بكماله أو اسما غير مأذون فيه فلا زيادة والثاني أن ذلك على حذف مضاف أي ان مكان رحمة الله تعالى قريب فالأخبار إنما هو عن المكان وهو مذكر ونظير ذلك قوله صلى الله عليه و سلم مشيرا إلى الذهب والفضةان هذين حرام فان الاخبار بالمفرد لأن التقديران استعمال هذين وقول حسان : يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل فانه بتقدير ماء بردى فلذا قال يصفق بالتذكير مع أن بردى مؤنث وتعقب بان هذا المضاف بعيد جدا لا قريب والأصل عدم الحذف والمعنى مع تركه أحسن منه مع وجوده الثالث أنه على حذف الموصوف أي شيء قريب كما قال الشاعر : قامت تبكيه على قبره من لي من بعدك يا عامر تركتني في الدار ذا غربة قد ذل من ليس له ناصر أي شخصا ذا غربة وعلى ذلك يخرج قول سيبويه قولهم : امرأة حائض أي شخص ذو حيض وقول الشاعر أيضا : فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق وتعقب بأنه أشد ضعفا من سابقه لأن تذكير صفة المؤنث باعتبار اجرائها على موصوف مذكر محذوف شاذ ينزه كلام الله تعالى عنه على أنه لا فصاحة في قولك رحمة الله شيء قريب ولا لطافة بل هو عند ذي الذوق كلام مستهجن ونحو حائض من الصفات المختصة لا يحتاج إلى العلامة لأنها لدفع اللبس ولا لبس مع الاختصاص وسيبويه وإن كان جوادا في هذا المضمار إلا أن الجواد قد يكبووكل أحد يؤخذ من قوله ويترك ألا تراه كيف جوز في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه باضافة حسن الى الوجه وإضافة الوجه إلى ضمير الرجل وخالفه في ذلك جميع البصريين والكوفيين لأن قد أضاف الشيء إلى نفسه وقد علمت أيضا أن الأصل عدم الحذف الرابع أن العرب تعطي المضاف حكم المضاف اليه في التذكير والتأنيث إذا صح الاستغناء عنه وهو أمر مشهور فالرحمة لاضافتها إلى الاسم الجليل قد اكتسبت ما صحح الاخبار عنها بالمذكر وتعقبه أبو علي الفارسي في تعاليقه على الكتاب بأن هذا التقدير والتأويل في القرآن
(8/141)

بعيدبعيد فاسد وإنما يجوز هذا في ضرورة الشعر وقال الروذراوري : أن اكتساب التأنيث في المؤنث قد صح بكلام من يوثق به وأما العكس فيحتاج إلى الشواهد ومن ادعى الجواز فعليه البيان الخامس ان فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث كرجل جريح وأمرأة جريح وتعقب بأنه خطأ فاحش لأن فعيلا هنا بمعنى فاعل واعترض أيضا بأن هذا لاينقاس خصوصا من غير الثاني السادس أن فعيلا بمعنى فاعل قد يشبه بفعيل بمعنى مفعول فيمنع من التاء في المؤنث كما قد يشبهون فعيلا بمعنى مفعول بفعيل بمعنى فاعل فيلحقونه التاء فالأول كقوله تعالى : من يحيي العظام وهي رميم ومنه الآية الكريمة والثاني كقولهم خصلة ذميمة وصفة حميدة حملا على قولهم : قبيحة وجميلة ولم يتعقب هذا بشيء وتعقبه الروذراوري بانه مجرد دعوى لا دليل عليه وإن قاله النحويون ويرد عليه أن أحد الفعلين مشتق من لازم والآخر من متعد فلو أجري على أحدهما حكم الآخر لبطل الفرق بين المتعدي واللازم إن كان على وجه العموم وإن كان على وجه الخصوص فاين الدليل عليه وفيه نظر السابع أن العرب قد تخبر عن المضاف اليه الاعناق لا عن الأعناق ألا ترى أنك إذا قلت : الأعناق خاضعون لايجوز لأن الجمع المذكر السالم إنما يكون من صفات العقلاء فلا يقال أيد طويلون ولا كلاب نابحون وتعقب بانه لعل هذا راجع إلى القول بالزيادة وقد علمت ما فيه وقد قيل : إن المراد بالاعناق الرؤساء والمعظمون وقيل : الجماعة كما يقال : جاء زيد في عنق من الناس أي في جماعة وقال الروذراوري : إنه لوساغ الاعراض عن المضاف والحكم على المضاف اليه لساغ أن يقال : كان صاحب الدرع سابغة ومالك الدار متسعة وليس فليس الثامن أن الرحمة والرحم متقاربان لفظا وهو واضح ومعنى بدليل النقل عن أئمة اللغة فاعطى أحدهما حكم الآخر وتعق بأنه ليس بشيء لأن الوعظ والموعظة تتقارب أيضا فينبغي أن يجيز هذا القائل أن يقال : موعظة نافع وعظة حسن وكذلك الذكر والذكرى فينبغي أن يقال : ذكرى نافع كما يقال : ذكر نافع التاسع أن فعيلا هنا بمعنى النسب فقريب معناه ذات قرب كما يقول الخليل في حائض : إنه بمعنى ذات حيض وتعقب بأنه باطل لأن اشتمال الصفات على معنى النسب مقصور على أوزان خاصة وهي فعال وفعل وفاعل
العاشر ما قاله الروزراوري أن فعيلا مطلقا يشترك فيه المؤنث والمذكر وتعقب بأنه من أفسد ما قيل لأنه خلاف الواقع في كلام العرب فانهم يقولون : امرأة ظريفة وعليمة وحليمة ورحيمة ولا يجوز التذكير في شيء من ذلك ولهذا قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى : وما كانت أمك بغيا أن بغيا فعول والأصل بغوى ثم قلبت الواو ياء والضمة كسرة وأدغمت الياء في الياء وأما قوله : فتور القيام قطيع الكلام تفتر عن در عروب حصر فالجواب عنه في أوجه : أحدها أنه نادر الثاني أن أصله قطيعة ثم حذف التاء للاضافة كقوله تعالى : وإقام الصلاة والاضافة مجوزة لحذف التاء كما توجب حذف النون والتنوين وقد نص على ذلك في غير واحد من القراء الثالث أنه إنما جاز ذلك لمناسبة فتور لأنه فعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث الحادي عشر أنهم يقولون في قرب النسب : قريب وإن أجري على مؤنث نحو فلانةقريب مني ويفرقون بينه وبين قرب المسافة وتعقب بانه مبني على أن يقال في القرب النسبي : فلان قرابتي وقد نص جمع على
(8/142)

أن في ذلك خطأ وأن الصواب أن يقال فلان ذو قرابتي كما قال : يبكي الغريب عليه ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور الثاني عشر من تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى واختلف القائلون بذلك فمنهم من يقدر إن إحسان الله قريب ومنهم من يقدر لطف الله قريب ومن ذلك قوله : أرى رجلا منهم أسيفا كأنما يضم إلى كشيحة كفا مخضبا فأول الكف على معنى العضو وتعقب بانه باطل لأن ذلك إنما يقع في الشعر وقد تقدم أنه لايقال موعظة حسن مع أن الموعظة بمنزلة الوعظ في المعنى ويقاربه في اللفظ أيضا وأما البيت فنص النحاة على أنه ضرورة وما هذه سبيله لا يخرج عليه كلام الله سبحانه وتعالى على أن بعضهم قال : إن الكف قد يذكر
الثالث عشر : أن المراد بالرحمة هنا المطر ونقل ذلك عن الأخفش والمطر مذكر وأيد بأن الرحمة فيما بعد بمعنى المطر واعترض عليه من أوجه أحدهما أنه لو كانت الرحمة الثانية هي الرحمة الأولى لم تذكر ظاهرة على ما هو الظأهر إذ الموضع للضمير ثانيها أنه إدا أمكن الحمل على العام لا يعدل إلى الخاص ولا ضرورة هنا إلى الحمل كما لايخفى ثالثها أن الرحمة التي هي المطر لاتختص بالمحسنين لأن الله سبحانه يرزق الطائع والعاصي وإنما المختص في عرف الشرع هو الرحمة التي هي الغفران والتجاوز والثواب
والجواب عن هذا بأنه كما جاز تخصيص الخطاب بالرحمة بالمعنى الشرعي بالمحسنين على سبيل الترغيب كذلك يجوز تخصيص المطر الذي هو سبب الأرزاق بهم ترغيبا في الاحسان ليس بشيء عندي رابعها أنك لو قلت : مطر الله قريب لوجدت هذه الاضافة مما تمجها الاسماع وتنبو عنها الطباع بخلاف إن رحمت الله فدل على أنه ليس بمنزلته في المعنى
وأجيب عنه بأن مجموع رحمة الله استعمل مرادا به المطر وبأن الاضافة في مطر الله إنما لم تحسن للعلم بالاختصاص ولا كذلك رحمة الله تعالى وهذا كما يحسن أن يقال : كلام الله تعالى ولا يحسن أن يقال : قرآن الله سبحانه والانصاف أن هذا القول ليس بشيء كما لا يخفى على ذي ذهن طري وقال ابن هشام : لابعد في أن يقال : إن التذكير في الآية الكريمة لمجموع أمور من الأمور المذكورة واختار أنه لما كان المضاف يكتسب من المضاف اليه التذكير وكانت الرحمة مقاربة للرحم في اللفظ وكان قريب على صيغة فعيل وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل بمعنى مفعول جاء التذكير وادعى أنه لا يناقض ما قدمه من الاعتراضات لأنه لا يلزم من انتفاء اعتبار شيء من هذه الأمور مستقلا انتفاء اعتباره مع غيره أه ولا يخلو عن حسن سوى أنه إذا أخذ في المجموع كون الرحمة بمعنى المطر يفسد الزرع وقد جرى في هذه الآية بحث طويل بين ابن مالك والروذراوري وفي كلام كل حق وصواب وفي نقل ذلك ما يورث السآمة وأجاب الجوهري بأن الرحمة مصدر والمصادر لا تجمع ولا تؤنث وهو كما ترى
وقيل : التذكير لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ولا يخفى بعده لأن المتضمن لضمير المؤنث ولو كان غير حقيقي لم يحسن تذكيره على المشهور وقيل : إن فعيلا هنا محمول على فعيل الوارد في المصادر فانه للمؤنث والمذكر كفعيل بمعنى مفعول كالنقيض بالنون والقاف والضاد المعجمة وهو صوت الرحل ونحوه والضغيب بالضاد والغين المعجمة والياء المثناة من تحت والباء الموحدة صوت الأرنب وأنت تعلم أن حمله على فعيل
(8/143)

بمعنى مفعول اولى من هذا الحمل وهو الذي أميل اليه نعم ربما يدعى أن في ذلك إشارة ما إلى مزيد قرب الرحمة لكنه بعيد جدا وقد لايسلم والذي اختاره أن فعيلا هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول كما زعم الكرماني لما مرت الاشارة اليه ولأن الرحمة صفة ذات عند جمع وصفات الذات سواء قلنا بعنيتها أو بغيريتها أو بأنها لا و لا لايحسن الاخبار عنها بأنها مقربة وذلك على القولين الأخيرين ظاهر وعلى الأول أظهر والقول بأن في ذلك ترغيبا في الاحسان حيث أشير إلى أنه كالفاعل وقد أثر فيما لا يقبل التأثر مما لا يكاد يسلم وأنه قد حمل على فعيل بمعنى مفعول كما حمل على ذلك في خصوصية قريب في قول جرير : أتنفعك الحياة وأم عمرو قريب لاتزور ولا تزار وإنما لم يقل قريبة على الأصل للاشارة لارباب الأذهان السليمة إلى أنها قريبة جدا من المحسنين كما لا يخفى على المتأمل واختار بعضهم تفسير الرحمة هنا بالاحسان لمكان المحسنين وهل جزاء الاحسان إلا الاحسان ولعله يعتبر شاملا للاحسان الدنيوي والأخروي ووجه القرب على ما قيل وجود الاهليةبحسب الحكمة مع ارتفاع الموانع بالكلية وفسرها ابن جبير بالثواب والمتبادر منه الاحسان الأخروي
ووجه القرب عليه بأن الانسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا واقبال على الآخرة وإذا كان كذلك كان الموت أقرب اليه من الحياة فلا يكون بين المحسن والثواب في اةخرة إلا الموت وكل آت قريب
وجعل الزمخشري الآية من قبيل قوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب الخ أي علق فيها الرحمة باحسان الأعمال كما علق الغفران فيه بالتوبة والايمان والعمل الصالح فكأن من تاب وآمن الخ تفسير للمحسنين وهو إشارة إلى ما يزعمه قومه من أن الآية تدل على أن صاحب الكبيرة لا يخلص من النار لأنه ليس من المحسنين والتخليص من النار بعد الدخول فيها رحمة
وأجيب بأن صاحب الكبيرة مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ومن يكون كذلك فهو محسن بدليل أن الصبي إدا بلغ ضحى وآمن ومات قبل الظهر فقد أجتمعت الأمة على أنه داخل تحت قوله تعالى : الذين أحسنوا الحسنى فهو محسن بمجرد الايمان والقول بأن المحسنين هم الذي أتوا بجميع أنواع الاحسان على ما يؤذن به الآية الممثل بها أول البحث أول المسألة وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه فسر المحسنين بالمؤمنين
وعن بعضهم تفسيره بالداعين خوفا وطمعا لقرينة السباق على ذلك ونظر فيه وهو الذي يرسل الرياح عطف على الجملة السابقة أو على حديث خلق السموات والارض وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح على الوحدة وهو متحمل لمعنى الجنسية فيطلق على الكثير وخبر اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا مخرج على قراءة الأكثرين بشرا بضم الموحدة وسكون الشين مخفف بشرا بضمتين جمع بشير كنذر ونذير أي مبشرات وهي قراءة عاصم وروي عنه أيضا بشرا على الاصل وقريء بفتح الباء على أنه مصدر بشره بالتخفيف بمعنى بشره المشدد والمراد باشرات أو للبشارة وقريء بشرى كحبلى وهو مصدر أيضا من البشارة وقرأ أهل المدينة والبصرة نشرا بضم النون والشين جمع نشور بفتح النون بمعنى ناشر وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه كصبور وصبر ولم يجعل جمع ناشر كبازل وبزل لأن جمع فاعل على فعل شاذ
(8/144)

واختلف في معنى ناشر ففي الحواشي الشهابية قيل : هو على النسب إما إلى النشر ضد الطي وإما إلى النشور بمعنى الاحياء لأن الريح توصف بالموت والحياة كقوله : إني لأرجو أن تموت الريح فاقعد اليوم وأستريح كما يصفها المتأخرون بالعلة والمرض ومما يحكى النسيم من ذلك قول بعضهم في شدة الحر : أظن نسيم الروض مات لأنه له زمن في الروض وهو عليل وقيل : هو فاعل من نشر مطاوع أنشر الله تعالى الميت فنشر وهو ناشر كقوله : حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر قيل : ناشر بمعنى منشر أي محيي وقيل : فعول هنا بمعنى مفعول كرسول ورسل وقد جوز ذلك أبو البقاء إلا أنه نادر مفرده وجمعه وقرأ ابن عامر نشرا بضم النون وسكون الشين حيث وقع والتخفيف في فعل مطرد وقرأ حمزة والكسائي نشرا بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فان الارسال والنشر متقاربان بين يدي رحمته أي قدام رحمته وهو من المجاز كما نقل عن أبي بكر الانباري والمراد بالرحمة كما ذهب اليه غالب المفسرين المطر وسمي رحمة لما يترتب عليه بحسب جري العادة من المنافع ولا يخفى أن الرحمة في المشهور عامة فاطلاقها على ذلك إن كان من حيث خصوصه مجاز لكونه استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذ اللفظ لم يوضع لذلك الخاص بخصوصه وإن كان إطلاقها عليه لا بخصوصه بل باعتبار عمومه وكونه فردا من افراد ذلك العام فهو حقيقية لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له على ما بين في شرح التلخيص وغيره
وادعى الشهاب اثبات بعض أهل اللغة كون المطر من معاني الرحمة وقول ابن هشام في رسالته التي ألفها في بيان وجه تذكير قريب المار عن قريب إنا لا نجد أهل اللغة حيث يتكلمون على الرحمة يقولون : ومن معانيها المطر فلو كانت موضوعة له لذكروه قصارى ما فيه عدم الوجدان وهو لا يستدعي عدم الوجود ومما اشتهر أن المثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والقام ظاهر في إرادة هذا المعنى وبيان كون الرياح مرسلة أمام ذلك ما قيل : إن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه ولاجنوب يدره والدبور تفرقه وهذه أحد أنواع الريح المشهورة عند العرب وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمانية أربع منها عذاب وهي القاصف والعاصف والصرر والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات
والريح من أعظم منن الله تعالى على عباده وعن كعب الاحبار لو حبس الله تعالى الريح عن عباده ثلاث أيام لأنتن أكثر أهل الأرض وفي بعض الآثار أن الله تعالى خلق العالم وملأه هواء ولو أمسك الهواء ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض وذكر غير واحد من العلماء أنه يكره سب الريح فقد روى الشافعي عن أبي هريرة قال : أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر رضي الله تعالى عنه حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله : ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا اليه شيئا وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت مؤخر الناس فقلت : يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فاذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله
(8/145)

تعالىتعالى من خيرها واستعيذوا بالله سبحانه من شرها ولا منافاة بين الآية وهذا الخبر إذ ليس فيها أنه سبحانه لايرسلها إلا بين يدي الرحمة ولئن سلم فهو خارج مجرى الغالب فان العذاب بالريح نادر وقيل : ما في الخبر إنما هو الايتاء بالرحمة والايتاء بالعذاب لا الارسال بين يدي كل حتى إذا أقلت غاية لقوله سبحانه يرسل والاقلال كما في جمع البيان حمل الشيء بأسره واشتقاقه من القلة وحقيقة أقله كما قال بعض المحققين جعله قليلا أو وجده قليلا والمراد ظنه كذلك كأكذبه إذا جهله كاذبا في زعمه ثم استعمل بمعنى حمله لأن الحامل يستقل ما يحمله أي يعده قليلا ومن ذلك قولهم : جهد المقل اي الحامل سحابا أي غيما سمي بذلك لانسحابه في الهواء وهو اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع
وأهل اللغة كالجوهري وغيره تسميه جمعا فلذا روعي فيه الوجهان في وصفه وضميره وجاء في الجمع سحب وسحائب ثقالا من الثقل كعنب ضد الخفة يقال : ثقل ككرم ثقلا وثقالة فهو ثقيل وثقل السحاب بما فيه من الماء سقناه لبلد ميت أي لأجله ومنفعته أو لاحيائه أو لسقيه كما قيل
وفي البحر أن اللام للتبليغ كما في قلت لك وفرق بين سقت لك مالا وسقت لأجلك مالا بأن الأول معناه أوصلت لك ذلك وأبلغتكه والثاني لا يلزم منه وصوله اليه والبلد كما قال الليث كل موضع في الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منه بلدة والجمع بلاد وتطلق البلدة على المفازة ومنه قول الاعشى : وبلدة مثل ظهر الترس موحشة للجن بالليل في حافاتها زجل فأنزلنا به الماء أي بالبلد أو السحاب كما قال الزجاج وابن الانباري أو بالسوق أو الرياح كما قيل والتذكير بتأويل المذكور وكذلك قوله تعالى فأخرجنا به ويحتمل أن يعود الضمير الى الماء وهو الظاهر لقربه لفظا ومعنى ومطابقة النظائر وانفكاك الضمائر لابأس به إذا قام الدليل عليه وحسن الملاءمة
وإذا كان للبلد فالباء للظرفية في الثاني وللالصاق في الاول لأن الانزال ليس في البلد بل المنزل وجوز الظرفية أيضا كما في رميت الصيد في الحرم على ما علمت فيما مر وإذا كان لغيره فهي للسببية وتشمل القريبة والبعيدة
من كل الثمرات أي من كل انواعها لأن الاستغراق غير مراد ولا واقع وهذا أبلغ في اظهار القدرة المارد وقيل : ان الاستغراق عرفي والظأهر أن المراد للتكثير وجوز بعضهم أن تكون من للتبعيض وأن تكون لتبيين الجنس كذلك نخرج الموتى اشارة إلى اخراج الثمرات أو إلى احياء البلد الميت أي كما نحييه باحداث القوى النامية فيه وتطريتها بانواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الأرض ونحييها برد النفوس إلى مواد ابدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس كذا قالوا وهو اشارة كما قيل إلى طريقي القائلين بالمعاد الجسماني وهما ايجاد البدن بعد عدمه ثم احياؤه وضم بعض اجزائه الى بعض على النمط السابق بعد تفرقها ثم احياؤه
واستظر الأول بأن المتبادر من الآية كون التشبيه بين الاخراجين من كتم العدم والثاني يحتاج الى تمحل تقدير الاحياء واعتبار جمع الاجزاء مع أنه غير معتبر في جانب المشبه به وجوز أن يرجع ما في الشق الثاني من الايحاء برد النفوس الخ الى الأول وأنت تعلم أنه لا مانع من الاخراج من كتم العدم وادلة
(8/146)

استحالة ذلك مما لاتقوم على ساق وقدم إلا أن الأدلة النقلية على كل من الطريقين متجاذبة وإذا صح القول بالمعاد الجسماني فلا بأس بالقول باي كان منهما وكون اخراج الثمرات من كتم العدم قد لا يسلم فان لها أصلا في الجملة على أن اخراج الموتى عند القائلين بالطريق الأول اعادة وليس اخراج الثمرات كذلك إد لم يكن لها وجود قبل نعم كون الأظهر ان التشبيه بين الاخراجين مما لا مرية فه وفي الخازن اختلفوا في وجه التشبيه فقيل : إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة انزال المطر كذلك يحيي الموتى بواسطة انزال المطر أيضا فقد روي عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الناس إذا ماتوا في النفخة الاولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء وفي رواية اربعين يوما فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم تنفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فاذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون من قبورهم ويجدون طعم النوم في رؤسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون ياويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون
وأخرج غير واحد عن مجاهد أنه إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تشقق عنهم الأرض ثم يرسل سبحانه الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها فكذلك يحيي الله تعالى الموتى بالمطر كأحيائه الارض
وقيل : إنما وقع التشبيه بأصل الاحياء من غير اعتبار كيفية فيجب الايمان به ولا يلزمنا البحث عن الكيفية ويفعل الله سبحانه ما يشاء لعلكم تذكرون
75
- فتعلمون أن من قدر على ذلك فهو قادر على هذا من غير شبهة وألاصل تتذكرون فطحت إحدى التاءين والخطاب قيل : للنظار مطلقا وقيل : لمنكري البعث والبلد الطيب أي الارض الكريمة التربة التي لا سبخة ولا حرة واستعمال البلد بمعنى القرية عرف طار ومن قبيل ذلك اطلاقه على مكة المكرمة 0 يخرج نباته باذن ربه بمشيئته وتيسيره وهو في موضع الحال والمراد بذلك أن يكون حسنا وافيا غزير النفع لكونه واقعا في مقابلة قوله : والذي خبث من البلاد كالسبخة والحرة لايخرج إلا نكدا أي قليلا لا خير فيه ومن ذلك قوله : لاتنجز الوعد ان وعدت وان اعطيت أعطيت تافها نكدا ونصبه على الحال أو على أنه صفة مصدر محذوف واصل الكلام لا يخرج نباته فحذف المضاف اليه وأقيم المضاف مقامه فصار مرفوعا مستترا وجوز أن يكون الأصل ونبات الذي خبث والتعبير أولا بالطيب وثانيا بالذي خبث دون الخبيث للايذان بأن اصل الأرض ان تكون طيبة منبتة وخلافه طار عارض وقريء يخرج نباته ببناء يخرج لما لم يسم فاعله ورفع نبات على النيابة عن الفاعل ويخرج نباته ببناء يخرج للفاعل من باب الاخراج ونصب نباته على المفعولية والفاعل ضمير البلد وقيل ضمير الله تعالى أو الماء وكذا قريء في يخرج المنفي ونصب نكدا حينئذ على المفعولية وقرأ أبو جعفر نكدا بفتحتين على زنة المصدر وهو نصب على الحال أو على المصدرية أي ذا نكدا أو خروجا نكدا وقرأ نكدا بالاسكان للتخفيف كنزه في قوله :
(8/147)

فقال لي قول ذي رأي ومقدرة مجرب عاقل نزه عن الريب كذلك مثل ذلك التصريف البديع نصرف الأيات أي نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها واصل التصريف تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح لقوم يشكرون
85
- نعم الله تعالى ومنها تصريف الآيات وشكر ذلك التفكر فيها والاعتبار بها وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك
وقال الطيبي : ذكر القوم يشكرون بعد لعلكم تذكرون من باب الترقي لأن من تذكر آلاء الله تعالى عرف حق النعمة فشكر وهذا كما قال غير واحد مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك
أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن قوله سبحانه وتعالى : والبلد الطيب الخ مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين يقول : هو طيب وعمله طيب والذي خبث الخ مثل للكافر يقول : هو خبيث وعمله خبيث
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم عليه السلام وذريته كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة فمنهم من آمن بالله تعالى وكتابه فطاب ومنهم من كفر بالله تعالى وكتابه فخبث
أخرج أحمد والشيخان والنسائي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادت أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به وايثار خصوص التمثيل بالأرض الطيبة والخبيثة استطراد عقيب ذكر المطر وانزاله بالبلد وموازنة بين الرحمتين كما في الكشف ولقربه من الاعتراض جيء بالواو في قوله سبحانه وتعالى والبلد الطيب وفيه اشارة الى معنى ما ورد في صحيح مسلم عن عياض المجاشعي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في خطبته عن الله عز و جل : إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ووجه الاشارة قد مرت الاشارة اليه ثم أنه سبحانه وتعالى عقب ذلك بما يحققه ويقرره من قصص الأمم الخالية والقرون الماضية وفي ذلك أيضا تسلية لرسوله عليه الصلاة و السلام فقال جل شأنه : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه وهو جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا الخ واطرد استعمال هذه اللام مع قد في الماضي على ما قال الزمخشري وقل الاكتفاء بها وحدها نحو قوله : حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا فما أن من حديث ولا صالي والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك ادخال قد ونقل عن النحاة أنهم قالوا : إذا كان جواب القسم ماضيا مثبتا متصرفا فاما أن يكون قريبا من الحال فيؤتى بقد وإلا أثبت
(8/148)

باللام وحدها فجوزوا الوجهين باعتبارين ولم يؤت هنا بعاطف وأتي به في هود والمؤمنين على ما قال الكرماني لتقدم ذكر نوح صريحا في هود وضمنا في المؤمنين حيث ذكر فيها قبل وعليها وعلى الفلك تحملون وهو عليه السلام أول من صنعها بخلاف ما هنا ونوح بن لمك بفتحتين وقيل : بفتح فسكون وقيل : ملكان بميم مفتوحة ولام ساكنة ونو آخره وقيل : لامك كهاجر بن متوشلخ بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو وسكون الشين المعجمة على وزن المفعول كما ضبطه غير واحد وقيل بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشددة وسكون الواو ولام مفتوحة وخاء معجمة ابن أخنوخ بهمزة مفتوحة أوله وخاء معجمة ساكنة ونون مضمومة وواو ساكنة وخاء أيضا ومعناه في تلك اللغة على ما قيل القراء وقيل : خنوخ باسقاط الهمزة وهو إدريس عليه السلام أخرج ابن اسحاق وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : بعث نوح عليه السلام في الألف الثاني وإن آدم عليه السلام لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الالف الأول وأخرجا عن مقاتل وجويبر أن آدم عليه السلام حين كبر ودق عظمه قال : يارب إلى متى أكد واسعى قال يا آدم حتى يولد لك ولد مختون فولد له نوح بعد عشرة أبطن وهو يومئذ ابن الف سنة إلا ستين عاما وبعث على ماروي عن ابن عباس على رأس اربعمائة سنة وقال مقاتل : وهو ابن مائة سنة وقيل : وهو ابن خمسين سنة وقيل : وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين فكان عمره الفا وأربعمائة وخمسين سنة
وبعث كما روى ابن أبي حاتم وابن عساكر عن قتادة من الجزيرة وهو أول نبي عذب الله تعالى قومه وقد لقي منهم مالم يلقه نبي من الأنبياء عليهم السلام
واختلف في عموم بعثته عليه السلام ابتداء مع الاتفاق على عمومها انتهاء حيث لم يبق بعد الطوفان سوى من كان معه في السفينة ولا يقدح القول بالعموم في كون ذلك من خواص نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأن ماهو من خواصه عليه الصلاة و السلام عموم البعثة لكافة الثقلين الجن والانس وذلك مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره بل وكذا الملائكة كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه وردوا على من خالف ذلك وصريح آية ليكون للعالمين نذيرا إد العالم ما سوى الله تعالى وخبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة يؤيد ذلك بل قال البارزي : إنه صلى الله عليه و سلم أرسل حتى للجمادات بعد جعلها مدركة
وفائدة الارسال للمعصوم وغير المكلف طلب اذعانهما لشرفه ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفا على سائر المرسلين ولا كذلك بعثة نوح عليه السلام والفرق مثل الصبح ظاهر وهو كما قال القاموس اسم أعجمي صرف لخفته وجاء ابن عباس : وعكرمة وجويبر ومقاتل أنه عليه السلام إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه واختلف في سبب ذلك فقيل : هو دعوته على قومه بالهلاك وقيل مراجعته ربه في شأن ابنه كنعان وقيل : إنه مر بكلب مجذوم فقال له اخسأ يا قبيح فأوحى الله اليه أعبتني أم عبت الكلب وقيل : هو إصرار قومه على الكفر فكان كلما دعاهم وأعرضوا بكى وناح عليهم قيل : وكان اسمه قبل السكن لسكون الناس اليه بعد آدم عليه السلام وقيل : عبد الجبار وأنا لا أعول على شيء من هذه الأخبار والمعول عليه عندي ما هو الظاهر من أنه اسم وضع له حين ولد وليس مشتقا من النياحة وأنه كما قال
(8/149)

صاحبصاحب القاموس فقال يا قوم اعبدوا الله أي وحده وترك التقييد به للايذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة مع الاشراك فكلا عبادة ولدلالة قوله سبحانه وتعالى : مالكم من إله أي مستحق للعبادة غيره عليه وهو استئناف مسوق لتعليل العبادة المذكورة أو الأمر بها و من صلة و غير بالرفع وهي قراءة الجمهور صفة اله أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية
وقرأ الكسائي بالجر باعتبار لفظه وقريء شاذا بالنصب على الاستثناء وحكم غير كما في المفصل حكم الاسم الواقع بعد إلا وهو المشهور أي مالكم إله إلا إياه كقولك : ما في الدار أحد إلا زيدا وغير زيد و إله أن جعل مبتدأ فلكم خبره أو خبره محذوف و لكم للتخصيص والتبيين أي مالكم في الوجود أو في العالم اله غير الله تعالى اني أخاف عليكم إن لم تعبدوا حسبما أمرت به وتقدير إن لم تؤمنوا لما أن عبادته سبحانه وتعالى تستلزم الايمان به وهو أهم أنواعها وإنما قال عليه السلام : أخاف ولم يقطع حنوا عليهم واستجلا بالهم بلطف
عذاب يوم عظيم
95
- هو يوم القيامة أو يوم الطوفان لأنه أعلم بوقوعه أن لم يمتثلوا والجملة كما قال شيخ الاسلام تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها اثر تعليلها ببيان الداعي اليها ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الانذار قال الملأ من قومه استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قوله عليه السلام ونصحه لقومه كأنه قيل : فماذا قالوا بعد ما قيل لهم ذلك فقيل : قال الخ والملأ على ما قال الفراء الجماعة من الرجال خاصة وفسره غير واحد بالاشراف الذين يملأون القلوب بجلالهم والابصار بجمالهم والمجالس بأتباعهم وقيل : سموا ملأ لأنهم مليون قادرون على مايراد منهم من كفاية الأمور انا لنراك في ضلال أي ذهاب عن طريق الحق والرؤية قلبية ومفعولاها الضمير والظرف وقيل : بصرية فيكون الظرف في موضع الحال مبين
6
- اي بين كونه ضلالا قال استئناف على طرز سابقه : يا قوم ناداهم باضافتهم اليه استمالة لهم نحو الحق ليس بي ضلالة نفي للضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه فان التاء للمرة لأن مقام المبالغة في الجواب لقولهم الاحمق يقتضي ذلك والوحدة المستفادة منه باعتبار أقل ما ينطلق فيرجع حاصل المعنى ليس بي أقل قليل من الضلال فضلا عن الضلال المبين وما يتخايل من أن نفي الماهية أبلغ فان نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون بانتفاء الوحدة إلى الكثرة مضمحل بما حقق أن الوحدة ليست صفة مقيدة بل اللفظ موضوع للجزء الأقل وهو الواحد المتحقق مع الكثرة ودونها على أن ملاحظة قيد الوحدة في العام في سياق النفي مدفوع وكفاك لارجل شاهدا فانه موضوع للواحد من الجنس وبذلك فرق بينه وبين أسامة فاذا وقع عاما لا يلحظ ذلك ولو سلم جواز أن يقال ليس به ضلالة واحدة بل ضلالات متنوعة ابتداء لكن لايجوز في مقام المقابلة كما نحن فيه قاله في الكشف وبه يندفع ما أورد على الكشاف في هذا المقام
وفي المثل السائر الاسماء المفردة الواقعة على الجنس التي تكون بينها وبين احداها تاء التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الاثبات كان استعمالها أبلغ كما في هذه الآية ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك : ضل يضل ضلالا وضلالة كان القولان سواء لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن
(8/150)

المصدر بل عنالمرة والنفي كما علمت وإنما بالغ عليه السلام في النفي لمبالغتهم في الاثابت حيث جعلوه وحاشاه مستقرا في الضلال الواضح كونه ضلالا وقوله سبحانه وتعالى ولكني رسول من رب العالمين
16
- استدراك على ما قبله رافع لما يتوهم منه وذلك على ما قيل أن القوم لما أثبتوا له الضلال أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة فوقع الاخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكا لذلك وقيل : هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية فان رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة كأنه قيل : ليس بي شيء من الضلالة لكني في الغاية القاصية من الهداية وحاصل ذلك على ما قرره الطيبي أن لكن حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفيا واثباتا والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى كما في قولك جاءني زيد لكن عمرا غاب وفائدة العدول عن الظاهر ارادة المبالغة في اثبات الهداية على أقصى ما يمكن كما نفى الضلالة كذلك وسلك طريق الاطناب لأن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله ليس بي ضلالة كان كافيا فيه فيكون من الاسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد واخلاص العبادة لله تعالى فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما أعترضوا عليه من قولهم انا لنراك في ضلال مبين فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف يعني دعوا نسبة الضلال إلي وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين ألا ترى أن صالحا عليه السلام لما لم يعترضوا عليه عقب باثبات الرسالة اثبات التوحيد ففي هذه الآية خمسة من انواع البديع فاذا اقتضى المقام هذا الاطناب كان الاقتصار على العبارة الموجزة تقصيرا انتهى
ولا يخفى أن هذا الاستدراك غير الاستدراك بالمعنى المشهور وقد ذكر غير واحد من علماء العربية أن الاستدراك في لكن أن تنسب لما بعدها حكما مخالفا لما قبلها سواء تغايرا اثباتا ونفيا أولا وفسره صاحب البسيط وجماعة برفع ما توهم ثبوته وتمام الكلام فيه في المغني واعتبار اللازم لتحصيل الاستدراك بالمعنى الثاني مما لايكاد يقبل لأنه لا يذهب وهم واهم من نفي الضلالة عن نفسه فربما يتوهم المخاطب انتفاء الرسالة أيضا كما انتفى الضلالة فاستدركه بلكن كما في قولك زيد ليس بفقيه لكنه طبيب وأنت تعلم أن هذا ان لم يرجع إلى ما قرر أولا فليس بشيء وقيل : إنه إذا انتفى أحد المتقابلين يسبق الوهم إلى انتفاء المقابل الآخر لا إلى انتفاء الأمور التي لا تعلق لها به ولهذا يؤول ما وقع في معرض الاستدراك بما يقابل الضلال مثلا يقال زيد ليس بقائم لكنه قاعد ولا يقال لكنه شارب الا بعد التأويل بان الشارب يكون قاعدا وقال بعض فضلاء الروم النظر الصائب في هذا الاستدراك أن يكون مثل قوله : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وقوله هو البدر إلا أنه البحر زاخرا سوى أنه الضرغام لكنه الوبل كأنه قيل ليس بي ضلالة وعيب سوى أني رسول من رب العالمين وأنت تعلم أن هذا النوع يقال له عندهم تأكيد المدح بما يشبه الذم وهو قسمان ما يستثنى فيه من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك
(8/151)

الشيء بتقدير دخولهافي صفة الذم المنفية وما يثبت فيه لشيء صفة مدح ويتعقب ذلك باداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك والظاهر أن ما في الآية من القسم الأول إلا أنه غير غني عن التأويل فتأمل
و من فيها لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة ما يفيده التنوين من الفخامة الذاتية كأنه قيل : إني رسول كائن من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي استئناف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها وأحوالها وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون صفة أخرى لرسول على المعنى لأنه عبارة عن الضمير في إني وهذا كقول علي كرم الله تعالى وجهه حين بارز مرحبا اليهودي يوم خيبر : أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه منظره أوفيهم بالصاع كيل السندره حيث لم يقل سمته حملا له على المعنى لامن اللبس وأوجب بعضهم الحمل على الاستئناف زعما منه أن ما ذكر قبيح حتى قال المازني : لولا شهرته لرددته وتعقب ذلك الشهاب بأن ماذ : ره المازني في صلة الموصول لا في وصف النكرة فانه وارد في القرآن مثل بل أنتم قوم تجهلون وقد صرح بحسنه في كتب النحو والمعني على ما ذ : ره في الصلة أيضا مردود عند المحققين وان تبعه فيه ابن جني حق استرذل قول المتنبي : أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وفي الانتصاف أنه حسن في الاستعمال وكرم أبي الحسن أصدق شاهد على ما قال وعلى حسن كلام ابن الحسين وهذا كما قال الشهاب إدا لم يكن الضمير مؤخرا نحو الذي قرى الضيوف أنا أو كان للتشبيه نحو أنا في الشجاعة الذي قتل مرحبا
وقرأ أبو عمرو أبلغكم بتسكين الباء وتخفيف اللام من الابلاغ وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة وهو مصدر والأصل فيه أن لايجمع رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معاني ما أرسل عليه السلام به أو أنه أراد رسالته ورسالة غيرهممن قبله من الأنبياء كادريس عليه السلام وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة وشيث عليه السلام بعد بيان عمومها للعالمين للاشعار بعلة الحكم الذي هو تبليغ رسالته تعالى اليهم فان ربوبيته تعالى له من موجبات امتثاله بامره تعالى بتبليغ رسالته وأنصح لكم أي أتحرى ما فيه صلاحكم بناء على أن النصح تحري ذلك قولا أو فعلا وقيل : هو تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى هنا أبلغكم أوامر الله تعالى ونواهيه وأرغبكم في قبولها وأحذركم عقابه إن عصيتموه وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال : نصحت العسل إذا خلصته من الشمع ويقال : هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إدا خاطه شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب وقد يستعمل لخلوص المحبة للمنصوح له والتحري فيما يستدعيه حقه وعلى ذلك حمل ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الدين النصيحة قلنا : لمن يا رسول الله قال : لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ويقال : نصحته ونصحت له كما يقال شكرته وشكرت له قيل : وجيء باللام هنا ليدل الكلام على أن الغرض ليس غير النصح وليس النصح لغيرهم بمعنى أن نفعه يعود عليهم لا عليه عليه السلام كقوله : ما سألتكم عليه من أجر وهذا مبني على أن اللام للاختصاص لازائدة وظاهر كلام البعض يشعر بانها مع ذلك زائدة وفيه خفاء
(8/152)

وصيغةوصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصحه عليه السلام لهم كما يفصح عنه قوله : رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا وقوله تعالى واعلم من الله مالا تعلمون
26
- عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه السلام أي أعلم من قبله تعالى بالوحي أشياء لاعلم لكم بها من الأمور الآتية فمن لابتداء الغاية مجازا أو أعلم من شؤونه عز و جل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على من لم يؤمن به ويصدق برسله ما لاتعلمونه فمن إما للتبعيض أو بيانية لما ولابد في الوجهين من تقدير المضاف قيل : كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين غافلين لايعلمون ما علمه نوح عليه السلام فهم أول قوم عذبوا على كفرهم أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم رد لما هو منشأ لقولهم : إنا لنراك في ضلال مبين والاستفهام للانكار أي لم كان ذلك ولا داعي له والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ويقدر عند الزمخشري وأتباعه بين الهمزة وواو العطف كأنه قيل : استبعدتم وعجبتم ومذهب سيبويه والجمهور أن الهمزة من جملة أجزاء المعطوف إلا أنها قدمت على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير وضعف قول الأولين بما فيه من التكلف لدعوى حذف الجملة فان قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال : إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه أقل لفظا وفيه تنبيه على أصالة شيء في شيء وبأنه غير مطرد في نحو أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وتحقيقه في محله وأن جاءكم بتقدير بأن لأن الفعل السابق يتعدى بها والمراد بالذكر ما أرسل به كما قيل للقرآن ذكر ويفسر بالموعظة ومن الابتداء والجار والمجرور متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة لذكر أي ذكر كائن من مالك أموركم ومربيكم
على رجل منكم أي من جملتكم تعرفون مولده ومنشأه أو من جنسكم فمن تبعيضية أو بيانية كما قيل وعلى متعلقة بجاء بتقدير مضاف أي على يد أو لسان رجل منكم أي بواسطته وقيل : على بمعنى مع فلا حاجة إلى التقدير وقيل : تعلقه به لأن معناه أنزل كما أشير اليه كلام أبي البقاء أو لأنه ضمن معناه وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من ذكر أي نازلا على رجل منكم لينذركم علة للمجيء أي ليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصي ولتتقوا عطف على لينذركم وكذا قوله تعالى : ولعلكم ترحمون
36
- على ما هو الظأهر فالمجيء معلل بثلاثة أشياء وليس من توارد العلل على معلول واحد الممنوع وبينها ترتب في نفس الأمر فان الانذار سبب للتقوى والتقوى سبب لتعلق الرحمة بهم وليس في الكلام دلالة على سببية كل من الثلاثة لما بعده ولو أريدت السببية لجيء بالفاء وبعضهم اعتبر عطف لتتقوا على لينذركم ولعلكم ترحمون على لتتقوا مع ملاحظة الترتب أي لتتقوا بسبب الانذار ولعلكم ترحمون بسبب التقوى والتأمل
وجيء بحرف الترجي على عادة العظماء في وعدهم أو للتنبيه على عزة المطلب وأن الرحمة منوطة بفضل الله تعالى فلا اعتماد إلا عليه فكذبوه أي استمروا على تكذيبه وأصروا بعد أن قال لهم ما قال ودعاهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا فأنجيناه من الغرق والانجاء في الشعراء من قصدا عداء الله تعالى وشؤم ما أضمروه له عليه السلام والذين معه من المؤمنين وكانوا على ما قيل : أربعين رجلا وأربعين أمرأة وقيل : كانوا عشرة أبناؤه الثلاثة وستة ممن آمن به عليه السلام والفاء للسببية باعتبار الاغراق لا فصيحة وقوله سبحانه
(8/153)

وتعالى في الفلك أي السفينة متعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة أي استقروا معه في الفلك
وجوز أن يكون هو الصلة ومعه متعلق بما تعلق به وأن يكون متعلقا بانجيناه وفي ظرفية أو سببية وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من الذين نفسه أو من ضميره وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أي استمروا على تكذيبها والمراد به ما يعم أولئك الملأ وغيرهم من المكذبين المصرين وتقديم الانجاء على الاغراق للمسارعة إلى الاخبار به والايذان بسبق الرحمة على الغضب إنهم كانوا قوما عمين
46
- أي عمي القلوب عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد كما روي عن ابن عباس أو عن نزول العذاب بهم كما نقل عن مقاتل وقريء عامين والأول أبلغ لأنه صفة مشبهة فتدل على الثبوت وأصله عميين فخفف وفرق بعضهم بين عم وعام بان الاول لعمى البصيرة والثاني لعمى البصر وأنشدوا قول زهير : وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما غد عمى وقيل : هما سواء فيهما وإلى عاد متعلق بمضمر معطوف على أرسلنا فيما سبق وهو الناصب لقوله تعالى أخاهم أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم وقيل : لااضمار والمجموع معطوف على المجموع السابق والعامل الفعل المتقدم وغير الأسلوب لأجل ضمير أخاهم إد لو أتي به على سنن الأول عاد الضمير على متأخر لفظا ورتبة وعاد في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم سميت به القبيلة أو الحي فيجوز فيه الصرف وعدمه كما ذكره سيبويه وقوله تعالى : هودا بدل من أخاهم أو عطف بيان له واشتهر أنه اسم عربي وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي وأيد بما قيل إن أول العرب يعرب وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وعليه محمد بن اسحق وبعض القائلين بهذا قالوا إن نوحا ابن عم أبي عاد وقيل : ابن عوص بن ارم بن سام بن نوح وقيل : ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص ابن ارم بن سام بن نوح عليه السلام
ومعنى كونه عليه السلام أخاهم أنه منهم نسبا وهو قول الكثير من النسابين ومن لا يقول به يقول : إن المراد صاحبهم وواحد في جملتهم وهو كما يقال يا أخا العرب وحكمة كون النبي يبعث إلى القوم منهم أنهم أفهم لقوله من قول غيره وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله قال استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال لهم حين أرسل اليهم فقيل قال الخ ولم يؤت بالفاء كما أتي بها في قصة نوح لأن نوحا كان مواظبا على دعوة قومه غير مؤخر لجواب شبهتهم لحظة واحدة وهود عليه السلام لم يكن مبالغا الى هذا الحد فلذا جاء التعقيب في كلام نوح ولم يجيء هنا وذكر صاحب الفرائد في التفرقة بين القصتين أن قصة نوح عليه السلام ابتداء كلام فالسؤال غير مقتضي الحال وأما قصة هود فكانت معطوفة على قصة نوح فيمكن أن يقع في خاطر السامع أقال هود ما قال نوح أم قال غيره فكان مظنة أن يسئل ماذا قال لقومه فقيل : قال الخ
وقيل : اختير الفصل هنا لارادة استقلال كل من الجمل في معناه حيث أن كفر هؤلاء أعظم من كفر قوم نوح من حيث أنهم علموا ما فعل الله تعالى بالكافرين وأصروا وقوم نوح لم يعلموا ويدل على علمهم بذلك ما سيأتي في ضمن الآيات وفيه نظر
(8/154)

ياقوم ياقوم اعبدوا الله وحده كما يدل عليه قوله تعالى : مالكم من إله غيره فانه استئناف جار مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل لها أو للامر كأنه قيل : خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله سواه
وقريء غير بالحركات الثلاث كالذي قبل أفلا تتقون
56
- إنكار واستبعاد لعدم اتقائهم عذاب الله تعالى بعدم ما علموا ما حل بقوم نوح عليه السلام كما قال شيخ الاسلام خاطبهم بكل منهما واكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر ههنا ما ذكر هناك من قوله إن أنتم إلا مفترون وقس على ذلك حال بقية ما ذكروا مالم يذكر من أجزاء القصة بل حال نظائره في سائر القصص لاسيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة
وقال غير واحد : إنما قيل ههنا : أفلا تتقون وفيما تقدم من مخاطبة نوح عليه السلام قومه إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم لأن هؤلاء قد علموا بما حل بغيرهم من نظرائهم ولم يكن قبل واقعة قوم نوح عليه السلام واقعة وقيل : لأن هؤلاء كانوا أقرب إلى الحق وإجابة الدعوة من قوم نوح عليه السلام وهذا دون إني أخاف عليكم الخ في التحويف ويرشد إلى ذلك ما تقدم مع قوله تعالى : قال الملأ الذين كفروا من قومه حيث قيد هنا الملأ المعاند بمن كفر واظلق هناك وقد صرحوا بأن هذا الوصف لأنه لم يكن كلهم على الكفر بل من أشرافهم من آمن به عليه السلام كمرثد بن سعد الذي كان يكتم إيمانه ولا كذلك قوم نوح ومن آمن به عليه السلام منهم لم يكن من الاشراف كما هو الغالب في اتباع الرسل عليهم السلام وقيل إنه وقت مخاطبة نوح عليه السلام لقومه لم يكونوا آمنوا بخلاف قوم هود ومثله كما قال الشهاب يحتاج إلى نقل واعترض المولى بهاء الدين على تلك التفرقة بين القومين بأنه قد جاء في سورة المؤمنين وصف قوم نوح بما وصف به قوم هود هنا فكيف تتأتي هذه التفرقة وأجيب بأن الوصف هناك محمول على أنه للذم لا للتمييز وإنما لم يذم ههنا للاشارة إلى التفرقة وقال الطيبي : يمكن أن يقال : إن الوصف هنا للذم أيضا ومقتضى المقاميقتضي ذمهم لشدة عنادهم كما يدل عليه جوابهم بما حكاه الله تعالى من قولهم إنا لنراك في سفاهة أي متمكنا في فخة عقل راسخا فيها حيث فارقت دين آبائك وإنا لنظنك من الكاذبين
66
- حيث ادعيت الرسالة وهو أبلغ من كاذبا كما مرت الاشارة اليه والظن إما على ظاهره كما قال الحسن والزجاج وإما بمعنى العلم كما قيل وذلك لأنهم قالوا ما قالوا مع كونه عليه السلام معروفا بينهم بضد ذلك ولا يقتضي ذم قوم نوح عليه السلام وحيث اقتضى في سورة المؤمنين ذمهم ذمهم لأنهم قالوا كما قصه سبحانه وتعالى هناك ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائ : ة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين وقال بعضهم : إن الظاهر أن ما نقل هنا عن قوم نوح عليه السلام مقالتهم في مجلس أو مقالة بعضهم وما نقل في سورة المؤمنين مقالتهم في مجلس آخر أو مقالة آخرين فروعي في المقامين مقتضى كل من المقالتين قال عليه السلام مستعطفا لهم أو مستميلا لقلوبهم يا قوم ليس بي سفاهة أي شيء منها فضلا عن تمكني فيها كما زعمتم
(8/155)

ولكني رسول من رب العالمين
76
- والرسالة من قبله تعالى تقتضي الاتصاف بغاية الرشد والصدق ولم يصرح عليه السلام بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك وقيل : الكذب نوع من السفاهة فيلزم من نفيها نفيه و من لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الاضافية وقوله تعالى : أبلغكم رسالات ربي على طرز ما في قصة نوح عليه السلام
وقرأ أبو عمرو أبلغكم بالتخفيف من الافعال وأنا لكم ناصح أمين
86
- معروف بالنصح والأمانة مشهور بين الناس بذلك فما حقي أن أتهم بشيء مما ذكرتموه وعلى هذا لايقدر للوصفين متعلق ويحتمل تقديرهما أي ناصح لكم فيما أدعوكم اليه أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه وعلى الأول كما قال الطيبي فالجملة مستأنفة وقعت معترضة وعلى الثاني حالية وفي العدول عن الفعلية إلى الأسمية ما لا يخفى ولعل التعبير بها هنا وبالفعلية فيما تقدم لتجدد النصح من نوح دون هود عليهما السلام
أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم الكلام فيه كالكلام في سابقه وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من يشافههم من الكفرة بالكلمات الحمقاء بما حكي عنهم والاعراض عن مقابلتهم بمثل كلامهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة وفي حكاية ذلك تعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم وفي الآية دلالة على جواز مدح الانسان للحاجة اليه
واذكروا إذ جعلكم خلفاء شروع في بيان ترتيب أحكام النصح والامانة والانذار وتفصيلها و إذ على ما يفهم من كلام البعض وصرح به آخرون ظرف منصوب بآلاء المحذوف هنا بقرينة ما بعده لتضمنه معنى الفعل واختار غير واحد تبعا للزمخشري أنه مفعول لاذكروا أي اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسام وتوجيه الامر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات للمبالغة في ايجاب ذكره ولأنه إذا استحضر الوقت كان هو حاضرا بتفاصيله وهذا مبني على الاتساع في الظرف أو أنه غير لازم للظرفية على خلاف المشهور عند النحويين والواو للعطف وما بعده قيل : معطوف على قوله تعالى : اعبدوا ولا يخفى بعده
وقال شيخ الاسلام : لعله معطوف على مقدر كأنه قيل : لاتعجبوا من ذلك أو تدبروا فيأمركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا فان شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض فالاسناد على هذا مجاز وفي ذكر نوح على ما قيل اشارة إلى رفع التعجب يعني هذا الذي جئت به ليس ببدع فاذكروا نوحا وارساله إلى قومه وإلى الوعيد والتهديد أي اذكروا اهلاك قومه لتكذيبهم رسول ربهم وزادكم في الخلق أي الابداع والتصوير أو في المخلوقين أي زادكم في الناس على أمثالكم بسطة قوة وزيادة جسم قال الكلبي : كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا
وأخرج ابن عساكر عن وهب أنه قال : كانت هامة الرجل منهم مثل القبة العظيمة وعينه يفرخ فيها السباع وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعا وعن الباقر رضي الله تعالى عنه كانوا كأنهم النخل الطوال وكان الرجل منهم يأتي الجبل فيهدم منه بيده القطعة العظيمة
(8/156)

وأخرج عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة إن كان الرجل منهم ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها
وعن بعضهم أن أحدهم كان أطول من سائر الخلق بمقدار ما يمد الانسان يده في رأسه باسطا لها فطول كل منهم قامة وبسطة وهذا أقرب عند ذوي العقول القصيرة عن ادراك طول يد القدرة
وأخرج ابن اسحق بن بشر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هودا عليه السلام كان أصبحهم وجها وكان في مثل أجسامهم أبيض جعدا بادي العنفقة طويل اللحية صلى الله تعالى عليه وسلم ونصب بسطة على أنه مفعول به للفعل قبله وقيل : تمييز و في الخلق متعلق بالفعل وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من بسطة فاذكروا ءالاء الله أي نعمه سبحانه وتعالى وهي جمع إلى بكسر فسكون كحمل وأحمال أو ألي بضم فسكون كقفل وأقفال أو إلي بكسر ففتح مقصورا كمعي وأمعاء أو بفتحتين مقصورا كقفا وأقفاء وبهما ينشد قول الأعشى : أبيض لايرهب الهزال ولا يقطع رحما ولا يخون الا وقيل : إن ما البيت الا المشددة لكنها خففت ومعناها العهد وفيه بعد وهذا تكرير للتذكير لزيادة التقرير وتعميم اثر تخصيص أي اذكروا الآلاء التي من جملتها ما تقدم لعلكم تفلحون
96
- أي لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها الذي من جملته العمل بالاركان والطاعة المؤدي إلى النجاة من الكروب والفوز بالمطلوب وهذا لأن الفلاح لا يترتب على مجرد الذكر ومن الناس من فسر ذكر الآلاء بشكرها وأمر الترتب عليه ظاهر
قالوا مجيبين عن تلك النصائح العظيمة المتظمنة للانذار على ما أشير اليه : أجئتنا لنعبد الله وحده أي لنخصه بالعبادة ونذر أي نترك ما كان يعبد ءاباؤنا من الأوثان وهذا إنكار واستبعاد لمجيئه عليه السلام بذلك ومنشؤه انماكهم في التقليد والحب لما ألفوه والفوا عليه أسلافهم ومعنى المجيء اما مجيئه عليه السلام من مكان كان يتحنث فيه كما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل بحراء قبل المبعث أو مجيئه من السماء أي أنزلت علينا من السماء ومرادهم التهكم والاستهزاء وجاء ذلك من زعمهم أن المرسل من الله تعالى لايكون ملكا من السماء أو هو مجاز عن القصد إلى الشيء والشروع فيه فان جاء وقام وقعد وذهب كما قال جماعة تستعملها العرب لذلك تصويرا للحال فتقول قعد يفعل كذا وقام يشتمني وقعد يقرأ وذهب يسبني ونصب وحده على الحالية وهو عند جمهور النحويين ومنهم الخليل وسيبويه اسم موضوع موضع المصدر أعني إيحاد الموضوع موضع الحال أعنى موحدا واختلف هؤلاء فيما إذا قلت : رأيت زيدا وحده مثلا فالاكثرون يقدرون في حال إيحاد له بالرؤية فيجعلونه حالا من الفاعل والمبرد يقدره في حال أنه مفرد بالرؤية فيجعله حالا من المفعول
ومنع أبو بكر بن طلحة جعله حالا من الفاعل وأوجب كونه حالا من المفعول لاغير لأنهم إدا أرادوا الحال من الفاعل قالوا رأيته وحدي ومررت به وحدي كما قال الشاعر : والذئب أخشاه أن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا وهذا الذي قاله في البيت صحيح ولا يمتنع من أجله أن يأتي الوجهان المتقدمان في رأيت زيدا وحده
(8/157)

فان المعنى يصح معهما ومنهم من يقول : إنه مصدر موضوع موع الحال ولم يوضع له فعل عند بعضهم
وحكى الاصمعني وحديحد وذهب يونس وهشام في أحد قوليه إلى أنه منتصب انتصاب الظروف فجاء زيد وحده في تقدير جاء على وحده ثم حذف الجار وانتصب على الظرف وقد صرح بعلى في كلام بعض العرب وإذا قيل زيد وحده فالتقدير زيد موضع التفرد ولعل القائل بما ذكر يقول : إنه مصدر وضع موضع الظرف وعن البعض أنه في هذا منصوب بفعل مضمر كما يقال زيد اقبالا وادبارا هذا خلاصة كلامهم في هذا المقام وإذا أحطت به خبرا فاعلم أن نعبد الله وحده في تقدير موحدين إياه بالعبادة عند سيبويه على أنه حال من الفاعل والحاء في موحدين مكسورة وعلى رأي ابن طلحة موحدا هو والحاء مفتوحة وهو من أوحد الرباعي والتقدير على رأي هشام نعبد الله تعالى على انفراد وهو من وحد الثلاثي والمعنى في التقادير الثلاثة لايختلف إلا يسيرا والكلام الذي هو فيه متضمن للايجاب والسلب وله احتمالات نفيا واثباتا وتفصيل ذلك في رسالة مولانا تقي الدين السبكي المسماة بالرفدة في معنى وحده وفيها يقول الصفدي : خل عنك الرقدة وانتبه للرفدة تجن منها علما فاق طعم الشهدة وأراد بما في قوله تعالى : فأتنا بما تعدنا العذاب المدلول عليه بقوله تعالى : أفلا تتقون إن كنت من الصادقين
7
- بالاخبار بنزوله وقيل بالاخبار بانك رسول الله تعالى الينا وجواب أن محذوف لدلالة المذكور عليه أي فأت به قال قد وقع عليكم أي وجب وثبت وأصل استعمال الوقوع في نزول الأجسام واستعماله هنا فيما ذكر مجازا من اطلاق السبب على المسبب ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تبعية والمعنى قد نزل عليكم واختار بعضهم أن وقع بمعنى قضى وقدر لأن المقدرات تضاف إلى السماء وحرف الاستعلاء على ذلك ظاهر وفي الكشف أن الوقوع بمعنى الثبوت وحرف الاستعلاء إا لأنه ثبوت قوي أكد ما يكون وآجبه أو لأنه ثبوت حسي لأمر نازل من علو وعذاب الله تعالى موصوف بالنزول من السماء فتدبر والتعبير بالماضي لتنزيل المتوقع منزلة الواقع كما في قوله تعالى : أتى أمر الله من ربكم أي من قبل مالك أمركم سبحانه وتعالى والجار والمجرور قيل : متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعد والظاهر أنه متعلق بالفعل قبله وتقديم الظرف الأول عليه مع أن المبدأ متقدم على المنتهى كما قال شيخ الاسلام للمسارعة إلى بيان اصابة المكروه لهم وكذا تقديمها على الفاعل وهو قوله تعالى : رجس مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما عطف عليه من قوله تعالى : وغضب فربما يخل تقديمها بتجاوب النظم الكريم والرجس العذاب وهو بهذا المعنى في كل القرءان عند ابن زيد من الارتجاس وهو والارتجاز بمعنى حتى قيل : ان أصله ذلك فأبدلت الزاي سينا كما أبدلت السين تاء في قوله : ألا لحى الله بني السعلات عمرو بن يربوع شرار النات ليسوا باعفاف ولا أكيات فانه أراد الناس وأكياس وأصل معناه الاضطراب ثم شاع فيما ذكر لاضطراب من حل به وعليه فالعطف في قوله :
(8/158)

إذا سنة كانت بنجد محيطة وكان عليهم رجسها وعذابها للتفسير والغضب عند كثير بمعنى ارادة الانتقام وعن ابن عباس أنه فسر الرجس باللعنة والغضب بالعذاب وأنشد له البيت السابق وفيه خفاء والذاهبون إلى ما تقدم إنما يفسروه بالعذاب لئلا يتكرر مع ما قبله ولا يبعد أن يفسر الرجس بالعذاب والغضب باللعن والطرد على عكس ما نسب الى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكون في الكلام حينئذ اشارة الى حالهم في الأولى والاخرى ويمكن ارجاع ما ذكره الكثير من المفسرين إلى هذا والا فالظاهر أنه لا لطافة في قولك : وقع عليهم عذاب وارادة انتقام على ظاهر كلامهم وأياما كان فالتنوين للتفخيم والتهويل أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم انكار واستقباح لانكارهم مجيئه عليه السلام داعيا لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك ماكان يعبد ءاباؤهم من الأصنام
والاسماء عبارة عن تلك الأصنام الباطلة وهذا كما يقال لما لا يليق ما هو إلا مجرد اسم والمعنى أتخاصمونني في مسميات وضعتم لها أسماء لا تليق بها فسميتموها آلهة من غير أن يكون فيها من مصداق الالهية شيء ما لأن المستحق للمعبودية ليس إلا من أوجد الكل وهي بمعزل عن إيجاد ذرة وأنها لو استحقت لكان ذلك يجعله تعالى إما بانزال ءاية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل وذلك قوله تعالى : ما نزل الله بها من سلطان أي حجة ودليل وحيث لم يكن ذلك في حيز الامكان تحقق بطلان ما هم عليه والذم الذي يفهمه الكلام متوجه إلى التسمية الخالية عن المعنى المشحونة بمزيد الضلالة والغواية والافتراء العظيم وقيل : أنهم سموها خالقة ورازقة ومنزلة المطر ونحو ذلك والضمير المنصوب في سميتموها راجع لاسماء وهو على ما قيل المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف حسبما أشير اليه وقيل : المفعول الأول محذوف والضمير هو المفعول الثاني والمراد سميتم أصنامكم بها
وقيل : المراد من سميتموها وصفتموها فلا حاجة له إلى مفعولين وحمل الآية على ما ذكر أولا في تفسيرها هو الذي اختاره جمع وجوز بعضهم أن يكون الكلام على حذف مضاف أي أتجادلونني في ذوي اسماء
وادعى آخرون جوازا أن يكون فيه صنعة الاستخدام واستدل بالآية من قال ان الاسم عين المسمى ومن قال : ان اللغات توقيفية إذ لو لم تكن كذلك لم يتوجه الانكار والابطال بانها اسماء مخترعة لم ينزل الله تعالى بها سلطانا ولا يخفى عليك ما في ذلك من الضعف فانتظروا نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم فأتنا بما تعدنا لما وضح الحق وأنتم مصرون على العناد والجهالة اني معكم من المنتظرين
17
- لنزوله بكم والفاء في فانتظروا للترتيب على ما تقدم وفي قوله تعالى : فأنجيناه فصيحة أي فوقع ما وقع فانجيناه والذين معه اي متابعيه في الدين برحمة عظيمة لايقادر قدرها منا أي من جهتنا والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع نعتا لرحمة مؤكدا لفخامتها على ما تقدم غير مرة وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا كناية عن الاستئصال والدابر الآخر أي أهلكناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم واستدل به بعضهم على أنه لا عقب لهم
وما كانوا مؤمنين
27
- عطف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أصلا وفائدة هذا النفي عند الزمخشري التعريض بمن آمن منهم وبيانه على ما قال الطيبي
(8/159)

أنه إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة هو الايمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده ونظيره في في اعتبار شرف الايمان الذين يحملون العرش الآية وقال بعضهم فائدة ذلك بيان أنه كان المعلوم من حالهم أنه سبحانه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا كما قال جل شأنه في آية أخرى ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا فهو كالعذر عن عدم امهالهم والصبر عليهم
وسر تقديم حكاية الانجاء على حكاية الاهلاك يعلم ما تقدم وقصتهم على ماذكر السدي ومحمد بن اسحق وغيرهما أن عادا قوم كانوا بالاحقاف وهي رمال بين عمان وحضر موت وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها وكانت لهم أصنام يعبدونها وهي صداء وصمود والهباء فبعث الله تعالى أليهم هودا عليه السلام نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فأمرهم بالتوحيد والكف عن الظلم فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا وقالوا : من أشد منا قوة فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس إذ ذاك إذا نزل بهم بلاء طلبوا رفعه من الله تعالى عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم وأهل مكة يومئذ العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر وكانت أمه كهلدة من عاد فجهزت عاد إلى الحرم من أماثلهم سعين رجلا منهم قيل بن عنز ولقيم بن هزال ولقمان بن عاد الأصغر ومرثد بن سعد الذي كان يكتم اسلامه وجلهمة خال معاوية بن بكر فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية وكان خارجا من الحرم فانزلهم وأكرمهم إد كانوا أخواله وأصهاره فاقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتان لمعاوية اسم احداهما وردة والاخرى جرادة ويقال لهم الجرادتان عى التغليب فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له شق ذلك عليه وقال هلك أصهاري وأخوالي وهؤلاء على ماهم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عنده فشكا ذلك لقينتيه فقالتا قل شعرا نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك يحركهم فقال : الا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا غماما فتسقى أرض عاد إن عادا قد أمسوا ما يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم عياما وإن الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعادي سهاما وأنتم ههنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما فلما غنتا بذلك قال بعضهم لبعض ياقوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد والله لاتسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم فاظهر اسلامه عند ذلك وقال : عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشا ما ثبلهم السماء لهم صنم يقال له صمود يقابله طاء والهباء فبصرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وخلا العماء
(8/160)

وأن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثدا فلا يقدمن معنا مكة فانه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة يستسقون فخرج مرثد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا بشيء مما خرجوا له فلما انتهى اليهم قام يدعو الله تعالى ويقول : اللهم سؤلي وحدي فلا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل رأس الوفد فدعا : وقال : اللهم اسق عادا ماكنت تسقيهم وقال القوم الله اعط قيلا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله فانشأ الله تعالى سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم نادى مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شئت قيل وكذلك يفعل الله تعالى بمن دعاه إذ ذاك فقا لقيل اخترت السوداء فانها أكثرهن ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمدا لاتبقي من آل عاد أحدا وساق الله تعالى تلك السحابة بما فيها إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منه ريح عقيم وأول من رأى ذلك امرأة منهم يقال لها مهدر ولما رأته صفقت فلما أفاقت قالوا : ما رأيت قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فلم تدع منهم أحد إلا أهلكته واعتزل هود عليه السلام ومن معه في حضيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به الجلود وتلتذ الأنفس ثم إنه عليه السلام أتى هو ومن معه مكة بعبدوا الله تعالى فيها إلى أن ماتوا وقبره عليه السلام قيل هناك في البقعة التي بين الركن والمقام وزمزم وفيها كما أخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط قبور تسعة وسبعين نبيا منهم أيضا نوح وشعيب وصالح واسماعيل عليهم السلام وأخرج البخاري في تأريخه وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أن قبره عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر عند راسه سدرة واخرج ابن عساكر عن ابن أبي العاتكة قال : قبلة مسجد دمشق قبر هود عليه السلام وعمر كما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أربعمائة واثنين وسبعين سنة والله تعالى أعلم
ومن باب الاشارة في الآيات على ما قاله القوم رضي الله تعالى عنهم إن ربكم الله الذي خلق السموات أي سموات الأرواح والأرض أي أرض الابدان في ستة أيام وهي ستة آلاف وإن يوما عند ربكم كألف سنة مما تعدون وهي من لدن خلق آدم عليه السلام إلى زمان النبي صلى الله عليه و سلم وهي في الحقيقة من ابتداء دور الخلفاء إلى ابتداء الظهور الذي هو زمان ختم النبوة وظهور الولاية ثم استوى على العرش وهو القلب المحمدي بالتجلي التام وهو التجلي باسمه تعالى الجامع لجميع الصفات والصوفية عدة عروش نبهنا عليها في كتابنا الطراز المذهب في شرح قصيدة الباز الأشهب وتمام الكلام عليها في شمس المعارف للامام البوني قدس سره يغشى الليل أي ليل البدن النهار أي نهار الروح يطلبه بالتهيء والاستعداد لقبوله باعتدال مزاجه حثيثا أي سريعا والشمس أي شمس الروح والقمر أي قمر القلب والنجوم أي نجوم الحواس مسخرات بأمره الذي هو الشأن المذكور في قوله تعالى كل يوم هو في شأن ادعوا ربكم أي اعبدوه تضرعا وخفية إشارة إلى طريق الجلوة والخلوة أو ادعوه بالجوارح والقلب أو بأداء حق العبودية ومطالب حق الربوبية إنه لايحب المعتدين المتجاوزين عما أمروا به بترك الامتثال أو الذين يطلبون منه سواه ولا تفسدوا في الأرض
(8/161)

أي أرض البدن بعد اصلاحها بالاستعداد وادعوه خوفا وطمعا لئلا يلزم اهمال أحدى صفتي الجلال والجمال وهو الذي يرسل الرياح أي رياح العناية بين يدي رحمته أي تجلياته حتى إدا أقلت حملت سحابا ثقالا بأمطار المحبة سقناه لبلد قلب ميت فانزلنا به الماء ماء المحبة فاخرجنا به من كل الثمرات من المشاهدات والمكاشفات كذلك نخرج الموتى القلوب الميتة من قبور الصدور لعلكم تذكرون أيام حياتكم في عالم الأرواح حيث كنتم في رياض القدس وحياض الأنس والبلد الطيب وهو ما طاب استعداده يخرج نباته باذن ربه حسنا غزيرا نفعه والذي خبث وهو ما ساء استعداده لايخرج إلا نكدا لاخير فيه لقد أرسلنا نوحا أي نوح الروح إلى قومه من القلب واعوانه والنفس واعوانها فكذبوه فأنجيناه والذين معه كالقلب وأعوانه في الفلك وهو سفينة الاتباع وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا في بحار الدنيا ومياه الشهوات إنهم كانوا قوما عمين عن طريق الوصول ورؤية الله تعالى وعلى هذا المنوال ينسج الكلام في باقي الآيات
ولمولانا الشيخ الأكبر قدس سره في هؤلاء القوم ونحوهم كلام تقف الافكار دونه حسرى فمن أراده فليرجع إلى الفصوص يرى العجب العجاب والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد وإلى ثمود أخاهم صالحا عطف على ما سبق من قوله تعالى والى عاد أخاهم موافق له في تقديم المجرور على المنصوب ثمود قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام الى وادي القرى وسميت باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عامر بن أرم ابن سام بن نوح وقيل ابن عاد بن عوص بن ارم الخ وهو المنقول عن الثعلبي
وقال عمرو بن العلاء : إنما سموا بذلك لقلة مائهم فهو من ثمد الماء إذا قل والثمد الماء القليل وورد فيه الصرف وعدمه أما الأول فباعتبار الحي أو لأنه لما كان في الأصل اسما للجد أو للقليل من الماء كان مصروفا لأنه علم مذكر أو اسم جنس فبعد النقل حكي أصله وأماالثاني فباعتبار أنه اسم القبيلة ففيه العلمية والتأنيث
وصالح عليه السلام من ثمود فالأخوة نسبية وهو على ما قال محيي السنة البغوي ابن عبيد بن أسف بن ماشح ابن عبيد بن حاذر بن ثمود وهو أخوصسم وجديس فيما قيل وقال وهب : هو ابن عبيد بن جابر بن ثمود بن جابر بن سام بن نوح بعث إلى قومه حين راهق الحلم وكان رجلا احمر الى البياض سبط الشعر فلبث فيهم أربعين عاما وقال الشامي : انه بعث شابا فدعا قومه حتى شمط وكبر ونقل النووي أنه أقام فيهم عشرين سنة ومات بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة
قا يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد مر الكلام في نظائره قد جاءتكم بينة أي آية ومعجزة ظاهرة الدلالة شاهدة بنبوتي وهي من الألفاظ الجارية مجرى الابطح والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصوفاتها حالة الافراد والجمع والتنوين للتفخيم أي بينة عظيمة من ربكم متعلق بمحذوف وقع صفة لبينة على ما مر غير مرة أو بجاءتكم و من لابتداء الغاية مجازا أو للتبعيض أن قدر من بيانت ربكم والمراد بهذه البينة الناقة وليس في هذا الكلام منه عليه السلام أول ما خاطبهم به أثر الدعوة إلى التوحيد بل إنما قاله بعدما نصحهم وذكرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامه وكذبوه كما ينبيء عن ذلك ما في سورة هود وقوله تعالى : هذ ناقة الله لكم ءاية استئناف نحوي مسوق لبيان البينة والمعجزة وجوز أن يكون استئنافا بيانيا
(8/162)

جوابا لسؤال مقدر تقديره أي هي وعلى التقديرين لا محل للجملة من الاعراب وجوز أن يكون بدلا من بينة بدل الجملة من مفرد للتفسير ولا يخفى بعده وإضافة الناقة الى الأسم الجليل لتعظيمها كما يقال بيت الله للمسجد بيد أن الاضافة فيه لأدنى ملابسة ولا كذلك ما نحن فيه أو لأنها ليست بواسطة نتاج معتاد وأسباب معهودة كما سيتضح ان شاء الله تعالى لك ولذلك كانت آية وأي آية وقيل لأنها لايملكها أحد سواه سبحانه وقيل : لأنها كانت حجة الله على قوم صالح وانتصاب آية على الحالية من ناقة والعامل فيها معنى الاشارة وسماه النحاة العامل المعنوي و لكم بيان لمن هي آية له كما سقيالك فيتعلق بمقدر وجوز أن يكون ناقة بدل من هذه أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانيا و لكم خبرا فآية حينئذ حال من الضمير المستتر فيه والعامل هو أو متعلقة فذروها تفريع على كونها آية من آيات الله تعالى وقيل : على كونها ناقة له سبحانه فان ذلك مما يوجب عدم التعرض لها أي فاتركوها تأكل في أرض الله العشب وحذف العلم به والفعل مجزوم لأنه جواب الأمر
وقرأ أبو جعفر في رواية عنه تأكل بالرفع فالجملة حالية أي ءاكلة والجار والمجرور متعلق بما عنده أو بالامر السابق فهما متنازعان وأضيفت الأرض إلى الله سبحانه قطعا لعذرهم في التعرض كأنه قيل : الأرض أرض الله تعالى والناقة ناقة الله تعالى فذروا ناقة الله تأكل في أرضه فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من انباتكم فأي عذر لكم في منعها وعدم التعرض للشرب للاكتفاء عنه بذكر الأكل وقيل لتعميمه له أيضا كما في قوله
(8/163)

علفتها تبنا وماء باردا
وقد ذكر ذلك بقوله سبحانه : لها شرب ولكم شرب يوم معلوم وتمسوها بسوء نهى عن المس الذي هو مقدمة الاصابة بالشر الشامل لأنواع الأدى مبالغة في الزجر فهو كقوله تعالى : ولاتقربوا مال اليتيم والجار والمجرور متعلق بالفعل والتنكير للتعميم أي لاتتعرضوا لها بشيء مما يسوؤها أصلا كالطرد والعقر وغير ذلك وقيل : الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل الفعل والمعنى لاتمسوها مع قصد السوء بها فضلا عن الاصابة فهو كقوله تعالى : ولاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى
فيأخذكم عذاب أليم
37
- منصوب في جواب النهي والمعنى لاتجمعوا بين المس وأخذ العذاب إياكم والاخير وإن لم يكن من صنيعهم حقيقة لكن لتعاطيهم اسبابه كأنه من صنيعهم
وأدكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد أي خلفاء في الارض أو خلفاء لهم قيل ولم يقل : خلفاء عاد مع أنه أخصر اشارة إلى أن بينهما زمانا طويلا وبوأكم أي أنزلكم وجعل لكم مباءة في الأرض أي ارض الحجر بين الحجاز والشام تتخذون من سهولها قصورا أي تبنون في سهولها مسكان رفيعة فمن بمعنى في كما في قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ويجوز أن تكون ابتدائيةاو تبعيضية أي تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل كاللبن واةجر المتخذين من الطين والجار والمجرور على ما قال أبو البقاء يجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده وأن يكون مفعولا ثانيا لتتخذون وأن يكون متعلقا به وهو متعد لواحد والسهل خلاف الحزن وهو موضع الحجارة والجبال والجملة استئناف مبين لكيفية التبوئة فان هذا
(8/0)

الاتخاذ باقداره سبحانه وتنحتون الجبال أي تنجرونها والنحت معروف في كل صلب ومضارعه مكسور الحاء
وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق وفي القاموس عنه أنه قرأ تنحاتون بالاشباع كينباع وانتصاب الجبال على المفعولية وقوله سبحانه : بيوتا نصب على أنه حال مقدرة منها لأنها لم تكن حال النحت بيتا كخطت الثوب جبة والحالية كما قال الشهاب باعتبار أنها بمعنى مسكونة إن قيل بالاشتقاق فيها وقيل : انتصاب الجبال بنزع الخافض أي من الجبال ويرجحه أنه وقع في آية أخرى كذلك ونصب بيوتا على المفعولية وجوز أن يضمن النحت معنى الاتخاذ فانتصابهما على المفعولية روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم اتخذوا القصور في السهول ليصيفوا فيها ونحتوا من الجبال بيوتا ليشتوا فيها وقيل : انهم نحتوا الجبال بيوتا لطول أعمارهم وكانت الابنية ثبلى قبل أن تبلى أعمارهم فاذكروا ءالاء الله أي نعمه التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميع نعمه ويدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا وليس المراد مجرد الذكر باللسان كما علمت
ولاتعثوا في الأرض مفسدين
47
- فان حق آلائه تعالى أن تشكر ولا يغفل عنها فكيف بالكفر والعثى الافساد فمفسدين حال مؤكدة كما في ولوا مدبرين قال الملأ الذين استكبروا من قومه أي الاشراف الذين عتوا وتكبروا والجملة استئناف كما مر غير مرة وقرأ ابن عامر وقال بالواو عطفا على ما قبله من قوله تعالى قال ياقوم الخ واللام في قوله سبحانه : للذين استضعفوا أي عدوا ضعفاء أذلاء للتبليغ كما في ألم أقل لكم وقوله تعالى : لمن ءامن منهم بدل من الموصول باعادة العامل بدل الكل من الكل كقولك مررت بزيد بأخيك والضمير المجرور راجع إلى قومه وجوز أن يكون بدل بعض من كل على أن الضمير للذين استضعفوا فيكون المستضعفون قسمين مؤمنين وكفرين ولايخفى بعده والاستفهام في قوله جل شأنه أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه للاستهزاء لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظأهر كما حكى سبحانه عنهم بقوله : قالوا انا بما أرسل به مؤمنون
57 - فان الجواب الموافق لسؤالهم نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى ومن هنا قال غير واحد إنه من الاسلوب الحكيم فكأنهم قالوا العلم بارساله وبما أرسل به مالا كلام فيه ولاشبهة تدخله لوضوحه وانارته وإنما الكلام في وجوب الايمان به فنخبركم انا به مؤمنون
واختار في الانتصاف أن ذلك ليس اخبارا عن وجوب الايمان به بل عن امتثال الواجب فانه أبلغ من ذلك فكأنهم قالوا : العلم بارساله وبوجوب الايمان به لا نسئل عنه وإنما الشأن في امتثال الواجب والعمل به ونحن قد امتثلنا قال الذين استكبروا استئناف كما تقدم وأعيد الموصول مع صلته مع كفاية الضمير ايذانا بأنهم قالوا ما قالوه بطريق العثور والاستكبار إنا بالذي ءامنتم به كفرون
67
- عدول عن مقتضى الظاهر أيضا وهو انا بما أرسل به كافرون وفائدته كما قالوا الرد لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما كأنهم قالوا ليس ماجعلتموه معلوما مسلما من ذلك القبيل وقال في الانتصاف عدلوا عن ذلك حذرا مما في ظاهره من اثباتهم لرسالته وهم يجحدونها وليس هذا موضع التهكم ليكون كقول فرعون إن رسولكم الذي أرسل اليكم لمجنون فان الغرض اخبار كل واحد من المؤمنين والمكذبين عن حاله فلذا خلص الكافرون قولهم عن اشعار الايمان بالرسالة
(8/164)

احتياطااحتياطا للكفر وغلوا في الاصرار فعقروا الناقة أي نحروها قال الأزهري أصل العقر عند العرب قطع عرقوب البعير ثم استعمل في النحر لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره واسناده إلى الكل مع أن المباشر البعض مجاز لملابسة الكل لذلك الفعل لكونه بين أظهرهم وهم متفقون على الضلال والكفر أو لرضا الكل به أو لأمرهم كلهم به كما ينبيء عنه قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر وقيل : إن العقر مجاز لغوي عن الرضا بالنسبة إلى غير فاعله وليس بشيء
وعتوا عن أمر ربهم أي استكبروا عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح عليه السلام من الأمر السابق فالأمر واحد الأوامر وجوز أن يكون واحد الامور أي استكبروا عن شأن الله تعالى ودينه وهو بعيد
وأوجب بعضهم على الأول أن يضمن عتوا معنى التولي أي تولوا عن امتثال أمره عاتين أو معنى الاصدار أي صدر عتوهم عن أمر ربهم وبسببه لأنه تعالى لما أمرهم بقوله : فذروها الخ ابتلاهم فما امتثلوا فصاروا عاتين بسببه ولولا الأمر ما ترتب العقر والداعي للتأويل بتولوا أو صدر أن عتا لايتعدى بعن فتعديته به لذلك كما في قوله تعالى : وما فعلته عن أمري وبعضهم لايقول بالتضمين بناء على أن عتا بمعنى استكبر كما في القاموس وهو يتعدى بعن فافهم وقالوا مخاطبين له عليه السلام بطريق التعجيز والافحام على زعمهم الفاسد : يا صالح ائتنا بما تعدنا من العذاب وأطلق العلم به إن كنت من المرسلين
77
- فان كونك منهم يقتضي صدق ما تقول من الوعد والوعيد فأخذتهم الرجفة 9 قال الفراء والزجاج : أي الزلزلة الشديدة
وقال مجاهد والسدي : هي الصيحة وجمع بين القولين بأنه يحتمل انه أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم وقال بعضهم : الرجفة خفقان القلب واضطرابه حتى ينقطع وجاء في موضع آخر الصيحة وفي آخر بالطاغية ولا منافاة بين ذلك كما زعم بعض الملاحدة فان الصيحة العظيمة الخارقة للعادة حصل منها الرجفة لقلوبهم ولعظمها وخروجها عن الحد المعتاد تسمى الطاغية لأن الطغيان ومجاوزة الحد ومنه قوله تعالى : إنا لما طغى الما حملناكم أو يقال أن الاهلاك بذلك بسبب طغيانهم وهو معنى الطاغية وهذا الأخذ ليس أثر ماقالوا بل بعد ما جرى عليهم ما جرى من مبادي العذاب في الايام الثلاث كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والفاء لا تأبى ذلك
فأصبحوا في دارهم جاثمين
87
- هامدين موتى لاحراك بهم وأصل الجثوم البروك على الركب
وقال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للابل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل وأصبح يحتمل أن تكون تامة فجاثمين حال وان تكون ناقصة فجاثمين خبر والظرف على التقديرين متعلق به وقيل : هو خبر و جاثمين حال وليس بشيء لافضائه إلى كون الاخبار بكونهم في دارهم مقصودا بالذات والمراد من الدار البلد كما في قولك دار الحرب ودار الاسلام وقد جمع في آية أخرى بارادة منزل كل واحد الخاص به وذكر النيسابوري أنه حيث ذكرت الرجفة وحدت الدار وحيث ذكرت الصيحة جمعت لأن الصيحة كانت من السماء كما في غالب الروايات لامن الأرض كما قيل فبلوغها أكثر وابلغ من الزلزلة فقرن كل منهما بما هو أليق به فتدبر
فتولى عنهم بعد أن جرى عليهم ما جرى على ماهو الظاهر مغتما متحسرا على مافاتهم من الايمان
(8/165)

متحزنامتحزنا عليهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم بالترغيب والترهيب ولم آل جهدا فلم يجد نفعا ولم تقبلوا مني وصيغة المضارع في قوله سبحانه ولكن لاتحبون الناصحين
97
- حكاية حال ماضية أي شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعدواوتهم وخطابه عليه السلام لهم كخطاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قتلى المشركين حين القوا في قليب بدر حين نادى يافلان يافلان باسمائهم إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا وذلك مبني على أن الله تعالى يرد أرواحهم اليهم فيسمعون وذلك مما خص به الانبياء عليهم الصلاة والسلام ويحتمل أنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التحزن والتحسر كما تخاطب الديار والاطلال وجوز عطف فتولى على فأخذتهم الرجفة فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك لكنه خلاف الظاهر وأبعد من ذلك ما قيل إن الآية على التقديم والتأخير فتقديرها فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لاتحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين
وقصة ثمود على ما ذكر اسحق وغيره أن عادا لما هلكوا عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا في الأرض وعبدوا غير الله تعالى فبعث الله تعالى اليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح عليه السلام من أوسطهم نسبا وبعث اليهم وهو شاب فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط وكبر ولم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم بالدعاء والتخويف سألوه أن يريهم آية تصدق ما يقول فقال لهم : أية آية تريدون فقالوا : تخرج غدا معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فان استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح : نعم فخرجوا وخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو ابن حراش وهو يومئذ سيد ثمود : يا صالح اخرج لنا من هذ الصخرة لصخرة منفردة ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة أي تشاكل البخت أو مخرجة على خلقة الجمل جوفاء وبراء فان فعلت صدقناك وآمنا بك فاخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا : نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فاصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لايعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظما وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشرافهم أن يؤمنوا به فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صعر كاهنهم فلما خرجت الناقة قال لهم : هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرضهم ترعى الشجر وتشرب الماء وكاند ترد غبا فاذا كان يومها وضعت رأسها في بئر الحجر يقال له الآن بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها ثم ترفع رأسها وتتفحج لهم فيحلبون ماشاؤا من اللبن فيشربون ويدخرون ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لاتقدر تصدر من حيث ترد لضيقه عنها حتى إذا كان الغد يومهم فيشربون ما شاؤا ويدخرون ما شاءوا ليوم الناقة ولم يزالوا في سعة ورغد وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه وتشتو في بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره في برد وجدب فاظر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله تعالى بهم والبلاء والاختبار
(8/166)

فكبرفكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لاحداهما عنيزة بنت غنيم بن مجلز وتكنى بأم غنم وكانت أمرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزا مسنة ذات بنات حسان وذات مال من أبل وبقر وغنم ويقال للاخرى صدوق بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانت من أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانتا يحبان عقر الناقة لما أضرت من مواشيهما فدعت صدوق رجلا يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع ابن مهرج وجعلت له نفسها إن هو فعل فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة أم غنم قدار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يرعمون أنه لزنية ولم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه فقالت : أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان عزيزا منيعا في قومه فرضي وانطلق هو ومصدع فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة فكانوا تسعة رهط فانطلقوا ورصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم فأمرت أحدى بناتها وكانت من أحسن الناس وجها فسفرت عن وجهها ليراها قدار ثم حثته على عقرها فشد على الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فتحدر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هاربا حتى أتى جبلا منيعا يقال له قارة فرغا ثلاثا وكان صالح عليه السلام قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يدفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوه على الجبل وراموه فلم ينالوه وأنفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب
وعن ابن اسحق أنه تبع السقب من التسعة أربعة وفيهم مصدع فرماه بسهم فاصاب قلبه ثم جر برجله فانزله والقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح : انتهكتم حرمة الله تعالى فابشروا بعذابه ونقمته فكانوا يهزأون به ويقولون متى هو وما آيته فقال : تصبحون غدا وكان يوم الخميس ووجوهكم مصفرة وبعد غد ووجوهكم محمرة واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب فهم أولئك الرهط بقتله فاتوه ليلا فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطاؤا على اصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فمنع عنه عشيرته ثم لما رأوا العلامات طلبوه ليقتلوه فهرب ولحق بحي من ثمود يقال لهم : بنو غنم فنزل على سيدهم وأسمه نفيل ويكنى بأبي هدب فطلبوه منه فقال ليس لكم اليه سبيل فتركوه وشغلهم ما نزل بهم ثم خرج عليه السلام ومن معه الى الشام فنزل رملة فلسطين ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالانطاع فاتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا جميعا إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سلف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فاطلق الله تعالى رجليها بعد أن عاينت العذاب فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فاخبرتهم الخبر ثم استسقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت وكان رجل منهم يقال له : أبو رغال وهو أبو ثقيف في حرم الله تعالى فمنعه الحرم من عذاب الله تعالى فلما خرج أصابه ما أصابهم فدفن ومعه غصن من ذهب وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بقبره فأخبر بخبره فابتدره الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأسيافهم فحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن وروي أنه عليه السلام خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا
(8/167)

وكانوا ألفا وخمسمائة دار وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم
وأخرج أبو الشيخ عن وهب قال : إن صالحا لما نجا هو والذين معه قال : يا قوم إن هذ دار قد سخط الله عليها وعلى أهلها فاظعنوا والحقوا بحرم الله تعالى وأمنه فأهلوا من ساعتهم بالحج وانطلقوا حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا فتلك قبورهم في غربي الكعبة وروى ابن الزبير عن جابر أن نبينا صلى الله عليه و سلم لما مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : لايدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مث الذي اصابهم وذكر محيي السنة البغوي أن المؤمنين الذين مع صالح كانوا أربعة ءالاف وانه خرج بهم إلى حضرموت فلما دخلها مات عليه السلام فسميت لذلك حضرموت ثم بنى الأربعة ءالاف مدينة يقال لها حاضوراء ثم نقل عن قوم من أهل العلم أه توفي بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة ولعله المعول عليه وجاء أن أشقى الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتل علي كرم الله تعالى وجهه وقد أخبر صلى الله عليه و سلم بذلك عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه وعندي أن أشقى الآخرين أشقى من أشقى الأولين والفرق بينهما كالفرق بين علي كرم الله تعالى وجهه والناقة وقد اشارت الاخبار بل نطقت بأن قاتل الأمير كان مستحلا قتله بل معتقدا الثواب عليه وقد مدحه أصحابه على ذلك فقال عمران بن حطان غضب الله تعالى عليه : ياضربة من تقي ماأراد بها ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا أني لأذكره يوما فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا ولله در من قال : ياضربة من شقي أوردته لظى فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا كأنه لم يرد شيئا بضربته إلا ليصلى غدا في الحشر نيرانا اني لأذكره يوما فألعنه كذاك ألعن عمران بن حطانا وكون فعله كان عن شبهة تنجيه مما شبهة في كونه ضربا من الهذيان ولو كان مثل تلك الشبهة منجيا من عذاب مثل هذا الذنب فليفعل الشخص ما شاء سبحانك هذا بهتان عظيم وقد ضربت بقدار عاقر الناقة الأمثال وما ألطف قول عمارة اليمني لاتعجبا لقدار ناقة صالح فلكل عصر ناقة وقدار وفي هذه القصة روايت أخر تركناها اقتصارا على ما تقدم لأنه أشهر ولوطا نصب بفعل مضمر أي أرسلنا معطوف على ما سبق أو به من غير حاجة إلى تقدير وإنما لم يذكر المرسل اليهم على طرز ما سبق ومالحق لأن قومه على ما قيل لم يعهدوا باسم معروف يقتضي الحال ذكره عليه السلام مضافا اليهم كما في القصص من قبل ومن بعد وهو ابن هاران بن تارخ وابن اسحق ذكر بدل تارخ مازر وأكثر النسابين على أنه عليه السلام ابن أخي ابراهيم صلى الله عليه و سلم ورواه في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وأخرج ابن عساكر عن سليمان بن صرد أن أبا لوط عليه السلام عم ابراهيم عليه السلام وقيل : إن لوطا كان ابن خالة ابراهيم وكانت سارة زوجته أخت لوط وكان في أرض بابل من العراق مع ابراهيم فهاجر
(8/168)

إلى الشام ونزل فلسطين وأنزل لوطا الاردن وهو كرة بالشام فارسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلدة بحمص
وأخرج اسحق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال : أرسل لوط إلى المؤتفكات وكانت قرى لوط أربع مدائن سدوم وأمورا وعامورا وصبوير وكان في كل قرية مائة الف مقاتل وكانت أعظم مدائنهم سدوم وكان لوط يسكنها وهي من بلاد الشام ومن فلسطين مسيرة يوم وليلة وهذا اللفظ على ما قال الزجاج اسم اعجمي غير مشتق من لطت الحوض إذا الزقت عليه الطين ويقال : هذا الوط بقلبي من ذلك أي ألصق به ولاط الشيء أخفاه وقوله تعالى : إذ قال لقومه ظرف لارسلنا كما قال غير واحد واعترض بان الارسال قبل وقت القول لافيه كما تقتضيه هذ الظفية ودفع بانه يعتبر الظرف ممتدا كما يقال زيد في أرض الروم فهو ظرف غير حقيقي يعتبر وقوع المظروف في بعض اجزائه كما قرره القطب وجوز أن يكون لوطا منصوبا باذكر محذوفا فيكون في عطف القصة على القصة و إذا بدل من لوط بدل اشتمال بناء على أنها لاتلزم الظرفية وقال أبو البقاء : إنه ظرف الرسالة محذوفا أي واذكر رسالة لوط إذ قال أتأتون الفاحشة استفهام على سبيل التوبيخ والتقريع أي أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت أقصى القبح وغايته ما سبقكم بها من أحد من العالمين
8
- أي ما عملها أحد قبلكم في زمن من الأزمان فالباء للتعدية كما في الكشاف من قولك : سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ومنه ما صح من قوله صلى الله عليه و سلم سبقك بها عكاشة وتعقبه أبو حيان بأن معنى التعدية هنا قلق جدا لأن الباء المعدية في الفعل المعدى إلى واحد تجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة فاذا قلت صككت الحجر بالحجر كان معناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيدا بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيدا عمرا عن خالد أي جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد فللمفعول الأول تأثير على الثاني ولا يصح هذا المعنى فيما ذكر الا بتكلف فالظاهر أن الباء للمصاحبة أي ما سبقكم أحد مصاحبا وملتبسا بها ودفع أن المعنى على التعدية ومعنى سبقته بالكرة أسبقت كرتي كرته لأن السبق بينهما لابين الشخصين أو الضربتين وكذا في الآية ومثله يفهم من غير تكلف وقال القطب الرازي : إن المعنى سبقت ضربه الكرة بضربي الكرة أي جعلت ضربي الكرة سابقا على ضربه الكرة ثم استظهر جعل الباء للظرفية لعدم احتياجه إلى ما يحتاجه جعلها للتعدية أي ما سبقكم في فعل الفاحشة أحد ولعل الأمر كما قال و من الأولى صلة لتأكيد النفي وافادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض والجملة مستأنفة استئنافا نحويا مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع والتوبيخ وجوز أن يكون بيانيا كأنه قيل : لم لانأتيها فقال : ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا مالم تسبقوا اليه من المنكرات لأنه أشد ولا يتوهم أن سبب إنكار الفاحشة كونها مخترعة ولولاه لما أنكرت إذ لا مجال له بعد كونها فاحشة ووجه كون هذ الجملة مؤكدة للنكير انها مؤذنة باختراع السوء ولاشك ان اختراعه اسوأ إد لا مجال للاعتذار عنه كما اعتذروا عن عبادتهم الاصنام مثلا بقولهم : إنا وجدنا آباءنا
وجوز أبو البقاء كون الجملة في موضع الحال من المفعول أو الفاعل والنيسابوري جوز كونها صفة للفاحشة
(8/169)

علىعلى حد
ولقد أمر على اللئيم يسبني
ورد بأن الفاحشة هنا متعينة دون اللئيم وكيفما كان فالمراد من نفي سبق أحد بها إياهم كونهم سابقين بها كل أحد مما عداهم من العالمين لامساواتهم الغير بها فقد أخرج البيهقي وغيره عن عمرو بن دينار قال مانزا ذكر حتى كان قوم لوط والذي حملهم على ذلك كما أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانت لهم ثمار في منازلهم وحوائطهم وثمار خارجة على ظهر الطريق وانهم أصابهم قحط وقلة من الثمار فقال بعضهم لبعض : إنكم إن منعتم ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل كان لكم فيها عيش قالوا : بأي شيء نمنعها قالوا : اجعلوا سنتكم أن تنكحوا من وجدتم في بلادكم غريبا وتغرموه أربعة دراهم فان الناس لايظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك ففعلوه واستحكم فيهم وفي بعض الطرق أن ابليس عليه اللعنة جاءهم عند ذكرهم ماذكروا في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس فدعاهم الى نفسه فنكحوه ثم جرؤوا على ذلك وجاء في رواية ابن أبي الدنيا عن طاوس أن قوم لوط إنما أتوا النساء في أدبارهن ثم أتو الرجال وفي قوله : من العالمين دون من الناس مبالغة لاتخفى
وقوله سبحانه : انكم لتأتون الرجال يحتمل الاستئناف البياني والنحوي وهو مبين لتلك الفاحشة والاتيان هنا بمعنى الجماع وقرأ ابن عامر وجماعة أئتكم بمهمزتين صريحتين ومنهم من قرأ بتليين الثانية بغير مد ومنهم من مد وهو حينئذ تأكيد للانكار السابق وتشديد للتوبيخ وفي الاتيان بان واللام مزيدة تقبيح وتقريع كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد فيؤكد تأكيدا قويا وفي ايراد لفظ الرجال دون الغلمان والمردان ونحوهما كما قال شيخ الاسلام مبالغة في التوبيخ كأنه قال : لتأتون أمثالكم شهوة نصب على أنه مفعول له أي لأجل الاشتهاء لاغير أو على الحالية بتأويل مشتهين وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية وناصبة تأتون لأنه بمعنى تشتهون وفي تقييد الجماع الذي لاينفك عن الشهوة بها إيذان بوصفهم بالبهيمية الصرفة وأن ليس غرضهم الاقضاء الشهوة وجوز أن يكون المراد الانكار عليهم وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة القذرة الخبيثة كما ينبيء عنه قوله تعالى : من دون النساء أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوي الطباع السليمة كما يؤذن به قوله سبحانه : بل أنتم قوم مسرفون
18
- فالجار والمجرور في موضع الحال من ضمير تأتون وجوز أن يكون حالا من الرجال على ما قاله أبو البقاء أي تأتونهم منفردين عن النساء وأن يكون في موضع الصفة لشهوة على ما قيل واستبعد تعلقه به و بل للاضراب وهو اضراب انتقالي عن الانكار المذكور إلى الاخبار بما أدى إلى ذلك وهو اعتياد الاسراف في كل شيء أو إلى بيان استجماعهم للعيوب كلها
ويحتمل أن يكون اضرابا عن غير مذكور وهو ما توهموه من العذر في ذلك أي لاعذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الاسراف والخروج عن الحدود وهذا في معنى ذمهم بالجهل كما في سورة النمل إلا أنه عبر بالاسم هنا وبالفعل هناك لموافقة رؤوس الآي المتقدمة في والله تعالى بأسرار كلامه وما كان جواب قومه أي لامستكبرين منهم المتصدين للعقد والحل إلا أن قالوا استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان
(8/170)

جوابهم شيء من الأشياء إلا قولهم أي لبعضهم الآخرين المباشرين للأمور أو ما كان جواب قومه الذين خاطبهم بما خاطبهم شيء من الأشياء إلا قول بعضهم لبعض معرضين عن مخاطبته عليه السلام أخرجوهم أي لوطا ومن معه من قريتكم أي بلدتكم التي أجمعتم فيها وسكنتم بها والنظم الكريم من قبيل
(8/171)

تحية بينهم ضرب وجيع
والقصد منه نفي الجواب على أبلغ وجه لأن ما ذكر في حيز الاستثناء لاتعلق له بكلامه عليه السلام م انكار الفاحشة وتعظيم ووسمهم بما هو اصل الشر كله ولو قيل : وقالوا أخرجوهم لم يكن بهذه المثابة من الافادة
وقوله سبحانه : أنهم أناس يتطهرون
28
- تعليل للأمر بالاخراج ومقصود الأشقياء بهذا الوصف السخرية بلوط ومن معه وبتطهرهم من الفوحش وتباعدهم عنها وتنزههم عما في المحاش والافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أخرجوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد وقريء برفع جواب على أنه اسم كان والا أن قالوا الخ خبر قيل : وهو أظهر وان كان لأول أقوى في الصناعة لأن الأعراف أحق بالاسمية وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر
وأيا ماكان فليس المراد أنهم لم يصدر عنهم في مقابلة كلام لوط عليه السلام ومواعظه إلا هذه المقالة الباطلة كما ينساق إلى الذهن بل أنه لم يصدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينه عليه السلام وبينهم إلا هذه الكلمة الشنيعة والا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثير من الترهات كما حكي عنهم في غير موضع من الكتاب الكريم وكذا يقال في نظائره قيل : وإنما جيء بالواو في وما كان الخ دون الفاء كما في النمل والعنكبوت لوقوع الاسم قبل هنا والفعل هناك والتعقيب بالفعل بعد الفعل حسن دون التعقيب به بعد الاسم وفيه تأمل
ولعل ذكر أخرجوهم هنا و أخرجوا آل لوط في النمل إشارة إلى أنهم قالوا مرة هذا وأخرى ذاك أو ان بعضا قال كذا وءاخر قال كذا وقال النيسابوري : إنما جاء في النمل أخرجوا آل لوط ليكون تفسيرا لهذه الكناية وقيل : إن تلك السورة نزلت قبل الاعراف وقد صرح في الأولى وكني في الثانية اه ولعل ما ذكرناه أولى فتأمل فأنجيناه وأهله أي من أختص به واتبعه من المؤمنين سواء من ذوي قرابته عليه السلام أم لا وقيل : ابنتاه ريثا ويغوثا وللأهل معان ولكل مقام مقال وهو عند الامام الأعظم رضي الله تعالى عنه في باب الوصية الزوجة للعرف ولقوله سبحانه : قال لأهله امكثوا وسار بأهله فتدفع الوصية لها إن كانت كتابية أو مسلمة وأجازت الورثة وعند الامامين أهل الزجل كل من في عياله ونفقته غير ممالكيه وورثته وقولهما كما في شرح التكملة استحسان وأيده ابن الكمال بهذ الآية لأنه لايصح فيها أن يكون بمعنى الزوجة أصلا لقوله سبحانه : إلا امرأته فانه استثناء من أهله وحينئذ لا يصح الاستثناء وأنت تعلم أن الكلام في المطلق على القرينة لا في الأهل مطلقا واسم امرأته عليه السلام واهلة وقيل : والهة كانت من الغابرين
38
- أي بعضا منهم فالتذكير للتغليب ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة وكانت تسر الكفر وتوالي أهله فهلكت كما هلكوا
وجوز أن يكون المعنى كانت مع القوم الغابرين فلا تغليب والغابر بمعنى الباقي ومنه قول الهذلي
فغبرت بعدهم بعيش ناصب
ويجيء بمعنى الماضي والذأهب ومنه قول الاعشى : في الزمن الغابر فهو من الاضداد كما في الصحاح وغيره ويكون بمعنى الهالك أيضا وفي بقاء امرأته مع أولئك القوم روايتان ثانيتهما أنه عليه السلام أخرجها مع أهله ونهاهم عن الالتفات فالتفتت هي فاصابها حجر فهلكت والآية هنا محتملة للأمرين
(8/0)

والحسنوالحسن وقتادة أن الغبور هنا بالبقاء في عذاب الله تعالى وسيأتي ان شاء الله تعالى تتمة لهذا الكلام والجملة استئناف وقع جوابا نشأ عن الاستثناء كأنه قيل : فما كان حالها فقيل كانت من الغابرين
وأمطرنا عليهم مطرا أي نوعا من المطر عجيبا وقد بينه قوله سبحانه : وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل وفي الخازن أن تلك الحجارة كانت معجونة بالكبريت والنار وظاهر الآية أنه أمطر عليهم كلهم وجاء في بعض الآثار أنه خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذادهم حتى أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقفت له حجرا أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه وفرق بين مطر وأمطر فعن أبي عبيدة أن الثلاثي في الرحمة والرباعي في العذاب ومثله عن الراغب وفي الصحاح عن أناس أن أمطرت السماء وأمطرت بمعنى وفي القاموس لايقال أمطرهم الله تعالى إلا في العذاب وظاهر كلام الكشاف في الأنفال الترادف كما في الصحاح لكنه قال : وقد كثر الامطار في معنى العذاب وذكر هنا أنه يقال : مطرتهم السماء وواد ممطور ويقال : أمطرت عليهم كذا أي ارسلته إرسال المطر وحاصل الفرق كما في الكشف ملاحظة معنى الاصابة في الأول والارسال في الثاني ولهذا عدي بعلى وذكر ابن المنير أن مقصود الزمخشري الرد على من يقول : إن مطرت في الخير وأمطرت في الشر ويتوهم إنها تفرقة وضعية فبين أن أمطرت معناه أرسلت شيئا على نحو المطر وإن لم يكن إياه حتى لو أرسل الله تعالى من السماء انواعا من الخير لجاز أن يقال فيه أمطرت السماء خيرا أي أرسلته ارسال المطر فليس للشر خصوصية في هذ الصيغة الرباعية ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا فظن أن الواقع اتفاقا مقصود في الوضع وليس به انتهى ويعلم منه كما في الشهاب أن كلام أبي عبيدة وأضرابه مؤول وان رد بقوله تعالى عارض ممطرنا فانه عنى به الرحمة ولا يخفى أنه لو قيل : ان التفرقة الاستعمالية انما هي بين الفعلين دون متصرفاتهما لم يتأت هذا الرد الا أن كلامهم غير صريح في ذلك ولعل البعض صرح بما يخالفه ثم ان مطرا إما مفعول به أو مفعول مطلق فانظر كيف كان عاقبة المجرمين
48
- أي مآل أولئك الكافرين المقترفين لتلك الفعلة الشنعاء وهذا خطاب لكل من يتأتى منه التأمل والنظر تعجبا من حالهم وتحذيرا من أفعالهم وقد مكث لوط عليه السلام فيهم على ما في بعض الآثار ثلاثين سنة يدعوهم الى ما فيه صلاحهم فلم يجيبوه وكان ابراهيم عليه السلام يركب على حماره فيأتيهم وينصحهم فيأبون أن يقبلوا فكان يأتي بعد أن أيس منهم فينظر الى سدوم ويقول سدوم أي يوم لك من الله تعالى سدوم حتى بلغ الكتاب أجله فكان ما قص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه و سلم وسيأتي ان شاء الله تعالى تفصيل ذلك
ثم ان لوطا عليه السلام كما أخرج اسحق بن بشر وابن عساكر عن الزهري لما عذب قومه لحق بابراهيم عليه السلام فلم يزل معه حتى قبضه الله تعالى اليه وفي هذه الآيات دليل على أن اللواطة من أعظم الفواحش
وجاء في خبر اخرجه البيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وصححه الحاكم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لعن الله تعالى سبعة من خلقه فوق سبع سموات فردد لعنة على واحد منهم ثلاثا ولعن بعد كل واحد لعنة لعنة فقال : ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط الحديث وجاء أيضا أربعة يصبحون في غضب الله تعالى ويمسون في سخط الله تعالى وعد منهم من يأتي الرجل وأخرج ابن أبي الدنيا وغيره عن
(8/172)

مجاهد رضي الله تعالى عنه ان الذي يعمل ذلك العمل لو اغتسل بكل قطرة من السماء وكل قطرة من الأرض لم يزل نجسا أي أن الماء لايزيل عنه ذلك الأثم العظيم الذي بعده عن ربه والمقصود تهويل أمر تلك الفاحشة
والحق بها بعضهم السحاق وبدأ أيضا في قوم لوط عليه السلام فكانت المرأة تأتي المرأة فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه إنما حق القول على قوم لوط عليه السلام حين استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال
وعن أبي حمزة رضي الله تعالى عنه قلت لمحمد بن علي عذب الله تعالى نساء قوم لوط بعمل رجالهم فقال : الله تعالى أعدل من ذلك استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء وآخرون اتيان المرأة في عجيزتها واستدل بما أخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال على المنبر : سلوني فقال ابن الكواء : تؤتى النساء في أعجازهن فقال كرم الله تعالى وجهه : سفلت سفل الله تعالى بك ألم تسمع قوله تعالى أتأتون الفاحشة الآية ولا يخفى أن ذلك لايتم إلا بطريق القياس والا فالفاحشة في الآية مبينة بما علمت نعم جاء في آثار كثيرة ما يدل على حرمة أتيان الزوجة في عجيزتها والمسألة كما تقدم خلافية والمعتمد فيها الحرمة
ولافرق في اللواطة بين أن تكون بين أن تكون بمملوك أو تكون بغيره واختلفوا في كفر مستحل وطء الحائض ووطء الدبر وفي التتارخانية نقلا عن السراجية اللواطة بمملوكه أو مملوكته أو امرأته حرام إلا أنه لو استحله لايكفر وهذا بخلاف اللواطة بأجنبي فانه يكفر مستحلها قولا واحدا وما ذكر مما يعلم ولا يعلم كما في الشرنبلالية يتجرأ الفسقة عليه بظنهم حله
واختلف في حد اللواطة فقال الامام : لاحد بوطء الدبر مطلقا وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه والظاهر على ما قاله البيري أنه يقتل في المرة الثانية لصدق التكرار عليه وقال الامامان : إن فعل في الاجانب حد كحد الزنا وإن في عبده أو أمته أو زوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حد اجماعا كما في الكافي وغيره بل يعزر في ذلك كله ويقتل من اعتاده وفي الحاوي القدسي وتكلموا في هذا التعزير من الجلد ورميه من أعلى موضع وحبسه في أنتن بقعة وغير ذلك سوى الاخصاء والجب والجلد أصح وفي الفتح يعزر ويسجن حتى يموت أو يتوب وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حد اللواطة القتل للفاعل والمفعول ورواه مرفوعا وفي رواية أخرى عنه أنه سئل ما حد اللوطي فقال : ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة قال في الفتح وكأن مأخذ هذا أن قوم لوط أهلكوا بذلك حيث حملت قراهم ونكست بهم ولاشك في اتباع الهدم بهم وهم نازلون وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه شيء بما قص الله تعالى في إهلاك قوم لوط عليه السلام بامطار الحجارة عليهم وصححوا أنها لا تكون في الجنة لأنه سبحانه اسقبحها وسماها فاحشة والجنة منزهة عن ذلك وفي الاشباه أن حرمتها عقلية فلا وجود لها في الجنة وقيل : سمعية فتوجد أي فيمكن أن توجد وكأنه أراد بالحرمة هنا القبح اطلاقا لاسم السبب على المسبب أي أن قبحها عقلي بمعنى أنه يدرك بالعقل وان لم يرد به الشرع وليس هذا مذهب المعتزلة كما لا يخفى ونقل الجلال السيوطي عن ابن عقيل الحنبلي قال جرت هذه المسئلة بين أبي على بن الوليد المعتزلي وبين أبي يوسف القزويني فقال بن الوليد : لايمنع أن يجعل ذلك من جملة اللذات في الجنة لزوال المفسدة لأنه أنما منع في الدنيا لما فيه من قطع النسل وكونه محلا للاذى وليس في الجنة ذلك ولهذا أبيح شرب الخمر لما ليس فيه من السكر والعربدة
(8/173)

وزوال العقل بل اللذة الصرفة فقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه الميل إلى الذكور عاهة وهو قبيح في نفسه لأنه محل لم يخلق للوطء ولهذا لم يبح في شريعة بخلاف الخمر فقال ابن الوليد هو قبيح وعاهة للتلويث بالأذى ولا أذى في الجنة فلم يبق إلا مجرد الالتذاذ انتهى وأنا أرى أن إنكار قبح اللواطة عقلا مكابرة ولهذا كانت الجاهلية تعير بها ويقولون في الذم فلان مصفر استه ولا أدري هل يرضى ابن الوليدلنفسه أن يؤتى في الجنة أم لا فان رضي اليوم أن يؤتى غدا فغالب الظن أن الرجل مأبون أو قد ألف ذلك وإن لم يرض لزمه الاقرار بالقبح العقلي وإن ادعى ان عدم رضائه لأن الناس قد اعتادوا التعيير به وذلك مفقود في الجنة قلنا له يلزمك الرضا به في الدنيا إذا لم تعير ولم يطلع عليك أحد فان التزمه فهو كما ترى ولاينفعه ادعاء الفرق بين الفاعل والمفعول كما لايخفى على الأحرار وصرحوا بأن حرمة اللواطة أشد من حرمة الزنا لقبحها عقلا وطبعا وشرعا والزنا ليس بحرام كذلك وتزول حرمته بتزويج وشراء بخلافها وعدم الحد عند الامام لا لخفتها بل للتغليظ لأن مطهر على قوول كثير من العلماء وإن كان خلاف مذهبنا وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالاكثار منها ومنهم من يفعلها أخذا للثأر ولكن من أين ومنهم من يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول وذلك لأنهم نالوا الصدارة باعجازهم نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة واعلم أن للواطة أحكاما أخر فقد قالوا إنه لايجب بها المهر ولا العدة في النكاح الفاسد ولا في المأتي بها لشبهة ولا يحصل بها التحليل للزوج الأول ولا تثبت بها الرجعة ولا حرمة المصاهرة عند الأكثر ولا الكفارة في رمضان في رواية ولو قذف بها لايحد ولا يلاعن خلافا لهما في المسألتين كما في البحر أخذا من المجتبي وفي الشرنبلالية عن السراج يكفي في الشهادة عليه عدلان لا أربعة خلافا لهما أيضا وهذا ولم أقف للسادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم على ما هو من باب الاشارة في قصة قوم لوط عليه السلام وذكر بعضهم في قصة قوم صالح عليه السلام بعد الايمان بالظأهر أن الناقة هي مركب النفس الانسانية لصالح عليه السلام ونسبتها اليه سبحانه لكونها مأمورة بأمره عز و جل مختصة به في طاعته وقربه وما قيل إن الماء قسم بينها وبينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم اشارة إلى أن مشربهم من القوة العاقلة العملية ومشربه من القوة العاقلة النظرية وماروي أنها يوم شربها كانت تتفحج فيحلب منها اللبن حتى تملأ الأواني اشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر من علومه الكلية الفطرية العلوم النافعة للناقصين من علوم الاخلاق والشرائع وحروجها من الجبل خروجها من بدن صالح عليه السلام
وقال آخرون ان الناقة كانت معجزة صالح عليه السلام وذلك أنهم سألوه أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر فخرجت فسقيت سر السر فأعطت بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الألهية ثم قال لهم ذروها ترتع في رياض القدس وحياض الانس ولاتمسوها بسوء من مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة فيأخذكم عذاب أليم وهو عذاب الانقطاع عن الوصول الى الحقيقة واذكروا إذ جعلكم خلفاء أي مستعدين للخلافة وبوأكم في الأرض أي أرض القلب تتخذون من سهولها وهي المعاملات بالصدق قصورا تسكنون فيها وتنحتون الجبال وهي جبال أطوار القلب بيوتا هي مقامات السائرين إلى الله تعالى
قال الملأ الذين استكبروا وهي الاوصاف البشرية والاخلاق الذميمة للذين استظعفوا من أوصاف القلب والروح أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ليدعو إلى الأوصاف النورانية فعقروا الناقة بسكاكين
(8/174)

المخالفة فأخذتهم الرجفة لضعف قلوبهم وعدم قوة علمهم فاصبحوا في دارهم جاثمين موتى لاحراك بهم إلى حضيرة القدس
وذكر البعض أن الناقة والسقب صورتا الايمان بالله تعالى والايمان برسوله عليه الصلاة و السلام وقد ظهرا بالذات وبالواسطة من الحجر الذي تشبهه قلوب القوم وعقرهم الناقة من قبيل ذبح يحيى عليه السلام للموت الظاهر في الكبش يوم القيامة وفي ذلك دليل على انهم أسوأ الناس استعدادا وأتمهم حرمانا ويدل على سوء حالهم أن الشيخ الأكبر قدس سره لم ينظمهم في فصوص الحكم في سلك قوم نوح عليه السلام حيث حكم لهم بالنجاة على الوجه الذي ذكره وكذا لم ينظم في ذلك السلك قوم لوط عليه السلام وكأن لمزيد جهلهم وبعدهم عن الحكمة واتيانهم البيوت من غير أبوابها وقذارتهم ودناءة نفوسهم والذي عليه المتشرعون أن أولئك الاقوام كلهم حصب جهنم لاناجي فيهم والله تعالى أحكم الحاكمين
وإلى مدين أخاهم شعيبا عطف على ما مر والمراد أرسلنا إلى مدين الخ ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن ابراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمةثم سميت به القبيلة وقيل : هو عربي اسم لماء كانوا عليه وقيل : اسم بلد ومنع صرفه للعلمية والتأنيث فلابد من تقدير مضاف حينئذ أي أهل مدين مثلا أو المجاز والياء على هذا عند بعض زائدة وعن ابن بري الميم زائدة إذ ليس في كلامهم فعيل وفيه مفعول
وقال آخرون إنه شاذ كمريم إذ القياس اعلاله كمقام وعند المبرد ليس بشاذ قيل وهو الحق لجريانه على الفعل وشعيب قيل تصغير شعب بفتح فسكون اسم جبل أو شعب بكسر فسكون الطريق في الجبل واختير أنه وضع مرتجلا هكذا والقول بأن القول بالتصغير باطل لأن أسماء الانبياء عليهم الصلاة والسلام لايجوز تصغيرها فيه نظر لأن الممنوع التصغير بعد الوضع لا المقارن له ومدعي ذلك قد يدعي هذا وهو على ما وجد بخط النووي في تهذيبه ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن أبراهيم عليه السلام وقيل : ابن ميكيل بن يشجر بن لاوي ابن يعقوب وبعضهم يقول : ميكائيل بدل ميكيل ونقل ذلك عن خط الذهبي في اختصار المستدرك وآخر يقول ملكاني بدله
وذكر أن أم ميكيل بنت لوط عليه السلام واخرج ابن عساكر من طريق اسحق بن بشر عن الشرقي ابن القطامي وكان نسابة أن شعيبا هو يثروب بالعبرانية وهو ابن عيفاء بن يوبب بمثناة تحتية أوله وواو وموحدتين بوزن جعفر بن ابراهيم عليه السلام وقيل : في نسبه غير ذاك وكان النبي صلى الله عليه و سلم كما أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا ذكر شعيب يقول : ذلك خطيب الانبياء لحسن مراجعته لقومه أي محاورته لهم وكأنه كما قيل عنى عليه الصلاة و السلام ما ذكر في هذه السورة كما يعلم بالتأمل فيه وبعث رسولا إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة قال السدي وعكرمة رضي الله تعالى عنهما ما بعث الله تعالى نبيا مرتين إلا شعيبا مرة إلى مدين فاخذهم الله تعالى بالصيحة ومرة إلى أصحاب الأيكة فاخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة
وأخرج ابن عساكر في تأريخه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا أن قوم مدين وأصحاب الايكة امتان بعث الله تعالى اليهما شعيبا وهو كما قال ابن كثير غريب وفي رفعه نظر واختار أنهما أمة واحدة
(8/175)

واحتجواحتج له بن كلا منهما وعظ بوفاء المبزان والمكيال وهو يدل على أنهما واحدة وفيه الايخفى ومن الناس من زعم أنه عليه السلام بعث إلى ثلاث أمم والثالثة أصحاب الرس والقول بأنه عليه السلام كان أعمى لاعكاز له يعتمد عليه بل قد نص العلماء ذوو البصيرة على أن الرسول لابد أن يكون سليما من منفر ومثلوه بالعمى والبرص والجذام ولا يرد بلاء أيوب وعمى يعقوب بناء على أنه حقيقي لطروه بعد الانباء والكلام فيما قارنه والفرق أن هذا منفر بخلافة فيمن استقرت نبوته وقد يقال : إن صح ذلك فهو من هذا القبيل
قال استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية ارساله اليهم كأنه قيل : فماذا قال لهم فقيل قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره مر تفسيره قد جاءتكم بينة من ربكم أي معجزة عظيمة ظاهرة من مالك أموركم ولم تذكر معجزته عليه السلام في القرءان العظيم كما لم تذكر أكثر معجزات نبيا صلى الله عليه و سلم والانبياء عليهم السلام فيه
والقول : بأنه لم يكن له عليه السلام معجزة غلط لأن الفاء في قوله سبحانه : فأفوا الكيل والميزان لترتيب الأمر على مجيء البينة واحتمال كونها عاطفة على اعبدوا بعيد وان كانت عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها بعد الكفر البخس فكأنه قيل : قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الايمان بها والأخذ بما أمرتكم به فأوفوا الخ ولو ادعى مدع النبوة بغير معجزة لم تقبل منه لأنها دعوى أمر غير ظاهر وفيه الزام للغير ومثل ذلك لايقبل من غير بينة ومن الناس من زعم أن البينة نفس شعيب ومنهم من زعم أن المراد بالبينة الموعظة وأنها نفس فاوفوا الخ وليس بشيء كما لايخفى وقال الزمخشري : إن من معجزاته عليه السلام ماروي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين حين دفع اليه غنمه وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن يكون له الدرع من اولادها ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب اه
وفيه نظر لأن ذلك متأخر عن المقاولة فلا يصح تفريع الأمر عليه ولأنه يحتمل أن يكون كرامة لموسى عليه السلام أو ارهاصا لنبوته بل في الكشف أن هذا متعين لأن موسى أدرك شعيبا عليه السلام بعد هلاك قومه ولأن ذلك لم يكن معرض التحدي
وزعم الامام أن الارهاص غير جائز عند المعتزلة ولهذا جعل ذلك معجزة لشعيب عليه السلام نظر فيه الطيبي بان الزمخشري قال في آل عمران في تكليم الملائكة عليه السلام لمريم إنه معجزة لزكريا أو ارهاص لنبوة عيسى عليهما السلام والمراد بالكيل ما يكال به مجازا كالعيش بمعنى ما يعاش به ويؤيده أنه قد وقع في سورة هو المكيال وكذا عطف الميزان عليه هنا فان المتبادر منه الآلة وإن كاز كونه مصدرا بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد وقيل : إن الكيل وما عطف عليه مصدران والكلام على الاضمار أي أوفوا آلة الكيل والوزن ولاتبخسوا الناس أي لاتنقصوهم يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه ومنه قيل للمكس البخس وفي أمثالهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي ذات بخس وتعدى إلى مفعولين أولها الناس والثاني أشياءهم الكائنة في المبايعات من الثمن والمبيع وفائدة التصريح بالنهي عن النقص بعد الأمر بالايفاء تأكيد ذلك الأمر
(8/176)

وبيانوبيان قبح ضده وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فانهم كانوا مكاسين لايدعون شيئا الا مكسورا
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه الجياد ويقولون دراهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس وروي أنهم يعطونه أيضا بدلها زيوفا فكأنه لما نهو عن البخس في الكيل والوزن نهوا عن البخس والمكس في كل شيء قيل : ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه للسائل عنه وكثير ممن انتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس وليتهم قنعوا به بل جمعوا حشفا وسوء كيلة فانا لله وإنا اليه راجعون
وبدأ عليه السلام بذكر هذه الواقعة على ما قال الامام لأن عادة الأنبياء عليهم السلام أنهم إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد اقبالا أكثر من إقبالهم على سائر الأنواع بدأوا بمنعهم عن ذلك النوع وكان قومه عليه السلام مشغولين بالبخس والتطفيف أكثر من غيره والمراد من الناس ما يعمهم وغيرهم أي لاتبخسوا غيركم ولا يبخس بعضكم بعضا ولاتفسدوا في الأرض بالجور او به وبالكفر بعد اصلاحها أي اصلاح أمرها أو أهلها بالشرائع فالاضافة من اضافة المصدر إلى مفعوله بحذف المضاف والفاعل الأنبياء وأتباعهم
وجوز أن لايقدر مضاف ويعتبر التجوز في النسبة الايقاعية لأن اصلاح من في الأرض اصلاح لها وأن تكون الاضافة من اضافة المصدر إلى الفاعل على الاسناد المجازي للمكان وأن تكون على معنى في أي بعد اصلاح الانبياء فيها ويأبى الحمل على الظاهر لأن الاصلاح يتعلق بالأرض نفسها كتعميرها واصلاح طرقها لاتفسدوا في الأرض ذلكم خير لكم إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والافساد أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه وأياما كان فافراد اسم الاشارة وتذكيره ظاهر
ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو في الانسانية وحسن الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والتربح لأن الناس إذا عرفوهم بالأمانة رغبوا في معاملتهم ومتاجرتهم وقيل : ليس المراد من خير هنا معنى الزيادة لأنه ليس للتفضيل بل المعنى ذلكم نافع لكم إن كنتم مؤمنين
58
- قيل المراد بالايمان معناه اللغوي وتخص الخيرية بأمر الدنيا أي ان كنتم مصدقين لي في قولي ومثل هذا الشرط على ما قال الطيبي إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد ويعلم من هذا أن شعيبا عليه السلام كان مشهورا عندهم بالصدق والأمانة كما كان نبينا صلى الله عليه و سلم مشهورا عند قومه بالأمين وقال بعض الذاهبين إلى ما ذكر : إن تعليق الخيرية على هذا التصديق بتأويل العلم بها وإلا فهو خير مطلقا
وقال القطب الرازي : إن ذلك ليس شرطا للخيرية نفسها بل لفعلهم كأن قيل فاتوا به ان كنتم مصدقين بي فلا يرد أنه لاتوقف للخيرية في الانسانية على تصديقهم به وقيل : المراد به مقابل الكفر وبالخيرية ما يشمل أمر الدنيا والآخرة أي ذلكم خير لكم في الدارين بشرط أن تؤمنوا وشرط الايمان لأن
(8/177)

الفائدة من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ظاهرة مع الايمان خفية مع فقده للانغماس في غمرات الكفر وبنى بعضهم نفع ترك البخس ونحوه في الآخرة على أن الكفار يعذبون على المعاصي كما يعذبون على الكفر فيكون الترك خيرا لهم بلا شبهة لكن لايخفى أنه إذا فسر الافساد في الأرض بالافساد فيها بالكفر لايكون لهذا التعليق على الايمان معنى كما لايخفى واخراجه من حيز الاشارة بعيد جدا
وزعم الخيالي أن الأظهر أن ذلكم خير لكم معترضة والشرط متعلق بما سبق من الأوامر والنواهي وكأنه التزم ذلك لخفاء امر الشرطية عليه وقد فر من هرة ووقع في أسد وهرب من القطر ووقف تحت الميزاب فاعتبروا يا أولي الالباب
ولاتقعدوا بكل صراط أي طريق من الطرق الحسية توعدون أي تخوفون من آمن بالقتل كما نقل عن الحسن وقتادة ومجاهد وروي عن ابن عباس أن بلادهم كانت يسيرة وكان الناس يمتازون منهم فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ويقولون لهم إنه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم
ويجوز أن يكون القعود على الصراط خارجا مخرج التمثيل كما فيما حكي عن قول الشيطان : لأقعدن لهم صراطك المستقيم أي ولا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين كالشيطان واليه يشير ما روي عن مجاهد أيضا والكلية مع أن دين الله الحق واحد باعتبار تشعبه إلى معارف وحدود وأحكام وكانوا إذا رأوا أحدا يشرع في شيء منها منعوه بكل ما يمكن من الحيل وقيل : كانوا يقطعون الطريق فنهوا عن ذلك وروي ذلك عن أبي هريرة وعبد الرحمن بن زيد ولعل المراد به ما يرجع الى أحد القولين الأولين وإلا ففيه خفاء وإن قيل : إن في الآية عليه مبالغة في الوعيد وتغليظ ما كانوا يرومونه من قطع السبيل
وتصدون عن سبيل الله أي الطريق الموصلة اليه وهي الايمان أو السبيل الذي قعدوا عليه فوضع المظهر موضع المضمر بيانا لكل صراط دلالة على عظم ما تصدق عليه وتقبيحا لما كانوا عليه وقوله سبحانه : من ءامن به مفعول تصدون على اعمال الاقرب لا توعدون خلافا لما يوهمه كلام الزمخشري إذ يجب عند الجمهور في مثل ذلك حينئذ اظهار ضمير الثاني ولا يجوز حذفه إلا في ضرورة الشعر فيلزم أن يقال : تصدونهم وإذا جعل تصدون بمعنى تعرضون يصير لازما ولا يكون مما نحن فيه وضمير به لله تعالى أو لكل صراط أو سبيل الله تعالى لأن السبيل يذكر ويؤنث كما قيل وجملة توعدون وما عطف عليه في موضع الحال من ضمير تقعدوا أي موعدين وصادين وقيل : هي على التفسير الاول استئناف بياني والاظهر ما ذكرنا تبغونها عوجا أي وتطلبون لسبيل الله تعالى عوجا بالقاء الشبه اؤ بوصفها للناس بما ينقصها وهي أبعد من شائبة الاعوجاج : وهذا اخبار فيه معنى التوبيخ وقد يكون تهكما بهم حيث طلبوا ما هو محال إذ طريق الحق لايعوج وفي الكلام ترق كانه قيل : ما كفاكم أنكم توعدون الناس على متابعة الحق وتصدونهم عن سبيل الله تعالى حتى تصفونه بالاعوجاج ليكون الصد بالبرهان والدليل وعلى ما روي عن أبي هريرة وابن زيد جاز أن يراد بتبغونها عوجا عيشهم في الأرض واعوجاج الطريق عبارة عن فوات أمنها
وذكر الطيبي أن معنى هذا الطلب حينئذ معنى اللام في قوله سبحانه : ليكون لهم عدوا وحزنا وعلى
(8/178)

سائر الاوجه في الكلام الحذف والايصال
واذكروا إذ كنتم قليلا عددكم 0 فكثركم فوفر عددكم بالبركة في النسل عن ابن عباس وحكي أن مدين بن ابراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى في نسلها البركة والنماء فكثروا وفشوا
وجوز الزجاج أن يكون المعنى إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين أو كنتم أقله أذلة فاعزكم بكثرة العدد والعدد و إذ مفعول اذكروا أو ظرف لمقدر كالحادث أو النعم أي أذكروا ذلك الوقت أو ما فيه وأنظروا كيف كان عاقبة المفسدين
68
- أي آخر أمر من أفسد قبلكم من الامم كقوم نوح وعاد وثمود واعتبروا بهم وإن كان طائفة منكم ءامنوا بالذي أرسلت به من الشرائع والاحكام وطائفة لم يؤمنوا به أو لم يفعلوا الايمان فاصبروا حتى يحكم الله بيننا خطاب للكفار ووعيد لهم أي تربصوا لترواحكم الله تعالى بيننا وبينكم فانه سبحانه سينصر المحق على المبطل ويظهره عليه أو هو خطاب للمؤمنين وموعظة لهم وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله تعالى بينهم وينتقم لهم منهم ويجوز أن يكون خطابا للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوؤهم من ايمان من آمن منهم حتى يحكم فيميز الخبيث من الطيب والظاهر الاحتمال الأول وكان المقصود ان ايمان البعض لاينفعكم في دفع بلاء الله تعالى وعذابه وهو خير الحاكمين
78
- اذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه فهو في غاية السداد 9
(8/179)

بسم الله الرحمن الرحيم قال الملأ الذين استكبروا من قومه استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل له : فماذا قالوا له عليه السلام بعدما سمعوا منه هذه المواعظ فقيل : قال أشراف قومه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غير مكتفين بمجرد الأستعصاء بل بالغين من العتو مبلغا عظيما لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا بغضا لكم ودفعا لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار والتأكيد القسمى للمبالغة والاعتناء بالحكم و معك متعلق بالاخراج لا بالأيمان ونسبة الأخراج إليه عليه السلام أولا وإلى المؤمنين ثانيا للتنبيه على أصالته عليه السلام في ذلك وتبعيتهم له فيه وتوسيط النداء باسمه العلي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان وقوله تعالى : أو لتعودن في ملتنا عطف على جواب القسم أي والله ليكونن أحد الأمرين البتة الاخراج أو العود على أن المقصد الأهم هو العود وإنما ذكر الأول لمجرد القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام بجواب الأخراج والمتبادر من العود الرجوع إلى الحالة الأولى وهذا مما لايمكن في حق شعيب عليه السلام لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عما دون الكفر بمراتب نعم هو ممكن في حق من آمن به فاسناده إليه عليه السلام من باب التغليب قيل : وقد غلب عليه المؤمنون هنا كما غلب هو عليهم في الخطاب فيكون في الآية حينئذ تغليبان وقال غير واحد : أن تعود بمعنى تصير كما أثبته بعض النحاة واللغويين فلا يستدعي العود إلى حالة سابقة وعلى ذلك قوله : فإن لم تك الايام تحسن مرة إلى فقد عادت لهن ذنوب فكأنهم قالوا : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن مثلنا فحينئذ لاإشكال ولا تغليب وكذا يقال فيما بعد وهو حسن ولا يأباه إذ نجانا الله منها لإحتمال أن يقال بالتغليب فيه أو يقال إن التنجية لايلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه ألا ترى إلى قوله سبحانه : فأنجيناه وأهله وأمثاله
وقال ابن المنير على إحتمال تسليم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق يجاب بأنه على نهج قوله تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فإن الإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه وهو غير متحقق في المؤمن والكافر الأصليين لكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الإختيارية التي خلق الله تعالى العبد ميسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده عبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله عنه إلى الإيمان اختيارا بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من الله تعالى له ولطفا به وبالعكس في حق الكافر ويأتي نظير ذلك في قوله
(9/2)

تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وهذا من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والإختيار لإقامة حجة الله تعالى على عباده
وقيل : إن هذا القول كان جاريا على ظنهم أنه عليه السلام كان في ملتهم لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم أو أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس وإبهاما لأنه كان على دينهم وما صدر عنه عليه السلام في أثناء المحاورة وقع على طريق المشاكلة وذكر الشهاب احتمالا آخر في الجواب وهو أن الظاهر أن العود هو المقابل للخروج إلى ما خرج منه وهو القرية والجار والمجرور في موضع الحال أي ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها كائنين في ملتنا فينحل الإشكال من غير حاجة إلى ما تقدم ولا يخفى بعده وإنما لم يقولوا أو لنعيدكم على طريقة ما قبله لما أن مرادهم أن يعودوا بصورة الطواعية حذر الإخراج عن الوطن باختيار أهون الشرين لاإعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب ومن الناس من زعم أن تعودن لايصلح أن يكون جوابا بالقسم لأنه ليس فعل المقسم وجعل ما أشرنا إليه أولى في بيان المعنى مخلصا من ذلك وهو باطل لأنه يقتضي أن القسم لا يكون على فعل الغير ولم يقل أحد به وقد شاع نحو والله ليضربن زيد من غير نكير وعدى العود بفي إيماء إلى أن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم قال استئناف كنظائره أي قال شعيب عليه السلام ردا لمقالتهم الباطلة وتكذيبا لهم في أيمانهم الفاجرة : أولو كنا كارهين
88
- على أن الهمزة لأنكار الوقوع ونفيه والواو للعطف على محذوف وقد يقال : لها في مثل هذا الموضع واو الحال أيضا و لو هي التي يؤتى بها لبيان ما يفيده الكلام السابق بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بادخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو إنتفاؤه مع ماعداه من الأحوال بطريق الأولوية والكلام ههنا في تقدير أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غير مبالين بالاكراه فالجملة في موضع الحال من ضمير الفعل المقدر والمآل أنعود فيها حال عدم الكراهة وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتهم الشنيعة باطلاقها من العود على أي حالة غير أنه اكتفى بذكر الحالة التي هي أشد الأحوال منافاة للعود وأكثرها بعدا منه تنبيها على أنها هي الواقعة في نفس الأمر وثقة بإغنائها عن ذكر الأولى إغناءا واضحا لأن العود الذي تعلق به الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم فلأن يتحقق مع عدمها أولى وهذا بعض مما ذكره شيخ الإسلام في هذا المقام وقد أطنب فيه الكلام وأتى بالنقض والإبرام فارجع إليه وقد جوز أن يكون الإستفهام باقيا على حاله وجعل بعضهم الهمزة بمعنى كيف ووجه التعجب إلى العود أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها وتقدير فعل العود لقوة دلالةالكلام عليه أولى من تقدير فعل الإعادة كما فعل الزمخشري وفي التيسير تقدير فعل الإخراج أي تخرجوننا من غير ذنب ونحن كارهون لمفارقة الأوطان وقد وجه بأن العود مفروغ عنه لا يتصور من عاقل فلا يكون إلا الإخراج ولا يخفى ضعف هذا التقدير
وذكر أبو البقاء أن لو هنا بمعنى أن لأنها للمستقبل وجوز أن تكون على أصلها وماأشار إليه شيخ الإسلام في هذا المقام أبعد مغزى فليتأمل قد افترينا على الله كذبا عظيما لايقادر قدره
(9/3)

إن عدنا في ملتكم التي هي الشرك وزعمنا كما زعمتم أن لله سبحانه ندا تعالى ذلك علوا كبيرا
بعد إذ نجانا الله منها وعلمنا بطلانها وأن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي إن عدنا في ملتكم فقد افترينا واستشكل ذلك بأن الظاهر فيما إذا كان الجواب مثل ما ذكر أن يتعلق ظهوره والعلم به بالشرط نحو إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل و إلا تنصروه فقد نصره الله وإن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس والمقصود هنا تقييد نفس الإفتراء بالعود ولفظ قد وصيغة الماضي يمنعانه والجواب ما أشار إليه الزمخشري من أنه من باب الإخراج لا على مقتضى الظاهر وإيثار قد والماضي الدالين على التأكيد إما لأنه جواب قسم مقدر أو لأنه تعجب على معنى ما أكذبنا أن عدنا الخ ووجه التعجب أن المرتد أبلغ في الإفتراء من الكافر لأن الكافر مفتر على الله تعالى الكذب حيث يزعم أن الله سبحانه ندا ولا ند له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد تبين له ماخفى عليه من التمييز بين الحق والباطل والحمل على التعجب على ما في الكشف أولى لأن حذف اللام ضعيف وجوز أبو حيان تبعا لابن عطية أن يكون الفعل المذكور قسما كما يقال برئت من الله تعالى إن فعلت كذا وكقول مالك بن الأشتر النخعي : أبقيت وفرى وانحرفت عن العلا ولقيت أضيافي بوجه عبوس إن لم أشن على ابن هند غارة لم تخل يوما من ذهاب نفوس وهذا نوع من أنواع البديع وقد ذكره غير واحد من أصحاب البديعيات ومثله عزالدين الموصلي بقوله : برئت من سلفي والشم من هممي إن لم أدن بتقى مبرورة القسم والباعونية بقولها : لا مكنتني المعالي من سيادتها إن لم أكن لهم من جملة الخدم وما يكون لنا أي ما يصح لنا وما يقع فيكون تامة وقد يأتي ذلك بمعنى ما ينبغي وما يليق
أن نعود فيها في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات إلا أن يشاء الله ربنا أي إلا حال أو وقت مشيئة الله لعودنا والتعرض لعنوان الربوبية للتصريح بأنه المالك الذي لا يسأل عما يفعل
وسع ربنا كل شيء علما فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة ومشيئته على موجب الحكمة فكل ما يقع مشتمل عليها وهذا إشارة إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه فإنه لايأمن مكر الله إلا القوم الكافرون وفيه من الانقطاع إلى الله تعالى ما لايخفى ويؤكد ذلك قوله تعالى : على الله توكلنا فإن التوكل عليه سبحانه إظهار العجز والاعتماد عليه جل شأنه وإظهار الاسم الجليل للمبالغة وتقديم المعمول لإفادة الحصر وفي الآية دلالة على أن الله تعالى أن يشاء الكفر
وادعى شيخ الإسلام أن المراد إستحالة وقوع ذلك كأنه قيل : وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله تعالى العود وهيهات ذلك ولايكاد يكون كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية وقولهم : بعد إذ نجانا الله فإن تنجيته تعالى إياهم منها من دلائل عدم مشيئته سبحانه لعودهم فيها وفرع على قوله تعالى : وسع الخ بعد أن فسره بما فسره محالية مشيئته العود لكن لطفا وهو وجه في الآية ولعل ما ذهبت إليه فيها أولى ولا يرد على تقدير العود مفعولا للمشيئة أنه ليس لذكر سعة العلم بعد حينئذ كبير معنى بل كان المناسب ذكر شمول
(9/4)

الإرادة وأن الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى لما لايخفى ولا يحتاج إلى القول بأن ذلك منه عليه السلام رد لدعوى الحصر باحتمال قسم ثالث والزمخشري بنى تفسيره على عقيدته الفاسدة من وجوب رعاية الصلاح والأصلح وأن الله تعالى لايمكن أن يشاء الكفر بوجه لخروجه عن الحكمة واستدل بقوله سبحانه : وسع الخ ورده ابن المنير بأن موقع ما ذكر الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة والاطلاع على الأمور الغائبة ونظير ذلك قول إبراهيم عليه السلام : ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما فإنه عليه السلام لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة مجد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات انتهى وإلى كون المراد من الإستثناء التأبيد ذهب جعفر بن الحرث والزجاج أيضا وجعلوا ذلك كقول الشاعر : إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب وأنت خبير بأن ذلك مخالف للنصوص النقلية والعقلية وللعبارة والإشارة وقال الجبائي والقاضي : المراد بالملة الشريعة وفيها ما لايرجع إلى الإعتقاد ويجوز أن يتعبد الله تعالى عباده به ومفعول المشيئة العود إلى ذلك أي ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله تعالى عودنا بأن يتعبدنا بها وينقلنا إليها وينسخ ما نحن فيه من الشريعة وقيل : المراد إلا أن يشاء الله تعالى أن يمكنكم من إكراهنا ويخلى بينكم وبينه فنعود إلى إظهار ملتكم مكرهين وقوى بسبق أو لو كنا كارهين
وقيل : إن الهاء في قوله سبحانه فيها يعود إلى القرية لا الملة فيكون المعنى أنا سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم والظفر بكم فنعود فيها وقيل : إن التقدير إلا أن يشاء الله أن يردكم إلى الحق فنكون جميعا على ملة واحدة ولا يخفى أن كل ذلك مما يضحك الثكلى وبالجملة الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة وسبحان من سد باب الرشد عن المعتزلة
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق اعراض عن مفاوضتهم أثر ما ظهر من عتوهم وعنادهم وإقبال على الله تعالى بالدعاء والفتح بمعنى الحكم والقضاء لغة لحمير أو لمراد والفتاح عندهم القاضي والفتاحة بالضم الحكومة
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : الفتح القضاء لغة يمانية وأخرج البيهقي وجماعة عن ابن عباس قال : ما كنت أدري ما قوله ربنا افتح حتى سمعت ابنة ذي يزن وقد جرى بيني وبينها كلام فقالت أفاتحك تريد أقاضيك و بيننا منصوب على الظرفية والتقييد بالحق لأظهار النصفة وجوز أن يكون مجازا عن البيان والإظهار واليه ذهب الزجاج ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيها له بفتح الباب وإزالة الإغلاق حتى يوصل إلى ما خلفها وبيننا على ماقيل مفعول به بتقدير ما بيننا وأنت خير الفاتحين
98
- أي الحاكمين لخلو حكمك عن الجور والحيف أو المظهرين لمزيد علمك وسعة قدرتك والجملة تذييل مقرر لمضمون ماقبله
وقال الملأ الذين كفروا من قومه عظف على قال الملأ الخ والمراد من هؤلاء الملأ يحتمل أن يكون اولئك المستكبرين وتغيير الصلة لما أن مناط قولهم السابق هو الإستكبار ويكون هذا حكاية لإضلالهم بعد حكاية ضلالهم على ما قيل ويحتمل أن يكون غيرهم ودونهم في الرتبة شأنهم الوساطة بينهم وبين العامة والقيام بأمورهم حسبما يراه المستكبرون أي قالوا لأهل ملتهم تنفيرا لهم وتثبيطا عن الإيمان بعد أن شاهدوا صلابة شعيب عليه السلام ومن معه من المؤمنين فيه وخافوا أن يفارقوهم لئن اتبعتم شعيبا
(9/5)

ودخلتم في ملته وفارقتم ملة آبائكم إنكم اذا لخاسرون
9
- أي مغبونون لإستبدالكم الضلالة بالهدى ولفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف فالخسران على الأول استعارة وعلى الثاني حقيقة وإلى تفسير الخاسرين بالمغبونين ذهب ابن عباس وعن عطاء تفسير بالجاهلين وعن الضحاك تفسيره بالفجرة وإذا حرف جواب وجزاء معترض كما قال غير واحد بين إسم إن وخبرها وقيل : هي إذا الظرفية لإستقبالية وحذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين ورده أبو حيان بأنه لم يقله أحد من النحاة والجملة جواب للقسم الذي وطأته اللام بدليل عدم الإقتران بالفاء وسادة مسد جواب الشرط وليست جوابا لهما معا كما يوهمه كلام بعضهم لأنه كما قيل مع مخالفته للقواعد النحوية يلزم فيه أن يكون جملة واحدة لها محل من الإعراب ولا محل لها وإن جاز باعتبارين فأخذتهم الرجفة أي الزلزلة كما قال الكلبي وفي سورة هود وأخذت الذين ظلموا الصيحة أي صيحة جبريل عليه السلام ولعلها كانت من مبادي الرجفة فأسند إهلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى وقال بعضهم : إن القصة غير واحدة فإن شعيبا عليه السلام بعث إلى أمتين أهل مدين وأهل الأيكة فأهلكت إحداهما بالرجفة والأخرى بالصيحة وفيه أنه إنما يتم لو لم يكن هلاك أهل مدين بالصيحة والمروي عن قتادة أنهم الذين أهلكوا بها وأن أهل الأيكة أهلكوا بالظلة
وجاء في بعض الآثار أن أهل مدين أهلكوا بالظلة والرجفة فقد روي عن ابن عباس وغيره في هذه الآية إن الله تعالى فتح عليهم بابا من جهنم فأرسل عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حرا من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم فوجدوا لها بردا فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبيانهم فألهبها عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا ويشكل على هلاكهم جميعا نساء ورجالا مانقل عن عبدالله البجلي قال : كان أبو جاد وهوز وحطى وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام كلمن فلما هلك يوم الظلة رثته ابنته بقولها : كلمن قد هد ركني هلكه وسط المحلة سيد القوم أتاه الحتف نار تحت ظلة جعلت نار عليهم دارهم كالمضمحلة اللهم إلا أن يقال : إنها كانت مؤمنة فنجت وقد يقال : إن هذا الخبر مما ليس له سند يعول عليه
فأصبحوا في دارهم جاثمين
19
- تقدم نظيره الذين كذبوا شعيبا استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم : لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى : كأن لم يغنوا فيها أي لم يقيموا في دارهم وقال قتادة : المعنى كأن لم يعيشوا فيها مستغنين وذكر غير واحد أنه يقال : غنى بالمكان يغني غنى وغنيانا إذا أقام به دهرا طويلا وقيده بعضم بالإقامة في عيش رغد وقال ابن الأنباري كغيره : إنه من الغنى ضد الفقر كما في قول حاتم : غنينا زمانا بالتصعلك والغنى فكلا سقاناه بكأسهما الدهر فما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
(9/6)

وعلى هذا تفسير قتادة ورد الراغب غنى بمعنى أقام إلى هذا المعنى فقال : بالمكان طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره وقول بعضهم في بيان الآية : إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل : الذين كذبوا شعيبا هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد وهذا مراد من قال بالإختصاص في الآية وقيل : إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الإختصاص نحو الله يبسط الرزق والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا إلا هلاك المكذبين ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية اخراجا لا دخولا بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه وقوله تعالى : الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين
29
- استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير واستفادة الحصر هنا أوضح من استفادته فيما تقدم أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بقولهم لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالإنجاء كما وقع في سورة هود من قوله تعالى : فلما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه الخ وفي الكشاف أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم وأنت تعلم أن في إستفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء والظاهر أن مجموع الإستئنافين مؤذن به وبين الطيبى ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتركهم هامدين لا حراك بهم على التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم فقيل : الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها ثم سأل أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم فقيل : الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين أي اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله : أن التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند غالت ودها غول وكذلك بولغ في الأخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر وجاء تسفيه الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهموالإستهزاء من الإشارة إلى أن ما جعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس الحال الذي زعموه ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه : كأن لم الخ وكذا من مجموع الكلام ولا يخفى أن القول بالإستئناف البياني في الجملتين وجعل الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر ليس بشيء وقد ذكر غير واحد أن هذا الإستئناف من غير عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم الإستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون : أخوك الذي نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلا من الضمير في يغنوا وأن يكون في محل نصب باضمار أعنى وأن يكون الأول مبتدأ والخبر الذين كذبوا شعيبا كانوا و كأن لم يغنوا حال من ضمير كذبوا وأن يكون الأول صفة للذين كفروا أو بدلا منه وعلى الوجهين يكون كأن لم الخ حالا ومااخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر وقوله سبحانه : فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم تقدم الكلام على
(9/7)

نظيره بيد أن هذا القول يحتمل أن يكون تأنيبا وتوبيخا لهم وقوله سبحانه : فكيف ءاسى على قوم كافرين
39
- إنكارا لمضمونه أي لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني فكيف آسى أي لاآسى عليكم لأنكم لستم أحقاء بالأسى وهو الحزن كما في الصحاح والقاموس أو شدة الحزن كما في الكشاف ومجمع البيان ويحتمل أن يكون تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم وقوله سبحانه : فكيف الخ إنكارا على نفسه لذلك وفيه تجريد والتفات على ماقيل حيث جرد عليه السلام من نفسه شخصا وأنكر عليه حزنه على قوم لايستحقونه والتفت على الخطاب إلى التكلم وذكر بعض المحققين أن الظاهر أنه ليس من الإلتفات والتجريد في شيء فإن قال يقتضى صيغة التكلم وهي تنافي التجريد وإنما هو نوع من البديع يسمى الرجوع وهو العود على الكلام السابق بالنقض لأنه إذا كان قد أبلغتكم تأسفا ينافي مابعده فكأنه بدا له ورجع عن التأسف منكرا لفعله الأول وقد جاء ذلك كثيرا في كلامهم ومن ذلك قول زهير : قف بالديار التي لم تعفها القدم بلى وغيرها الأرواح والديم والنكتة فيه الإشعار بالتوله والذهول من شدة الحيرة لعظم الأمر بحيث لايفرق بين ماهو كالمتناقض من الكلام وغيره وابن حجة لا يفرق بين هذا النوع ونوع السلب والإيجاب وكأن منشأ ذلك اعتماده في النوع الأخير على تعريف أبي هلال العسكري له ولو اعتمد على تعريف إمام الصناعة ابن أبي الأصبع لما اشتبه عليه الفرق وعلى الإحتمالين في قوله سبحانه : على قوم الخ إقامة الظاهر مقام الضمير للإشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم لكفرهم وقرأ يحيى بن وثاب فكيف ايسى بكسر الهمزة وقلب الألف ياء على لغة من يكسر حرف المضارعة كقوله : قعيدك أن لاتسمعيني ملامة ولا تنكئى جرح الفؤاد فييجعا وإمالة الألف الثانية هذا ثم إن شعيبا عليه السلام بعد هلاك من أرسل إليهم نزل مع المؤمنين به بمكة حتى ماتوا هناك وقبورهم على ماروي عن وهب بن منبه في غربي الكعبة بين دار الندوة وباب سهم وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام أما قبر إسماعيل ففي الحجر وأما قبر شعيب فمقابل الحجر الأسود وروي عنه أيضا أنه عليه السلام كان يقرأ الكتب التي كان الله تعالى أنزلها على إبراهيم عليه السلام ومن الغريب مانقل الشهاب أن شعيبا إثنان وأن صهر موسى عليهما الصلاة والسلام من قبيلة من العرب تسمى عنزة وعنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وبينه وبين من تقدم دهر طويل فتبصر والله تعالى أعلم
وما أرسلنا في قرية من نبي إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم المذكورة تفصيلا وفيه تخويف لقريش وتحذير ومن سيف خطيب جيء بها لتأكيد النفي وفي الكلام حذف صفة نبي أي كذب أو كذبه أهلها إلا أخذنا أهلها إستثناء مفرغ من أعم الأحوال وأخذنا في موضع نصب على الحال من فاعل أرسلنا وفي الرضى أن الماضي الواقع حالا إذا كان بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو وقد كثر نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن دخول إلا في الأغلب الاكثر على الاسم فهو بتأويل إلا مكرما لي فصار كالمضارع المثبت وما في هذه الآية من هذا القبيل وقد يجيء مع الواو وقد نحو ما لقيته إلا وقد أكرمني ومع الواو وحدها
(9/8)

نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن الواو مع إلا تدخل في خبر المبتدأ فكيف بالحال ولم يسمع فيه قد من دون الواو وقال المرادي في شرح الألفية : إن الحال المصدرة بالماضي المثبت إذا كان تاليا لئلا يلزمها الضمير والخلو من الواو ويمتنع دخول قد وقوله : متى يأت هذا الموت لم تلف حاجة لنفسي إلا قد قضيت قضاءها نادر وقد نص على ذلك الأشموني وغيره أيضا والظاهر أن امتناع قد بعد إلا فيما ذكر إذا كان الماضي حالا لا مطلقا وإلا فقد ذكر الشهاب أن الفعل الماضي لايقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدم فعل كما هنا وإما مع قد نحو ما زيد إلا قد قام ولا يجوز ما زيد إلا ضرب ويعلم مما ذكرنا أن ما وقع في غالب نسخ تفسير مولانا شيخ الإسلام من أن الفعل الماضي لايقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدير قد كما في هذه الآية أو مقارنة قد كما في قولك : ما زيد إلا قد قام ليس على ما ينبغي بل هو غلط ظاهر كما لا يخفى والمعنى فيما نحن فيه وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبيا من الأنبياء عليهم السلام في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين أهلها بالبأساء أي بالبؤس والفقر والضراء بالضرر والمرض وبذلك فسرهما ابن مسعود وهو معنى قول من قال : البأساء في المال والضراء في النفس وليس المراد أن ابتداء الإرسال مقارن للأخذ المذكور بل إنه مستتبع له غير منفك عنه لعلهم يضرعون
49
- أي كي يتضرعوا ويخضعوا أو يتوبوا من ذنوبهم وينقادوا لأمر الله تعالى ثم بدلنا عطف على أخذنا داخل في حكمه مكان السيئة التي أصابتهم لما تقدم الحسنة وهي السعة والسلامة ونصب مكان كما قيل على الظرفية و بدل متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أي أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها وقال بعض المحققين : الأظهر أن مكان مفعول به لبدلنا لاظرف والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة الحال الحسنة فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة والمتروك هو الذي تصحبه الباء في نحو بدلت زيدا بعمر و حتى عفوا أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم وبذلك فسره ابن عباس وغيره من عفا النبات وعفا الشحم والوبر إذا كثرت ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم أحفوا الشوارب واعفوا اللحى وقول الحطيئة : بمستأسد القريان عاف نباته تساقطني والرحل من صوت هدهد وقوله ولكنا نعض السيف منها بأسوق عافيات الشحم كوم وتفسير أبي مسلم له بالاعراض عن الشكر ليس بيانا للمعنى اللغوي كما لايخفى وحتى هذه الداخلة على الماضي ابتدائية لا غائية عند الجمهور ولا محل للجملة بعدها كما نقل ذلك الجلال السيوطي في شرح جمع الجوامع له عن بعض مشايخه وأما زعم ابن مالك أنها جارة غائية وأن مضمرة بعدها على تأويل المصدر فغلطه فيه أبو حيان وتبعه ابن هشام فقال : لاأعرف له في ذلك سلفا وفيه تكلف إضمار من غير ضرورة ولا يشكل عليه ولا على من يقول : إن معنى الغاية لازم لحتى ولو كانت ابتدائية أن الماضي لمضيه لا يصلح أن يكون غاية لما قبل لتأخر الغاية عن ذي الغاية لأن الفعل وإن كان ماضيا لكنه بالنسبة إلى ما صار غاية له مستقبل فافهم
(9/9)

وقالوا غير واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء منه سبحانه قد مس ءاباءنا كما مسنا
الضراء والسراء وما ذلك إلا من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء ويداولهما بينهم من غير أن يكون هناك داعية اليهما أو تبعة تترتب عليهما وليس هذا كقول القائل : ثمانية عمت بأسبابها الورى فكل امرىء لابد يلقى الثمانية سرور وحزن واجتماع وفرقة وعسر ويسر ثم سقم وعافية كما لايخفى ولعل تأخير السراء للإشعار بأنها تعقب الضراء فلا ضير فيها فأخذناهم عطف على مجموع عفوا قالوا أو على قالوا لأنه المسبب عنه أي فأخذناهم إثر ذلك بغتة أي فجأة
وهم لا يشعرون
59
- بشيء من ذلك ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره والجملة حال مؤكدة لمعنى لبغتة وهذا أشد أنواع الأخذ كما قيل : وأنكأ شيء يفجؤك البغت وقيل : المراد بعدم الشعور عدم تصديقهم باخبار الرسل عليهم السلام بذلك لا خلو أذهانهم عنه ولا عن وقته لقوله تعالى : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ولا يخفى ما فيه من الغفلة عن معنى الغفلة وعن محل الجملة
ولو أن أهل القرى أي القرى المهلكة المدلول عليها بقوله سبحانه : في قرية فاللام للعهد الذكرى والقرية وإن كانت مفردة لكنها في سياق النفي فتساوى الجمع وجوز أن تكون اللام للعهد الخارجي إشارة إلى مكة وما حولها وتعقب ذلك بأنه غير ظاهر من السياق ووجه بأنه تعالى لما أخبر عن القرى الهالكة بتكذيب الرسل وأنهم لو آمنوا سلموا وغنموا انتقل إلى إنذار أهل مكة وما حولها مما وقع بالأمم والقرى السابقة
وجوز في الكشاف أن تكون للجنس والظاهر أن المراد حينئذ ما يتناول القرى المرسل إلى أهلها من المذكورة وغيرها لا ما لايتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها كما قيل لإباء ظاهر ما في حيز الإستدراك الآتي عنه أمنوا أي بما أنزل على أنبيائهم واتقوا أي ماحرم الله تعالى عليهم كما قال قتادة ويدخل في ذلك ما أرادوه من كلمتهم السابقة
لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض أي ليسرنا عليهم الخير من كل جانب وقيل : المراد بالبركات السماوية المطر وبالبركات الأرضية النبات وأيا ماكان ففي فتحنا إستعارة تبعية ووجه الشبه بين المستعار منه والمستعار له الذي أشرنا إليه سهولة التناول ويجوز أن يكون هناك مجاز مرسل والعلاقة اللزوم ويمكن أن يتكلف لتحصيل الإستعارة التمثيلية وفي الآية على ماقيل إشكال وهو أنه يفهم بحسب الظاهر منها أنه لم يفتح عليهم بركات من السماء والأرض وفي الأنعام فلما نسوا ماذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض وهو معنى قوله سبحانه : أبواب كل شيء لأن المراد منها الخصب والرخاء والصحة والعافية لمقابلة أخذناهم بالبأساء والضراء وحمل فتح البركات على إدامته أو زيادته عدول عن الظاهر وغير ملائم لتفسيرهم الفتح بتيسير الخير ولا المطر والنبات وأجاب عنه الخيالي بأنه ينبغي أن يراد بالبركات غير الحسنة أو يراد آمنوا من أول الأمر فنجوا من البأساء والضراء كما هو الظاهر والمراد
(9/10)

في سورة الأنعام بالفتح ماأريد بالحسنة ههنا فلا يتوهم الإشكال انتهى وأنت خبير بأن إرادة آمنوا من أول الأمر إلى آخره غير ظاهرة بل الظاهر أنهم لو أنهم آمنوا بعد أن ابتلوا ليسرنا عليهم ما يسرنا مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء كأمطار الحجارة وبعضها من الأرض كالرجفة وبهذا ينحل الإشكال لأن آية الأنعام لاتدل على أنه فتح لهم هذا الفتح كما هو ظاهر لتاليها وماذكر من أن المراد بالفتح هناك ماأريد بالحسنة ههنا إن كان المراد به أن الفتح هناك واقع موقع إعطاء الحسنة بدل السيئة هنا حيث كان ذكر كل منهما بعد ذكر الأخذ بالبأساء والضراء وبعده الأخذ بغتة فربما يكون له وجه لكنه وحده لايجدي نفعا وإن كان المراد به أن مدلول ذلك العام المراد به التكثير هو مدلول الحسنة فلا يخفى مافيه فتدبر وقيل : المراد بالبركات السماوية والأرضية الأشياء التي تحمد عواقبها ويسعد في الدارين صاحبها وقد جاءت البركة بمعنى السعادة في كلامهم فلتحمل هنا على الكامل من ذلك الجنس ولا يفتح ذلك إلا للمؤمن بخلاف نحو المطر والنبات والصحة والعافية فإنه يفتح له وللكافر أيضا استدراجا ومكرا ويتعين هذا الحمل على ماقيل إذا أريد من القرى ما يتناول قرى أرسل إليها قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها وقيل : البركات السماوية إجابة الدعاء والأرضية قضاء الحوائج فليفهم
وقرأ ابن عامر لفتحنا بالتشديد ولكن كذبوا أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا وقد اكتفى بذكر الأول لأستلزامه الثاني وللإشارة إلى أنه أعظم الأمرين فأخذناهم بما كانوا يكسبون من أنواع الكفر والمعاصي التي من جملتها قولهم السابق والظاهر أن هذا الأخذ والمتقدم في قوله سبحانه : فأخذناهم وهم لايشعرون واحد وليس عبارة عن الجدب والقحط كما قيل : لأنهما قد زالا بتبديل الحسنة مكان السيئة وحمل أحد الأخذين على الأخذ الأخروي والآخر على الدنيوي بعيد ومن ذهب إلى حمل أل على الجنس على الوجه الأخير فيه يلزمه أن يحمل كذبوا فأخذناهم على وقوع التكذيب والأخذ فيما بينهم ولا يخفى بعده أفأمن أهل القرى الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وقيل : لإنكار الوقوع ونفيه وتعقب بأن فلا يأمن مكر الله الخ يأباه والفاء للتعقيب مع السبب والمراد بأهل القرى قيل : أهل القرى المذكورة على وضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن مدار التوبيخ أمن كل طائفة ماأتاهم من البأس لاأمن مجموع الأمم وقيل : المراد بهم أهل مكة وما حواليها ممن بعث إليه نبينا صلى الله تعالى عليه وسم وهو الأولى عندي وإلى ذلك ذهب محيي السنة والعطف على القولين على فأخذناهم بغتة لا على محذوف ويقدر بما يناسب المقام كما وقع نحو ذلك في القرآن كثيرا وأمر صدارة الإستفهام سهل وقوله سبحانه : ولو أن أهل القرى آمنوا الخ إعتراض توسط بينهما للمسارعة إلى بيان أن الأخذ المذكور مما كسبته أيديهم نظرا للأول ولأنه يؤيد ماذكر من أن الأخذ بغتة ترتب على الإيمان والتقوى ولو عكس لأنعكس الأمر نظرا للثاني ولو جعلت اللام فيما تقدم للجنس أكد هذا الإعتراض المعطوف والمعطوف عليها وشملهما شمولا سواء على مافي الكشف ولم يجعل العطف على فأخذناهم الأقرب لأنه لم يسبق لبيان القرى وقصة هلاكها قصدا كالذي قبله فكان العطف عليه دونه أنسب وهذا إذا أريد بالقرى القرى المدلول عليها بما سبق وأما إذا أريد بها
(9/11)

مكة وما حولها فوجه ذلك أظهر لأن منشأ الإنكار ما أصاب الأمم السالفة لا ماأصاب أهل مكة ومن حولها من القحط وضيق الحال وربما يقال : إذا كان المراد بأهل القرى في الموضعين أهل مكة وما حولها يكون العطف على الأقرب أنسب والمعنى أبعد ذلك الأخذ لمن استكبر وتعزز وخالف الرسل عليهم السلام وشيوعه والعلم به يأمن أهل القرى المشاركون لهم في ذلك أن يأتيهم بأسنا أي عذابنا بياتا أي وقت بيات وهو مراد من قال ليلا وهو مصدر بات ونصبه على الظرفية بتقدير مضاف ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي بأثنين وجوز أن يكون مصدر بيت ونصبه على أنه مفعول مطلق ليأتيهم من غير لفظه أي تبييتا أو حال من الفاعل بمعنى مبيتا بالكسر أو من المفعول بمعنى مبيتين بالفتح واختار غير واحد الظرفية ليناسب ما سيأتي وهم نائمون حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا لتأويله بالصفة كما سمعت وهو حال متداخلة حينئذ أو أمن أهل القرى إنكارا بعد إنكار للمبالغة في التوبيخ والتشديد ولم يقصد الترتيب بينهما فلذا لم يؤت بالفاء
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر أو بسكون الواو وهي لأحد الشيئين والمراد الترديد بين أن يأتيهم العذاب بياتا وما دل عليه قوله سبحانه : أن يأتيهم بأسنا ضحى أي ضحوة النهار وهو في الأصل ارتفاع الشمس أو شروقها وقت ارتفاعها ثم استعمل للوقت الواقع فيه ذلك وهو أحد ساعات النهار عندهم وهي الذرور والبزوغ والضحى والغزالة والهاجرة والزوال والدلوك والعصر والأصيل والصنوت والحدور والغروب وبعضهم يسميها البكور والشروق والإشراق والراد والضحى والمنوع والهاجرة والأصيل والعصر والطفل والحدور والغروب ويكون كما قال الشهاب متصرفا إن لم يرد به وقت من يوم بعينه وغير متصرف إن أريد به ضحوة يوم معين فيلزم النصب على الظرفية وهو مقصور فإن فتح مد وقد عدوا لفظ الضحى مما يذكر ويؤنث
وهم يلعبون أي يلهون من فرط الغفلة وهو مجاز مرسل في ذلك ويحتمل أن يكون هناك إستعارة أي يشتغلون بما لانفع فيه كأنهم يلعبون أفأمنوا مكر الله تكرير لمجموع الإنكارين السابقين جمعا بين التفريق قصدا إلى زيادة التحذير والإنذار وذكر جمع من جلة المحققين أنه لو جعل تكريرا له ولما سلف من غرة أهل القرى السابقة أيضا على معنى أن الكل نتيجة الأمن من مكر الله تعالى لجاز إلا أنه لما جعل تهديدا للموجودين كان الأنسب التخصيص وفيه تأمل والمكر في الأصل الخداع ويطلق على الستر يقال : مكر الليل أي ستر بظلمته ماهو فيه وإذا نسب إليه سبحانه فالمراد به استدراجه العبد العاصي حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك بالخداع وتجوز هذه النسبة إليه سبحانه من غير مشاكلة خلافا لبعضهم وهو هنا إتيان البأس في الوقتين والحالين المذكورين وهل كان تبديل مكان السيئة الحسنة المذكور قبل مكرا واستدراجا أو ملاطفة ومراوحة فيه خلاف والكل محتمل فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
99
- أي الذين خسروا أنفسهم فأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها والإستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات والفاء هنا متعلق كما قال القطب الرازي وغيره بمقدر كأنه قيل فلما آمنوا خسروا فلا يأمن الخ وقال أبو البقاء إنها للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر الله تعالى وقد يقال : إنها لتعليل ما يفهمه الكلام من ذم الأمن
(9/12)

واستقباحه أو يقال إنها فصيحة ويقدر مايستفاد من الكلام شرطا أي إذا كان الأمن في غاية القبح فلا يرتكبه إلا من خسر نفسه واستدلت الحنفية بالآية على أن الأمن من مكر الله تعالى وهو كما في جمع الجوامع الإسترسال في المعاصي إتكالا على عفو الله تعالى كفر ومثله اليأس من رحمة الله تعالى لقوله تعالى : إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وذهبت الشافعية إلى أنهما من الكبائر لتصريح ابن مسعود رضي الله عنه بذلك 1 وروى ابن أبي حاتم والبزار عن ابن عباس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل مالكبائر فقال : الشرك بالله تعالى واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر قالوا : وما ورد من أن ذلك كفر محمول على التغليظ وآية لا ييأس الخ كقوله تعالى الزانية لاينكحها إلا زان
ولاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله في قول وقال بعض المحققين : إن كان في الامن إعتقاد أن الله تعالى لايقدر على الإنتقام منه وكذا إذا كان في اليأس إعتقاد عدم القدرة على الرحمة والإحسان أو نحو ذلك فذلك مما لاريب في أنه كفر وإن خلا عن نحو هذا الإعتقاد ولم يكن فيه تهاون وعدم مبالاة بالله تعالى فذلك كبيرة وهو كالمحاكمة بين القولين أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أي يخلفون من خلا قبلهم من الأمم والمراد بهم كما روى عن السدي المشركون وفسروا بأهل مكة ومن حولها وعليه لايبعد أن يكون في الآية إقامة الظاهر مقام الضمير إذا كان المراد بأهل القرى سابقا أهل مكة وما حولها وتعدية فعل الهداية باللام لأنها كما روي عن ابن عباس ومجاهد بمعنى التبيين وهو على ماقيل : إما بطريق المجاز أو التضمين أو لتنزيله منزلة اللازم كأنه قيل : أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهمأي بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وإذا ضمن أصبنا معنى أهلكنا لايحتاج إلى تقدير مضاف وأن مخففة من الثقيلة وإسمها ضمير شأن مقدر وخبره الجملة الشرطية والمصدر المؤول فاعل يهد ومفعوله على إحتمال التضمين محذوف أي أولم يتبين لهم مآل أمرهم أو نحو ذلك وجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى وأن يكون ضميرا عائدا على مايفهم مما قبل أي أولم يهد لهم ماجرى على الأمم السابقة وقرأ عبدالرحمن السلمي وقتادة وروي عن مجاهد ويعقوب نهد بالنون فالمصدر حينئذ مفعول ومن الناس من خص اعتبار التضمين أو المجاز بهذه القراءة واعتبار التنزيل منزلة اللازم بقراءة الياء وفيه بحث وقوله تعالى : ونطبع على قلوبهم جملة معترضة تذييلية أي ونحن من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلب من لم نرد منه الإيمان حتى لايتعظ بأحوال من قبله ولا يلتفت إلى الأدلة ومن أراد من أهل القرى فيما تقدم أهل مكة جعله تأكيدا لما نعى عليهم من الغرة والأمن والخسران أي ونحن نطبع على قلوبهم فلذلك إقتفوا آثار من قبلهم ولم يعتبروا بالآيات وأمنوا من البيات لمستخلفيهم حذو النعل بالنعل وجوز عطفه على مقدر دل عليه قوله تعالى أولم يهد وعطفه عليه أيضا وهو وإن كان إنشاء إلا أن المقصود منه الإخبار بغفلتهم وعدم إهتدائهم أي لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التأمل والتفكر ونطبع الخ
وجوز أن يكون عطفا على يرثون واعتراض بأنه صلة والمعطوف على الصلة صلة ففيه الفصل بين أبعاض
(9/13)

الصلة بأجنبي وهو أن لو نشاء سواء كانت فاعلا أو مفعولا ونقل أبو حيان عن الأنباري أنه قال : يجوز أن يكون معطوفا على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الإستقبال كما في قوله تعالى : تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك أي إن يشأ يدل عليه ويجعل لك قصورا فجعل لو شرطية بمعنى إن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره وجعل أصبنا بمعنى نصيب وقد يرتكب التأويل في جانب المعطوف فيؤول نطبع بطبعنا ورد الزمخشري هذا العطف بأنه لايساعد عليه المعنى لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وذلك يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها وتعقبه ابن المنير بأنه لايلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولابد وهم إن كانوا كفارا ومقترفين للذنوب فليس الطبع من لوازم الإقتراف البتة إذ هو التمادي على الكفر والإصرار والغلو في التصميم حتى يكون الموصوف به مأيوسا من قبوله للحق ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المثابة بلى إن الكافر يهدد لتماديه على الكفر بأن يطبع الله تعالى على قلبه فلا يؤمن أبدا وهو مقتضى العطف على أصبنا فتكون الآية قد هددتهم بأمرين الإصابة بذنوبهم والطبع على قلوبهم والثاني أشد من الأول وهو أيضا نوع من الإصابة بالذنوب والعقوبة عليها ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب وكثيرا ما يعاقب الله تعالى على الذنب بالإيقاع في ذنب أكبر منه وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه كما قال سبحانه : فزادتهم رجسا إلى رجسهم كما زادت المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببا فيه وجزاء عليه فثواب الإيمان إيمان وثواب الكفر كفر وإنما الزمخشري يحاذر من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى وذلك عنده محال لأنه بزعمه قبيح والله سبحانه عنه متعال وفي التقريب نحو ذلك فإنه نظر فيما ذكره الزمخشري بأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع وأيضا جاز أن يراد لو شئنا زدنا في طبعهم ولأمناه والحق كما قال غير واحد من المحققين أن منعه من هذا العطف ليس بناء على أنه لايوافق رأيه فقط بل لأن النظم لايقتضيه فإن قوله سبحانه : فهم لايسمعون أي سماع تفهم واعتبار يدل على أنهم مطبوع على قلوبهم لأن المراد إستمرار هذه الحال لا أنه داخل في حكم المشيئة لأن عدم السماع كان حاصلا ولو كان كذلك لوجب أن يكون منفيا وأيضا التحقيق لايناسب الغرض و كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ظاهر الدلالة على أن الوارثين والموروثين كل من أهل الطبع وكذا قوله سبحانه : فما كانوا ليؤمنوا يدل على أن حالهم منافية للإيمان وأنه لايجيء منه البتة وأيضا إدامة الطبع أو زيادته لايصلح عقوبة للكافرين بل قد يكون عقوبة ذنب المؤمن كما ورد في الصحيح وما يورد من الدغدغة على هذا مما لايلتفت إليه تلك القرى نقص عليك من أنبائها جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة مما قبلها منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتلك إشارة إلى قرى الأمم المحكية من قوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم واللام للعهد وجوز أن تكون للجنس وهو مبتدأ والقرى صفته والجملة بعده خبر
وجوز الزمخشري أن تكون تلك مبتدأ والقرى خبر والجملة خبر بعد خبر على رأي من يرى جواز كون الخبر الثاني جملة وأن تكون الجملة حالا وإفادة الكلام بالتقييد بها واعترضه في التقريب بأنه جعل شرط الإفادة التقييد بالحال وعلى تقدير كون ذلك خبرا بعد خبر ينتفي الشرط إلا أن يريد تلك القرى
(9/14)

المعلومة حالها أو صفتها على أن اللام للعهد لكنه يوجب الإستغناء عن إشتراط إفادته بالحال انتهى وفيه أن حديث الإستغناء ممنوع فإن المعنى كما في الكشف على التقديرين مختلف لأنه إذا جعل حالا يكون المقصود تقييده بالحال كما ذكره الزجاج في نحو هذا زيد قائما إذا جعل قيدا للخبر أن الكلام إنما يكون مع من يعلم أنه زيد وإلا جاء الاحالة لأنه يكون زيد قائما كان أولا وإذا جعل خبرا بعد خبر فتلك القرى على أسلوب ذلك الكتاب على أحد الوجوه ونقص خبر ثان تفخيما على تفخيم حيث نبه على أن لها قصصا وأحوالا أخرى مطوية
وقال الطيبي : إن الحال لما كانت فضلة كان الإشكال قائما في عدم إفادة الخبر فأجيب بأنها ليست فضلة من كل وجه وأما الخبر فلا عجب من كونه كالجزء من الأول كما في قولك هذا حلو حامض وهذا بمنزلته وفيه أن عد مانحن فيه من ذلك القبيل حامض ومستغنى عنه بالحلو ومثله بل أدهى وأمر الجواب بأنه لما اشترك الحلوان في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد و من للتبعيض أي بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء أي الأخبار العظيمة الشأن إليها مع أن المقصود أنباء أهلها وبيان أحوالهم حسبما يؤذن به قوله سبحانه : ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات لما ذكره شيخ الإسلام من أن حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الإستئصال بحيث يشمل أماكنهم أيضا بالخسف بها والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع والباء في قوله تعالى : بالبينات متعلقة أما بالفعل المذكور على أنها للتعدية وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله أي متلبسين بالبينات على معنى أن رسول كل أمة من الأمم المهلكة الخاص بهم جاءهم بالمعجزات البينة الجمة لا أن كل رسول جاء ببينة واحدة وما ذكروه من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي إنقسام الآحاد على الآحاد لايقتضي كما قال المولى المدقق أبو القاسم السمرقندي في تعليقاته على المطول أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن إنقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء يجوز أن يكون على التفاوت مثلا إذا قيل : باع القوم دوابهم يفهم أن كلا منهم باع ماله من دابة ويجوز أن تتعدد دابة البعض ولهذا قيل في قوله سبحانه : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إن غسل يدي كل شخص ثابت بالكتاب والمقام هنا يقتضي ماذكرناه فإن الجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم وقوله عز شانه : فما كانوا ليؤمنوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم إستمرار إيمانهم ونظير ذلك لاخوف عليهم ولا هم يحزنون وترتيب حالهم هذه على مجيء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الإستمرار على فعل بعد ورود مايوجب الإقلاع عنه يعد بحسب العنوان فعلا جديدا وصنعا حادثا كما في وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب واللام لتأكيد النفي أي فما صح وما إستقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات ليؤمنوا بل كان ذلك ممتنعا منهم إلى أن لقوا مالقوا لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان ثم إن كان المحكى آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم هو إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى : بما كذبوا من قبل تكذيبهم من لدن مجيء الرسل عليهم السلام إلى وقت الإصرار والعناد وهذا معنى كلام الزجاج فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها يعني أول ماجاؤهم فاجأوهم بالتكذيب فأتوا بالمعجزات فأصروا على التكذيب وإلى هذا ذهب الحسن أيضا وإنما لم
(9/15)

يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول المحذوف عائده أي الذي كذبوه إيذانا بأنه بين في نفسه وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الباهرة وتظاهر المعجزات الظاهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من ذوي العقول والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب إيجابا وسلبا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكى جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد على ماقيل بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى آخر أمرهم وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلابد من جعل الموصول عبارة عن أصول الشرائع التي لاتقبل التبدل والتغير واجتمعت الرسل قاطبة عليها ودعوا الأمم إليها كلمة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء الرسل أنهم كانوا يسمعونها من بقايا من قبلهم فيكذبونها لا أن العقل يرشد إليها ويحكم بها ويخالفونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل إليهم كحالهم قبل كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه كافة الرسل فلأن لايؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أنه ليس مدار العذاب بل مداره التكذيب بعد البعثة كما يفصح عنه قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وإنما ذكر ماوقع قبلها بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب وقيل : المراد بما أشير إليه آخر تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق وروي ذلك عن أبي بن كعب والربيع والسدي ومقاتل واختاره الطبري
وأخرج ابن جرير وابن حاتم وغيرهما عن مجاهد أن الآية على حد قوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه فالمعنى ماكانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا قبل إهلاكهم وعلى هذا فالمراد بالموصول جميع الشرائع أصولها وفروعها وفيه من المبالغة في إصرارهم وعتوهم مالا يخفى إلا أنه في غاية الخفاء وأيا ما كان فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع وقيل ضمير كذبوا راجع إلى أسلافهم والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء ولايخفى مافيه من التعسف وذهب الأخفش إلى أن الباء سببية وما مصدرية والمعنى عليه كما قيل : فما كانوا ليؤمنوا الآن أي عند مجيء الرسل لما سبق منهم من التكذيب الذي ألفوه وتمرنموا عليه قبل مجيئهم أو لم يؤمنوا قط واستمروا على تكذيبهم لما حصل منهم من التكذيب حين مجيء الرسل
كذلك أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم يطبع الله على قلوب الكافرين
101
- أي قلوبهم فوضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن الطبع بسبب الكفر وإلى هذا يشير كلام الزجاج وصرح به بعضهم ويجوز ولعله الأولى أن يراد بالكافرين مايشمل المذكورين وغيرهم وفي ذلك من تحذير السامعين مالايخفى وإظهار الاسم الجليل بطريق الإلتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة وما وجدنا لأكثرهم أي أكثر الأمم المذكورين ووجد متعدية لواحد واللام متعلقة بها كما في قولك : ماوجدت لزيد مالا أي ماصادفت له مالا ولا لقيته أو بمحذوف كما قال أبو البقاء وقع حالا من قوله تعالى : من عهد لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا ومن مزيدة للإستغراق وجوز أن تكون وجد علمية والأول أظهر والكلام على تقدير مضاف أي ماوجدنا وفاء عهد كائن لأكثرهم فإنهم نقضوا ماعاهدوا عليه الله تعالى عند مساس البأساء والضراء قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وإلى هذا ذهب قتادة وتخصيص
(9/16)

هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بالعهد بل لأن بعضهم كانوا لايعهدون ولا يوفون وقيل : المراد بالعهد ماوقع يوم أخذ الميثاق وروي ذلك عن أبي بن كعب وأبي العالية وقيل : المراد به ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الدلائل والحجج وإنزال الآيات وفسره ابن مسعود بالإيمان كما في قوله تعالى : اتخذ عند الرحمن عهدا وقيل : هو بمعنى البقاء أي ماوجدنا لهم بقاء على فطرتهم والمراد بالأكثر في الكل الكل وذهب كثير من الناس إلى أن ضمير أكثرهم للناس وهو معلوم لشهرته والجملة إلى فاسقين اعتراض لأنه لا اختصاص له بما قبله لكن لعمومه يؤكده وعلى الأول تتميم على مانص عليه الطيبي وغيره وإن وجدنا أكثرهم أي أكثر الأمم أو أكثر الناس أي علمناهم كقولك : وجدت زيدا فاضلا وبين وجد هذه ووجد السابق على المعنى الأول فيه الجناس التام المماثل و إن مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ولا عمل لها فيه لأنها ملغاة على المشهور وتعين تفسير وجد بعلم الناصبة للمبتدأ والخبر لدخولها عليهما فقد صرح الجمهور أنها لاتدخل إلا على المبتدأ أو على الأفعال الناسخة وخالف في ذلك الأخفش فلا يرى ذلك
وجوز دخولها على غيرهما وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية واللام في قوله سبحانه : لفاسقين
201
- اللام الفارقة وعند الكوفييين أن إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما وجدنا أكثرهم إلا خارجين عن الطاعة ويدخل في ذلك نقض العهد وذكر الطيبي أنه إذا فسر الفاسقون بالناكثين يكون في الآية الطرد والعكس وهو أن يؤتى بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس وهو كقوله تعالى : ليستأذنك الذين ملكت أيمانكم إلى قوله سبحانه : ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن فمنطوق الأمر بالإستئذان في الأوقات الثلاثة خاصة مقرر لمفهوم رفع الجناح فيما عداها وبالعكس وكذا قوله تعالى : لايعصون الله ماأمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهذا النوع من الأطناب يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك ثم بعثنا من بعدهم موسى أي أرسلناه عليه السلام بعد الرسل أو بعد الأمم والأول متقدم في قوله سبحانه : ولقد جاءتهم رسلهم والثاني مدلول عليه بتلك القرى والإحتمال الأول أولى والتصريح بالبعدية مع ثم الدالة عليها قيل للتنصيص على أنها للتراخي الزماني فإنها كثيرا ماتستعمل في غيره وقيل : للإيذان بأن بعثه عليه السلام جرى على سنن السنة الإلهية من إرسال الرسل تترى و من لإبتداء الغاية وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الإعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقوله سبحانه : بأيآتنا متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا أو صفة لمصدره أي بعثناه عليه السلام ملتبسا بها أو بعثناه بعثا ملتبسا بها وأريد بها الآيات التسع المفصلة إلى فرعون هو علم شخص ثم صار لقبا لكل من ملك مصر من العمالقة كما أن كسرى لقب من ملك فارس وقيصر لقب من ملك الروم والنجاشي لقب من ملك الحبشة وتبع لقب من ملك اليمن وقيل : إنه من أول الأمر لقب لمن ذكر واسمه الوليد بن مصعب بن الريان وقيل : قابوس وكنيته أبو العباس وقيل : أبو مرة وقيل : أبو الوليد وعن جماعة أن قابوسا والوليد اسمان لشخصين أحدهما فرعون موسى والآخر فرعون يوسف عليهما السلام وعن النقاش وتاج القراء أن فرعون موسى هو والد الخضر عليه السلام وقيل : ابنه وذلك من الغرابة بمكان ويلقب به كل عات ويقال فيه فرعون كزنبور وحكى ابن خالويه عن
(9/17)

الفراء ضم فائه وفتح عينه وهي لغة نادرة ويقال فيه : فريع كزبير وعليه قول أمية بن الصلت : حي داود بن عاد وموسى وفريع بنيانه بالثقال وقيل : هو في ضرورة شعر ومنع من الصرف لأنه أعجمي وحكى أبو الخطاب بن دحية في مروج البحرين عن أبي النصر القشيري في التيسير أنه بلغة القبط اسم للتمساح والقول بأنه لم ينصرف لأنه لاسمى له كأبليس عند من أخذه من أبلس ليس بشيء وقيل : هو وأضرابه السابقة أعلام أشخاص وليست من علم الجنس لجمعها على فراعنة وقياصرة وأكاسرة وعلم الجنس لايجمع فلابد من القول بوضع خاص لكل من تطلق عليه وتعقب بأنه ليس بشيء لأن الذي غره قول الرضي إن علم الجنس لايجمع لأنه كالنكرة شامل للقليل والكثير لوضعه للماهية فلا حاجة لجمعه وقد صرح النحاة بخلافه وممن ذكر جمعه السهيلي في الروض الآنف فكأن مراد الرضي أنه لايطرد جمعه وماذكره تعسف نحن في غنى عنه ولائه أي أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر مع عموم بعثته عليه السلام لقومه كافة لأصالتهم في تديبر الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور فظلموا بها أي بالآيات وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو يتعدى بنفسه لا بالباء إلا أنه لما كان هو والكفر من واد واحد عدى تعديته أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا أو هو مضمن معنى التكذيب أي ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها وقول بعضهم : إن المعنى كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها ظاهر في التضمين كأنه قيل كفروا بها واضعين الكفر في غير موضعه حيث كان اللائق بهم الإيمان
وقيل : الباء للسببية ومفعول ظلموا محذوف أي ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان أو أنفسهم كما قال الحسن والجبائي بسببها والمراد به الإستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب مالقوا
فانظر كيف كان عاقبة المفسدين
301
- أي آخر أمرهم ووضع المفسدين موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مسلتزم للإفساد والفاء لأنه كما أن ظلمهم بالآيات مستتبع لتلك العاقبة الهائلة كذلك حكايته مستتبع للأمر بالنظر إليها والخطاب إما للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه النظر و كيف كما قال أبو البقاء وغيره خبر كان قدم على إسمها لاقتضائه الصدارة والجملة في حيز النصب باسقاط الخافض كما قيل : أي فانظر بعين عقلك إلى كيفية مافعلنا بهم وقال موسى كلام مبتدأ مسوق لتفصيل ماأجمل فيما قبله
يافرعون إني رسول أي إليكم كما يشعر به قد جئتكم أو إليك كما يشعر به فأرسل من رب العالمين
401
- أي سيدهم ومالك أمرهم حقيق على أن لاأقول على الله إلا الحق جواب لتكذيبه عليه السلام المدلول عليه بقوله سبحانه : فظلموا بها وحقيق صفة رسول أو خبر بعد خبر
وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي أنا حقيق وهو بمعنى جدير و على بمعنى الباء كما قال الفراء أو بمعنى حديص 1 و على على ظاهرها قال أبو عبيدة : أو بمعنى واجب واستشكل بأن قول الحق هو الواجب على موسى عليه السلام لا العكس والكلام ظاهر فيه وأجيب بأن أصله حقيق على بتشديد الياء كما في قراءة نافع ومجاهد أن لاأقول الخ فقلب لا من الإلتباس كما في قول خراش بن زهير : كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا قوادم حرب لاتلين ولا تمرى
(9/18)

هي وطن آبائهم وكان عدو الله تعالى والقبط قد استبعدوهم بعد إنقراض الأسباط يستعملونهم ويكلفونهم الأفاعيل الشاقة كالبناء وحمل الماء فأنقذهم الله تعالى بموسى عليه السلام وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخل فيه موسى عليه السلام على ماروي عن وهب أربعمائة سنة واستعمال الإرسال بما أشير إليه على مايظهر من كلام الراغب حقيقة وقيل : إنه إستعارة من إرسال الطير من القفص تمثيلية أو تبعية ولا يخفى أنه ساقط عن وكر القبول والفاء لترتيب الإرسال أو الأمر به على ماقبله من رسالته عليه السلام ومجيئه بالبينة قال إستئناف بياني كأنه قيل : فما قال فرعون فقيل : قال : إن كنت جئت بآية من عند من أرسلك كما تدعيه فأت بها أي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك فالمغايرة بين الشرط والجزاء مما لا غبار عليه ولعل الأمر غني عن إلتزام ذلك لحصوله بما لاأظنه يخفى عليك إن كنت من الصادقين
601
- في دعواك فإن كونك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهار الآية لا محالة فألقي عصاك وكانت كما روى ابن المنذر وابن أبي حاتم من عوسج وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها كانت من لوز
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنها عصا آدم عليه السلام أعطاها لموسى ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فيخرج له رزقه ويهش بها على غنمه والمشهور أنها كانت من آس الجنة وكانت لآدم عليه السلام ثم وصلت إلى شعيب فأعطاه إياها وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اسمها مأشا فإذا هي ثعبان أي حية ضخمة طويلة وعن الفراء أن الثعبان هو الذكر العظيم من الحيات وقال آخرون : إنه الحية مطلقا
وفي مجمع البيان أنه مشتق من ثعب الماء إذا إنفجر فكأنه سمي بذلك لأنه يجري كعنق الماء إذا إنفجر مبين
701
- أي ظاهر أمره لايشك في كونه ثعبانا فهو إشارة إلى أن الصيرورة حقيقية لاتخيلية وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على كمال سرعة الإنقلاب وثبات وصف الثعبانية فيها كأنها في الاصل كذلك وروي عن ابن عباس والسدي أنه عليه السلام لما ألقاها صارت حية صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب عن سريره هاربا وأحدث وفي بعض الروايات أنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة وفي أخرى أنه استمر معه داءالبطن حتى غرق وقيل : إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وأنها حملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا فصاح فرعون ياموسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها فعادت عصا كما كانت وعن معمر أنها كانت في العظم كالمدينة وقيل : كان طولها ثمانين ذراعا وعن وهب بن منبه أن بين لحييها اثني عشر ذراعا وعلى جميع الروايات لاتعارض بين ماهنا وقوله سبحانه : كأنها جان بناء على أن الجان هي الحية الصغيرة لما قالوا : إن القصة غير واحدة أو أن المقصود من ذلك تشبيهها في خفة الحركة بالجان لا بيان جثتها أو لما قيل : إنها انقلبت جانا وصارت ثعبانا فحكيت الحالتان في آيتين وسيأتي إن شاء الله تعالى
(9/19)

وتلحق خيل لا هوادة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر وضعف بأن القلب سواء كان القلب الالفاظ بالتقديم والتأخير كخرق الثوب المسمار أم قلب المعنى فقط كما هنا إنما يفصح إذا تضمن نكتة كما في البيت وهي فيه الإشارة إلى كثرة الطعن حتى شقيت الرماح بهم لتكسرها بسبب ذلك وقد أفصح عن هذا المتنبي بقوله : والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به وللسيوف كما للناس آجال وبأن بين الواجب ومن يجب عليه ملازمة فعبر عن لزومه للواجب بوجوبه على الواجب كما استفاض العكس وليس هو من الكناية الإيمائية كقول البحتري أو ما رأيت الجود ألقى رحله في آل طلحة ثم لم يتحول وقل ابن هانيء : فما جازه جود ولا حل دونه ولكن يسير الجود حيث يسير بل هو تجوز فيه مبالغة حسنة وبأن ذلك من الإغراق في الوصف بالصدق بأن يكون قد جعل قول الحق بمنزلة رجل يجب عليه شيء ثم جعل نفسه أي قابليته لقول الحق وقيامه به بمنزلة الواجب على قول الحق فيكون استعارة مكنية وتخييلية والمعنى أنا واجب على الحق أن يسعى في أن أكون قائله والناطق به فكيف يتصور مني الكذب واعترضه القطب الرازي وغيره بأنه إنما يتم لو كان هو حقيقا على قول الحق وليس كذلك بل على قوله الحق وجعل قوله الحق بحيث يجب عليه أن يسعى في أن يكون قائله لامعنى له
وأجيب بأن مبنى ذلك على أن المصدر المؤول لابد من إضافته إلى ما كان مرفوعا به وليس بمسلم فإنه قد يقطع النظر عن ذلك
وقد صرح بعض النحاة بأنه قد يكون نكرة نحو وما كان هذا القرآن أن يفترى أي إفتراء وههنا قد قطع النظر فيه عن الفاعل إذ المعنى حقيق على قول الحق وهو محصل مجموع الكلام فلا إشكال وذكر ابن مقسم في توجيه الآية على قراءة الجمهور وادعى أنه الأولى أن على أن لا أقول متعلق برسول إن قلنا بجواز إعمال الصفة إذا وصفت وإن لم نقل به وهو المشهور فهو متعلق بفعل يدل عليه أي أرسلت على أن لا أقول الخ والأولى عندي كون على بمعنى الباء ويؤيده قراءة أبي بأن لا أقول
وقرأ عبدالله أن لا أقول بتقدير الجار وهو على أو الباء وقد تقدم يقدر على بباء مشددة وقوله سبحانه : قد جئتكم ببينة من ربكم إستئناف مقرر لما قبله ولم يكن هذا وما بعده من جواب فرعون إثر ماذكر ههنا بل بعد ما جرى بينهما من المحاورات التي قصها الله تعالى في غير ما موضع وقد طوى ذكرها هنا للإيجاز و من متعلقة إما بجئتكم على أنها الإبتداء الغاية مجازا وإما بمحذوف وقع صفة لبينة مفيدة لفخامتها الإضافية مؤكدة لفخامتها الذاتية المستفادة من التنوين التفخيمي كما مر غير مرة وإضافة اسم الرب إلى ضمير المخاطبين بعد إضافته فيما قبل إلى العالمين لتأكيد وجوب الإيمان بها وذكر الاسم الجليل الجامع في بيان كونه جديرا بقول الحق عليه سبحانه تهويلا لأمر الإفتراء عليه تعالى شأنه مع الإشارة إلى التعليل بما ليس وراءه غاية فأرسل معي بني اسرائيل
501
- أي خلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي
(9/20)

تحقيق ذلك والآية من أقوى أدلة جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كالنحاس إلى الذهب إذ لو كان ذلك تخييلا لبطل الإعجاز ولم يكن لذكر مبين معنى مبين وارتكاب غير الظاهر غير ظاهر ويدل لذلك أيضا أنه لامانع في القدرة من توجه الامر التكويني إلى ماذكر وتخصيص الإرادة له والقول بأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به فلا يكون النحاس ذهبا رصاص مموه والحق جواز الإنقلاب إما بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس ذهبا على ماهو رأي المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذي يصير به ذهبا على ماهو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات والمحال إنما هو إنقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا وعلى أحد هذين الإعتبارين توكأ أئمة التفسير في أمر العصا ونزع يده أي أخرجها من جيبه لقوله تعالى : أدخل يدك في جيبك أو من تحت إبطه لقوله سبحانه : واضمم يدك إلى جناحك والجمع بينهما ممكن في زمان واحد وكانت اليد اليمنى كما صرح به في بعض الآثار فإذا هي بيضاء للناظرين أي بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظار فقد روي أنه أضاء له مابين السماء والأرض وجاء في رواية أنه أرى فرعون يده وقال عليه السلام : ماهذه فقال : يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس وقيل : المعنى بيضاء لأجل النظار لا أنها بيضاء في أصل خلقتها لأنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة فقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأما موسى فآدم جثيم سبط كأنه من رجال الزط وعنى عليه الصلاة و السلام بالزط جنسا من السودان والهنود ونص البعض على أن ذلك البياض إنما كان في الكف وإطلاق اليد عليها حقيقة
وفي القاموس اليد الكف أو من أطراف الأصابع إلى الكف وأصلها يدي بدليل جمعها على أيدي ولم ترد اليد عند الإضافة إلى الضمير لما تقرر في محله وجاء في كلامهم يد بالتشديد وهو لغة فيه
قال الملأ من قوم فرعون أي الأشراف منهم وهم أهل مشورته ورؤساء دولته
إن هذا لساحر عليم
901
- أي مبالغ في علم السحر ماهر فيه يريد أن يخرجكم من أرضكم أي من أرض مصر فماذا تأمرون
11
- أي تشيرون في أمره كما فسره بذلك ابن عباس فهو من الأمر بمعنى المشاورة يقال : آمرته فآمرني أي شاورته فأشار علي وقيل من الأمر المعهود و ماذا في محل نصب على أنه مفعول لتأمرون بحذف الجار أي بأي شيء تأمرون وقيل : ما خبر مقدم و ذا اسم موصول مبتدأ مؤخر أي ماالذي تأمرون به قالوا أرجه وأخاه أي أخر أمرهما واصدرهما عنك ولا تعجل في أمرهما حتى ترى رأيك فيهما وقيل : احبسهما واعترض بأنه لم يثبت منه الحبس
وأجيب بأن الأمر به لايوجب وقوعه وقيل عليه أيضا : إنه لم يكن قادرا على الحبس بعد أن رأى مارأى وقوله : لأجعلنك من المسجونين في الشعراء كان قبل هذا وأجيب بأن القائلين لعلهم لم يعلموا ذلك منه وقال أبو منصور : الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر وهو الهم بقتله فقالوا : أخره ليتبين حاله للناس وليس بلازم كما لايخفى وأصل أرجه ارجئه بهمزة ساكنة وهاء مضمومة دون واو ثم
(9/21)

حذفت الهمزة وسكنت الهاء لتشبيه المنفصل بالمتصل وجعل جه و كابل في إسكان وسطه وبذلك قرأ أبو عمرو وأبوبكر ويعقوب على أنه من أرجأت وكذلك قراءة ابن كثير وهشام وابن عامر أرجئهو بهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو الإشباع
وقرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي أرجهي بهاء مكسورة بعدها ياء من أرجيت وفي رواية قالون أن أرجه بحذف الياء للإكتفاء عنها بالكسرة وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان أرجئه بالهمزة وكسر الهاء وقد ذكر بعضهم أن ضم الهاء وكسرها والهمز وعدمه لغتان مشهورتان وهل هما مادتان أو الياء بدل من الهمزة كتوضات وتوضيت قولان وطعن في القراءة على رواية ابن ذكوان فقال الحوفي : إنها ليست بجيدة وقال الفارسي : إن ضم الهاء مع الهمزة لايجوز غيره وكسرها غلط لأن الهاء لاتكسر إلا بعد ياء ساكنة أو كسرة وأجيب كماقال الشهاب عنه بوجهين : أحدهما أن الهمزة ساكنة والحرف الساكن حاجز غير حصين فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة فلذا كسرت والثاني أن الهمزة عرضة للتغيير كثيرا بالحذف وإبدالها ياء إذا سكنت بعد كسرة فكأنها وليت ياء ساكنة فلذا كسرت وأورد على ذلك أبو شامة أن الهمزة تعد حاجزا وأن الهمزة لو كانت ياء كان المختار الضم نظرا لأصلها وليس بشيء بعد أن قالوا : إن القراءة متواترة وما ذكر لغة ثابتة عن العرب هذا واستشكل الجمع بين ماهنا وما في الشعراء فإن فيها قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون وهو صريح في أن إن هذا لساحر إلى فماذا تأمرون كلام فرعون وماهنا صريح في نسبة قول ذلك للملأ والقصة واحدة فكيف يختلف القائل في الموضعين وهل هذا إلا منافاة وأجيب بأنه لا منافاة لأحتمالين الأول أن هذا الكلام قاله فرعون والملأ من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في الشعراء كلامه وهنا كلامهم والثاني أن هذا الكلام قاله فرعون ابتداء ثم قاله الملأ إما بطريق الحكاية لأولادهم وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلام فرعون ابتداء وما هنا كلام الملأ نقلا عنه
واختار الزمخشري أن ما هنا هو قول الملأ نقلا عن فرعون بطريق التبليغ لاغير لأن القوم لما سمعوه خاطبوا فرعون بقولهم : أرجه الخ ولو كان ذلك كلام الملأ ابتداء لكان المطابق أن يجيبوهم بارجئوا ولا سبيل إلى أنه كان نقلا بطريق الحكاية لأنه حينئذ لم يكن مؤامرة ومشاورة مع القوم فلم يتجه جوابهم أصلا فتعين أن يكون بطريق التبليغ فلذا خاطبوه بالجواب بقي أن يقال هذا الجواب بالتأخير في الشعراء كلام الملأ لفرعون وههنا كلام سائر القوم ولكن لا منافاة لجواز تطابق الجوابين وقول شيخ الإسلام : إن كون ذلك جواب العامة يأباه أن الخطاب لفرعون وأن المشاورة ليست من وظائفهم ليس بشيء لأن الأمر العظيم الذي تصيب تبعته أهل البلد يشاور فيه الملك الحازم عوامهم وخواصهم وقد يجمعهم لذلك ويقول لهم : ماذا ترون فهذا أمر لايصيبني وحدي ورب رأي حسن عند من لم يظن به على أن في ذلك جمعا لقلوبهم عليه وعلى الإحتفال بشأنه وقد شاهدنا أن الحوادث العظام يلتفت فيها إلى العوام وأمر موسى عليه السلام كان من أعظم الحوادث عند فرعون بعد أن شاهد منه ما شاهدا ثم أنهم إختلفوا في قوله تعالى : فماذا تأمرون فقيل : إنه من تتمة كلام الملأ واستظهره غير واحد لأنه مسوق مع كلامهم من غير فاصل فالأنسب أن يكون من بقية كلامهم وقال الفراء والجبائي : إن كلام الملأ قد تم عند قوله سبحانه : يريد
(9/22)

أن يخرجكم من أرضكم ثم قال فرعون : فماذا تأمرون قالوا : أرجه وحينئذ يحتمل كما قال القطب أن يكون كلام الملأ مع فرعون وخطاب الجمع في يخرجكم إما لتفخيم شأنه أو لإعتباره مع خدمه وأعوانه ويحتمل أن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه ثم قال : وإنما التزموا هذا التعسف ليكون مطابقا لما في الشعراء في أن قوله : ماذا تأمرون من كلام فرعون وقوله : أرجه وأخاه كلام الملأ لكن ماارتفعت المخالفة بالمرة لأن قوله : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم كلام فرعون للملأ وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملأ لفرعون ولعلهم يحملونه على أنه قاله لهم مرة وقالوه له أخرى انتهى ويمكن أن يقال : إن الملأ لما رأوا من موسى عليه السلام مارأوا قال بعضم لبعض : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تشيرون وما تستحسنون في أمره ولما رآهم فرعون أنهم مهتمون من ذلك قال لهم تنشيطا لهم وتصويبا لما هم عليه قبل أن يجيب بعضهم بعضا بما عنده مثل ماقالوه فيما بينهم فالتفتوا إليه وقالوا : أرجه وأخاه : فحكى سبحانه هنا مشاورة بعضهم لبعض وعرض ماعندهم على فرعون أول وهلة قبل ذكره فيما بينهم وحكى في الشعراء كلامه لهم ومشاورته إياهم التي هي طبق مشاورة بعضهم بعضا المحكية هنا وجوابهم له بعد تلك المشاورة وعلى هذا لايدخل العوام في الشورى ويكون ههنا أبلغ في ذم الملأ فليتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وأرسل في المدائن أي البلاد جمع مدينة وهي من مدن بالمكان كنصر إذا أقام به ولكون الياء زائدة كما قال غير واحد تقلب همزة في الجمع وأريد بها مطلق المدائن وقيل : مدائن صعيد مصر حاشرين
111
- أي رجالا يجمعون السحرة وفسره بعضهم بالشرط وهم أعوان الولاة لأنهم يجعلون لهم علامة ويقال للواحد شرطي بسكون الراء نسبة للشرطة وحكى في القاموس فتحها أيضا وفي الأساس أنه خطأ لأنه نسبة إلى الشرط الذي هو جمع ونصب الوصف على أنه صفة لمحذوف ومفعوله محذوف أيضا كما أشير إليه وقد نص على ذلك الأجهوري يأتوك بكل ساحر عليم
211
- أي ماهر في السحر والفعل مجزوم في جواب الطلب
وقرأ حمزة والكسائي سحار وجاء فيه الإمالة وعدمها وهو صيغة مبالغة وفسره بعضهم بأنه الذي يديم السحر والساحر من أن يكون قد سحر في وقت دون وقت وقيل : الساحر هو المبتدىء في صناعة السحر والسحار هو المنتهي الذي يتعلم منه ذلك وجاء السحرة فرعون بعدما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح به للإيذان بمسارعة فرعون بالإرسال ومبادرة الحاشرين والسحرة إلى الإمتثال
واختلف في عدتهم فعن كعب أنهم إثنا عشر ألفا وعن ابن إسحاق خمسة عشر ألفا وعن أبي ثمامة سبعة عشر ألفا وفي رواية تسعة عشر ألفا وعن السدي بضعة وثلاثون ألفا وعن أبي بزة أنهم سبعون ألفا وعن محمد بن كعب ثمانون ألفا وأخرج أبو الشيخ عن ابن جرير قال : السحرة ثلثمائة من قومه ثلثمائة من العريش ويشكون في ثلثمائة من الإسكندرية
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا سبعين ساحرا وقد أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل نينوى مدينة يونس عليه السلام وروى نحو ذلك عن الكلبي والظاهر عدم صحته لأن المجوسية
(9/23)

ظهرت زمن زرادشت على المشهور وهو إنما جاء بعد موسى عليه السلام واسم رئيسهم كما قال مقاتل : شمعون وقال ابن جريج : هو حنا وقال ابن الجوزي نقلا عن علماء السير : أن رؤساءهم سابور وعازور وحطحط ومصفى قالوا إستئناف بياني ولذا لم يعطف كأنه قيل : فماذا قالوا له عند مجيئهم إياه فقيل : قالوا الخ وهذا أولى مما قيل إنه حال من فاعل جاءوا أي جاءوا قائلين إن لنا لأجرا أي عوضا وجزاء عظيما
إن كنا نحن الغالبين
311
- والمقصود من الأخبار إيجاب الأجر واشتراطه كأنهم قالوا : بشرط أن تجعل لنا أجرا إن غلبنا ويحتمل أن يكون الكلام على حذف أداة الإستفهام وهو مطرد ويؤيد ذلك أنه قرأ ابن عامر وغيره ائن بإثبات الهمزة وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما ومن هنا رجح الواحدي هذا الإحتمال وذكر الشرط لمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم في الغلبة وقيل : له وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر أي كنا نحن الغالبين لا موسى عليه السلام قال نعم إن لكم لأجرا
وإنكم لمن المقربين
411
- عطف على مقدر هو عين الكلام السابق الدال عليه حرف الإيجاب ويسمى مثل هذا عطف التلقين ومن قال إنه معطوف على السابق أراد ماذكرنا والمعنى إن لكم لأجرا وإنكم مع ذلك لمن المقربين أي إني لا أقتصر لكم على العطاء وحده وأن لكم معه ماهو أعظم منه وهو التقريب والتعظيم لأن من أعطى شيئا إنما يتهنأ به ويغتبط إذا نال معه الكرامة والرفعة وفي ذلك من المبالغة في الترغيب والتحريض مالايخفى وروي عن الكلبي أنه قال لهم : تكونون أول من يدخل مجلسي وآخر من يخرج عنه قالوا إستئناف كنظيره السابق ياموسى إما أن تلقي ماتلقى أولا وإما أن نكون نحن الملقين
511
- لما نلقى أولا أو الفاعلين للإلقاء أولا خيروه عليه السلام بالبدء بالإلقاء مراعاة للأدب ولذلك كما قيل من الله تعالى عليهم بما من أو إظهارا للجلادة وأنه لايختلف عليهم الحال بالتقديم والتأخير ولكن كانت رغبتهم في التقديم كما ينبىء عنه تغييرهم للنظم بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل وتوكيد الضمير المستتر والظاهر أنه وقع في المحكي كذلك بما يرادفه وقول الجلال السيوطي : إن الضمير المنفصل إما أن يكون فصلا أو تأكيدا ولا يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لامحل له من الإعراب وعلى الثاني له محل كالمؤكد وهم كما لايخفى وفرق الطيبي بين كون الضمير فصلا وبين كونه توكيدا بأن التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر أي نحن نلقي البتة لاغيرنا والفصل يخصص الإلقاء بهم لتخصيص المسند بالمسند إليه فيعرى عن التوكيد وتحقيق ذلك يطلب من محله قال أي موسى عليه السلام وثوقا بشأنه وتحقيرا لهم وعدم مبالاة بهم ألقوا أنتم ماتلقون أولا وبما ذكرنا يعلم جواب مايقال : إن إلقاءهم معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر والأمر به مثله فكيف أمرهم وهو هو وحاصل الجواب أنه عليه السلام علم أنهم لابد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير كما صرح به في قوله سبحانه في آية أخرى : أول من ألقى فجوز لهم التقديم لا لأباحة فعلهم بل لتحقيرهم وليس هناك دلالة على الرضا بتلك المعارضة وقد يقال أيضا : إنه عليه السلام إنما أذن لهم ليبطل سحرهم فهو إبطال للكفر بالآخرة وتحقيق لمعجزته عليه السلام وعلى هذا
(9/24)

يحمل ماجاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا ماقالوا سمع موسى عليه السلام مناديا يقول : بل ألقوا أنتم ياأولياء الله تعالى فأوجس في نفسه خيفة من ذلك حتى أمر عليه السلام وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك فلما ألقوا ماألقوا وكان مع كل واحد منهم حبل وعصا سحروا أعين الناس بأن خيلوا إليها ماالحقيقة بخلافه ولذا لم يقل سبحانه سحروا الناس فالآية على حد قوله جل شأنه : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى واسترهبوهم أي أرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا إرهابهم وجاءوا بسحر عظيم
611
- في بابه يروى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا
وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلا في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي ويقال : إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصي زئبقا أيضا وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل وفيه أنهم إن أرادوا أن ماوقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لاتدل عليه والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه مالا حقيقة له ومنه ماله حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم
وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشي على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى نعم قال القرطبي : أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر مايفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الإلتباس بالمعجزة وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر وأوحينا إلى موسى بواسطة الملك كما هو الظاهر أن ألق عصاك التي علمت من أمرها ماعلمت و أن تفسيرية لتقدم مافيه معنى القول دون حروفه وجوز أن تكون مصدرية فالمصدر مفعول الإيحاء والفاء في قوله سبحانه : فإذا هي تلقف ما يأفكون
711
- فصيحة أي فألقاها فصارت حية فإذا هي الخ وإنما حذف للإيذان بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الإنقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء وصيغة المضارع لإستحضار الصورة الغريبة واللقف كاللقفان التناول بسرعة وفسره الحسن هنا بالسرط والبلع والإفك صرف الشيء وقلبه عن الوجه المعتاد ويطلق على الكذب وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد لكونه مقلوبا عن وجهه واشتهر ذلك فيه حتى صار حقيقة و ما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي مايأفكونه ويكذبونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول أي المأفوك لأنه المتلقف وقرأ الجمهور تلقف بالتشديد وحذف إحدى التاءين فوقع أي ظهر وتبين كما قال الحسن ومجاهد والفراء الحق وهو أمر موسى عليه السلام وفسر بعضهم وقع بثبت على أنه قد استعير الوقع للثبوت والحصول أو للثبات والدوام لأنه في مقابل
(9/25)

بطل والباطل زائل وفائدة الإستعارة كما قيل : الدلالة على التأشير لأن الوقع يستعمل في الاجسام وقيل : المراد من وقع الحق صيرورة العصا حية في الحقيقة وليس بشيء وبطل ما كانوا يعملون
811
- أي ظهر بطلان ماكانوا مستمرين على عمله فغلبوا أي فرعون وقومه هنالك أي في ذلك المجمع العظيم وانقلبوا صاغرين
911
- أي صاروا أذلاء أو رجعوا إلى المدينة كذلك فالإنقلاب إما مجاز عن الصيرورة والمناسبة ظاهرة أو بمعنى الرجوع فصاغرين حال ورجح الأول بقوله سبحانه : وألقى السحرة ساجدين
21
- لأن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعا وجوز رجوع ضمير غلبوا وانقلبوا على الإحتمال الأول إلى السحرة أيضا وتعقب بأنهم لا ذلة لهم والحمل على الخوف من فرعون أو على ما قبل الإيمان لايخفى ما فيه والمراد من ألقى السحرة الخ أنهم خروا ساجدين وعبر بذلك دونه تنبيها على أن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك فكأن أحدا دفعهم وألقاهم أو أن الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه فالملقي هو الله تعالى بإلهامه لهم حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى عليه السلام وينقلب الأمر عليه ويحتمل أن يكون الكلام جاريا مجرى التمثيل مبالغة في سرعة خرورهم وشدته وإليه يشير كلام الأخفش وجوز أن يكون التعبير بذلك مشاكلة لما معه من الإلقاء إلا أنه دون ما تقدم يروى أن إجتماع القوم كان بالإسكندرية وأنه بلغ ذنب الحية من وراء البحر وأنها فتحت فاها ثمانين ذراعا فابتلعت ماصنعوا واحدا بعد واحد وقصدت الناس ففزعوا ووقع الزحام فمات منهم لذلك خمسة وعشرون ألفا ثم أخذها موسى عليه السلام فعادت في يده عصا كما كانت وأعدم الله تعالى بقدرته تلك الأجرام العظام ويحتمل أنه سبحانه فرقها أجزاء لطيفة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس من السحر في شيء فعند ذلك خروا سجدا والمتبادر من السجود حقيقته ولا يبعد أنهم كانوا عالمين بكيفيته وقيل : إن موسى وهرون عليهما السلام سجدا شكرا لله تعالى على ظهور الحق فاقتدوا بهما وسجدوا معهما وحمل السجود على الخضوع أي أنهم خضعوا لما رأوا مارأوا خلاف الظاهر الذي نطقت به الآثار من غير داع إلى إرتكابه قالوا إستئناف
وجوز أبو البقاء كونه حالا من ضمير انقلبوا وليس بشيء وقيل : هو حال من السحرة أو من ضميرهم المستتر في ساجدين أي أنهم ألقوا ساجدين حال كونهم قائلين ءامنا برب العالمين أي مالك أمرهم والمتصرف فيهم رب موسى وهارون بدل مما قبل وإنما أبدلوا لئلا يتوهم أنهم أرادوا فرعون ولم يقتصروا على موسى عليه السلام إذ ربما يبقى للتوهم رائحة لأنه كان ربى موسى عليه السلام في صغره ولذا قدم هارون في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سنا منه وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة وأما كون الفواصل في كلام الله تعالى لا في كلامهم فقد قيل : إنه لايضر وروى أنهم لما قالوا : آمنا برب العالمين قال فرعون : أنا رب العالمين فقالوا ردا عليه : رب موسى وهارون وإضافة الرب إليهما كإضافته إلى العالمين وقيل : إن تلك الإضافة على معنى الإعتقاد أي الرب الذي يعتقد ربوبيته موسى وهارون ويكون عدم صدقه على فرعون بزعمه أيضا ظاهرا جدا إلا أن ذلك خلاف الظاهر من الإضافة ويعلم مما قدمنا سر
(9/26)

تقديم السجود على هذا القول
وقال الخازن في ذلك : إن الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان خروا سجدا لله تعالى على ماهداهم إليه وألهمهم من الإيمان ثم أظهروا بذلك إيمانهم وقيل : إنهم بادروا إلى السجود تعظيما لشأنه تعالى لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان ومن جعل الجملة حالا قال بالمقارنة فافهم وأول من بادر بالإيمان كما روي عن ابن إسحاق الرؤساء الأربعة الذين ذكرهم ابن الجوزي ثم أتبعتهم السحرة جميعا قال فرعون منكرا على السحرة موبخا لهم على مافعلوه ءامنتم به أي برب موسى وهارون أو بالله تعالى لدلالة ذلك عليه أو بموسى عليه السلام قيل لقوله تعالى في آية أخرى : آمنتم له فإن الضمير فيها له عليه السلام لقوله سبحانه : إنه لكبيركم الخ والمقصود من الجملة الخبرية التوبيخ لأن الخبر إذا لم يقصد به فائدته ولا لازمها تولد منه بحسب المقام ما يناسبه وهنا لما خاطبهم الجبار بما فعلوا مخبرا لهم بذلك مع ظهور عدم قصد إفادة أحد الأمرين والمقام هو المقام أفاد التوبيخ والتقريع ويجوز أن تقدر فيه الهمزة بناء على إطراد ذلك والإستفهام للإنكار بمعنى أنه لاينبغي ذلك ويؤيد ذلك قراءة حمزةوالكسائي وأبي بكر عن عاصم وروح عن يعقوب أآمنتم بهمزتين محققتين وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين مما قرىء به أيضا
قبل أن آذن لكم أي قبل أن آمركم أنا بذلك وهو على حد قوله تعالى : لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي لا أن الإذن منه ممكن في ذلك وأصل آذن أأذن بهمزتين الأولى للتكلم والثانية من صلب الكلمة قلبت ألفا لوقوعها ساكنة بعد همزة إن هذا الصنيع لمكر مكرتموه لحيلة احتلتموها أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة وهذا تمويه منه على القبط يريهم أنهم ماغلبوا ولا انقطعت حجتهم قيل : وكذا قوله : قبل أن آذن لكم في المدينة أي في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال : التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق فقال الساحر : لآتين غدا بسحر لايغلبه سحر فوالله لئن غلبتني لأومنن بك ولأشهدن إنك حق وفرعون ينظر إليهم وهو الذي نشأ عنه هذا القول لتخرجوا منها أهلها أي القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل فسوف تعلمون عاقبة مافعلتم وهذا وعيد ساقه بطريق الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال : لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي من كل جانب عظوا مغايرا للآخر كاليد من جانب والرجل من آخر والجار في موضع الحال أي مختلفة والقول بأن من تعليلية متعلقة بالفعل أي لأجل خلافكم بعيد ثم لأصلبنكم أجمعين تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم والتصليب مأخوذ من الصلب وهو الشد على خشبة أو غيرها وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم ورأيت في بعض الكتب أن الصلب الذي عناه الجبار هو شد الشخص من تحت الإبطين وتعليقه حتى يهلك وهو كقطع الأيدي والأرجل أول من سنه فرعون على ما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيما لجرمهم ولهذا
(9/27)

سماه سبحانه محاربة لله ولرسوله قالوا إستئناف بياني إنا إلى ربنا منقلبون
521
- أي إلى رحمته سبحانه وثوابه عائدون إن فعلت بنا ذلك فياحبذاه
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السحرة حين خروا سجدا رأوا منازلهم تبنى لهم وأخرج عن الأوزاعي أنهم رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها ويحتمل أنهم أرادوا إنا ولابد ميتون فلا ضير فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته : ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد ويحتمل أيضا أن المعنى إنا جميعا ننقلب إلى الله تعالى فيحكم بيننا : إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم وضمير الجمع على الأول للسحرة فقط وعلى الثالث لهم ولفرعون وعلى الثاني يحتمل الأمرين وما تنقم أي ماتكره وجاء في الماضي نقم ونقم على وزن ضرب وعلم منا معشر من آمن : إلا أن آمنا بأيات ربنا لما جاءتنا وذلك أصل المفاخر وأعظم المحاسن والإستثناء مفرغ والمصدر في موضع المفعول به والكلام على حد قوله : ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم تعاب بنسيان الأحبة والوطن وقيل : إن تنقم مضارع نقم بمعنى عاقب يقال : نقم منه نقما وتنقاما وانتقم إذا عاقبه وإلى هذا يشير ماروى عن عطاء وعليه فيكون أن آمنا في موضع المفعول له والمراد على التقديرين حسم طمع فرعون في نجع تهديده إياهم ويحتمل أن يكون على الثاني تحقيقا لما أشاروا إليه أولا من الرحمة والثواب ثم أعرضوا عن مخاطبته وفزعوا والتجأوا إليه سبحانه وقالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا أي أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون فأفرغ على الأول استعارة تبعية تصريحية و صبرا قرينتها والمراد هب لنا صبرا تاما كثيرا وعلى الثاني يكون صبرا إستعارة أصلية مكنية و أفرغ تخييلية وقيل : الكلام على الأول كالكلام على الثاني إلا أن الجامع هناك الغمر وههنا التطهير وليس بذاك وأن جل قائله وتوفنا مسلمين أي ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد عن ابن عباس والكلبي والسدي أنه فعل بهم ما أوعدهم به وقيل : لم يقدر عليه لقوله تعالى : لايصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون
وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد الغلبة بالحجة أو في عاقبة الأمر ونهايته وهذا لا ينافي قتل البعض وقال الملأ من قوم فرعون مخاطبين له بعدما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام ما شاهدوا أتذر موسى أي أتتركه وقومه ليفسدوا في الأرض أي في أرض مصر
والمراد بالإفساد مايشمل الديني والدنيوي ومفعول الفعل محذوف للتعميم أو أنه منزل منزلة اللأزم أو يقدر يفسدوا الناس بدعوتهم إلى دينهم والخروج عليك أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما آمنت السحرة أتبع موسى عليه السلام ستمائة ألف من بني إسرائيل ويذرك عطف على يفسدوا المنصوب بأن
(9/28)

أو منصوب على جواب الإستفهام كما ينصب بعد الفاء وعلى ذلك قول الحطيئة : ألم أك جاركم ويكون بيني وبينكم المودة والإخاء والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى عليه السلام وقومه مفسدين في الأرض وتركهم إياك الخ أي لايمكن وقوع ذلك وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة بالرفع على أنه عطف على تذر أو إستئناف أو حال بحذف المبتدأ أي وهو يذرك لأن الجملة المضارعية لاتقترن بالواو على الفصيح والجملة تقدير الإستئناف معترضة مؤكدة لمعنى ما سبق أي تذره وعادته تركك ولابد من تقدير هو على ماقال الطيبي كما في احتمال الحال ليدل على الدوام وعلى تقدير الحالية تكون مقررة لجهة الإشكال وعن الأشهب أنه قرأ بسكون الراء وخرج ذلك ابن جني على أنه تركت الضمة للتخفيف كما في قراءة أبي عمرو يأمركم باسكان الراء استقلالا للضمة عند توالي الحركات واختاره أبو البقاء وقيل : إنه عطف على ماتقدم بحسب المعنى ويقال له في غير القرآن عطف التوهم كأنه قيل : يفسدوا ويذرك كقوله تعالى : فأصدق وأكن من الصالحين وءالهتك أي معبوداتك يروى أنه كان يعبد الكواكب فهي آلهته وكان يعتقد أنها المربية للعالم السفلي مطلقا وهو رب النوع الإنساني وعن السدي أن فرعون كان قد اتخذ لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه ولذلك قال : أن ربكم الأعلى وقيل : إنه كانت له بقرة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمر قومه بعبادتها ولذلك أخرج السامري لبني إسرائيل عجلا وهو رواية ضعيفة عن ابن عباس وقال سليمان التيمي : بلغني أنه كان يجعل في عنقه شيئا يعبده وأمر الجمع عليه يحتاج إلى عناية وقرأ ابن مسعود والضحاك ومجاهد والشعبي و إلهتك كعبادتك لفظا ومعنى فهو مصدر
وأخرج غير واحد عن ابن عباس أنه كان ينكر قراءة الجمع بالجمع ويقرأ بالمصدر ويقول : إن فرعون كان يعبد ولا يعبد ألا ترى قوله : ما علمت لكم من إله غيري ومن هنا قال بعضهم : الأقرب أنه كان دهريا منكرا للصانع وقيل : الألهة اسم للشمس وكان يعبدها وأنشد أبو علي :
وأعجلنا الألهة أن تؤبا
قال مجيبا لهم سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم كما كنا نفعل بهم ذلك من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده وقرأ ابن كثير ونافع سنقتل بالتخفيف والتضعيف كما في موتت الإبل
وإنا فوقهم قاهرون
721
- أي غالبون كما كنا لم يتغير حالنا وهم مقهورون تحت أيدينا وكان فرعون قد أنقطع طمعه عن قتل موسى عليه السلام فلم يعد الملأ بقتله لما رأى من علو أمره وعظم شأنه وكأنه لذلك لم يعد بقتل قومه أيضا والظاهر على ماقيل : إن هذا من فرعون بيان لأنهم لا يقدرون على أن يفسدوا في الأرض وإيذان بعدم المبالاة بهم وأن أمرهم فيما بعد كأمرهم فيما قبل وأن قتلهم عبث لاثمرة فيه وذكر الطيبي أنه من الاسلوب الحكيم وإن صدر من الأحمق وأن الجملة الاسمية كالتذليل لما قبلها فافهم
قال موسى لقومه تسلية لهم حين تضجروا مما سمعوا بأسلوب حكيم استعينوا بالله واصبروا على ماسمعتم من الأقاويل الباطلة إن الأرض لله أي أرض مصر أو الأرض مطلقا وهي داخلة فيها دخولا أوليا
(9/29)

يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين
821
- الذين أنتم منهم وحاصله أنه ليس الأمر كما قال فرعون : إنا فوقهم قاهرون فإن القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض وأنا ذلكم الموعود الذي وعدكم الله تعالى النصرة به وقهر الأعداء وتوريث أرضهم وقوله : والعاقبة الخ تقرير لما سبق
وقرأ أبي وابن مسعود والعاقبة بالنصب عطفا على اسم أن قالوا أي قوم موسى عليه السلام أوذينا من جهة فرعون من قبل أن تأتينا بالرسالة يعنون بذلك قتل الجبار أولادهم قبل مولده وبعده إذ قيل له : يولد لبني إسرائيل غلام يسلبك ملكك ويكون هلاكك على يديه ومن بعدما جئتنا أي رسولا يعنون به ما توعدهم به من إعادة قتل الأبناء وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجور والعذاب وقيل : إن نفس ذلك الإيعاد إيذاء وقيل : جعل إيعاده بمنزلة فعله لكونه جبارا
وقيل : أرادوا الأيذاء بقتل الأبناء قبل مولد موسى عليه السلام وبعد مولده وقيل : المراد ماكانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن وتعقب بأن ذلك ليس مما يلحقهم بواسطة موسى عليه السلام فليس لذكره كثير ملاءمة بالمقام والظاهر أنه لا فرق بين الإتيان والمجيء وإن الجمع بينهما للتفنن والبعد عن التكرار اللفظي فإن الطباع مجبولة على معاداة المعادات ولذلك جيء بأن المصدرية أولا وبما اختها ثانيا
وذكر الجلال السيوطي في الفرق بينهما الإتيان يستعمل في المعاني والأزمان والمجيء في الجواهر والأعيان وهو غير ظاهر هنا إلا أن يتكلف ونقل عن الراغب في الفرق بينهما أن الإتيان هو المجيء بسهولة فهو أخص من مطلق المجيء وهو كسابقه هنا أيضا وهذا منهم جار مجرى التحزن لعدم الإكتفاء بما كنى لهم عليه السلام لفرط ماعراهم وفظاعة مااعتراهم والمقام يقتضي الإطناب فإن شأن الحزين الشاكي إطالة الكلام رجاء أن يطفيء بذلك بعض الأوام وقيل : هو استبطاء منهم لما وعدهم عليه السلام من النجاة والظفر والأول أولى فقوله تعالى : قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم الذي فعل بكم مافعل وتوعدكم بما توعد
ويستخلفكم أي يجعلكم خلفاء في الأرض أي أرض مصر تصريح بما كنى عنه وتوكيد للتسلية على أبلغ وجه وفيه ادماج معنى من عادى أولياء الله تعالى فقد بارزه بالمحاربة وحق له الدمار والخسار وعسى في مثله قطع في إنجاز الموعود والفوز بالمطلوب ونص غير واحد على أن التعبير به للجري على سنن الكرماء
وقيل : تأدبا مع الله تعالى وإن كان الأمر مجزوما به بوحي وإعلام منه سبحانه وتعالى وقيل : إن ذلك لعدم الجزم منه عليه السلام بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم فقد روي أن مصر إنما فتحت في زمن داود عليه السلام
وتعقب بأنه لايساعده قوله تعالى : وأورثنا القوم الذين يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها فإن المتبادر استخلاف المستضعفين أنفسهم لا إستخلاف أولادهم والمجاز خلاف الأصل نعم المشهور أن بني إسرائيل بعد أن خرجوا مع موسى عليه السلام من مصر لم يرجعوا إليها في حياته وفي قوله سبحانه : فينظر أي يرى أو يعلم كيف تعملون أحسنا أم قبيحا فيجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال إرشاد لهم
(9/30)

إلى الشكر وتحذير لهم عن الوقوع في مهاوي الكفر وقيل : فيه إشارة إلى ما وقع منهم بعد ذلك
ولقد أخذنا ءآل فرعون بالسنين شروع في تفصيل مبادي الهلاك الموعود به وإيذان بأنهم لم يمهلوا حتى تحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الإستئصال وتصدير الجملة بالقسم لأظهار الإعتناء بمضمونها والمراد بآل فرعون أتباعه من القبط وإضافةالآل إليه وهو لايضاف إلا إلى الإشراف لما فيه من الشرف الدنيوي الظاهر وإن كان في نفس الأمر خسيسا وعن الخطيب أن المراد فرعون وآله والسنين جمع سنة والمراد بها عام القحط وقد غلبت في ذلك حتى صار كالعلم له لكثرة مايذكر ويؤرخ به ولا كذلك العام الخصب ولامها واو أوها وقد اشتقوا منها فقالوا : أسنت القوم إذا قحطوا وقلبوا اللام تاء ليفرقوا بين ذلك وقولهم اسنى القوم إذا لبثوا في موضع سنة قال المازني : وهو شاذ لا يقاس عليه وقال الفراء : توهموا أن الهاء أصلية إذ وجدوها أصلية فقلبوها تاء وجاء أصابتنا سنية حمراء أي جدب شديد فالتصغير للتعظيم وإجراء الجمع مجرى سائر الجموع السالمة المعربة بالحروف هو اللغة المشهورة واللغة الأخرى إجراء الإعراب بالحركات الثلاث مع التنوين عند بني عامر وبنو تميم لاينونون تخفيفا وحينئذ لا تحذف النون للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر : دعاني من نجد فإن سنينه لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف عليه السلام وجاء في رواية أخرى اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف عليه السلام وهو على اللغة المشهورة ونقص من الثمرات بكثرة عاهات الثمار وخروج اليسير منها حتى لاتحمل النخلة كما روي عن رجاء بن حيوة الأبسرة واحدة وكان القحط على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة باديتهم وأهل ماشيتهم والنقص في أمصارهم وقراهم وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ماقال : لما أخذ الله تعالى آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر فاجتمعوا إلى فرعون وقالوا له : إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء فقال : غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال أي شيء صنعت أنا لاأقدر على ذلك فغدا يكذبونني فلما كان جوف الليل قام واغتسل ولبس مدرعة صوف ثم خرج حافيا حتى أتى النيل فقام في بطنه فقال : أللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بخرير الماء يقبل فخرج وأقبل النيل مترعا بالماء لما أراد الله تعالى بهم من الهلكة وهذا إن صح يدل على أن الرجل لم يكن دهريا نافيا للصانع كما قال البعض لعلهم يذكرون أي لكي يتعظوا فيتركوا ما هم عليه أو لكي يذكروا الله تعالى فيتضرعوا له ويلتجئوا إليه رغبة فيما عنده وقيل : لكي يتذكروا أن فرعون لو كان إلها لدفع ذلك الضرر
وعن الزجاج أنهم إنما أخذوا بالضراء لأن أحوال الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله تعالى ألا ترى قوله تعالى وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض فإذا جاءتهم الحسنة الخ بيان لعدم تذكرهم وتماديهم في الغي والمراد بالحسنة كما يفهمه ظاهر كلام البعض الخصب والرخاء وفسرها مجاهد بالرخاء والعافية وبعضهم بأعم من ذلك أي إذا جاءهم مايستحسنوه قالوا لنا هذه أي إنا مستحقوها بيمن الذات وإن تصبهم سيئة أي ضيقة
(9/31)

وجدب أو جدب ومرض أو عقوبة وبلاء يطيروا بموسى ومن معه أي يتشاءموا بهم ويقولوا : ذلك إلا بشؤمهم وأصل إطلاق التطير على التشاؤم على ماقال الأزهري إن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وتتيمن بالسانح وفي المثل من إلي بالسانح بعد البارح قال أبو عبيدة : سأل يونس رؤبة وأنا شاهد عن السانح والبارح فقال : السانح ماولاك ميامنه والبارح ماولاك مياسره وقيل : البارح مايأتي من جهة الشمال والسانح مايأتي من جهة اليمين وأنشدوا : زجرت لها طير الشمال فإن يكن هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها ثم إنهم سموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيرا وقد يطلقون الطائر على الحظ والنصيب خيرا أو شرا حتى قيل : إن أصل التطير تفريق المال وتطييره بين القوم فيطير لكل أحد نصيبه من خير أو شر ثم غلب في الشر وفي الآية إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلب وتذلل العرائك وتزيل التماسك لاسيما بعد مشاهدة الآيات وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيء منها بل ازدادوا عتوا وعنادا وتعريف الحسنة وذكرها بأداة التحقيق كما قال غير واحد لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها بالذات لأن العناية الألهية اقتضت سبق الرحمة وعموم النعمة قبل حصول الأعمال وتنكير السيئة وذكرها بأداة الشك لندورها وعدم تعلق الإرادة باحداثها إلا بالتبع فإن النقمة بمقتضى تلك العناية إنما تستحق بالأعمال
والزمخشري بين الحسنة بالخصب والرخاء ثم قال في تعليل ماذكر : لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها وقال صاحب الكشف : ذلك إشارة إلى أن التعريف للعهد الخارجي التقريري بدليل أنه ذكر في مقابلة قوله سبحانه : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين وقوله : لأن الجنس الخ أي جنس الخصب والرخاء وفيه مبالغة أي إنه لكثرة الوقوع كأن الجنس كله واجب الوقوع ولهذا لايزال يتكاثر حتى يستغرق الجنس وقوله : وإما السيئة الخ في مقابلة ذلك دليل بين على إرادة هذا المعنى فلا تخالف بين كلاميه ولم يرد بالجنس العهد الذهني وهذا مراد صاحب المفتاح وبه يندفع ما توهمه صاحب الإيضاح انتهى وفيه تعريض بشيخه الطيبي حيث حمل الجنس على العهد الذهني وقال ماقال والبحث طويل الذيل فليطلب من شروح المفتاح وشرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه وقوله سبحانه وتعالى : ألا إنما طائرهم عند الله إستئناف مسوق من قبله تعالى لرد مقالتهم الباطلة وتحقيق للحق في ذلك وتصديره بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه أي ليس شؤمهم إلا عند الله أي من قبله وحكمه كما قال ابن عباس وقال الزجاج : المعنى ليس الشؤم الذي يلحقهم إلا الذي وعدوا به من العقاب عنده لا ماينالهم في الدنيا وقال الحسن : المعنى إلا إن ما تشاءموا محفوظ عليهم حتى يجازيهم الله تعالى به يوم القيامة وفسر بعضهم الطائر هنا بالحظ أي إنما حظهم وما طار إليهم من القضاء والقدر بسبب شؤمهم عند الله وقرأ الحسن إنما طيرهم وهو اسم جمع طائر على الصحيح لأنه على أوزان المفردات وقال الأخفش هو جمع له وروى عن قطرب أن الطير يكون واحدا وجمعا وكذا الطائر وأنشد ابن الأعرابي : كأنه تهتان يوم ماطر على رءوس كرءوس الطائر ولكن أكثرهم لا يعلمون
131
- ذلك فيقولون ما يقولون وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأن
(9/32)

بعضهم يعلم ولك لايعمل بمقتضى علمه وقالوا شروع في بيان بعض آخر مما أخذوا به من فنون العذاب التي هي في أنفسها آيات بينات وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعد مارأوا ما رأوا من العصا والسنين ونقص الثمرات مهما تأتينا به كلمة مهما مما اختلف فيها فقيل هي كلمة برأسها موضوعة لزيادة التعميم وقيل : هي مركبة من مه اسم فعل للكف إما باق على معناه أو مجرد عنه وما الشرطية وقال الخليل : أصلها ما ما على أن الأولى شرطية والثانية ابهامية متصلة بها لزيادة التعميم فقلبت ألف ما الأولى هاء فرارا من بشاعة التكرار وأسلم الأقوال كما قال غير واحد القول بالبساطة وفي حاشية التسهيل لابن هشام ينبغي لمن قال بالبساطة أن يكتب مهما بالياء ولمن قال أصلها ما ما أن يكتبها بالألف وفي الشرح وكذا إذا قيل أصلها مه ما وتعقب ذلك الشمني بأن القائلين بالأصلين المذكورين متفقون على أن مهما أصل آخر فما ينبغي في كتب آخرها على القول الأول ينبغي على القول الثاني وفيه نظر
وهي اسم شرط لا حرف على الصحيح ومحلها الرفع هنا على الإبتداء وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو هما على الخلاف أو النصب على الظرفية وشدد الزمخشري الإنكار عليه في الكشاف وذكر ابن المنير أنه غر القائل بظرفيتها كلام الخليل أو شبهها بمتى ما وخالف ابن مالك في ذلك وقال : إنه مسموع عن العرب كقوله : وإنك مهما تعط بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا ويوافقه كما قال الشهاب استعمال المنطقيين لها بمعنى كلما وجعلها سور الكلية فإنها تفيد العموم كما صرحوا به وليس من مخترعاتهم كما توهم وأنت تعلم أن كونها هنا ظرفا مما لا ينبغي الإقدام عليه بوجه لأباء قوله تعالى : من ءاية عنه لأنه بيان لمهما وليس بزمان وتسميتهم إياها آية من باب المجاراة لموسى عليه السلام والإستهزاء بها مع الإشعار بأن هذا العنوان لايؤثر فيهم والافهم ينكرون كونها آية في نفس الأمر ويزعمون أنها سحر كما ينبىء عنه قولهم لتسحرنا بها والضميران المجروران راجعان إلى مهما وتذكير الأول لرعاية جانب اللفظ لابهامه وتأنيث الثاني للمحافظة على جانب المعنى لأنه إنما رجع إليه بعد ما بين بآية وادعى ابن هشام أن الأولى عود الضمير الثاني إلى آية ولعله راعى القرب والذاهب إلى الأول راعى أن آية مسوقة للبيان فالأولى رجوع الضمير على المفسر المقصود بالذات وإن كان المآل واحدا أي لتسحرنا بتلك الآية أعيننا وتشبه علينا فما نحن لك بمؤمنين
231
- أي بمصدقين لك ومؤمنين بنبوتك أصلا فأرسلنا عليهم عقوبة لجرائمهم لاسيما قولهم هذا الطوفان أي ماطاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل فهو اسم جنس من الطواف وقيل : إنه في الأصل مصدر كنقصان وهو اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجارف وقد اشتهر في طوفان الماء وجاء في تفسيره هنا بذلك في عدة روايات عن ابن عباس وجاء عن عطاء ومجاهد تفسيره بالموت وأخرج ذلك ابن جرير وغيره عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا وعن وهب بن منبه أنه الطاعون بلغة اليمن وعن أبي قلابة أنه الجدري وهم أول
(9/33)

من عذبوا به وهذان القولان ينجران إلى الخير المرفوع والجراد هو المعروف واحده جرادة سمى به لجرده ما على الأرض وهو جند من جنود الله تعالى يسلطه على من يشاء من عباده وأخرج أبو داود وابن ماجه والطبراني وغيرهم عن أبي زهير النميري مرفوعا النهي عن مقاتلته معللا بما ذكر وذكر البيهقي أن ذلك إن صح مراد به إذا لم يتعرض لإفساد المزارع فإذا تعرض له جاز دفعه بما يقع به الدفع من القتال والقتل أو أريد به الإشارة إلى تعذر مقاومته بذلك وأخرج أبو داود ومن معه عن سلمان قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الجراد فقال أكثر جنود الله تعالى لاآكله ولا أحرمه وزعم أنه مخلوق من ذنوب ابن آدم مؤول والقمل بضم القاف وتشديد الميم قيل : هو الدبى وهو الصغار من الجراد ولا يسمى جرادا إلا بعد نبات أجنحته وروى ذلك ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وقيل : هو القردان جمع القراد المعروف وقيل : صغار الذر وعن حبيب بن أبي ثابت أنها الجعلان وعن ابن زيد قال : زعم بعض الناس أنها البراغيث وعن سعيد ابن جبير أنها السوس وهي الدابة التي تكون في الحنطة وغيرها ويسمى قملا بفتح فسكون وبذلك قرأ الحسن والضفادع جمع ضفدع كزبرج وجعفر وجندب ودرهم وهذا أقل أو مردود الدابة المائية المعروفة والدم معروف وتشديد 1 دالة لغة
وروي أن موسى عليه السلام لما رأى من فرعون وقومه العناد والإصرار دعا وقال : يارب إن فرعون علا في الأرض وإن قومه قد نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فأرسل الله تعالى عليهم المطر ثمانية أيام في ظلمة شديدة لم يستطع أحد لها أن يخرج من بيته فدخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه قطرة وكانت مشتبكة في بيوتهم وفاض الماء على أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فقالوا : ياموسى ادع لنا ربك يكشف عنا ذلك ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فنبت من العشب والكلأ مالم يعهد مثله قبله فقالوا : ماكان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم وأمتعتهم حتى أكل مسامير الحديد التي في الأبواب ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام وقالوا له كما قالوا أولا فخرج عليه السلام إلى الصحراء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع إلى النواحي التي جاء منها وقيل : جاءت ريح فألقته في البحر فلم يؤمنوا فسلط الله تعالى عليهم القمل فأكل ماأبقى الجراد وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيمصه وإذا أراد أن يأكل طعاما امتلأ قملا وقال ابن المسيب : ابتلوا بالسوس فكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد إلا بثلاثة أقفزة منها وأخذ حواجبهم وأشفار عيونهم وسائر شعورهم وفعل في جلودهم ما يفعله الجدري ومنعهم النوم والقرار ففزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأمتعتهم وآنيتهم منها فلا يكشف أحد إناء إلا وجدها فيه وكان الرجل يجلس
(9/34)

في االضفادع فتبلغ إلى حلقه فإذا أراد أن يتكلم يشب الضفدع فيدخل في فيه وكانت تشب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفيء نيرانهم وإذا اضطجع أحدهم ركبته حتى تكون عليه ركاما فلا يستطيع أن ينقلب وإذا أراد أن يأكل سبقته إلى فيه ولا يعجن عجينا إلا امتلأ منها ففزعوا إليه عليه السلام وتضرعوا فأخذ عليهم العهود والمواثيق ودعا فكشف الله تعالى عنهم ذلك فنقضوا العهد فأرسل الله تعالى عليهم الدم فسال النيل عليهم دما عبيطا وصارت مياههم دماء فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيكون مايلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى إن المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل فتقول لها اسقيني ماء فتصب لها من قربتها فيصير في الإناء دما حتى كانت تقول : اجعليه في فيك ثم مجيه في في فتفعل ذلك فيصير دما
وقال ابن أسلم : إن الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف آيات حال من الأشياء المتقدمة
مفصلات مبينات لايشك عاقل أنها آيات إلهية لاسحر كما يزعمون أو مميزا بعصها من بعض منفصلة بالزمان لأمتحان أحوالهم وكان بين كل اثنين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها شهرا كما أخرج ذلك ابن المنذر عن ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : كانت الآيات التسع في تسع سنين في كل سنة آية وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن نوف الشامي قال : مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعد ماغلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد والقمل الخ فأبوا أن يسلموا
وفي رواية أبي الشيخ عن ابن عباس أنه مكث عليه السلام بعد أن غلب أربعين سنة يريهم ماذكر ورأيت في مسامرات الشيخ ابن العربي قدس سره أن موسى عليه السلام مكث ينذر آل فرعون ستة عشر شهرا إلى أن أغرقوا فأدخلوا نارا ولم ينتفعوا بما رأوا من الآيات فاستكبروا عن الإيمان بها
وكانوا قوما مجرمين
331
- جملة معترضة مقررة لمضمون ماقبلها ولما وقع عليهم الرجز أي العذاب المذكور على التفصيل كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد و لما لاتنافي التفصيل والتكرير كما لايخفى
وعن أبي عبدالله رضي الله تعالى عنه أنه أصابهم ثلج أحمر لم يروه قبل فهلك منهم كثير وعن ابن جبير أنه الطاعون وقد ورد إطلاقه عليه في حديث إسامة بن زيد المرفوع وهو الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال : ليذبح كل منكم كبشا ثم ليخضب كفه في دمه ثم ليضرب على بابه ففعلوا فقال القبط لهم : لم تجعلوا هذا الدم على أبوابكم قالوا : إن الله تعالى يريد أن يرسل عليكم عذابا فنسلم وتهلكون قال القبط : فما يعرفكم الله تعالى إلا بهذه العلامة قالوا : هكذا أمرنا نبينا فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفا فأمسوا وهم لا يتدافنون والمعنى على الأول أنهم كلما وقع عليهم عقوبة من العقوبات المذكورة
قالوا ياموسى في كل مرة على القول بأن المراد بالرجز غير ماتقدم أنه لما وقع عليهم الثلج المهلك أو الطاعون الجارف قالوا ادع لنا ربك بما عهد عندك أي بعهده سبحانه عندك وهو النبوة كما قال أبو مسلم فما مصدرية
(9/35)

وسميت النبوة عهدا كما قال العلامة الثاني : لأن الله تعالى عهد إكرام الأنبياء عليهم السلام بها وعهدوا إليه تحمل أعبائها أو لأن لها حقوقا تحفظ كما تحفظ العهود أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور منه جل وعلا أو بالذي عهد إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك فما موصولة والجار والمجرور صلة لادع أو حال من الضمير فيه يعني ادع الله تعالى متوسلا بما عهد عندك ويحتمل أن تكون الباء للقسم الإستعطافي كما يقال : بحياتك افعل كذا فالمراد استعطافه عليه السلام لأن يدعو وأن تكون للقسم الحقيقي وجوابه لئن كشفت عنا الرجز الذي وقع علينا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي أقسمنا بعهد الله تعالى عندك لئن كشفت الخ وخلاصة ماذكروه في الباء هنا أنها إما للإلصاق أو للسببية أو للقسم بقسميه فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه أي إلى حد من الزمان هم واصلون إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون وهو وقت الغرق كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو الموت كما روي عن الحسن والمراد أنجيناهم من العذاب إلى ذلك الوقت ومن هنا صح تعلق الغاية بالكشف ولا حاجة إلى جعل الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الرجز خلافا لزاعمه
وقيل : المراد بالأجل ماعينوه لإيمانهم إذا هم ينكثون
531
- أي ينقضون العهد وأصل النكث فل طاقات الصوف المغزول ليغزل ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه وجواب لما فعل مقدر يؤذن به إذا الفجائية لا الجملة المقترنة بها وإن قيل به فتساهل أي فلما كشفنا عنهم ذلك فاجأوا بالنكث من غير توقف وتأمل كذا قيل وعليه فكلا الإسمين أعني لما وإذا معمول لذلك الفعل على أن الأول ظرفه والثاني مفعوله قال العلامة والداعي لذلك المحافظة على ماذهبوا إليه من أن مايلي كلمة لما من الفعلين يجب أن يكون ماضيا لفظا أو معنى إلا أن مقتضى ماذكروا من أن إذ وإذا المفاجأة في موقع المفعول به للفعل المتضمنين هما إياه أن يكون التقدير فاجأوا زمان النكث أو مكانه
وقد يقال أيضا : تقدير الفعل تكلف مستغنى عنه إذ قد صرحوا بأن لما تجاب باذا المفاجأة الداخلة على الجملة الإسمية نعم هم يذكرون مايوهم التقدير وليس به هو بيان حاصل المعنى وتفسير له فتدبر
فانتقمنا منهم أي فأردنا الإنتقام منهم وأول بذلك ليتفرع عليه قوله سبحانه : فأغرقناهم وإلا فالإغراق عين الإنتقام فلا يصح تفريعه عليه
وجوز أن تكون الفاء تفسرية وقد أثبتها البعض كما في قوله تعالى : ونادى نوح ربه فقال رب الخ وحينئذ لا حاجة إلى التأويل في اليم أي البحر كما روي عن ابن عباس والسدي رضي الله تعالى عنهم ويقع على ماكان ملحا زعافا على النهر الكبير العذب الماء ولا يكسر ولا يجمع جمع السلامة وقال الليث : هو البحر الذي لايدرك قعره وقيل : هو لجة البحر وهو عربي في المشهور وقال ابن قتيبة : إنه سرياني وأصله كما قيل يما فعرب إلي ماترى والقول بأنه اسم للبحر الذي غرق فيه فرعون غريق في يم الضعف بأنهم كذبوا بآياتنا تعليل للإغراق يعني أن سبب الإغراق وما استوجبوا به ذلك العقاب هو التكذيب بالآيات العظام وهو الذي اقتضى تعلق إرادة الله تعالى به تعلقا تنجيزيا وهذا لاينافي تفريع الإرادة على النكث لأن التكذيب هو
(9/36)

العلة الأخيرة والسبب القريب ولا مانع من تعدد الأسباب وترتب بعضها على بعض قاله الشهاب ونور الحق ساطع منه وقال شيخ الإسلام : الفاء وإن دلت على ترتب الإغراق على ماقبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذانا بأن مدار جميع ذلك تكذيب آيات الله تعالى وما عطف عليه ليكون ذلك مزجرة للسامعين عن تكذيب الآيات الظاهرة على يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى وفيه مناقشة لاتخفى
وكانوا عنها غافلين الضمير المجرور للآيات والغفلة مجاز عن عدم الذكر والمبالاة أي بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم مبالاتهم بها وتفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية وإلا فالمكذب بأمر لا يكون غافلا عنه للتنافي بين الأمرين وفي ذلك إشارة إلى أن من شاهد مثلها لاينبغي له أن يكذب بها مع علمه بها وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للنقمة وأريد بها الغرق كما يدل عليه ما قبله وعليه فيجوز أن تكون الجملة حالية بتقدير قد ولا مجاز في الغفلة حينئذ والأول أولى كما لا يخفى
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون بالإستعباد وذبح الابناء والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على إستمرار الإستضعاف وتجدده والمراد بهم بنو إسرائيل وذكروا بهذا العنوان إظهارا لكمال اللطف بهم وعظم الإحسان إليهم حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة ولعل فيه إشارة إلى أن الله سبحانه عند القلوب المنكسرة ونصب القوم على أنه مفعول أول لأورثنا والمفعول الثاني قوله سبحانه : مشارق الأرض ومغاربها أي جميع جهاتها ونواحيها والمراد بها على ماروي عن الحسن وقتادة وزيد بن أسلم أرض الشام وذكر محيي السنة البغوي أنها أرض الشام ومصر وفي رواية أنها أرض مصر التي كانت بأيدي المستضعفين وإلى ذلك ذهب الجبائي ورواه أبو الشيخ عن الليث بن سعد أي أورثنا المستضعفين أرض مستضعفيهم وملكهم ومعنى توريثهم إياها على القول بأنهم لم يدخلوها بعد أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام إدخالها تحت ملكهم وعدم وجود مانع لهم عن التصرف فيها أو تمكين أولادهم فيها وذلك في زمن داود وسليمان عليهما السلام ولا يخفى أنه خلاف المتبادر كما مرت الإشارة إليه على أن أرض مصر بعد أن فتحت في زمن داود عليه السلام لم يكن لبني إسرئيل تمكن فيها واستقرار وإنما كان ملك وتصرف وكان التمكن في الأرض المقدسة والسوق على ماقيل يقتضي ذكر ما تمكنوا فيه لا ماملكوه وأقول قد يقال المراد بالأرض هنا وفيما تقدم من قوله سبحانه : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض الأرض المقدسة التي طلب موسى عليه السلام من فرعون بني إسرائيل ليذهب بهم إليها فإنها موطن آبائهم فيكون موسى عليه السلام قد وعدهم هلاك عدوهم المانع لهم من الذهاب إليها وجعل الله تعالى إياهم خلفاء فيها بعد آبائهم وأسلافهم أو بعد من هي في يده إذ ذاك من العمالقة ثم أخبر سبحانه هنا أن الوعد قد نجز وقد أهلكنا أعداء اولئك الموعودين وأورثناهم الأرض التي منعوهم عنها ومكناهم فيها وفي حصول بغية موسى عليه السلام وما ألطف توريث الأبناء مساكن الآباء التي باركنا فيها بالخصب وسعة الأرزاق أو بذلك وبكونها مساكن الأنبياء عليهم السلام والصالحين وذلك ظاهر على تقدير أن يراد بمشارق الأرض ومغاربها الشام ونواحيها فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام
(9/37)

وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن ربيعة قال : سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها أسري به إليها وأخرج أحمد عن عبدالله بن خوالة الأزدي أنه قال : يارسول الله خر لي بلدا أكون فيه قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده وأخرج ابن عساكر عن واثلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله تعالى يسكنها خيرته من عباده وأخرج الحاكم وصححه عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : يأتي على الناس زمان لايبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام وجاء من حديث أحمد والترمذي والطبراني وابن حبان والحاكم أيضا وصححه عن زيد بن ثابت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : طوبى للشام فقيل له : ولم قال : إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها والأحاديث في فضل الشام كثيرة وقد جمعها غير واحد إلا أن في الكثير منها مقالا وسبب الوضع كان قويا وهو اسم لأحد الأقاليم العرفية وفي القاموس أنها بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني كنعان تشاءموا إليها أي تياسروا أو سمى بسام بن نوح فإنه بالشين بالسريانية أو لأن أرضها شامات بيض وحمر وسود وعلى هذا لاتهمز
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأغبش وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه سئل عما بورك من الشام أين مبلغ حده فقال : أول حدوده عريش مصر والحد الآخر طرف الثنية والحد الآخر الفرات والحد الآخر جعل فيه قبر هود النبي عليه السلام وليس المراد بها ماهو متعارف الناس اليوم أعني دمشق نعم هي داخلة فيها وقد تكلمنا على حدودها بأبسط من هذا في حواشينا على شرح مختصر السمرقندية لأبن عصام وقد ولع الناس في دمشق مدحا وذما فقال بعضهم : تجنب دمشق ولا تأتها وأن شاقك الجامع الجامع فسوق الفسوق بها نافق وفجر الفجور بها طالع وقال آخر : دمشق غدت جنة للورى زها وصفا العيش في ظلها وفيها لدى النفس ماتشتهي ولا عيب فيها سوى أهلها وقال آخر في الشام ولعله عنى متعارف الناس : قيل لي مايقول في الشام حبر شام من بارق الهنا ماشامه قلت ماذا أقول في وصف أرض هي في وجنة المحاسن شامه وأنا أقول إذا صح الحديث فهو مذهبي ونعوذ بالله تعالى من اتباع الهوى والموصول صفة المشارق والمغارب وقيل : صفة الأرض وضعفه أبو البقاء بأن فيه العطف على الموصوف قبل الصفة وهو نظير قولك : قام أم هند وأبوها العاقلة وجوز أن يكون المفعول الثاني لأورثنا أي الأرض التي فعلى هذا يكون نصب المشارق وما عطف عليه بيستضعفون على معنى يستضعفون فيها وأن يكون المشارق منصوبة بيستضعفون والتي صفة كما في الوجه الأول والمفعول الثاني لأورثنا محذوف أي الأرض أو الملك ولا يخفى بعده وأن المتبادر هو الأول
وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل أي مضت عليهم واستمرت من قولهم : مضى على الأمر إذا استمر والمراد من الكلمة وعده تعالى لهم بالنصر والتمكين على لسان نبيهم عليه السلام وهو قوله السابق عسى ربكم أن يهلك عدوكم الخ وذهب غير واحد إلى أنه الوعد الذي يؤذن به قوله سبحانه : ونريد أن نمن
(9/38)

على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين وقيل : المراد بها علمه تعالى الأزلي والمعنى مضى واستمر عليهم ما كان مقدرا من إهلاك عدوهم وتوريثهم الأرض و الحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ووصفت بذلك لما فيها من الوعد بما يحبون ويستحسنون وعن الحسن أنه أريد بالكلمة عدته سبحانه وتعالى لهم بالجنة ولا يخفى أنه يأباه السباق والسياق والتفت من التكلم إلى الخطاب في قوله سبحانه : ربك على ماقال الطيبي لأن ماقبله من القصص كان غير معلوم له صلى الله تعالى عليه وسلم وأما كونه جل شأنه منجزا لما وعد ومجريا لما قضى وقدر فهو معلوم له عليه الصلاة و السلام وذكر في الكشف أنه ادمج في هذا الإلتفات أنه ستتم كلمة ربك في شأنك أيضا وقرأ عاصم في رواية كلمات بالجمع لأنها مواعيد والوصف بالحسنى لتأويله بالجماعة وقد ذكروا أنه يجوز وصف كل جمع بمفرد مؤنث إلا أن الشائع في مثله النأنيث بالتاء وقد يؤنث بالألف كما في قوله سبحانه : مآرب أخرى بما صبروا أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وحسبك بهذا حاثا على الصبر ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله بالصبر ضمن الله تعالى له الفرج
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن قال : لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم بشيء صبروا ودعوا الله تعالى لم يلبثوا أن يرفع الله تعالى ذلك عنهم ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه ثم تلى هذه الآية وفي رواية أخرى عنه قال : ما أوتيت بنو إسرائيل ما أوتيت إلا بصبرهم وما فزعت هذه الأمة إلى السيف قط فجاءت بخير وأقول قد شاهدنا الناس سنة الألف والمائتين والثمان والأربعين قد فزعوا إلى السيف فما أغناهم شيئا ولا تم لهم مراد ولا حمد منهم أمر بل وقعوا في حرة رحيلة ووادي خدبات وأم حبوكر ورموا لعمر الله بثالثة الأثا في وقص من جناح عزهم القدامى والخوافي ولم يعلموا أن عيش المضر حلوه مر مقر وأن الفرج إنما يصطاد بشباك الصبر وما أحسن قول الحسن :
(9/39)

عجبت ممن خف كيف خف
وقد سمع قولهسبحانه : وتلا الآية ويعلم منها أن التحزن لاينافي الصبر لأن الله سبحانه وصف بني إسرائل به مع قولهم السابق لموسى عليه السلام أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ودمرنا أي خربنا وأهلكنا ما كان يصنع فرعون وقومه في أرض مصر من العمارات والقصور أي دمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون على أن ما موصولة واسم كان ضمير راجع إليها وجملة يصنع فرعون من الفعل والفاعل خبر كان والجملة صلة الموصول والعائد إليه محذوف وجوز أن يكون فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف أيضا وتعقبه أبو البقاء بأن يصنع يصلح أن يعمل في فرعون فلا يقدر تأخيره كما لايقدر تأخير الفعل في قولك : قام زيد وفيه غفلة عن الفرق بين المثال وما نحن فيه وهو مثل الصبح ظاهر وقيل : ما مصدرية وكان سيف خطيب والتقدير ما يصنع فرعون الخ وقيل : كان كما ذكرنا وما موصولة اسمية والعائد محذوف والتقدير ودمرنا الذي يصنعه فرعون الخ أي صنعه والعدول إلى صيغة المضارع على هذين القولين لإستحضار الصورة وما كانوا يعرشون من الجنات أو ماكانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان وإلى الأول يشير كلام الحسن وإلى الثاني كلام مجاهد
وقرأ ابن عامر وأبوبكر هنا وفي النحل يعرشون بضم الراء والباقون بالكسر وهما لغتان فصيحتان والكسر
(9/0)

على ماذكر اليزيدي وأبو عبيدة أفصح وقرىء في الشواذ يغرسون من غرس الأشجار وفي الكشاف أنها تصحيف وليس به هذا ومن باب الإشارة في الآيات ما وجدته لبعض أرباب التأويل من العارفين أن العصا إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي يعتمد في الحركات والأفعال الحيوانية ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمة ورق الملكات الفاضلة والعادات الحميدة من شجرة الفكر وكانت لتقدسها منقادة لأوامره مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا وإذا أرسلها عند الإحتجاج على الخصوم صارت كالثعبان تلقف مايأفكون من الأكاذيب ويظهرون من حبال الشبهات وعصا المغالطات فيغلبهم ويقهرهم وأن نزع اليد إشارة إلى إظهار القدرة الباهرة الساطعة منها أنوار الحق وجعل بعضهم فرعون إشارة إلى النفس الأمارة وقومه إشارة إلى صفاتها وكذا السحرة وموسى إشارة إلى الروح وقومه بنو إسرائيل العقل والقلب والسر وعلى هذا القياس وأول النيسابوري الطوفان بالعلم الكثير والجراد بالواردات والقمل بالإلهامات والضفادع بالخواطر والدم بأصناف المجاهدات والرياضات وهو كما ترى
وقد ذكر غير واحد أن السحر غالبا في زمن موسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته ما كانت والطب ما كان غالبا في زمن عيسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته من جنس الطب والفصاحة غالبا في زمن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والتفاخر بها أشهر من قفا نبك فلهذا كانت معجزته القرآن وإنما كانت معجزة كل نبي من جنس ماغلب على زمانه ليكون ذلك أدعى إلى إجابة دعواه
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر شروع بعد إنتهاء قصة فرعون في قصة بني إسرائيل وشرح ماأحدثوه بعد أن من الله تعالى عليهم بما من وأراهم من الآيات ماأراهم تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عما رآه من اليهود بالمدينة فإنهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى عليه السلام وإيقاظا للمؤمنين أن لايغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم الله تعالى عليهم فإن بني إسرائيل وقعوا فيما وقعوا لغفلتهم عما من الله تعالى به عليهم وجاوز بمعنى جاز وقرىء جوزنا بالتشديد وهو أيضا بمعنى جاز فعدى بالباء أي قطعنا البحر بهم والمراد بالبحر بحر القلزم
وفي مجمع البيان أنه نيل مصر وهو كما في البحر خطأ وعن الكلبي أن موسى عليه السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكرا لله تعالى فأتوا أي مروا بعد المجاوزة
على قوم قال قتادة : كانوا من لخم اسم قبيلة ينسبون كما صححه ابن عبدالبر إلى لخم بن عدي بن عمرو ابن سبا وقيل : كانوا من العمالقة الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم
يعكفون على أصنام أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها وكانت كما أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جريج تماثيل بقر من نحاس وهو أول شأن العجل وقيل : كانت من حجارة وقيل : كانت بقرا حقيقة وقرأ حمزة والكسائي يعكفون بكسر الكافقالوا عندم شاهدوا ذلك ياموسى اجعل لنا إلها مثالا نعبده كما لهم ألهة الكاف متعلقة بمحذوف وقع صفة لإلها و ما موصولة و لهم صلتهاو آلهة بدل من الضمير المستتر فيه والتقدير اجعل لنا إلها كائنا كالذي استقر هو لهم
وجوز أبو البقاء أن تكون ما كافة للكاف ولذا وقع بعدها الجملة الإسمية وأن تكون مصدرية
(9/40)

ولهم متعلق بفعل أي كما ثبت لهم قال إنكم قوم تجهلون
831
- تعجب عليه السلام من قولهم هذا بعد ما شاهدوه من الآية الكبرى والبينة العظمى فوصفهم بالجهل على أتم وجه حيث لم يذكر له متعلقا ومفعولا لتنزيله منزلة اللازم أو لأن حذفه يدل على عمومه أي تجهلون كل شيء فيدخل فيه الجهل بالربوبية بالطريق الأولى وأكد ذلك بأن وتوسيط قوم وجعل ماهو المقصود بلأخبار وصفا له ليكون كما قال العلامة كالمتحقق المعلوم وهذه كما ذكر الشهاب نكتة سرية في الخبر الموطىء لإدعاء أن الخبر لظهور أمره وقيام الدليل عليه كأنه معلوم متحقق فيفيد تأكيده وتقريره ولولاه لم يكن لتوسيط الموصوف وجه من البلاغة إن هؤلاء أي القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام متبر أي مدمر مهلك كما قال ابن عباس ماهم فيه من الدين يعني يدمر الله تعالى دينهم الذي هم عليه على يدي ويهلك أصنامهم ويجعلها فتاتا وباطل أي مضمحل بالكلية وهو أبلغ من حمله على خلاف الحق ماكانوا يعملون
931
- أي مااستمروا على عمله من عبادتها وإن قصدوا بذلك التقرب إلى الله تعالى وأن المراد أن ذلك لاينفعهم أصلا وحمل ماكانوا يعملون على الأصنام لأنها معمولة لهم على خلاف الظاهر جدا والجملة تعليل لإثبات الجهل المؤكد للقوم وفي إيقاع إسم الإشارة كما في الكشاف اسما لإن وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبر لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لايعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ماطلبوا ويبغض إليهم ماأحبوا ووجه ذلك على ما في الكشف أن اسم الإشارة بعد إفادة الإحضار وأكمل التمييز يفيد أنهم أحقاء بما أخبر عنه به بواسطة ماتقدم من العكوف والتقديم يؤذن بأن حال ماهم فيه ليست غير التبار وحال عملهم ليست إلا البطلان فهم لايعدونهما فهما لهم ضربة لازب
وجوز أبو البقاء أن يكون ماهم فيه فاعل متبر لإعتماده على المسند إليه وهو في نفسه مساو لإحتمال أن يكون ماهم فيه مبتدأ ومتبر خبر له أو أرجح منه إلا أن المقام كما قال القطب وغيره اقتضى ذلك فليفهم
قال أغير الله أبغيكم إلها قيل : هذا هو الجواب وما تقدم مقدمة وتمهيد له ولعله لذلك اعيد لفظ قال : وقال شيخ الإسلام : وهو شروع في بيان شؤون الله تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ماطلبوا عبادته مما لايمكن طلبه أصلا لكونه هالكا باطلا أصلا ولذلك وسط بينهما قال مع كون كل منهما كلام موسى عليه السلام وقال الشهاب : أعيد لفظ قال مع اتحاد ما بين القائلين لأن هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى وفي إقامة برهان التمانع على الوثنية القائلين إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى والمجيبين إذا سئلوا من خلق السموات والأرض يخلقهن الله خفاء والظاهر إقامته على التنويه كما لايخفى والإستفهام للإنكار وانتصاب غير على أنه مفعول أبغيكم وهو على الحذف والإيصال والأصل أبغي لكم وعلى ذلك يخرج كلام الجوهري وإن كان ظاهره أن الفعل متعد لمفعولين والهاء تمييز وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به لأبغي وغير صفة له قدمت فصارت حالا وأيا ما كان فالمقصود هنا اختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكار الإختصاص والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبودا وهو فضلكم على العالمين أي على زمانكم أو جميع العالمين وعليه يكون المراد تفضيلهم بتلك الآيات لا مطلقا حتى يلزم تفضيلهم على
(9/41)

أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأما الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يدخلون في المفضل عليهم بوجه بل هم خارجون عن ذلك بقرينة عقلية والجملة حالية مقررة لوجه الإنكار أي والحال أنه تعالى خص التفضيل بكم فأعطاكم نعما لم يعطها غيركم وفيه تنبيه على ماصنعوا من سوء المعاملة والمقابلة حيث قبلوا التفضل بالتفضيل والإختصاص بأن قصدوا أن يشركوا به أخس مخلوقاته وهذا الإختصاص مأخوذ من معنى الكلام وإلا فليس فيه مايفيد ذلك وتقديم الضمير على الخبر لايفيده وإن كان إختصاصا آخر على ماقيل أي هو المخصوص بأنه فضلكم على من سواكم وجوز أبو البقاء كون الجملة مستأنفة وإذ أنجيناكم من آل فرعون بإهلاكهم وتخليصكم منهم وإذ إما مفعول به لاذكروا محذوفا بناء على القول بأنها تخرج عن الظرفية أي اذكروا ذلك الوقت ويكون ذلك كناية عن ذكر مافيه وإما ظرف لمفعول اذكروا المحذوف أي اذكروا صنيعنا معكم في ذلك الوقت وهو تذكير من جهته تعالى بنعمته العظيمة وقرىء نجيناكم من التنجية وقرأ ابن عامر أنجاكم فيكون من مقول موسى عليه السلام وقال بعضهم : إنه على قراءة الجمهور أيضا كذلك على أن ضمير أنجينا لموسى وأخيه عليهما السلام أو لهما ولمن معهما أو له وحده عليه السلام مشيرا بالتعظيم إلى تعظيم أمر الإنجاء وهو خلاف الظاهر وقيل : إنه من كلام الله تعالى تتميما لكلام موسى عليه السلام كما في قوله تعالى : فأخرجنا به أزواجا بعد قوله سبحانه : هو الذي جعل لكم الأرض مهادا وهو كالتفسير لقوله سبحانه : وهو فضلكم
وقوله تعالى يسومونكم سوء العذاب أي يولونكم ذلك ويكلفونكم إياه إما إستئناف بياني كأنه قيل : مافعل بهم أو مم أنجوا فأجيب بما ذكر وإما حال من ضمير المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما معا لأشتماله على ضميرهما وقوله عز اسمه : يقتلون أبنائكم ويستحيون نساءكم بدل من يسومونكم مبين له ويحتمل الإستئناف أيضا وفي ذلكم الإنجاء أو سوء العذاب بلاء نعمة أو محنة وقيل : المراد به مايشملهما من ربكم أي مالك أموركم عظيم
141
- لايقادر قدره وفي الآية التفات على بعض ماتقدم ثم إن هذا الطلب لم يكن كما قال محيي السنة البغوي عن شك منهم بوحدانية الله تعالى وإنما كان غرضهم إلها يعظمونه ويتقربون بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة وكان ذلك لشدة جهلهم كما أذنت به الآيات وقيل : إن غرضهم عبادة الصنم حقيقة فيكون ذلك ردة منهم وأيا ماكان فالقائل بعضهم لاكلهم وقد اتفق في هذه الأمة نحو ذلك فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج في غزوة حنين فمر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم ويعكفون حولها يقال لها ذات أنواط فقالوا يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبحان الله وفي رواية الله أكبر هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم وأخرج الطبراني وغيره من طريق كثير بن عبدالله بن عوف عن أبيه عن جده قال غزونا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الفتح ونحن ألف ونيف ففتح الله تعالى مكة وحنينا حتى إذا كنا بين حنين والطائف في أرض فيها سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط فكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صرف
(9/42)

عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها فقال له رجل : يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنها السنن قلتم والذي نفس محمى بيده كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وفي هذا الخبر تصريح بأن القائل رجل واحد ولعل ذلك كان عن جهل يعذر به ولا يكون به كافرا وإلا لأمره صلى الله تعالى عليه وسلم بتجديد الإسلام ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه والناس اليوم قد اتخذوا من قبيل ذات الأنواط شيئا كثيرا لايحيط به نطاق الحصر والآمر بالمعروف أعز من بيض الانوق وألإمتثال بفرض الأمر منوط بالعيوق والأمر لله الواحد القهار وواعدنا موسى ثلاثين ليلة روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى عليه السلام ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فافسدته بالسواك فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة
وأخرج الديلمي عن ابن عباس يرفعه لما أتى موسى عليه السلام ربه عزوجل وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين وقد صام ليلهن ونهارهن كره أن يكلم ربه سبحانه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه : لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان قال : أي رب كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح قال : أو ما علمت ياموسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك ارجع فصم عشرة أيام ثم ائتني ففعل موسى عليه السلام الذي أمره ربه وذلك قوله سبحانه : وأتممناها بعشر والتعبير عنها بالليالي كما قيل لأنها غرر الشهور
وقيل : إنه عليه السلام أمره الله تعالى أن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها بما يقربه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة وكلم فيها وقد أجمل ذكر الأربعين في البقرة وفصل هنا وواعدنا بمعنى وعدنا وبذلك قرأ أبو عمرو ويعقوب ويجوز أن تكون الصيغة على بابها بناء على تنزيل قبول موسى عليه السلام منزلة الوعد وقد تقدم تحقيقهو ثلاثي كما قال أبو البقاء مفعول ثان لواعدنا بحذف المضاف أي إتمام ثلاثين ليلة أو اتيانها فتم ميقات ربه أربعين ليلة من قيبل الفذلكة لما تقدم وكأن النكتة في ذلك أن إتمام الثلاثين بعشر يحتمل المعنى المتبادر وهو ضم عشرة إلى ثلاثين لتصير بذلك أربعين ويحتمل أنها كانت عشرين فتمت بعشرة ثلاثين كما يقال أتممت العشرة بدرهمين على معنى أنها لولا الدرهمان لم تصر عشرة فلدفع توهم الإحتمال الثاني جيء بذلك وقيل : إن الإتمام بعشر مطلق يحتمل أن يكون تعيينها بتعيين الله تعالى أو بإرادة موسى عليه السلام فجيء بما ذكر ليفيد أن المراد الأول وقيل : جيء به رمزا إلى أنه لم يقع في تلك العشر مايوجب الجبر والميقات بمعنى الوقت وفرق جمع بينهما بأن الوقت مطلق والميقات وقت قدر فيه عمل من الأعمال ومنه مواقيت الحج ونصب أربعين قيل : على الحالية أي بالغا أربعين ورده أبو حيان بأنه على هذا يكون معمولا للحال المحذوف لا حالا وأجيب بأن النحويين يطلقون الحكم الذي للعامل لمعموله القائم مقامه فيقولون في زيد في الدار إن الجار والمجرور خبر مع أن الخبر إنما هو متعلقه وتعقب بأن الذي ذكره النحاة في الظرف دون غيره فالأحسن أنه حال بتقدير معدودا وفيه أن دعوى تخصيص الذكر في الظرف خلاف الواقع كما لايخفى على المتتبع وأن ما زعمه أحسن مما تقدم يرد عليه مايرد عليه وقيل : إنه تمييز وقيل : إنه مفعول به بتضمين
(9/43)

تم معنى بلغ وقيل : إن تم من الأفعال الناقصة وهذا خبره وهو خبر غريب وقيل : إنه منصوب على الظرفية وأورد عليه أنه كيف تكون الأربعين ظرفا للتمام والتمام إنما هو بآخرها إلا أن يتجوز فيه
وقال موسى حين توجه إلى المناجاة حسبما أمر به لأخيه هارون اسم أعجمي عبراني لم يقع في كلام العرب بطريق الأصالة ويكتب بدون ألف وهو هنا بفتح النون على أنه مجرور بدلا من أخيه أو بيانا له أو منصوب مفعولا به لمقدر أعني أعني وقريء شاذا بالضم على أنه خبر مبتدأ محذوف هو هو أو منادى حذف منه حرف النداء أي ياهرون اخلفني أي كن خليفتي في قومي وراقبهم فيما يأتون وما يذرون واستخلافه عليه السلام لأخيه مع أنه عليه السلام كان نبيا مرسلا مثله قيل : لأن الرياسة كانت له دونه واجتماع الرياسة مع الرسالة والنبوة ليس أمرا لازما كما يرشد إلى ذلك سير قصص أنبياء بني إسرئيل وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أن هرون ذكر له أنه نبي بحكم الأصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الإستخلاف من آثار تلك التبعية وقيل : إن هذا كما يقول أحد المأمورين بمصلحة للآخر إذا أراد الذهاب لأمر : كن عوضا عني على معنى ابذل غاية وسعك ونهاية جهدك بحيث يكون فعلك فعل شخصين وأصلح مايحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم أو كن مصلحا على أنه منزل منزلة اللأزم من غير تقدير مفعول
وعن ابن عباس أنه يريد الرفق بهم والإحسان إليهم وقيل : المراد احملهم على الطاعة والصلاح ولاتتبع سبيل المفسدين
241
- أي ولا تتبع سبيل من سلك الإفساد بدعوة وبدونها وهذا من باب التوكيد كما لايخفى ولما جاء موسى لميقاتنا أي لوقتنا الذي وقتناه أي لتمام الأربعين واللام للإختصاص كما في قوله سبحانه : لدلوك الشمس وهي بمعنى عند عند بعض النحويين وكلمه ربه من غير واسطة بحرف وصوت ومع هذا لايشبه كلام المخلوقين ولا محذور في ذلك كما أوضحناه في الفائدة الرابعة وإلى ماذكر ذهب السلف الصالح وقد أخرج البزار وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر قال : قال رسول الله تعالى عليه وسلم : لما كلم الله تعالى موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى : يارب أهذا كلامك الذي كلمتني به قال ياموسى : أنا كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا : ياموسى صف لنا كلام الرحمن فقال : لاتستطيعونه ألم تروا إلى صوت الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتموه فذاك قريب منه وليس به
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي الحويرث عبدالرحمن بن معاوية قال : إنما كلم الله تعالى موسى بقدر مايطيق من كلامه ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شيء وأخرج جماعة عن كعب قال : لما كلم الله تعالى موسى كلمه بالألسنة كلها فجعل يقول : يارب لاأفهم حتى كلمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته الخبر وأخرجوا عن ابن كعب القرظي أنه قال : قيل لموسى عليه السلام ماشبهت كلام ربك مما خلق فقال عليه السلام : بالرعد الساكن وأخرج الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا لما خرج أخي موسى إلى مناجاة ربه كلمه ألف كلمة ومائتي كلمة فأول ماكلمه بالبربرية ونقل عن الأشعري أن موسى
(9/44)

عليه السلام إنما سمع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى ولم يكن ماسمعه مختصا بجهة من الجهات وحمله على السماع بالفعل مشكل مع الأخبار الدالة على خلافه والظاهر أن ذلك إن صح نقله فهو قول رجع عنه إلى مذهب السلف الذي أبان عن اعتقاده له في الإبانة قال رب أرني أي ذاتك أو نفسك فالمفعول الثاني محذوف لأنه معلوم ولم يصرح به تأدبا أنظر إليك مجزوم في جواب الدعاء واستشكل بأن الرؤية مسببة عن النظر متأخرة عنه كما يريك ذلك النظر إلى قولهم : نظرت إليه فرأيته ووجهه أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته والرؤية الإدراك بالباصرة بعد التقليب وحينئذ كيف يجعل النظر جوابا لطلب الرؤية مسببا عنه وهوعكس القضية
وأجيب بأن المراد بالإراءة ليس إيجاد الرؤية بل التمكن منها مطلقا أو بالتجلي والظهور وهو مقدم على النظر وسبب له ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم أي مكني من رؤيتك أو تجل لي فأنظر إليك وأراك قال إستئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال رب العزة حين قال موسى عليه السلام ذلك فقيل : قال : لن تراني أي لا قابلية لك لرؤيتي وأنت على ما أنت عليه وهو نفي للإراءة المطلوبة على أتم وجه ولكن انظر إلى الجبل إستدراك لبيان أنه عليه السلام لايطيق الرؤية والمراد من الجبل طور سيناء كما ورد في غير ما خبر وفي تفسير الخازن وغيره أن اسمه زبير بزاي مفتوحة وباء موحدة مكسورة وراء مهملة بوزن أمير فإن استقر مكانه ولم يفتته التجلي فسوف تراني إذا تجليت لك فلما تجلى ربه للجبل أي ظهر له على الوجه اللائق بجنابه تعالى بعد جعله مدركا لذلك جعله دكا أي مدكوكا متفتتا والذك والدق أخوان كالشك والشق وقال شيخنا الكوراني : إن الجبل مندرج في الأشياء التي تسبح بحمد الله بنص وإن من شيء إلا يسبح بحمده المحمول على ظاهره عند التحقيق المستلزم لكونه حيا مدركا حياة وإدراكا لائقين بعالمه ونشأته وقيل : هذا مثل لظهور إقتداره سبحانه وتعلق إرادته بما فعل بالجبل لا أن ثم تجليا وهو نظير ما قرر في قوله تعالى أن يقول له كن فيكون من أن المراد أن ما قضاه سبحانه وأراد كونه يدخل تحت الوجود من غير توقف لا أن ثمة قولا وتعقبه صاحب الفوائد بأن هذا المعنى غير مفهوم من الآية لأن تجلى مطاوع جليته أي أظهرته يقال : جليته فتجلى أي أظهرته فظهر ولا يقدر تجلى اقتداره لأنه خلاف الأصل على أن هذا الحمل بعيد عن المقصود بمراحل وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي والحاكم وصححاه والبيهقي وغيرهم من طرق عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ هذه الآية فلما تجلى ربه الخ قال هكذا وأشار بأصبعيه ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر وفي لفظ على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل وعن ابن عباس أنه قال ماتجلى منه سبحانه للجبل إلا قدر الخنصر فجعله ترابا وهذا كما لايخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم أو التأويل بما يليق بجلال ذاته تعالى وقرأ حمزة والكسائي دكاء بالمد أي أرضا مستوية ومنه قولهم ناقة دكاء للتي لم يرتفع سنامها وقرأ يحيى بن وثاب دكا بضم الدال والتنوين جمع دكاء كحمر وحمراء أي قطعا دكا فهو صفة جمع وفي شرح التسهيل لأبي حيان أنه أجري مجرى الأسماء فأجري على المذكر وخر موسى أي سقط من
(9/45)

هول ما رأى وفرق بعضهم بين السقوط والخرور بأن الأول مطلق والثاني سقوط له صوت كالخرير صعقا أي صاعقا وصائحا من الصعقة والمراد أنه سقط مغشيا عليه عند ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم وميتا عند قتادة
روي أنه بقي كذلك مقدار جمعة وعن ابن عباس أنه عليه السلام أخذته الغشية عشية يوم الخميس يوم عرفة إلى عشية يوم الجمعة ونقل بعض القصاصين أن الملائكة كانت تمر عليه حينئذ فيلكزونه بأرجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة وهو كلام ساقط لا يعول عليه بوجه فإن الملائكة عليهم السلام مما يجب تبرئتهم من إهانة الكليم بالوكز بالرجل والغض في الخطاب فلما أفاق بأن عاد إلى ما كان عليه قبل وذلك بعود الروح عليه على ما قال قتادة أو بعود الفهم والحس على ما قال غيره والمشهور أن الإفاقة رجوع العقل والفهم إلى الإنسان بعد ذهابهما عنه بسبب من الأسباب ولا يقال للميت إذا عادت إليه روحه أفاق وإنما يقال ذلك للمغشي ولهذا اختاره الأكثرون ما قاله الحبر قال تعظيما لأمر الله سبحانه سبحانك أي تنزيها لك من مشابهة خلقك في شيء أو من أن يثبت أحد لرؤيتك على ما كان عليه قبلها أو من أن أسألك شيئا بغير إذن منك تبت إليك من الإقدام على السؤال بغير إذن وقيل : من رؤية وجودي والميل مع إرادتي وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك أو بأنه لا يراك أحد في هذه النشأة فيثبت على ما قيل وأراد كما قال الكوراني أنه أول المؤمنين بذلك عن ذوق مسبوق بعين اليقين في نظره وقيل : أراد أول المؤمنين بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك
واستدل أهل السنة الموجوزون لرؤيته سبحانه بهذه الآية على جوازها في الجملة واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك وقامت الحرب بينهما على ساق وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا : إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين الأول إن موسى عليه السلام سألها بقوله : رب أرني الخ ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عليه السلام عالما بلإستحالة فالعاقل فضلا عن النبي مطلقا فضلا عمن هو من أولي العزم لا يسأل المحال ولا يطلبه وإن لم يكن عالما بذلك لزم أن يكون آحاد المعتزلة ومن حصل طرفا من علومهم أعلم بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز من النبي الصفي والقول بذلك غاية الجهل والرعونة وحيث بطل القول بالإستحالة تعين القول بالجواز والثاني أن فيها تعليق الرؤية على إستقرار الجبل وهو ممكن في نفسه وما علق على الممكن ممكن
واعترض الخصوم الوجه الأول بوجوه الأول أنا لا نسلم أن موسى عليه السلام سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضروري به تعالى إلا أنه عبر عنه بالرؤية مجازا لما بينهما من التلازم والتعبير بأحد المتلازمين عن الآخر شائع في كلامهم وإلى هذا ذهب أبو الهذيل بن العلاف وتابعه عليه الجبائي وأكثر البصريين والثاني أنا سلمنا أنه لم يسأل العلم بل سأل الرؤية حقيقة لكنا نقول : إنه سأل رؤية علم من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فمعنى أرني أنظر إليك أرني أنظر إلى علم من أعلامك الدالة على الساعة وإلى هذا ذهب الكعبي والبغداديون والثالث أنا سلمنا أنه سأل رؤية الله تعالى نفسه حقيقة ولكن لم يكن ذلك لنفسه عليه السلام بل لدفع قومه القائلين أرنا الله جهرة وإنما أضاف
(9/46)

الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه نبيها بالأعلى على الأدنى وإلى هذا ذهب الجاحظ ومتبعوه الرابع أنه سأل لنفسه لكن لا نسلم أن ذلك ينافي العلم بالإحالة إذ المقصود من سؤالها إنما هو أن يعلم الإحالة بطريق سمعي مضاف إلى ما عنده من الدليل العقلي لقصد التأكيد وذلك جائز كما يدل عليه طلب إبراهيم عليه السلام إراءة كيفية إحياء الموتى وقوله : ولكن ليطمئن قلبي وإلى ذلك ذهب أبو بكر الأصم الخامس أنا سلمنا أن سؤال الرؤية ينافي العلم بالإحالة لكنا نلتزم القول بعدم العلم وهو غير قادح في نبوته عليه السلام فإن النبوة لا تتوقف على العلم بجميع العقائد الحقة أو جميع مايجوز عليه تعالى وما لايجوز بل على ما يتوقف عليه الغرض من البعثة والدعوة إلى الله تعالى وهو وحدانيته وتكليف عباده بالأوامر والنواهي تحريضا لهم على النعيم المقيم وليس إمتناع الرؤية من هذا القبيل ويؤيد ذلك أنه سأل وقوع الرؤية في الدنيا وهي غير واقعة عندنا وعندكم ونسب هذا القول إلى الحسن منا وهو غريب منه
السادس أنا سلمنا العلم بالإحالة لكن لانسلم إمتناع السؤال وإنما يمتنع أن لو كان محرما في شرعه لم لا يجوز أن لا يكون محرما السابع أنا سلمنا الحرمة لكن لا نسلم أن ذلك كبيرة لما لا يجوز أن يكون صغيرة وهي غير ممتنعة على الأنبياء عليهم السلام
وتكلموا على الوجه الثاني من وجهين : الأول أنا لانسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن لأن التعليق لم يكن على استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط لأن الجبل حال سكونه كان مستقرا بل على إستقراره حال حركته وهو محال لذاته والثاني أنا وإن سلمنا أن إستقرار الجبل ممكن لكن لانسلم أن المعلق بالممكن ممكن فإنه يصح أن يقال : إن إنعدام المعلول إنعدم العلة والعلة قد تكون ممتنعة العدم مع إمكان المعلول في نفسه كالصفات بالنسبة إلى الذات عند المتكلمين والعقل الأول بالنسبة إليه تعالى عند الحكماء فيجوز أن تكون الرؤية الممتنعة متعلقة بالإستقرار الممكن والسر في جواز ذلك أن الإرتباط بين المعلق والمعلق عليه إنما هو بحسب الوقوع بمعنى أنه إن وقع عدم المعلول وقع عدم العلة والممكن الذاتي قد يكون ممتنع الوقوع كالممتنع الذاتي فيجوز التعليق بينهما وليس الإرتباط بينهما بحسب الإمكان حتى يلزم من إمكان المعلق عليه إمكان المعلق ثم إنا وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه من الوجهين على جواز الرؤية فهو معارض بما يدل على عدم الجواز فإن لن في الآية لتأبيد النفي وتأكيده وأيضا قول موسى عليه السلام : تبت إليك دليل كونه مخطئا في سؤاله ولو كانت الرؤية جائزة لما كان مخطئا والزمخشري عامله الله تعالى بعدله زعم أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية وذكر في كشافه ماذكر وقال : ثم أعجب من المتسمين بالإسلام المسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ماقال بعض العدلية فيهم : وجماعة سموا هواهم سنة لجماعة حمر لعمري موكفه قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة وأجيب عن قولهم : إنه عليه السلام إنما سأل العلم الضروري بأنه لو كانت الرؤية بمعنى العلم الضروري لكان النظر المذكور بعد أيضا بمعناه وليس كذلك فإن النظر الموصول بالى نص في الرؤية لايحتمل سواه فلا يترك للإحتمال
وفي شرح المواقف أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول وأورد عليه
(9/47)

أن المراد هو العلم بهويته الخاصة والخطاب لايقتضي إلا العلم بوجه كمن يخاطبنا من وراء الجدار والمراد بالعلم بالهوية الخاصة إنكشاف هويته تعالى على وجه جزئي بحيث لايمكن عند العقل صدقه على كثيرين كما في المرئي بحاسة البصر ولا شك في كونه ممكنا في حقه تعالى لأنه قادر على أن يخلق في العبد علما ضروريا بهويته الخاصة على الوجه الجزئي بدون إستعمال الباصرة كما يخلق بعده وفي عدم لزومه الخطاب فإنه إنما يقتضي العلم بالمخاطب بأمور كلية يمكن صدقها على كثيرين عند العقل وإن كانت في الخارج منحصرة في شخص واحد فهو من قبيل التعقل وبهذا التحرير يعلم رصانة الإيراد ودفع ماأورد عليه ويظهر منه ركاكة ما قاله الآمدي من أن حمل الرؤية على العلم يلزم منه أن يكون موسى عليه السلام غير عالم بربه لئلا يلزم تحصيل الحاصل ونسبة ذلك إلى الكليم من أعظم الجهالات لأنا نقول العلم بالهوية الخاصة على ماذكرنا ليس من ضروريات النبوة ولا المكالمة كما لايخفى نعم يأبى هذا الحمل التعدية كما علمت ويبعده الجواب بلن تراني ولكن انظر الخ كما هو ظاهر وإن تكلف له الزمخشري بما تمجه الإسماع
وقيل : إنه لو ساغ هذا التأويل لساغ مثله في أرنا الله جهرة لتساوي الدلالة وهو ممتنع بالإجماع وجهرة لا يزيد على كون النظر موصولا بإلى وأجيب عن قولهم : إنما سأله أن يريه علما من أعلام الساعة بأنه لايستقيم لثلاثة أوجه
أحدها أنه خلاف الظاهر من غير دليل ثانيها أنه أجيب بلن تراني وهو إن كان محمولا على نفي ما وقع السؤال عنه من رؤية بعض الآيات فهو خلف فإنه قد أراه سبحانه أعظم الآيات وهو تدكدك الجبل وإن كان محمولا على نفي الرؤية لزم أن لايكون الجواب مطابقا للسؤال ثالثها أن قوله سبحانه : فإن استقر مكانه فسوف تراني إن كان محمولا على رؤية الآية فهو محال لأن الآية ليست في إستقرار الجبل بل في تدكدكه وإن كان محمولا على الرؤية لايكون مرتبطا بالسؤال فإذن لاينبغي حمل مافي الآية على رؤية الآية وعن قولهم : إن الرؤية وقعت لدفع قومه بأن ذلك خلاف الظاهر من غير دليل وكون الدليل أخذ الصعقة ليس بشيء وأيضا كان يجب عليه السلام أن يبادر إلى ردعهم وزجرهم عن طلب ما لايليق بجلال الله تعالى كما قال إنكم قوم تجهلون عند قولهم : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وقولهم : إن المقصود ضم الدليل السمعي إلى العقلي ليس بشيء إذ ذلك كان يمكن بطلب إظهار الدليل السمعي له من غير أن يطلب الرؤية مع إحالتها وقصته تقدم الكلام فيها وما ذكروه في الوجه الخامس ظاهر رده من تقرير الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما أهل السنة وحاصله أنه يلزمهم أن يكون الكليم عليه السلام دون آحاد المعتزلة علما ودون من حصل طرفا من الكلام في معرفة مايجوز عليه تعالى وما لايجوز وهذه كلمة حمقاء وطريقة عوجاء لايسلكها أحد من العقلاء فإن كون الأنبياء عليهم السلام أعلم ممن عداهم بذاته تعالى وصفاته العلا مما لاينبغي أن ينتطح فيه كبشان وكون الرؤية في الدنيا غير واقعة عند الفريقين إن أريد به أنها غير ممكنة الوقوع فهو أول المسألة وإن أريد أنها ممكنة لكنها لاتقع لأحد فلا نسلم أنه جمع على ذلك الفريقان أما المعتزلة فلأنهم لايقولون بإمكانها وأما أهل السنة فلأن كثيرا منهم ذهب إلى أنها وقعت لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الإسراء وهو قول ابن عباس وأنس وغيرهما وقول عائشة رضي الله تعالى عنها : من زعم أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله سبحانه الفرية مدفوع أو مؤول بأن المراد من زعم أن
(9/48)

محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم في نوره الذي هو نوره أعني النور الشعشعاني الذي يذهب بالأبصار وهو المشار إليه في حديث لأحرقت سبحاتوجهه ماانتهى إليه بصره فقد أعظم الفرية ومن هذا يعلم مافي إحتمال إرادة عدم الوقوع مع قطع النظر عن الإمكان وعدمه وقولهم : إنه يجوز أن لايكون ذلك الطلب محرما في شرعه فلا يمتنع يرد عليه أن دليل الحرمة ظاهر فإن طلب المحال لو لم يكن حراما في شرعه عليه السلام لما بلغ في التشنيع على قومه حين طلبوا ماطلبوا على أنا لو سلمنا أنه ليس بحرام يقال : إنه لافائدة فيه وما كان كذلك فمنصب النبوة منزه عنه ومن هذا يعلم مافي قولهم الأخير
وأجيب عن قولهم : إن المعلق عليه هو إستقرار الجبل حال حركته بأنهم إن أرادوا أن الشرط هو الإستقرار حال وجود الحركة مع الحركة فهو زيادة إضمار وترك لظاهر اللفظ من غير دليل فلا يصح وإن أرادوا أن الشرط هو الإستقرار في الحالة التي وجدت فيها الحركة بدلا عن الحركة فلا يخفى جوازه فكيف يدعي أنه محال لذاته وبعضهم قال في الرد : إن المعلق عليه إستقرار الجبل بعد النظر بدليل الفاء وحين تعلقت إرادة الله تعالى بعدم إستقراره عقيب النظر إستحال إستقراره وإن كان بالغير فعدل عن القول بالمحال بالذات إلى القول بالمحال بالغير لأن الغرض يتم به أيضا وتعقبه الساكوتي وغيره بأنه ليس بشيء لأن إستقرار الجبل حين تعلق إرادته تعالى بعدم إستقراره أيضا ممكن بأن يقع بدله الإستقرار إنما المحال إستقراره مع تعلق إرادته سبحانه بعدم الإستقرار ولبعض فضلاء الروم ههنا كلام نقله الشهاب لاتغرنك قعقعته فإن الظواهر لاتترك لمجرد الإحتمال الرجوح وأجيب عن قولهم لانسلم أن المعلق بالممكن ممكن الخ بأن المراد بالممكن المعلق عليه الممكن الصرف والخالي عن الإمتناع مطلقا ولاشك أن إمكان المعلول فيما امتنع عدم علته ليس كذلك بل التعليق بينهما إنما هو بحسب الإمتناع بالغير فإن استلزم عدم الصفات وعدم العقل الأول عدم الواجب من حيث إن وجود كل منهما واجب وعدمه ممتنع بوجود الواجب وأما بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن الأمور الخارجة فلا إستلزام بخلاف إستقرار الجبل فإنه ممكن صرف غير ممتنع لا بالذات ولا بالعرض كما لايخفى على أن بعضهم نظر في صحة المثال لغة وإن كان فيه ما فيه وما قيل : إنه ليس المقصود في الآية بيان جواز الرؤية وعدم جوازها إذ هو غير مسؤل عنه بل المقصود إنما هو بيان عدم وقوعها وعدم الشرط متكفل بذلك كلام لا طائل تحته إذ الجواز وعدم الجواز من مستتبعات التعليق بإجماع جهابذة الفريقين وما ذكروه في المعارضة من أن لن تفيد تأييد النفي غير مسلم ولو سلم فيحتمل أن ذلك بالنسبة إلى الدنيا كما في قوله تعالى : ولن يتمنوه أبدا فإن إفادة التأييد فيه أظهر وقد حملوه على ذلك أيضا لأنهم يتمنونه في الآخرة للتخلص من العقوبة ومما يهدي إلى هذا أن الرؤية المطلوبة إنما هي الرؤية في الىنيا وحق الجواب أن يطابق السؤال وقد ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مايدل على أن نفي الرؤية مقيد لا مطلق فليتبع بيانه عليه الصلاة و السلام فقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قالتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية رب أرني الخ فقال : قال الله تعالى ياموسى إنه لايراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لاتموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم وهذا ظاهر في أن مطلوب موسى عليه السلام كان الرؤية في الدنيا مع بقائه على حالته
(9/49)

التي هو عليها حين السؤال من غير أن يعقبها صعق لأن قوله عزوجل : إنه لن يراني حي الخ لاينفي إلا الرؤية في الدنيا مع الحياة لا الرؤية مطلقا فمعنى لن تراني في الآية لن تراني وأنت باق على هذه الحالة لا لن تراني في الدنيا مطلقا فضلا عن أن يكون المعنى لن تراني مطلقا لا في الدنيا ولا في الآخرة نعم إن هذا الحديث مخصص بما صح مرفوعا وموقوفا أنه صلى الله عليه و سلم رأى ربه ليلة الإسراء مع عدم الصعق ولعل الحكمة في اختصاصه صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك أن نشأته عليه الصلاة و السلام أكمل نشأة وأعدلها صورة ومعنى لجامعيته صلى الله تعالى عليه وسلم للحقائق على وجه الإعتدال وهي فيه متجاذبة ومقتضى ذلك الثبات بإذن الله تعالى ومع ذلك فلم يقع له التجلي إلا في دار البقاء فاجتمع مقتضى الموطن مع مقتضى كمال إعتدال النشأة وقد يقال أيضا على سبيل التنزل : لو سلمنا دلالة لن على التأبيد مطلقا لكان غاية ذلك إنتفاء وقوع الرؤية ولا يلزم منه إنتفاء الجواز والمعتزلة يزعمون ذلك وقولهم : قوله عليه السلام تبت إليك يدل على كونه مخطئا ليس بشيء لأن التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع وأن لم يتقدمها ذنب وعلى هذا فلا يبعد أن يكون المراد من تبت إليك أي رجعت إليك عن طلب الرؤية
وذكر ابن المنير أن تسبيح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه وأما التوبة في حق الأنبياء عليهم السلام فلا يلزم أن تكون عن ذنب لأن منزلتهم العلية تصان عن كل مايحط عن مرتبة الكمال وكان عليه السلام نظرا إلى علو شأنه أن يتوقف في سؤال الرؤية على الأذن فحيث سأل من غير إذن كان تاركا الأولى بالنسبة إليه وقد ورد حسنات الأبرار سيئات المقربين وذكر الإمام الرازي نحو ذلك وقال الآمدي : إن التوبة وإن كانت تستدعي سابقية الذنب إلا أنه ليس هناك مايدل قطعا على أن الذنب في سؤاله بل جاز أن تكون التوبة عما تقدم قبل السؤال مما يعده هو عليه السلام ذنبا والداعي لذلك مارأى من الأهوال العظيمة من تدكدك الجبل على ماهو عادة المؤمنين الصلحاء من تجديد التوبة عما سلف إذا رأوا آية وأمرا مهولا وذكر أن قوله عليه السلام : وأنا أول المؤمنين ليس المراد منه إبتداء الإيمان في تلك الحالة بل المراد به إضافة الأولية إليه لا إلى الإيمان ولعل المراد من ذلك الإخبار الإستعطاف لقبول توبته عليه السلام عما هو ذنب عنده وأراد بالمؤمنين قومه على ماروي عن مجاهد وما يشير إليه كلام الزمخشري من أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية لايخفى ما فيه على من أحاط خبرا بما ذكرناه ومن المحققين من إستند في دلالة الآية على إمكانها بغير ما تقدم أيضا وهو أنه تعالى أحال إنتفاء الرؤية على عجز الرائي وضعفه عنها حيث قال له : لن تراني ولو كانت رؤيته تعالى غير جائزة لكان الجواب لست بمرئي ألا ترى لو قال : أرني أنظر إلى صورتك ومكانك لم يحسن في الجواب أن يقال لن ترى صورتي ولا مكاني بل الحسن لست بذي صورة ولا مكان وقال بعضهم بعد أن بين كون الآية دليلا على أن الرؤية جائزة في الجملة ببعض ما تقدم : ولذلك رده سبحانه بقوله : لن تراني دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إلى تنبيها على أنه عليه السلام قاصر عن رؤيته تعالى لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه بعد وذلك لأن لن أرى يدل على إمتناع الرؤية مطلقا ولن أريك يقتضي أن المانع من جهته تعالى وليس في لن تنظر تنبيه على المقصود لأن النظر
(9/50)

لايتوقف على معد وإنما المتوقف عليه الرؤية والإدراك وعلل النيسابوري عدم كون الجواب لن تنظر إلى المناسب لأنظر إليك بأن موسى عليه السلام لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل أرني وانتصر بعضهم للمعتزلة بأن لهم أن يقولوا : إن طلب الإراءة متضمن لطلب رفع الموانع من الرؤية وإيجاد ما تتوقف هي عليه لأن معنى ذلك مكنى من الرؤية والتمكين إنما يتم بما ذكر من الرفع والإيجاد وكان الظاهر في رد هذا الطلب لن أمكنك من رؤيتي لكن عدل عنه إلى لن تراني إشارة إلى إستحالة الرؤية وعدم وقوعها بوجه من الوجوه كأنه قيل : إن رؤيتك لي أمر محال في نفسه وتمكيني إنما يكون من الممكن ولو لم يكن المراد ذلك بل كان المراد أنك لا قابلية لك لرؤيتي لكان لموسى عليه السلام أن يقول يارب أنا أعلم عدم القابلية لكني سألتك التمكين وهو متضمن لسؤال إيجادها لأنها مما تتوقف الرؤية عليه فعلى هذا لايكون الجواب مفيدا لومسى عليه السلام ولا مقنعا له بخلافه على الأول فيكون حينئذ هو المتعين فإن قيل : القابلية وعدم القابلية من توابع الإستعداد وهما غير مجعولين قلنا : هذا على ما فيه من الكلام العريض والنزاع الطويل مستلزم لمطلوبنا من إمتناع الرؤية كما لايخفى على من له أدنى إستعداد لفهم الحقائق
وأجيب بأن طلب التمكين من شيء إنما يتضمن طلب رفع الموانع التي في جانب المطلوب منه فقط على ما هو الظاهر لا مطلقا بحيث يشمل ما كان في جانب المطلوب منه وما كان في جانب الطالب ويرشد إلى ذلك أن قولك : لم يمكني زيد من قتل عمرو مثلا ظاهر في أنه حال بينك وبين قتله مع تهيئتك له وإرتفاع الموانع التي من قبلك عنه فكأن موسى عليه السلام لما كلمه ربه هاج به الشوق إلى الرؤية كما قال الحسن : لأن عدو الله إبليس غاص في الأرض حتى خرج من بين قدميه فوسوس إليه إن مكلمك شيطان فعند ذلك سألها كما قال السدي : وأعوذ بالله من إعتقاده فذهل عن نفسه وما فيها من الموانع فلم يخطر بباله إلا طلب رفع الموانع عنها من قبل الرب سبحانه فنبهه جل شأنه بقوله : لن تراني على وجود المانع فيه عن الرؤية وهو الضعف عن تحملها وأراه ضعف من هو أقوى منه عن ذلك بدك الجبل عند تجليه له ففائدة الإستدراك على هذا أن يتحقق عنده عليه السلام أنه أضعف من أن يقوم لتجلي الرؤية وهو على ما هو عليه ويمكن أن تكون التوبة منه عليه السلام بعد أن أفاق من هذه الغفلة وحينئذ لاشك أن الجواب بلن تراني الخ مفيد مقنع
هذا وذكر بعض المحققين أن حاصل الكلام في هذا المقام أن موسى عليه السلام كان عالما بإمكان الرؤية ووقوعها في الدنيا لمن شاء الله تعالى من عباده عقلا والشروط التي تذكر لها ليست شروطا عقلية وإنما هي شروط عادية ولم يكن عالما بعدم الوقوعع مع عدم تغير الحال حتى سمع ذلك من الرب المتعال وليس في عدم العلم بما ذكر نقص في مرتبته عليه السلام لأنه من الأمور الوقوفة على السمع والجهل بالأمور السمعية لا يعد نقصا فقد صح أن أعلم الخلق على الإطلاق نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن أشياء فقال : سأسأل جبريل عليه السلام وأن جبريل عليه السلام سئل فقال : سأسأل رب العزة وقد قالت الملائكة : سبحانك لا علم لنا إلا ماعلمتنا وأن الآية لاتصلح دليلا على إمتناع الرؤية على ما يقوله المعتزلة بل دلالتها على إمكانها في الجملة أظهر وأظهر بل هي ظاهرة في ذلك دون ما يقوله الخصوم وما رواه
(9/51)

أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في تفسير لن تراني : إنه لايكون ذلك أبدا لاحجة لهم فيه لأنه غير واف بمطلوبهم مع أن التأييد فيه بالنسبة إلى عدم تغير الحال كما يدل عليه الخبر المروي عنه سابقا وكذا مارواه عنه أبو الشيخ إذ فيه : ياموسى إنه لا يراني أحد فيحيا قال موسى : رب إن أراك ثم أموت أحب إلي من أن لاأراك ثم أحيا وما ذكره الزمخشري عن الأشياخ أنهم قالوا : إنه تعالى يرى بلا كيف هو المشهور
ونقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما رواه الدارقطني وغيره عن أنس من قوله صلى الله عليه و سلم رأيت ربي في أحسن صورة بناء على حمل الرؤية على الرؤية في اليقظة فأجاب بأن هذا حجاب الصورة انتهى وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية ومنه عندهم تجلي الله تعالى في الشجرة لموسى عليه السلام وتجليه جل وعلا للخلق يوم يكشف عن ساق وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد بها والله من ورائهم محيط والرؤية التي طلبها موسى عليه السلام غير هذه الرؤية وذكر بعضهم أن موسى كان يرى الله تعالى إلا أنه لم يعلم أن مرآه هو هو وعلى هذا الطراز يحمل ماجاء في بعض الروايات المطعون بها رأيت ربي في صورة شاب وفي بعضها زيادة له نعلان من ذهب ومن الناس من حمل الرؤية في رواية الدارقطني على الرؤية المنامية وظاهر كلام السيوطي أن الكيفية فيها لاتضر وهو الذي سمعته من المشايخ قدس الله تعالى أسرارهم والمسألة خلافية وإذا صح ماقاله المشايخ وأفهمه كلام السيوطي فأنا ولله تعالى الحمد قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات وكانت الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة رأيته جل شأنه وله من النور ماله متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين إستيقظت ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حييك بلؤلؤ مختلف ألوانه فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم إلى مقام محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فذهب بي إليهما فرأيت مارأيت ولله تعالى الفضل والمنة
ومنهم من حمل الصورة على مابه التميز والمراد بها ذاته تعالى المخصوصة المنزهة عن مماثلة ماعداه من الأشياء البالغة إلى أقصى مراتب الكمال وماذكره من البيتين لبعض العدلية فهو في ذلك عثيثة تقرم جلدا أملسا والقول ماقاله تاج الدين السبكي فيهم : عجبا لقوم ظالمين تلقبوا بالعدل مافيهم لعمري معرفه قد جاءهم من حيث لايدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفه وتلقبوا عدلية قلنا نعم عدلوا بربهم فحسبهم سفه وقال ابن المنير وجماعة كفروا برؤية ربهم هذا ووعد الله مالن يخلفه ولقبوا عدلية قلنا أجل عدلوا بربهم فحسبوهم سفه وتنعتوا الناجين كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه وبعد هذا كله نقول : إن الناس قد اختلفوا في أن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا فذهب أكثر الجماعة إلى أنه عليه السلام لم يره لاقبل الصعق ولا بعده وقال الشيخ الأكبر قدس سره : إنه رآه بعد الصعق وكان الصعق موتا وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر والآية عندي
(9/52)

غير ظاهرة في ذلك وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام للزمخشري إلا أن ذلك على إحتمال أن تفسر بالإنكشاف التام الذي لايحصل إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلا عن وجود الغير فإنه قال : إن موسى عليه السلام لما طلب هذه المرتبة من الإنكشاف وعبر عن نفسه بأنا دل على أن نظره كان باقيا على نفسه وهي لاتكون كذلك إلا متعلقة بالعلائق الجسمانية مشوبة بالشوائب المادية لاجرم منع عنه هذه المرتبة وأشير إلى أن منعها إنما كان لأجل بقاء أنا وأنت في قوله : أرني ولن تراني ثم لما لم يرد حرمانه عن حصول هذه المرتبة مع إستعداده وتأهله لها علم طريق المعرفة بقوله سبحانه : ولكن انظر إلى الجبل فإن الجبل مع عدم تعلقه لما لم يطق نظرة من نظرات التجلي فموسى عليه السلام مع تعلقه كيف يطيق ذلك فلما أدرك الرمز خر صعقا مغشيا عليه متجردا عن العلائق فانيا عن نفسه فحصل له المطلوب فلما أفاق علم أن طلبه الرؤية في تلك الحالة التي كان عليها كان سوء أدب فتاب عنه
وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دك الجبل للتجلي وأيده بما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لما تجلى الله تعالى لموسى عليه السلام كان يبصر دبيب النملة على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ وبما أخرجه عن أبي معشر أنه قال : مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لاينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين وجمع بين هذا وبين قوله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق كما أن الكلام الذي أعطاه موسى كذلك بخلاف رؤية موسى عليه السلام فإنها لم تجمع له مع البقاء وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة و السلام في حديث الدجال إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت هو أن أحدا لايراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما وفسر الآية بما لايخلو عن خفاء
والذاهبون إلى عدم الرؤية مطلقا يجيبون عما ذكره من حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر بأن الثاني ليس فيه أكثر من إثبات سطوع نور الله تعالى على وجه موسى عليه السلام وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه تعالى على وجهه عليه السلام من غير رؤية فإنه لا تلازم بين الرؤية وإشراق النور وبأن الأول ليس نصا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي ولله تعالى تجليات شتى غير ذلك فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحة واحد منها وقد يقطع بذلك فإنه سبحانه تجلى عليه عليه السلام بكلامه واصطفائه وقربه منه على الوجه الخاص اللائق به تعالى ولا يبعد أن يكون هذا سببا لذلك الإبصار وهذا أولى مما قيل : إن اللام في لموسى للتعليل ومتعلق تجلي محذوف أي لما تجلى الله تعالى للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب إشراق بعض أنواره تعالى عليه حين التجلي للجبل مايبصر
تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت به زينب في نسوة حفرات فالحق الذي لاينبغي المحيص عنه أن موسى عليه السلام لم يحصل له ماسأل في هذا الميقات والذي أقطع به أنه نال مقام قرب النوافل والفرائض الذي يذكره الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم بالمعنى الذي يذكرونه كيفما
(9/53)

كان وحاشا لله من أن أفضل أحدا من أولياء هذه الأمة وإن كانوا هم هم على أحد من أنبياء بني إسرائيل فضلا عن رسلهم مطلقا فضلا عن أولي العزم منهم وقد ذكر بعض العارفين من باب الإشارة في هذه الآيات أن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة للتخلص من حجاب الإفعال والصفات والذات كل عشرة للتخلص من حجاب واختيرت العشرة لأنها عدد كامل كما تقدم الكلام عليه عند قوله سبحانه : تلك عشرة كاملة لكن بقيت منه بقية ما خلص عنها وإستعمال السواك في الثلاثين الذي نطقت به بعض الآثار إشارة إلى ذلك فضم إلى الثلاثين عشرة أخرى للتخلص من تلك البقية وجاء أنه عليه السلام أمر بأن يتقرب إليه سبحانه بما يتقرب به في ثلاثين وأنزلت عليه التوراة في العشرة التي ضمت إليها لتكمل أربعين وهو إشارة إلى أنه بلغ الشهود الذاتي التام في الثلاثين بالسلوك إلى الله تعالى ولم يبق منه شيء بل فنى بالكلية وفي العشرة الرابعة كان سلوكه في الله تعالى حتى رزق البقاء بعد الفناء بالإفاقة وقالوا : وعلى هذا ينبغي أن يكون سؤال الرؤية في الثلاثين والإفاقة بعدها وكان التكليم في مقام تجلي الصفات وكان السؤال عن إفراط شوق منه عليه السلام إلى شهود الذات في مقام فناء الصفات مع وجود البقية و لن تراني إشارة إلى إستحالة الإثنينية وبقاء الآنية في مقام المشاهدة وهذا معنى قول من قال : رأيت ربي بعين ربي وقوله سبحانه : ولكن انظر إلى الجبل إشارة إلى جبل الوجود أي انظر إلى جبل وجودك فإن إستقر مكانه فسوف تراني وهو من باب التعليق بالمحال عنده فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا أي متلاشيا لا وجود له وخر موسى عن درجة الوجود صعقا أي فانيا فلما أفاق بالوجود الموهوب الحقاني قال سبحانك أن تكون مرئيا لغيرك تبت إليك عن ذنب البقية أو رجعت إليك بحسب العلم والمشاهدة إذ ليس في الوجود سواك وأنا أول المؤمنين بحسب الرتبة أي أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح الذي هو مقام أهل الوحدة وقد يقال : إن موسى إشارة إلى موسى الروح إرتاض أربعين ليلة لتظهر منه ينابيع الحكمة وقال لأخيه هرون القلب اخلفني في قومي من الأوصاف البشرية وأصلح ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة ولا تتبع سبيل المفسدين من القوى الطبيعية ولما حصل الروح على بساط القرب بعد هاتيك الرياضة وتتابعت عليه في روضات الأنس كاسات المحبة غرد بلبل لسانه في قفص فم وجوده فقال : رب أرني أنظر إليك فقال له : هيهات ذاك وأين الثريا من يد المتناول أنت بعد في بعد الأثنينية وحجاب جبل الأنانية فإن أردت ذلك فخل نفسك وائتني وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن وها أنت حي إن تكن صادقا مت هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي فهان عليه الفناء في جانب رؤية المحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذ رأى عزة المطلوب ونادى فقلت لها : روحي لديك وقبضها إليك ومن لي أن تكون بقبضتي وما أنا بالشاني الوفاة على الهوى وشأني الوفا تابى سواه سجيتي فبذل وجوده وأعطى موجوده فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم من عليه برؤيته وكان ما كان وأشرقت الأرض
(9/54)

بنور ربها وطفيء المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الأنس في رياض القدس بنغم ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سر أرق من النسيم إذا سرى وأباح طرفي نظرة أملتها فغدوت معروفا وكنت منكرا فدهشت بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال عني مخبرا هذا والكلام في الرؤية طويل وقد تكفل علم الكلام بتحقيق ذلك على الوجه الأكمل والذي علينا إنما هو كشف القناع عما يتعلق بالآية والذي نظنه أنا قد أدينا الواجب ويكفي من القلادة ماأحاط بالجيد والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل قال ياموسى إستئناف مسوق لتسليته عليه السلام من عدم الإجابة إلى سؤاله على مااقتضته الحكمة كأنه قيل : إن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه وثابر على شكره إني اصطفيتك أي اخترتك وهو افتعال من الصفوة بمعنى الخيار والتأكيد للإعتناء بشأن الخبر على الناس الموجودين في زمانك وهذا كما فضل قومه على عالمي زمانهم في قوله سبحانه : يابني إسرئيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليك وأني فضلتكم على العالمين برسالاتي أي بأسفار التوراة وقرأ أهل الحجاز وروح برسالتي وبكلامي أي بتكليمي إياك بغير واسطة أو الكلام على حذف مضاف أي بإسماع كلامي والمراد فضلتك بمجموع هذين الأمرين فلا يرد هارون عليه السلام لأنه لم يكن كليما على أن رسالته كانت تبعية أيضا وكان مأمور بإتباع موسى عليه السلام وكذلك لايرد السبعون الذين كانوا معه عليه السلام في هذا المقيات في قول لأنهم وإن سمعوا الخطاب إلا أنهم ليس لهم من الرسالة شيء على أن المقصود بالتكليم الموجه إليه الخطاب هو موسى عليه السلام دونهم وبتخصيص الناس بما علمت خرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلا يرد أن مجموع الرسالة والتكليم بغير واسطة وجد له عليه الصلاة و السلام أيضا على الصحيح على أن لو قلنا التكليم بغير واسطة مخصوص به عليه السلام من بين الأنبياء صلى الله تعالى عليه وسلم لايلزم منه تفضيله من كل الوجوه على غيره كنبينا عليه الصلاة و السلام فقد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل وإنما كان الكلام بلا واسطة سببا للشرف بناء على العرف الظاهر وقد قالوا شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيبا وقربه إليه بلطفه تقريبا وبين من ضرب له الحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب على أن من ذاق طعم المحبة ولو بطرف اللسان يعلم ما في تكليم المحبوب بغير واسطة من اللطف العظيم والبر الجسيم وكلامه جل شأنه لموسى عليه السلام في ذلك الميقات كثير على ما دلت عليه الآثار وقد سبق لك ما يدل على كميته من حديث أبي هريرة وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى وسلم قال : إن الله تعالى شأنه ناجى موسى عليه السلام بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام فلما سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقع في مسامعه من كلام الرب عزوجل فكان فيما ناجاه أن قال : ياموسى إنه لم يتصنع المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا ولم يتقرب إلي المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم ولم يتعبد المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي فقال موسى : يارب وإله البرية كلها ويا مالك يوم الدين وياذا الجلال والإكرام ماذا أعددت لهم وما جزيتهم
(9/55)

قال : أما الزاهدون في الدنيا فإني أبيحهم جنتي حتى يتبوأوا فيها حيث شاءوا وأما الورعون عما حرمت عليهم فإذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعون فإني أجلهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب وأما الباكون من خشيتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لايشاركهم فيه أحد
وأخرج آدم بن أبي إياس في كتاب العلم عن ابن مسعود قال : لما قرب الله تعالى موسى نجيا أبصر في ظل العرش رجلا فغبطه بمكانه فسأله عنه فلم يخبره بإسمه وأخبره بعلمه فقال له : هذا رجل كان لايحسد الناس على ماأتاهم الله تعالى من فضله برا بالوالدين لايمشي بالنميمة ثم قال الله تعالى : يا موسى ما جئت تطلب قال : جئت أطلب الهدى يارب قال : قد وجدت يا موسى فقال : رب اغفر لي ما مضى من ذنوبي وما غبر وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني وأعوذ بك من وسوسة نفسي وسوء عملي فقيل له : قد كفيت يا موسى قال : يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمله قال : اذكرني يا موسى قال رب : أي عبادك أتقى قال : الذي يذكرني ولا ينساني قال رب : أي عبادك أغنى قال : الذي يقنع بما يؤتى قال رب : أي عبادك أفضل قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال : رب أي عبادك أعلم قال : الذي يطلب علم الناس إلى علمه لعله يسمع كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى قال : رب أي عبادك أحب إليك عملا قال : الذي لايكذب لسانه ولا يزني فرجه ولا يفجر قلبه قال : رب ثم أي على أثر هذا قال : قلب مؤمن في خلق حسن قال رب : أي عبادك أبغض إليك قال : قلب كافر في خلق سيء قال : رب ثم أي على أثر هذا قال : جيفة بالليل بطال بالنهار وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قال موسى : يارب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال : قل يا موسى لاإله إلا الله قال : يارب كل عبادك يقول هذا قال : قل لاإله إلا الله قال : لاإله إلا أنت يارب إنما أريد شيئا تخصني به قال : يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولاإله إلا الله في كفة مالت بهن لاإله إلا الله
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة قال : لما ارتقى موسى طور سينا رأى الجبار في أصبعه خاتما فقال له : هل مكتوب عليه شيء من أسمائي أو كلامي قال : لا قال فاكتب عليه لكل أجل كتاب
وأخرج ابن أبي حاتم عن العلاء بن كثير قال : إن الله تعالى قال : يا موسى أتدري لم كلمتك قال : لا يارب قال : لأني لم أخلق خلقا تواضع لي تواضعك وللقصاص أخبار كثيرة موضوعة في أسئلة موسى عليه السلام ربه وأجوبته جل شأنه له لاينبغي لمسلم التصديق بها فخذ ماءاتيتك أي أعطيتك من شرف الإصطفاء وكن من الشاكرين
441
- أي معدودا في عدادهم بأن يكون لك مساهمة كاملة فيهم وحاصله كن بليغ الشكر فإن ما أنعمت به عليك من أجل النعم أخرج ابن أبي شيبة عن كعب أنه قال : قال موسى عليه السلام : يارب دلني على عمل إذا عملته كان شكرا لك فيما اصطنعت إلي قال : يا موسى قل لاإله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير قال : فكأن موسى أراد من العمل ما هو أنهك لجسمه مما أمر به فقال له : يا موسى لو أن السموات السبع الخبر وهو في معنى ما في خبر أبي سعيد
وكتبنا له في الألواح من كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح على ماقال الرازي وغيره وما أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل عن محمد بن يزيد الثقفي قال : اصطحب قيس بن
(9/56)

خرشة وكعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة ثم قال : ليهراقن بهذه البقعة من دما المسلمين شيء لايهراق ببقعة من الأرض مثله فقال قيس : ما يدريك فإن هذا من الغيب الذي إستأثر الله تعالى به فقال كعب : مامن الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله تعالى على موسى مايكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة ظاهر في أن كل شيء أعم مما ذكر ولعل ذكر ذلك من باب الرمز كما ندعيه في القرآن موعظة وتفصيلا لكل شيء بدل من الجار والمجرور أي كتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام وإلى هذا ذهب غير واحد من المعربين وهو مشعر بأن من مزيدة لا تبعيضية وفي زيادتها في الإثبات كلام قيل : ولم تجعل إبتدائية حالا من موعظة وموعظة مفعول به لأنه ليس له كبير معنى ولم تجعل موعظة مفعول له وإن إستوفى شرائطه لأن الظاهر عطف تفصيلا عن موعظة وظاهر أنه لامعنى لقولك كتبنا له من كل شيء لتفصيل كل شيء وأما جعله عطفا على محل الجار والمجرور فبعيد من جهة اللفظ والمعنى
والطيبي اختار هذا العظف وأن من تبعيضية وموعظة وحدها بدل والمعنى كتبنا بعض كل شيء في الألواح من نحو السور والآيات وغيرهما موعظة وكتبنا فيها تفصيل كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرام ونحو ذلك وفي ذلك إختصاص الإجمال والتفصيل بالموعظة للإيذان بأن الإهتمام بها أشد والعناية بها أتم ولكونها كذلك كثر مدح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالبشير النذير وإشعار بأن الموعظة مما يجب أن يرجع إليه في كل أمر يذكر به ألا يرى إلى أن أكثر الفواصل التنزيلية والردود على هذا النمط نحو أفلا تتقونأفلا تتذكرون وإلى سورة الرحمن كيف أعيد فيها ماأعيد وذلك ليستأنف السامع به ادكارا واتعاظا ويجدد تنبيها واستيقاظا وأنت تعلم أن البعد الذي أشرنا إليه باق على حاله وقوله سبحانه : لكل شيء إما متعلق بما عنده أو بمحذوف كما قال السمين وقع صفة له واختلف في عدد الألواح وفي جوهرها ومقدارها وكاتبها فقيل كانت عشرة ألواح وقيل : سبعة وقيل : لوحين قال الزجاج : ويجوز أن يقال في اللغة للوحين ألواح وأنها كانت من زمرد أخضر أمر الرب تعالى جبريل عليه السلام فجاء بها من عدن وروي ذلك عن مجاهد وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج قال : أخبرت أن الألواح كانت من زبرجد وعن سعيد بن جبير قال : كانوا يقولون إنها كانت من ياقوتة وأنا أقول : إنها كانت من زمرد وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعا وعن الحسن أنها كانت من خشب نزلت من السماء وأن طول كل عشرة أذرع وقيل : أمر الله تعالى موسى عليه السلام بقطعها من صخرة صماء لينها له فقطعها بيده وسقفها بأصابعه ولا يخفى أن أمثال هذا يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا فالسكوت أولى إذ ليس في الآية ما يدل عليه والمختار عندي أنها من خشب السدر إن صح السند إلى سلسلة الذهب والمشهور عن ابن جريج أن كاتبها جبريل عليه السلام كتبها بالقلم الذي كتب به الذكر والمروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ومجاهد وعطاء وعكرمة وخلق كثير أن الله تعالى كتبها بيده وجاء أنها كتبت وموسى عليه السلام يسمع صريف الأقلام التي كتبت بها وهو المأثور عن الأمير كرم الله تعالى وجهه وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : خلق الله تعالى آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده ثم
(9/57)

قال لأشياء كوني فكانت وأخرج عبد بن حميد عن وردان بن خالد قال : خلق الله تعالى آدم بيده وخلق جبريل بيده وخلق القلم بيده وخلق عرشه بيده وكتب الكتاب الذي عنده لايطلع عليه غيره بيده وكتب التوراة بيده وهذا كله من قبيل المتشابه وفي بعض الآثار أنها كتبت قبل الميقات وأنزلت على ما قيل وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام ومما كتب فيها كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ذكر النبي صلط الله تعالى عليه وسلم وذكر أمته وما ادخر لهم عنده وما يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما أحل لهم حتى إنه جاء أن موسى عليه السلام عجب من الخير الذي أعطاه الله تعالى محمدا صلى الله عليه و سلم وأمته وتمنى أن يكون منهم
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وغيرهما عن جابر بن عبدالله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : كان فيما أعطى الله تعالى موسى في الألواح يا موسى لاتشرك بي شيئا فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار واشكر لي ولوالديك أقك المتالف وأنسئك في عمرك وأحيك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها ولا تقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق فتضتق عليك الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطي والنار ولا تحلف بإسمي كاذبا ولا آثما فإني لاأطهر ولا أزكي من لم ينزهني ويعظم أسمائي ولا تحسد الناس على ماأعطيتهم من فضلي ولا تنفس عليه نعمتي ورزقي فإن الحاسد عدو نعمتي راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ومن يكون كذلك فلست منه وليس مني ولا تشهد بما لم يع سمعك ويحفظ عقلك ويعقد عليه قلبك فإني واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة ثم سائلهم عنها سؤالا حثيثا ولا تزن ولا تسرق ولا تزن بحليلة جارك فأحجب عنك وجهي وتغلق عنك أبواب السماء وأحب للناس ماتحب لنفسك ولا تذبحن لغيري فإني لاأقبل من القربان إلا ماذكر عليه إسمي وكان خالصا لوجهي وتفرغ لي يوم السبت وفرغ لي نفسك وجميع أهل بيتك ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تعالى جعل السبت لموسى عليه السلام عيدا واختار لنا الجمعة فجعلها عيدا فخذها بقوة أي بجد وحزم قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والجملة على إضمار القول عطفا على كتبنا وحذف القول كثير مطرد والداعي لهذا التقدير كما قال العلامة الثاني رعاية المناسبة لكتبنا له لأنه جاء على الغيبة ولو كان بدله كتبنا لك لم يحتج إلى تقدير وأما حديث عطف الإنشاء على الإخبار فلا ضير فيه لأنه يجوز إذا كان بالفاء
وقيل : هو بدل من قوله سبحانه : فخذ ماآتيتك وضعف بأن فيه الفصل بأجنبي وهو جملة كتبنا المعطوفة على جملة قال وهو تفكيك للنظم والضمير المنصوب للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء والعموم لايكفي في عود ضمير الجماعة بدون تأويله بالجمع وجوز عوده للتوراة بقرينة السياق والقائل بالبدلية جعله عائدا إلى الرسالات والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الفاعل أي ملتبسا بقوة وجوز أن يكون حالا من المفعول أي ملتبسة بقوة براهينها والأول أوضح وأن يكون صفة مفعول مطلق أي أخذا بقوة
وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي أحسنها فالباء زائدة كما في قوله :
(9/58)

سود المحاجر لايقرأن بالسور
ويحتمل أن تكون بالباء أصلية وهو الظاهر وحينئذ فهي إما متعلقة بيأخذوا بتضمينه معنى يعملوا أو هو من الأخذ بمعنى السيرة ومنه أخذ أخذهم أي سار سيرتهم وتخلق
(9/0)

بخلائقهم كما نقول وإما متعلقة بمحذوف وقع حالا ومفعول يأخذوا محذوف أي أنفسهم كما قيل والظاهر أنه مجزوم في جواب الأمر فيحتاج إلى تأويل لأنه لا يلزم من أمرهم أخذهم أي إن تأمرهم ويوفقهم الله تعالى يأخذوا وقيل : بتقدير لام الأمر فيه بناء على جواز ذلك بعد أمر من القول أو ماهو بمعناه كما هنا وإضافة أفعل التفضيل هنا عند غير واحد كإضافته في زيد أحسن الناس وهي على المشهور محضة على معنى اللام وقيل : إنها لفظية ويوهم صنيع بعضهم أنها على معنى في وليس به والمعنى بأحسن الأجزاء التي فيها ومعنى أحسنيتها إشتمالها على الأحسن كالصبر فإنه أحسن بالإضافة إلى الإننتصار أي مرهم يأخذوا بذلك على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم أو المعنى بأحسن أحكامها والمراد به الواجبات فإنها أحسن من المندوبات والمباحات أو هي والمندوبات على ماقيل فإنها أحسن من المباحات
وقيل : إن الأحسن بمعنى البالغ في الحسن مطلقا لا بالإضافة وهو المأمور به ومقابله المنهي عنه وإلى هذا يشير كلام الزجاج حيث قال : أمروا بالخير ونهوا عن الشر وعرفوا مالهم وما عليهم فقيل : وأمر قومك الخ فأفعل نظيره في قولهم : الصيف أحر من الشتاء فإنه بمعنى الصيف في حره أبلغ من الشتاء في برده إد تفضيل حرارة الصيف على حرارة الشتاء غير مرادة بلا شبهة ويقال هنا : المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح
وتفصيل ما في المقام على ما ذكره الدماميني في تعليقه على المصابيح ونقله عنه الشهاب أن لأفعل أربع حالات إحداها وهي الحالة الأصلية أن يدل على ثلاثة أمور : الأول إتصاف من هو له بالحدث الذي اشتق منه وبهذا كان وصفا والثاني مشاركة مصحوبة في تلك الصفة الثالث مزية موصوفة على مصحوبة فيها وبكل من هذين الأمرين فارق غيره من الصفات وثانيتها أن يخلع عنه ماإمتاز به من الصفات ويتجرد للمعنى الوصفي وثالثتها أن تبقى عليه معانيه الثلاثة ولكن يخلع عنه قيد المعنى الثاني ويخلفه قيد آخر وذلك أن المعنى الثاني وهو الإشتراك كان مقيدا بتلك الصفة التي هي المعنى الأول فيصير مقيدا بالزيادة التي هي المعنى الثالث ألا ترى أن المعنى في قولهم العسل أحلى من الخل أن للعسل حلاوة وأن تلك الحلاوة ذات زيادة وأن زيادة حلاوة العسل أكثر من زيادة حموضة الخل وقد قال ذلك ابن هشام في حواشي التسهيل وهو بديع جدا ورابعتها أن يخلع عنه المعنى الثاني وهو المشاركة وقيد المعنى الثالث وهو كون الزيادة على مصاحبه فيكون للدلالة على الإتصاف بالحدث وعلى زيادة مطلقة لامقيدة وذلك في نحو يوسف أحسن إخوته انتهى وعدم إشتراك المأمور به والمنهي عنه في الحسن المراد مما لا شبهة فيه وإن كان الحسن مطلقا كما في البحر مشتركا فإن المأمور به أحسن من حيث الإمتثال وترتب الثواب عليه والمنهي عنه حسن بإعتبار الملاذ والشهوة وقال قطرب كما نقله عنه محيي السنة : المعنى يأخذوا بحسنها وكلها حسن وهو ظاهر في حمل أفعل على الحالة الثانية وقيل : المعنى يأخذوا بها وأحسن صلة وليس له من القبول عائد وقال الجبائي : المراد يأخذوا بالناسخ دون المنسوخ وقيل : الأخذ بالأحسن هو أن تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها للصواب ولا ينبغي أن يحمل الأخذ على الشروع كما في قولك أخذ زيد يتكلم أي شرع في الكلام والأحسن على العقائد فيكون المراد أمرهم ليشرعوا بالتحلي بالعقائد الحقة وهي لكونها أصول الدين وموقوفة عليها صحة الأعمال أحسن من غيرها من الفروع وهو متضمن لأمرهم بجميع ما فيها كما لايخفى فإن أخذ
(9/59)

بالمعنى المعنى من أفعال الشروع ليس هذا إستعمالها المعهود في كلامهم على أن فيه بعد ما فيه ومثل هذا كون ضمير أحسنها عائدا إلى قوة على معنى مرهم يأخذوها بأحسن قوة وعزيمة فيكون أمرا منه سبحانه أن يأمرهم بأخذها كما أمره به ربه سبحانه إلا أنه تعالى اكتفى في أمره عن ذكر الأحسن بما أشار إليه التنوين فإن ذلك خلاف المأثور المنساق إلى الفهم مع أنا لم نجد في كلامهم أحسن قوة ومفعول يأخذوا عليه محذوف كما في بعض الإحتمالات السابقة غير أنه فرق ظاهر بين ما هنا وما هناك
سأريكم دار الفاسقين
541
- توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والترهيب بناء على ماروي عن قتادة وعطية العوفي من أن المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر ورأى بصرية وجوز أن تكون علمية والمفعول الثالث محذوف أي سأريكم إياها خاوية على عروشها لتعتبروا وتجدوا ولا تهاونوا في إمتثال الأمر ولا تعملوا أعمال أهلها ليحل بكم ما حل بهم وفيه إلتفات من الغيبة إلى الخطاب وحسن موقعه قصد الميالغة في الحث وفي وضع الإراءة موضع الإعتبار إقامة السبب مقام المسبب مبالغة أيضا كقوله تعالى : قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين وفي وضع دار الفاسقين موضع أرض مصر الإشعار بالعلية والتنبيه على أن يحترزوا ولا يستنوا بسنتهم من الفسق والسين للإستقبال لأن ذلك قبل الرجوع إلى مصر كما في الكشف
وقال الكلبي : المراد بدار الفاسقين منازل عاد وثمود والقرون الذين هلكوا وعن الحسن وعطاء أن المراد بها جهنم وأيا ما كان فالكلام على النهج الأول أيضا ويجوز أن يكون على نهج الوعد والترغيب بناء على ماروي عن قتادة أيضا من أن المراد بدار الفاسقين أرض الجبابرة والعمالقة بالشام فإنها مما أبيح لبني إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عزوجل : ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الإيراث ويؤيده قراءةبعضهم سأورثكم وجوز على هذا أن يراد بالدار مصر وفي الكلام على هذه القراءة وإرادة أرض مصر من الدار تغليب لأن المعنى سأورثك وقومك أرض مصر ولا يصح ذلك عليها إذا أريد من الدار أرض الجبابرة بناء على أن موسى عليه السلام لم يدخلها وإنما دخلها يوشع مع القوم بعد وفاته عليه السلام ويصح بناء على القول بأن موسى عليه السلام دخلها ويوشع على مقدمته وجوز إعتبار التغليب على القراءة المشهورة أيضا وقرأ الحسن سأوريكم بضم الهمزة وواو ساكنة وراء خفيفة مكسورة وهي لغة فاشية في الحجاز والمعنى سأبين لكم ذلك وأنوره على أنه من أوريت الزند واختار ابن جني في تخريج هذه القراءة ولعله الأظهر أنها على الإشباع كقوله :
من حيثما سلكوا أدنو فأنظور
سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون في الأرض إستئناف مسوق على ماقال شيخ الإسلام لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات التي كتبت في ألواح التوراة المتضمنة للمواعظ والأحكام أو مايعمها وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ماوعدوا إرائته من دار الفاسقين ومعنى صرفهم عنها منعهم بالطبع على قلوبهم فلا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله سبحانه : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم أي سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون أن لهم إرتفاعا في العالم السفلي ومزية على الخلق فلا ينتفعون بآياتي ولا يغتنمون مغانم آثارها فلا تسلكوا مسلكهم فتكونوا
(9/60)

أمثالهم وقيل : هو جواب سؤال مقدر ناشيء من الوعد بإدخال أرض الجبابرة والعمالقة على أن المراد بالآيات ماتلى آنفا ونظائره وبالصرف عنها إزالة المتكبرين عن مقام معارضتها وممانعتها لوقوع أخبارها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى أو يوشع عليهما السلام كأنه قيل : كيف ترى دارهم وهم فيها فقيل لهم : سأهلكهم وإنما عدل إلى الصرف ليزدادوا ثقة بالآيات وإطمئنانا بها وعلى هذين القولين يكون الكلام مع موسى عليه السلام والآية متعلقة إما بقوله سبحانه : سأريكم وإما بما تقدمه على الوجه الذي أشير إليه آنفا وجوز الطيبي كونها متصلة بقوله تعالى : وأمر الخ على معنى الأمر كذلك وأما الإرادة فإني سأصرف عن الآخذ بآياتي أهل الطبع والشقاوة وقيل : الكلام مع كافري مكة والآية متصلة بقوله عز شأنه : أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها الآية وإيراد قصة موسى عليه السلام وفرعون للإعتبار أي سأصرف المتكبرين عن إبطال الآيات وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه فعله بعكس ما أراد وقيل : إن الآية على تقدير كون الكلام مع قوم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إعتراض في خلال ماسيق للإعتبار ومن حق من ساق قصة له أن ينبه على مكانه كلما وجد فرصة التمكن منه وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الإعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع أن المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل واحتج بالآية بعض أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وهو ظاهر على تقدير أن يراد بالصرف المنع عن الإيمان وليس بمتعين كما علمت وقد خاض المعتزلة في تأويلها فأولوها بوجوه ذكرها الطبرسي بغير الحق إما صلة للتكبر على معنى يتكبرون ويتعززون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل وظلمهم المفرط أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق ومآله يتكبرون غير محقين لأن التكبر بحق ليس إلا لله تعالى كما في الحديث القدسي الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار
وقيل : المراد أنهم يتكبرون على من لايتكبر كالأنبياء عليهم السلام لأنه الذي يكون بغير حق وأما التكبر على المكتبر فهو بحق لما في الأثر االتكبر على المتكبر صدقة وأنت تعلم أن هذا صورة تكبر لاتكبر حقيقة فلعل مراد هذا القائل : إن التقييد بما ذكر لإظهار أنهم يتكبرون حقيقة
وإن يروا كل آية لايؤمنوا بها عطف على يتكبرون داخل معه في حكم الصلة والمراد بالآية إما إزالة المنزلة فالمراد برؤيتها مشاهدتها والإحساس بها بسماعها وغيرها من المعجزات فالمراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار وفسر بعضهم الآيات فيما تقدم بالمنصوبة في الآفاق والأنفس والآية هنا بالمنزلة أو المعجزة لئلا يتوهم الدور على ماقيل فليفهم وجوز أن يكون عطفا على سأصرف للتعليل على منوال قوله سبحانه : ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله على رأي صاحب المفتاح وأيا ما كان فالمراد عموم النفي لا نفي العموم أي كفروا بكل أية آيةوإن يروا سبيل الرشد أي طريق الهدى والسداد لايتخذوه سبيلا أي لايتوجهون إليه ولا يسلكونه أصلا لإستيلاء الشيطنة عليهم
وقرأ حمزة والكسائي الرشد بفتحتين وقرىء الرشاد وثلاثها لغات كالسقم والسقم والسقام وفرق
(9/61)

أبو عمرو كما قال الجبائي بين الرشد والرشد بأن الرشد بالضم الصلاح في الامر والرشد بالفتح الإستقامة في الدين والمشهور عدم الفرق وإن يروا سبيل الغي أي طريق الضلال يتخذوه سبيلا أي يختارونه لأنفسهم مسلكا مستمرا لايكادون يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم وإفضائه بهم إلى شهواتهم ذلك أي المذكور من التكبر وعدم الإيمان بشيء من الآيات وإعراضهم عن سبيل الهدى وإقبالهم التام إلى سبيل الضلال حاصل بأنهم أي بسبب أنهم كذبوا بأياتنا الدالة على بطلان مااتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادها وكانوا عنها غافلين
641
- غير معتدين بها فلا يتفكرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل وجوز غير واحد أن يكون ذلك إشارة إلى الصرف وما فيه من البحث يدفع بأدنى عناية كما لايخفى على من مدت إليه العناية أسبابها وأيا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عنه كما أشرنا إليه
وقيل : محل اسم الإشارة النصب على المصدر أي سأصرفهم ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها ولا مانع من كون العامل أصرف المقدم لأن الفاصل ليس بأجنبي والذين كذبوا بأياتنا ولقاء الآخرة أي لقائهم الدار الآخرة على أنه المصدر إلى المفعول وحذف الفاعل أو لقائهم ما وعده الله تعالى في الآخرة من الجزاء على أن الإضافة إلى الظرف على التوسع والمفعول مقدر كالفاعل ومحل الموصول في الإحتمالين الرفع على الإبتداء وقوله تعالى : حبطت أعمالهم خبره أي ظهر بطلان أعمالهم التي كانوا عملوها من صلة الأرحام وإغاثة الملهوفين بعد ما كانت مرجوة النفع على تقدير إيمانهم بها وحاصله أنهم لاينتفعون بأعمالهم وإلا فهي أعراض لاتحبط حقيقة هل يجزون أي لايجزون يوم القيامة
إلا ماكانوا يعملون
561
- أي إلا جزاء مااستمروا على عمله من الكفر والمعاصي وتقدير هذا المضاف لظهور أن المجزي ليس نفس العمل وقيل : إن أعمالهم تظهر في صور مايجزون به فلا حاجة إلى التقدير وهذه الجملة مستأنفة وقيل : هي الخبر والجملة السابقة في موضع الحال بإضمار قد واحتجت الأشاعرة على ماقيل بهذه الآية على فساد قول أبي هاشم أن تارك الواجب يستحق العقاب وإن لم يصدر عنه فعل الضد لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس به
وأجاب أبو هاشم بأني لاأسمي ذلك العقاب جزاء ورد بأن الجزاء مايجزي أي يكفي في المنع عن المنهي عنه والحث على المأمور به والعقاب على ترك الواجب كاف في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء
واتخذ قوم موسى من بعده أي من بعد ذهابه إلى الجبل لمناجاة ربه سبحانه من حليهم جمع على كثدي وثدي وهو ما يتخذ للزينة ويتحلى به من الذهب والفضة والجار والمجرور متعلق باتخذ كمن بعده من قبله ولا ضير في ذلك لإختلاف معنى الجارين فإن الأول للإبتداء والثاني للتبعيض وقيل : للإبتداء أيضا وتعلقه بالفعل بعد تعلق الأول به واعتباره معه وقيل : الجار الثاني متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده إذ لو تأخر لكان صفة له وإضافة الحلي إلى ضمير القوم لأدنى ملابسة لأنها كانت للقبط فاستعاروها منهم قبيل الغرق فبقيت في أيديهم
(9/62)

وقيل : إنها على ما يتبادر منها بناء على أن القوم ملكوها بعد أن ألقاها البحر على الساحل بعد غرق القبط أو بعد أن إستعاروها منهم وهلكوا قال الإمام : روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون وقومه لعلمه أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم لأجل المال أو لتبقى أموالهم في أيديهم
واستشكل ذلك بكونه أمرا بكونه أمرا بأخذ مال الغير بغير حق وإنما يكون غنيمة بعد الهلاك مع أن الغنائم لم تكن حلالا لهم لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي أحلت لي الغنائم الحديث على أن ما نقل عن القوم في سورة طه من قولهم : حملنا أوزارا من زينة القوم يقتضي عدم الحل أيضا
وأجيب بأن ذلك أن تقول : إنهم لما استعبدوهم بغير حق واستخدموهم وأخذوا أموالهم وقتلوا أولادهم ملكهم الله تعالى أرضهم وما فيها فالأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده وكان ذلك بوحي من الله تعالى على طريق الغنيمة ويكون ذلك على خلاف القياس وكم في الشرائع مثله والقول المحكى سيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف على قوله سبحانه : وواعدنا موسى عطف قصة على قصة
وقرأ حمزة والكسائي حليهم بكسر الحاء إتباعا لكسر اللام كدلى وبعض حليهم على الإفراد وقوله سبحانه : عجلا مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل أخر عن المجرور لما مر آنفا وقيل : إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير والمفعول الثاني محذوف أي إلها والعجل ولد البقر خاصة وهذا كما يقال لولد الناقة حوار ولولد الفرس مهر ولولد الحمار جحش ولولد الشاة حمل ولولد العنز جدي ولولد الأسد شبل ولولد الفيل دغفل ولولد الكلب جرو ولولد الظبي خشف ولولد الأروية غفر ولولد الضبع فرعل ولولد الدب ديسم ولولد الخنزير خنوص ولولد الحية حربش ولولد النعام رأل ولولد الدجاجة فروج ولولد الفأر درص ولولد الضب حسل إلى غير ذلك والمراد هنا ما هو على صورة العجل وقوله تعالى : جسدا بدل من عجلا أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسدا وفسر ببدن ذي لحم ودم وقال الراغب : الجسد كالجسم لكنه أخص منه وقيل : إنه يقال لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه ويقال أيضا لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء ومن هنا على ماقيل قيل للزعفران الجساد ولما أشبع صبغه من الثياب مجسد وجاء المجسد أيصا بمعنى الأحمر وبعض فسر الجسد به هنا فقال : أي أحمر من ذهب له خوار هو صوت البقر خاصة كالثغاء للغنم واليعار للمعز والنبيب للتيس والنباح للكلب والزئير للأسد والعواء والوعوعة للذئب والضباح للثعلب والقماع للخنزير والمؤاة للهرة والنهيق والسحيل للحمار والصهيل والضبح والقنع والحمحمة للفرس والرغاء للناقة والصني للفيل والبتغم للظبي والضعيب للأرنب والعرار للظليم والصرصرة للبازي والعقعقة للصقر والصفير للنسر والهدير للحمام والسجع للقمري والسقسقة للعصفور والنعيق والنعيب للغراب الصقاء والزقاء للديك والقوقاء والنقيقة للدجاجة والفحيح للحية والنقيق للضفدع والصيء للعقرب والفأرة والصرير للجراد إلى غير ذلك
وعن على كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ جؤار بجيم مضمومة وهمزة وهو الصوت الشديد ومثله الصياح
(9/63)

والصراخ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وخوار مبتدأ والجملة في موضع النعت لعجلا
روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فصار حيا وذكر بعضهم في سر ذلك أن جبريل عليه السلام لكونه الروح الأعظم سرت قوة منه إلى ذلك التراب أثرت ذلك الأثر بإذن الله تعالى لأمر يريده عزوجل ولا يلزم من ذلك أن يحيا مايطؤه بنفسه عليه السلام لأن الأمر مربوط بالأذن وهو إنما يكون بحسب الحكم التي لايعلمها إلا الحكيم الخبير فتدبر وإلى القول بالحياة ذهب كثير من المفسرين وأيد بأن الخوار إنما يكون للبقر لا لصورته وبأن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه كالصريح فيما دل عليه الخبر وقال جمع من مفسري المعتزلة : إن العجل كان بلا روح وكان السامري قد صاغه مجوفا ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الريح فكانت تدخل في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت يشبه خوار العجل ولذلك سمي خوارا وما في طه سيأتي إن شاء تعالى الكلام فيه واختلف في هذا الخوار فقيل : كان مرة واحدة وقيل : كان مرات كثيرة وكانوا كلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤسهم وعن السدي أنه كان يخور ويمشي وعن وهب نفي الحركة والآية ساكتة عن إثباتها وليس في الأخبار ما يعول عليه فالتوقف عن إثبات المشي أولى وليست هذه المسألة من المهمات وإنما نسب الإتخاذ إلى قوم موسى عليه السلام وهو فعل السامري لأنهم رضوا به وكثيرا ما ينسب الفعل إلى قوم مع وقوعه من واحد منهم فيقال : قتل بنو فلان قتيلا والقاتل واحد منهم وقيل : لأن المراد اتخاذهم إياه إلها فالمعنى صيروه إلها وعبدوه وحينئذ لاتجوز في الكلام لأن العبادة له وقعت منهم جميعا
قال الحسن : كلهم عبدوا العجل إلا هرون عليه السلام واستثنى آخرون غيره معه وعلى القول الأول قيل : لابد من تقدير فعبدوه ليكون ذلك مصب الإنكار لأن حرمة التصوير حدثت في شرعنا على المشهور ولأن المقصود إنكار عبادته ألم يروا أنه لايكلمهم ولا يهديهم سبيلا تقريع لهم وتشنيع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر أي ألم يروا أنه لايقدر على ما يقدر عليه آحاد البشر من الكلام وإرشاد السبيل بوجه من الوجوه فكيف عدلوه بخالق الأجسام والقوى والقدر وجعله بعضهم تعريضا بالإله الحق وكلامه الذي لاينفد وهدايته الواضحة التي لاتجحد وقيل : إنه تعريض بالله تعالى وبكلامه مع موسى عليه السلام وهدايته لقومه اتخذوه تكرار لجميع ما سلف من الإتخاذ على الوجه المخصوص المشتمل على الذم وهو من باب الكتابة على أسلوب
أن يرى مبصر ويسمع واع
أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر
وكانوا ظالمين إعتراض تذييلي أي إن دأبهم قبل ذلك الظلم ووضع الأشياء في غير موضعها فليس ببدع منهم هذا المنكر العظيم وكرر الفعل ليبني عليه ذلك وقيل : الجملة في موضع الحال أي اتخذوه في هذه الحالة المستمرة لهم ولما سقط في أيديهم أي ندموا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجعله غير واحد كناية عن شدة الندم وغايته لأن النادم إذا اشتد ندمه عض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها وأصله سقط فوه أو عضه في يده أي وقع ثم حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول به فصار سقط في يده كقولك : مر بزيد وقرأ ابن السميقع سقط بالبناء للفاعل على الأصل واليد على ماذكر حقيقة وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أنفسهم وجعل
(9/64)

القطب ذلك من باب الإستعارة التمثيلية حيث شبه حال الندم في النفس بحال الشيء في اليد في التحقيق والظهور ثم عبر عنه بالسقوط في اليد ولا لطف للإستعارة التصريحية فيه وقال الواحدي : إنه يقال لما يحصل وإن لم يكن في اليد وقع في يده وحصل في يده مكروه فيشبه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين وخصت اليد لأن مباشرة الأمور بها كقوله تعالى : ذلك بما قدمت يداك أو لأن الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد لعضها والضرب بها على أختها ونحو ذلك فقد قال سبحانه في النادم : فأصبح يقلب كفيه ويوم يعض الظالم وقيل : من عادة النادم أن يطأطيء رأسه ويضع ذقنه على يده بحيث لو أزالها سقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها و في بمعنى على وقيل : هو من السقاط وهو كثرة الخطأ وقيل : من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج لا ثبات له فهو مثل لمن خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعيه وعد بعضهم سقط من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس
وقرأ ابن أبي عبلة اسقط على أنه رباعي مجهول وهي لغة نقلها الفراء والزجاج وذكر بعضهم أن هذا التركيب لم يسمع قبل نزول القرآن ولم تعرفه العرب ولم يوجد في أشعارهم وكلامهم فلذا خفي على الكثير وأخطأوا في إستعماله كأبي حاتم وأبي نواس وهو العالم النحرير ولم يعلموا ذلك ولو علموه لسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا أي تبينوا ضلالهم بإتخاذ العجل وعبادته تبينا كأنهم قد أبصروه بعيونهم قيل : وتقديم ذكر ندمهم على هذه الرؤية مع كونه متأخرا عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعار بغاية سرعته كأنه سابق على الرؤية
وقال القطب في بيان تأخر تبين الضلال عن الندم مع كونه سابقا عليه : إن الأنتقال من الجزم بالشيء إلى تبين الجزم بالنقيض لا يكون دفعيا في الأغلب بل إلى الشك ثم الظن بالنقيض ثم الجزم به ثم تبينه والقوم كانوا جازمين بأن ما هم عليه صواب والندم عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فقد تأخر تبين الضلال عنه انتهى فافهم ولا تغفل قالوا لئن لم يرحمنا ربنا بإنزال التوبة المكفرة ويغفر لنا بالتجاوز عن خطيئتنا وتقديم الرحمة على المغفرة مع أن التخلية حقها أن تقدم على التحلية قيل : إما للمسارعة إلى ماهو المقصود الأصلي وإما لأن المراد بالرحمة مطلق إرادة الخير بهم وهو مبدأ لإنزال التوبة المكفرة لذنوبهم واللام في لئن موطئة للقسم أي والله لئن الخ وفي قوله سبحانه : لنكونن من الخاسرين
941
- لجواب القسم كما هو مشهور
وقرأ حمزة والكسائي ترحمنا وتغفر لنا بالتاء الفوقية و ربنا بالنصب على النداء وما حكي عنهم من الندامة والرؤية والقول كان بعد رجوع موسى عليه السلام من الميقات كما ينطق به ما سيأتي إن شاء الله تعالى في طه وقدم ليتصل ما قالوه بما فعلوه ولما رجع موسى إلى قومه غضبان مما حدث منهم أسفا أي شديد الغضب كما قال أبو الدرداء و محمد القرظي وعطاء والزجاج أو حزينا على ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة رضي الله تعالى عنهم وقال أبو مسلم : الغضب والأسف بمعنى والتكرير
(9/65)

وقال الواحدي : هما متقاربان فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت فعلى هذا كان موسى عليه السلام غضبان على قومه بإتخاذهم العجل حزينا لأن الله تعالى فتنهم وقد أخبره سبحانه بذلك قبل رجوعه ونصب الوصفين على أنهما حالان مترادفان أو متداخلان بأن يكون الثاني حالا من الضمير المستتر في الأول وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من الحال الأولى وهو بدل كل لا بعض كما توهم
قال بئسما خلفتموني من بعدي خطاب إما لعبدة العجل وإما لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين أي بئسما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل بعدما رأيتم مني من توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه سبحانه وإخلاص العبادة له جل جلاله أو بئسما قمتم مقامي حيث لم تراعوا عهدي ولم تكفوا العبدة عما فعلوا بعدما رأيتم مني من حملهم على التوحيد وكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر حيث قالوا أجعل لنا إلها كما لهم آلهة
وجوز أن يكون على الخطاب للفريقين على أن المراد بالخلافة الخلافة فيما يعم الأمرين اللذين أشير إليهما ولا تكرار في ذكر من بعدي بعد خلفتموني لأن المراد من بعد ولايتي وقيامي بما كنت أقوم إذ بعديته على الحقيقة إنما تكون على ما قيل بعد فراقه الدنيا وقيل : إن من بعدي تأكيد من باب رأيته بعيني وفائدته تصوير نيابة المستخلف ومزاولة سيرته كما أن هنالك تصوير الرؤية وما يتصل بها و ما نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم والذم فيما إذا كان الخطاب لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين ليس للخلافة نفسها بل لعدم الجري على مقتضاها وأما إذا كان للسامري وأشياعه فالأمر ظاهر أعجلتم أمر ربكم أي أعجلتم عما أمركم به ربكم وهو إنتظار موسى عليه السلام حال كونهم حافظين لعهده وما وصاهم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم بموتي فغيرتم روي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال : إن هذا إلهكم وإله موسى إن موسى لن يرجع وإنه قد مات وروي أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا والمعروف تعدى عجل بعن لا بنفسه فيقال : عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره وضمنوه هنا معنى السبق وهو كناية عن الترك فتعدى تعديته ولم يضمن إبتداء معنى الترك لخفاء المناسبة بينهما وعدم حسنها وذهب يعقوب إلى أن السبق معنى حقيقي له من غير تضمين والأمر واحد الأوامر وعن الحسن أن المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين فالأمر عليه واحد الأمور والمراد بهذه الأربعين على ماذكره الطيبي غير الأربعين التي أشار الله تعالى إليها بقوله سبحانه : فتم ميقات ربه أربعين ليلة وسيأتي تتمة الكلام في ذلك قريبا إن شاء الله تعالى
وألقى الألواح أي وضعها على الأرض كالطارح لها ليأخذ برأس أخيه مما عراه من فرط الغيرة الدينية وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه فقد أخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كان إذا غضب إشتعلت قلنسوته نارا وقال القاضي ناصر الدين : أي طرحها من شدة الغضب وفرط الضجرة حمية للدين ثم نقل أنه انكسر بعضها حين ألقاها واعترض عليه أفضل المتأخرين شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري بأن الحمية للدين إنما تقتضي إحترام كتاب الله تعالى وحمايته أن يلحق به نقص أو هوان بحيث
(9/66)

تنكسر ألواحه ثم قال : والصواب أن يقال : إنه عليه السلام لفرط حميته الدينية وشدة غضبه لله تعالى لم يتمالك ولم يتماسك إن وقعت الألواح من يده بدون إختيار فنزل ترك التحفظ منزلة الإلقاء الإختياري فعبر به تغليظا عليه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين انتهى
وتعقبه العلامة صالح أفندي الموصلي عليه الرحمة بأنه لايخفى أن هذا الإيراد إنما نشأ من جعل قول القاضي حمية للدين مفعولا له لطرحها وهو غير صحيح فقد صرح في أوائل تفسيره لسورة طه بأن الفعل الواحد لايتعدى لعلتين وإنما هو مفعول له لشدة الغضب وفرط الضجرة على سبيل التنازع والتوجيه الذي ذكر للأية هو ما أراده القاضي وتفسيره الإلقاء بالطرح لاينافي ذلك على ما يخفى اه وأقول أنت تعلم أن كون هذا التوجيه هو ما أراده القاضي غير بين ولا مبين على أن حديث كون التعبير بالإلقاء تغليظا عليه عليه السلام منحط عن درجة القبول جدا إذ ليس في السباق ولا في السياق ما يقضي بكون المقام عتاب موسى عليه السلام ليفتى بهذا التغليظ نظرا إلى مقامه صلى الله تعالى عليه وسلم بل المقام ظاهر في الحط على قومه كما لا يخفى على من له أدنى حظ من رفيع النظر والذي يراه هذا الفقير ما أشرنا إليه أولا وحاصله أن موسى عليه السلام لما رأى من قومه ما رأى غضب غضبا شديدا حمية للدين وغيرة من الشرك برب العالمين فعجل في وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع بالإلقاء تفظيعا لفعل قومه حيث كانت معاينته سببا لذلك وداعيا إليه مع ما فيه من الإشارة إلى شدة غيرته وفرط حميته وليس في ذلك ما يتوهم منه نوع إهانة لكتاب الله تعالى بوجه من الوجوه وإنكسار بعض الألواح حصل من فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى عليه السلام ولا مر بباله ولا ظن ترتبه على ما فعل وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة لله تعالى ولعل ذلك من باب وعجلت إليك ربي لترضى واختلفت الروايات في مقدار ما تكسر ورفع وبعضهم أنكر ذلك حيث أن ظاهر القرآن خلافه نعم أخرج أحمد وغيره وعبد بن حميد والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يرحم الله تعالى موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك تعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر فتأمل ولا تغفل وما روي عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما ألقى الإلواح رفع منها ستة أسباع وبقي سبع وكذا ما روي عن غيره نحوه مناف لما روي فيما تقدم من أن التوراة نزلت سبعين وقرأ يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليه السلام وكذا لما يذكر بعد من قوله تعالى : أخذ الألواح فإن الظاهر منه العهد والجواب بأن الرفع لما فيها من الخط دون الألواح خلاف الظاهر والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وأخذ برأس أخيه أي بشعر رأس هارون عليه السلام لأنه الذي يؤخذ ويمسك عادة ولا ينافي أخذه بلحيته كما وقع في سورة طه أو أدخل فيه تغليبا يجره إليه ظنا منه عليه السلام أنه قصر في كفهم ولم يتمالك لشدة غضبه وفرط غيضه أن فعل ذلك وكان هارون أكبر من موسى عليهما السلام بثلاث سنين إلا أن موسى أكبر منه مرتبة وله الرسالة والرياسة إستقلالا وكان هارون وزيرا له وكان عليه السلام حمولا لينا جدا ولم يقصد موسى بهذا الأخذ إهانته والإستخفاف به بل اللوم الفعلي على التقصير المظنون بحكم الرياسة وفرط الحمية والقول بأنه عليه السلام إنما أخذ رأس أخيه ليساره ويستكشف منه كيفية الواقعة مما يأباه
(9/67)

الذوق كما لايخفى على ذويه ومثله القول بأنه إنما كان لتسكين هارون لما رأى به من الجزع والقلق وقال أبو علي الجبائي : إن موسى عليه السلام أجرى أخاه مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان به عند شدة الغضب وقال الشيخ المفيد من الشيعة : إن ذلك للتألم من ضلال قومه وإعلامهم على أبلغ وجه عظم ما فعلوه لينزجروا عن مثله ولا يخفى أن الأمر على هذا من قبيل : غيري جنى وأنا المعاقب فيكم فكأنني سبابة المتندم ولعل ماأشرنا إليه هو الأولى وجملة يجره في موضع الحال من ضمير موسى أو من رأس أو من أخيه لأن المضاف جزء منه وهو أحد مايجوز فيه ذلك وضعفه أبو البقاء قال أي هارون مخاطبا لموسى عليه السلام إزاحة لظنه ابن أم بحذف حرف النداء لضيق المقام وتخصيص الأم بالمذكر مع كونهما شقيقين على الأصح للترقيق وقيل : لأنها قامت بتربيته وقاست في تخليصه المخاوف والشدائد وقيل : إن هارون عليه السلام كانت آثار الجمال والرحمة فيه ظاهرة كما ينبىء عنه قوله تعالى : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا وكان مورده ومصدره ذلك ولذا كان يلهج بذكر ما يدل على الرحمة ألا ترى كيف تلطف بالقوم لما قدموا على ما قدموا فقال : يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن ومن هنا ذكر الأم ونسب إليها لأن الرحمة فيها أتم ولولاها ما قدرت على تربية الولد وتحمل المشاق فيها وهو منزع صوفي كما لا يخفى واختلف في إسم أمهما عليهما السلام فقيل : محيانة بنت يصهر بن لاوي وقيل : يوحانذ وقيل : يارخا وقيل : يازخت وقيل : غير ذلك ومن الناس من زعم أن لإسمها رضي الله تعالى عنها خاصية في فتح الأقفال وله رياضة مخصوصة عند أرباب الطلاسم والحروف وما هي إلا رهبانية ابتدعوها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسلئي وأبوبكر عن عاصم هنا وفي طه ابن أم بالكسر وأصله ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء
وقرأ الباقون بالفتح زيادة في التخفيف أو تشبيها بخمسة عشر إن القوم الذين فعلوا ما فعلوا استضعفوني أي إستذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري وكادوا يقتلونني وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك والمراد أني بذلت وسعي في كفهم ولم آل جهدا في منعهم فلا تشمت بي الأعداء أي فلا تفعل مايشمتون بي لأجله فإنهم لايعلمون سر فعلك والشماتة سرور العدو بما يصيب المرء من مكروه
وقريء فلا تشمت بي الأعداء بفتح حرف المضارعة وضم الميم ورفع الأعداءحطهم الله تعالى وهو كناية عن ذلك المعنى أيضا على حد لا أرينك ههنا والمراد من الأعداء القوم المذكورون إلا أنه أقيم الظاهر مقام ضميرهم ولا يخفى سره ولا تجعلني مع القوم الظالمين
51
- أي لاتجعلني معدودا في عدادهم ولا تسلك بي سلوكك بهم في المعاتبة أو لا تعتقدني واحدا من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم فالجعل مثله في قوله تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا قال إستئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية الإعتذار كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام عند إعتذار أخيه فقيل : قال رب اغفر لي ما فعلت بأخي قبل جلية الحال وحسنات الأبرار سيئات المقربين ولأخي إن كان اتصف بما يعد ذنبا
(9/68)

بالنسبة إليه في أمر أولئك الظالمين وفي هذا الضم ترضية له عليه السلام ورفع للشماتة عنه والقول بأنه عليه السلام إستغفر لنفسه ليرضي أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتهم به ولأخيه للإيذان بأنه محتاج إلى الإستغفار حيث كان يجب عليه أن يقاتلهم لي فيه توقف لايخفى وجهه وأدخلنا جميعا في رحمتك الواسعة بمزيد الإنعام علينا وهذا ما يقتضيه المقابلة بالمغفرة والعدول عن ارحمنا إلى ما ذكر وأنت أرحم الراحمين
151
- فلا غرو في انتظامنا في سلك رحمتك الواسعة في الدنيا والآخرة والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وادعى بعضهم أن فيه إشارة إلى أنه سبحانه استجاب دعاءه وفيه خفاء إن الذين اتخذوا العجل أي بقوا على اتخاذه واستمروا عليه كالسامري وأشياعه كما يفصح عنه كون الموصول الثاني عبارة عن التائبين فإن ذلك صريح في أن الموصول الأول عبارة عن المصرين سينالهم أي سيلحقهم ويصيبهم في الآخرة جزاء ذلك غضب عظيم لا يقادر قدره مستتبع لفنون العقوبات لعظم جريمتهم وقبح جريرتهم من ربهم أي مالكهم والجار والمجرور متعلق بينالهم أو بمحذوف وقع نعتا لغضب مؤكدا لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائن من ربهم وذلة عظيمة في الحياة الدنيا وهي على ما أقول : الذلة التي عرتهم عند تحريق إلههم ونسفه في اليم نسفا مع عدم القدرة على دفع ذلك عنه وقيل : هي ذلة الإغتراب التي تضرب بها الأمثال والمسكنة المنتظمة لهم ولأولادهم جميعا والذلة التي إختص بها السامري من الإنفراد عن الناس والإبتلاء بلا مساس وروي أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحد غيرهم حما جميعا في الوقت ولعل ما ذكرناه أولى والرواية لم نر لها أثرا وإيراد ما نالهم بالسين للتغليب وقيل : وإليه يشير كلام أبي العالية المراد بهم التائبون وبالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم وبالذلة إسلامهم أنفسهم لذلك واعترافهم بالضلال واعتذر عن السين بأن ذلك حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بإفتتان قومه واتخاذهم العجل فإنه قال له : سينالهم غضب الخ فيكون سابقا على الغضب وجعل الكلام جواب سؤال مقدر وذلك أنه تعالى لما بين أن القوم ندموا على عبادتهم العجل بقوله سبحانه : ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا والندم توبة ولذلك عقبوه بقولهم : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا وذكر عتاب موسى لأخيه عليهما السلام ثم إستغفاره اتجه لسائل أن يقول : يا رب إلى ماذا يصير أمر القوم وتوبتهم وإستغفار نبي الله تعالى وهل قبل الله تعالى توبتهم فأجاب إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب أي نقم قبل توبة موسى وأخيه وغفر لهما خاصة وكان من تمام توبة القوم أن الله سبحانه أمرهم بقتل أنفسهم فسلموها للقتل فوضع الذين إتخذوا العجل موضع القوم إشعارا بالعلية وتعقب بأن سياق النظم الكريم وكذا سباقه ناب عن ذلك نبوا ظاهرا كيف لا وقوله تعالى : وكذلك نجزي المفترين ينادي على خلافه فإنهم شهداء تائبون فكيف يمكن وصفهم بعد ذلك بالإفتراء وأيضا ليس يجزي الله تعالى كل المفترين بهذا الجزاء الذي ظاهره قهر وباطنه لطف ورحمة إلا أن يقال : يكفي في صحة التشبيه وجود الشبه في الجملة ولابد من إلتزام ذلك على الوجه الذي ذكرناه أيضا وما ذكر في
(9/69)

تحرير السؤال والجواب مما تمجه إسماع ذوي الألباب
وقال عطية العوفي : المراد سينال أولاد الذين عبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأريد بالغضب والذلة ماأصاب بني النضير وقريظة من القتل والجلاء أو ماأصابهم من ذلك ومن ضرب الجزية عليهم وفي الكلام على هذا حذف مضاف وهو الأولاد ويحتمل أن لايكون هناك وهو من تعيير الأبناء بما فعل الآباء ومثله في القرآن كثير وقيل : المراد بالموصول المتخذون حقيقة وبالضمير في ينالهم أخلافهم وبالغضب الغضب الأخروي وبالذلة الجزية التي وضعها الإسلام عليهم أو الأعم منها ليشمل ما ضربه بختنصر عليهم وتعقب ذلك أيضا بأنه لا ريب في أن توسيط حال هؤلاء في تضاعيف بيان حال المتخذين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه والمراد بالمفترين المفترون على الله تعالى وإفتراء أولئك عليه سبحانه قول السامري في العجل هذا إلهكم وإله موسى ورضاهم به ولا أعظم من هذه الفرية ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم وعن سفيان بن عيينة أنه قال : كل صاحب بدعة ذليل وتلا هذه الآية
والذين عملوا السيئات أي سيئة كانت لعموم المغفرة ولأنه لا داعي للتخصيص ثم تابوا عنها من بعدها أي من بعد عملها وهو تصريح بما يقتضيه ثم وءامنوا أي واشتغلوا بالإيمان وما هو مقتضاه وبه تمامه من الأعمال الصالحة ولم يصروا على مافعلوا كالطائفة الأولى وهو عطف على تابوا ويحتمل أن يكون حالا بتقدير قد وإياما كان فهو على قيل : من ذكر الخاص بعدم العام للإعتناء به لأن التوبة عن الكفر هي الإيمان فلا يقال : التوبة بعد الإيمان كيف جاءت قبله
وقيل : حيث كان المراد بالإيمان ماتدخل فيه الأعمال يكون بعد التوبة وقيل : المراد به هنا التصديق بأن الله تعالى يغفر للتائب أي ثم تابوا وصدقوا بأن الله تعالى يغفر لمن تاب إن ربك من بعدها أي من بعد التوبة المقرونة بما لاتقبل بدونه وهو الإيمان ولم يجعل الضمير للسيئات لأنه كما قال بعض المحققين لا حاجة له بعد قوله سبحانه : ثم تابوا من بعدها لا لأنه يحتاج إلى حذف مضاف ومعطوف من عملها والتوبة عنها لأنه لا معنى لكونه بعدها إلا ذلك لغفور لذنوبهم وإن عظمت وكثرت رحيم مبالغ في إفاضة فنون الرحمة عليهم والموصول مبتدأ وجملة إن ربك الخ خبر والعائد محذوف والتقدير عند أبي البقاءلغفور لهم رحيم بهم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة و السلام للتشريف وقيل : الخطاب للتائب ولا يخفى لطف ذلك أيضا وفي الآية إعلام بأن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجل وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له : يارب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا ربي لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
(9/70)

ويعجبني قول بعضهم : وما أولى هذا المذنب به : أنا مذنب أنا مخطيء أنا عاصي هو غافر هو أرحم هو عافي قابلتهن ثلاثة بثلاثة وستغلبن أوصافه أوصافي ولما سكت عن موسى الغضب شروع بيان بقية الحكاية أثر ما بين تحزب القوم إلى مصر وتائب وألإشارة إلى مالكل منهما إجمالا أي ولما سكت عنه الغضب بإعتذار أخيه وتوبة القوم وهذا صريح في أن ما حكي عنهم من الندم وما يتفرع عليه كان بعد مجيء موسى عليه السلام وقيل : المراد ولما كسرت سورة غضبه عليه السلام وقل غيظه بإعتذار أخيه فقط لا أنه زال غضبه بالكلية لأن توبة القوم ما كانت خالصة بعد وأصل السكوت قطع الكلام وفي الكلام إستعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص ناه آمر وأثبت له السكوت على طريق التخييل وقال السكاكي : إن فيه إستعارة تبعية حيث شبه سكون الغضب وذهاب حدته بسكون الآمر الناهي والغضب قرينتها وقيل : الغضب إستعارة بالكناية عن الشخص الناطق والسكوت إستعارة تصريحية لسكون هيجانه وغليانه فيكون في الكلام مكنية قرينتها تصريحية لا تخييلية وإياما كان ففي الكلام مبالغة وبلاغة لايخفى علو شأنهما وقال الزجاج : مصدر سكت الغضب والسكتة ومصدر سكت الرجل السكوت وهو يقتضي أن يكون سكت الغضب فعلا على حدة وقيل ونسب إلى عكرمة : إن هذا من القلب وتقديره ولما سكت موسى عن الغضب ولا يخفى أن السكوت كان أجمل بهذا القائل إذ لا وجه لما ذكره
وقرأ معاوية بن قرة سكن والمعنى على ذلك ظاهر إلا أنه على قراءة الجمهور أعلى كعبا عند كل ذي طبع سليم وذوق صحيح وقريء سكت بالبناء لما لم يسم فاعله والتشديد للتعدية و أسكت بالبناء لذلك أيضا على أن المسكت هو الله تعالى أو أخوه أو التائبون أخذ الألواح التي ألقاها وفي نسختها أي فيما نسخ فيها وكتب ففعلة بمعنى مفعول كالخطبة والنسخ الكتابة والإضافة بيانية أو بمعنى في وإلى هذا ذهب الجبائي وأبو مسلم وغيرهما وقيل : معنى منسوخة ما نسخ فيها من اللوح المحفوظ وقيل : النسخ هنا بمعنى النقل والمعنى فيما نقل من الألواح المنكسرة وروي عن ابن عباس وعمرو بن دينار أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر صام أربعين يوما فرد عليه ما ذهب في لوحين وفيهما ما في الأول بعينه فكأنه نسخ من الأول هدى أي بيان للحق عظيم ورحمة جليلة بالإرشاد إلى ما فيه الخير والصلاح للذين هم لربهم يرهبون
451
- أي يخافون أشد الخوف واللام الأولى متعلقة بمحذوف وقع صفة لما قبله أو هي لام الأجل أي هدى ورحمة لأجلهم والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله سبحانه : إن كنتم للرؤيا تعبرون أو هي لام العلة والمفعول محذوف أي يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء والسمعة وإحتمال تعلقها بمحذوف أي يخشون لربهم كما ذهب إليه أبو البقاء بعيد واختار موسى قومه تتمة لشرح أحوال بني إسرائيل وقال البعض : إنه شروع في بيان كيفية إستدعاء التوبة وكيفية وقوعها واختار يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بمن وقد حذفت هنا وأوصل الفعل والأصل من قومه ونحوه قول الفرزدق :
(9/71)

من الذي أختير الرجال سماحة وجودا إذا هب الرياح الزعازع وقوله الآخر فقلت له : اخترها قلوصا سمينة ونابا علا بأمثل نابك في الحيا وقوله سبحانه : سبعين رجلا مفعول أول لاختار على المختار وأخر عن الثاني لما مر مرارا وقيل : بدل بعض من كل ومنعه الأكثرون بناءا على أن المبدل منه في نية الطرح والإختيار لا بدله من مختار ومختار منه وبالطرح يسقط الثاني وجوزه أبو البقاء على ضعف ويكون التقدير سبعين منهم وقيل : هو عطف بيان لميقاتنا ذهب أبو علي وأبو مسلم وغيرهما من مفسري السنة والشيعة إلى أنه الميقات الأول وهو الميقات الكلامي قالوا : إنه عليه السلام إختار لذلك من اثني عشر سبطا من كل سبط ستة حتى تتاموا إثنين وسبعين فقال عليه السلام : ليختلف منكم رجلان فتشاحوا فقال : لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وروي أنه لم يصب إلا ستين شيخا فأوحى الله تعالى أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا وقيل : كانوا أبناء ماعدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين فذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم : ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجدا فسمعوه وهو سبحانه يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ثم إنكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وكان ماكان وذهب آخرون وهو المروي عن الحسن إلى أنه غير الميقات الأول قالوا : إن الله سبحانه أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في أناس من بني إسرئيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار من إختاره فلما أتوا الطور قالوا ماقالوا وروي ذلك عن السدي وعن ابن إسحق أنه عليه السلام إنما إختارهم ليتوبوا إلى الله تعالى ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم ورجح ذلك الطيبي مدعيا أن الأول خلاف نظم الآيات وأقوال المفسرين أما الأول فلما قال الإمام : إنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بقصة العجل وما يتصل بها فظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى وإنه إضطراب يصان عنه كلامه تعالى وأيضا ذكر في الأولى خرور موسى عليه السلام صعقا وفي الثانية قوله بعد أخذ الرجفة : لو شئت أهلكتهم وأيضا لو كانت الرجفة بسبب طلب الرؤية لقيل : أتهلكنا بما قال السفهاء وضم إليه الطيبي أنه تعالى حيث ذكر صاعقتهم لم يذكر صعق موسى عليه السلام وبالعكس فدل على التغاير وأما الثاني فلما نقل عن السدي مما ذكرناه آنفا وتعقب ما ذكر في الترجيح أولا صاحب الكشف بأن الإنصاف أن المجموع قصة واحدة في شأن مامن على بني إسرائيل بعد إنجائهم من تحقيق وعد إيتاء الكتاب وضرب ميقاته وعبادة العجل وطلب الرؤية كان في تلك الأيام وفي ذلك الشأن فالبعض مربوط بالبعض بقي إيثار هذا الأسلوب وهو بين لأن الأول في شأن الإمتنان عليهم وتفضيلهم كيف وقد عطف واعدنا على أنجيناكم وقد بين أنه تبيين للتفضيل وتعقيب حديث الرؤية مستطرد للفرق بين الطلبين عندنا وليلقمهم الحجر عند المعتزلى والثاني في شأن جنايتهم بعد ذلك الإحسان البالغ بإتخاذ العجل والملاحة والإفتراق من لوازم النظم وتعقب ماذكر فيه ثانيا بأن قول السدي وحده لايصلح ردا كيف وهذا يخالف ما نقله محيي السنة في قوله سبحانه :
(9/72)

لو شئت أهلكتهم إنهم كانوا له وزراء مطيعين فاشتد عليه عليه السلام فقدهم فرحمهم وخلف عليهم الفوت وأين لن نؤمن لك من الطاعة وحسن الإستئزار قال : ثم الظاهر من قوله تعالى : فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم إتخذوا العجل إن إتخاذ العجل متأخر عن مقالتهم تلك خلاف ما نقل عن السدي والحمل على تراخي الرتبة لابد له من سند كيف ولا ينافي التراخي الزماني فلا بد من دليل يخصه به هذا وقد إعترف المفسرون في سورة طه بأنه إختار سبعين لميقات الكلام ذكروه في قوله تعالى : وماأعجلك عن قومك يا موسى وما إعتذر عنه الطيبي بأن إختيار السبعين كان مرتين وليس في النقل أنهم كانوا معه عند المكالمة وطلب الرؤية فظاهر للمنصف سقوطه انتهى
وذكر القطب في توهين ما نقل عن السدي بأن الخروج للإعتذار إن كان بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة فلا معنى للإعتذار وإن كان قبل قتلهم فالعجب من إعتذار ثمرته قتل الأنفس ثم قال : ولا ريب أن قصة واحدة تتكرر في القرآن يذكر في سورة بعضها وفي أخرى بعض أخر وليس ذلك إلا لتكرار إعتبار المعتبرين بشيء من تلك القصة فإذا جاز ذكر قصة في سور متعددة في كل سورة شيء منها فلم لا يجوز ذلك في مواضع من سورة واحدة لتكرر الإعتبار اه وهو ظاهر في ترجيح ما ذهب إليه الأولون وأنا أقول : إن القول أن هذا الميقات هو الميقات الأول ليس بعاطل من القول وبه قال جمع كما أشرنا إليه وكلامنا في البقرة ظاهر فيه إلا أن الإنصاف أن ظاهر النظم هنا يقتضي أنه غيره وما ذكره صاحب الكشف لايقتضي أنه ظاهر في خلافه وإلى القول بالغيرية ذهب جل من المفسرين فقد أخرج عبد بن حميد من طريق أبي سعد عن مجاهد أن موسى عليه السلام خرج بالسبعين من قومه يدعون الله تعالى ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم فعلم موسى أنهم أصابوا من المعصية ماأصاب قومهم قال أبو سعد : فحدثني محمد بن كعب القرظي أنه لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولو يأمروهم بالمعروف
وأخرج عبد بن حميد عن الفضل بن عيسى بن أخي الرقاشي أن بني إسرائيل قالوا ذات يوم لموسى عليه السلام ألست ابن عمنا ومنا وتزعم أنك كلمت رب العزة فإنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فلما أبوا إلا ذلك أوحى الله تعالى إلى موسى أن إختر من قومك سبعين رجلا فاختار سبعين خيرة ثم قال لهم : اخرجوا فلما برزوا جاءهم ما لا قبل لهم به الخبر وهو ظاهر في أن هذا الميقات ليس هو الأول نعم إنه مخالف لما روي عن السدي لكنهما متفقان على القول بالغيرية ويوافق السدي في ذلك الحسن أيضا فليس هو متفرد بذلك كما ظنه صاحب الكشف وما ذكره من مخالفة كلام السدي لما نقله محيي السنة في حيز المنع وقوله : فإنا لن نؤمن لك الخ يظهر جوابه مما ذكرناه في البقرة عند هذه الآية من الإحتمالات والقول بأن الإختيار كان مرتين غير بعيد وبه قال بعضهم وما ذكره القطب من الترديد في الخروج للإعتذار ظاهر بعض الروايات عن السدي يقتضي تعين الشق الأول منه فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال : ماأعجلك عن قومك ياموسى فأجابه موسى بما أجابه فقال سبحانه : فإنا قد فتنا قومك الآية فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأبى الله تعالى أن يقبل توبتهم إلا بالحال التي كرهوا ففعلوا ثم أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون من عبادة العجل فوعدهم موعدا فاختار موسى سبعين
(9/73)

رجلا الخ وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه والقول بأنه لا معنى للإعتذار بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة أجيب عنه بأن المعنى يحتمل أن يكون طلبا لزيادة الرضى وإستنزال مزيد الرحمة ويحتمل أن يكونوا أمروا بذلك تأكيدا للإيذان بعظم الجناية وزيادة فيه وإشارة إلى أنه بلغ مبلغا في السوء لايكفي في العفو عنه قتل الأنفس بل لابد فيه مع ذلك الإعنذار ويمكن أن يقال إنه كان قبل قتلهم أنفسهم : والسر في أنهم أمروا به أن علموا أيضا عظم الجناية على أتم وجه بعدم قبوله والله تعالى أعلم فلما أخذتهم الرجفة أي الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها والكثير على أنهم ماتوا جميعا ثم أحياهم الله تعالى وقيل : غشى عليهم ثم أفاقوا وذلك لأنهم قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة على ما في بعض الروايات أو ليتحقق عند القائلين ذلك من قومهم مزيد عظمته سبحانه على ما في البعض الآخر منها أو لمجرد التأديب على ما في خبر القرظي والظاهر أن قولهم : لن نؤمن الخ صدر منهم في ذلك المكان لا بعد الرجوع كما قيل : ونقلناه في البقرة وحينئذ يبعد على ما قيل القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول لأن فيه طلب موسى عليه السلام الرؤية بعد كلام الله تعالى له من غير فصل على ما هو الظاهر فيكون هذا الطلب بعده وبعيد أن يطلبوا ذلك بعد أن رأوا ما وقع لموسى عليه السلام وما أخرجه ابن أبي الدنيا : وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : لما حضر أجل هارون أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن انطلق أنت وهارون وابنه إلى غار في الجبل فإنا قابضوا روحه فانطلقوا جميعا فدخلوا الغار فإذا سرير فاضطجع عليه موسى ثم قام عنه فقال : ما أحسن هذا المكان يا هارون فاضطجع عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى وابن أخيه إلى بني إسرائيل حزينين فقالوا له أين هارون قال مات قالوا : بل قتلته كنت تعلم إنا نحبه فقال لهم : ويلكم أقتل أخي وقد سألته الله تعالى وزيرا ولو أني أردت قتله أكان ابنه يدعني قالوا : بلى قتلته حسدا قال : فاختاروا سبعين رجلا فانطلق بهم فمرض رجلان في الطريق فخط عليهما خطا فانطلق هو وابن هارون وبنو إسرائيل حتى انتهوا إلى هارون فقال : يا هارون من قتلك قال : لم يقتلني أحد ولكني مت قالوا : ما تعصي يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا وصعق الرجلان اللذان خلفوا وقام موسى عليه السلام يدعو ربه فأحياهم الله تعالى فرجعوا إلى قومهم أنبياء لايكاد يصح فيما أرى لتظافر الآثار بخلافه وإباء ظواهر الآيات عنه
قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل عرض للعفو السابق لإستجلاب العفو اللاحق يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جريا على مقتضى كرمك وإنما قال : واياي تسليما منه وتواضعا وقيل : أراد بقوله من قبل حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها أي لو شئت إهلاكهم بذنوبهم إذ ذاك وإياي أيضا حين طلبت منك الرؤية وقيل : حين قتل القبطي لأهلكتنا وقيل : هو تمن منه عليه السلام للإهلاك جميعا بسبب محبته أن لايرى ما يرى من مخالفتهم له مثلا أو بسبب آخر وفيه دغدغة أتهلكنا بما فعل السفهاء منا من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل والهمزة إما لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف الله عزوجل كما قال ابن الأنباري أو
(9/74)

للإستعطاف كما قال المبرد أي لا تهلكنا وإيا ما كان فهو من مقول موسى عليه السلام كالذي قبله وقول بعضهم : كان ذلك قالة بعضهم غير ظاهر ولا داعي إليه والقول بأن الداعي ما فيه من التضجر الذي لا يليق بمقام النبوة لا يخفي ما فيه ولعل مراد القائل بذلك أن هذا القول من موسى عليه السلام يشبه قول أحد السبعين فكأنه قاله على لسانهم لأنهم الذين أصيبوا بما أصيبوا به دونه فافهم إن هي إلا فتنتك إستئناف مقرر لما قبله وإعتذار عما وقع منهم وإن نافية وهي للفتنة المعلومة للسياق أي ماالفتنة إلا فتنتك أي محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فطمعوا في رؤيتك واتبعوا القياس في غير محله أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به
أخرج ابن أبي حاتم عن راشد بن سعد أن الله تعالى لما قال لموسى عليه السلام إن قومك اتخذوا عجلا جسدا له خوار قال : يارب فمن جعل فيه الروح قال : أنا قال : فأنت أضللتهم يارب قال : يا رأس النبيين يا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم ولعل هذا إشارة إلى الإستعداد الأزلي الغير المجعول وقيل : الضمير راجع على الرجفة أي ما هي إلا تشديدك التعبد والتكلف علينا بالصبر على ما أنزلته بنا وروي هذا عن الربيع وابن جبير وأبي العالية وقيل : الضمير لمسئلة الإراءة وإن لم تذكر
تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء إستئناف مبين لحكم الفتنة وقيل : حال من المضاف إليه أو المضاف أي تضل بسببها من تشاء إضلاله بالتجاوز عن الحد أو بإتباع المخايل أو بنحو ذلك وتهدي من تشاء هداه فيقوى بها إيمانه وقيل : المعنى تصيب بهذه الرجفة من تشاء وتصرفها عمن تشاء وقيل : تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك ودخول جنتك وتهدي بالرضا لها والصبر عليها من تشاء وهو كما ترى أنت ولينا أي أنت القائم بإمورنا الدنيوية والآخروية لا غيرك فاغفر لنا ما يترتب عليه مؤاخذتك وارحمنا بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والآخروية علينا والفاء لترتيب الدعاء على ماقبله من الولاية لأن من شأن من يلي الأمور ويقوم بها دفع الضر وجلب النفع وقدم طلب المغفرة على طلب الرحمة لأن التخلية أهم من التحلية وسؤال المغفرة لنفسه عليه السلام في ضمن سؤالها لمن سألها له مما لاضير فيه وإن لم يصدر منه نحو ما صدر منه كما لايخفى والقول بأن إقدامه عليه السلام على أن يقول : إن هي إلا فتنتك جرأة عظيمة فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوز عنها مما يأباه السوق عند أرباب الذوق ولا أظن أن الله تعالى عد ذلك ذنبا منه ليستغفره عنه وفي ندائه السابق ما يؤيد ذلك وأنت خير الغافرين
551
- إذ كل غافر سواك إنما يغفر لغرض نفساني كحب الثناء ودفع الضرر وأنت تغفر لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم والجملة إعتراض تذييلي مقرر لما قبل وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم
وفسر بعضهم ماذكر بغفران السيئة وتبديلها بالحسنة ليكون تذييلا لاغفر وارحم معا واكتب لنا أي ثبت وأقسم لنا في هذه الدنيا التي عرانا فيها ما عرانا حسنة حياة طيبة وتوفيقا للطاعة
وقيل : ثناءا جميلا وليس بجميل وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد قبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة وفي الآخرة أي واكتب لنا أيضا في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة
وقيل : إن هذا كالتأكيد لقوله : إغفر وارحم إنا هدنا إليك أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع
(9/75)

وتاب كما قال :
إني امرىء مما جنيت هائد
ومن كلام بعضهم : ياراكب الذنب هدهد واسجد كأنك هدهد وقيل : معناه مال وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما هدنا بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال : والله لاأعلمه في كلام أحد من العرب ؤإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج بالتواتر وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنيا للفاعل والمفعول بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا وكذا على قراءة الجماعة والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول : عود المريض ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري وتعقبه السمين بأنه متى حصل الإلتباس وجب أن يؤتي بحركة تزيله فيقال : عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الإشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير إحتراز والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة وتصديرها بحرف التحقيق لأظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها قال إستئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى له بعد دعائه فقيل : قال عذابي أصيب به من أشاء أي شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه
وقرأ الحسن وعمرو الأسود من أساء بالسين المهملة ونسبت إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها ورحمتي وسعت كل شيء أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضا وعدم التصريح بها قيل : تعظيما لأمر الرحمة وقيل : للإشعار بغاية الطهور ألا ترى إلى قوله تعالى : فسأكتبها فإنه متفرع على إعتبار المشيئة كما لايخفى كأنه قيل : فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتا خاصا للذين يتقون أي الكفر والمعاصي إما إبتداءا أو بعد الملابسة ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والظاهر خلافه وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع إقتضاء التقوى له للتعريض لقوم موسى عليه السلام لأن ذلك كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع إنافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين إكتفاء منها بالإتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها والذين هم بآياتنا كلها كما يفيده الجمع المضاف يؤمنون إيمانا مستمرا من غير إخلال بشيء منها وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفا على ما قبله كما سلك في سابقه قيل : لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض وفيه تعريض بمن آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام
واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام : لعل الله تعالى حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعائه التخفيف والتيسير
(9/76)

حيث قال : واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن في القتل من العذاب الشديد ما لايخفى فأجابه سبحانه بأن عذابي أصيب به من أشاء وقومك ممن تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك لأنهم ليسوا كذلك فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة العذاب وعلى هذا فموسى عليه السلام لم يستجيب له سؤاله في قومه ومن الله تعالى بما سأله على من آمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال : أتيتك يارب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعاء موسى ربه سبحانه فجعل دعاءه لمن آمن بمحمد عليه الصلاة و السلام واتبعه وفي رواية أخرى رواها جمع عنه سأل موسى ربه مسألة فأعطاها محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وتلا الآية لكن لايخفى أن ماقرره هذا الشيخ بعيد وقال صاحب الكشف في ذلك : كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين أجيب بأن عذابي لغير التائبين إن شئت ورحمتي الدنيوية تعم التائب وغيره وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين فإن تاب من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة وأثر فيهم دعاؤك وإن داوموا على ماهم فيه بعدوا عن القبول والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والحث على إتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي للمتأمل فيه العجب العجاب وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري
وقال العلامة الطيبي في توجيهه : إن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم وقوله سبحانه : عذابي الخ كالتمهيد للجواب والجواب فسأكتبها الخ وذلك أن موسى عليه السلام طلب الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله : واكتب لنا وعلله بقوله : إنا هدنا إليك فأجابه الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي فأمتك لو تعرضوا لما إقتضت الحكمة تعذيب من باشره لا ينفعهم دعاؤك لهم وإن رحمتي من شأنها أن تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم فالحسنة الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع وأما الحسنة الآخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا وجعل فسأكتبها كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل فضم الله تعالى ما ضم يعني أن الذي يوجب إختصاص الحسنتين معا هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة ثم ذكر أن ترتيب هذا على ماقبله بالفاء على منوال قوله تعالى جوابا عن قول إبراهيم عليه السلام : ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن وقتادة وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة أه ماأريد منه وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء فإن الظاهر أن ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه وإنما التحجر في مثل ما أخرجه أحمد وأبو داود عن جندب عن عبدالله البجلي قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام : لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق وجنها وإنسها وبهائمها وعنده تسعة وتسعون وأنا أقول :
(9/77)

قد يقال : إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والآخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لاشك في صحته ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا فإن ذلك مما لايكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلا عن مثله عليه السلام وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه ولا يبعد أن يقال بإستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو هو وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحى إلى موسى بعد أن كان ما كان مايحزنك أما من قتل منكم فحي يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى الوعد المحتوم وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقى فيه ويكفي في ذلك قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين
وحينئذ فيمكن أن يقال في توجيه الجواب : أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والإضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب وطريق بديع غريب فقال سبحانه له : عذابي أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسى إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين أن قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضا له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله ورحمتي وسعت كل شيء إنسانا كان أو غيره مطيعا كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أني لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقر عينا فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لاشك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلي ووفدوا علي أفترى أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفي حنين فيرجع كل منهم صفر الكفين لا أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذهب عنهم ماأهمهم وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء مايراد منهم وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه : فسأكتبها للذين يتقون الخ ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب إنتشار النظم الكريم ووصف أخلاقهم بما وصفوا به لإستنهاض همهم إلى الإتصاف بما يمكن إتصافهم به منه أو إلى الثبات عليه ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال : قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا إختيارا لما هو أبلغ فيه وهذا الذي ذكرناه وإن كان لايخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه وأقول بعد هذا كله : خير الإحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل والسين في سأكتبها يحتمل أن تكون للتأكيد ويحتمل أن تكون للإستقبال كما لايخفى وجهه على ذوي الكمال الذين يتبعون الرسول الذي أرسله الله تعالى لتبليغ الأحكام النبي
(9/78)

أي الذي أنبأ الخلق عن الله تعالى فالأول تعتبر فيه الإضافة إلى الله تعالى والثاني تعتبر فيه الإضافة إلى الخلق وقدم الأول عليه لشرفه وتقدم إرسال الله تعالى له على تبليغه وإلى هذا ذهب بعضهم وجعلوا إشارة إلى أن الرسول والنبي هنا مراد بهما معناهما اللغوي لإجرائهما على ذات واحدة كما أنهما كذلك في قوله تعالى : وكان رسولا نبيا وفسر في الكشاف الرسول بالذي يوحى إليه كتاب والنبي بالذي له معجزة ويشير إلى الفرق بين الرسول والنبي بأن الرسول من له كتاب خاص والنبي أعم وتعقبه في الكشف بأن أكثر الرسل لم يكونوا أصحاب كتاب مستقل كإسماعيل ولوط وإلياس عليهم السلام وكم وكم ثم قال : والتحقيق أن النبي هو الذي ينبيء عن ذاته تعالى وصفاته وما لاتستقل العقول بدرايته إبتداء بلا واسطة بشر والرسول هو المأمور مع ذلك بإصلاح النوع فالنبوة نظر فيها إلى الأنباء عن الله تعالى والرسالة إلى المبعوث إليهم والثاني وإن كان أخص وجودا إلا أنهما مفهومان مفترقان ولهذا لم يكن رسولا نبيا مثل إنسان حيوان اه
وفيه مخالفة بينة لما ذكر أولا ولا حجر في الإعتبار نعم ماذكروه مدفوع بأن الفرق المذكور مع تغاير المفهومين على كل حال من عرف الشرع والإستعمال وأما في الوضع والحقيقة اللغوية فهما عامان وقد ورد في القرآن بالإستعمالين فلا تعارض بينهما
ولا يرد أن ذكر النبي العام بعد الخاص لا يفيد والمعروف في مثل ذلك العكس ولايخفى أن المراد بهذا الرسول النبي نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الأمي أي الذي لايكتب ولا يقرأ وهو على ما قال الزجاج نسبة إلى أمة العرب لأن الغالب عليهم ذلك وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب أو إلى أم القرى لأن أهلها كانوا كذلك ونسب ذلك إلى الباقر رضي الله تعالى عنه أو إلى أمه كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها ووصف عليه الصلاة و السلام بذلك تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم فهو بالنسبة إليه بأبي هو وأمي عليه الصلاة و السلام صفة مدح وأما بالنسبة إلى غيره فلا وذلك كصفة التكبر فإنها صفة مدح لله عز و جل وصفة ذم لغيره
واختلف في أنه عليه الصلاة و السلام هل صدر عنه الكتابة في وقت أم لا فقيل : نعم صدرت عنه عام الحديبية فكتب الصلح وهي معجزة أيضا له صلى الله تعالى عليه وسلم وظاهر الحديث يقتضيه وقيل : لم يصدر عنه أصلا وإنما أسندت إليه في الحديث مجازا وجاء عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان تنطق له الحروف المكتوبة إذا نظر فيها ولم أر لذلك سندا يعول عليه وهو صلى الله تعالى عليه وسلم فوق ذلك نعم أخرج أبو الشيخ من طريق مجاهد قال حدثني عون بن عبدالله بن عتبة عن أبيه قال : ما مات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى قرأ وكتب فذكرت هذا الحديث للشعبي فقال : صدق سمعت أصحابنا يقولون ذلك وقيل : الأمي نسبة إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب ويؤيده قراءة يعقوب الأمي بالفتح وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضا والموصول في محل جر بدل من الموصول الأول هو أما بدل كل على أن المراد منه هؤلاء المعهودين أو بعض على أنه عام ويقدر حينئذ منهم وجوز أن يكون نعتا له ويحتمل أن يكون في محل نصب على القطع وإضمار ناصب له وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقيل : على أنه مبتدأ خبره جملة يأمرهم أو أولئك هم المفلحون
(9/79)

وكلاهما خلاف المتبادر من النظم الذي يجدونه مكتوبا بإسمه ونعوته الشريفة بحيث لايشكون أنه هو ولذلك عدل عن أن يقال : يجدون اسمه أو وصفه مكتوبا عندهم ظرف لمكتوبا الواقع حالا أو ليجدون وذكر لزيادة التقرير أن شأنه عليه الصلاة و السلام حاضرة عندهم لايغيب عنهم أصلا في التوراة والإنجيل اللذين يعتد بهما بنو إسرائيل سابقا ولاحقا وكأنه لهذا المعنى إقتصر عليهما وإلا فهو صلى الله تعالى عليه وسلم مكتوب في الزبور أيضا أخرج ابن سعد والدارمي في مسنده والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبدالله بن سلام قال : صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء حتى يقولوا لا إله إلا الله ويفتح أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا ومثله من رواية البخاري وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص وجاء من حديث أخرجه ابن سعد وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب الربعي عن سهل مولى خيثمة قال : قرأت في الإنجيل نعت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين بين كتفيه خاتم لايقبل الصدقة ويركب الحمار والبعير ويحلب الشاة ويلبس قميصا مرقوعا ومن فعل ذلك فقد بريء من الكبر وهو يفعل ذلك وهو من ذرية إسماعيل إسمه أحمد
وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال : إن الله تعالى أوحى في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد لاأغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلهم أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا إستغفروني منه غفرته وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعافا مضاعفة ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا وقالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم فإن دعوني أستجب لهم فإما أن يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في الآخرة يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لاشريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي ومن لقيني وقد كذب محمدا وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه من قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار إلى غير ذلك من الأخبار الناطقة بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مكتوب في الكتب الإلهية والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوبا وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر كلام مستأنف وهو على ما قيل متضمن لتفصيل بعض أحكام
(9/80)

الرحمة التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالا إذ ما أشارت إليه المتعاطفات من آثار الرحمة الواسعة وجوز كونه في محل نصب على أنه حال مقدرة من مفعول يجدونه أو من النبي أو من المستكن في مكتوبا وقيل : هو مفسر لمكتوبا أي لما كتب والمراد بالمعروف قيل الإيمان وقيل : ما عرف في الشريعة والمراد بالمنكر ضد ذلك ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فسر الأول بالأشياء التي تستطيبها الطبع كالشحوم والثاني بالأشياء التي يستخبثها كالدم فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل وفي كل ما تستخبثه النفس ويكرهه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل وفسر بعضهم الطيب بما طاب في حكم الشرع والخبيث بما خبث فيه كالربا والرشوة وتعقب بأن الكلام حينئذ يحل ما يحكم بحله ويحرم ما يحكم بحرمته ولا فائدة فيه وردوه بأنه يفيد فائدة وأي فائدة لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع لا بالعقل والرأي وجوز بعضهم كون الخبيث بمعنى ما يستخبث طبعا أو ما خبث شرعا وقال كالدم أو الربا ومثل للطيب بالشحم وجعل ذلك مبينا على إقتضاء التحليل سبق التحريم والشحم كان محرما عند بني إسرائيل وعلى إقتضاء التحريم سبق التحليل وجعل الدم وأخيه مما حرم على هذا لأن الأصل في الأشياء الحل ولا يرد أحل الله البيع وحرم الربا لأنه لرد قولهم إنما البيع مثل الربا أو لأن المراد إبقاؤه على حله لمقابلته بتحريم الربا ودفع بهذا ما توهم من عدم الفائدة ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثوب أو منه ومن البدن وإحراق الغنائم وتحريم السبت وقطع الأعضاء الخاطئة وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية فإنه وإن لم يكن مأمورا به في الألواح إلا أنه شرع بعد تشديدا عليهم على ما قيل وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحراك والأغلال جمع غل بضم الغين وهي في الأصل كما قال ابن الأثير الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا ولعل غير الحديد إذا جمع به يد إلى عنق يقال له ذلك أيضا والمراد منهما هنا ما علمت وهو المأثور عن كثير من السلف ولا يخفى ما في الآية من الإستعارة
وجوز أن يكون هناك تمثيل وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة وعلى هذا فالأغلال يمكن أن يراد حقيقته وقرأ ابن عامر آصارهم على الجمع وقرأ أصرهم بالفتح على المصدر وبالضم على الجمع أيضا فالذين آمنوا به أي صدقوا برسالته ونبوته وعزروه أي عظموه ووقروه كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال الراغب : التعزير النصرة مع التعظيم والتعزير الذي هو دون الحد يرجع إليه لأنه تأديب والتأديب نصرة لأن أخلاق السوء أعداء ولذا قال في الحديث : انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل كيف أنصره ظالما فقال عليه الصلاة و السلام : تكفه عن الظلم وأصله عند غير واحد المنع والمراد منعوه حتى لا يقوى عليه عدو وقريء عزروه بالتخفيف ونصروه على أعدائه في الدين وعطف هذا على ما قبله ظاهر على ما روي عن الحبر وكذا على ما قاله الجمع إذ الأول عليه من قبيل درء المفاسد وهذا من قبيل جلب المصالح ومن فسر الأول بالتعظيم مع التقوية أخذا من كلام الراغب قال هنا نصروه لي
(9/81)

أي قصدوا بنصره وجه الله تعالى وإعلاء كلمته فلا تكرار خلافا لمن توهمه واتبعوا النور الذي أنزل معه وهو القرآن وعبر عنه بالنور لظهوره في نفسه بإعجازه وإظهاره لغيره من الأحكام وصدق الدعوى فهو أشبه شيء بالنور الظاهر بنفسه والمظهر لغيره بل هو نور على نور والظرف إما متعلق بإنزل والكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو إرساله عليه السلام لأنه لم ينزل معه وإنما نزل مع جبريل عليه السلام نعم إستنباؤه أو إرساله كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به وإما متعلق باتبعوا على معنى شاركوه في إتباعه وحينئذ لم يحتج إلى تقدير وقد يعلق به على معنى اتبعوا القرآن مع إتباعهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم آشارة إلى العمل بالكتاب والسنة وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير اتبعوا أي اتبعوا النور مصاحبين له في إتباعه وحاصله ما ذكر في الإحتمال الثاني وأن يكون حالا مقدرة من نائب فاعل أنزل وفي مجمع البيان أن مع بمعنى على وهو متعلق بأنزل ولم يشتهر وروى ذلك وقال بعضهم : هي هنا مرادفة لعند وهو أحد معانيها المشهورة إلا أنه لا يخفى بعده وإن قيل حاصل المعنى حينئذ أنزل عليه أولئك أي المنعوتون بتلك النعوت الجليلة هم المفلحون أي هم الفائزون بالمطلوب لا المتصفون بأضداد صفاتهم وفي الإشارة إشارة إلى علية تلك الصفات للحكم وكاف البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الدرجة في الفضل والشرف والمراد من الموصول المخبر عنه بهذه الجملة عند ابن عباس رضي الله تعالى عنه اليهود الذين آمنوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : ما يعمهم وغيرهم من أمته عليه الصلاة و السلام المتصفين بعنوان الصلة إلى يوم القيامة والإتصاف بذلك لا يتوقف على إدراكه صلى الله تعالى عليه وسلم كما لايخفى وهو الأولى عندي
وادعى بعضهم أن المراد من الموصول في قوله تعالى : فسأكتبها للذين يتقون المعنى الأعم أيضا وجعله ابن الخازن قول جمهور المفسرين وفيه ما فيه ومما يقضى منه العجب كون المراد منه اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام والجملة متفرعة على ما تقدم من نعوته صلى الله تعالى عليه وسلم الجليلة الشأن وقيل : على كتب الرحمة لمن مر وذكر شيخ الإسلام أنها تعليم لكيفية إتباعه عليه السلام وبيان علو رتبة متبعيه وإغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة في الدارين إثر بيان نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة و السلام إياهم بما في ضمن يأمرهم الخ وجعل الحصر المدلول عليه بقوله سبحانه : أولئك هم المفلحون بالنسبة إلى غيرهم من الأمم ثم قال : فيدخل فيهم قوم موسى عليه السلام دخولا أوليا حيث لم ينجوا عما في توبتهم من المشقة الهائلة وهو مبني على ما سلكه في تفسير الآيات من أول الأمر ولا يصفو عن كدر قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا لما حكي ما في الكتابين من نعوته صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف من يتبعه على ما عرفت أمر عليه الصلاة و السلام بأن يصدع بما فيه تبكيت لليهود الذين حرموا إتباعه وتنبيه لسائر الناس على إفتراء من زعم منهم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مرسل إلى العرب خاصة وقيل : إنه أمر له عليه الصلاة و السلام ببيان أن سعادة الدارين المشار إليهما فيما تقدم غير مختصة بمن إتبعه من أهل الكتابين بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من كان وذلك ببيان عموم رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص حتى صرحوا بكفر منكره وما هنا لايأبى ذلك والمفهوم
(9/82)

فيه غير معتبر عند القائل به لفقد شرطه وهو ظاهر الذي له ملك السماوات والأرض في موضع نصب بإضمار أعني أن نحوه أو رفع على إضمار هو
وجوز أن يكون في موضع جر على أنه صفة للإسم الجليل أو بدل منه واستبعد ذلك أبو البقاء لما فيه من الفصل بينهما وأجيب بأنه مما ليس بأجنبي وفي حكم ما لايكون فيه فصل ورجح الأول بالفخامة إذ يكون عليه جملة مستقلة مؤذنة بأن المذكور علم في ذلك أي اذكر من لا يخفى شأنه عند الموافق والمخالف وقيل : هو مبتدأ خبره لا إله إلا هو وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله وجعله الزمخشري مع ذلك بدلا من الصلة وقد نص على جواز هذا النحو سيبويه وذكر العلامة أن سوق كلامه يشعر بأنه بدل إشتمال ووجه البيان أن من ملك العالم علويه وسفليه هو الإله فبينهما تلازم يصحح جعل الثاني مبينا للأول وليس المراد بالبيان الإثبات بالدليل حتى يقال الظاهر العكس لأن الدليل على تفرده سبحانه بالألوهية ملكه للعالم بأسره مع أنه يصح أن يجعل دليلا عليه أيضا فيقال الدليل على أنه جل شأنه المالك المتصرف في ذلك إنحصار الألوهية فيه إذ لو كان إله غيره لكان له ذلك واعترض أبو حيان القول بالبدلية بأن إبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا يعرف وتعقب بأن أهل المعاني ذكروه وتعريف التابع بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ليس بكلي وقوله سبحانه : يحيي ويميت لزيادة تقرير إلهيته سبحانه وقيل : لزيادة إختصاصه تعالى بذلك وله وجه وجيه والفاء في قوله عز شأنه : فآمنوا بالله ورسوله لتفريع الأمر على ما تقرر من رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وإيراد نفسه الكريمة عليه الصلاة و السلام بعنوان الرسالة على طريق الإلتفات إلى الغيبة للمبالغة في إيجاب الإمتثال ووصف الرسول بقوله تعالى : النبي الأمي لمدحه ولزيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين الذي يؤمن بالله وكلماته ماأنزل عليه وعلى سائر الرسل عليهم السلام من كتبه ووحيه وقريء وكلمته على إرادة الجنس أو القرآن أو عيسى عليه السلام كما روي ذلك عن مجاهد تعريضا لليهود وتنبيها على أن من لم يؤمن به عليه السلام لم يعتبر إيمانه والإتيان بهذا الوصف بحمل أهل الكتابين على الإمتثال بما أمروا به والتصريح بالإيمان بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمان به سبحانه لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به ولا يخفى ما في هذه الآية من إظهار الصفة والتفادي عن العصبية للنفس وجعلوا ذلك نكتة للإلتفات وإجراء هاتيك الصفات واتبعوه أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين
لعلكم تهتدون علة للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاء لإهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له وفي تعليقه بهما إيذان بأن من صدقه ولم يتبعه بالتزام شرعه فهو بعد في مهامة الضلال ومن قوم موسى يعني بني إسرائيل أمة جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق أي محقين على أن الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أو بكلمة الحق على أن الباء للإلة والجار لغو به أي بالحق يعدلون في الأحكام الجارية فيما بينهم وصيغة المضارع في الفعلين للإيذان بالإستمرار التجددي واختلف في المراد منهم فقيل أناس كانوا كذلك على عهد موسى صلى الله تعالى عليه وسلم والكلام مسوق لدفع ما عسى يوهمه تخصيص
(9/83)

كتب الرحمة والتقوى والإيمان بمتبعي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام من كل خير وبيان أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل منهم الموصوفون بكيت وكيت وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية
واختار هذا شيخ الإسلام ولا يبعد عندي أن يكون ذلك بيانا لقسم آخر من القوم مقابل لما ذكره موسى عليه السلام في قوله : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فيه تنصيص على أن من القوم من لم يقعل وقيل : أناس وجدوا على عهد نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم موصوفون بذلك كعبدالله بن سلام وأضرابه ورجحه الطيبي بأنه أقرب الوجوه وذلك أنه تعالى لما أجاب عن دعاء موسى عليه السلام بقوله تعالى : فسأكتبها إلى قوله سبحانه : الذين يتبعون الرسول الأمي الخ ثم أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يصدع بما فيه تبكيت لليهود وتنبيه على إفترائهم فيما يزعمونه في شأنه عليه السلام مع إظهار النصفة وذلك بقوله تعالى : قل ياأيها الناس الخ وقوله سبحانه : فآمنوا الخ عقب ذلك بقوله عز شأنه : ومن قوم موسى الخ والمعنى أن بعض هؤلاء الذين حكينا عنهم ما حكينا آمنوا وأنصفوا من أنفسهم يهدون الناس إلى أنه عليه الصلاة و السلام الرسول الوعود ويقولون لهم : هذا الرسول النبي الأمي الذي نجده مكتوبا عندنا في التوراة والإنجيل ويعدلون في الحكم ولا يجورون ولكن أكثرهم ما أنصفوا ولبسوا الحق بالباطل وكتموه وجاروا في الأحكام فيكون ذكر هذه الفرقة تعريضا بالأكثر
واعترض بأن الذين آمنوا من قوم موسى على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا قليلين ولفظ أمته يدل على الكثرة وأيضا إن هؤلاء قد مر ذكرهم فيما سلف وأجيب بأن لفظ الأمة قد يطلق على القليل لاسيما إذا كان له شأن بل قد يطلق على الواحد إذا كان كذلك كما في قوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة وبأن ذكرهم هنا لما أشير إليه من النكتة لايأبى ذكرهم فيما سلف لغير تلك النكتة وتكرار الشيء الواحد لإختلاف الأغراض سنة مشهورة في الكتاب على أنه قد قيل : إنهم فيما تقدم قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم مهتدون وهنا قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم هادون فيحصل من الذكرين أنهم موصوفون بالوصفين نعم يبقى الكلام في نكتة الفصل ولعلها لاتخفى على المتدبر وقيل هم قوم من بني إسرائيل وجدوا بين موسى ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام وهم الآن موجودون أيضا فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله تعالى لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء يستقبلون قبلتنا وإليهم الإشارة كما قال ابن عباس بقوله تعالى : وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا وفر وعد الآخرة بنزول عيسى عليه السلام وقال : إنهم ساروا في السرب سنة ونصفا
وذكر مقاتل كما روى أبو الشيخ أن الله تعالى أجرى معهم نهرا وجعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم وأن أرضهم التي خرجوا إليها تجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أتاهم ليلة المعراج ومعه جبريل عليه السلام فآمنوا به وعلمهم الصلاة وعن الكلبي والضحاك والربيع أنه عليه الصلاة و السلام علمهم الزكاة وعشر سور من القرآن نزلت بمكة وأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وأقرؤه سلام موسى عليه السلام فرد النبي عليه الصلاة و السلام السلام وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال بينكم وبينهم نهر من رمل
(9/84)

يجري وضعف هذه الحكاية ابن الخازن وأنا لا أراها شيئا ولا أظنك تجد لها سندا يعول عليه ولو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء
هذا ومن باب الإشارة في الآيات قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي دون رؤيتي على ما يقوله نفاة الرؤية فخذ ما آتيتك بالتمكين وكن من الشاكرين بالإستقامة في القيام بحق العبودية التي لا مقام أعلى منها لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي وبالشكر تزداد النعم كما ينطق بذلك الكتاب وكتبنا له في الألواح أي أظهرنا نقوش إستعداده في ألواح تفاصيل وجوده من الروح والقلب والعقل والفكر والخيال فطهر فيها من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة أي بعزم لتكون من ذويه وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي أكثرها نفعا وهي العزائم سأريكم دار الفاسقين أي عاقبة الذين لايأخذون بذلك سأصرف عن آياتي الذين يستكبرون في الأرض بغير الحق وهم الذين في مقام النفس فيكون تكبرهم حجابا لهم عن آيات الله تعالى وأما المتكبرون بالحق وهم الذين فنيت صفاتهم وظهرت عليهم صفات مولاهم فليسوا بمجوبين ولا يعد تكبرهم مذموما لأنه ليس تكبرهم حقيقة وإنما حظهم منه كونهم مظهرا له والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حيث حجبوا بصفاتهم وأفعالهم حبطت أعمالهم فلا تقربهم شيئا واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا صنعه لهم السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه لسوء إستعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيما إذا كان ذهبا أو فضة وكثير من الناس اليوم عبيد الدراهم والدينار وهما العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك العجل صار ذا لحم ودم وإليه الإشارة بقوله سبحانه : جسدا له خوار وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار ذا روح بواسطة التراب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم وألقى الألواح أي ذهل من شدة الغضب عنها وتجافي عن حكم ما فيها ونسيان ما يستحسن من الحلم مثلا عند الغضب مما يجده كل أحد من نفسه وأخذ برأس أخيه يجره إليه ظنا أنه قصر في كفهم
قال ابن أم ناداه بذلك لغلبة الرحمة عليه وتأويل ذلك في الأنفس على ما قاله بعض المؤولين أن سامري الهوى بعد توجه موسى عليه السلام الروح لميقات مكالمة الحق اتخذ من حلي زينة الدنيا ورعونات البشرية التي إستعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس معبودا يتعجلون إليه له خوار يدعون الخلق به إلى نفسه ألم يروا أنه لا يكلمهم بما ينفعهم ولا يهديهم سبيلا إلى الحق اتخذوه وكانوا ظالمين حيث عدلوا عن عبادة الحق إلى عبادة غيره في نطرهم ولما سقط في أيديهم أي ندموا عند رجوع موسى الروح قالوا لئن لم يرحمنا ربنا بجذبات العناية ويعفر لنا بأن يستر صفاتنا بصفاته سبحانه وتعالى لنكونن من الخاسرين رأس مال هذه النشأة وهو الإستعداد ولما رجع موسى إلى قومه وهم الأوصاف الإنسانية غضبان مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا أسفا على ما فات لها من عبادة الحق قال بئسما خلفتموني من بعدي حيث لم تسيروا سيري أعجلتم أمر ربكم بالرجوع إلى الفاني من غير أمره تعالى وألقى الألواح أي مالاح له من الألواح الربانية عند إستيلاء الغضب الطبيعي وأخذ برأس أخيه وهو القلب يجره إليه قسرا قال ابن أم ناداه بذلك مع أنه
(9/85)

أخوه من أبيه وهو عالم الأمر وأمه وهو عالم الخلق لأنهما في عالم الخلق إن القوم أي أوصاف البشرية إستضعفوني عند غيبتك وكادوا يقتلونني يزيلون من حياة إستعدادي بالكلية فلا تشمت بي الأعداء وهم هم وهذا ما يقتضيه مقام الفرق قال : رب اغفر لي ولأخي استر صفاتنا وأدخلنا في رحمتك بإفاضة الصفات الحقة علينا وأنت أرحم الراحمين لأن كل رحمة فهو شعاع نور رحمتك إن الذين اتخذوا العجل أي عجل الدنيا إلها سينالهم غضب من ربهم وهو عذاب الحجاب وذلة في الحياة الدينا بإسعباد هذا الفاني المدني لهم وكذلك نجزي المفترين الذين يفترون على الله فيثبتون وجودا لما سواه والذين عملوا السيئات ثم تابوا رجعوا إليه سبحانه وتعالى بمجاهدة نفوسهم وإفنائها إن ربك من بعدها لغفور فيستر صفاتهم رحيم فيفيض عليهم من صفاته ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح الربانية وفي نسختها هدى إرشاد إلى الحق ورحمة للذين هم لربهم يرهبون يخافون لحسن إستعدادهم ويقال في قوله سبحانه وتعالى : واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا إن موسى عليه السلام اختار سبعين رجلا من أشراف قومه ونجباءهم أهل الإستعداد والصفاء والإرادة والطلب والسلوك فلما أخذتهم الرجفة أي رجفة البدن التي هي من مبادي صعقة الفناء عند طريان بوارق الأنوار وظهور طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وارتعاده وكثيرا ما تعرض هذه الحركة للسالكين عند الذكر أو سماع القرآن أو ما يتأثرون به حتى تكاد تتفرق أعضائهم وقد شاهدنا ذلك في الخالدين من أهل الطريقة النقشبندية وربما يعتريهم في صلاتهم صياح معه فمنهم من يستأنف صلاته لذلك ومنهم من لا يستأنف وقد كثر الإنكار عليهم وسمعت بعض المنكرين يقولون : إن كانت هذه الحالة مع الشعور والعقل فهي سوأ أدب ومبطلة للصلاة قطعا وإن كانت مع عدم شعور وزوال عقل فهي ناقضة للوضوء ونراهم لايتوضؤون وأجيب بأنها غير اختيارية مع وجود العقل والشعور وهي كالعطاس والسعال ومن هنا لاينتقض الوضوء بل ولا تبطل الصلاة وقد نص بعض الشافعية أن المصلي لو غلبه الضحك في الصلاة لاتبطل صلاته ويعذر بذلك فلا يبعد أن يلحق ما يحصل من آثار التجليات الغير الإختيارية بما ذكر ولا يلزم من كونه غير إختياري كونه صادرا من غير شعور فإن حركة المرتعش غير إختيارية مع الشعور بها وهو ظاهر فلا معنى للإنكار نعم كان حضرة مولانا الشيخ خالد قدس سره يأمر من يعتريه ذلك من المريدين بالوضوء وإستئناف الصلاة سدا لباب الإنكار والحق أن ما يعتري هذه الطائفة غيرناقض للوضوء لعدم زوال العقل معه لكنه مبطل للصلاة لما فيه من الصياح الذي يظهر به حرفان مع أمور تأباها الصلاة ولا عذر لمن يعتريه ذلك إلا إذا ابتلي به بحيث لم يخل زمن من الوقت يسع الصلاة بدونه فإنه يعذر حينئذ ولا قضاء عليه إذا ذهب منه ذلك الحال كمن به حكة لايصبر معها على عدم الحك
وقد نص الجد عليه الرحمة في حواشيه على شرح الحضرمية للعلامة ابن حجر في صورة ابتلي بسعال زمن على نحو ذلك ثم قال : فرع لو ابتلي بذلك وعلم من عادته أن الحمام يسكنه عنه مدة تسع الصلاة وجب عليه دخوله حيث وجد أجرة الحمام فاضلة عما يعتبر في الفطرة وإن فاتته الجماعة وفضيلة أول الوقت انتهى نعم ذكر عليه رحمة الله تعالى في الفعل الكثير المبطل للصلاة وهو ثلاثة أفعال أنه لو أبتلي بحركة إضطرارية نشأ عنها عمل كثير فمعذور وقال أيضا : إنه لايضر الصوت الغير مشتمل على النطق بحرفين متواليين من أنف
(9/86)

أو فم وإن إقترنت به همهمة شفتي الأخرس ولو لغير حاجة وإن فهم الفطن كلاما أو قصد محاكاة بعض أصوات الحيوانات إن لم يقصد التلاعب وإلا بطلت وينبغي التحري في هؤلاء القوم فإن حالهم في ذلك متفاوت لكن أكثر ما شاهدناه على الطرز الذي ذكرناه وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من الكتب الفقهيةقال موسى : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي وذلك من شدة غلبته الشوق و لو للتمني أتهلكنا بعذاب الحجاب والحرمان بما فعل السفهاء من عبادة العجل إن هي إلا فتنتك لا مدخل فيها لغيرك وهذا مقتضى مقام تجلي الأفعال فاغفر لنا ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت ذنوب أفعالنا وارحمنا بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الآنية بوجودك واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وهي حسنة الإستقامة بالبقاء بعد الفناء وفي الآخرة حسنة المشاهدة والكلام في بقية الكلام لايخفى على من له أدنى ذوق خلا أن بعضهم أول العذاب في قوله سبحانه وتعالى : عذابي أصيب به من أشاء بعذاب الشوق المخصوص الذي يصيب أهل العناية من الخواص وهو الرحمة التي لا يكتنه كنهها ولا يقدر قدرها وإنها لأعز من الكبريت الأحمر وأهل الظاهر يرونه بعيدا والقوم يقولون نراه قريبا وقالوا : الأمي نسبة إلى الأم لكن على حد أحمري وقيل : للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك لأنه أم الموجودات وأصل المكنونات واختير هذا اللفظ لما فيه من الإشارة إلى الرحمة والشفقة وهو الذي جاء رحمة للعالمين وإنه عليه الصلاة و السلام لأشفق على الخلق من الأم بولدها إذ له صلى الله تعالى عليه وسلم الحظ الأوفر من التخلق بأخلاق الله تعالى وهو سبحانه أرحم الراحمين وذكروا أن أتباعه من حيث النبوة الخواص ومن حيث الأمية خواص الخواص ومن حيث الرسالة هؤلاء المذكورون كلهم والعوام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لإتباعه صلى الله تعالى عليه وسلم في سائر شؤونه
وقطعناهم أي قوم موسى عليه السلام لا الأمة المذكورة كما يوهمه القرب وقطع يقرأ مشددا ومخففا والأول هو المتواتر ويتعدى لواحد وقد يضمن معنى صير فيتعدى لأثنين فقوله تعالى : اثني عشرة حال أو مفعول ثان أي فرقناهم معددوين بهذا العدد أو صيرناهم اثنتي عشرة أمة يتميز بعضها عن بعض وقوله سبحانه وتعالى : أسباطا كما قال ابن الحاجب في شرح المفصل بدل من العدد لا تمييز له وإلا لكانوا ستة وثلاثين وعليه فالتمييز محذوف أي فرقة أو نحوه قال الحوفي : إن صفة التمييز أقيمت مقامه والأصل فرقة أسباطا وجوز أن يكون تمييزا لأنه مفرد تأويلا فقد ذكروا أن السبط مفردا ولد الولد أو ولد البنت أو الولد أو القطعة من الشيء أقوال ذكرها ابن الأثير ثم استعمل في كل جماعة من بني إسرائيل كالقبيلة في العرب ولعله تسمية لهم باسم أصلهم كتميم وقد يطلق على كل قبيلة منهم أسباط أيضا كما غلب الأنصار على جمع مخصوص فهو حينئذ بمعنى الحي والقبيلة فلهذا وقع موقع المفرد في التمييز وهذا كما ثنى الجمع في قول أبي النجم يصف رمكة تعودت الحرب : تبقلت في أول التبقل بين رماحي مالك ونهشل وتأنيث اثنتي مع أن المعدود مذكور وما قبل الثلاثة يجري على أصل التأنيث والتذكير لتأويل ذلك بمؤنث وهو ظاهر مما قررنا وقرأ الأعمش وغيره عشرة بكسر الشين وروي عنه فتحها أيضا والكسر لغة تميم والسكون لغة الحجاز وقوله سبحانه : أمما بدل بعد بدل من اثنتي عشرة لا من أسباط على تقدير أن
(9/87)

يكون بدلا لأنه لا يبدل من البدل وجوز كونه بدلا منه إذا لم يكن بدلا ونعتا إن كان كذلك أو لم يكن وأوحينا إلى موسى إذ إستسقاه قومه حين إستولى عليه العطش في التيه أن اضرب بعصاك الحجر تفسير لفعل الإيحاء فأن بمعنى أي وجوز أبو البقاء كونها مصدرية فانبجست أي انفجرت كما قال ابن عباس وزعم الطبرسي أن الإنبجاس خروج الماء بقلة والإنفجار خروجه بكثرة والتعبير بهذا تارة وبالأخرى أخرى بإعتبار أول الخروج وما انتهى إليه والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي فضرب فانبجست وحذف المعطوف عليه لعدم الإلباس وللإشارة إلى سرعة الإمتثال حتى كأن الإيحاء وضربه أمر واحد وأن الإنبجاس بأمر الله تعالى حتى كأن فعل موسى عليه السلام لا دخل فيه
وذكر بعض المحققين أن هذه الفاء عل ما قرر فصيحة وبعضهم يقدر شرطا في الكلام فإذا ضربت فقد انبجست منه اثنتا عشرة عينا وهو غير لائق بالنظم الجليل قد علم كل أناس أي سبط والتعبير عنهم بذلك للإيذان بكثرة كل واحد من الأسباط وأناس إما جمع أو اسم جمع وذكر السعد أن أهل اللغة يسمون اسم الجمع جمعا و علم بمعنى عرف الناصب مفعولا واحدا أي قد عرف مشربهم أي عينهم الخاصة بهم ووجه الجمع ظاهر وظللنا عليهم الغمام أي جعلنا ذلك بحيث يلقى عليهم ظله ليقيهم من حر الشمس وكان يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم وأنزلنا عليهم المن والسلوى أي الترنجبين والسماني فكان الواحد منهم يأخذ ما يكفيه من ذلك كلوا أي قلنا أو قائلين لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم أي مستلذاته و ما موصولة أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى وما ظلمونا عطف على محذوف للإيجاز والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح أي فظلموا بأن كفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
61
- بالكفر إذ لايتخطاهم ضرره وتقديم المفعول لإفادة القصر الذي يقتضيه النفي السابق وفي الكلام من التهكم والإشارة إلى تماديهم على ما هم فيه ما لايخفى وإذ قيل لهم معمول لا ذكر وإيراد الفعل هنا مبنيا للمفعول جريا على سنن الكبرياء مع الإيذان بأن الفاعل غني عن التصريح أي اذكر لهم وقت قولنا لأسلافهم اسكنوا هذه القرية القريبة منكم وهي بيت المقدس أو أريجاء والنصب مبني على المفعولية كسكنت الدار أو على الظرفية اتساعا والتعبير بالسكنى هنا للإيذان بأن المأمور به في البقرة الدخول بقصد الإقامة أي أقيموا في هذه القرية وكلوا منها أي مطاعمها وثمارها أو منها نفسها على أن من تبعيضية أو إبتدائية حيث شئتم أي من نواحيها من غير أن يزاحمكم أحد وجيء بالواو هنا وبالفاء في البقرة لأنه قيل هناك ادخلوا فحسن ذكر التعقيب معه وهنا اسكنوا والسكنى أمر ممتد والأكل معه لا بعده وقيل : إنه إذا تفرع المسبب عن السبب إجتمعا في الوجود فيصح الإتيان بالواو والفاء وفيه أن هذا إنما يدل على صحة العبارتين وليس السؤال عن ذلك وذكر رغدا هناك لأن الأكل في أول الدخول يكون ألذ وبعد السكنى وإعتباره لا يكون كذلك
(9/88)

وقيل : إنه اكتفى بالتعبير باسكنوا عن ذكره لأن الأكل المستمر من غير مزاحم لايكون إلا رغدا واسعا وإلى الأول ذهب صاحب اللباب ويرد على القولين أنه ذكر رغدا مع الأمر بالسكنى في قصة آدم عليه السلام ولعل الأمر في ذلك سهل وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا مر الكلام فيه في البقرة غير أن ما فيها عكس ما هنا في التقديم والتأخير ولا ضير في ذلك لأن المأمور به هو الجمع بين الأمرين من غير إعتبار الترتيب بينهما وقال القطب : فائدة الإختلاف التنبيه على حسن تقديم كل من المذكورين على الآخر لأنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار الخشوع والخضوع لم يتفاوت الحال في التقديم والتأخير نغفر لكم خطيآتكم جزم في جواب الأمر وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب تغفر بالتاء والبناء للمفعول و خطيآتكم بالرفع والجمع غير ابن عامر فإنه وحد وقرأ أبو عمرو خطاياكم كما في سورة البقرة وبين القطب فائدة الإختلاف بين ما هناك وبين ما هنا على القراءة المشهورة بأنها الإشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة بعد الإتيان بالمأمور به وطرح الواو هنا من قوله سبحانه وتعالى : سنزيد المحسنين
161
- إشارة إلى أن هذه الزيادة تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به كما قيل
والمراد أن إمتثالهم جازاه الله تعالى بالغفران وزاد عليه وتلك الزيادة فضل محض منه تعالى فقد يدخل في الجزاء صورة لترتبه على فعلهم وقد يخرج عنه لأنه زيادة على ما إستحقوه ولذا قرن بالسين الدالة على أنه وعد وتفضل ومفعول نزيد محذوف أي ثوابا وزيادة منهم في قوله تعالى شأنه : فبدل الذين ظلموا منهم لزيادة البيان أي بدل الذي ظلموا من هؤلاء بما أمروا به من التوبة والإستغفار حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعه قولا آخر مما لاخير فيه غير الذي قيل لهم وأمروا بقوله و غير نعت للقول وصرح بالمغايرة مع دلالة التبديل عليها تحقيقا للمخالفة وتنصيصا على المغايرة من كل وجه فأرسلنا عليهم إثر مافعلوا ما فعلوا من غير تأخير رجزا من السماء عذابا كائنا منها وهو الطاعون في رواية
بما كانوا يظلمون
261
- أي بسبب ظلمهم المستمر السابق واللاحق وهذا بمعنى ما في البقرة لأن ضمير عليهم للذين ظلموا الإرسال من فوق إنزال والتصريح بهذا التعليل لما أن الحكم ههنا مرتب على المضمر دون الموصول بالظلم كما في البقرة وأما التعليل بالفسق بعد الإشعار بعلية الظلم هناك فللإيذان بأن ذلك فسق وخروج عن الطاعة وغلو في الظلم وأن تعذيبهم بجميع ماارتكبوا من القبائح كما قيل
وقال القطب في وجه المغيرة : إن الإرسال مشعر بالكثرة بخلاف الإنزال فكأنه أنزل العذاب القليل ثم جعل كثيرا وإن الفائدة في ذكر الظلم والفسق في الموضعين ادلالة على حصولهما فيهم معا وقد تقدم لك في وجوه المغيرة بين آية البقرة وهذه الآية ما ينفعك تذكره فتذكر واسألهم عطف على اذكر المشار إليه فيما تقدم آنفا والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وضمير الغيبة لمن بحضرته عليه الصلاة و السلام من نسل اليهود أي واسأل اليهود المعاصرين لك سؤال تقريع وتقرير بتقدم تجاوزهم لحدود الله تعالى والمراد إعلامهم بذلك لأنهم كانوا يخفونه وفي الإطلاع عليه مع كونه عليه الصلاة و السلام ليس
(9/89)

ممن مارس كتبهم أو تعلمه من علمائهم ما يقضي بأن ذلك عن وحي فيكون معجزة شاهدة عليهم عن القرية أي خبرها وحالها وما وقع بأهلها من ثالثة الأثافي والمراد بالسؤال عن ذلك ما يعم السؤال عن النفس وعن الأهل أو الكلام على تقدير مضاف والمراد عن حال أهل القرية وجوز التجوز فيها وهي عند ابن عباس وابن جبيرالة قرية بين مدين والطور
وعن ابن شهاب هي طبرية وقيل : مىين وهي رواية عن الحبر وعن ابن زيد أنها مقتا بين مدين وعينونا التي كانت حاضرة البحر أي قريبة منه مشرفة على شاطئه إذ يعدون في السبت أي يظلمون ويتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم السبت أو بتعظيمه وإذ بدل من المسئول عنه بدل إشتمال أو ظرف للمضاف المصدر قيل : وإحتمال كونه ظرفا لكانت أو حاضرة ليس بشيء إذ لا فائدة بتقييد الركون أو الحضور بوقت العدوان وضمير يعدون للأهل المقدر أو المعلوم من الكلام وقيل : إلى القرية على سبيل الإستخدام وقريء يعدون بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين ويعدون من الإعداد حيث كانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم منهيون عن الإشتغال فيه بغير العبادة إذ تأتيهم حيتانهم ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل وإلى الأول ذهب أكثر المعربين وهو الأولى لأن السؤال عن عدوانهم أبلغ في التقريع وحيتان جمع حوت أبدلت الواو ياء لسكونها وإنكسار ما قبلها كنون ونينات لفظا ومعنى وإضافتها إليهم بإعتبار أن المراد الحيتان الكائنة في تلك الناحية التي هم فيها وقيل : للإشعار بإختصاصها بهم لإستقلالها بما لايكاد يوجد في سائر أفراد الجنس من الخواص الخارقة للعادة ولايخفى بعده يوم سبتهم ظرف لتأتيهم أي تأتيهم يوم تعظيمهم لأمر السبت وهو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه وقيل : اسم لليوم والإضافة لإختصاصهم بأحكام فيه ويؤيد الأول قراءة عمرو ابن عبدالعزيز يوم إسباتهم وكذا النفي الآتي شرعا أي ظاهرة على وجه الماء كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قريبة من الساحل وهو جمع شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف وفي الشرع معنى الإظهار والتبيين وقيل : حيتان شرع رافعة رؤسها كأنه جعل ذلك إظهارا وتبيينا وقيل : المعنى متتابعة ونسب إلى الضحاك والظاهر أنها ظاهرة وهو نصب على الحال من الحيتان ويوم لا يسبتون
361
- أي لايراعون أمر السبت وهو على حد قوله :
على لاحب لايهتدي بمناره
إذ المقصود انتفاء السبت والمراعاة
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه لايسبتون بضم حرف المضارعة من أسبت إذ دخل في السبت كأصبح إذا دخل في الصباح وعن الحسن أنه قرأ لايسبتون على البناء للمفعول بمعنى لايدخلون في السبت ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت وقريء لايسبتون بضم الباء والظرف متعلق بقوله سبحانه : لا تأتيهم أي لا تأتيهم يوم لايسبتون كما كانت تأتيهم يوم السبت حذرا من صيدهم لإعتيادها أحوالهم وأن ذلك لمحض تقدير العزيز العليم وتغيير السبك حيث قدم الظرف على الفعل ولم يعكس لما أن الإتيان يوم سبتهم مظنة كما قيل : لأن يقال فماذا حالها يوم لايسبتون فقيل : يوم لايسبتون لاتأتيهم كذلك نبلوهم أي نعاملهم معاملة المختبرين لهم ليظهر منهم ما يظهر فنؤاخذهم به وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لإستحضار صورتها والتعجيب
(9/90)

منها والإشارة إما إلى الإبتلاء السابق أو إلى الإبتلاء المذكور بعد كما مر غير مرة وقيل : الإشارة إلى الإتيان يوم السبت وهي متصلة بما قبل أي لاتأتيهم كذلك الإتيان يوم السبت والكاف في موضع نصب على الحال عند الطبرسي وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر مقدر أي اتيانا كائنا كذلك وجملة نبلوهم إستئناف مبني على السؤال عن حكمة إختلاف حال الحيتان بالإتيان تارة وعدمه أخرى بما كانوا يفسقون أي بسبب فسقهم المستمر في كل ما يأتون ويذرون وهو متعلق بما عنده وتعلق إذ يعدون بنبلوهم وبما يعبدون على معنى نبلوهم وقت العدوان بالفسق مما لا ينبغي تخريج كتاب الله تعالى الجليل عليه وإذ قالت عطف على إذ يعدون مسوق لبيان تماديهم في العدوان وعدم إنزجارهم عنه بعد العظات والإنذارات
قال العلامتان الطيبي والتفتازاني : ولايجوز أن يكون معطوفا على إذ تأتيهم وإن كان أقرب لفظا لأنه إما بدل أو ظرف فيلزم أن يدخل هؤلاء القائلون في حكم أهل العدوان وليس كذلك وهذا على ما قيل على تقدير الظرفية ظاهر وأما على تقدير الإبدال فلأن البدل أقرب إلى الإستقلال واستظهر في بيان وجه ذلك أن زمان القول بعد زمان العدوان ومغاير له واعتبار كونه ممتدا كسنة مثلا يقع فيه ذلك كله تكلف من غير مقتض والقول بأن العطف على ذاك يشعر أو يوهم أن القائلين من العدين في السبت لا من مطلق أهل القرية فيه ما فيه أمة منهم أي جماعة من صلحائهم الذين لم يألوا جهدا في عظتهم حين يئسوا من إحتمال القبول لآخرين لم يقلعوا عن التذكير رجاء النفع والتأثير لم تعظون قوما الله مهلكهم أي مستأصلهم بالكلية ومطهر وجه الأرض منهم أو معذبهم عذابا شديدا دون الإستئصال بالمرة وقيل مهلكهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة لعدم إقلاعهم عما هم عليه من الفسق والترديد لمنع الخلو على هذا وإيثار صيغة اسم الفاعل في الشقين للدلالة على تحقيق كل من الإهلاك والتعذيب وتقررهما البتة كأنهما واقعان وإنما قالوا ذلك مبالغة في أن الوعظ لاينجع فيهم إذ المقصود لاتعظوا أو أتعظون فعدل عنه إلى السؤال عن السبب لإستغرابه لأن الأمر العجيب لايدرى سببه أو سؤالا عن حكمة الوعظ ونفعه وقيل : إن هذا تقاول وقع بين الصلحاء الواعظين كأنه قال بعضهم لبعض : لم نشتغل بما لايفيد ويحتمل على كلا القولين أن ذلك صدر من القائل بمحصر من القوم فيكون متضمنا لحثهم على الإتعاظ فإن بت القول بهلاكهم أو عذابهم مما يلقى في قلوبهم الخوف والخشية وقيل قائلو ذلك المعتدون في السبت قالوا : تهكما بالناصحين المخوفين لهم بالهلاك والعذاب وفيه بعد كما ستقف عليه قريبا إن شاء الله تعالى قالوا أي المقول لهم ذلك معذرة إلى ربكم أي نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه مفعول له وهو الأنسب بظاهر قولهم : لم تعظون أو نعتذر معذرة على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف وقيل : هو مفعول به للقول وهو وإن كان مفردا في معنى الجملة لأنه الكلام الذي يعتذر به والمعذرة في الأصل بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب وقال الأزهري : إنه بمعنى الإعتذار وعداه بإلى لتضمنه معنى الإنهاء والإبلاغ وفي إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع تعريض بالسائلين وهذا الجواب على القولين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل إنه من تلقي السائل بغير ما يترقب فهو من الأسلوب الحكيم وقرأ من عدا حفص والمفضل معذرة بالرفع على أنه خبر مبتدأ
(9/91)

محذوف أي موعظتنا معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر ولعلهم يتقون عطف على معذرة أي ورجاء أن يتقوا بعض التقاة فإن اليأس المحقق لايحصل إلا بالهلاك قال شيخ الإسلام : وهذا صريح في أن القائلين لم تعظون الخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب اه
وقد يوجه ذلك على ذلك القول بأنه إلتفات أو مشاكلة لتعبيرهم عن أنفسهم في السؤال بقوم وإما لجعله بإعتبار غير الطائفة القائلين إلا أن كل ذلك خلاف الظاهر فلما نسوا ماذكروا به أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضا كليا فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية وهو خلاف الظاهر
والنسيان مجاز عن الترك واستظهر أنه إستعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة وجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقة السببية ولم يحمل ظاهره كما قال بعض المحققين لأنه غير واقع ولأنه لايؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه إنجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى : أنجينا الذين ينهون عن السوء إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم وظاهر الآية ترتب الإنجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان والتذكير وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل : فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين وعنوان النهي عن السوء شامل للذين قالوا لم تعظون الخ وللمقول لهم ذلك وأما شموله للمقول لهم فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضا إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا وذلك لايضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لايؤثر فيه سقط عنه النهي وربما وجب الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثا منك ولم يكن إلا سببا للتلهي بك ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : لاأدري ما فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه : أنجينا الذين ينهون عن السوء وقوله جل وعلا : وأخذنا الذين ظلموا أي بالإعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع أنه الغواص فقال له عكرمة : جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ماالقوم عليه وقالوا ماقالوا وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال : نجت الساكتة ونسب الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد وروي عن أبي عبدالله رضي الله تعالى عنه فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون بعذاب بئيس أي شديد وفسره الحبر بما لا رحمة فيه ويرجع إلى ما ذكر وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة والأكثرون على كونه وصفا من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد
(9/92)

وقال الراغب : البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية وقرأ أبوبكر بيئس على فيعل كضيغم وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره إسما أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد ومن هنا في قراءة عاصم في رواية عنه بيئس بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويخففها أن المهموز أخو المعتل وقرأ ابن عامر بئس بكسر الباء وسكون الهمزة على أن أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة وقرأ نافع بيس على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وإنكسار ما قبلها وقيل : إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل ذم جعلت إسما كما في قيل وقال والمعنى بعذاب مذموم مكروه وقريء بيس كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم إدغامها في الياء وقيل : على أنه من الؤس بالواو وأصله بيوس كميوت فأعل إعلاله و بيس على التخفيف كهين و بائس بزنة اسم الفاعل أي ذو بأس وشدة وقريء غير ذلك وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات إلى ست وعشرين وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل بما كانوا يفسقون متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لإختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم المستمر ولا مانع من أن يكون ذلك سببا للأخذ كما كان سببا للإبتداء وكذا لامانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضا ولم يكتف بالأول لما لا يخفى فلما عتوا أي تكبروا عن ما نهوا عنه أي عن ترك ذلك ففي الكلام تقدير مضاف إذ التكبر والإباء عن المنهي عنه لايذم قلنا لهم كونوا قردة خاسئين صاغرين أذلاء مبعدين عن كل خير والأمر تكويني لا تكليفي لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به وهذا كقوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل والظاهر أن الله تعالى أوقع بهم نكالا في الدنيا غير المسخ فلم يقلعوا عما كانوا عليه فمسخهم قردة
وجوز أن يكون المراد بالعذاب البئيس هو المسخ وتكون هذه الآية تفصيلا لما قبلها روي عن ابن عباس أن اليهود إنما افترض عليهم اليوم الذي افترض عليكم وهو يوم الجمعة فخالفوا إلى يوم السبت واختاروه فحرم عليهم الصيد فيه وابتلوا به فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا حتى لايرى الماء من كثرتها فمكثوا ما شاء الله تعالى لايصيدون ثم أتاهم الشيطان فقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض والشبكات فكانوا يسوقون الحيتان إليها فيه ثم يأخذونها يوم الأحد وفي رواية أن رجلا منهم أخذ حوتا فحزمه بخيط ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه فيه وتركه في الماء فلما كان الغد جاء فأخذه وأكله فلاموه على ذلك فلما لم يأته العذاب أخذ في السبت القابل حوتين وفعل ما فعل ولم يصبه شيء فلما رأوا أن العذاب لايعاجلهم تجاسروا فأخذوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا أو من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثا كما قص الله تعالى فقال المسلمون للمعتدين نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب وكانت القصة في زمن داود عليه السلام فلعنهم فأصبح المسلمون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا : إن لهؤلاء لشأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فإذا القوم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس ولم تعرف الأنس أنسابها منها فجعلت تأتي إلى نسيبها فتشم
(9/93)

ثيابه وتبكي فيقول : ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم ثم ماتوا بعد ثلاث وعن قتادة أن الشبان صاروا قردة والشيوخ خنازير وعن مجاهد أنه مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال : كان حوتا حرمه الله عليهم في يوم وأحله لهم سوى ذلك فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله تعالى عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد فجعلوا يهمون ويمسكون وقلما رأيت أحدا أكثر الإهتمام بالذنب إلا واقعه حتى أخذوه فأكلوا والله أوخم أكله أكلها قوم أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة وأيم الله تعالى ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله تعالى من قتل رجل مؤمن وللمؤمن أعظم حرم عند الله سبحانه من حوت ولكن الله عز و جل جعل موعد قوم الساعة والساعة أدهى وأمر
وأخرج عبد بن حميد عن هكرمة أنه كان على شاطيء البحر الذي هم عنده صنمان من حجارة مستقبلان الماء يقال لأحدهما لقيم وللآخر لقمانة فأوحى الله تعالى إلى السمك إن حج يوم السبت إلى الصنمين وأوحى إلى أهل القرية أني قد أمرت السمك أن يحجوا إلى الصنمين يوم السبت فلا تتعرضوه فيه فإذا ذهب اليوم فشأنكم به فصيدوه فابتلي القوم ووقع منهم ما مسخوا به قردة وفي القلب من صحة هذا الأثر شيء ولعله لا صحة له كما لا يخفى على من يعرف معنى الحج من المصلين ويشبه هذين الصنمين عين حق لان 1 قرب جزيرة الحدثية من العراق وهي قريبة من شاطيء الفرات فإن السمك يزورها في أيام مخصوصة من السنة حتى يخيل أنه لم يبق في بطن الفرات حوت إلا قذف إليها فيصيد أهل ذلك الصقع منه ما شاء الله تعالى وينقلونه إلى الجزائر والقرى القريبة منهم كمألوس وحبة وعانات وهيت ثم ينقطع فلا ترى سمكة في العين بعد تلك الأيام إلى مثلها من قابل وسبحان الفعال لما يريد واستدل بعض أهل العلم بقصة هؤلاء المعتدين على حرمة الحيل في الدين وأيد ذلك بما أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لاترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل وإذ تأذن ربك منصوب معطوف على قوله سبحانه : واسئلهم وتأذن تفعل من الأذن وهو بمعنى آذن أي أعلم والتفعل يجيء بمعى الأفعال كالتوعد والإيعاد وإلى هذا يؤول ما روي عن ابن عباس من أن المعنى قال ربك وفسره بعضهم بعزم وهو كناية عنه أو مجاز لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في الفعل والترك ثم يجزم فهو يطلب من النفس الإذن فيه وفي الكشف لو جعل بمعنى الإستئذان دون الإذان كأنه يطلب الإذن من نفسه لكان وجها وحيث جعل بمعنى عزم وكان العازم جازما فسر عزم بجزم وقضى فأفاد التأكيد فلذا أجري مجرى القسموأجيب بما يجاب به وهو هنا ليبعثن وجاء عزمت عليك لتفعلن ولا يرد على هذا أنه مقتضى لجواز نسبة العزم إليه تعالى وقد صرح بمنع ذلك لأن المنع مدفوع فقد ورد عزمة من عزمات الله تعالى عليهم أي اليهود لا المعتدين الذين مسخوا قردة إذ لم يبقوا كما علمت ويحتمل عود الضمير عليهم بناء على ما روي عن الحسن والمراد حينئذ هم وأخلافهم وعوده إلى اليهود والنصارى ليس بشيء وإن روي عن مجاهد والجار متعلق بيبعثن على معنى يسلط عليهم البتة إلى يوم القيامة أي إلى إنتهاء الدنيا وهومتعلق بيبعث وقيل : بتأذن وليس
(9/94)

بالوج ولا يصح كما لايخفى تعلقه بالصلة في قوله سبحانه : من يسومهم يذيقهم ويوليهم سوء العذاب كالإذلال وضرب الجزية وعدم وجود منعة لهم وجعلهم تحت الأيدي وغير ذلك من فنون العذاب وقد بعث الله تعالى عليهم بعد سليمان عليه الصلاة و السلام بختنصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقى منهم وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزية عليهم فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر
ولا ينافي ذلك رفعها عند نزول عيسى عليه الصلاة و السلام لأن ذلك الوقت ملحق بالآخرة لقربه منها أو لأن معنى رفعه عليه السلام إياها عنم أنه لايقبل منهم إلا الإسلام ويخيرهم بينه وبين السيف فالقوم حينئذ إما مسلمون أو طعمة لسيوفهم فلا إشكال وما يحصل لهم زمن الدجال مع كونه ذلا في نفسه غمامة صيف على أنهم ليسوا يهود حين التبعية إن ربك لسريع العقاب لما شاء سبحانه أن يعاقبه في الدنيا ومنهم هؤلاء وقيل : في الآخرة وقيل : فيهما وإنه لغفور رحيم لمن تاب وآمن وقطعناهم أي فرقنا بني إسرائيل أو صيرناهم في الأرض وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها بحيث لايكاد يخلو قطر منهم تكملة لأدبارهم حتى لايكون لهم شوكة وهذا من مغيبات القرآن كالذي تضمنته الآية قبل وقوله سبحانه : أمما إما مفعول ثان لقطعنا وإما حال من مفعوله منهم الصالحون وهم كما قال الطبري من آمن بالله تعالى ورسوله وثبت على دينه قبل بعث عيسى عليه الصلاة و السلام وقيل هم الذين أدركوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وآمنوا به ونسب ذلك إلى ابن عباس ومجاهد وقيل : هم الذين وراء الصين وهو عندي وراء الصين والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم والصالحون مبتدأ وجوز أن يكون فاعلا للظرف والجملة في موضع النصب صفة لأمم على الإحتمالين وجوز أن تكون في موضع الحال وهي بدل من أمم على الإحتمال الثاني وأن تكون صفة موصوف مقدر هو البدل على الأول أي قوما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك أي منحطون عن أولئك الصالحين غير بالغين منزلتهم في الصلاح وهو الذين امتثلوا بعض الأوامر وخالفوا بعضا مع كونهم مؤمنين وقيل : هم الكفرة منهم بناء على أن المراد بالصلاح الإيمان وقيل : المراد بهم مايشمل الكفرة والفسقة والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم و دون على ماذكره الطبرسي مبتدأ إلا أنه بقي مفتوحا لتمكنه في الظرفية مع إضافته إلى المبني ومثله على قول أبي الحسن بينكم في قوله سبحانه : لقد تقطع بينكم أو المبتدأ محذوف والظرف صفته أي ومنهم أناس أو فرقة دون ذلك ومن المشهور عند النحاة أن الموصوف بظرف أو جملة يطرد حذفه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه كما في من أقام ومنا ظعن ومحط الفائدة الإنقسام إلى أن هؤلاء منقسمون إلى قسمين ومن الناس من تكلف في مثل هذا التركيب لجعل الظرف الأول صفة مبتدأ محذوف وجعل الظرف الثاني خبرا لما ظنه داعيا لذلك وليس بشيء والإشارة للصالحين وقد ذكروا أن اسم الإشارة الفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع وقد مرت الإشارة إليه وقيل : أشير به إلى الصلاح كما يقتضيه ظاهر الإفراد ويقدر حينئذ مضاف وهو أهل مثلا وبلوناهم بالحسنات الخصب والعافية والسيئات الجدب والشدة لعلهم يرجعون أي يتوبون عما كانوا عليه مما نهوا عنه فخلف من بعدهم أي المذكورين وقيل :
(9/95)

الصالحين خلف أي بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع وقيل : هو اسم جمع وهو مراد من قال : إنه جمع وهو شائع في الشر ومنه سكت ألفا ونطق خلفا والخلف بفتح اللام في الخير وادعى بعضهم الوضع لدلك وقيل : هما بمعنى وهو من يخلف غيره صالحا كان أو طالحا ومن مجيء الساكن في المدح قول حسان : لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لا ولنا في طاعة الله تابع ومن مجيء المتحرك في الذم قول لبيد : ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب وعن البصريين أنه يجوز التحريك والسكون في الردى وأما الجيد فبالتحريك فقط ووافقهم أهل اللغة إلا الفراء وأبا عبيدة واشتقاقه إما من الخلافة أو من الخلوف وهو الفساد والتغيير ومنه خلوف فم الصائم وقال أبو حاتم : الخلف بالسكون الأولاد الواحد والجمع فيه سواء والخلف بالفتح البدل ولدا كان أو غريبا والأكثرون على أن المراد بهؤلاء الخلف الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحينئذ لايصح تفسير الصالحين بمن آمن به عليه الصلاة و السلام والظاهر أنهم من اليهود وعن مجاهد أنهم النصارى وليس بذاك ورثوا الكتاب أي التوراة والوراثة مجاز عن كونها في أيديهم وكونهم واقفين على ما فيها بعد أسلافهم
وقرأ الحسن ورثوا بالضم والتشديد مبنيا لما لم يسم فاعله والجملة على القراءتين في موضع الصفة لخلف وقوله سبحانه : يأخذون عرض هذا الأدنى إستئناف مسوق لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتهم إياه وقال أبو البقاء : حال من الضمير في ورثوا واستظهره بعضهم ويكفي مقارنته لبعض زمان الوراثة لأمتداده والعرض مالا ثبات له ومنه إستعار المتكلمون العرض لمقابل الجوهر وفي النهاية العرض بالفتح متاع الدنيا وحطامها وقال أبو عبيدة : هو غير النقدين من متاعها وبالسكون المال والقيم و الأدنى صفة لمحذوف أي الشيء الأدنى والمراد به الدنيا وهو من الدنو للقرب بالنسبة إلى الآخرة وكونها من الدناءة خلاف الظاهر وإن كان ذلك ظاهرا فيها لأنه مهموز والمراد بهذا العرض ما يأخذونه من الرشا في الحكومات وعلى تحريف الكلام ويقولون سيغفر لنا ولا يؤاخذنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنا والجملة عطف على ما قبلها وإحتمال الحالية يحتاج إلى تقدير مبتدأ من غير حاجة ظاهرة والفعل مسند إلى الجار والمجرور وجوز أن يكون مسندا إلى ضمير يأخذون : وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه في موضع الحال قيل من ضمير يقولون والقول بمعنى الإعتقاد أي يرجعون المغفرة وهم مصرون على الذنب عائدون إلى مثله غير تائبين عنه وقيل : من ضمير لنا والمعني على ذلك والأول أظهر والقول بأن تقييد القول بذلك لايستلزم تقييد المغفرة به والمطلوب الثاني والثاني متكفل به لايخلو عن نظر
واختار الحلبي والسفاقسي أن الجملة مستأنفة لا لأن الجملة الشرطية لا تقع حالا إذ وقوعها مما لا شك في صحته بل لأن في القول بالحالية نزعة إعتزالية ولا يخفى أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن الحالية أبلغ لأن رجاءهم المغفرة في حال يضادها أوفق بالإنكار عليهم فافهم ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أي الميثاق المذكور
(9/96)

في التوراة فالإضافة على معنى في ويجوز أن تكون إختصاصية على معنى اللام ويؤول المعنى إلى ماذكر وال في الكتاب للعهد وقوله سبحانه : أن لايقولوا على الله إلا الحق عطف بيان للميثاق وقيل : بدل منه وقيل : إنه مفعول لأجله وقيل : إنه متعلق بميثاق بتقدير حرف الجر أي بأن لايقولوا وجوز في أن أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لميثاق لأنه بمعنى القول وفي لا أن تكون ناهية وأن تكون نافية وإعتبار كل مع ما يصح معه مفروض إلى ذهنك والمراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على بتهم القول بالمغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم وبخوا على إيجابهم على الله تعالى غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها وجاء البت من السين فإنها للتأكيد كما نص عليه المحققون وقد عرض الزمخشري عامله الله تعالى بعدله في تفسير هذه الآية بأهل السنة وزعم أن مذهبهم هو مذهب اليهود بعينه حيث جوزوا غفران الذنب من غير توبة ونقل عن التوراة من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لايغفر له إلا بالتوبة وأنت تعلم أن اليهود أكدوا القول بالغفران وأهل السنة لايجزمون في المطيع بالغفران فضلا عن العاصي بما هو حق الله تعالى فضلا عمن عصاه سبحانه فيما هو من حقوق العباد فالموجبون على الله تعالى وإن كان بالنسبة إلى التائب أقرب إليهم فهل ما ادعاه إلا من قبيل ما جاء في المثل رمتني بدائها وانسلت وما نقله عن التوراة إن كان إستنباطا من الآية فلا تدل على ما في الكشف إلا على تحريفهم ما في التوراة من نعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وآية الرجم ونحو ذلك من تسهيلاتهم على الخاصة وتخفيفاتهم على العامة يأخذون الرشا بذلك والتقول على الله عظيمة وإن كان قد قرأ التوراة التي لم تحرف وأنها هي تعين الحمل على الشرك بقواطع من كتاب الله تعالى الكريم أو يكون ذلك لهم وهذا لهذه الأمة المرحومة خاصة وقد سلم هو نحوا منه قوله سبحانه : يغفر لكم من ذنوبكم وقد أطبق أهل السنة على ذم المتمني على الله ورووا عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله سبحانه ومن هنا قيل : إن القوم ذموا بأكلهم أموال الناس بالباطل وإتباع أنفسهم هواها وتمنيهم على الله سبحانه ووبخوا على إفترائهم على الله في الأحكام التي غيروها وأخذوا عرض هذا الأدنى على تغييرها فكأنه قيل : ألم يؤخذ عليهم الميثاق المذكور في كتابهم أن لايقولوا على الله تعالى في وقت من الأوقات إلا الحق الذي تصمنه الكتاب فلم حكموا بخلافه وقالوا : هو من عند الله وما هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا وفيه مخالفته لما روي عن الحبر مخالفة للظاهر وقرأ الجحدري أن لاقولوا بالخطاب على الإلتفات ودرسوا ما فيه أي قرأوه فهم ذاكرون لذلك وهو عطف على ألم يؤخذ من حيث المعنى وإن إختلفا خبرا وإنشاءا إذ المعنى أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا الخ وجوز كونه عطفا على لم يؤخذ والإستفهام التقريري داخل عليهما وهو خلاف الظاهر أو على ورثوا وتكون جملة ألم يؤخذ معترضة وما قبلها حالية أو يكون المجموع إعتراضا كما قيل ولا مانع منه خلا أن الطبرسي نقل عن بعضهم تفسير درسوا على هذا الوجه من العطف بتركوا وضيعوا وفيه بعد
وقيل : إن الجملة في موضع الحال من ضمير يقولوا بإضمار قد أي أخذ عليهم الميثاق بأن لايقولوا على الله إلا الحق الذي تضمنه كتابهم في حال دراستهم ما فيه وتذكرهم له وهو كما ترى وقرأ السلمي ادارسوا بتشديد الدال وألف بعدها وأصله تدارسوا فادغمت التاء في الدال واجتلت لها همزة الوصل
(9/97)

والدار الآخرة خير للذين يتقون الله تعالى ويخافون عقابه فلا يفعلون ما فعل هؤلاء أفلا تعقلون
961
- فتعلموا ذلك ولا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العذاب بالنعيم المقيم وهو خطاب لأولئك المأخوذ عليهم الميثاق الآخذين لعرض هذا الأدنى وفي الإلتفات تشديد للتوبيخ وقيل : هو خطاب للمؤمنين ولا إلتفات فيه
وقرأ جمع بالياء على الغيبة وبالتاء وقرأ نافع وابن عامر وابن ذكوان وأبو جعفر وسهل ويعقوب وحفص وهذه الآية ظاهرة في التوبيخ على الأخذ وجعل بعضهم قوله سبحانه : ألم يؤخذ عليهم الخ توبيخا على ذلك القول ففي الآية ما هو من قبيل ما فيه اللف والنشر والذين يمسكون بالكتاب أي يتمسكون به في أمور دينهم يقال : مسك بالشيء وتمسك به بمعنى قال مجاهد وابن زيد : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة وقال عطاء : هم أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد من الكتاب القرآن الجليل الشأن وقرأ أبوبكر وحماد يمسكون بالتخفيف من الإمساك وابن مسعود استمسكوا وأبي مسكوا وفي ذلك موافقة لقوله تعالى : وأقاموا الصلاة ولعل التغيير في المشهور للدلالة على أن التمسك أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف الإقامة فإنها مختصة بالأوقات المخصوصة وتخصيصها بالذكر من بين سائر العبادات مع دخولها بالتمسك بالكتاب لإنافتها عليها لأنها عماد الدين ومحل الموصول إما الجر عطفا على الذين يتقون وقوله تعالى : أفلا تعقلون إعتراض مقرر لما قبله والإعتراض قد يقرن بالفاء كقوله : فاعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا وإما الرفع على الإبتداء والخبر قوله سبحانه : إنا لانضيع أجر المصلحين
71
- والرابط إما الضمير المحذوف كما هو رأي جمهور البصريين أي أجر المصلحين منهم وإما الألف واللام كما هو رأي الكوفيين فإنها كالعوض عن الضمير فكأنه قيل مصلحيهم وأما العموم في المصلحين فإنه على المشهور من الروابط ومنه نعم الرجل زيد على أحد الأوجه أو وضع الظاهر موضع المضمر بناء على أن الأصل لانضيع أجرهم إلا أنه غير لما ذكر تنبيها على أن الصلاح كالمانع من التضييع لأن التعليق بالمشتق يفيد علية مأخذ الإشتقاق فكأنه قيل : لانضيع أجرهم لصلاحهم
وقيل : الخبر محذوف والتقدير والذين يمسكون بالكتاب مأجورون أو مثابون وقوله سبحانه : إنا لانضيع الخ حينئذ إعتراض مقرر لما قبله وإذ نتقنا الجبل فوقهم عطف على ما قبل بتقدير اذكر والنتق الرفع كما روي عن ابن عباس وإليه ذهب ابن الأعرابي وعن أبي مسلم أنه الجذب ومنه نتقت الغرب من البئر وعن أبي عبيدة أنه القلع وما روي عن الحبر أوفق بقوله سبحانه : ورفعنا فوقهم الطور وعلى القولين الأخيرين يضمن معنى الرفع ليتطابق الآيتان والمراد بالجبل الطور أو جبل غيره وكان فرسخا في فرسخ كمعسكر القوم فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام لما توقفوا عن أخذ التوراة وقبولها إذ جاءتهم جملة مشتملة على ما يستثقلونه فقلعه من أصله ورفعه عليهم كأنه ظلة أي غمامة أو سقيفة وفسرت بذلك مع أنها كل ما علا وأظل لأجل حرف التشبيه إذ لولاه لم يكن لدخوله وجه و فوق ظرف لنتقنا أو حال
(9/98)

من الجبل مخصصة على ما قيل للرفع ببعض جهات العلو والجملة الإسمية بعد في موضع الحال أيضا أي مشابها ذلك وظنوا أي تيقنوا أنه واقع بهم أي ساقط عليهم إن لم يقبلوا فإنهم كانوا يوعدون بذلك بهذا الشرط والصادق لايتخلف ما أخبر به لكن لما لم يكن المفعول واقعا لعدم شرطه أشبه المظنون الذي قد يتخلف فلهذا سمي ذلك ظنا
وقيل : تيقنوا ذلك لأن الجبل لايثبت في الجو واعترض بأن عدم ثبوته فيه لايقتضي التيقن لأنه على جري العادة وأما على خرقها فالثابت الثبوت والواقع عدم الوقوع ويكون ذلك كرفعه فوقهم ووقوفه هناك حتى كان ما كان منهم والحق أن المتيقن لهم الوقوع إن لم يقبلوا لكونه المعلق عليه ففي الأثر أن بني إسرائيل أبوا أن يقبلوا التوراة فرفع الجبل فوقهم وقيل : إن قبلتم وإلا ليقعن عليكم فوقع كل منهم ساجدا على حاجبيه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه فلذلك لاترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون : هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة وامتثلوا ماأمروا به ولا يقدح في ذلك إحتمال الثبوت على خرق العادة كما لايقدح فيه عدم الوقوع إذا قبلوا ألا ترى إلى أنه يتيقن احتراق ما وقع في النار مع إمكان عدمه كما في قصة الخليل عليه الصلاة و السلام وذهب الرماني والجبائي إلى أن الظن على بابه والمراد قوي في نفوسهم أنه واقع واختاره بعض المحققين والجملة مستأنفة وجوز أن تكون معطوفة على نتقنا أو حالا بتقدير قد كما قال أبو البقاء خذوا أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا ماءآتيناكم من الكتاب بقوة أي بجد وعزم على تحمل مشاقه والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الواو والمراد خذوا ذلك مجدين واذكروا ما فيه أي اعملوا به ولا تتركوه كالمنسي وهو كناية عن ذلك أو مجاز
وقرأ ابن مسعود وتذكروا وقريء واذكروا بمعنى وتذكروا لعلكم تتقون
171
- بذلك قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق أو راجين أن تنتظمموا في سلك المتقين
وجوز أن يراد بما آتيناكم الآية العظيمة أعني نتق الجبل أي خذوا ذلك إن كنتم تطيقونه كقوله تعالى : إن إستطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا واذكروا ما فيه من القدرة الباهرة والإنذار وعلى هذا فالمراد من نتق الجبل إظهار العجز لا غير والكلام نظير قولك لمن يدعي الصرعة والقوة بعد ما غلبته : خذه مني وحاصله إن كنتم تطلبون آية قاهرة وتقترحونها فخذوا ماآتيناكم إن كنتم تطيقونه ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر والآثار على خلافه وإذ أخذ ربك منصوب بمضمر على طرز ما سلف في نظائره وهو معطوف على ما قبل مسوق لإلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام فإن منهم من أشرك فقال : عزير ابن الله عز اسمه بعد إلزامهم بالميثاق المخصوص بهم والإحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وبعضهم جوز أن يكون تذييلا تعميما بعد التخصيص وإظهارا لتمادي هؤلاء اليهود في الغي بعد أخذ الميثاق الخاص المدلول عليه بقوله سبحانه : وإذ نتقنا الجبل لقوله جل وعلا : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور في سورة البقرة وعليه فلا عطف وهو أظهر من التذييل نظرا إلط ظاهر اللفظ وأولى منه إذا خص العام بالمشركين كما قيل وقد يقال : إن الآية مسوقة لبيان أخذ ميثاق سابق من جميع الخلق مؤمنهم
(9/99)

وكافرهم قبل هذه النشأة بما هو أهم الأمور والأصل الأصيل لجميع التكليفات على وجه خال مما يشبه الإكراه متضمن لإلزام المشركين المعصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم ورفع إحتجاجهم ما كانوا بعد الإشارة إلى أخذ ميثاق من قوم مخصوصين في هذه النشأة على وجه هو أشبه الأشياء بالإكراه بما الظاهر فيه أنه من الأعمال لأن القوم إذ ذاك كانوا مقرين بالربوبية بل بها وبرسالة موسى عليه السلام فلم يكن حاجة إلى نتق الجبل فوقهم لذلك ولو قال قائل : إن ذكر ذلك خلال الآيات المتعلقة باليهود من باب الإستطراد والمناسبة فيه ظاهرة لم يبعد لكن الأول وهو الذي جرى عليه أكثر متأخري المفسرين أي واذكر لهم أو للناس إذ أخذ ربك من بني آدم المراد بهم الذين ولد لهم مؤمنين كانوا أو كفارا نسلا بعد نسل سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب وتخصيصهم بأسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا مما لايكاد يلتفت إليه
وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الأنباء عن الأجتباء والإصطفاء وهو السبب في إسناده إلى إسم الرب بطريق الإلتفات مع ما فيه من التمهيد للإستفهام الآتي وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة و السلام للتشريف وقيل : إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج والتعبير بالرب لما أن ذلك الأخذ بإعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية وإستأنس بعضهم بمغايرة أسلوب هذا الكلام بما فيه من الإلتفات لما قبله من قوله سبحانه وتعالى : وإذ نتقنا ولما عبده من قوله تعالى : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا لكونه استطراديا وقوله تعالى : من ظهورهم بدل من بني آدم بدل البعض من الكل بتكرير الجار كما في قوله سبحانه وتعالى : للذين استضعفوا لمن آمن وقيل : بدل إشتمال وإليه ذهب أبو البقاء وبينه بعضهم بأن بدل الإشتمال ما يكون بينه وبين المبدل منه ملابسة بحيث توجب النسبة إلى المتبوع النسبة إلى التابع إجمالا نحو أعجبني زيد علمه فإنه يعلم ابتد أن زيدا معجب بإعتبار صفاته لا بإعتبار ذاته وتتضمن نسبة الإعجاب إليه نسبته إلى صفة من صفاته إجمالا ونسبة الأخذ الذي هو بمعنى الإخراج هنا إلى بني آدم نسبة إلى ظهورهم إجمالا لأنه يعلم ابتداء أن بني آدم ليسوا مأخوذين بإعتبار ذواتهم بل بإعتبار أجسادهم وأعضائهم وتتضمن نسبة الأخذ إليهم نسبته إلى أعضائهم إجمالا وادعى أن القول به أولى من القول ببدل البعض لأن النسبة إلى المبدل منه الكل تكون تامة وتحصل بها الفائدة بدون ذكر البدل نحو أكلت الرغيف نصفه فإن النسبة تامة لو لم يذكر النصف ولا شك أن النسبة هنا ليست تامة بدون ذكر البدل وأيضا أن الظهور ليس بعض بني آدم حقيقة بل بعض أعضائهم ولا يخفى ما في ذلك من النظر و من في الموضعين إبتدائية وفيه مزيد تقرير لإبتنائه على البيان بعد الإبهام والتفصيل غب الإجمال قيل : وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب الآباء ولم يستودعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى : ذريتهم مفعول أخذ أخر عن المفعول بواسطة الجار لإشتماله على ضمير راجع إليه فيلزم بالتقديم رجوع الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة وهو لايجوز إلا في مواضع ليس هذا منها ولمراعاة اصالته ومنشئيته ولما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر وقرأ نافع وأبو عمر وابن عامر ويعقوب ذرياتهم والمراد أولادهم على العموم ومن خص بني آدم بأسلاف اليهود على ما مر خص هذا بأخلافهم وفيه ما فيه والإشكال المشهور هو أن كل الناس يصدق عليه بنو آدم وذريته فيتحد المخرج والمخرج منه مدفوع بظهور أن المراد إخراج
(9/100)

الفروع من الأصول حسب ترتب الولاد ولا يتوقف التخلص عنه على القول بذلك التخصيص
وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد كل واحد من أولئك الذرية المأخوذين من ظهور آبائهم على أنفسهم لا على غيرهم تقريرا لهم بربوبيته سبحانه وتعالى التامة قائلا لهم : ألست بربكم أي مالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤنكم قالوا في جوابه سبحانه وتعالى بلى شهدنا أي على أنفسنا بأنك ربنا لا رب لنا غيرك والمراد أقررنا بذلك وجاء أن القاضي شريح قال لمقر عنده شهد عليك ابن أخت خالتك ومن هنا قال الجلال السيوطي : إن هذه الآية أصل في الإقرار و بلى حرف جواب وألفها أصلية عند الجمهور وقال جمع : الأصل بل والألف زائدة وبعض أولئك يقول : إنها لتأنيث الكلمة كالتاء في ثمت وربت لأنها أميلت ولو لم تكن للتأنيث لكانت زائدة لمجرد التكثير كألف قبعثرى وتلك لأتمال وتختص بالنفي فلا تقع إلا في جوابه فتفيد إبطاله سواء كان مجردا أو مقرونا بالإستفهام حقيقيا كان أو تقريريا وقد أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى كما في هذه الآية ولذلك قال ابن عباس وغيره لو قالوا نعم لكفروا ووجهه أن نعم تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب ولذلك قال جماعة من الفقهاء : لو قال أليس لي عليك ألف فقال : بلى لزمته ونعم لا وقال آخرون : تلزمه فيهما وجروا فيه على مقتضى العرف لا اللغة
ونازع السهيلي وجماعة في المحكي عن الحبر وغيره متمسكين بأن الإستفهام التقريري موجب ولذلك إمتنع سيبويه من جعل أم متصلة على ما قيل في قوله تعالى : أفلا تبصرون أم أنا خير من فإنها لاتقع بعد الإيجاب وإذا ثبت أنه إيجاب فنعم بعد الإيجاب تصديق له قال ابن هشام : ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها الإيجاب وذلك متفق عليه و بلى قد جاءتك آياتي متقدم فيه ما يدل على النفي لكن وقع في الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الإستفهام المجرد ففي صحيح البخاري أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه : أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا : بلى وفي صحيح مسلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أنت الذي لقيتني بمكة فقال له المجيب : بلى وليس لهؤلاء أن يحتجوا بذلك لأنه قليل فلا يتخرج عليه التنزيل انتهى وأجاب البدر الدماميني بأنه لا إشكال في الحقيقة فإن هؤلاء راعوا صورة النفي المنطوق به فيجاب ببلى حيث يراد إبطال النفي الواقع بعد الهمزة وجوزوا الجواب بنعم على أنه تصديق لمضمون الكلام جميعه الهمزة ومدخولها وهو إيجاب كما سلف ودعواه الإنفاق مناقش فيها أما إن أراد الإيجاب المجرد من النفي بالمرة فقد حكي الرضي الخلاف فيه وذكر أن بعضهم أجاز إستعمالها بعده تمسكا بقوله : وقد بعدت بالوصل بيني وبينها بلى إن من زار القبور ليبعدا وإن أراد ما هو الأعم حتى يشمل التقرير المصاحب للنفي فالخلاف فيه موجود مشهور ذكره هو في حرف النون انتهى ولا يخفى أن البيت شاذ كما صرح به الرضي والمذكور في بحث النون أن جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين قالوا : إنه إذا كان قبل النفي إستفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفي المجرد وإن كان مرادا به التقرير فالأكثر أن يجاب بما يجلب به النفي رعيا للفظه ويجوز عند أهل اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب رعيا لمعناه وعلى ذلك قول الأنصار للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم نعم وقد قال لهم : ألستم ترون لهم ذلك وقول جحدر :
(9/101)

أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تدانى نعم وأرى الهلال كما تراه ويعلوها النهار كما علانى وعلى ذلك جرى كلام سيبويه وقال ابن عصفور : أجرت العرب التقرير في الجواب مجرى النفي المحض وإن كان إيجابا في المعنى فإذا قيل : ألم أعطك درهما قيل في تصديقه : نعم وفي تكذيبه بلى وذلك لأن المقرر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك فإذا قال : نعم لم يعلم هل أراد نعم لم تعطني على اللفظ أو نعم أعطيتني على المعنى فلذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى وأما نعم في بيت جحدر فجواب لغير مذكور وهو ما قدره إعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه مع أم عمرو أو هو جواب لقوله : وأرى الهلال قدم عليه وأما قول الأنصار : فجاز لأمن اللبس لأنه قد علم أنهم يريدون نعم لهم ذلك وعلى هذا يحمل إستعمال سيبويه لها بعد التقرير انتهى
والأحسن أن تكون نعم في البيت جوابا لقوله : فذاك بنا تدانى ثم قال ابن هشام : ويتحرر على هذا أنه لو أجيب ألست بربكم بنعم لم يكف في الإقرار لأنه سبحانه وتعالى أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية ما لايحتمل غير المعنى المراد من المقر ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله برفع إله لأحتماله لنفي الوحدة ولعل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قال : إنهم لو قالوا : نعم لم يكن إقرارا وافيا وجوز الشلويين أن يكون مراده رضي الله تعالى عنه أنهم لو قالوا نعم جوابا للملفوظ على ما هو الأفصح لكان كفرا إذ الأصل تطابق السؤال والجواب لفظا وفيه نظر لأن التكفير لا يكون بالإحتمال والكلام عند جمع تمثيل لخلقه تعالى الخلق جميعا في مبدأ الفطرة مستعدين للإستدلاال بالأدلة الآفاقية والأنفسية المؤدية إلى التوحيد كما نطق به قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة الحديث مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه سبحانه وتعالى إياهم لمعرفة ربوبيته ووحدانيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من العقول والبصائر ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينا تاما ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعرضهم لها تعرضا قويا بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الإعتراف بها بطريق الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب ونظير ذلك في قول ما في قوله سبحانه وتعالى : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ومن ذلك سائر ما يحكى عن الحيوان والجماد كقوله : شكا إلى جملى طول السرى مهلا رويدا فكلانا مبتلى وقوله امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني وجعلوا قوله سبحانه وتعالى : أن تقولوا من تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديدا في الإلزام أو إليهم وإلى متقدميهم بطريق التغليب وهو مفعول له لما قبله من الأخذ والإشهاد أو لمقدر يدل عليه ذلك والمعنى على ما يقول البصريون : فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا وعلى ما يقول الكوفيون : لئلا تقولوا يوم القيامة عند ظهور الأمر وإحاطة العذاب بمن أشرك إنا كنا عن هذا أي وحدانية الربوبية غافلين
271
- لم ننبه عليه وإنما لم يسعهم هذا الإعتذار
(9/102)

حينئذ على ما قيل لأنهم نبهوا بنصب الأدلة وجعلوا متهيئين تهيأ تاما لتحقيق الحق وإنكار ذلك مكابرة فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك أو تقولوا في ذلك اليوم إنما أشرك أباؤنا من قبل أي إن آباءنا هم اخترعوا الإشراك وهم سنوه من قبل زماننا وكنا نحن ذرية من بعدهم لا نهتدي إلى سبيل التوحيد أفتهلكنا أي أتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بما فعل المبطلون
371
- من آبائنا المضلين لا نراك تفعل و أو لمنع الخلو دون الجمع وفعل القول عطف على نظيره وقرأهما أبو عمرو بالياء على الغيبة لأن صدر الكلام عليهما ووجه قراءة الخطاب ما علمت وقال البعض : إن ذاك لقول الرب تعالى ربكم وإنما لم يسع القوم هذا القول لأن ما ذكر من إستعدادهم يضيق عليهم المسالك إليه إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الإستدلال بها مما لا مساغ إليه أصلا هذا والذي عليه المحدثون والصوفية قاطبة أن الله تعالى أخذ من العباد بأسرهم ميثاقا قاليا قبل أن يظهروا بهذه البنية المخصوصة وأن الإخراج من الظهور كان قبل أيضا
فقد أخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن الله تعالى آخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرها بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا
وأخرج مالك في الموطأ وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في التاريخ وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وخلق كثير عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سئل عن هذه الآية وإذ أخذ ربك الخ فقال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عنها فقال : إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال الرجل : يا رسول الله ففيما العمل فقال : إذا خلق العبد للجنة إستعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة وإذا خلق العبد للنار إستعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله تعالى النار والبيضاوي حمل الآية في تفسيره على التمثيل وكذا في شرحه للمصابيح وذكر فيه أن ظاهر حديث عمر رضي الله تعالى عنه لا يساعد ذلك ولا ظاهر الآية لأنه سبحانه وتعالى لو أراد أن يذكر أنه إستخرج الذرية من صلب آدم دفعة واحدة لا على توليد بعضهم من بعض على مر الزمان لقال : وإذ أخذ ربك من ظهر آدم ذريته والتوفيق بينهما أن يقال : المراد من بني آدم في الآية آدم وأولاده وكأنه صار إسما للنوع كالإنسان والبشر والمراد بالإخراج توليد بعضهم من بعض على مر الزمان واقتصر في الحديث على ذكر آدم إكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع وقوله غليه الصلاة والسلام في الحديث مسح ظهر آدم يحتمل أن يكون الماسح الملك الموكل على تصوير الأجنة وتخليقها وجمع موادها وأسند إلى الله تعالى لأنه الآمر كما أسند التوفي إليه في قوله تعالى : يتوفى الأنفس حين موتها والمتوفى لها هو الملك لقوله تعالى : تتوفاهم الملائكة ويحتمل أن يكون الماسح هو الله تعالى ويكون المسح من باب التمثيل وقيل : هو من المساحة بمعنى التقدير كأنه قال : قدر ما في ظهره من الذرية انتهى كلامه وقال بعضهم : ليس المعنى في الحديث أنه تعالى أخرج الكل من ظهر آدم عليه السلام بالذات بل أخرج من ظهره أبناءه الصلبية ومن ظهورهم
(9/103)

أبناءهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصلاة و السلام وكان مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالا من غير أن يتعلق بذكر الوسائط غرض علمي نسب إخراج الكل إليه وأما الآية الكريمة فحيث كانت مسوقة للإحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبيان عدم إفادة الإعتذار بإسناد الإشراك إلى آبائهم إقتضى الحال نسبة إخراج كل واحد منهم إلى ظهر أبيه من غير تعرض لإخراج الأبناء الصلبية لآدم عليه السلام من ظهره قطعا وعدم بيان الميثاق في الخبر العمري ليس بيانا لعدمه ولا مستلزما له اه
وأنت تعلم أن التأويل الذي ذكره البيضاوي يأبى عنه كل الآباء حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأن ما ذكره البعض من أن مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالا يأباه ظهور عدم كون السؤال عن حالهما ليساق الحديث لبيانه فإن الظاهر أن الصحابي إنما سأله عليه الصلاة و السلام عما أشكل عليه من معنى الآية أن الأشهاد هل هو حقيقة أم على الإستعارة فلما أجابه صلى الله تعالى عليه وسلم بما عرف منه ما أراده سكت لأنه كان بليغا ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة وكذا فهم الفاروق رضي الله تعالى عنه
ومن هنا يعلم أن قول الإمام أن ظاهر الآية يدل على إخراج الذرية من ظهر بني آدم وليس فيها ما يدل على أنه أخرجوا من صلب آدم ولا ما يدل على نفيه إلا أن الخبر دل عليه فيثبت خروجهم من آدم بالحديث ومن بنيه بالآية لايطابق سياق الحديث كما لا يخفى وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي : إنما جد كثير من أهل العلم في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر خبر الحبر لمكان قوله سبحانه : أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فقالوا : إن كان هذا الإقرار عن إضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم ذلك اليوم أن يقولوا : شهدنا يومئذ فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ وإن كان عن إستدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أيضا أن يقولوا : أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة وحرمناهما من بعد ولو أمددنا بهما أبدا لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول فيتعين حينئذ أن يراد بالميثاق ما ركب الله تعالى فيهم من العقول وآتاهم من البصائر لأنها هي الحجة البالغة والمانعة عن قولهم إنا كنا الخ لأن الله تعالى جعل الإقرار والتمكن من معرفة ربوبيته ووحدانيته سبحانه حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسول حجة عليهم في الإيمان بما أخبر عنه من الغيوب انتهى
وحاصله أنه لو لم تؤول الآية بما ذكر يلزم أن لا يكونوا محجوجين يوم القيامة وقد أجيب عنه بإختيار كل من الشقين ورفع محذوره أما الأول فبأن يقال : إذا قالوا شهدنا يومئذ فلما زال علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان كذا أيها الكذابون متى وكلتم إلى آرائكم ألم نرسل رسلنا تترا ليوقظوكم عن سنة الغفلة وأما الثاني فبأن يقال : إن هذا مشترك الإلزام فإنه إذا قيل لهم : ألم نمنحكم العقول والبصائر : فلهم أن يقولوا فإذا حرمنا اللطف والتوفيق فأي منفعة لنا في العقل والبصيرة وذكر محيي السنة في جواب أنه كيف تلزم الحجة ولا أحد يذكر ذلك الميثاق أن الله تعالى قد أوضح الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة ونسيانه وعدم حفظه لايسقط الإحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق ولا يخفى ما فيه ولهذا أجاب بعضهم بأن قوله تعالى : أن تقولوا الخ ليس مفعولا له لقوله تعالى : وأشهدهم وما يتفرع عليه من قولهم
(9/104)

بلى شهدنا حتى يجب كون ذلك الإشهاد والشهادة محفوظا لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلام والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاق وبيانه كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه هذا على قراءة الجمهور أما على القراءة الأخرى فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العامل في إذ أخذ والمعنى أذكر لهم الميثاق المأخوذ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباء ثم قال : هذا على تقدير كون شهدنا من كلام الذرية وهو الظاهر فأما على تقدير كونه من كلام الله تعالى فهو العامل في أن تقولوا ولا محذور أصلا والمعنى شهدنا قولكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة الخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ انتهى
ولا يخفى أن ما ذكره أولا من تعلق أن وما بعدها بفعل مضمر ينسحب عليه الكلام أو بنفس الفعل المضمر العامل في إذ واضح في دفع السؤال الذي أشرنا إليه وإنه لعمري في غاية الحسن إلا أن الظاهر تعلقه بالإشهاد وما يتفرع عليه وأرى الجواب مع عدم العدول عنه لا يخلو عن العدول عنه ويؤيد ما ذكره ثانيا من كون شهدنا من كلام الله تعالى وكونه العامل ما أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدى عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا في الآية : لما أخرج الله تعالى آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة طهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيأة الذر فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيأة الذر فقال : ادخلوا النار ولا أبالي فذلك قوله تعالى : أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال : ألست بربكم قالوا : بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال : هو والملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة الحديث وفيه مخالفة لما روي عن الحبر أولا من أن الأخذ كان بنعمان إذ هو ظاهر في كون ذلك بعد الهبوط وهذا ظاهر في كونه كان قبل وفي بعض الأخبار ما يقتضي أنه كان إذ كان عرشه سبحانه على الماء فقد أخرج عبد ابن حميد والحكيم الترمذي في بوادر الأصول والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : خلق الله تعالى الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال : يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا له : لبيك ربنا وسعديك قال : ألست بربكم قالوا : بلى قال : يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا له لبيك ربنا وسعديك قال : ألست بربكم قالوا : بلى فخلط بعضهم ببعض الخبر وذكر بعضهم أنه كان بالهند حيث هبط آدم عليه السلام وآخرون أنه كان في موضع الكعبة وأن الذرية المخرجة من ظهر آدم عليه السلام كالذر أحاطت به وجعل المحل الذي شغلته إذ ذاك حرما وليس لهذا سند يعول عليه والتوفيق بين هذه الروايات مشكل إلا أن يقال بتعدد أخذ الميثاق وإليه ذهب السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لكن يشعر كلامهم بإختلاف النوع فقد قال بعضهم : رأيت من يستحضر قبل ميثاق ألست ستة مواطن أخرى ميثاقية فذكرت ذلك لشيخنا رضي الله تعالى عنه فقال : إن قصد القائل بالحضرات الستة التي عرفها قبل ميثاق ألست الكليات فمسلم وأما إن أراد جملة الحضرات الميثاقية التي قبل ألست
(9/105)

فهي أكثر من ذلك ويعلم من هذا ما في قولهم : لا أحد يذكر ذلك الميثاق على وجه السلب الكلي من المنع وقد روي عن ذو النون أيضا وقد سئل عن ذلك هل تذكره أنه قال : كأنه الآن في أذني وقال بعضهم مستقربا له : إن هذا الميثاق بالأمس كان وأشار فيه أيضا إلى مواثيق أخر كانت قبل ويمكن أن يقال مراده من تلك السالبة لا أحد من المشركين يذكر ذلك الميثاق لا لا أحد مطلقا
وذكر قطب الحق والدين العلامة الشيرازي في التوفيق بين الآية والخبر العمري كلاما أرتضاه الفحول وتلقوه بالقبول وحاصله : أن جواب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ سئل عن الآية من قبيل أسلوب الحكيم وذلك أنه عليه الصلاة و السلام سئل عن بيان الميثاق الحالي فأجاب ببيان الميثاق المقالي على ألطف وجه
وبيانه أن سبحانه كان له ميثاقان مع بني آدم أحدهما تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الإعتراف الحالي وثانيهما المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد كالأنبياء عليهم السلام فأراد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يعلم الأمة ويخبرهم عن أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا آخر أزليا فقال ما قال من مسح ظهر آدم عليه السلام في الأزل وإخراج الذرية ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في لا يزال من أصلاب بني آدم هوالذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم وأخذ منه الميثاق المقالي الأزلي كما أخذ منهم في لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الحالي اللايزالي اه وهو حسن كما قالوا لكن ينبغي أن يحمل الأزل فيه ولا يزال على المجاز لأن خروج النسل محدود بيوم القيامة وعلى القول بعدم إنقطاعه بعده هو خاص بالسعداء على وجه خاص كما علم في محله والأمر حادث لا أزلي وإلا لزم خرق إجماع المسلمين والتدافع بين الآية وكان الله تعالى ولم يكن معه شيء ونقل عن الخلخالي أنه شمر عن ساقه في دفع ذلك فقال : المخاطبون هم الصور العلمية القديمة التي هي ماهيات الأشياء وحقائقها ويسمونها الأعيان الثابتة وليست تلك الصور موجودة في الخارج فلا يتعلق بها بحسب ذلك الثبوت جعل بل هي في ذواتها غير محتاجة إلى ما يجعلها تلك الصور وهي صادرة عنه تعالى بالفيض الأقدس وقد صرحوا بأنها شؤنات وإعتبارات للذات الأحدي وجوابهم بقولهم : بلى إنما هو بألسنة إستعدادهم الأزلية لا بالألسنة التي هي بعد تحققها في الخارج انتهى وهو مبني على الفرق بين الثبوت والوجود وفيه نزاع طويل لكنا ممن يقول به والله لا يستحي من الحق ومن هنا انقدح لبعض الأفاضل وجه آخر في التوفيق بين الآية والحديث وو أن المراد بالذرية المستخرجة من صلب آدم عليه السلام وبنيه هو الصور العلمية والأعيان الثابتة وأن المراد بإستخراجها هو تجلي الذات الأحدي وظهوره فيها وأن نسبة الإخراج إلى ظهورهم بإعتبار أن تلك الصور إذا وجدت في الأعيان كانت عينهم وأن تلك المقاولة حالية إستعدادية أزلية لا قالية لايزالية حادثة وهذا هو المراد بما نقل الشيخ العارف أبو عبدالرحمن السلمي في الحقائق عن بنان حيث قال : أوجدهم لديه في كون الأزل ثم دعاهم 1 فأجابهم وسراعا وعرفهم نفسه حين لم يكونوا في الصورة الإنسية ثم أخرجهم بمشيئته خلقا وأودعهم في صلب آدم فقال سبحانه : وإذ أخذ ربك الخ فأخبر أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم إذ كانوا واجدين للحق في غير وجودهم لأنفسهم وكان الحق بالحق في ذلك موجودا ثم أنشد السلمي لبعضهم :
(9/106)

لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعا وسجودا ولا يخفى أن هذا التوفيق بعيد بمراحل عن ذوق أرباب الظاهر لمخالفته لظواهر الأخبار والمتبادر من الآثار وما نقل عن بنان فيه وهو أول كلامه انتخبهم للولاية واستخلصهم للكرامة وجعل لهم فسوحا في غوامض غيب الملكوت وبعده ما ذكر وشموله لسائر الخلق سعيدهم وشقيهم لا يخلو عن بعد وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن الله تعالى أبدع المبدعات وتجلى بلسان الأحدية في الربوببية فقال : ألست بربكم والمخاطب في غاية الصغاء فقالوا : بلى فكان كمثل الصدا فإنهم أجابوه به فإن الوجود المحدث خيال منصوب وهذا الإشهاد كان إشهاد رحمة لأنه سبحانه ما قال لهم وحدي إبقاء عليهم لما علم أنهم يشركون به تعالى عن ذلك علوا كبيرا بما فيهم من الحظ الطبيعي وبما فيهم من قبول الإقتدار الألهي وما يعلمه إلا قليل وأنت تعلم أن محققي المفسرين إعتبروا الوحدانية في الإشهاد وكذا في الشهادة كما مرت الإشارة إليه ونطقت الآثار به ومن ذلك ما أخرجه عبدالله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند والبيهقي وابن عساكر وجماعة عن أبي بن كعب أنه قال في الآية : جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا في صورهم ثم إستنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا : بلى قال : فإني أشهد عليكم السموات السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي قالوا : شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا ورفع عليهم آدم ينظر إليهم فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال : يا رب لولا سويت بين عبادك قال : إني أحببت أن أشكر وبهذا يندفع ما يقال : إن إقرار الذراري بربوبيته سبحانه لا ينافي الشرك لأن المشركين قائلون بربوبيته سبحانه كما يدل عليه قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله والمعتزلة ينكرون أخذ الميثاق القالي المشار إليه في الأخبار ويقولون : إنها من جملة الآحاد فلا يلزمنا أن نترك لها ظاهر الكتاب وطعنوا في صحتها بمقدمات عقلية مبنية على قواعد فلسفية على ما هو دأبهم في أمثال هذه المطالب قالوا أولا : إن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فوجب أن يتذكر الإنسان في هذا العالم ذلك الميثاق إذ لا يجوز للعاقل أن ينسى مثل هذه الواقعة العظيمة نسيا كليا فحيث نسى كذلك دل على عدم وقوعها وبنحو هذا الدليل بطل التناسخ وأجيب بأن العلم إنما هو بخلق الله تعالى فجاز أن لايخلقه لحكمة علمها ودليل بطلان التناسخ ليس منحصرا بما ذكر فقد إستدلوا أيضا على بطلانه بلزوم أن يكون للبدن نفسان كما بينه الإمام في المباحث الشرقية وأن يكون عدد الهالكين مساويا لعدد الكائنين والطوفات العامة تأبى هذا التساوي على أنه يمكن أن يجاب بالفرق بين التناسخ وبين ما نحن فيه وذلك إنا إذا كنا في أبدان آخرى وبقينا فيها سنين إمتنع في مجرى العادة نسيان أحوالها وأما أخذ الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول النسيان فيه وبعضهم أجاب بأن النسيان وعدم التذكر هنا لبعد الزمان واعترض بأن أهل الآخرة يعرفون كثيرا من أحوال الدنيا كما نطقت بذلك الآيات والأخبار اللهم إلا أن يقال : إن ذلك خصوصية الدار وقالوا ثانيا : إن تلك الذرية المأخوذة من ظهر آدم عليه السلام لابد أن يكون لكل واحد منها قدر من البنية حتى يحصل فيه العلم والفهم فمجموعها لا تحويه عرصة الدنيا فيمتنع حصوله في ظهر آدم ليؤخذ ثم يرد وأجيب بأنه مبني على كون الحياة
(9/107)

مشروطة بالبنية المخصوصة كما هو مذهب الخصوم والبرهان قائم على بطلانه كما تقرر في الكلام فيجوز أن يخلق الله تعالى الحياة في جوهر فرد وتلك الذرية المخرجة كانت كالذر وهو قريب من الجوهر وكون المجموع لا تحويه عرصة الدنيا غير مسلم وإن كان الأخذ في السماء قبل هبوط آدم عليه السلام فالدائرة واسعة وإن كان إذ كان العرش على الماء فالدائرة أوسع ولا مانع إذا كان في الأرض أن يكون إجتماع الذر متراكما بينها وبين السماء وإنه لفضاء عظيم وإن صغرت قاعدته وإن أعتبر أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وأنها جوهر غير متحيز ولا حال فيه لم يحتج إلى الفضاء إلا أن فيه ما فيه وقالوا ثالثا : إنه لا فائدة في أخذ الميثاق لأنهم لا يصيرون بسببه مستحقين للثواب والعقاب على أنهم أدون حالا من الأطفال والطفل لا يتوجه عليه التكليف فكيف يتوجه على الذر وأجيب بأن فائدة الأخذ غير منحصرة في الإستحقاق المذكور بل يجوز أن تكون إظهار كمال القدرة لمن حضر من الملائكة وإقامة الحجة يوم القيامة كما يقتضيه قول البعض في الآية وكونهم إذ ذاك أدون حالا من الأطفال في حيز البطلان كما لا يخفى على من هو أدون حالا من الأطفال وقالوا رابعا : إنه سبحانه وتعالى قال : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين : وقال جل وعلا : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق وكون أولئك الذر أناسي ينافي كون الإنسان مخلوقا مما ذكر
وأجيب بأن الإنسان في هذه النشأة مخلوق من ذلك ولا يلزم منه أن يكون في تلك النشأة كذلك على أن الله تعالى لا يعجزه شيء وبالجملة ينبغي للمؤمن أن يصدق بذلك الأخذ فقد نطقت به الأخبار الصادرة من منبع الرسالة ولا يلتفت إلى قول من قال : إنها متروكة العمل لكونها من الآحاد فإن ذلك يؤدي إلى سد باب كبير من الفتوحات الغيبية ويحرم قائله من عظيم المنح الآلهية وقد روى البيهقي في المدخل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال : الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويجعلونه سنة حمد من تبعها وعيب من خالفها وقال : من خالف هذا المذهب كان عندنا مفارقا لسبيل أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأهل العلم بعدهم وكان من أهل الجهالة وفي جامع الأصول عن رزين عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لأعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري أنا أمرت به أو نهيت عنه وهو متكيء في أريكته فيقول : ما ندري ما هذا عندنا كتاب الله تعالى وليس هذا فيه الحديث ولا ينبغي البحث عن كيفية ذلك فإنه من العلوم المسكوت عنها المحتاجة إلى كشف الغطاء وفيض العطاء
ومن ذلك ما أخرجه الجندي في فضائل مكة وأبو الحسن القطان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن أبي سعيد الخدري قال : حججنا مع عمر رضي الله تعالى عنه فلما دخل الطواف إستقبل الحجر فقال : إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبلك ما قبلتك ثم قبله فقال : له علي كرم الله تعالى وجهه : يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع قال بم قال : بكتاب الله عز و جل قال : وأين ذلك من كتاب الله تعالى قال : قال الله تعالى وإذ أخذ ربك الآية إلى قوله سبحانه : بلى وذلك أن الله عز و جل شأنه خلق آدم عليه السلام ومسح على ظهره فأخرج ذريته فقررهم بأنه الرب وأنهم العبيد وأخذ عهودهم ومواثيقهم وكتب ذلك في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له : افتح فاك ففتح فاه فألقمه ذلك الرق فقال : اشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة وأني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول :
(9/108)

يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق ليشهد لمن يستلمه بالتوحيد فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع فقال عمر رضي الله تعالى عنه أعوذ بالله تعالى أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن
قيل : ومن هنا يعلم قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : الحجر يمين الله تعالى في أرضه والكلام في ذلك شهير وهذا من الناس من ذكر أن الناس بعد أن قالوا : بلى منهم من سجد سجدتين ومنهم من لم يسجد أصلا ومنهم من سجد مع الأولين السجدة الأولى ولم يسجد السجدة الثانية ومنهم من عكس فالصنف الأول هم الذين يعيشون مؤمنين ويومتون كذلك والثاني الإدين يعيشون كفارا ويموتون كدلك والثالث هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كفارا والرابع هم الذين يعيشون كفارا ويموتون مؤمنين انتهى وهو كلام لم يشهد له كتاب ولا سنة فلا يعول عليه ومثله القول بأن بعضا من القائلين بلى قد مكر منهم إذ ذاك حيث أظهر لهم إبليس في ذلك الجمع وظنوا أنه القائل : ألست بربكم فعنوه بالجواب وأولئك هم الأشقياء وبعضا تجلى لهم الرب سبحانه فعرفوه وأجابوه وأولئك هم السعداء وهذا عندي من البطلان بمكان والذي ينبغي إعتقاده أنهم كلهم وجهوا الجواب لرب الأرباب نعم ذهب البعض إلى أن البعض أجاب كرها واستدلوا له ببعض الآثار السالفة وذهب أهل هذا القول إلى أن أطفال المشركين في النار ومن قال : إنهم في الجنة ذهب إلى أنهم أقروا عند أخذ الميثاق إختيارا فيدخلون الجنة بذلك الإقرار والله سبحانه أرحم الراحمين وإسناد القول في الآية على بعض الأقوال إلى ضمير الجمع إنما هو بإعتبار وقوعه من البعض فإن وقوعه من الكل باطل بداهة ومثل هذا واقع في الآيات كثيرا وكذلك نفصل الآيات أي ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة نفصلها لا غير ذلك
ولعلهم يرجعون
471
- عماهم عليه من الإصرار على الباطل نفعل التفصيل المذكور وقيل : المعنى ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بمقتضاه نفعل ذلك وأيا ما كان فالواو إبتدائية كالتي قبلها وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي ليقفوا على ما فيها من المرغبات والزواجر أو ليظهر الحق ولعلهم يرجعون وقيل : إنها سيف خطيب
هذا ومن باب الإشارة قالوا : واسألهم عن القرية أي عن أهل قرية الجسد وهم الروح والقلب والنفس الأمارة وتوابعها التي كانت حاضرة البحر أي مشرفة على شاطيء بحر البشرية إذ يعدون في السبت يتجاوزون حدود الله تعالى يوم يحرم عليهم تناول بعض الملاذ النفسانية والعادي من أولئك الأهل إنما هو النفس الأمارة فإنها في مواسم الطاعات والكف عن الشهوات كشهر رمضان مثلا حريصة على تناول ما نهيت عنه والمرء حريص على ما منع إذ تأتيهم حيتانهم وهي الأمور التي نهوا عن تناولها يوم سبتهم الذي أمروا بتعظيمه شرعا قريبة المأخذ ويوم لايسبتون لا تأتيهم بأن لا يتهيأ لهم ما يريدونه كذلك نبلوهم نعاملهم معاملة من يختبرهم بما كانوا يفسقون أي بسبب فسقهم المستمر طبعا
قال بعضهم : ما كان ما قص الله تعالى إلا كحال الإسلاميين من أهل زماننا في إجتماع أنواع الحظوظ النفسانية من المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق والمحافل في الأيام المعظمة كالأعياد والأوقات المباركة كأوقات زيارة مشاهدة الصالحين المعلومة المشهورة بين الناس وإذ قالت أمة منهم وهي القلب وأتباعه للأمة الواعظة وهي الروح وأتباعها لم تعظون قوما وهم النفس الأمارة وقواها الله مهلكهم أو معذبهم عذابا
(9/109)

شديدا على فعلهم قالوا معذرة إلى ربكم أي نعظهم معذرة إليه تعالى وذلك أنا خلقنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنريد أن نقضي ما علينا ليظهر أنا ما تغيرنا عن أوصافنا ولعلهم يتقون لأنهم قابلون لذلك بحسب الفطرة فلا نيأس من تقواهم فلما نسوا ما ذكروا به لغلبة الشقوة عليهم أنجينا الذين ينهون عن السوء وهم الروح والقلب وأتباعهما فإنهم كلهم نهوا عن ذلك إلا أن بعضهم مل وبعضهم لم يمل وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس أي شديد وهو عذاب حرمان قبول الفيض بما كانوا يفسقون أي بسبب تماديهم الخروج عن الطاعة فلما عتوا عما نهوا عنه أي أبوا أن يتركوا ذلك قلنا لهم كونوا قردة خاسئين أي جعلنا طباعهم كطباعهم وذلك فوق حرمان قبول الفيض وإذ تأذن ربك أي أقسم ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة أي قيامتهم من يسومهم وهو التجلي الجلالي سوء العذاب وهو عذاب القهر وذل إتباع الشهوات وقطعناهم أي فرقنا بني إسرائيل الروح في الأرض أي أرض البدن أمما جماعات منهم الصالحون أي الكاملون في الصلاح كالعقل ومنهم دون ذلك فيه كالقلب ومن جعل القلب أكمل من العقل عكس الأمر وبلوناهم بالحسنات والسيآت تجليات الجمال والجلال لعلهم يرجعون بالفناء إلينا فخلف من بعدهم خلف وهي النفس وقواها ورثوا الكتاب وهو ما ألهم الله تعالى العقل والقلب يأخذون عرض هذا الأدنى وهي الشهوات الدنية واللذات الفانية ويجعلون ما ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك ويقولون سيغفر لنا ولا بد لأنا واصلون كاملون وهذا حال كثير من متصوفة زماننا فإنهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار ويقولون : إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون
وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف ويقول : إن النفي والإثبات يدفع ضرره وهو خطأ فاحش وضلال بين أعاذنا الله تعالى وإياكم من ذلك وأعظم منه إعتقاد حل أكل مثل الميتة من غير عذر شرعي لأحدهم ويقول : كل منا بحر والبحر لا ينجس ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب والخنزير ومنهم يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل الله تعالى ما يؤيد به دعواه وهو كذب لا أصل له وحاشا ذلك الكامل مما نسب إليه حاشا وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه أي أنهم مصرون على هذا الفعل القبيح ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب الوارد فيما ألهمه الله تعالى العقل والقلب أن لا يقولوا على الله إلا الحق فكيف عدلوا عنه ودرسوا ما فيه مما فيه رشادهم والدار الآخرة المشتملة على اللذات الروحانية خير للذين يتقون عرض هذا الأدنى والذين يمسكون بالكتاب أي يتمسكون بما ألهمه الله تعالى العقل والقلب من الحكم والمعارف وأقاموا الصلاة ولم يألوا جهدا في الطاعة إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم وأجرهم متفاوت حسب تفاوت الصلاح حتى إنه ليصل إلى ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر وإذ نتقنا الجبل فوقهم وهو جبل الأمر الرباني والقهر الإلهي كأنه ظلة غمامة عظيمة وظنوا أنه واقع بهم إن لم يقبلوا أحكام الله سبحانه خذوا ماآتيناكم بقوة بجد وعزيمة واذكروا ما فيه من الأسرار ولعلكم تتقون تنتظمون في سلك المتقين على إختلاف مراتب تقواهم
والكلام على قوله سبحانه : وإذ أخذ ربك الخ من هذا الباب يغني عنه ما ذكرناه خلال تفسيره من كلام أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم خلا أنه ذكر بعضهم أن أول ذرة أجابت ببلى ذرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا
(9/110)

هي أول مجيب من الأرض لما خاطب الله سبحانه السموات والأرض بقوله جل وعلا : ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وكانت من تربة الكعبة وهي أول ما خلق من الأرض ومنها دحيت كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكان يقتضي ذلك أن يكون مدفنه صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة حيث كانت تربته الشريفة منها وقد رووا أن المرء يدفن حيث كانت تربته ولكن قيل : إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت درة ذرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ما يحاذي مدفنه الكريم بالمدينة ويستفاد من هذا الكلام أنه عليه الصلاة و السلام هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له صلى الله تعالى عليه وسلم قيل : ولكون ذرته أم الخليقة سمي أميا وذكر بعضهم أن الباء لكونه أول حرف فتحت الذرة به فمها حين تكلمت لم تزل الأطفال في هذه النشأة ينطقون به في أول أمرهم ولا بدع فكل مولود يولد على الفطرة قيل : ولعظم ما أودع الله سبحانه وتعالى في الباء من الأسرار إفتتح الله تعالى به كتابه بل إفتتح كل سورة به لتقدم البسملة المفتتحة به على كل سورة ما عدا التوبة وإفتتاحها ببراءة وأول هذه اللفظة الباء أيضا ولكون الهمزة وتسمى ألفا أول حرف قرع أسماعهم في ذلك المشهد كان أول الحروف لكنه لم يظهر في البسملة لسر أشرنا إليه أول الكتاب والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب واتل عليهم عطف على المضمر العامل في إذ أخذ وارد على نمط الأنباء عن الحور بعد الكور أي واقرأ على اليهود أو على قومك كما في الخازن نبأ الذي آتيناه ءآياتنا أي خبره الذي له شأن وخطر وهو كما روى ابن مردويه وغيره من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلعم بن باعوراء وفي لفظ بلعام بن باعر وكان من الكنعانيين وفي رواية عنه وعن أبي طلحة أنه من بني إسرائيل وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب أنه أمية بن أبي الصلت
وأخرج أبو الشيخ عن الحبر أنه رجل من بني إسرائيل له زوجة تدعى البسوس وفي رواية أخرى أخرجها ابن أبي حاتم عنه أنه النعمان بن صيفي الراهب وكونه إسرائيليا أنسب بالمقام كما لا يخفى والأشهر أنه بلعام أو بلعم وكان قد أوتي علما ببعض كتب الله تعالى ودون ذلك في الشهرة أنه أمية وكان قد قرأ بعض الكتب فانسلخ منها أي من تلك الآيات إنسلاخ الجلد من الشاة والمراد أنه خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه إنسلخ منه وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة واستأنس بعضهم بهذه الآية لأن العلم لا ينزع من الرجال حيث قال سبحانه وتعالى : فانسلخ منها ولم يقل عز شأنه فانسلخت منه فأتبعه الشيطان أي لحقه وأدركه كما قال الراغب بعد أن لم يكن مدركا له لسبقه بالإيمان والطاعة وقال الجوهري يقال : أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم وكأن المعنى جعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا لهم وفيه حينئذ مبالغة في اللحوق إذ جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه وهو من الذم بمكان ونظيره في ذلك قوله : وكان فتى من جند إبليس فارتقى به الحال حتى صار إبليس من جنده وصرح بعضهم بأن معناه إستتبعه أي جعله تابعا له وهو على ما قيل متعد لمفعولين حذف ثانيهما أي أتبعه خطواته وقريء فاتبعه من الإفتعال فكان من الغاوين
571
- فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتديا وكيفية ذلك على القول بأنه بلعام أن موسى عليه السلام لما قصد
(9/111)

حرب الجبارين أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله تعالى الأعظم فقالوا له : إن موسى عليه الصلاة و السلام رجل حديد وإن معه جنودا كثيرة وإنه قد جاء ليخرجنا من أرضنا فادع الله تعالى أن يرده عنا فقال : ويلكم نبي الله تعالى ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله تعالى ما أعلم وإني إن فعلت ذهبت دنياي وآخرتي فألحوا عليه فقال : حتى أوامر ربي فأتى في المنام وقيل له : لا تفعل فأخبر قومه فأهدوا له هدية فقبلها ولم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فجعل يدعو على موسى عليه الصلاة السلام وقومه إلا أن الله تعالى جعل يصرف لسانه إلى الدعاء على قومه نفسه فقالوا له : يا بلعام أتدري ما تصنع إنك تدعو علينا فقال : هذا أمر قد غلب الله تعالى عليه فاندلع لسانه ووقع على صدره فقال : يا قوم قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة جملوا النساء وأرسلوهن وأمروهن أن لا يمنعن أنفسهن فإن القوم سفر وإن الله سبحانه وتعالى يبغض الزنا وإن هم وقعوا فيه هلكوا ففعلوا ذلك فافتتن زمرى بن شلوم رأس سبط شمعون ابن يعقون بامرأة منهن تسمى كستى بنت صور فنهاه موسى عليه السلام عن الفاحشة فأبى وأدخلها قبته وزنا بها فوقع فيهم الطاعون حتى هلك منهم سبعون ألفا ولم يرتفع حتى قتلهما فنحاص بن العيزار بن هرون وكان غائبا أول الأمر
وعن مقاتل أن ملك البلقاء قال له : ادع الله تعالى على موسى عليه السلام فقال : إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فدعا بالإسم الأعظم أن لايدخل الله تعالى موسى عليه السلام المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل في التيه فقال موسى : يا رب بأي ذنب هذا فقال سبحانه وتعالى : بدعاء بلعام فقال : رب كما سمعت دعاؤه علي فاسمع دعائي عليه فدعا الله جل شأنه أن ينزع عنه الإسم الأعظم والإيمان فنزع الله تعالى عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء ورد هذا بأن التيه كان روحا وراحة لموسى عليه السلام وإنما عذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام على أن في الدعاء بسلب الإيمان مقالا وأنا أعجب لم لم يدع هذا الشقي بالإسم الأعظم الذي كان يعلمه على ملك البلقاء ليخلص من شره ودعا على موسى عليه السلام ما هي إلا جهالة سوداء وجاء في كلام أبي المعتمر أنه كان قد أوتي النبوة ويرده أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم الكفر عند أحد من العقلاء وكأن مراده من النبوة ما أوتيه من الآيات وذلك كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : من حفظ القرآن فقد طوى النبوة بين جنبيه
وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أنه كان من علماء بني إسرائيل وكان موسى عليه السلام يقدمه في الشدائد ويكرهه وينعم عليه فبعثه إلى ملك مدين يدعوهم إلى الله تعالى وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى عليه السلام واتبع دين الملك وهذه الرواية عندي أولى مما تقدم بالقبول وأما على القول بأنه أمية فهو أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فاتفق أن خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأقام هناك ثماني سنين ثم قدم فلقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام وقرأ عليه سورة يس حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول : ما تقول يا أمية فقال : أشهد أنه على الحق قالوا : فهل تتبعه قال : حتى أنظر في أمره فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلما أخبر بها ترك الإسلام وقال : لو كان نبيا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف
(9/112)

ومات به فأتت أخته الفارعة إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألها عن وفاته فذكرت له أنه أنشد عند موته : كل عيش وإن تطاول دهرا صائر مرة إلى أن تزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في قلال الجبال أرعى الوعولا إن يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوما ثقيلا ثم قال لها عليه الصلاة و السلام : أنشديني من شعر أخيك فأنشدته : لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد من قصيدة طويلة أتت على آخرها ثم أنشدته قصيدته التي تقول فيها : وقف الناس للحساب جميعا فشقي معذب وسعيد والتي فيها عند ذي العرش يعرضون عليه يعلم الجهر والسرار الخفيا يوم يأتي الرحمن وهو رحيم إنه كان وعده مأتيا رب إن تعف فالمعافاة ظني أو تعاقب فلم تعاقب بريا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه وأنزل الله تعالى الآية وأما على القول بأنه النعمان فهو أنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فقدم المدينة فقال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ما هذا الذي جئت به فقال عليه الصلاة و السلام : الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام قال : فأنا عليها فقال عليه الصلاة و السلام : لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها فقال : أمات الله تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا ثم خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن إستعدوا السلاح ثم أتى قيصر وطلب منه جندا ليخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة فمات بالشام طريدا وحيدا
وأما على القول بأنه زوج البسوس فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رجل أعطى ثلاث دعوات مستجابات وكانت له إمرأة تدعى البسوس له منها ولد فقالت : اجعل لي منها واحدة قال : فما الذي تريدين قالت : ادع الله تعالى أن يجعلني أجمل إمرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فجعلها أجمل إمرأة فيهم فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله تعالى أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله تعالى أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث فيها ومن هنا يقال : أشأم من البسوس وفي الخازن أن البسوس اسم لذلك الرجل وليس بشيء وهذه الرواية لا يساعد عليها نظم القرآن الكريم كما لا يخفى والذي نعرفه أن البسوس يضرب بها المثل هي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة بن ذهل الشيباني قاتل كليب وفي قصتها طول وقد ذكرها الميداني وغيره
(9/113)

وعن الحسن وابن كيسان أن المراد بهذا الذي أوتي الآيات فانسلخ منها منافقوا أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولم يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم إيمانا صحيحا ويبعد ذلك إفراد الموصول وعن قتادة أن هذا مثل لمن عرض عليه الهدى واستعدله فأعرض عنه وأبى أن يقبله وفيه بعد مخالفة للروايات المشهورة وأوهن الأقوال عندي قول أبي مسلم : إن المراد به فرعون والمراد بالآيات الحجج الدالة على صدق موسى عليه السلام وكأنه قيل : واتل عليهم نبأ فرعون إذ آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى عليه السلام فلم يقبلها ولو شئنا لرفعناه بها كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الإنسلاخ وما يتبعه وضمير رفعناه للذي وضمير بها للآيات والباء سببية ومفعول المشيئة محذوف هو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة أي لو شئنا رفعه لرفعناه إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات والعمل بما فيها وقيل : الضمير المنصوب للكفر المفهوم من الكلام السابق أي لو شئنا لأزلنا الكفر بالآيات فالرفع من قولهم : رفع الظلم عنا وهو خلاف الظاهر جدا وإن روي عن مجاهد ومثله بل أبعد وأبعد ما نقل عن البلخي والزجاج من إرجاع ضمير بها للمعصية
ولكنه أخلد إلى الأرض أي ركن إلى الدنيا ومال إليها وبذلك فسره السدي وابن جبير وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود ولما في ذلك من الميل فسر به وتفسير الأرض بالدنيا لأنها حاوية لملاذها وما يطلب منها
وقال الراغب : المعى ركن إلى الأرض ظانا أنه مخلد فيها وفسر غير واحد الأرض بالسفالة واتبع هواه في إيثار الدنيا وأعرض عن مقتضى تلك الآيات الجليلة وفي تعليق الرفع بالمشيئة ثم الأستدراك عنه بفعل العبد تنبيه كما قال ناصرالدين : على أن المشيئة سبب لفعله المؤدي إلى رفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة إنتفاء المسبب على إنتفاء سببه وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث إن المشيئة تعلقت به كذلك وكان من حقه كما قال أن يقول : ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه ما ذكر مبالغة لأنه كناية عنه والكناية أبلغ من التصريح وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الإنسلاخ والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من الله تعالى إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك والزمخشري لما رأى أن ظاهر الآية مخالف لمذهبه دال على وقوع الكائنات بمشيئة الله تعالى أخلد إلى التأويل فجعل المشيئة مجازا عن سببها وهو لزوم العمل بالآيات بقرينة الإستدراك بما هو فعل العبد المقابل للزوم الآيات وهو الإخلاد إلى الأرض أي ولو لزمها لرفعناه وهو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء والمصير إلى المجاز قبل أوانه لجواز أن يكون لو شئنا باقيا على حقيقته و أخلد إلى الأرض مجازا عن سببه الذي هو عدم مشيئته الرفع بل الإخلاد ولم يعتمد على عكازته لفوت المقابلة حينئذ وفي الكشف أن حمل المشيئة على ما هي مسببة عنه في زعمه ليس أولى من حمل الإخلاد على ما هو مسبب عنه في زعمنا كيف وقوله سبحانه وتعالى : ولو شئنا إستدراك لقوله : فانسلخ منها على أن الإخلاد هو الميل والإرادة والميل ونحوهما من المعاني ليست من أفعال العباد بالإتفاق نعم الجزم المقارن من فعل القلب فعل القلب عندهم ثم قوله سبحانه وتعالى : من يهد الله وقوله تعالى : ولقد ذرأنا
(9/114)

يؤكدان ما عليه أهل السنة أبلغ تأكيد ولكن الزمخشري لا يعبأ بذلك 1 فمثله كمثل الكلب وهو الحيوان المعروف وجمعه أكلب وكلاب وكلابات كما قال ابن سيده وكليب كعبيد وهو قليل ويجمع أكلب على أكالب وبه يضرب المثل في الخساسة لأنه يأكل العذرة ويرجع في قيئه والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض 2 نعم هو أحسن من الرجل السوء ومما ينسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه : ليت الكلاب لنا كانت مجاورة وليتنا ما نرى ممن نرى أحدا إن الكلاب لتهدأ في مرابضها والناس ليس بهاد شرهم أبدا وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الفقيه منصور أنه كان ينشد لنفسه : الكلب أحسن عشرة وهو النهاية في الخساسة ممن ينازع في الريا سة قبل أوقات الرياسة والمثل بمعنى الصفة كما قال غير واحد فصفته كصفة الكلب وقيل المراد أنه كالكلب في الخسة إن تحمل عليه أي شددت عليه وطردته يلهث أو تتركه على حاله يلهث أي أنه دائم اللهث على كل حال واللهث إدلاع اللسان بالنفس الشديد وذلك طبع في الكلب لا يقدر على نغص الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وإنقطاع فؤاده بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء وإيثار الجملة الإسمية على الفعلية بأن يقال : فصار مثله كمثل الخ للإيذان بدوام إتصافه بتلك الحالة الخسيسة وكمال إستمراره عليها والخطاب في فعلي الشرط لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله والجملتان الشرطيتان قيل لا محل لهما من الإعراب لأنهما تفصيل لما أجمل في المثل وتفسير لما أبهم فيه ببيان وجه الشبه على منهاج قوله تعالى : خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون إثر قوله سبحانه وتعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم وقيل : إنهما في محل النصب على الحالية من الكلب بناء على تحولهما إلى معنى التسوية كما تحول الإستفهام إلى ذلك في قوله تعالى : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم كأنه قيل لاهثا في الحالين والجملة الشرطية كما قدمنا تقع حالا مطلقا وقال صاحب الضوء : إنها لاتكاد تقع كذلك بتمامها بل إذا أريد وقوعها حالا جعلت خبرا عن ذي الحال نحو جاءني زيد وهو أن تسأله يعطك فتجعل جملة إسمية مع الواو لأن الشرط لصدراته لا يكاد يرتبط بما قبله إلا أن يكون هناك فضل قوة نعم يجوز إذا أخرجتها عن حقيقتها سواء عطف عليها النقيض وحينئذ يجب ترك الواو كما فيما نحن فيه أو لم يعطف وحينئذ يجب الواو لئلا يحصل الإلتباس بالشرط الحقيقي نحو آتيك وإن لم تأتني والتشبيه قيل من تشبيه المفرد بالمفرد وقيل وعليه كثير من المحققين إنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما عراه بعد الإنسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والإضطراب وعدم الإستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر في حال الكلب وجاء وقد أشرنا إليه سابقا أن بلعام لما دعا على موسى عليه السلام خرج لسانه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك فوجه الشبه إما عقلي أو حسي ذلك إشارة إلى وصف الكلب أو المنسلخ من الآيات وما فيه من الإيذان بالبعد لما مر غير مرة
(9/115)

مثل القوم الذين كذبوا بأيآتنا يريد كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله تعالى ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وأمانته كذبوه وأعرضوا عن الآيات ولم يؤمنوا بها أو اليهود كما قال غير واحد حيث قرأوا نعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناس بإقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فانسلخوا من حكم التوراة أو الأعم من هؤلاء وهؤلاء من كل من إتصف بهذا العنوان كما في الخازن وبه أقول ويدخل اليهود في ذلك دخولا أوليا فاقصص القصص القصص مصدر سمي به المفعول كالسلب واللام فيه للعهد والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصص ذلك عليهم لعلهم يتفكرون
671
- فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له أي فاقصص راجيا لتفكرهم أو رجاءا لتفكرهم ساء مثلا إستئناف مسوق لبيان كمال قبح المكذبين بعد البيان السابق وساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر ومثلا تمييز مفسر له ويستغنى بتذكير التمييز وجمعه وغيرهما عن فعل ذلك بالضمير وأصلها التعدي لواحد والمخصوص بالذم قوله سبحانه وتعالى : القوم الذين كذبوا بآياتنا وحيث وجب صدق الفاعل والتمييز والمخصوص على شيء واحد والمثل مغاير للقوم لزم تقدير محذوف من المخصوص وهو الظاهر أو التمييز أي ساء مثلا مثل القوم أو ساء أهل مثل القوم
وفي الحواشي الشهابية أنه قريء بإضافة مثل بفتحتين و مثل بكسر فسكون للقوم ورفعه فساء للتعجب وتقديرها على فعل بالضم كقضو الرجل و مثل القوم فاعل أي ما أسوأهم والموصول في محل جر صفة للقوم أو هي بمعنى بئس ومثل فاعل والموصول هو المخصوص في محل رفع بتقدير المضاف أي مثل الذين الخ
وقدر أبو حيان في هذه القراءة تمييزا ورده السمين بأنه لا يحتاج إلى التمييز إذا كان الفاعل ظاهرا حتى جعلوا الجمع بينهما ضرورة وفيه ثلاثة مذاهب المنع مطلقا والجواز كذلك والتفصيل فإن كان مغايرا جاز نحو نعم الرجل شجاعا زيد وإلا إمتنع وبعضهم يجعل المخصوص محذوفا وفي كونه ما هو خلاف وإعادة القوم موصوفا بالموصول مع كفاية الضمير بأن يقال ساء مثلا مثلهم للإيذان بأن مدار السوء ما في حيز الصلة وليربط قوله سبحانه وتعالى : وأنفسهم كانوا يظلمون
771
- به فإنه إما معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة بمعنى جمعوا بين أمرين قبيحين التكذيب وظلمهم أنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم فإن وبالها لا يتخطاها وأيا ما كان ففي ذلك لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم بها وأن ذلك أيضا معتبر في القصر المستفاد من التقديم وصرح الطيبي والقطب وغيرهما أن الجملة على تقدير الإنقطاع تذييل وتأكيد للجملة التي قبلها ويشعر كلام بعضهم أن تقديم المفعول على الوجه الأول لرعاية الفاصلة وعلى الوجه الثاني للإشارة إلى التخصيص وأن سبب ظلمهم أنفسهم هو التكذيب وفيه خفاء كما لا يخفى هذا ثم إن هذه الآيات مما ترمي علماء السوء بثلاثة الأثافى وقد ذكر مولانا الطيبي طيب الله ثراه أن من تفكر في هذا المثل وسائر الأمثال المضروبة في التنزيل في حق المشركين والأصنام من بيت العنكبوت والذباب تحقق
(9/116)

له أن علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك فما أنعاه من مثل عليهم وما هم فيه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون إلى لذاتها وشهواتها من متابعة النفس الأمارة وإرخاء زمامها في مرامها عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك
ونقل عن مولانا شيخ الإسلام شهاب الدين السهروردي أنه كتب إلى الإمام فخرالدين الرازي تغمدهما الله تعالى برضوانه من تعين في الزمان في نشر العلم عظمت نعمة الله تعالى عليه فينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفي الله تعالى مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحرا من العلم ونوازع الهوى المركوز في النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم حطته من أوجه وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله تعالى التي ينفد البحر دون نفادها ويبقى العلم على كمال قوته وهذه رتبة الراسخين ي العلم لا المترسمين به وهم ورثة الأنبياء عليهم السلام كر عملهم على علمهم وتناوب العلم والعمل فيهم حتى صفت أعمالهم ولطفت وصارت مسامرات سرية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال بالعلوم لمكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى الإستعدادات وفي إتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال تعالى : ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات والإرتهان بالموهومات التي أورثت العقول الصغار والمداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من الرجال فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسرح في ميادين القدس فالنزاهة النزاهة من محنة حطام الدنيا والفرار الفرار من إستحلاء نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع الأدوان وطالب الرفيق الأعلى مكلم محدث والتعريفات الإلهية واردة عليه بمكان علمه بصورة الإبتلاء واستئصال شأفة الإبتلاء بصدق الإلتجاء وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي وإنغماسه مع الأنفاس في بحار عين اليقين وغسله نفث دلائل البرهان بنور العيان فالبرهان للأفكار لا للأسرار إلى آخر ما قال ويا لها من موعظة حكيم ونصيحة حميم نسأل الله تعالى أن يهدينا لما أشارت إليه
من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون
871
- تذييل وتأكيد لما تضمنته القصة السابقة على ما يشير إليه كلام بعضهم وقال آخر : إنه تعالى لما أمر نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يقص على أؤلئك الضالين قصص أخيهم ليتفكروا ويتركوا ما هم عليه عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهته سبحانه وتعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الإهتداء لكونها دواعي إلى صرف المكلف إختياره نحو تحصيله حسب ما نيط به خلق الله تعالى إياه والمراد بهذه الهداية ما يوجب الإهتداء قطعا لا لأن حقيقتها الدلالة الموصلة إلى البغية كما يوهمه كلام بعض الأصحاب بل لأنها الفرد الكامل من حقيقة الهداية التي هي الدلالة إلى ما يوصل لإسنادها إلى الله تعالى وتفريع الإهتداء عليها ومقابلتها بالضلال وما معه ولا يخفى أن الهداية بهذا المعنى يلزمها الإهتداء فيكون الإخبار بإهتداء من هداه الله تعالى على ما قيل على حد الإخبار في شعرى شعرى وهو يفيد تعظيم شأن الإهتداء وأنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم وأنه كاف في نيل كل شرف في الأولى والعقبى
واختار بعض المحققين أنه ليس المقصود مجرد الإخبار بما ذكر ليتوهم عدم الإفادة بحسب الظاهر ويصار إلى توجيهه بذلك بل هو قصر الإهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به تعريف الخبر فالمعنى من يخلق
(9/117)

فيه الإهتداء فهو المهتدي لا غير كائنا من كان ولا يخلو عن حسن إلا أنه قد يقال : إن الأول أوفق بالمقابل وإفراد المهتدي رعاية للفظ من وجمع الخاسرين رعاية لمعناها للإيذان بأن الحق واحد وطرق الضلال متشعبة وفي الآية تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى فسبحان من أضل المعتزلة ولقد ذرأنا كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل والذرأ بالهمزة الخلق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره أي والله تعالى لقد خلقنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس وهم المصرون على الكفر في علمه سبحانه وتعالى واللام للعاقبة عند الكثير كما في قوله تعالى : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك وقول الشاعر : له ملك ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب وفي الكشاف أنهم جعلوا لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها وأشار إلى أن ذلك تذييل لقصة اليهود بعد ما عد من قبائحهم تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كأنه قيل : إنهم من الذين لا ينجع فيهم الإنذار فدعهم واشتغل بأمر نفسك ومن هو على دينك في لزوم التوحيد والآية على ما قال من باب الكناية الإيمائية عند القطب قدس سره ويفهم كلامه أن الذي دعا الزمخشري إلى ذلك لزوم كون الكفر مرادا لله تعالى إذا أريد الظاهر وهو خلاف مذهبه وأنت تعلم أن الكثير من أهل السنة تأولوا الآية بحمل اللام على ما علمت لقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فإن تعليل الخلق بالعباد يأبى تعليله بجهنم ودخولها نعم ذهب ابن عطية منا إلى الحمل على الظاهر وكون اللام للتعليل وادعى أناس أن التأويل مخالف للأحاديث الواردة في الباب كبعض الأحاديث السابقة في آية أخذ الميثاق وما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبدالرحمن بن قتادة قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قائل : فعلى ماذا العمل قال : على موافقة القدر وما أخرجه محيي السنة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت : أدرك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار فقلت : يا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : وما يدريك إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم إلى غير ذلك
وإلى هذا ذهب الطيبي وأيده وادعى أن فائدة القسم التنبيه على قلع شبه من عسى أن يتصدى لتأويل الآية وتحريف النص القاطع ونقل عن الإمام أن الآية حجة لصحة مذهب أهل السنة في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات لأنه سبحانه وتعالى صرح بأنه جل وعلا خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد لبيان الله تعالى ولا يخفى أن الحمل على الظاهر مخالف لظاهر الآية التي ذكرناها وفي الكتاب الكريم كثير مما يوافقها على أن التعليل الحقيقي لأفعاله تعالى يمنع عنه في المشهور الإمام الأشعري وأصحابه
وقال بعض الجلة : المراد بالكثير الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إى ذلك بل لعلمه سبحانه وتعالى بأنهم لا يصرفون إختيارهم نحو الحق
(9/118)

أبدا بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر فبهذا الإعتبار جعل خلقهم مغيا بجهنم كما أن جمع الفريقين بإعتبار إستعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيا بها كما نطق به قوله سبحانه وتعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون انتهى وعندي أنه لا محيص من التأويل في هذا المقام فتدبر ولا تغفل ثم إن الجار الأول متعلق بما عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما في توابعه من نوع طول يؤدي توسيطه بما بينهما وتأخيره عنهما إلى الإخلال بجزالة النظم الجليل والجار الثاني متعلق بمحذوف وقع صفة لكثير وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الإتصاف بما ذكر من الصفات وأكثر عددا وأقدم خلقا ولا يشكل أنهم خلقوا من النار فلا يشق عليهم دخولها ولا يضرهم شيئا لأنا نقول في دفع ذلك على علاته خلقهم من النار بمعنى أن الغالب عليهم الجزء الناري لا يأبى تضررهم بها فإن الإنس خلقوا من الطين ويتضررون به ويوضح ذلك أن حقيقة النار لم تبق فيهم على ما هي عليه قبل خلقهم منها كما أن حقيقة الطين لم تبق في الإنس على ما هي عليه قبل خلقهم منها على أن المخلوق من نار هو البدن والمعذب هو الروح وليست مخلوقة منها وعذاب الروح في قالب ناري معقول كعذابها في قالب طيني وقوله تعالى : لهم قلوب في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثير وقوله سبحانه وتعالى : لايفقهون بها في محل الرفع على أنه صفة لقلوب مبينة لكونها غير معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لما ينبغي أن يكون أو هي مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها كذلك وأريد بالقلب اللطيفة الإنسانية وبالفقه الفهم وهو المعنى اللغوي له يقال : فقه بالكسر أي فهم وفقه بالضم إذا صار فقيها أي فهما أو عالما بالفقه بالمعنى العرفي المبين في كتب الأصول والفعل هنا متعد إلا أنه حذف مفعوله للتعميم أي لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئا مما شأنه أن يفهم فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا وكذا الكلام في قوله جل وعلا : ولهم أعين يبصرون بها فيقال : المراد لايبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق إندراجا أوليا كذا يقال في قوله تبارك وتعالى : ولهم آذان لا يسمعون بها حيث يراد لا يسمعون بها شيئا من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف وأمر الوصفية في الأخيرين مثله في الأول والمراد بالإبصار والسماع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس باشبح والصوت كما هو وظيفة الأنعام وجاء في كلامهم نحو فلان لا يسمع الخنا أي لا يعتني به ولا يصرف سمعه إليه ولا يقبله ومن ذلك قول الشاعر : وعوراء الكلام صممت عنها وإني لو أشاء لها سميع وفي إعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع إنتظام الكلام بدون ذلك بأن يقال : وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها ما لا يخفى من تقرير سوء حالهم وكذا في إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصف كل بما وصف به دون سلبها عنهم إبتداء بأن يقال : ليس لهم قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها ما لا يخفى على ما قيل من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية وتفسير الآية على هذا الوجه
(9/119)

وإعتبار حذف المفعول لما ذكرنا من الأفعال الثلاثة هو الذي إختاره بعض المحققين لما فيه من الإفصاح بكنه حالهم على ما أشار إليه واختار بعضهم التخصيص أي لا يفقهون الحق ودلائله ولا يبصرون ما خلق الله تعالى أبصار إعتبار ولا يسمعون الآيات والمواعظ سماع تأمل وتفكر وأيا ما كان فالمراد أنهم لم يصرفوا ما خلق لهم لمل خلق له فكأنهم خلقوا كذلك ولو أريدت الحقيقة لم يتوجه الذم ولم تقم الحجة ومن ادعاها قال : إن ذلك بسبب إفاضة الحكيم حسب الإستعداد الأزلي الغير المجعول فالذم بذلك لدلالته على سوء الإستعداد لأنه كالأثر له وبالجملة لا تقوم الآية دليلا للجبر الصرف ولو ضم إليها ما قبل والجبر المتوسط مما قال به أهل الحق وهو لبن خالص أخرج من بين فرث ودم وحاصله عند بعض المشايخ أن العبد مختار مجبور بإختياره ولعل كلام حجة الإسلام الغزالي حيث قال من كلام طويل : فإن قلت : إني أجد في نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري أجبنا وقلنا : هب إنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول : وهل تجد من نفسك إنك إن شئت أن تشاء شئت وإن شئت أن لا تشأ لم تشأ ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار انتهى يرجع إلى ما ذكرنا وقد إستوفينا الكلام في هذا البحث في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وهو لعمري من مشكلات المباحث التي سأل عنها الإيرانيون
أولئك أي الموصوفون بالأوصاف المذكورة كالأنعام أي في إنتفاء الشعور على الوجه المذكور وقيل في أن مشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها وكأن وجه الشبه مدرك مما قبل فتكون الجملة كالتأكيد له فلذا فصلت عنه بل هم أضل من الأنعام لأنها تدرك ما من شأنها أن تدركه من المنافع والمضار فتجهد في جلبها وسلبها غاية ما يمكنها وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لم يميزوا بين المنافع والمضار بل يعكسون الأمر فيتركون النعيم ويقدمون على العذاب الأليم وقيل : لأنها إذا زجزت إنزجرت وإذا أرشدت إلى طريق إهتدت وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من الخيرات وقيل : لأنها لم تعط قدرة على تحصيل الفضائل وهؤلاء أعطوا ولم ينتفعوا بما أعطوا ولأنها وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية وهؤلاء عصاة فهم أسوأ حالا منها وقال بعضهم : لأنها تعرف صاحبها وتذكره وتطيعه وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه وبالجملة كون هؤلاء أضل مما لاشك فيه ووجوه ذلك كثيرة ولا تنافي بين الخبرين كما لا يخفى
أولئك أي المنعوتون بما ذكر من مثلية الأنعام والشرية منها هم الغافلون
971
- أي الكاملون في الغفلة عما فيه صلاحهم وقال عطاء : عما أعد الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب وجعل بعضهم هذه الجملة كالبيان للجملة قبلها فلذا فصلت عنها ولله الأسماء الحسنى قيل : تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملة مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه وتعالى وعما يليق بشأنه عز شأنه إثر بيان غفلتهم التامة وضلالتهم الطامة وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لذكر ذلك
والمراد بالأسماء كما قال حجة الإسلام العزالي وغيره الألفاظ المصوغة الدالة على المعاني المختلفة والحسنى أنيث الأحسن أفعل تفضيل ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها لأبنائها عن أحسن المعاني وأشرفها
(9/120)

وقيل : المراد بالأسماء الصفات ويكون من قولهم طار إسمه في البلاد أي صيته ونعته والجمهور على الأول لقوله عز إسمه : فادعوه بها لأنه إما من الدعوة بمعنى التسمية كقولهم : دعوته زيدا أو بزيد أي سميته أو من الدعاء بمعنى النداء كقولهم : دعوت زيدا أي ناديته وعلى التقديرين إنما يلائم ظاهر المعنى الأول على ما قيل
وذروا الذين يلحدون في أسمائه أي يميلون وينحرفون فيها عن الحق إلى الباطل يقال : ألحد إذا مال عن القصد والإستقامة ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح فإنه في وسطه وقرأ حمزة هنا وفي فصلت يلحدون بالفتح من الثلاثي والمعنى واحد وروى أبو عبيدة عن الأحمر أن الحد بمعنى مارى وجادل ولحد بمعنى مال وانحرف واختار الواحدي قراءة الجمهور قال : ولا يكاد يسمع لأحد بمعنى ملحد والإلحاد في أسمائه سبحانه أن يسمى بما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا كما في قول أهل البدو يا أبا المكارم يا أبيض الوجه يا سخي ونحو ذلك فالمراد بالترك المأمور به الإجتناب عن ذلك وباسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه تعالى حقيقة وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن يقال : يلحدون بها وما قيل : إنه أريد بالأسماء التسميات فلذا ترك الإضمار ليس بشيء ومن فسر الإلحاد في الأسماء بما ذكر ذهب إلى أن أسماء الله تعالى توقيفية يراعى فيها الكتاب والسنة والإجماع فكل إسم ورد في هذه الأصول جاز إطلاقه عليه جل شأنه وما لم يرد فيها لا يجوز إطلاقه وإن صح معناه وبهذا صرح أبو القاسم القشيري في مفاتيح الحجج ومصابيح النهج وفي أبكار الأفكار للآمدي ليس مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى دليلا عقليا ولا قياسا لفظيا وإلا لكان تسمية الرب تعالى فقيها عاقلا مع صحة معاني هذه التسميات في حقه وهي العلم والفقه أولى من تسميته سبحانه وتعالى بكثير مما يشكل طاهره بل مأخذ ذلك إنما هو الإطلاق والأذن من الشارع فكل ما ورد الأذن به منه جوزناه وما ورد المنع منه منعناه وما لم يوجد فيه إطلاق ولا منع فقد قال بعض أصحابنا بالمنع منه ليس القول بالمنع مع عدم الدليل أولى من الآخر بل الحق في ذلك هو الوقف وهو أنا لا نحكم بجواز ولا منع والمتبع في ذلك كله الظواهر الشرعية كما هو المتبع في سائر الأحكام وهو أن يكون ظاهرا في دلالته وفي صحته ولا يشترط فيه القطع كما ذهب إليه بعض الأصحاب لكون المنع والجواز من الأحكام الشرعية والتفرقة بين حكم وحكم في إشتراط القطع في أحدهما دون الآخر تحكم لا دليل عليه انتهى وأنت تعلم أن المشهور التفرقة بين الأحكام الأصولية والإعتقادية والأحكام الفرعية العملية كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريبا وخلاصة الكلام في هذا المقام أن علماء الإسلام إتفقوا على جواز إطلاق الأسماء والصفات على الباري تعالى إذا ورد بها الأذن من الشارع وعلى إمتناعه إذا ورد المنع عنه واختلفوا حيث لا إذن ولا منع في جواز إطلاق ما كان سبحانه وتعالى متصفا بمعناه ولم يكن إطلاقه موهما نقصا بل كان مشعر بالمدح فمنعه جمهور أهل الحق مطلقا للخطر وجوزه المعتزلة مطلقا ومال إليه القاضي أبوبكر لشيوع إطلاق نحو خدا وتكرى من غير نكير فكان إجماعا ورد بأن الإجماع كاف في الأذن الشرعي إذا ثبت
(9/121)

واعترضه أيضا إمام الحرمين بأنه قول بالقياس وهو حجة في العمليات والأسماء والصفات من العمليات وروى بعضهم عنه التوقف وذكر في شرح المواقف أن القاضي أبابكر ذهب إلى أن كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه إذا لم يكن موهما لما لا يليق بذاته تعالى ثم قال : وقد يقال : لابد مع نفي ذلك الإبهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقف وجعل مذهب المعتزلة غير مذهبه والمشهور ما ذكرناه
وفصل الغزالي قدس سره فجوز إطلاق الصفة وهو ما دل على معنى زائد على الذات ومنع إطلاق الإسم وهو ما يدل على نفس الذات محتجا بإباحة الصدق وإستحبابه والصفة لتضمنها النسبة الخبرية راجعة إليه وهي لا تتوقف إلا على تحقق معناها بخلاف الإسم فإنه لا يتضمن النسبة الخبرية وأنه ليس إلا للأبوين أو من يجري مجراهما وأجيب بأن ذلك حيث لا مانع من إستعمال اللفظ الدال على تلك النسبة والخطر قائم وأين التراب من رب الأرباب
واختار جمع من المتأخرين مذهب الجمهور قالوا : فيطلق ما سمع على الوجه الذي سمع ولا يتجاوز ذلك إلا في التعريف والتنكير سواء أوهم كالصبور والشكور والجبار والرحيم أو لم يوهم كالقادر والعالم والمراد بالسمعي ما ورد به كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع لأنه غير خارج عنهما في التحقيق بخلاف الضعيفة والقياس أيضا إن قلنا : إن المسئلة من العمليات أما إن قلنا : إنها من العمليات فالسنة الضعيفة كالحسنة إلا الواهية جدا والقياس كالإجماع وأطلق بعضهم المنع في القياس وهو الظاهر لإحتمال إبهام أحد المترادفين دون الآخر
وجعل بعضهم من الثابت بالقياس المترادفات من لغة أو لغات وليس بذاك ومن الثابت بالإجماع الصانع والموجود والواجب والقديم قيل : والعلة وقيل : الصانع والقديم مسموعان كالحنان والمنان ونص بعض المحققين على أنه يمنع إطلاق غير المضاف إذا كان مرادفا للمضاف المسموع قياسا كما يمنع إطلاق ما ورد على وجه المشاكلة والمجاز وأنه لا يكفي ورود الفعل والمصدر ونحوهما في صحة إطلاق الوصف فلا يطلق الحارث والزارع والرامي والمستهزيء والمنزل والماكر عليه سبحانه وتعالى وإن جاءت آيات تشعر بذلك
هذا ومن الناس من قال : إن الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة أقسام : الأول ما يدل على صفات واجبة وهو أصناف : منها ما يصح إطلاقه مفردا لا مضافا نحو الموجود والأزلي والقديم وغيرها ومنها ما يصح إطلاقه مفردا وضافا إلى ما هجنة فيه نحو الملك والمولى والرب والخالق ومنها ما يصح مضافا غير مفرد نحو يا منشيء الرفات ومقيل العثرات والثاني ما يدل على صفات ممتنعة نحو اليد والوجه والنزول والمجيء فلا يصح إطلاقه البتة وإن ورد به السمع كان التأويل من اللوازم والثالث ما لايدل على صفات واجبة ولا ممتنعة بل يدل على معان ثابتة نحو المكر والخداع وأمثالهما فلا يصح إطلاقه إلا إذا ورد التوقيف ولا يقال : يا مكار يا خداع البتة وإن كان مذكورا ما يدل عليه كقوله تعالى : ومكروا ومكر الله انتهى ولا يخفى ما فيه وذكر الطيبي أن الحق الإعتماد في الإطلاق على الإطلاق على التوقيف وأن كل ما أذن الشارع أن يدعى به الله عز و جل سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو إسم وكل ما نسب إليه سبحانه وتعالى من غير ذلك الوجه سواء كان مؤولا أو غير مؤول فهو وصف وجعل الحي وصفا والكريم إسما وادعى أنه يقال يا كريم ولا يقال يا حي مع ورود اللفظين فيه سبحانه وتعالى فيما أخرجه أبو داود والترمذي من
(9/122)

حديث سلمان رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : الله تعالى حي كريم يستحي إذا رفع العبد يده أن يردها صفرا حتى يضع فيها خيرا وذكر أن التعريف في الأسماء للعهد وأنه لابد من المعهود لأنه سبحانه وتعالى أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها وأوعد على ذلك وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن لله تسعة وتسعين إسما من حفظها دخل الجنة وفي رواية أحصاها وفي أخرى إن لله تعالى تسعة وتسعين إسما مائة إلا واحدا وأوتي فيه بالفذلكة والتأكيد لئلا يزاد على ما ورد وجاءت معدودة في بعض الرويات بقوله عليه الصلاة و السلام هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق الباريء المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبديء المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعال البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور
ونقل عن أهل البيت رضي الله تعالى عنهم غير ذلك وأخذوها من القرآن وجاء أيضا عندنا ما يخالف هذه الرواية في بعض الأسماء
وذكر غير واحد من العلماء أن هذه الأسماء منها ما يرجع إلى صفة فعلية ومنها ما يرجع إلى صفة نفسية ومنها ما يرجع إلى صفة سلبية ومنها ما اختلف في رجوعه إلى شيء مما ذكر وعدم رجوعه وهو الله والحق أنه إسم للذات وهو الذي إليه يرجع الأمر كله ومن هنا ذهب الجل إلى أنه الإسم الأعظم وتنقسم قسمة أخرى إلى ما لايجوز إطلاقه على غيره سبحانه وتعالى كالله والرحمن وما يجوز كالرحيم والكريم وإلى ما يباح ذكره وحده كأكثرهما وإلى ما لا يباح ذكره كذلك كالمميت والضار فإنه لا يقال : يا مميت يا ضار بل يقال : يا محيي يا مميت ويا نافع يا ضار والذي أراه أنه لا حصر لأسمائه عزت أسماؤه في التسعة والتسعين ويدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من أصابه هم أو حزن فليقل : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي في يدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل إسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو إستأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وذهاب همي وجلاء حزني الحديث وهو صريح في عدم الحصر لمكان أو وأو
وحكى محيي الدين النووي إتفاق العلماء على ذلك وأن المقصود من الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة وهو لا ينافي أن له تعالى أسماء غيرها غير موصوفة بذلك ونقل أبوبكر ابن العربي عن بعضهم أن له سبحانه وتعالى ألف إسم ثم قال : وهذا قليل وهو كما قال وعن بعضهم أنها أربعة آلاف وعن بعض الصوفية أنها لا تكاد تحصى والمختار عندي عدم توقف آطلاق الأسماء المشتقة الراجعة إلى نوع من الصفات النفسية والفعلية وكذا الصفات السلبية عليه تعالى على التوقيف الخاص بل يصح الإطلاق بدونه لكن بعد التحري التام وبذل الوسع فيما هو نص في التعظيم والتحفظ إلى الغاية عما يوهم أدنى أدنى نقص
(9/123)

معاذ الله تعالى في حقه سبحانه لأنا مأذونون بتعظيم الله تبارك وتعالى بالأقوال والأفعال ولم يحد لنا حد فيه فمتى كان في الإطلاق تعظيم له عز و جل كان مأذونا به والتكليف منوط بالوسع لايكلف الله نفسا إلا وسعها فبعد بذل الوسع في التعظيم يرتفع الحرج
وحديث الخطر الذي يذكرونه يستدعي أن لايصح إلا إطلاق ما ثبت تواترا إطلاقه عليه جل وعلا أو إجتمعت الأمة على إطلاقه لأن الثبوت فيما عدا ذلك ظني والخطر فيه يقيني والأسماء المتقدمة آنفا لم يوجد في كثير من الروايات ذكرها وهي مشهورة من حديث الترمذي وقد قال : إنه حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديثه وهو ثقة عند أهل الحديث وأنت تعلم أن هذا القدر لا يثبت به اليقين بل ولا يمثله ومثله على أن عد بعض أهل البيت كما في الدر المنثور للتسعة والتسعين وكذا غيرهم كما لا يخفى على المتتبع يخالف هذا العد وسند ذلك الخبر وإن لم يكن في المتانة كسند هذا إلا أنه لا أقل يورث الشبهة اللهم إلا أن يقال : حصل الإجماع على ما في حديث الترمذي دون ما في حديث غيره المخالف له لكن لم أقف على من حكى ذلك
ثم إن هذه الأسماء المأخوذة مما ذكرنا لا مانع من الدعاء بها ومن إجرائها إخبارا عنه سبحانه وتعالى أو أوصافا له جل وعز وكلها حسنى وتسميتها بذلك من جهة أنها بالمعنى المراد منها بالنسبة إليه تعالى مختصة به جل وعلا إختصاص الإسم ولا تطلق على غيره بالمعنى المراد منها حال إطلاقها على الله تعالى وإنما تطلق على الغير بمعنى آخر ليس بينه وبين ذلك المعنى إلا كما بين السواد والبياض فإن بينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه لكنهما متشاركان في العرضية واللونية والمدركية بالبصر وأمور أخر سوى ذلك وبهذا لا يعد البياض مماثلا للسواد أو بالعكس لأن المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية وهي مفقودة هنا وكذا هي مفقودة بين العلم مثلا الذي يوصف الله تعالى كما لا يعرف حقيقة الله تعالى إلا الله تعالى في الدنيا والآخرة نعم لو قال قائل : لا أعرف إلا الله تعالى صدق ولكن من جهة أخرى ونهاية معرفة العارفين العجز عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه فإذا إنكشف لهم ذلك فقد عرفوا وبلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته سبحانه وتعالى
وهذا الذي أشار إليه الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه حيث قال : العجز عن درك الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد البشر صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله : لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فإنه عليه الصلاة و السلام أراد إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك وإنما أنت المحيط به وحدك لا أني أعرف منك ما لا أستطيع التعبير عنه بلساني وتفاوت درجات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة والأولياء في المعرفة إنما هو بالوقوف على عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساذ وحينئذ يتفاوتون في معرفة الأسماء والصفات ومعرفة أن زيدا عالم مثلا ليست كمعرفة تفاصيل علومه كما لا يخفى ولا يرد على ما ذكرنا من الإختصاص أنه يأباه تقسيمهم أسماءه تعالى إلى مختص كالرحمن وغير مختص كالرحيم لأن مرادهم بالمختص ما أعتبر في مفهمومه المطابقي ما يمنع من الإطلاق على الغير وقد نص البيضاوي على أن معنى الرحمن المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره تعالى فلذا لا يوصف به وبغير المختص ما لم يعتبر في مفهومه ذلك بل أعتبر فيه معنى عام فيطلق لذلك على الله تعالى وعلى غيره لكن حال إطلاقه عليه تعالى يراد الفرد الكامل من ذلك المفهوم الذي لا يليق
(9/124)

ولا يمكن أن يثبت إلا لله عز و جل وقد يقال : لا فرق بين الأسماء المشتقة التي يوجد في الغير مبدأ إشتقاقها في الجملة من حيث أن إعتبار ذلك الوجود يقتضي عدم الإختصاص وإعتبار الوجود على أتم وجه وأكمله يقتضي الإختصاص من غير تفرقة بين إسم وإسم إلا أنا حكمنا بالإختصاص في بعض وبعدمه في آخر لأمر آخر كالإستعمال وعدم الإستعمال وأذن الشارع وعدم إذنه فلا يأبى ما قلناه أيضا نعم إعتبار الإختصاص بالله تعالى في الأسماء المذكورة في الآية لا يتأتى فيها بناء على أن تقديم الخبر يفيد الإختصاص أيضا فيكون المعنى لله لا لغيره الأسماء التي تختص به تعالى ولا تطلق على غيره ويؤل ذلك إلى أن الأسماء المختصة به سبحانه وتعالى مختصة به جل وعلا وهو مما لا فائدة فيه وحينئذ لا بد إما من حمل الأسماء على الصفات كما قال البعض ومعنى الحسنى الكاملة من كل وجه أي لله تعالى لا لغيره الصفات الكاملة لأن صفات غيره سبحانه وتعالى كيفما كانت ناقصة لا أقل من أن العدم محيط بطرفيها ومعنى فادعوه بها الخ سموه بما يشتق منها أو نادوه بذلك وذروا الذين يميلون عن الحق في صفاته فيسمون بها غيره أو يدعون معتقدين الشركة ودعوهم وإلحادهم وأما من إرتكاب ضرب من التجوز وما ذكره الطيبي من أن التعريف في الأسماء للعهد إلى آخر ما قاله مما لا أظنك في مرية من ركاكته فتأمل
وجوز أن يراد بالإلحاد العدول عن تسميته تعالى ببعض أسمائه الكريمة كما قالوا : وما الرحمن إنا لا نعرف إلا رحمن اليمامة وعليه فالمراد بالترك الإجتناب كما أريد أولا بالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة فالمعنى سموه تعالى بجميع أسمائه واجتنبوا إخراج بعضها من البين وأن يراد به إطلاقها على الأصنام وإشتقاق أسمائها منها كاللات من الله تعالى والعزى من العزيز فالمراد من الأسماء أسماؤه تعالى حقيقة والإظهار في موضع الإضمار مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادهم في نفس الأسماء من غير إعتبار الوصف والمراد بالترك الإعراض وعدم المبالاة بما فعلوا ترقبا لنزول العقوبة فيهم عن قريب كما يشير إليه قوله تعالى : سيجزون ما كانوا يعملون
81
- فإنه إستئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل : لم لا نبالي فقيل : لأنه سينزل بهم عقوبة وتشتفون عن قريب والمعنى على الأمر بالإجتناب إجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم ما يصيبهم فإنه سينزل بهم عقوبة ذلك وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
181
- قيل بيان إجمالي لحال المذكورين من الثقلين الموصوفين بما ذكر من الضلال على أتم وجه وهو عند جمع من المحققين على ما ظهر للعلامة الطيبي عطف على جملة ولقد ذرأنا وقوله سبحانه وتعالى : يهدون الخ إذا أخذ بجملته وزبدته كان كالمقابل لقوله تعالى : لهم قلوب إلى هم الغافلون وكلتا الآيتين كالنشر لقوله عز شأنه : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون وهو كالتذييل لحديث الذي أوتي آيات الله تعالى والأسماء العظام فانسلخ منها وقوله تعالى : ولله الأسماء الحسنى إعتراض لمناسبة حديث الأسماء حديث أسماء الله تعالى العظام التي أوتيها ذلك المنسلخ كما في بعض الروايات وقد تعلق بقوله عز شأنه : أولئك هم الغافلون بإعتبار أنه كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله تعالى وعن أسمائه الحسنى وأرباب الذوق والمشاهدة يجدون ذلك من أرواحهم لأن القلب إذا غفل عن ذكر الله تبارك وتعالى وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في نار الحرص ولا يزال يهوي من ظلمة إلى ظلمة حتى ينتهي إلى دركات الحرمان وبخلاف ذلك إذا انفتح على
(9/125)

القلب باب الذكر فإنه يقع في جنة القناعة ولا يزال يترقى من نور إلى نور حتى ينتهي إلى أعلا درجات الإحسان ومن إما نكرة موصوفة أو بمعنى الذي والمراد بعض من خلقنا أو بعض ممن خلقنا طائفة جليلة كثيرة يهدون الناس ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الإستقامة وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجوزون فيها أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : هذه أمتي وأخرج عن قتادة أنه قال : بلغنا أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية : هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام وروى الشيخان عن معاوية والمغيرة بن شعبة قالا : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك
واستدل الجبائي الآية على صحة الإجماع في كل عصر سواء في ذلك عصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم وغيره إذ لو إختص لم يكن لذكره فائدة لأنه معلوم وعلى أنه لا يخلو عصر عن مجتهد إلى قيام الساعة لأن المجتهدين هم أرباب الإجماع قيل : وهو مخالف لما روي من أنه لا تقوم الساعة إلا على أشرار الخلق ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله وأجيب بأن ذلك الزمان ملحق بيوم القيامة لمعانقته له والمراد عدم خلو العصر عن مجتهد فيما عداه وقيل : المراد من الخبرين الإشارة إلى غلبة الشر فلا ينافي وجود النزر من أهل ذلك العنوان والواحد منهم كاف وهو حينئذ الأمة والإقتصار على نعتهم بهداية الناس للإيذان بأن إهتداءهم في أنفسهم أمر محقق غني عن التصريح والذين كذبوا بأيآتنا ولم تنفعهم هداية الهادين كأهل مكة وغيرهم واقتصر بعضهم على الأولين والعموم أولى وإضافة الآيات إلى ضمير العظمة لتشريفها وإستعظام الإقدام على تكذيبها والموصول في محل الرفع على أنه مبتدأ خبره جملة سنستدرجهم أي سنستدنيهم البتة إلى الهلاك شيئا فشيئا وجوز أن يكون في محل النصب بفعل محذوف يفسره المذكور والإستدراج إستفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون إستصعادا أو بالعكس فيكون إستنزالا وقد إستعمله الأعشى في قوله : فلو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أباب السماء بسلم ليستدرجنك القول حتى تهره وتعلم أني عنكم غير مفحم في مطلق معناه وقال بعضهم : هو إستفعال من درج إما بمعنى صعد ثم اتسع فيه فاستعمل في كل نقل تدريجي سواء كان بطريق الصعود أو الهبوط أو الإستقامة وإما بمعنى مشى مشيا ضعيفا ومنه درج الصبي وإما بمعنى طوى ومنه أدرج الكتاب ثم أستعير لطلب كل نقل تدريجي من حال إلى حال من الأحوال الملائمة للمنتقل الموافقة لهواه وإستدراجه تعالى إياهم بإدرار النعم عليهم مع أنهما كهم في الغي ولذا قيل : إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وهذا يمكن حمله على الإستصعاد بإعتبار نظرهم وزعمهم أن متواترة النعم أثرة من الله تعالى وهو الظاهر وعلى الإستنزال بإعتبار الحقيقة فإن الجبلة الإنسانية في أصل الفطرة سليمة متهيئة لقبول الحق لقضية كل مولود يولد على الفطرة فهو في بقاع التمكن على الهدى والدين
(9/126)

فإذا أخلد إلى الأرض واتبع الشهوات وارتكب المعاصي والسيآت ينزل درجة درجة إلى أن يصير أسفل السافلين وأيا ما كان فليس المطلوب إلا تدرجهم في مدراج المعاصي إلى أن يحق عليهم كلمة العذاب الأخروي أو الدنيوي على ما قيل على أفظع حال وأشنعها وإدرار النعم وسيلة إلى ذلك من حيث لا يعلمون أنه كذلك بل يحسبون أنه أثرة من الله تعالى وقيل : لايعلمون ما يراد بهم والجار والمجرور متعلق بمضمر وقع صفة لمصدر الفعل المذكور أي سنستدرجهم إستدراجا كائنا من حيث لا يعلمون وأملي لهم أي أمهلهم والواو للعطف وما بعده معطوف على سنستدرجهم غير داخل في حكم السين لما أن الإمهال ليس من الأمور التدريجية كالإستدراج الحاصل في نفسه شيئا فشيئا بل هو مما يحصل دفعة والحاصل بطريق التدريج آثاره وأحكامه ليس إلا ويلوح بذلك تغيير التعبير بتوحيد الضمير مع ما فيه من الإفتنان المنبىء عن مزيد الإعتناء بمضمون الكلام لإبتنائه على تجديد القصة والعزيمة وجعله غير واحد داخلا في حكمها ولا يخفى التوحيد حينئذ وقيل : إنه كلام مستأنف أي وأنا أملي لهم والخروج من ذلك الضمير إلى ضمير المتكلم المفرد شبيه الإلتفات واستظهر أنه من التلوين
وما قيل : إن هذا للإشعار بأن الإمهال بمحض التقدير الإلهي وذاك للإشارة إلى أن الإستدراج بتوسط المدبرات ليس بشيء لمكان لاتحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إن كيدي متين
381
- تقرير للوعيد وتأكيد له والمتين من المتانة بمعنى الشدة والقوة ومنه المتن للظهر أو اللحم الغليظ في جانبي الصلب وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الكيد بالمكر وفسره بعضهم بالإستدراج والإملاء مع نتيجتهما وتسميته كيدا لما أن ظاهره لطف وباطنه قهر وبعضهم بنفس الأخذ فقط فتسميته حينئذ بذلك قيل : لكون مقدماته كذلك وقيل : لنزوله بهم من حيث لا يشعرون وإيا ما كان فالمعنى إن كيدي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة والآية حجة لأهل السنة في مسألة القضاء والقدر وادعى بعض المفسرين أنها نزلت في المستهزئين من قريش أمهلهم الله تعالى ثم أخذهم في يوم بدر ثم إنه سبحانه وتعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين الغافلين عن آياته والإيمان برسوله عليه الصلاة و السلام عقب ذلك على ما قيل بالجواب عن شبهتهم وإنكار عدم تفكرهم فقال عز من قائل : أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة فالهمزة للإنكار والتوبيخ والواو للعطف على مقدر يستدعيه السياق والسباق والخلاف في مثل هذا التركيب مشهور وقد تقدمت الإشارة إليه
و ما قال أبو البقاء : تحتمل أن تكون إستفهامية إنكارية في محل الرفع بالإبتداء والخبر بصاحبهم وأن تكون نافية إسمها جنة وخبرها بصاحبهم وجوز أن تكون موصولة وفيه بعد والجنة مصدر كالجلسة بمعنى الجنون وليس المراد به الجن كما في قوله تعالى : من الجنة والناس لأنه يحتاج إلى تقدير مضاف أي مس جنة أو تخبطها والتنكير للتقليل والتحقير والتفكر التأمل وأعمال الخاطر في الأمر وهو من أفعال القلوب فحكمه حكمها في أمر التعليق ومحل الجملة على الوجهين النصب على نزع الخافض ومحل الموصول نصب على ذلك في الوجه الأخير أي أكذبوا ولم يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائن بصاحبهم الذي هو أعظم الهادين للحق وعليه أنزلت الآيات أو في أنه ليس بصاحبهم من جنة حتى يؤديهم التفكر في ذلك إلى الوقوف
(9/127)

على صدقه وصحة نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الأيات أو في الذي بصاحبهم من جنة بزعمهم ليعلموا أن ذلك ليس من الجنة في شيء فيؤمنواواختار الطبرسي أن الكلام قد تم عند قوله تعالى : أولم يتفكروا أي أكذبوا ولم يتفكروا في أقواله وأفعاله أو أولم يفعلوا التفكر ثم ابتدىء فقيل : أي شيء بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت أو قيل : ليس بصاحبهم شيء منها والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والتعبير عنه عليه الصلاة و السلام بذلك لتأكيد النكير وتشديده لأن الصحبة مما يطلعهم على نزاهته صلى الله تعالى عليه وسلم عن شائبة مما ذكر والتعرض لنفي الجنون عنه عليه الصلاة و السلام مع وضوح إستحالة ثبوته له لما أن المتكلم بما هو خارق لا يصدر إلا عمن به مس من الجنة كيفما اتفق من غير أن يكون له أصل أو عمن له تأييدا إلهي يخبر به عن الغيوب وإذ ليس به عليه الصلاة و السلام شيء من الأول تعين الثاني وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى ووقائعه إلى الصباح حتى قال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهوت حتى أصبح فأنزل الله تعالى الآية وعليه فالتصريح بنفي الجنون للرد على عظيمتهم الشنعاء عند من له أدنى عقل والعبير بصاحبهم وارد على مشاكلة كلامهم مع ما فيه من النكتة السالفة وذكر بعضهم في سبب النزول أنهم كانوا إذا رأوا ما يعرض له صلى الله تعالى عليه وسلم من برحاء الوحي قالوا : جن فنزلت إن هو إلا نذير مبين
481
- تقرير لما قبله وتكذيب لهم فيما يزعمونه حيث تبين فيه حقيقة حاله صلى الله تعالى عليه وسلم أي ما هو عليه الصلاة و السلام إلا مبالغ في الإنذار مظهر له غاية الإظهار ثم لما كان أمر النبوة مفرعا على التوحيد ذكر سبحانه ما يدل عليه فقال جل شأنه : أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض فهو مسوق للإنكار والتوبيخ بإخلافهم بالتأمل بالآيات التكوينية إثر ما نعى عليهم ما نعى والهمزة هنا كالهمزة فيما قبل والواو للعطف على مقدر كما تقدم أو على الجملة المنفية بلم والملكوت الملك العظيم أي أكذبوا أولم يتفكروا فيما ذكروا ولم ينظروا نظرا تأمل وإستدلال فيما يدل على كمال قدرة الصانع ووحدة المبدع وعظيم شأن المالك ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه ذاك الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم وكأن التعبير بالنظر هنا دون التفكر الذي عبر به فيما قبل للإشارة إلى أن الدليل هنا أوضح منه فيما تقدم وقوله سبحانه وتعالى : وما خلق الله من شيء يحتمل أن يكون عطفا على ملكوت وتخصيصه بالسموات والأرض لكمال ظهور عظم الملك فيهما وأن يكون عطفا على المضاف هو إليه فيكون منسحبا على الجميع والتعميم لإشتراك الكل في عظم الملك في الحقيقة و من شيء بيان لما وفي ذلك تنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض بل كل ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده : وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء نعم منهم من جعل وجه الدلالة الحدوث وهو الذي عليه معظم المتكلمين ومنهم من جعل وجهها الإمكان وهو الذي عليه الفلاسفة واختاره بعض المتكلمين ورجح الأول قطب عصره الشيخ خالد المجددي قدس سره في تعليقاته على حواشي عبدالحكيم على الخيالي فارجع إليها وقوله تعالى :
(9/128)

وأن عسى أن يكون قد إقترب أجلهم عطف على ملكوت فهو معمول لينظروا لكن لا يعتبر فيه بالنظر إليه أنه للإستدلال بناء على ما قالوا : إن قيد المعطوف عليه لا يلزم ملاحظته في المعطوف وقد تقدم الكلام في ذلك وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى مع فاعلها الذي هو أن يكون وخبر ضمير الشأن لا يشترط فيه الخبرية ولا يحتاج إلى التأويل كما نص عليه المحققون فلا معنى للمناقشة في ذلك واسم يكون أيضا ضمير الشأن والخبر قد إقترب أجلهم ولم يجعلوا هذا من باب التنازع لأن تنازع كان وخبرها مما لم يعهد لا لأن ذلك خلاف الأصل لما فيه من الإضمار قبل الذكر لأن ذلك لازم على جعل الإسم ضمير الشأن ولا ضير في كل وأمر التكرار فيما ذكرنا سهل فلا يرتكب له خلاف المعهود خلافا للقطب الرازي وجوز أبو البقاء أن تكون مصدرية وتعقب بأنها لا توصل إلا بالفعل المتصرف وعسى ليست كذلك والمعنى أو لم ينظروا في إقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل معافصة الموت ومفاجأته ونزول العذاب فالمراد بأجلهم أجل موتهم وجوز أن يكون عبارة عن الساعة والإضافة إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة إنكارهم إياها وبحثهم عنها وقوله جل وعلا : فبأي حديث بعده يؤمنون
581
- قطع لإحتمال إيمانهم رأسا ونفي له بالكلية بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر والباء متعلقة بيؤمنون وضمير بعده للقرآن على ما ذهب إليه غالب المفسرين وهو معلوم من السياق والحديث بمعنى الكلام فلا دليل في الآية لمن يزعم حدوث القرآن وقيل : ولئن سلمنا كونه دليلا يراد من القرآن الألفاظ وهي محدثة على المشهور والمعنى إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو النهاية في البيان فبأي كلام يؤمنون بعده وقيل : الضمير للآيات على حذف المضاف المفهوم من كذبوا والتذكير بإعتبار كونها قرآنا أو بتأويلها بالمذكور أو إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة
والمعنى أكذبوا بالآيات ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله عليه الصلاة و السلام وأحوال المصنوعات فبأي حديث يؤمنون وفيه بعد وقيل : إنه يعود على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بتقدير مضاف أيضا أي بعد حديثه يؤمنون وهو أصدق الناس وقيل : المراد بعد هذا الحديث وقيل : بعد الأجل أي كيف يؤمنون بعد إنقضاء أجلهم وجعل الزمخشري ذلك مرتبطا بقوله تعالى : وأن عسى الخ إرتباط التسبب عنه والضمير للقرآن كأنه قيل : لعل أجلهم قد إقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الموت وماذا ينظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا وتقدير ما قدر عند صاحب الكشف ليس لأنه لابد من تقديره ليستقيم الكلام بل للتنبيه على معنى الإستبطاء الذي في ضمن أي وأنه ليس بعد هذا البيان الواضح أمر ينتظر وقوله عز شأنه : من يضلل الله فلا هادي له إتئناف مقرر لما قبله مبني على الطبع على قلوبهم والمراد إستمرار النفي لا نفي الإستمرار وقوله سبحانه وتعالى : ويذرهم في طغيانهم بالياء والرفع على الإستئناف أي وهو يذرهم وقرأ غير واحد بنون العظمة على طريقة الإلتفات أي ونحن نذرهم وقرأ حمزة والكسائي بالياء والجزم عطفا على محل الجملة الإسمية الواقعة جواب الشرط كأنه قيل : من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم ويحتمل أن يكون ذلك تسكينا للتخفيف كما قريء يشعركم وينصركم وقد روى الجزم مع النون عن
(9/129)

نافع وأبي عمرو في الشواذ وتخريجه على أحد الإحتمالين وقوله تبارك وتعالى : يعمهون
681
- حال من مفعول يذرهم والعمه التردد في الضلال والتحير أو أن لا يعرف حجة وإفراد الضمير في حيز النفي رعاية للفظ من وجمعه في حيز الإثبات رعاية لمعناها للتنصيص على شمول النفي والإثبات للكل كما قيل هذا
ومن باب الإشارة في الآيات واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها إشارة إلى أن من أبتلي بالحور بعد الكور بأن سلك حتى ظهر له ما ظهر ثم رجع من الطريق لسوء إستعداده وغلبة الشقاوة والعياذ بالله تعالى عليه وفي التعبير بانسلخ ما لا يخفى ولو شئنا لرفعناه بها إلى حظيرة القدس ولكنه أخلد إلى الأرض أي مال إلى أرض الطبيعة السفلية واتبع هواه في إيثار السوي فمثله كمثل الكلب في أخس أحواله إن تحمل عليه بالزجر يلهث يدلع لسانه مع التنفس الشديد أو تتركه يلهث أيضا والمراد أنه يلهث دائما وكأنه إشارة إلى أن هذا المنسلخ لا يزال يطلق لسانه في أهل الكمال سواء زجر عن ذلك أو لم يزجر ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس وهم مظاهر القهر لهم قلوب لا يفقهون بها الأسرار ولهم أعين لا يبصرون بها الحجج الكونية ولهم آذان لا يسمعون بها الآيات التنزيلية فهم صم بكم عمي أولئك كالأنعام ليس لهم هم إلا الأكل والشرب بل هم أضل منها لأنهم لا ينزجرون إذا زجروا ولا يهتدون إذا أرشدوا
ومما يستبعد من طريق العقل ما نقله الإمام الشعراني عن شيخه عليالخواص قدس سره أن البهائم مكلفون محتجا بقوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم مع قوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وبما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنه ليؤخذ للشاة الجماء من الشاة القرناء وهذا وإن كان في الشاة لكن لا قائل بالفرق ونقل عنه القول بأن كل ما في الوجود من حيوان ونبات وجماد حي دراك ثم قال : فقلت له فهل تشبيه الحق تعالى من ضل من عباده بالأنعام بيان لنقص الأنعام عن الإنسان أم لكمالهما في العلم بالله تعالى فقال رضي الله تعالى عنه : لا أعلم ولكني سمعت بعضهم يقول : ليس تشبيههم بالأنعام نقصا وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله عز و جل حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى فأعلى ما يصل إليه العلماء في العلم بربهم سبحانه وتعالى مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال ولذلك كان من وصفهم سبحانه وتعالى من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن لهم ذلك والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه لشدة علمها بالله تعالى ذكر أنها ما سميت بهائم إلا لأن أمرها قد أبهم على غالب الخلق فلم يعرفوه كما عرفه أهل الكشف إنتهى
وهو كلام يورث المؤمن به حسدا للبهائم نفعنا الله تعالى بها وأعاذنا من الحسد ولله الأسماء الحسنى التي يدبر كل أمر باسم منها فادعوه بها حسب المراتب وأعلاها الدعاء بلسان الفعل وهو التحلي بمعانيها بقدر ما يتصور في حق العبد وذلك حظ المقربين منها وذكر حجة الإسلام العزالي قدس سره أن حظوظهم من معاني أسمائه تعالى ثلاثة الأول معرفتها على سبيل المكاشفة والمشاهدة حتى يتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ وينكشف لهم إتصاف الله تعالى بها إنكشافا يجري في الوضوح والبيان مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التي يدركها بمشاهدة باطنه لا بإحساس ظاهره وكم بين هذا وبين الإعتقاد المأخوذ من الآباء والمعلمين
(9/130)

تقليدا والتصميم عليه وإن كان مقرونا بأدلة جدلية كلامية
الثاني إستعظامهم ما يكشف لهم من صفات الجلال والكمال على وجه ينبعث منه شوقهم إلى الإتصاف بما يمكنهم من تلك الصفات ليقربوا بها من الحق قربا بالصفة لا بالمكان فيأخذوا من الإتصاف بها شبها بالملائكة المقربين عند الله تعالى والخلو من هذا الشوق لا يكون إلا لأحد أمرين إما لضعف المعرفة وإما لكون القلب ممتلئا بشوق آخر مستغرقا به والثالث السعي في إكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها وبذلك يصير العبد ربانيا رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة شبيها بهم وحينئذ لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه بل لا يقتصر إدراكه على ما يتصور فيه ذلك ويكون مقدسا عن الشهوة والغضب فلا تكون أفعاله بمقتضا بل الداعي إليها حينئذ طلب التقرب إلى الله تعالى ولا يلزم من هذا إثبات المماثلة بين الله سبحانه وتعالى وبين العبد وقد قال جل وعلا : ليس كمثله شيء لأن المماثلة هي المشاركة في النوع والماهية لا مطلق المشاركة فالفرس الكيس وإن كان بالغا في الكياسة ما بلغ لا يكون مماثلا للإنسان لمخالفته له بالنوع وإن شابهه بالكياسة التي هي عارضة خارجة عن المقومات للإنسانية وأنت تعلم بأدنى إلتفات أنه لا يتصور الشركة بين الله تعالى الحي العليم المريد القادر المتكلم السميع البصير وبين العبد المتصف بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر إلا في إطلاق الإسم لا غير والكلام في خبر لازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل الخ يستدعي الخوض في بحر لا ساحل له فخذ ما أتيناك وذر الذين يلحدون في أسمائه يطلبون معانيها من غيره سبحانه وتعالى ويضيفونها إليه وهؤلاء مما ذرأهم سبحانه وتعالى لجهنم سيجزون ما كانوا يعملون من الإلحاد وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وهم المرشدون الكاملون والذين كذبوا بآياتنا كالمنكرين على هؤلاء الأمة سنستدرجهم من حيث لا يعلمون أنا سنستدرجهم وأملي لهم أمهلهم إن كيدي أخذي متين شديد وقد جرت عادة الله تعالى في المنكرين على أوليائه أن يأخذهم أشد أخذ وقد شاهدنا ذلك كثيرا نعوذ بالله تعالى من مكره أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وهي الآيات التكوينية وقد تقدم معنى الملكوت وهو في مصطلح الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم عبارة عن عالم الغيب المختص بالأرواح والنفوس وفسروا الملك بعالم الشهادة من المحسوسات الطبيعية كالعرش والكرسي وغيرهما وكل جسم يتركب من الإستقصاآت من يضلل الله فلا هادي له إذ لا هادي سواه سبحانه : إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء ويذرهم في طغيانهم يعمهون يترددون لأن إستعدادهم يقتضي ذلك والله تعالى الموفق ثم لما تقدم ذكر إقتراب أجلهم عقبه سبحانه بذكر سؤالهم عن الساعة فقال تعالى : يسئلونك عن الساعة وقيل هو إستئناف مسوق لبيان بعض طغيانهم وضلالهم والساعة في الأصل إسم لمقدار قليل من الزمان غير معين وهي عند المنجمين جزء من أربعة وعشرين جزءا من الليل والنهار وتنقسم إلى معوجة ومستوية وتطلق في عرف الشرع على يوم موت الخلق وعلى يوم قيام الناس لرب العالمين وفسروها بيوم القيامة ولعل المراد منه أحد ذينك اليومين وإن كان المشهور فيه اليوم الآخر والظاهر أن المئول عنه اليوم الأول وإليه ذهب الزجاج والساعة في ذلك من الأسماء الغالبة ووجه إطلاقها عليه وكذا على وقت القيام ظاهر
(9/131)

إن أريد زمان الموت أو زمان القيام بدون ملاحظة الإمتداد لظهور أنه قدر يسير في نفسه وإن أريد الزمان الممتد فإطلاقها عليه إما لمجيئه بغتة كما قيل أو لأنه يدهش من يأتيهم فيقل عندهم أو يقلل ما قبله أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله تعالى أو لسرعة حسابه وجوز أن يكون تسميته بذلك من باب التسمية بالضد تمليحا كما يسمى الأسود كافورا والسائل عن ذلك أناس من اليهود فقد أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال : حمل بن أبي قشير وسمول بن زيد لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم متى هي وكان ذلك إمتحانا منهم مع علمهم أنه تعالى فد إستأثر بعلمها فأنزل الله تعالى الآية وذهب بعض إلى أن السائل قريش فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أن قريشا قالوا : يا محمد أسر إلينا متى الساعة لما بيننا وبينك من القرابة فنزلت وقوله سبحانه : أيان مرساها بفتح همزة أيان وقرأ السلمي بكسرها وهو لغة فيها وهي ظرف زمان متضمن لمعنى الإستفهام ويليها المبتدأ أو الفعل المضارع دون الماضي بخلاف متى حيث يليها كلاهما والتحقيق أنها بسيطة مرتجلة وقيل : إشتقاقها من أي وهي فعلان منه لأن معناه أي وقت وأي فعل وأي من أويت بمعنى رجعت لأن باب طويت وشويت أضعاف باب حييت ووعيت ولقربه منه معنى لأن البعض آو إلى الكل ومستند إليه وأصله على هذا أوى فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار أيا وإنما لم تجعل أيان فعلا لا من أين لأنها ظرف زمان وأين ظرف مكان ومن الناس من زعم أن أصلها أي أو إن أو أي آن وليس بشيء
وتعقب في الكشف حديث الإشتقاق من أي بأنه مخالف لما ذكره الزمخشري في سورة النمل ولو سمي به لكان فعالا من آن يئين ولا تصرف ثم قال : والوجه ما ذكره هناك لأن الإشتقاق في غير المتصرفة لا وجه له ثم إنه ليس إشتقاقه من أي أولى من إشتقاقه من الأين بمعنى الحينونة لأن أيان زمان وكأنه غره الإستفهام وليس بشيء لأنه بالتضمين كما في متى ونحوه وكذلك إشتقاق أي من أويت لا وجه له إلا أن الأظهر أنه يجوز الصرف وعدمه كما في حمار قبان اه
وأجيب بأن ماذكر أمر قدوره للإمتحان وليعلم حكمها إذا سمي بها فلا ينافي ما ذكره الزمخشري وكذا لا ينافي لتحقيق فتأمل وأيا ما كان فهي في محل الرفع على أنها خبر مقدم ومرساها مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي من أرساه إذا أثبته وأقره أي متى إثباتها وتقريرها ولا يكاد يستعمل الإرساء إلا في الشيء الثقيل كما في قوله تعالى : والجبال أرساها ومنه مرساة السفن ونسبته هنا إلى الساعة بإعتبار تشبيه المعاني بالأجسام
وجوز بعضهم أن يكون اسم زمان ولا يرد عليه أنه يلزم أن يكون للزمان زمان وفي جوازه خلاف الفلاسفة لأنه يؤول بمتى وقوع ذلك والجملة قيل في محل النصب على المفعولية به لقول محذوف وقع حالا من ضمير يسألونك أي يسألونك قائلين أيان مرساها وقيل في محل الجر على البدلية عن الساعة
والتحقيق عند بعض جلة المحققين أن محلها النصب بنزع الخافض لأنها بدل من الجار والمجرور لا من المجرور فقط وفي تعليق السؤال بنفس الساعة أولا وبوقت وقوعها ثانيا تنبيه على أن المقصد الأصلي من السؤال نفسها باعتبار حلولها في وقتها المعين باعتبار كونه محلا لها وما في الجواب أعني قوله سبحانه : قل إنما علمها عند ربي مخرج على ذلك أيضا أي إن علمها بالإعتبار المذكور عنده سبحانه لا غير فلا حاجة
(9/132)

إلى أن يقال : إنما علم وقت إرسائها عنده عز و جل وبعضهم حيث غفل عن النكتة المشار إليها حمل النظم الجليل على حذف المضاف وإليه يشير كلام أبي البقاء ومعنى كون ذلك عنده عز و جل خاصة أنه استأثر به حيث لم يخبر أحدا به من ملك مقرب أو نبي مرسل والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم قيل للإيذان بأن توفيقه عليه الصلاة و السلام للجواب على الوجه المذكور من باب التربية والإرشاد وهو أولى مما سنشير إليه إن شاء الله تعالى وقوله سبحانه : لايجليها لوقتها إلا هو بيان لإستمرار خفائها إلى حين قيامها وإقناط كلي عن إظهار أمرها بطريق الإخبار والتجلية الكشف والإظهار واللام لام التوقيت واختلف فيها فقيل هي بمعنى في وقال ابن جني : بمعنى عند وقال الرضي : هي اللام المفيدة للإختصاص وهو على ثلاثة أضرب إما أن يختص الفعل بالزمان لوقوعه فيه ككتبت لغرة كذا أو لوقوعه بعده نحو لخمس خلون أو قبله نحو الليلة بقيت وع الإطلاق يكون الإختصاص لوقوعه فيه وإلا فحسب القرينة وفسرها هنا غير واحد بفي
والمعنى لا يكشف عنها ولا يظهر للناس أمرها الذي تسألون عنه إلا الرب سبحانه بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين فيتوسط في إظهاره لهم لكن لا بأن لا يخبرهم بوقتها كما هو المسئول بل بأن يقيمها فيعلموها على أتم وجه والجار والمجرور متعلق بالتجلية وهو قيد لها بعد ورود الإستثناء كأنه قيل : لا يجليها إلا هو في وقتها إلا أنه قدم للتنبيه من أول الأمر على أن تجليها ليس بطريق الإخبار بوقتها بل بإظهار عينها في وقتها الذي يسألون عنه وقوله تعالى : ثقلت في السموات والأرض إستئناف كما قبله مقرر لما سبق والمراد كبرت وعظمت على أهلهما حيث لم يعلموا وقت وقوعها وعن السدي أن من خفي عليه علم شيء كان ثقيلا عليه وعن قتادة أن المعنى عظمت على أهل السموات والأرض حيث يشفقون منها ويخافون شدائدها وفي رواية أخرى عنه أن المراد ثقل علمها عليهم فلا يعلمونها ويرجع إلى ما ذكر أولا وقيل : المعنى ثقلت عند الوقوع على نفس السموات حتى إنشقت وانتثرت نجومها وكورت شمسها وعلى نفس الأرض حتى سيرت جبالها وسجرت بحارها وكان ما كان فيها وإلى ذلك يشير ما روي عن ابن جريج وعليه فلا يحتاج إلى تقدير مضاف وكلمة على سائر الأوجه إستعارة منبهة على تمكن الفعل كما لا يخفى لا تأتيكم إلا بغتة أي إلا فجأة على حين غفلة أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لتقومن الساعة وقد نشر رجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد إنصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها يسئلونك كأنك حفي عنها أي عالم بها كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن المنذر وغيره فحفي فعيل من حفي عن الشيء إذا بحث عن تعرف حاله وذكر بعضهم أن الحفاوة في الأصل الإستقصاء في الأمر للإعتناء به قال الأعشى : فإن تسألوا عني فيارب سائل حفي عن الأعشى به حيث أصعدا ومنه أحفاء الشارب وتطلق أيضا على البر واللطف كما قال تعالى : إنه كان حفيا والمعنى المراد هنا متفرع على المعنى الأول لأن من بحث عن شيء وسأل منه إستحكم علمه به فأريد به لازم معناه مجازا أو كناية
(9/133)

وعدى الوصف بعن إعتبارا لأصل معناه وهو السؤال والبحث وقيل : لأنه ضمن معنى الكشف ولولا ذلك لعدى بالباء وجوز أبو البقاء أن تكون عن بمعنى الباء وروي عن الحبر وابن مسعود أنهما قرآبها
والجملة التشبيهية في محل نصصب على أنها حال من مفعول يسألونك أي مشبها حالك عندهم بحال من هو حفي وقيل : إن عنها متعلق بيسألونك والجملة التشبيهية معترضة وصلة حفي أي بها أو بهم بناء على ما قيل إن حفي من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا له عليه الصلاة و السلام : إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة وروى ذلك عن قتادة وترجمان القرآن أيضا والمعنى عليه أنهم يظنون أن عندك علمها لكن تكتمه فلشفقتك عليهم طلبوا منك أن تخصهم به وتعلق عن على هذا الوجه بمحذوف كتخبرهم وتكشف لهم عنها بعيد وقيل : هو من حفي بالشيء إذا فرح به وروي ذلك عن مجاهد والضحاك وغيرهما والمعنى كأنك فرح بالسؤال عنها تحبه و عن على هذا متعلقة بحفي كما قيل : لتضمنه معنى السؤال والكلام على ما قال شيخ الإسلام إستئناف مسوق لبيان خطئهم في توجيه السؤال إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بناء على زعمهم أنه عليه الصلاة و السلام عالم بالمسئول عنه أو أن العلم بذلك من مقتضيات الرسالة إثر بيان خطئهم في أصل السؤال بإعلام بيان المسئول عنه وفي الإنتصاف في توجيه تكرير يسألونك أن المعهود في أمثال ذلك أن الكلام إذا بني على مقصد وعرض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتمة المقصد الأول وقد بعد عهده طرى ذكره لتتصل النهاية بالبداية وهنا لما ابتدأ الكلام بقوله سبحانه : يسألونك عن الساعة أيان مرساها ثم اعترض ذكر الجواب بقل إلى بغتة أريد تتمة سؤالهم عنها بوجه الإنكار عليهم وهو المضمن في قوله سبحانه : كأنك حفي عنها وهو شديد التعلق بالسؤال وقد بعد عهده فطرى ذكره ليليه تمامه ولا تراه أبدا يطري إلا بنوع من الإجمال ومن ثم لم يذكر المسئول عنه وهو الساعة إكتفاء بما تقدم ثم لما كرر جل وعلا السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال عز من قائل : قل إنما علمها عند الله ومنه يعلم وجه ذكر الإسم الجليل هنا وذكر المحقق الأول أنه عليه الصلاة و السلام أمر بإعادة الجواب الأول تأكيدا للحكم وتقريرا له وإشعارا بعلته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبيء عن استتباعها لصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم بقوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يعلمون
781
- وزعم الجبائي أن السؤال الأول كان عن وقت قيام الساعة وهذا السؤال كان عن كيفيتها وتفصيل ما فيها من الشدائد والأحوال قيل : ولذلك خص جوابه باسم الذات إذ هو أعظم الأسماء مهابة وإلى ذلك ذهب النيسابوري ونقل عن الإمام وغيره ولا أرى لهم مسندا في ذلك ومفعول العلم على ما يشير إليه كلام بعضهم محذوف أي لا يعلمون ما ذكر من إختصاص علمها به تعالى فبعضهم ينكرها رأسا فلا يسأل عنها إلا متلاعبا وبعضهم يعلم أنها واقعة البتة ويزعم أنك واقف على وقت وقوعها فيسأل جهلا وبعضهم يزعم أن العلم بذلك من مقتضيات الرسالة فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها والواقف على جلية الحال ويسأل إمتحانا ملحق بالجاهلين لعدم عمله بعلمه هذا وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لإقتضاء الحكمة التشريعية ذلك فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك ولو قيل بأن الحكمة التكوينية تقتضي ذلك أيضا لم يبعد وظاهر الآيات أنه عليه الصلاة و السلام لم يعلم وقت قيامه نعم علم عليه الصلاة و السلام قربها على الإجمال وأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم به فقد أخرج الترمذي وصححه
(9/134)

عن أنس مرفوعا بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا أيضا إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس وجاء في غير ما أثر أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وأنه عليه الصلاة و السلام بعث في أواخر الألف السادسة ومعظم الملة في الألف السابعة
وأخرج جلال السيوطي عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وذكر أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها خمسمائة سنة واستدل على ذلك بأخبار وآثار ذكرها في رسالته المسماةبالكشف عن مجاوزلا هذه الأمة الألف وسمى بعضهم لذلك هذه الألف الثانية بالمخضرمة لأن نصفها دنيا ونصفها الآخر أخرى وإذا لم يظهر المهدي على رأس المائة التي نحن فيها ينهدم جميع ما بناه كما لا يخفى على من راجعه وكأني بك تراه منهدما ونقل السفاريني عن الفلاسفة أنهم زعموا أن تدبير العلم الذي نحن فيه للسنبلة فإذا تم دورها وقع الفساد والدثور في العالم فإذا عاد الأمر إلى الميزان تجتمع المواد ويقدر النشور عودا وقال البكري : إن سلطان الحمل عندهم إثنا عشر ألف سنة وسلطان الثور دونه بألف وهكذا ينقص ألف ألف إلى الحوت فيكون سلطانه ألف سنة ومجموع ذلك ثمانية وسبعون ألف سنة فإذا كملت إنقضى عالم الكون والفساد ونقل ذلك عن هرمس وادعى أنه قال : إنه لم يكن في حكم الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان حكم السرطان تكونت دواب الماء وهو أم الأرض ولما كان حكم الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع ولما كان حكم السنبلة تولد الإنسانان الأولان آدم نوس وحوا نوس وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك والكوكب منها يقطع البرج بزعمه في ثلاثة آلاف سنة فذلك ست وثلاثون ألف سنة إنتهى
ولا يخفى على من اطلع على كتب الإرصاد والزيجات أن الأدوار عندهم ثلاثة أكبر وأوسط وأصغر ويسمونها التسييرات وهي على السوية في جميع البروج فالدور الأكبر ما يكون في قطع كل درجة بمائة سنة والأوسط ما يكون فيه قطع كل درجة بعشر سنين والأصغر ما يكون فيه قطع كل درجة سنة وعندهم دور أعظم ويسمونه أيضا التسيير الأعظم وهو ما يكون فيه قطع كل درجة بألف سنة والتسيير اليوم في الميزان وقد مضى منه أربع درجات وست وخمسون دقيقة وإحدى وثلاثون ثانية وإثنتا عشرة ثالثة وإذا أعتبرت مدة ذلك من نقطة رأس الحمل إلى هنا بلغت مائة ألف سنة وأربعا وثمانين ألف سنة وتسعمائة وثلاثا وأربعين سنة وأن مدة حركة الثوابت على ما نقل عن بطليموس في كل برج ألفان ومائة وإثنتان وستون سنة وثمانية أشهر وستة عشر يوما وتسع عشرة ساعة وإذا ضرب ذلك في إثني عشر عدة البروج خرج مدة قطعها الفلك كله وهو أقل مما ذكره بكثير ولعل المراد بدور البرج ما أريد بسلطانه من حكم تأثيره والتأثر العادي على ما يفهم من بعض كتب القوم بحكم الأصالة للبرج وهو الذي يفيض على الكواكب النازل فيه وكل ذلك ما لم ينزل الله تعالى به سلطانا والحق الذي لا ينبغي المحيص عنه القول بحدوث العلم حدوثا زمانيا ولا يعلم أوله إلا الله تعالى وكذلك عمر الدنيا وأول النشأة الإنسانية ومدة بقائها في هذا العالم وقدر زمان لبثها في البرزخ كل ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى وجميع ما ورد في هذا الباب أمر ظنية لا سند يعول عليه لأكثرها ووراء هذا أقول لأهل الصين وغيرهم هي أدهى وأمر مما تقدم وبالجملة الباقي من عمر الدنيا عند من يقول بفنائها أقل قليل بالنسبة إلى الماضي من ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة ما هنالك قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا أي لا أملك لأجل نفسي جلب نفع ما ولا دفع ضرر ما
(9/135)

والجار والمجرور كما قال أبو البقاء إما متعلق بأملك أو بمحذوف وقع حالا من نفعا والمراد لا أملك ذلك في وقت من الأوقات إلا ما شاء الله أي إلا وقت مشيئته سبحانه بأن يمكنني من ذلك فإنني حينئذ أملكه بمشيئته فالإستثناء متصل وفيه دليل كما قال الشيخ إبراهيم الكوراني على أن قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى ومشيئته وقيل : الإستثناء منقطع أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن وفيه على هذا من إظهار العجز ما لا يخفى والكلام مسوق لإثبات عجزه عن العلم بالساعة على أتم وجه وإعادة الأمر لإظهار العناية بشأن الجواب والتنبيه على إستقلاله ومغايرته للأول ولو كنت أعلم الغيب أي الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححة عادة للسببية والمسببية من المباينات المستتبعة للمدافعة والممانعة لاستكثرت من الخير أي لحصلت كثيرا من الخير الذي نيط بترتيب الأسباب ورفع الموانع وما مسني السوء أي السوء الذي يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة بموانعه وإن كان منه ما لا مدفع له وكأن عدم مس السوء من توابع إستكثار الخير في الجملة ولذا لم يسلك في الجملة الثانية نحو مسلك الجملة الأولى والإستلزام في الشرطية لا يلزم أن يكون عقليا وكليا بل يكفي أن يكون عاديا في البعض وقد حكم غير واحد أنه في الآية من العادي وبذلك دفع الشهاب ما قيل : إن العلم بالشيء لا يلزم منه القدرة عليه ومنشؤه الغفلة عن المراد
وحمل الخير والسوء على ما ذكر هو الذي ذهب إليه جلة المحققين وفسر بعض الأول بالربح في التجارة والفوز بالخصيب والثاني بضد ذلك بناء على ما روي عن الكلبي أن أهل مكة قالوا يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري فنربح وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى ما قد أخصب فنزلت
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأول بالربح في التجارة والثاني بالفقر وقيل : الأول الجواب عن السؤال والثاني التكذيب وقيل : الأول الإشتغال بدعوة من سبقت له السعادة والثاني النصب الحاصل من دعوة من حقت عليه كلمة العذاب
وقيل : ونسب إلى مجاهد وابن جريج المراد من الغيب الموت ومن الخير الإكثار من الأعمال الصالحة ومن السوء ما لم يكن كذلك وقيل : غير ذلك والكل كما ترى ومنها ما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل وقدم ذكر الخير على ذكر السوء لمناسبة ما قبل حيث قدم فيه النفع على ذكر الضر وسلك في ذكرهما هناك كذلك مسلك الترقي على ما قيل : فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع وذكر النيسابوري أن أكثر ما جاء في القرآن إذ يؤتى بالضر والنفع معا تقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد إنما يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا ثم يعبده طمعا في ثوابه ثانيا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : يدعون ربهم خوفا وطمعا وحيث تقدم النفع على الضر كان ذلك لسبق لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة حيث تقدم آنفا لفظ الهداية على الضلال في قوله تعالى : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل الخ وفي الرعد تقدم ذكر الطوع في قوله سبحانه : طوعا وكرها وهو نفع وفي الفرقان تقدم العذب في قوله جل وعلا : هذا عذب فرات وهو نفع وفي سبأ تقدم البسط في قوله تبارك اسمه : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وليقس على هذا غيره وابن جريج يفسر النفع هنا بالهدى والضر بالضلال وبه تقوى نكتة التقديم التي اعتبرها هذا الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى
واستشكلت هذه الآية مع ما صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أخبر بالمغيبات الجمة وكان الأمر كما أخبر وعد
(9/136)

ذلك من أعظم معجزاته عليه الصلاة و السلام واختلف في الجواب فقيل : المفهوم من الآية نفي علمه عليه الصلاة و السلام إذ ذاك بالغيب المفيد لجلب المنافع ودفع المضار التي لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وما يعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم من الغيوب ليس من ذلك النوع وعدم العلم به مما لا يطعن في منصبه الجليل عليه الصلاة و السلام
وقد أخرج مسلم عن أنس وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال : عليه الصلاة و السلام لو لم تفعلوا لصلح فلم يفعلوا فخرج شيصا فمر بهم صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ما لقحتم قالوا : قلت كذا وكذا قال : أنتم أعلم بأمر دنياكم وفي رواية أخرى له أنه عليه الصلاة و السلام قال حين ذكر له أنه صار شيصا : إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم وإن كان من أمر دينكم فإلي وقد عد عدم علمه صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر الدنيا كمالا في منصبه إذ الدنيا بأسرها لا شيء عند ربه
وقيل : المراد نفي إستمرار علمه عليه الصلاة و السلام الغيب ومجيء كان للإستمرار شائع ويلاحظ الإستمرار أيضا في الإستكثار وعدم المس وقيل : المراد بالغيب وقت قيام الساعة لأن السؤال عنه وهو عليه الصلاة و السلام لم يعلمه ولم يخبر به أصلا وحينئذ يفسر الخير والسوء بما يلائم ذلك كتعليم السائلين وعدم الطعن في أمر الرسالة من الكافرين وقيل : أل في الغيب للإستغراق وهو صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعلم كل غيب فإن من الغيب ما تفرد به الله تعالى به كمعرفة كنه ذاته تبارك وتعالى وكمعرفة وقت قيام الساعة على ما تدل عليه الآية
وفي لباب التأويل للخازن في الجواب عن ذلك أنه يحتمل أن يكون هذا القول منه عليه الصلاة و السلام على سبيل التواضع والأدب والمعنى لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله تعالى عليه ويقدره لي ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله تعالى على الغيب فلما أطلعه أخبر به أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله تعالى على أشياء من المغيبات ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم إنتهى وفيه تأمل وكلام بعض المحققين يشير إلى ترجيح الأول
ومعنى قوله سبحانه : إن أنا إلا نذير وبشير على ذلك ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة وشأني حيازة ما يتعلق بهما من العلوم لا الوقوف على الغيوب التي لا علاقة بينها وقد كشفت من أمر الساعة ما يتعلق به الإنذار من مجيئها لا محالة وإقترابها وأما تعيين وقتها فليس مما يستدعيه الإنذار بل هو مما يقدح فيه لما مر من إبهامه أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية وتقديم النذير لأن المقام مقام إنذار لقوم يؤمنون أي يصدقون بما جئت به والجار إما متعلق بالوصفين جميعا والمؤمنون ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالتبشير وإما متعلق بالأخير متعلق الأول محذوف أي نذير للكافرين وحذف ليطهر اللسان منهم
وأراد بعضهم من الكافرين المستمرين على الكفر ومن مقابلهم الذين يؤمنون في أي وقت كان وحينئذ في الآية ترغيب للكفرة في إحداث الإيمان وتحذير عن الإصرار على الكفر والطغيان هو الذي خلقكم إستئناف لبيان ما يقتضي التوحيد الذي هو المقصد الأعظم وإيقاع الموصول خبرا لتفخيم شأن المبتدأ أي هو سبحانه ذلك العظيم الشأن الذي خلقكم جميعا وحده من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك أصلا من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام على ما نص عليه الجمهور وجعل منها
(9/137)

أي من جنسها كما في قوله سبحانه : جعل لكم من أنفسكم أزواجا فمن إبتدائية والمشهور أنها تبعيضية أي من جسدها لما يروى أنه سبحانه خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام اليسرى والكيفية مجهولة لنا ولا يعجز الله تعالى شيء والفعل معطوف على صلة الموصول داخل في حكمها ولا ضير في تقدم مضمونه على مضمون الأول وجودا لما أن الواو لا تستدعي الترتيب فيه وهو إما بمعنى صير فقوله سبحانه : زوجها وفعوله الأول والثاني وهو الظرف المقدم واما بمعنى أنشأ والظرف متعلق به قدم على المفعول الصريح لما مر مرارا أو بمحذوف وقع حالا من المفعول ليسكن إليها علة غائبة للجعل أي ليستأنس بها ويطمئن إليها والضمير المستكن للنفس وكان الظاهر التأنيث لأن النفس من المؤنثات السماعية ولذا أنثت صفتها إلا أنه ذكر بإعتبار أن المراد منها آدم ولو أنث على الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى والمقصود خلافه وذكر الزمخشري أن التذكير أحسن طباقا للمعنى وبينه في الكشف بأنه لما كان السكون مفسرا بالميل وهو متناول للميل الشهواني الذي هو مقدمة التغشي لا سيما وقد أكد بالفاء في قوله تعالى : فلما تغشاها والتغشي منسوب إلى الذكر لا محالة كان الطباق في نسبته أيضا إليه وإن كان من الجانبين وفيه إيماء إلى أن تكثير النوع علة لمؤانسة كما أن الوحدة علة الوحشة وأيضا لما جعل المخلوق أولا الأصل كان المناسب أن يكون جعل الزوج لسكونه بعد الإستيحاش لا العكس فإنه غير ملائم لفظا ومعنى لكن ذكر ابن الشحنة أن النفس إذا أريد به الإنسان بعينه فمذكر وإن كان لفظه لفظ مؤنث وجاء ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير وتصغيرها نفيسة فليفهم والضمير المنصوب من تغشاها للزوج وهو بمعنى الزوجة مؤنث والتغشي كناية عن الجماع أي فلما جامعها حملت حملا خفيفا أي محمولا خفيفا وهو الجنين عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة فإنه لا ثقل فيه بالنسبة إلى ما بعد ذلك من الأطوار فنصب حملا على أنه مفعول به وهو بفتح الحاء ما كان في بطن أو على شجر وبالكسر خلافه وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح وجوز أن يكون هنا مصدرا منصوبا على أنه مفعول مطلق وأن يردا بالخفة عدم التأذي أي حملت حملا خف عليها ولم تلق منه ما تلقى بعض الحوامل من حملهن من الكرب والأذية فمرت به أي استمرت به كما قرأ به ابن عباس والضحاك والمراد بقيت به كما كانت قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت وهو معنى لا غبار فيه والقول بأنه من القلب أي فاستمر بها حملها من القلب عند النقاد وقرأ أبو العالية وغيره مرت بالتخفيف فقيل : إنه مخفف مرت كما يقال : ظلت في ظللت وقيل : هو من المرية أي الشك أي شكت في أمر حملها
وقرأ ابن عمر والجحدري فمارت من مار يمور إذا جاء وذهب فهي بمعنى قراءة الجمهور أو هي من المرية كقراءة أبي العالية ووزنه فاعلت وحذفت لامه للساكنين فلما أثقلت أي صارت ذات ثقل بكبر الحمل في بطنها فالهمزة فيه للصيرورة كقولهم أتمر وألبن أي صار تمر ولبن وقيل : إنها للدخول في زمان الفعل أي دخلت في زمان الثقل كأصبح دخل الصباح والأول أظهر والمتبادر من الثقل معناه الحقيقي والتقابل بينه وبين المعنى الأول للخفة ظاهر وقد يراد به الكرب ليقابل الخفة بالمعنى الثاني لكن المتبادر في الموضعين المعنى الحقيقي وقريء اثقلت بالبناء للمفعول والهمزة للتعدية أي أثقلها حملها دعو الله أي آدم وحواء عليهما السلام
(9/138)

لما خافا عاقبة الأمر فاهتما به وتضرعا إليه عز و جل ربهما أي مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء
وفي هذا إشارة إلى أنهما قد صدرا به دعاءهما وهو المعهود منهما في الدعاء ومتعلق الدعاء محذوف لإيذان الجملة القسمية به أي دعواه تعالى أن يؤتيهما صالحا ووعدا بمقابلته الشكر على سبيل التوكيد القسمي وقالا أو قائلين لئن ءاتيتنا صالحا أي نسلا من جنسنا سويا وقيل : ولدا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء ونحو ذلك وعليه جماعة وعن الحسن علاما ذكرا وهو خلاف الظاهر لنكونن نحن أو نحن ونسلنا من الشاكرين
981
- الراسخين في الشكر لك على ايتائك وقيل : على نعمائك التي من جملتها هذه النعمة
وجوز أن يكون ضمير آتيتنا لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما وليس بذلك فما ءاتاهما صالحا وهو ما سألاه أصالة من النسل أو ما طلباه أصالة وإستتباعا من الولد وولد الولد ما تناسلوا جعلا أي النسل الصالح السوي وثنى الضمير بإعتبار أن دلك النسل صنفان ذكر وأنثى وقد جاء أن حواء كانت تلد في كل بطن كذلك له أي لله سبحانه وتعالى شركاء من الأصنام والأوثان فيما ءاتاهما من الأولاد حيث أضافوا ذلك إليهم والتعبير بما لأن هذه الإضافة عند الولادة والأولاد إذ ذاك ملحقون بما لا يعقل
وقيل : المراد بالموصول ما يعم سائر النعم فإن المشركين ينسبون ذلك إلى آلهتهم ووجه العدول عن الإضمار حيث لم يقل شركاء فيه على الوجهين ظاهر وإسناد الجعل للنسل على حد بنو تميم قتلوا فلانا فتعالى الله عما يشركون
91
- تنزيه فيه معنى التعجب والفاء لترتيبه على ما فصل من قدرته سبحانه عز و جل وآثار نعمته الزاجرة عن الشرك الداعية إلى التوحيد وضمير الجمع لأولئك النسل الذين جعلوا لله شركاء وفيه المذكر على المؤنث وإيذان بعظم شركهم والمراد بذلك إما للتسمية أو مطلق الإشراك و ما إما مصدرية أي عن إشراكهم أو موصولة أو موصوفة أي عما يشركون به تعالى وهذه الآية عندي من المشكلات وللعلماء فيها كلام طويل ونزاع عريض وما ذكرناه هو الذي يشير إليه كلام الجبائي وهو مما لا بأس به بعد إغضاء العين عن مخالفته للمرويات سوى تثنية الضمير تارة وجمعه أخرى مع كون المرجع مفردا لفظا ولم نجد ذلك في الفصيح
واختار غير واحد أن في جعلا وآتاهما بعد مضافا محذوفا وضمير التثنية فيهما لآدم وحواء على طرز ما قبل أي جعل أولادهما فيما آتى أولادهما من الأولاد وإنما قدروه في موضعين ولم يكتفوا بتقديره في الأول وإعادة الضمير من الثاني على المقدر أولا لأن الحذف لم تقم عليه قرينة ظاهرة فهو كالمعدوم فلا يحسن عود الضمير عليه والمراد بالشرك فيما آتى الأولاد تسمية كل واحد من أولادهم بنحو عبد العزى وعبد شمس واعترض أولا بأن ما دكر من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إنما يصار إليه فيما يكون للفعل ملابسة ما بالمضاف إليه أيضا بسرايته إليه حقيقة أو حكما ويتضمن نسبته إليه صورة مزية يقتضيها المقام كما في قوله تعالى : وإذ أنجيناكم من آل فرعون الآية فإن الإنجاء منهم مع أن تعلقه حقيقة ليس إلا بأسلاف اليهود وقد نسب إلى أخلافهم بحكم سرايته إليهم توفية لمقام الإمتنان حقه وكذا يقال في نظائره وهنا ليس كذلك إذ لا ريب في أن آدم وحواء عليهما السلام بريئان من سراية الجعل المذكور إليهما بوجه من الوجوه فلا وجه لإسناده إليهما صورة وثانيا بأن إشراكهم بإضافة أولادهم بالعبودية إلى أصنامهم من لازم إتخاذ تلك الأصنام آلهة ومتفرع
(9/139)

له لا أمر حدث عنهم لم يكن قبل فينبغي أن يكون التوبيخ على هذا دون ذلك وثالثا بأن إشراك أولادهما لم يكن حين آتاهما الله تعالى صالحا بل بعده بأزمنة متطاولة ورابعا بأن إجراء جعلا على غير ما أجري عليه الأول والتعقيب بالفاء يوجب إختلال النظم الكريم
وأجيب عن الأول بأن وجه ذلك الإسناد الإيذان بتركهما الأولى حيث أقدما على نظم أولادهما في سلك أنفسهما والتزما شكرهم في ضمن وأقسما على ذلك قبل تعرف أحوالهم ببيان أن إخلالهم بالشكر الذي وعداه وعدا مؤكدا باليمين بمنزلة إخلالهما بالذات في إستيجاب الحنث والخلف مع ما فيه من الإشعار بتضاعف جنايتهم ببيان أنهم بجعلهم المذكور أو وقوعهما في ورطة الحنث والخلف وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجناية مع الله تعالى والجناية عليهما السلام وعن الثاني بأن المقام يقتضي التوبيخ على هذا لأنه لما ذكر ما أنعم سبحانه وتعالى به عليهم من الخلق من نفس واحدة وتناسلهم وبخهم على جهلهم وإضافتهم تلك النعم إلى غير معطيها وإسنادها إلى من لا قدرة له على شيء ولم يذكر أولا أمرا من أمور الألوهية قصدا حتى يوبخوا على إتخاذ الألهة وعن الثالث بأن كلمة لما ليست للزمان المتضايق بل الممتد فلا يلزم أن يقع الشرط والجزاء في يوم واحد أو شهر أو سنة بل يختلف ذلك باختلاف الأمور كما يقال : لما ظهر الإسلام طهرت البلاد من الكفر والإلحاد وعن الرابع بما حرره صاحب الكشف في إختيار هذا القول وإيثاره على القول بأن الشرك راجع لآدم وحواء عليهما السلام وليس المتعارف بل ما نقل من تسمية الولد عبد الحرث وهو أن الظاهر أن قوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة خطاب لأهل مكة وأنه بعد ما ختمت قصة اليهود بما ختمت تسلية وتشجيعا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحملا له على التثبت والصبر إقتداء بإخوته من أولي العزم عليه وعليهم الصلاة والسلام لاسيما مصطفاه وكليمه موسى عليه السلام فإن ما قاساه من بني إسرائيل كان شديد الشبه بما كان يقاسيه صلى الله تعالى عليه وسلم من قريش وذيلت بما يقتضي العطف على المعنى الذي سيق له الكلام أولا أعني قوله سبحانه وتعالى : وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وقع التخلص إلى ذكر أهل مكة في حلق موقعه فقيل : والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم وذكر سؤالهم عما لا يعينهم فلما أريد بيان أن ذلك مما لا يهمكم وإنما المهم إزالة ما أنتم عليه منغمسون فيه من أوضار الشرك والآثام مهد له هو الذي خلقكم مضمنا معنى الإمتنان والمالكية المقتضيين للتوحيد والعبودية ثم قيل : فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء أي جعلتم يا أولادهما ولقد كان لكم في أبويكم أسوة حسنة في قولهما : لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين وكأن المعنى والله تعالى أعلم فلما آتاهما صالحا ووفيا بما وعدا به ربهما من القيام بموجب الشكر خالفتم أنتم يا أولادهما فأشركتم وكفرتم النعمة وفي هذا الإلتفات ثم إضافة فعلهم إلى الأبوين على عكس ما جعل من خلق الأب وتصويره في معرض الإمتنان متعلقا بهم إيماء إلى غاية كفرانهم وتماديهم في الغي وعليه ينطبق قوله سبحانه : فتعالى الله عما يشركون ثم قال : فظهر أن إجراء جعلا له على غير ما أجري عليه الأول والتعقيب بالفاء لا يوجب إختلال النظم بل يوجب إلتئامه أه والإنصاف أن الأسئلة والآية على هذا الوجه من قبيل اللغز وعن الحسن وقتادة أن ضمير جعلا وآتاهما يعود على النفس زوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء عليهما السلام وهو قول الأصم قال : ويكون المعنى في قوله سبحانه
(9/140)

وتعالى : خلقكم من نفس واحدة خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وخلق لكل نفس زوجا من جنسها فلما تغشى كل نفس زوجها حملت حملا خفيفا وهو ماء الفحل فلما أثقلت بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما دعا الرجل والمرأة ربهما لئن آتيتنا صالحا أي ذكرا سويا لنكونن من الشاكرين وكانت عادتهم أن يئدوا البنات فلما آتاهما أي فلما أعطى الله تعالى الأب والأم ما سألاه جعلا له شركاء فسميا عبد اللات وعبد العزى وغير ذلك ثم رجعت الكناية في قوله سبحانه وتعالى : فتعالى الله عما يشركون إلى الجميع ولا تعلق للآية بآدم وحواء عليهما السلام أصلا ولا يخفى أن المتبادر من صدرها آدم وحواء ولا يكاد يفهم غيرهما رأسا نعم اختار ابن المنير ما مآله هذا في الإنتصاف وأدعى أنه أقرب وأسلم مما تقدم وهو أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى ولا يقصد معين من ذلك ثم قال : وكأن المعنى والله تعالى أعلم هو الذي خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون لأن المشركين منهم فجاز أن يضاف الكلام إلى الجنس على طريقة قتل بنو تميم فلانا وإنما قتله بعضهم ومثله قوله تعالى : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا و قتل الإنسان ما أكفره إلى غير ذلك وتعقب بأن فيه إجراء جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة
وعن أبي مسلم أن صدر الآية لآدم وحواء كما هو ظاهر إلا أن حديثهما ما تضمنه قوله سبحانه وتعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها وانقطع الحديث ثم خص المشركين من أولاد آدم بالذكر ويجوز أن يذكر العموم ثم يخص البعض بالذكر وهو كما ترى وقيل : يجوز أن يكون ضمير جعلا لآدم وحواء كما هو ظاهر والكلام خارج مخرج الإستفهام الإنكاري والكناية في فتعالى الخ للمشركين وذلك أنهم كانوا يقولون : إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويشرك كما نشرك فرد عليهم بذلك ونظير هذا أن ينعم رجل على آخر بوجوه كثيرة من الأنعام ثم يقال لذلك المنعم : إن الذي أنعمت عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول : فعلت في حقه كذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة ومراده أنه بريء من ذلك ومنفي عنه وقيل : يحتمل أن يكون الخطاب في خلقكم لقريش وهم آل قصي فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من جنسه عربية قريشية وطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد مناف وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار يعني بها دار الندوة ويكون الضمير في يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وأيد ذلك بقوله في قصة أم معبد : فيا لقصي ما زوى الله عنكم به من فخار لا يباري وسودد واستبعد ذلك في الكشف بأن المخاطبين لم يخلقوا من نفس قصي لا كلهم ولا جلهم وإنما هو مجمع قريش وبأن القول بأن زوجة قرشية خطأ لأنها إنما كانت بنت سيد مكة من خزاعة وقريش إذ ذاك متفرقون ليسوا في مكة وأيضا من أين العلم أنهما وعدا عند الحمل أن يكونا شاكرين لله تبارك وتعالى ولا كفران أشد من الكفر الذي كانا فيه وما مثل من فسر بذلك إلا كمن عمر قصرا فهدم مصرا وأما البيت فإنما خص فيه بنو قصي بالذكر لأنهم ألصق برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لأنه لما كان سيدهم وأميرهم شمل ذكره الكل شمول فرعون لقومه ومعلوم أن الكل ليسوا من نسل فرعون اه وأجيب عن قوله : من أين العلم الخ بأنه من
(9/141)

إعلام الله تعالى إن كان ذلك هو معنى النظم ومنه يعلم أن كون زوجته غير قرشية في حيز المنع نعم في كون قصي هو أحد أجداد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان مشركا مخالفة لما ذهب إليه جمع من أن أجداده عليه الصلاة و السلام غير مشركين وقيل : إن ضمير له للولد والمعنى أنهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح الذي آتاهما وقيل : هو لأبليس والمعنى جعلا لأبليس شركاء في إسمه حيث سميا ولدهما بعبد الحرث وكلا القولين ردهما الآمدي في أبكار الأفكار وهما لعمري أوهن من بيت العنكبوت لكني ذكرتهما إستيفاء للأقوال وذهب جماعة من السلف كابن عباس ومجاهد وسعيد بن المسيب وغيرهم إلى أن ضمير جعلا يعود لآدم وحواء عليهما السلام والمراد بالشرك بالنسبة إليهما غير المتبادر بل ما أشرنا إليه آنفا إلى أن قوله سبحانه وتعالى : فتعالى الله عما يشركون تخلص إلى قصة العرب وإشراكهم الأصنام فهو كما قال السدي من الموصول لفظا المفصول معنى ويوضح ذلك كما قيل تغيير الضمير إلى الجمع بعد التثنية ولو كانت القصة واحدة لقيل يشركان وكذلك الضمائر بعد وأيد ذلك بما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها : سميه عبدالحرث فإنه يعيش فسمته بذلك فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره وأراد بالحرث نفسه فإنه كان يسمى به بين الملائكة ولا يعد هذا شركا بالحقيقة على ما قال القطب لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية لكن أطلق عليه الشرك تغليظا وإيذانا بأن ما عليه أولئك السائلون عما لا يعنيهم أمر عظيم لا يكاد يحيط بفظاعته عبارة
وفي لباب التأويل أن إضافة عبد إلى الحرث على معنى أنه كان سببا لسلامته وقد يطلق اسم العبد على ما لا يراد به المملوك كقوله :
(9/142)

وأني لعبد الضيف ما دام ثاويا
ولعل نسبة الجعل إليهما مع أن الحديث ناطق بأن الجاعل حواء لا هي وآدم لكونه عليه السلام أقرها على ذلك وجاء في بعض الروايات التصريح بأنهما سمياه بذلك وتعقب هذا القول بعض المدققين بأن الحديث لا يصلح تأييدا له لأنه لم يرد مفسرا للآية ولا إنكار لصدور ذلك منها عليهما السلام فإنه ليس بشرك نعم كان الأولى بهما التنزه عن ذلك إنما المنكر حمل الآية على ذلك مع ما فيه من العدول عن الظاهر لاسيما على قراءة الأكثرين شركاء بلفظ الجمع ومن حمل فتعالى الخ على أنه إبتداء كلام وهو راجع إلى المشركين من الكفار والفاء فصيحة وكونه منقولا عن السلف معارض بأن غيره منقول أيضا عن جمع منهم إنتهى وقد يقال : أخرج ابن جرير عن الحبر أن الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحرث ومثل ذلك لايكاد يقال من قبل الرأي وهو ظاهر في كون الخبر تفسيرا للآية وارتكاب خلاف الظاهر في تفسيرها مما لا مخلص عنه كما لا يخفى على المنصف
ووجه جمع الشركاء زيادة في التغليظ لأن من جوز الشرك جوز الشركاء فلما جعلا شريكا فكأنهما جعلا شركاء وحمل فتعالى الله الخ على الإبتداء مما يستدعيه السباق والسياق وبه وصرح كثير من أساطين الإسلام والذاهبون إلى غير هذا الوجه نزر قليل بالنسبة إلى الذاهبين إليه وهم دونهم أيضا في العلم والفضل وشتان ما بين دندنة النحل وألحان معبد ومن هنا قال العلامة الطيبي : إن هذا القول أحسن الأقوال بل لا قول غيره ولا معول إلا عليه لأنه مقتبس من مشكاة النبوة وحضرة الرسالة صلى الله تعالى عليه وسلم وأنت قد علمت مني أنه إذا
(9/0)

صح الحديث فهو مذهبي وأراه قد صح ولذلك أحجم كميت قلمي عن الجري في ميدان التأويل كما جرى غيره والله تعالى الموفق للصواب وقرأ نافع وأبوبكر شركا بصيغة المصدر أي شركة أو ذوي شركة وهم الشركاء أيشركون به تعالى ما لا يخلق شيئا أي ما لا يقدر على أن يخلق شيئا من الأشياء أصلا ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده لا محالة وعنى بما الأصنام وإرجاع الضمير إليها مفردا لرعاية لفظها كما أن إرجاع ضمير الجمع إليها من قوله سبحانه وتعالى : وهم يخلقون لرعاية معناها وإيراد ضمير العقلاء مع أن الأصنام مما لا يعقل إنما هو بحسب إعتقادهم فيها وإجرائهم لها مجرى العقلاء وتسميتهم لها آلهة
والجملة عطف على لا يخلق والجمع بين الأمرين لإبانة كمال منافاة حال ما أشركوه لما إعتقدوه فيه وإظهار غاية جهلهم وعدم التعرض للخالق للإيذان بتعينه والإستغناء عن ذكره تعالى ولا يستطيعون أي الأصنام لهم أي للمشركين الذين عبدوهم نصرا أي نصرا ما إذا أحزنهم أمر مهم وخطب ملم ولا أنفسهم ينصرون
291
- إذا إعتراهم حادثة من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم وإيراد النصر للمشاكلة وهو مجاز في لازم معناه وهذا لتأكيد العجز والإحتياج المنافيين لإستحقاق الألوهية ووصفوا فيما تقدم بالمخلوقية لكونهم أهلا لها ولم يوصفوا هنا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلا لها وقوله سبحانه وتعالى : وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر وهو مجرد الدلالة على البغية والإرشاد إلى طريق حصولها من غير أن تحصل للطالب والخطاب للمشركين بطريق الإلتفات بدلالة ما بعد وفيه إيذان بمزيد الإعتناء بأمر التوبيخ والتبكيت أي وإن تدعوا الأصنام أيها المشركون إلى أن يرشدوكم إلى ما تحصلون به المطالب أو تنجون به عن المكاره لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم ولا يقدرون على ذلك وقرأ نافع يتبعوكم بالتخفيف وقوله تعالى : سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون
391
- إستئناف مقرر لمضمون ما قبله ومبين لكيفية عدم الإتباع أي مستو عليكم في عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم فإنه لا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم بحكم الجمادية وكان الظاهر الإتيان بالفعل فيما بعد أم لأن ما في حيز همزة التسوية مؤول بالمصدر لكنه عدل عن ذلك للإيذان بأن أحداث الدعوة مقابل إستمرار الصمات وفيه من المبالغة ما لايخفى وقيل : إن الإسمية بمعنى الفعلية وإنما عدل عنها لأنها رأس فاصلة وفيه أنه لو قيل تصمتون تم المراد
وقيل : إن ضمير تدعوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أو له عليه الصلاة و السلام وجمع للتعظيم وضمير المفعولين للمشركين والمراد بالهدى دين الحق أي إن تدعوا المشركين إلى الإسلام لا يتبعوكم أي لم يحصلوا ذلك منكم ولم يتصفوا به وتعقب بأنه مما لا يساعده سباق النظم الكريم وسياقه أصلا على أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون فإن إستواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة للمشركين لا بالنسبة إلى الداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة ولعل رواية ذلك عن الحسن غير ثابتة والطبرسي حاطب ليل إن الذين تدعون تقرير لما قبله من عدم إتباعهم لهم والدعاء إما بمعنى العبادة تسمية لها بجزئها أو بمعنى التسمية كدعوته زيدا ومفعولاه محذوفان أي إن الذين تعبدونهم
(9/143)

من دون الله أو تسمونهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى : عباد أمثالكم أي مماثلة لكم من حيث أنها مملوكة لله تعالى مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضر كما قال الأخفش وتشبيهها بهم في ذلك مع كون عجزها عنهما أظهر وأقوى من عجزهم إنما هو لإعترافهم بعجز أنفسهم وزعمهم قدرتها عليهما إذ هو الذي يدعوهم إلى عبادتها والإستعانة بها وقيل : يحتمل أنهم لما نحتوا الأصنام بصور الأناسي قال سبحانه لهم : إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لايستحق بعضكم عبادة بعض فتكون المثلية في الحيوانية والعقل على الفرض والتقدير لكونهم بصورة الأحياء العقلاء وقرأ سعيد بن جبير إن الذين تدعون بتخفيف إن ونصب عبادا أمثالكم وخرجها ابن جني على أن إن نافية عملت عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وبعض الكوفيين واعترض أولا بأنه لم يثبت مثل ذلك وثانيا بأنه يقتضي نفي كونهم عبادا أمثالهم والقراءة المشهورة تثبته فتتناقض القراءتان وأجيب عن الأول بأن القائل به يقول : إنه ثابت في كلام العرب كقوله : إن هو مستوليا على أحد إلا على أضعف المجانين وعن الثاني أنه لا تناقض لأن المشهورة تثبت المثلية من بعض الوجوه وهذه تنفيها من كل الوجوه أو من وجه آخر فإن الأصنام جمادات مثلا والداعين ليسوا بها وقيل : إنها إن المخففة من المثقلة وإنها على لغة من نصب بها الجزئين كقوله : إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن خطاك خفافا أن حراسنا أسدا في رأي ولا يخفى أن إعمال المخففة ونصب جزئيها كلاهما قليل ضعيف ومن هنا قيل : إنها مهملة وخبر المبتدأ محذوف وهو الناصب لعبادا و أمثالكم على القراءتين نعت لعباد عليهما أيضا وقريء أن بالتشديد و عبادا بالنصب على أنه حال من العائد المحذوف و أمثالكم بالرفع على أنه خبر أن وقريء به مرفوعا في قراءة التخفيف ونصب عباد وخرج ذلك على الحالية والخبرية أيضا فادعوهم فليستجيبوا لكم تحقيق لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتهم أي فادعوهم في رفع ضرأ وجلب نفع إن كنتم صادقين
491
- في زعمكم أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون عنه وقوله تعالى : ألهم أرجل يمشون بها الخ تبكيت إثر تبكيت مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي من عدم الإستجابة ببيان فقدان آلاتها بالكلية وقيل : إنه على الإحتمال الأول في المماثلة كر على المثلية بالنقض لأنهم أدون منهم وعبادة الشخص من هو مثله لا تليق فكيف من هو دونه وعلى الإحتمال الثاني فيها عود على الفرض المبني عليه المثلية بالإبطال وعلى قراءة التخفيف وإرادة النفي تقرير لنفي المماثلة بإثبات القصور والنقصان ووجه الإنكار إلى كل واحد من تلك الآلآت الأربع على حدة تكريرا للبكيت وتثنية للتقريع وإشعارا بأن إنتفاء كل واحدة منها بحيالها كاف في الدلالة على إستحالة الإستجابة وليس المراد أن من لم يكن له هذه لا يستحق الألوهية وإنما يستحقها من كانت له ليلزم إما نفي إستحقاق الله تبارك وتعالى لها أو إثبات ذلك له كما ذهب إليه بعض المجسمة واستدل بالآية عليه بل مجرد إثبات العجز ومن ذلك يعلم نفي الإستحقاق ووصفه الأرجل بالمشي بها للإيذان بأن مدار الإنكار هو الوصف وإنما وجه إلى الأرجل لا إلى الوصف بأن يقال : أيمشون بأرجلهم لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجل فهي ليست بأرجل في الحقيقة وكذا
(9/144)

الكلام فيما بعد من الجوارح الثلاثة الباقية وكلمة أم في قوله تعالى : أم لهم أيد يبطشون بها منقطعة وما فيها من الهمزة لما مر من البكيت وبل للإضراب المفيد للإنتقال من فن منه بعد تمامه إلى آخر منه مما تقدم والبطش الأخذ بقوة
وقرأ أبو جعفر يبطشون بضم الطاء وهو لغة فيه والمعنى بل ألهم أيد يأخذون بها ما يريدون أو يدفعون بها عنكم وتأخير هذا عما قبله كما قال شيخ الإسلام لما أن المشي حالهم في أنفسهم والبطش حالهم بالنسبة إلى الغير وأما تقديم ذلك على قوله تعالى : أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم ءاذان يسمعون بها مع أن الكل سواء في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلة بين الأيدي والأرجل ولأن إنتفاء المشي والبطش أظهر والبكيت به أقوى وأما تقديم الأعين على الآذان فلأنها أشهر منها وأظهر عينا وأثرا وكون الإبصار بالعين والسماع بالأذن جار على الظاهر المتعارف واستدل بالآية من قال : إن الله تعالى أودع في بعض الأشياء قوة بها تؤثر إذا أذن الله تعالى لها خلافا لمن قال : إن التأثير عندها لا بها وزعم أن ذلك القول قريب إلى الكفر وليس كما زعم بل هو الحق الحقيق بالقبول قل ادعوا شركاءكم أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يناصبهم المحاجة ويكرر عليهم البكيت بعد أن بين أن شركاءهم لا يقدرون على شيء أصلا أي أدعوا شركاءكم واستعينوا بهم علي ثم كيدون جميعا أنتم وشركاؤكم وبالغوا في ترتيب ما تقدرون عليه من مبادي المكر والكيد فلا تنظرون
591
- فلا تمهلوني ساعة بعد ترتيب مقدمات الكيد فإني لا أبالي بكم أصلا وياء المتكلم في الفعلين مما لم يثبتوها خطا وقرأ أبو عمرو بإثبات ياء كيدون وصلا وحذفها وقفا وهشام بإثباتها في الحالين والباقون بحذفها فيهما وفي هود فكيدوني جميعا بإثبات الياء مطلقا عند الجميع وأما ياء 0 فلا تنظرون فقد قال الأجهوري : إنهم حذفوها لا غير إن ولي الله الذي نزل الكتاب تعليل لعدم المبالاة المنفهم من السوق إنفهاما جليا وأل في الكتاب للعهد والمراد منه القرآن ووصفه سبحانه بتنزيل الكتاب للإشعار بدليل الولاية وكأنه وضع نزل الكتاب موضع أرسلني رسولا ولا شك أن الإرسال يقتضي الولاية والنصرة وقيل : إن في ذلك إشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة كأنه قيل : لا أبالي بكم وبشركائكم لأن وليي هو الله تعالى الذي نزل الكتاب الناطق بأنه ولي وناصري وبأن شركاءكم لايستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نصركم وقوله سبحانه وتعالى : وهو يتولى الصالحين
691
- تذييل مقرر لمضمون ما قبله أي ومن عادته جل شأنه أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم وقال الطيبي : إنما خص إسم الذات بتنزيل الكتاب وجعلت الآية تعليلا للدلالة على تفخيم أمر المنزل وأنه الفارق بين الحق والباطل وأنه المجلي لظلمات الشرك والمفحم لألسن أرباب البيان والمعجز الباقي في كل أوان وهو النور المبين والحبل المتين وبه أصلح الله تعالى شؤون رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث كمل به خلقه وأقام به أوده وأفسد به الأباطيل المعطلة ومن ثم جيء بقوله سبحانه وتعالى : وهو الخ كالتذييل والتقرير لما سبق والتعريض بمن فقد الصلاح بالخذلان والمحق والمعنى إن وليي الذي نزل الكتاب المشهور الذي تعرفون حقيقته ومثله
(9/145)

يتولى الصالحين ويخذل غيرهم ولا يخفى أن ما ذكر أولا في أمر الوصفية أنسب بالمقام وأمر التذييل مما لا مرية فيه وهذه الآية مما جربت المداومة عليها للحفظ من الأعداء وكانت ورد الوالد عليه الرحمة في الأسحار وقد أمره بذلك بعض الأكابر في المنام والجمهور على تشديد الياء الأولى من ولي وفتح الثانية ويقرأ بحذفها في اللفظ لسكونها وسكون ما بعدها وبفتح الأولى ولا ياء بعدها وحذف الثانية من اللفظ تخفيفا
والذين تدعون من دونه أي تعبدونهم أو تدعونهم من دونه سبحانه وتعالى للإستعانة بهم علي حسبما أمرتكم به لايستطيعون نصركم في أمر من الأمور ويدخل في ذلك الأمر المذكور دخولا أوليا وجوز الإقتصار عليه ولا أنفسهم ينصرون إذا أصيبوا بحادثة وإن تدعوهم إلى الهدى أي إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم مطلقا أو في خصوص الكيد المعهود لا يسمعوا أي دعاءكم فضلا عن المساعدة والإمداد وهذا أبلغ من نفي الإتباع وحمل السماع على القبول كما في سمع الله لمن حمده كما زعمه بعضهم ليس بشيء وقوله سبحانه وتعالى : وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع وبهذا على ما قيل تم التعليل لعدم المبالاة فلا تكرار أصلا وقال الواحدي : إن ما مر للفرق بين من تجوز عبادته وغيره وهذا جواب ورد لتخويفهم له صلى الله تعالى عليه وسلم بآلهتهم والرؤية بصرية وجملة ينظرون في موضع الحال من المفعول الراجع للأصنام والجملة الإسمية حال من فاعل ينظرون والخطاب لكل واحد من المشركين والمعنى وترى الأصنام رأي العين يشبهون الناظر إليك ويخيل لك أنهم يبصرون لما أنهم صنع لهم أعين مركبة بالجواهر المتلألئة وصورت بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه والحال أنهم غير قادرين على الإبصار وتوجيه الخطاب إلى كل واحد من المشركين دون الكل من حيث هو كل كالخطابات السابقة للإيذان بأن رؤية الأصنام على الهيئة المذكورة لايتسنى للكل معا بل لكل من يواجهها
وذهب غير واحد إلى أن الخطاب في تراهم لكل واقف عليه وقيل للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وضمير الغيبة على حاله أو للمشركين على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى : لايسمعوا أي وترى المشركين ناظرين إليك والحال أنهم لا يبصرونك كما أنت عليه أو لا يبصرون الحجة كما قال السدي ومجاهد ونقل عن الحسن أن الخطاب في وإن تدعوهم للمؤمنين على أن التعليل قد تم عند قوله سبحانه وتعالى : ينصرون أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ولا يقبلوا منكم وعلى هذا يحسن تفسير السماع بالقبول وجعل وتراهم خطابا لسيد المخاطبين بطريق التجريد وفي الكلام تنبيه على أن ما فيه عليه الصلاة و السلام من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على الناظرين
وجوز بعضهم أن تكون الرؤية علمية وما كان في موضع الحال يكون في موضع المفعول الثاني والأول أولى
خذ العفو أي عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس وإلى هذا ذهب ابن عمر وابن الزبير وعائشة ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم وأخرجه ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن آدم مرفوعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والأخذ مجاز عن القبول والرضا أي ارض من الناس بما تيسر من أعمالهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا ومن ذلك قوله :
(9/146)

خذي العفو مني تستديمي وجوز أن يراد بالعفو ظاهره أي خذ العفو عن المذنبين والمراد اعف عنهم وفيه إستعارة مكنية إذ شبه العفو بأمر محسوس يطلب فيؤخذ وإلى هذا ذهب جمع من السلف ويشهد له ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : لما أنزل الله تعالى خذ العفو إلى آخره قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما هذا يا جبريل قال : لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال : إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك
وأخرج ابن مردويه عن جابر نحو ذلك ولعل زبدة الحديث مفسرة لزبدة الآية وإلا فالتطبيق مشكل كما لا يخفى وتكلف القطب لتطبيق ألفاظه على ألفاظها وفيه خفاء وعن ابن عباس المراد بالعفو ما عفى من أموال الناس أي خذ أي شيء أتوك به وكان هذا قبل فرض الزكاة وقيل : العفو ما فضل عن النفقة من المال وبذلك فسره الجوهري وإليه ذهب السدي فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال : نزلت هذه الآية فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفضل فنسخها الله تعالى بالزكاة وأمر بالمعروف أي بالمعروف المستحسن من الأفعال فإن ذلك أقرب إلى قبول الناس من غير نكير وفي لباب التأويل أن المراد وأمر بكل ما أمرك الله تعالى به وعرفته بالوحي وقال عطاء : المراد بالعرف كلمة لا إله إلا الله وهو تخصيص من غير داع وأعرض عن الجاهلين أي ولا تكافيء السفهاء بمثل سفههم ولا تمترهم واحلم عليهم وأغض بما يسوءك منهم وعن السدي أن هذا أمر بالكف عن القتال ثم نسخ بآيته ولا ضرورة إلى دعوى النسخ في الآية كما لا يخفى على المتدبر وقد ذكر غير واحد أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية
وزبدتها كما قالوا تحري حسن المعاشرة مع الناس وتوخي بذل المجهود في الإحسان إليهم والمداراة منهم والإغضاء عن مساويهم وجعلوا نحو ذلك زبدة الخبر إلا أن القرآن مادته عامة ومادته خاصة وقد علم كل أناس مشربهم ولا يخفى حسن موقع هذا الأمر بعد ما عد من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق حمله وإذ قيل : بأن الجاهلين موضوع موضع ضمير أولئك المشركين حيث أن الكلام فيهم تسجيلا عليهم بعدم الإرعواء وإقناطا كليا منهم التأمت أطراف الكلام غاية الإلتئام هذا وعن ابن زيد أنه لما نزل قوله تعالى : وأعرض عن الجاهلين قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كيف يا رب والغضب فنزل قوله سبحانه وتعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ النزغ والنسغ والنخس بمعنى وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا أو ما يشبه ذلك في الجلد وعن ابن زيد أنه قال : نزغت ما بين القوم إذا أفسدت ما بينهم وقال الزجاج : هو أدنى حركة تكون ومن الشيطان وسوسته والمعنى الأول هو المشهور وإطلاقه على وسوسة الشيطان مجاز حيث شبه وسوسته إغراء للناس على المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه وإسناد الفعل إلى المصدر مجازي كما في جد جده وقيل : النزغ بمعنى النازغ فالتجوز في الطرف والأول أبلغ وأولى أي إما يحملنك من جهة الشيطان وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من إعتراء غضب أو نحوه فاستعذ بالله فاستجر به والتجيء إليه سبحانه وتعالى في دفعه عنك إنه سميع يسمع على أكمل وجه إستعاذتك قولا عليم
2
- يعلم كذلك تضرعك
(9/147)

إليه قلبا في ضمن القول أو بدونه فيعصمك من شره أو سميع أي مجيب دعاءك بالإستعاذة عليم بما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه أو سميع بأقوال من آذاك عليم بأفعاله فيجازيه عليها والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب لئن أشركت ليحبطن عملك فلا حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وسوسة الشيطان وإرتكاب المعاصي وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا : وإياك يا رسول الله قال : وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير وقال آخرون : إن نزغ الشيطان بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم مجاز عن إعتراء الغضب المقلق للنفس وفي الآية حينئذ زيادة تنفير عن الغضب وفرط تحذير عن العمل بموجبه ولذا كرر صلى الله تعالى عليه وسلم النهي عنه كما جاء في الحديث وفي الأمر بالإستعاذة بالله تعالى تهويل لذلك وتنبيه على أنه من الغوائل التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالإلتجاء إلى حرم عصمته عز و جل إن الذين اتقوا إستئناف مقرر لما قبله من الأمر ببيان أن الإستعاذة سنة مسلوكة للمتقين والإخلال بها شنشنة الغاوين أي إن الذين اتصفوا بتقوى الله تعالى إذا مسهم طائف من الشيطان أي لمة منه كما روي عن ابن عباس وتنويه للتحقير والمراد وسوسة ما وهو اسم فاعل من طاف بالشيء إذا دار حوله وجعل الوسوسة طائفا للإيذان بأنها وإن مست لا تؤثر فيهم فكأنها طافت حولهم ولم تصل إليهم
وجوز أن يكون من طاف طيف الخيال إذا ألم في المنام فالمراد به الخاطر وذهب غير واحد إلى أن المراد بالطائف الغضب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب طيف على أنه مصدر أو تخفيف من طيف من الواوي أو اليائي كهين ولين والمراد بالشيطان الجنس لا إبليس فقط ولذا جمع ضميره فيما سيأتي تذكروا أي ما أمر الله تعالى به ونهى عنه أو الإستعاذة به تعالى والإلتجاء إليه سبحانه وتعالى أو عداوة الشيطان وكيده فإذا هم بسبب ذلك التذكر مبصرون مواقع الخطأ ومناهج الرشد فيحترزون عما يخالف أمر الله تعالى وينجون عما لا يرضيه سبحانه وتعالى والظاهر أن المراد من الموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقا وقال بعض المحققين : إن الخطاب في قوله سبحانه وتعالى : وإما ينزغنك الخ إما أن يكون مختصا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما هو الظاهر فالمناسب أن يراد بالمتقين المرسلون من أولي العزم أو يكون عاما على طريقة بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة أو خاصا يراد به العام نحو يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فالمتقون حينئذ الصالحون من عباد الله تعالى انتهى ولا يخفى أن الملازمة في الشرطية الأولى في حيز المنع والعموم هو المتبادر على كل حال وزعم بعضهم أن المراد بالمتقين المنسوب إليهم المس غير الأنبياء عليهم السلام وجعل الخطاب فيما سبق خاصا بالسيد الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم وادعى أن النزغ أول الوسوسة والمس لا يكون إلا بعد التمكن ثم قال : ولذا فضل الله سبحانه وتعالى بين النبي عليه الصلاة و السلام وغيره من سائر المتقين فعبر في حقه عليه الصلاة و السلام بالنزغ وفي حقهم بالمس وقد يقال : إن إهتمام الشيطان في الوسوسة للكامل أكمل من إهتمامه في الوسوسة لمن دونه فلذا عبر أولا بالنزغ وثانيا بالمس وإخوانهم أي إخوان الشياطين الذين لم يتقوا وذلك معنى الأخوة بينهم وهو مبتدأ
(9/148)

وقوله سبحانه وتعالى : يمدونهم في الغي خبره والضمير المرفوع للشياطين والمنصوب للمبتدأ أي تعاونهم الشياطين في الضلال وذلك بأن يزينوه لهم ويحملوهم عليه والخبر على هذا جار على غير من هو له وفي أنه هل يجب إبراز الضمير أو لا يجب في مثل ذلك خلاف بين أهل القريتين كالصفة المختلف فيها بينهم وقيل : إن الضمير الأول للإخوان والثاني للشياطين والمعنى وإخوان الشياطين يمدون الشياطين بالإتباع والإمتثال وعلى هذا يكون الخبر جاريا على من هو له والجار والمجرور متعلق بما عنده وجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول وقرأ نافع يمدونهم بضم الياء وكسر الميم من الإمداد والجمهور على فتح الياء وضم الميم
وقال أبو علي في الحجة بعد نقل ذكر ذلك : وعامة ما جاء في التنزيل مما يجمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله تعالى : إنما نمدهم به من مال وبنين وأمددناهم بفاكهة و أتمدونني بمال وما كان بخلافه على مددت قال تعالى : ويمدهم في طغيانهم يعمهون وهكذا يتكلمون بما يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر ووجه قراءة نافع أنه مثل فبشرهم بعذاب أليم وسنيسره للعسرى وقرأ الجحدري يمادونهم من باب المفاعلة وهي هنا مجازية كأنهم كان الشياطين يعينوهم بالإغراء وتهوين المعاصي عليهم وهؤلاء يعينون الشياطين بالإتباع والإمتثال ثم لا يقصرون أي لا يمسكون ولا يكفون عن إغوائهم حتى يردوهم بالكلية فهو أقصر إذا أقلع وأمسك كما في قوله
(9/149)

سما لك شوق بعد ما كان أقصرا
وجوز أن يكون الضمير للإخوان وروي ذلك عن ابن عباس والسدي وإليه ذهب الجبائي أي ثم لا يكف هؤلاء عن الغي ولا يقصرون كالمتقين وجوز أيضا أن يراد بالإخوان الشياطين وضمير الجمع المضاف إليه أولا والمفعول ثانيا والفاعل ثالثا يعود إلى الجاهلين في قوله سبحانه وتعالى : وأعرض عن الجاهلين أي وإخوان الجاهلين وهم الشياطين يمدون الجاهلين في الغي ثم لا يقصر الجاهلون عن ذلك والخبر على هذا أيضا جار على ما هو له كما في بعض الأوجه السابقة والأول أولى رعاية للمقابلة وقرأ عيسى بن عمر يقصرون بفتح الياء وضم الصاد من قصر وهو مجاز عن الإمساك أيضا وإذا لم تأتهم آية من القرآن عند تراخي الوحي كما روي عن مجاهد وقتادة والزجاج أو بآية مقترحة كما روي عن ابن عباس والجبائي وأبي مسلم قالوا لولا اجتبيتها أي هلا جمعتها ولفقتها من عند نفسك إفتراء أو هلا أخذتها من الله تعالى بطلب منه وهو تهكم منهم لعنهم الله تعالى ومما ذكرنا يعلم أن لا جتبى معنيين جمع وأخذ ويختلف المراد حسب الإختلاف في تفسير الآية وعن علي بن عيسى أن الإجتباء في الأصل الإستخراج ومنه جباية الخراج وقيل : أصله الجمع من جبيت الماء في الحوض جمعته ومنه قيل للحوض جابية لجمعه الماء وإلى هذا ذهب الراغب وفي الدر المصون جبى الشيء جمعه مختارا ولذا غلب اجتبته بمعنى اخترته
وقال الفراء يقال اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك وكذا اخترعته عند أبي عبيدة وقال ابن زيد : هذه الأحرف تقولها العرب للكلام يبتديه الرجل لم يكن أعده قبل ذلك في نفسه ومن جعل الأصل شيئا لا ينكر الإستعمال في الآخر مجازا كما لا يخفى قل ردا عليهم إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي من غير أن يكون لي دخل ما في ذلك أصلا على معنى تخصيص حاله عليه الصلاة و السلام بإتباع ما يوحى إليه
(9/0)

بتوجيه القصر إلى نفس الفعل بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه إياه عليه الصلاة و السلام لا على معنى تخصيص إتباعه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يوحى إليه بتوجيه القصر بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الشائع في موارد الإستعمال كأنه قيل : ما أفعل إلا إتباع ما يوحى إلي منه تعالى دون الإختلاف والإقتراح وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام ما لا يخفى هذا إشارة إلى القرآن الجليل المدلول عليه بما يوحى إلي بصائر من ربكم أي بمنزلة البصائر للقلوب بها تبصر الحق وتدرك الصواب أو حجج بينة وبراهين نيرة تغني عن غيرها فالكلام خارج مخرج التشبيه البليغ وقد حققت ما فيه على الوجه الأتم في الطراز المذهب أو فيه مجاز مرسل حيث أطلق المسبب على السبب وجوز أن تكون البصائر مستعارة لإرشاد القرآن الخلق إلى إدراك الحقائق وهذا مبتدأ وبصائر خبره وجمع خبر المفرد لإشتماله على آيات وسور جعل كل منها بصيرة و من متعلقة بمحذوف وقع صفة لبصائر مفيدة لفخامتها أي بصائر كائنة منه تعالى والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد وجوب الإيمان بها وقوله سبحانه وتعالى : وهدى ورحمة عطف على بصائر وتنوينهما للتفخيم وتقديم الظرف عليهما وتعقيبهما بقوله تعالى : لقوم يؤمنون
302
- كما قال شيخ الإسلام للإيذان بأن كون القرآن بصائر متحقق بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع وأما كونه هدى ورحمة فمختص بالمؤمنين إذ هم المقتبسون من أنواره والمقتطفون من نواره وهذا مخالف لما يفهمه كلام البعض من أن الثلاثة للمؤمنين فقد قال النيسابوري في التفسير : إن البصائر لأصحاب عين اليقين والهدى لأرباب علم اليقين والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين على أتم وجه والجميع لقوم يؤمنون وذكر نحو ذلك الخازن وادعى أنه من اللطائف وهو خلاف الظاهر بل لا يكاد يسلم وهذه الجملة على ما يظهر من تمام القول المأمور به
واحتج بالآية من لم يجوز الإجتهاد للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه نظر وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا إرشاد إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلة التي ينطوي عليها القرآن والإستماع معروف واللام جوز أن تكون أجلية وأن تكون بمعنى إلى وأن تكون صلة أي فاستمعوه والإنصات السكوت يقال : نصت ينصت وأنصت وانتصت إذا سكت والإسم النصتة بالضم ويقال كما قال الأزهري : أنصته وأنصت له إذا سكت له واستمع لحديثه وجاء أنصته إذا أسكته والعطف للإهتمام بأمر القرآن وعلل الأمر بقوله سبحانه وتعالى : لعلكم ترحمون
402
- أي لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أقصى ثمراته والآية دليل لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في أن المأموم لا يقرأ في سرية ولا جهرية لأنها تقتضي وجوب الإستماع عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وقد قام الدليل في غيرها على جواز الإستماع وتركه فبقى فيها على حاله في الإنصات للجهر وكذا في الإخفاء لعلمنا بأنه يقرأ ويؤيد ذلك أخبار جمة فقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد قال : قرأ رجل من الأنصار خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة فنزلت وإذا قريء القرآن الخ
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فسمع أناسا يقرؤن خلفه فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفهموا أما آن لكم أن تعقلوا وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله تعالى
(9/150)

وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن ثابت قال : لا قراءة خلف الإمام وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا وأخرج أيضا عن جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من كان له إمام فقراءته له قراءة وهذا الحديث إذا صح وجب أن يخص عموم قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا صلاة إلا بقراءة على طريقة الخصم مطلقا فيخرج المقتدي وعلى طريقتنا أيضا لأن ذلك العموم قد خص منه البعض وهو المدرك في الركوع إجماعا فجاز التخصيص بعده بالمقتدي بالحديث المذكور وكذا يحمل قوله عليه الصلاة و السلام للمسيء صلاته : فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن على غير حالة الإقتداء جمعا بين الأدلة بل قد يقال : إن القراءة ثابتة من المقتدي شرعا فإن قراءة الإمام قراءة له فلو قرأ لكان له قراءتان في صلاة واحدة وهو غير مشروع بقي الكلام في تصحيح الخبر وقد روي من طرق عديدة مرفوعا عن جابر رضي الله تعالى عنه عنه عليه الصلاة و السلام وقد ضعف واعترف المضعفون لرفعه كالدارقطني والبيهقي وابن عدي بأن الصحيح أنه مرسل لأن الحفاظ كالسفيانيين وأبي الأحوص وشعبة وإسرائيل وشريك وجرير وأبي الزبير وعبد ابن حميد وخلق آخرين رووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن شداد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأرسلوه وقد أرسله مرة أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وحينئذ لنا أن نقول المرسل حجة عند أكثر أهل العلم فكيفنا فيما يرجع إلى العمل على رأينا وعلى طريق الإلزام أيضا بإقامة الدليل على حجية المرسل أيضا وعلى تقدير التنزل عن حجيته فقد رفعه الإمام بسند صحيح
وروى محمد بن الحسن في موطئه قال : أنبأنا أبو حنيفة حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله ابن شداد عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة وقولهم : إن الحفاظ الذين عدوهم لم يرفعوه غير صحيح فقد قال أحمد بن منيع في مسنده : أخبرنا إسحق الأزرق حدثنا سفيان وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن شداد عن جابر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة
ثم قال وحدثنا جرير عن موسى عن عبدالله عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلمفذكره ولم يذكر جابرا ورواه عبد بن حميد قال : حدثنا أبو نعيم حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكره وإسناد حديث جابر الأول على شرط الشيخين والثاني على شرط مسلم فهؤلاء سفيان وشريك وجرير وأبو الزبير ورفعوه بالطرق الصحيحة فبطل عدهم فيمن لم يرفعه ولو تفرد الثقة وجب قبوله لأن الرفع زيادة وزيادة الثقة مقبولة فكيف ولم ينفرد والثقة قد يسند الحديث تارة ويرسله أخرى وأخرجه ابن عدي عن الإمام رضي الله تعالى عنه في ترجمته وذكر فيها قصة وبها أخرجه أبو عبدالله الحاكم قال : حدثنا أبومحمد بن بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي حدثنا عبدالصمد بن الفضل البلخي حدثنا مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن شداد بن الهاد عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى ورجل خلفه يقرأ فجعل رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ينهاه عن القراءة في الصلاة فلما انصرف أقبل عليه الرجل قال : أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنازعا حتى ذكرا ذلك للنبي صلى الله تعالى
(9/151)

عليه وسلم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة وفي رواية لأبي حنيفة إن ذلك كان في الظهر أو العصر وهي أن رجلا قرأ خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الظهر أو العصر فأومأ إليه رجل فنهاه فلما انصرف قال : أتنهاني الحديث نعم إن جابرا روى منه محل الحكم فقط تارة والمجموع تارة ويتضمن رد القراءة خلف الإمام لأنه خرج تأييدا لنهي ذلك الصحابي عنها مطلقا في السرية والجهرية خصوصا في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في السرية لا إباحة فعلها وتركها فيعارض ما روى في بعض رويات حديث مالي أنازع في القرآن إنه قال : إنه لابد 1 ففي الفاتحة وكذا ما رواه أبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت قال : كنا خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فثقلت عليه القراءة فلما فرغ قال : لعلكم تقرءون خلف إمامكم قلنا : نعم هذا قال : لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها ويقدم لتقدم المنع على الإطلاق عند التعارض ولقوة السند فإن حديث المنع أصح فبطل رد المتعصبين وتضعيف بعضهم لمثل الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مع تضييقه في الرواية إلى الغاية حتى أنه شرط التذكر لجوازها بعد علم الراوي أن ذلك المروي خطه ولم يشترط الحفاظ هذا ولم يوافقه صاحباه على أن الخبر قد عضد بروايات كثيرة عن جابر غير هذه وإن ضعفت وبمذاهب الصحابة أيضا كابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود
وأخرج محمد عن داود بن قيس بن عجلان أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجرا وروي مثل ذلك عن سعد بن أبي وقاص وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه إلا أن فيه مقالا أنه قال : من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة وقال الشعبي : أدركت سبعين بدريا كلهم يمنعون المقتدي عن القراءة خلف الإمام وقد ادعى بعض أصحابنا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك ولعل مراده بذلك إجماع كثير من كبارهم وإلا ففيه نظر وكون مراده الإجماع السكوتي ليس بشيء أيضا وذهب قوم إلى أن المأموم يقرأ إذا أسر الإمام القراءة ولا يقرأ إذا جهر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحق وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وحجتهم فيما قيل : إن الآية تدل على الأمر بالإستماع لقراءة القرآن والسنة تدل على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السر جمعا بين الدلائل وقال آخرون : إنما يقرأ في السرية لأنه لا يقال له مستمع واعترض بأنه وإن سلمنا أنه لا يقال له منصت مع علمه بالقراءة وبأنا لا نسلم دلالة السنة على وجوب القراءة خلف الإمام ودون إثبات ذلك خرط القتاد على أن الجزم العمل بأقوى الدليلين وليس مقتضى أقوالهما إلا المنع ومن هنا ضعف ما يروى عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه يستحسن قراءة الفاتحة على سبيل الإحتياط مخالفا لما ذهب إليه الإمام وأبو يوسف من كراهة القراءة لما في ذلك من الوعيد والحق أن قوله كقولهما فقد قال في كتاب الآثار بعد ما أسند إلى علقمة بن قيس : إنه ما قرأ قط فيما يجهر به ولا فيما لا بجهر به وبه نأخذ فلا نرى القراءة خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أو لا يجهر فيه ولا ينبغي أن يقرأ خلفه في شيء منها وذكر في موطئه نحو ذلك وقال السرخسي تفسد صلاة القاريء خلف الإمام في قول عدة من
(9/152)

الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومنهم فيما قيل سعد بن أبي وقاص وفي رواية المزني عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يقرأ في الجهرية والسرية وفي رواية البويطي أنه يقرأ في السرية أم القرآن ويضم السورة في الأوليين ويقرأ في الجهرية أم القرآن فقط والمشهور عند الشافعية أنه لا سورة للمأموم الذي يسمع الإمام في جهرية بل يستمع فإن بعد بأن لم يسمع أو سمع صوتا لا يميز حروفه أو كانت سرية قرأ في الأصح وسبب النزول لم يكن القراءة في الصلاة بل أمر آخر فقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت وحاصلها النهي عن التكلم عن القراءة ومن الناس من فسر القرآن بالخطبة والأمر بالإستماع أما للوجوب أو الندب وعندنا الإنصات في الخطبة فرض على تفصيل في المسئلة وأخرج غير واحد عن مجاهد رضي الله تعالى عنه أن الآية في الصلاة والخطبة يوم الجمعة وفي كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الإستماع في الجهر بالقرآن مطلقا
قال في الخلاصة : رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن فلا يمكنه إستماع القرآن فالإثم على القاريء وعلى هذا لو قرأ على السطح في الليل جهرا والناس نيام يأثم وهذا صريح في إطلاق الوجوب وعلل ذلك بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب و إذا هنا للكلية وغالب الشرطيات القرآنية المؤداة بها كلية هذا والمراد من الإستماع في الآية المعنى المتبادر منه وقال الزجاج : المراد منه القبول والإجابة وهو بهذا المعنى مجاز كما نص عليه في الأساس ومنه سمع الله تعالى لمن حمده وسمع الأمير كلام فلان ورجح ذلك العلامة الطيبي قال : وهذا أوفق لتأليف النظم الكريم سابقا ولاحقا وأجمع للمعاني والأقوال فإنه تعالى لما ذكر تعريضا أن المشركين إنما استهزأوا بالقرآن ونبذوه ورائهم ظهريا لأنهم فقدوا البصائر وعدموا الهداية والرحمة وأن حالهم على خلاف المؤمنين أمر المؤمنين بما هو أزيد من مجرد الإستماع وهو قبوله والعمل بما فيه والتمسك به وأن لا يجاوزه مرتبا للحكم على تلك الأوصاف ولذلك قيل : إذا قريء القرآن وضعا للمظهر موضع المضمر لمزيد الدلالة على العلية يعني إذا ظهر أيها المؤمنون إنكم لستم مثل هؤلاء المعاندين فعليكم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال الهادي إلى الصراط المستقيم الموصل إلى مقام الرحمة والزلفى فاستمعوه وبالغوا في الأخذ منه والعمل بما فيه ليحصل المطلوب ولعلكم ترحمون ويدخل في هذا وجوب الإنصات في الصلاة بطريق الأولى لأنها مقام المناجاة والإستماع من المتكلم وعلى هذا الإنصات عند تلاوة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم اه ويعلم منه أن الخطاب في الآية للمؤمنين بل هو نص في ذلك
وقال بعضهم : إن الخطاب فيها للكفار وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة و السلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على معانيه ومزاياه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات وأيد هذا بقوله سبحانه وتعالى : في آخر الآية لعلكم ترحمون بناء على أن ذلك للترجي وهو إنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزما في قوله تعالى : ورحمة لقوم يؤمنون وأجيب بأن هذه الرحمة المرجوة غير تلك الرحمة ولئن سلم كونها إياها فالأطماع من الكريم واجب فلم يبق فرق وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى أن مدار القراءة من أي قاريء كان وفي الآية من الدلالة على تعظيم شأن القرآن ما لا يخفى ومن
(9/153)

هنا قال بعض الأصحاب : يستحب لمريد قراءته خارج الصلاة أن يلبس أحسن ثيابه ويتعمم ويستقبل القبلة تعظيما له ومثله في ذلك العلم ولو قرأ مضطجعا فلا بأس إذ هو نوع من الذكر وقد مدح سبحانه ذاكريه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويضم رجليه عند القراءة ولا يمدها لأنه سوء أدب ولو قرأ ماشيا أو عند النسج ونحوه من الأعمال فإن كان القلب حاضرا غير مشتغل لم يكره وإلا كره ولا يقرأ وهو مكشوف العورة أو كان بحضرته من هو كذلك وإن كانت زوجته وكره بعضهم القراءة في الحمام والطريق قال النووي : ومذهبنا لا تكره فيهما وتكره في الحش وبيت الرحى وهي تدور عند الشعبي وهو مقتضى مذهبنا والكلام في آداب القراءة وما ينبغي للقاريء طويل وفي الإتقان قدر له من ذلك فإن كان عندك فارجع إليه
والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به ويحتمل أن تكون إستئنافا من جهته تعالى قيل : وعلى الأول فقوله سبحانه وتعالى : واذكر ربك في نفسك عطف على قل وعلى الثاني فيه تجريد الخطاب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو عام لكل ذكر فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب من القبول وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وقال الإمام : المراد بالذكر في نفسه أن يكون عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضرا لصفات الكمال والعز والعظمة والجلال وذلك لأن الذكر باللسان عاريا عن الذكر بالقلب كأنه عديم الفائدة بل ذكر جمع أن الذكر اللساني الساذج لا ثواب فيه أصلا ومن أتى بالكلمة الطيبة غير ملاحظ معناها أو جاهلا به لا يعد مؤمنا عند الله تعالى وقيل : الخطاب لمستمع القرءان والذكر القرءان والمراد أمر المأموم بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام عن قراءته وفيه بعد ولو إلتزم قول الإمام وقوله سبحانه وتعالى : تضرعا وخيفة في موضع الحال بتأويل اسم الفاعل أي متضرعا وخائفا أو بتقدير مضاف أي ذا تضرع وخيفة وكونه مفعولا لأجله غير مناسب
وجوز بعضهم كون ذلك مصدرا لفعل من غير المذكور وليس بشيء وأصل خيفة خوفة ودون في قوله تعالى : ودون الجهر من القول صفة لمعمول حال محذوفة أي ومتكلما كلاما ما دون الجهر لأن دون لا تتصرف على المشهور والعطف على تضرعا وقيل : لا حاجة إلى ما ذكر والعطف على حاله والمراد ذكره متضرعا ومقتصدا وقيل : إن العطف على قوله تعالى : في نفسك لكن على معنى اذكره ذكرا في نفسك وذكرا بلسانك دون الجهر والمراد بالجهر رفع الصوت المفرط وبما دونه نوع آخر من الجهر قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو أن يسمع نفسه وقال الإمام : المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ويشعر كلام ابن زيد أن المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات أي اذكر ربك أيها المنصت في نفسك ولا تجهر بالذكر بالغدو جمع غدوة كما في القاموس وفي الصحاح الغدو نقيض الرواح وقد غدا يغدو غدوا وقوله تعالى : بالغدو أي بالغدوات جمع غدوة وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس فعبر بالفعل عن الوقت كما يقال : أتيتك طلوع الشمس أي وقت طلوعها وهو نص في أن الغدو مصدر لا جمع وعليه فقد يقدر معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو ليطابق قوله سبحانه وتعالى : والآصال وهو كما قال الأزهري جمع أصل وأصل جمع أصيل أعني ما
(9/154)

بين العصر إلى غروب الشمس فهو جمع الجمع وليس للقلة وليس جمعا لأصيل لأن فعيلا لا يجمع على أفعال وقيل : إنه جمع له لأنه قد يجمع عليه كيمين وأيمان وقيل : إنه جمع لأصل مفردا كعنق ويجمع على أصلان أيضا والجار متعلق باذكر وخص هذان الوقتان بالذكر قيل لأن الغدوة عندها ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية وفي الأصيل الأمر بالعكس أو لأنهما وقتا فراغ فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب وقيل : لأنهما وقتان يتعاقب فيهما الملائكة على ابن آدم وقيل : ليس المراد التخصيص بل دوام الذكر واتصاله أي اذكر كل وقت
وقرأ أبو مجاز لاحق بن حميد السدوسي والإيصال وهو مصدر آصل إذا دخل في الأصيل وهو مطابق لغدو بناء على القول بإفراده ومصدريته فتذكر ولا تكن من الغافلين
502
- عن ذكر الله تعالى إن الذين عند ربك وهم ملائكة الملأ الأعلى فالمراد من العندية القرب من الله تعالى بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزه الله تعالى عن ذلك وقيل : المراد عند عرش ربك لايستكبرون عن عبادته بل يؤدونها حسبما أمروا به ويسبحونه أي ينزهونه عما لا يليق بحضرة كبريائه على أبلغ وجه وله يسجدون
602
- أي ويخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون به غيره جل شأنه وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين كما يدل عليه تقديم له وجاز أن يؤخذ من مجموع الكلام كما آثره العلامة الطيبي لأنه تعليل للسابق على معنى ائتوا بالعبادة على وجه الإخلاص كما أمرتم فإن لم تأتوا بها كذلك فإنا مغنون عنكم وعن عبادتكم إن لنا عبادا مكرمين من شأنهم كذا وكذا فالتقديم على هذا للفاصلة ولما في الآية من التعريض شرع السجود عند هذه الآية إرغاما لمن أبى ممن عرض به قيل : وقد جاء الأمر بالسجدة لآية أمر فيها بالسجود إمتثالا للأمر أو حكى فيها إستنكاف الكفرة عنه مخالفة لهم أو حكى فيها سجود نحو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأسيا بهم وهذا من القسم الثاني بإعتبار التعريض أو من القسم الأخير بإعتبار التصريح وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في سجوده لذلك كما روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر اللهم لك سجد سوادي وبك آمن فؤادي اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن بالليل مرارا سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين وجاء عنها أيضا ما من مسلم سجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله تعالى بها درجة أو حط عنه بها خطيئة أو جمعهما له كلتيهما وأخرج مسلم وابن ماجة والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد إعتزل الشيطان يبكي يقول ياويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار واستدل بالآية على أن إخفاء الذكر أفضل ويوافق ذلك ما أخرجه أحمد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : خير الذكر الخفي وهي ناعية على جهلة زماننا من المتصوفة ما يفعلونه مما يستقبح شرعا وعقلا وعرفا فإنا لله وإنا إليه راجعون
هذا ومن باب الإشارة في الآيات هو الذي خلقكم من نفس واحدة وهي الروح وخلق منها زوجها
(9/155)

وهي القلب ليسكن إليها أي ليميل إليها ويطمئن فكانت الروح تشم من القلب نسائم نفحات الألطاف فلما تغشاها أي جامعها وهو إشارة إلى النكاح الروحاني والصوفية يقولون : إنه سائر في جميع الموجودات ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت حملت حملا خفيفا في البداية بظهور أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني فلما أثقلت كبرت وكثرت آثار الصفات دعوا الله ربهما لأنهما خافا من تبدل الصفات الروحانية النورانية بالصفات النفسانية الظلمانية لئن آتيتنا صالحا للعبودية لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا بحسب الفطرة من القوى جعلا له شركاء فيما آتاهما أي جعل أولادهما لله تعالى شركاء فيما آتى أولادهما فمنهم عبد البطن ومنهم عبد الخميصة ومنهم عبد الدرهم والدينار إن الذين تدعون من دون الله كائنا ما كان عبادا أمثالكم في العجز وعدم التأثير فادعوهم إلى أي أمر كان فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين في نسبة التأثير إليهم ألهم أرجل يمشون بها إستفهام على سبيل الإنكار أي ليس لهم أرجل يمشون بها بل الله عز و جل إذ هو الذي يمشيهم وكذا يقال فيما بعد قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون إن إستطعتم إن وليي الله حافظي ومتولي أمري الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين أي من قام به في حال الإستقامة وتراهم ينظرون إليك وهم لايبصرون الحق ولا حقيقتك لأنهم عمي القلوب في الحقيقة والضمير للكفار خذ العفو أي السهل الذي يتيسر لهم ولا تكلفهم ما يشق عليهم وأمر بالعرف أي بالوجه الجميل وأعرض عن الجاهلين فلا تكافئهم بجهلهم عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية قيل وذلك لقوة دلالتها على التوحيد فإن من شاهد مالك النواصي وتصرفه في عباده وكونهم فيما يأتون ويذرون به سبحانه وتعالى لا بأنفسهم لا يشاقهم ولا يداقهم في تكاليفهم ولا يغضب في الأمر والنهي ولا يتشدد ويحلم عنهم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله بالشهود والحضور فإنك ترى حينئذ أن لا فعل لغيره سبحانه وهذا إشارة إلى ما يعتري الإنسان أحيانا من الغضب وإيماء إلى علاجه بالإستعاذة قال بعضهم : إن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا إستقبح من المغضوب عليه عملا من الأعمال ثم إعتقد في نفسه كونه قادرا وفي المغضوب عليه كونه عاجزا وإذا إنكشف له نور من عالم العقل عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية وقد سبقت عليه الكلمة الأزلية فلا سبيل له إلى تركه وحينئذ يتغير غضبه وقد ورد من عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب فالإستعاذة بالله تعالى في المعنى طلب الإلتجاء إليه بإستكشاف ذلك النور إن الذين اتقوا الشرك إذا مسهم طائف من الشيطان لمة منه بنسبة الفعل إلى غيره سبحانه وتعالى تذكروا مقام التوحيد ومشاهدة الأفعال من الله تعالى فإذا هم مبصرون فعالية الله تعالى لا شيطان ولا فاعل غيره سبحانه في نظرهم وإخوانهم أي إخوان الشياطين من المحجوبين يمدونهم الشياطين في الغي وهو نسبة الفعل إلى السوي ثم لا يقصرون عن العناد والمراء والجدل و قالوا لولا إجتبيتها أي جمعتها من تلقاء نفسك قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي لأني قائم به لا بنفسي وإذا قريء القرآن فاستمعوا له أي القرآن بآذانكم الظاهرة وأنصتوا بحواسكم الباطنة وجوز أن يكون ضمير له للرب سبحانه أي إذا قريء القرآن فاستمعوا للرب جل شأنه فإنه المتكلم والمخاطب لكم به لعلكم ترحمون بالسمع الحقيقي أو برحمة تجلي المتكلم في كلامه بصفاته وأفعاله واذكر ربك في نفسك بأن تتحلى بما يمكن التحلي به من صفات الله تعالى وقيل : هو على حد لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
(9/156)

تضرعا وخيفة حسب اختلاف المقام ودون الجهر أي دون أن يظهر ذلك منك بل تكون ذاكرا به له بالغدو أي وقت ظهور نور الروح والآصال أي وقت غلبات صفات النفس ولا تكن في وقت من الأوقات من الغافلين عن شهود الوحدة الذاتية وقال بعض الأكابر : إن قوله سبحانه وتعالى : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة إشارة إلى أعلى المراتب وهو حصة الواصلين المشاهدين وقوله سبحانه وتعالى : ودون الجهر إشارة إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة وقوله جل شأنه : ولا تكن من الغافلين إيماء إلى مرتبة النازلين من السالكين وفي ذكر الخوف إشعار بإستشعار هيبة الجلال كما قال : أشتاقه فإذا بدا أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة وصيانة لجماله وذكروا أن حال المبتديء والسالك منوطة برأي الشيخ فإنه الطبيب لأمراض القلوب فهو أعرف بالعلاج فقد يرى له رفع الصوت بالذكر علاجا حيث توقف قطع الخواطر وحديث النفس عليه وفي عوارف المعارف للسهروردي قدس سره لا يزال العبد يردد هذه الكلمة على لسانه مع مواطأة القلب حتى تصير متأصلة فيه مزيلة لحديث النفس وينوب معناها في القلب عنه فإذا استولت الكلمة وسهلت على اللسان تشربها القلب ويصير الذكر حينئذ ذكر الذات وهذا الذكر هو المشاهدة والكاشفة والمعاينة وذاك هو المقصد الأقصى من الخلوة وقد يحصل ما ذكر بتلاوة القرآن أيضا إذا أكثر التلاوة واجتهد في مواطأة القلب مع اللسان حتى تجري التلاوة على اللسان وتقوم مقام حديث النفس فيدخل على العبد سهولة في التلاوة والصلاة اه
ونقل عنه أيضا ما حاصله أن بنية العبد تحكي مدينة جامعة وأعضاؤه وجوارحه بمثابة سكان المدينة والعبد في إقباله على الذكر كمؤذن صعد منارة على باب المدينة يقصد إسماع أهل المدينة الأذان فالذاكر المحقق يقصد إيقاظ قلبه وانباء أجزائه وابعاضه بذكر لسانه فهو يقول ببعضه ويسمع بكله إلى أن تنتقل الكلمة من اللسان إلى القلب فيتنور بها ويظفر بجدوى الأحوال ثم ينعكس نور القلب على القالب فيتزين بمحاسن الأعمال اه
إن الذين عند ربك وهم الفانون الباقون به سبحانه وتعالى أرباب الإستقامة لا يستكبرون عن عبادته لعدم إحتجاجهم بالأنانية ويسبحونه بنفيها وله يسجدون بالفناء التام وطمس البقية والله تعالى هو الباقي ليس في الوجود سواه
سورة الأنفال
8 - مدنية كما روي عن زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنه سئل الحبر عنها فقال : تلك سورة بدر وفي رواية أخرى أنه قال : نزلت في بدر وقيل : هي مدنية إلا قوله سبحانه وتعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية فإنها نزلت بمكة على ما قاله مقاتل ورد بأنه صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة وجمع بعضهم بين القولين بما لا يخلو عن نظر واستثنى آخرون قوله تعالى يا أيها النبي حسبك الله الآية وصححه ابن العربي وغيره ويؤيده ما أخرجه البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت لما أسلم
(9/157)

عمر رضي الله تعالى عنه وهي في الشامي سبع وسبعون آية وفي البصري والحجازي ست وسبعون وفي الكوفي خمس وسبعون ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن فيها وأمر بالعرف وفي هذه كثير من أفراد المأمور به وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم وفي هذه ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى : كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى : وإذ لم تأتهم بآية قالوا لولا إجتبيتها وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا : وإذ تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وبين جل شأنه فيما تقدم إن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالإستماع له والأمر بذكره تعالى وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته وحالهم إذا ذكر الله تبارك اسمه بقوله عز من قائل : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون إلى غير ذلك من المناسبات والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات
وذكر الجلال السيوطي أن ذكر هذه السورة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم للصحابة رضي الله تعالى عنهم كما هو المرجح في سائر السور بل باجتهاد من عثمان رضي الله تعالى عنه وقد كان يظهر في باديء الرأي أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لإشتراك كل في إشتمالها على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنها مكية النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطول وعدوا السابعة يونس وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين فصل للنظير من سائر نظائره هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة وقد إستشكل ذلك قديما حبر الأمة رضي الله تعالى عنه فقال لعثمان رضي الله تعالى عنه : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا البسملة بينهما ووضعتموهما في السبع الطول ثم ذكر جواب عثمان رضي الله تعالى عنه وقد أسلفنا الخبر بطوله سؤالا وجوابا ثم قال : وأقول : يتم مقصد عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك بأمور فتح الله تعالى بها الأول أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها وتكون براءة لخلوها من البسملة كتتمتها وبقيتها
ولهذا قال جماعة من السلف : أنهما سورة واحدة والثاني أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول فإنه ليس بعد الست السابقة سورة أطول منها وذلك كاف في المناسبة الثالث أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطول المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يبين كلتيهما فوضعا هنا كالوضع المستعار بخلاف ما لو وضعا بعد السبع الطول فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف ولا يتوهم هذا على هذا الوضع للعلم بترتب السبع
(9/158)

فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله تعالى بها ولا يغوص عليها إلا غواص الرابع أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبي لمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتى بالسور الخمس التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص والإفتتاح بالر وبذكر الكتاب ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار ومن التسمية باسم نبي والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهذه عدة مناسبات للإتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الأعراف ولبعض هذه الأمور قدمت سمرة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها ولو أخرت براءة عن هذه السور الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فإنها ليست كبراءة في الطول
ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة الر قبلها وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن أقصر منها لمناسبتها البقرة في الإفتتاح بالم وتوالي الطواسين والحواميم وتوالي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لإفتتاح كل بالم ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها هذا ما فتح الله تعالى به على ثم ذكر أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس راعى السبع الطول فقدم الأطول منها فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول فالأطول وجعل الأنفال بعد النور
ووجه المناسبة أن كلا مدنية ومشتملة على أحكام وأن في النور وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية وفي الأنفال واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض الخ ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل اه
وأقول : قد من الله تعالى على هذا العبد الحقير بما لم يمن به على هذا الجليل والحمد لله تعالى على ذلك حيث أوقفني سبحانه وتعالى على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهره ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن إسقاط البسملة من براءة إجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه وما ادعاه أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه بل هو قول مجاهد وابن جبير ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفي رواية عند الحاكم أنها الكهف وذهب جماعة كما قال في إتقانه : إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة وقد ذكر ذلك الفيروزابادي في قاموسه وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال : كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطول وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والإخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل
(9/159)

بسم الله الرحمن الرحيم
يسئلونك عن الأنفال جمع نفل بالفتح وهو الزيادة ولذا قيل للتطوع نافلة وكذا لولد الولد ثم صار حقيقة في العطية ومنه قول لبيد : إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي وعجل لأنها لكونها تبرعا غير لازم كأنها زيادة ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه لرأي يراه سواء كان لشخص معين أو لغير معين كمن قتل قتيلا فله سلبه وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن إقدام وغيرهما وإطلاقه على الغنيمة بإعتبار أنها منحة من الله تعالى من غير وجوب وقال الإمام عليه الرحمة : لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم ووجه التسمية لا يلزم إطراده وفي الخبر أن المغانم كانت محرمة على الأمم فنفلها الله تعالى هذه الأمة وقيل : لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله تعالى وحماية حوزة الإسلام فإن اعتبر كون ذلك مظفورا به سمي غنيمة ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص فقيل : الغنيمة ما حصل مستغنما سواء كان ببعث أو لا باستحقاق أولا قبل الظفر أو بعده والنفل ما قبل الظفر أو ما كان بغير قتال وهو الفيء وقيل : ما يفضل عن القسمة ثم أن السؤال كما قال الطيبي ونقل عن الفارسي أما لإستدعاء معرفة أو ما يؤدي إليها وإما لإستدعاء جدا أو ما يؤدي إليه وجواب الأول باللسان وينوب عنه اليد بالكتابة أو الإشارة ويتعدى بنفسه وبعن والباء وجواب الثاني باليد وينوب عنها اللسان موعدا وردا ويتعدى بنفسه أو بمن وقد يتعدى لمفعولين كأعطى واختار وقد يكون الثاني جملة إستفهامية نحو سل بني إسرائيل كم آتيناهم والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد وطائفة من الصحابة وغيرهم وبالسؤال السؤال لإستدعاء المعرفة كما اختاره جمع من المفسرين لتعديه بعن والأصل عدم إرتكاب التأويل ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وهو سبب النزول أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف تقسم ولمن الحكم فيها أهو للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا فنزلت هذه الآية
وقال بعضهم : إن السؤال إستعطاء والمراد بالنفل ما شرط للغازي زائدا على سهمه وسبب النزول غير ما ذكر فقد أخرج عبدالرزاق المصنف وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من قتل قتيلا فله كذا ومن جاء بأسير فله كذا فجاء أبو اليسر بن عمرو الأنصاري بأسيرين فقال : يا رسول الله إنك قد وعدتنا فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من وراءك فتشاجروا فنزل القرآن وادعوا زيادة عن واستدلوا لذلك بقراءة ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وزيد ومحمد الباقر وجعفر الصادق وطلحة بن مصرف يسألونك الأنفال وتعقب بأن هذه القراءة من باب الحذف والإيصال وليست دعوى زيادة عن في القراءة المتواترة لسقوطها في القراءة الأخرى أولى من دعوى تقديرها في تلك القراءة لثبوتها في القراءة المتواترة بل قد ادعى بعض أنه ينبغي حمل قراءة إسقاط عن على إرادتها لأن حذف الحرف وهو مراد معنى أسهل من زيادته للتأكيد على أنه يبعد
(9/160)

القول بالزيادة هنا الجواب بقوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول فإنه المراد به إختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيقسمها النبي عليه الصلاة و السلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد فإن مبنى ذلك القول القول بأن السؤال إستعطاء ولو كان كذلك لما كان هذا جوابا له فإن إختصاص حكم ما شرط لهم بالله تعالى والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونه بموجب شرط الرسول عليه الصلاة و السلام الصادر عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالإختصاص المذكور
وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بذلك المعنى مختصة برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا حق فيها للمنفل كائنا من كان لا سبيل إليه قطعا ضرورة ثبوت الإستحقاق بالتنفيل وإدعاء أن ثبوته بدليل متأخر التزم لتكرر النسخ من غير علم بالناسخ الأخير ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد وعكرمة والسدي من أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى : فأن لله خمسه وللرسول لما أن المراد بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأول حسبما نطق به قوله تعالى : واعلموا أنما غنتم من شيء الآية على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ حسبما قاله عبدالرحمن بن زيد بن أسلم بل بين هنا إجمالا أن الأمر مفوض لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وشرح فيما بعد مصارفها وكيفية قسمتها وإدعاء إقتصار الإختصاص بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم على الأنفال المشروطة يوم بدر يجعل اللام للعهد مع بقاء إستحقاق المنفل في سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبيء عنه إظهار الأنفال في مقام الإضمار على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له عليه الصلاة و السلام خاصة مما يليق بشأنه الكريم أصلا
وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت : إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال عليه الصلاة و السلام : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فاذهب فخذه وهذا كما ترى يقتضي عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه عليه الصلاة و السلام ووعده لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده رده صلى الله تعالى عليه وسلم قبل النزول وتعليله بقوله : ليس هذا لي لإستحالة أن يعد صلى الله تعالى عليه وسلم بما لا يقدر على إنجازه وإعطائه عليه الصلاة و السلام بعد النزول وترتيبه على قوله وقد صار لي ضرورة أن مناط صيرورته له صلى الله تعالى عليه وسلم قوله تعالى : الأنفال لله والرسول والفرض أنه المانع من إعطاء المسؤول ومما هو نص في الباب قوله تعالى : فاتقوا الله فإنه لو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان فيه محذور يجب إتقاؤه قاله شيخ الإسلام عليه الرحمة وحاصله إنكار وقوع التنفيل حينئذ وعدم صحة حمل السؤال على الإستعطاء والأنفال على المعنى الثاني من معنييها وأنا أقول : قد جاء خبر التنفيل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من الطريق الذي ذكرناه ومن طريق آخر أيضا فقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان
(9/161)

وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عنه رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان : أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت يسألونك عن الأنفال الآية فقسم الغنائم بينهم بالسوية ويشير إلى وقوعه أيضا ما أخرجه أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في السنن عن أبي أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله تعالى من أيدينا وجعله إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقسمه عليه الصلاة و السلام بين المسلمين عن بواء ولعل في الباب غير هذه الروايات فكان على الشيخ حيث أنكر وقوع التنفيل أن يطعن فيها بضعف ونحوه ليتم له الغرض
وما ذكره من حديث سعد بن أبي وقاص فقد أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عنه وهو مع أنه وقع فيه سعيد ابن العاصي والمحفوظ كما قال : أبو عبيد العاصي بن سعيد مضطرب المتن فقد أخرج عبد بن حميد والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعد أنه قال : أصاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت : نفلني هذا السيف فأنا من علمت فقال : رده من حيث أخذته فرجعت به حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه عليه الصلاة و السلام فقلت : أعطنيه فشد لي صوته وقال رده من حيث أخذته فأنزل الله تعالى : يسألونك عن الأنفال فإن هذه الرواية طاهرة في أن السيف لم يكن سلبا كما هو ظاهر الرواية الأولى بل أن سعدا رضي الله تعالى عنه وجده في الغنيمة وطلبه نفلا على سهمه الشائع فيها وأخرج النحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه جميعا فقال سعد : هو لي وقال الأنصاري هو لي لا أسلمه حتى آتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتياه فقصا عليه القصة فقال عليه الصلاة و السلام : ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي فنزلت يسألونك عن الأنفال الآية ومخالفة هذه الرواية للروايتين السابقتين المختلفتين كما علمت في غاية الظهور فلا يكاد يعول على إحداهما إلا بإثبات أنها الأصح ولم تقف على أنهم نصوا على تصحيح الرواية التي ذكرها الشيخ فضلا عن النص على الأصحية
نعم أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن سعد المذكور رضي الله تعالى عنه قال : قلت يا رسول الله قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف قال : إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت فقلت : عسى يعطى هذا السيف من لا يبلي بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي فقلت : قد أنزل في شيء قال عليه الصلاة و السلام : كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي وإني قد وهب لي فهو لك وأنزل الله تعالى هذه الآية يسألونك عن الأنفال الخ فهذه الرواية وإن نص فيها على التصحيح إلا أنه ليست ظاهرة في أن السيف كان سلبا له من عمير كما هو نص الرواية الأولى وإن قلنا : إن هذه الرواية وإن لم تكن موافقة للأولى حذو القذة بالقذة لكنها ليست مخالفة لها وزيادة الثقة مقبولة سواء كانت في الأول أم في الآخر أم في الوسط
(9/162)

فلا بد من القول بالنسخ كما هو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أنها ظاهرة في كون الأنفال صارت ملكا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليس لأحد فيها حق أصلا إلا أن يجود عليه عليه الصلاة و السلام كما يجود من سائر أمواله والمولى المذكور ذهب إلى القول بعدم النسخ ولم يعلم أن هذا الخبر الذي أستند إليه في إنكار وقوع التنفيل يعكر عليه وإدعاء أن معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : فيه وقد صار لي أنه صار حكمه لي لكن عبر بذلك مشاكلة لما في الآية يرده ما في الرواية الأخرى المنصوص على صحتها من الترمذي والحاكم وإني قد وهب لي وحمل ذلك أيضا على مثل ما حمل عليه الأول مما لايكاد يقدم عليه عارف بكلام العرب لا سيما كلام أفصح من نطق بالضاد صلى الله تعالى عليه وسلم وما ذكره قدس سره من أن قوله تعالى : قل الأنفال الخ لا يكون جوابا لسؤال الإستعطاء فإن إختصاص حكم ما شرط لهم بالرسول عليه الصلاة و السلام لا ينافي الإعطاء بل يحققه وقد يجلب عنه بالتزام الحمل الذي إدعى أن لا سبيل إليه قطعا ويقال بالنسخ وهو من نسخ السنة قبل تقررها بالكتاب وأن المنسوخ إنما هو ذلك التنفيل والتنفيل الذي يقول به العلماء اليوم هو أن يقول الإمام من قتل قتيلا فله سلبه أو يقول للسرية جعلت لكم الربع بعد الخمس أي بعد ما يرفع الخمس للفقراء وقد يكون بغير ذلك كالدراهم والدنانير وذكر في السير الكبير أنه لو قال : ما أصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لم يجز لأن فيه إبطال الخمس الثابت بالنص وبعين ذلك يبطل ما لو قال : من أصاب شيئا فهو له لإتحاد اللازم فيهما بل هو أولى بالبطلان وبه أيضا ينتفى ما قالوا : لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى مصلحة وفيه زيادة إيحاش الباقين وإيقاع الفتنة وذكر السادة الشافعية أن الأصح أن النفل يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح إن نفل مما سيغنم في هذا القتال لأنه المأثور عندهم كما جاء عن ابن المسيب
ويحتمل أن التنفيل المنسوخ الواقع يوم بدر عند القائل به لم يكن كهذا الذي ذكرناه عن أئمتنا وكذا عن الشافعية الثابت عندهم بالأدلة المذكورة في كتب الفريقين والأخبار التي وقفنا عليها في ذلك التنفيل غير ظاهرة في إتحاده مع هذا التنفيل
وحينئذ فما نسخ لم يثبت وإنما ثبت غيره وربما يقال : على فرض تسليم أن ما ثبت هو ما نسخ أن دليل ثبوته هو قوله تعالى : يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال فإن ذلك من التحريض ما لا يخفى ودعوى أن حمل أل في الأنفال على العهد يأباه المقام في حيز المنع ومما يستأنس به للعهد أنه يقال لسورة الأنفال سورة بدر فلا يدع أن يراد من الأنفال أنفال بدر وإنباء الإظهار في مقام الإضمار على ما إدعاه في غاية الخفاء وكون الجواب عن سؤال الموعود ببيان إختصاصه به عليه الصلاة و السلام مما لا يليق بشأنه الكريم أصلا مما لا يكاد يسلم كيف والحكم إلهي والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مأمور بالإبلاغ وقد يقال : حاصل الجواب يا قوم إن ما وعدتكم به بإذن الله تعالى قد ملكنيه سبحانه وتعالى دونكم وهو أعلم بالحكمة فيما فعل أولا وآخرا فاتقوا الله من سوء الظن أو عدم الرضا بذلك ومن هنا يعلم حسن الأمر بالتقوى بعد ذلك الجواب وبطلان ما إدعاه المولى المدقق من أن هذا الأمر نص في الباب وقد يقال أيضا : لا مانع من أن يحمل السؤال على الإستعلام والإختصاص على إختصاص الحكم مع كون المراد بالأنفال المعنى الثاني والمعنى يسألونك عن حال ما وعدتهم إياه هل يستحقونه وإن حرم غيرهم ممن كان ردا وملجأ حيث إنك وعدتهم وأطلقت لهم
(9/163)

الأمر قل إن ذلك الموعود قد نسخ إستحقاقكم له بالوعد المأذون فيه من قبل وفوض أمره إلي ولم يحجر علي بإطائه لكم دون غيركم بل رخصت أن أساوي أصحابكم الذين كانوا ردا لكم معكم لئلا يرجع أحد من أهل بدر بخفي حنين ويستوحشوا من ذلك وتفسد ذات البين فاتقوا الله تعالى من الإستقلال بما أخذتموه أو إخفاء شيء منه بناء على أنكم كنتم موعودين به وأصلحوا ذات بينكم بالرد والمواساة فيما حل بأيديكم وأطيعوا الله ورسوله في كل ما يأمر به وينهى عنه فإن في ذلك مصالح لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهرا إلا أنه ليس بالبعيد جدا ثم ما ذكره قدس سره من أن حديث النسخ الواقع في كلام مجاهد وعكرمة والسدي إنما هو للأنفال بالمعنى الأول لدلالة الناسخ على ذلك مسلم لكن جاء في آخر رواية النحاس عن ابن جبير السابقة في قصة سعد وصاحبه الأنصاري رضي الله تعالى عنهما ما يوهم كون النسخ للآية مع حمل الأنفال على غير ذلك المعنى وليس كذلك هذا ثم إني أعود فأقول : إن هذا التكلف الذي تكلفناه إنما هو لصيانة الروايات الناطقة بكون سبب النزول ما استند إليه القائل بأن الأنفال بالمعنى الثاني عن الإلغاء قبل الوقوف على ضعفها ومجرد ما ذكره المولى قدس سره لا يدل على ذلك ألا تراهم كيف يعدلون عن ظواهر الآيات إذا صح حديث يقتضي ذلك وإلا فأنا لا أنكر أن كون حمل الأنفال على المعنى الأول والذهاب إلى أن الآية غير منسوخة والسؤال للإستعلام أقل مؤنة من غيره فتأمل ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك والمراد بقوله تعالى : فاتقوا الله الخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والإختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولا أوليا وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه وعن السدي بعدم التساب
وعن عطاء كان الإصلاح بينهم أن دعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : أقسموا غنائمكم بالعدل : فقالوا : قد أكلنا وأنفقنا فقال عليه الصلاة و السلام : ليرد بعضكم على بعض و ذات كما قيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف و بين إما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظرف أي أحوالا ذات إفتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم وقال الزجاج وغيره : إن ذات هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بينه ابن عطية وعليه إستعمال المتكلمين ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول : أسقني ذا إنائك أي ما فيه جعل كأنه صاحبه وذكر الإسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم
وذكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مع الله تعالى أولا وآخرا لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة و السلام طاعة الله تعالى وقال غير واحد : إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أولا لأن إختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالإمتثال وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة
وقرأ ابن محيصن يسألونك علنفال بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام إدغام نون عن فيها ولا إعتداد بالحركة العارضة إن كنتم مؤمنين
1
- متعلق بالأوامر الثلاثة والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم وهو
(9/164)

يكفي في التعليق بالشرط والمراد بالإيمان التصديق ولا خفاء في إقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة وقد يراد بالإيمان الإيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر فالمعنى إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الإتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ويؤيد إرادة الكمال قوله سبحانه وتعالى : إنما المؤمنون الخ إذ المراد به قطعا الكاملون في الإيمان وإلا لم يصح الحصر وهو حينئذ جار على ما هو الأصل المشهور في النكرة إذا أعيدت معرفة وعلى الوجه الأول لا يكون هذا عين النكرة السابقة ويلتزم القول بأن القاعدة أغلبية كما قد صرحوا به في غير ما موضع أي إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان المخلصون فيه الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم أي فزعت إستعظاما لشأنه الجليل وتهيبا منه جل وعلا والإطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى : ألا بذكر الله تطمئن القلوب لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهو يجامع الخوف وإلى هذا ذهب ابن الخازن ووفق بعضهم بين الآيتين بأن الذكر في إحداهما ذكر رحمة وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما وأخرج البيهقي وجماعة عن السدي أنه قال في الآية : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له : اتق الله تعالى فيجل قلبه وحمل الوجل فيها على الخوف منه تعالى كلما ذكر أبلغ في المدح من حمله على الخوف وقت الهم بمعصية أو إرادة ظلم وهذا الوجل في قلب المؤمن كضرمة السعفة كما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها
وأخرج ابن جرير وغيره عن أم الدرداء أن الدعاء عند ذلك مستجاب وعلامته حصول القشعريرة
وقريء وجلت بفتح الجيم ومضارعه يجل وأما وجل بالكسر فمضارعه يوجل وجاء ييجل وياجل وهي لغات أربع حكاها سيبويه وقرأ عبدالله فرقت أي خافت وإذا تليت عليهم ءاياته أي القرآن كما روي عن ابن عباس زادتهم إيمانا أي تصديقا كما هو المتبادر فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل أيضا وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام واللازم باطل فكذا الملزوم وقال محيي الدين النووي في معرض بيان ذلك : إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها وأجابوا عما إعترض به عليه من أنه متى قبل ذلك كان شكا وهو خروج عن حقيقته بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنه لا شك معها وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص واختاره إمام الحرمين محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وذلك لايتصور فيه زيادة ولا نقصان فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو إرتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة
(9/165)

على ما ذهب إليه القلانسي وجماعة من السلف وبما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن محمد ابن الفضل وأبي القاسم الساباذي عن فارس بن مردويه عن محمد بن الفضل بن العابد عن يحيى بن عيسى عن أبي مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص فقال : لا الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر
(9/166)

وأجابوا عما تمسك به الأولون من الآيات والأحاديث بأن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والساعات وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين : أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفضل من عداه بإستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه زمانين بل يتجدد أمثاله فتقع للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم دون غيره متوالية فيثبت له صلى الله تعالى عليه وسلم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه أكثر واعترض هذا بأن حصول المثل بعد إنعدام الشيء لا يكون زيادة فيه ودفع بأن المراد زيادة أعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك وأجابوا أيضا بأن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا آمنوا في الجملة وكانت الشريعة غير تامة والأحكام تتنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصر النبوة لإمكان الإطلاع عليها في غيره من العصور وبأن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب فإن نوره يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ولا يخفى أن الحجة الأولى يعلم جوابها مما ذكرناه أولا وأما الحجة الثانية التي ذكرها أبو الليث فمما لا يعول عليها عند الحفاظ أصلا لأن رجال السند إلى أبي مطيع كلهم مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة وأما أبو مطيع وهو الحكم بن عبدالله بن مسلمة البلخي فقد ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعمرو بن علي الفلاس والبخاري وأبو داود والنسائي وحاتم الرازي وأبو حاتم محمد بن حبان البستي والعقيلي وابن عدي والدارقطني وغيرهم
وأما أبو المهزم وقد تصحف على الكتاب واسمه يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه شعبة ابن الحجاج وقال النسائي : متروك وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال : لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثا ومن مارس الأحاديث النبوية لا يشك في أن ذلك اللفظ ليس منها في شيء وما ذكره إمام الحرمين على ما فيه مبني على تجدد الأعراض وعدم بقائها زمانين والمسألة خلافية ودون إثبات ذلك خرط القتاد
وما أجابوا به أولا من أن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به مع كونه خلاف الظاهر ولا داعي إليه عند المنصف لا يكاد يتأتى في قوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقوله تعالى : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم إذ ليس هناك زيادة مشروع يحصل الإيمان به ليقال : إن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به وحال الجواب الثاني لا يخفى عليك
وذهب جماعة منهم الإمام الرازي وإمام الحرمين في قول إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي وهو فرع تفسير الإيمان فمن فسره بالتصديق قال : إنه لا يزيد ولا ينقص ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال : إنه يزيد وينقص وعلى هذا قول البخاري : لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص وهو المعنى بما
(9/0)

روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص قال : نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار
واعترض على هذا بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بإنتفاء الإيمان بإنتفاء شيء من الأعمال ونحن إنما نقول : إنها شرط كمال فيه واللازم عند الإنتفاء إنتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس والصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير وما علي إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى فالحق أحق بالإتباع والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام
نعم أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه فسر الإيمان في هذه الآية بالخشية وعبر عنها بذلك بناء على أنها من آثاره وهو خلاف الظاهر أيضا وكأن المعنى عليه أن المؤمنين الكاملين هم الذين إذا ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته المتضمنة ذلك زادتهم وجلا على وجل وعلى ربهم يتوكلون
2
- أي يفوضون أمورهم كلها إلى مالكهم ومدبرهم خاصة لا إلى أحد سواه كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله والجملة معطوفة على الصلة
وجوز أبو البقاء كونها حالا من ضمير المفعول وكونها إستئنافية وقوله سبحانه وتعالى : الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
3
- مرفوع على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه أو بيان له أو منصوب على القطع المنبيء عن المدح وقد مدحهم سبحانه وتعالى أولا بمكارم الأعمال القلبية من الخشية والإخلاص والتوكل وهذا مدح لهم بمحاسن الأعمال القالبية من الصلاة والصدقة أولئك أي المتصفون بما ذكر من الصفات الحميدة من حيث إنهم كذلك هم المؤمنون حقا لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال
وأخرج الطبراني عن الحرث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث قال : أصبحت مؤمنا حقا فقال صلى الله تعالى عليه وسلم انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك فقال : عزفت نفسي عن الدنيا فاسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزوارون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتصارخون فيها قال عليه الصلاة و السلام : يا حارث عرفت فالزم ثلاثا ونصب حقا على أنه صفة مصدر محذوف فالعامل فيه المؤمنون أي إيمانا حقا أو هو مؤكد لمضمون الجملة فالعامل فيه حق مقدر وقيل : إنه يجوز أن يكون مؤكدا لمضمون الجملة التي بعده فهو إبتداء كلام وهو مع أنه خلاف الظاهر إنما يتجه على القول بجواز تقديم المصدر المؤكد لمضمون الجملة عليها والظاهر منعه كالتأكيد واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنا حقا لأنه سبحانه وتعالى : إنما وصف بذلك أقواما
(9/167)

على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه بل يلزمه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى
وقرر بعضهم وجه الإستدلال بما يشير إليه ما روي عن الثوري أنه قال : من زعم أنه مؤمن بالله تعالى حقا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ولم يؤمن بالنصف الآخر وهذا ظاهر في أن مذهبه الإستثناء وهو كما قال الإمام مذهب ابن مسعود وتبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين وبه قال الشافعي ونسب إلى مالك وأحمد ومنعه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وروي عنه أنه قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك قال : إتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين فقال له : هلا إقتديت به في قوله بلى حين قيل له أولم تؤمن فانقطع قتادة قال الرازي كان لقتادة أن يجيب أبا حنيفة عليهما الرحمة ويقول : قول إبراهيم عليه السلام ولكن ليطمئن قلبي بعد قوله بلى طلب لمزيد الطمأنينة وذلك يدل على جواز الإستثناء
وفي الكشف أن الحق أن من جوز الإستثناء إنما جوز إذا سئل عن الإيمان مطلقا أما إذا قيل : هل أنت مؤمن بالقدر مثلا فقال : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى لا يجوز لا لأن التبرك لا معنى له بل للإبهام فيما ليس له فائدة وأما في الأول فلما كان الإطلاق يدل على الكمال وهو الإيمان المنتفع به في الآخرة علق بالمشيئة تفاؤلا وتيمنا وذلك لأن هذه الكلمة خرجت عن موضوعها الأصلي إلى المعنى الذي ذكر في عرف الإستعمال تراهم يستعملونها في كل ما لهم إهتمام بحصوله شائعا بين العرب والعجم فلا وجه لقول من قال : إن معنى التبرك أنا أشك في إيماني تبركا وذلك لأن المشيئة عنده غير مشكوكة عنده بل هو تعليق بما لا بد منه نظرا إلى أنه السبب الأصلي وأنه تفويض من العبد إلى الله تعالى ومن فوض كفى لا نظرا إلى أن المشيئة غيب غير معلوم فيكون شكا في الإيمان وقد جاء من شك في إيمانه فقد كفر وما أحسن ما نقل عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت فقال : الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله تعالى إنما المؤمنون الخ فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا وهذا ونحوه مما يجعل الخلاف لفظيا وقد صرح بذلك جمع من المحققين عليهم الرحمة
لهم درجات عند ربهم أي كرامة وعلو مكانة على أن يراد بالدرجات العلو المعنوي وقد يراد بها العلو الحسي وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم وعن الربيع بن أنس سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة ووجه الجمع على الوجهين ظاهر والتنوين للتفخيم والظرف إما متعلق بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لما أفاده التنوين أو بما تعلق به الخبر أعنى لهم من الإستقرار
وجوز أبو البقاء أن يكون العامل فيه درجات لأن المراد بها الأجور وفي إضافته إلى المضاف إلى ضميرهم مزيد تشريف لهم ولطف بهم وإيذان بأن ما وعدهم متيقن الثبوت مأمون الفوات والجملة جوز أن تكون خبرا ثانيا لأؤلئك وأن تكون مبتدأة مبنية على سؤال نشأ من تعدد مناقبهم كأنه قيل : ما لهم بمقابلة هذه الخصال فقيل : لهم درجات ومغفرة عظيمة لما فرط منهم ورزق كريم
4
- وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد القرظي قال : إذا سمعت الله تعالى يقول رزق كريم فهو الجنة والكرم كما نقل الواحدي اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه فلعل وصف الرزق به هنا حقيقة
(9/168)

وقال بعض المحققين : معنى كون الرزق كريما أن رازقه كريم ومن هنا وصفوه بالكثرة وعدم الإنقطاع إذ من عادة الكريم أن يجزل العطاء ولا يقطعه فكيف بأكرم الأكرمين تبارك وتعالى وجعله نفسه كريما على الإسناد المجازي للمبالغة ولم يذكروا لتوسيط المغفرة والظاهر كما قيل تقديمها هنا نكتة وربما يقال في وجه ذكر هذه الأشياء الثلاثة على هذا الوجه أن الدرجات في مقابلة الأوصاف الثلاثة أعني الوجل والإخلاص والتوكل ويستأنس له بالجمع والمغفرة في مقابلة إقامة الصلاة ويستأنس له بما ورد في غير ما خبر أن الصلوات مكفرات لما بينها من الخطايا وأنها تنقي الشخص من الذنوب كما ينقى الماء من الدنس والرزق الكريم بمقابلة الإنفاق والمناسبة في ذلك ظاهرة وإلى هذا يشير كلام أبي حيان أو يقال : قدم سبحانه الدرجات لأنها بمحض الفضل وذكر بعدها المغفرة لأنها أهم عندهم من الرزق مع إشتراكهما في كونهما في مقابلة شيء ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن أبي زيد أنه قال في الآية : المغفرة بترك الذنوب والرزق الكريم بالأعمال الصالحة فتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه كما أخرجك ربك من بيتك بالحق أي إخراجا متلبسا به فالباء للملابسة وقيل : هي سببية أي بسبب الحق الذي وجب عليك وهو الجهاد
والمراد بالبيت مسكنه صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مثواه عليه الصلاة و السلام وزعم بعضهم أن المراد به مكة وليس بذاك وإضافة الإخراج إلى الرب سبحانه وتعالى إشارة إلى أنه كان بوحي منه عز و جل ولا يخفى لطف ذكر الرب وإضافته إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم والكاف يستدعي مشبها وهو غير مصرح به في الآية وفيه خفاء ومن هنا اختلفوا في بيانه وكذا في إعرابه على وجوه فاختار بعضهم أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه أي حالهم هذه في كراهة ما وقع في أمر الأنفال كحال إخراجك من بيتك في كراهتهم له وإلى هذا يشير كلام الفراء حيث قال : الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه صلى الله تعالى عليه وسلم من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها مع أنه أولى بحالهم أو أنه صفة مصدر الفعل المقدر في لله وللرسول أي الأنفال ثبتت لله تعالى وللرسول عليه الصلاة و السلام مع كراهتهم ثباتا كثبات إخراجك وضعف هذا ابن الشجري وادعى أن الوجه هو الأولى لتباعد ما بين ذلك الفعل وهذا بعشر جمل وأيضا جعله في حيز قل ليس بحسن في الإنتظام وقال : أبو حيان : إنه ليس فيه كبير معنى ولا يظهر للتشبيه فيه وجه وأيضا لم يعهد مثل هذا المصدر وادعى العلامة الطيبي أن هذا الوجه أدق إلتأما من الأول والتشبيه فيه أكثر تفصيلا لأنه حينئذ من تتمة الجملة السابقة داخل في حيز المقول مع مراعاة الإلتفات وأطال الكلام في بيان ذلك واعتذر عن الفصل بأن الفاصل جار مجرى الإعتراض ولا أراه سالما من الإعتراض وقيل : تقديره وأصلحوا ذات بينكم كما أخرجك وقد التفت من خطاب جماعة إلى خطاب واحد وقيل : المراد وأطيعوا الله والرسول كما أخرجك إخراجا لا مرية فيه وقيل : التقدير يتوكلون توكلا كما أخرجك وقيل : إنهم لكارهون كراهة ثابتة كإخراجك وقيل : إنهم لكارهون كراهة ثابتة كإخراجك وقيل : هو صفة لحقا أي أولئك هو المؤمنون حقا مثل ما أخرجك وقيل : صفة لمصدر يجادلون أي يجادلونك جدالا كإخراجك ونسب ذلك إلى الكسائي وقيل : الكاف بمعنى إذ أي واذكر إذ أخرجك وهو مع بعده لم يثبت وقيل : الكاف للقسم ولم يثبت أيضا وإن
(9/169)

نقل عن أبي عبيد وجعل يجادلونك الجواب مع خلوه عن اللام والتأكيد و ما حينئذ موصولة أي والذي أخرجك وقيل : إنها بمعنى على وما موصولة أيضا أي امض على الذي أخرجك ربك له من بيتك فإنه حق ولا يخفى ما فيه وقيل : هي مبتدأ خبره مقدر وهو ركيك جدا وقيل : في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي وعده حق كما أخرجك وقيل : تقديره قسمتك حق كاخراجك وقيل : ذلكم خير لكم كاخراجك وقيل : تقديره إخراجك من مكة لحكم كاخراجك هذا وقيل : هو متعلق باضربوا وهو كما تقول لعبدك ربيتك افعل كذا
وقال أبو حيان : خطر لي في المنام أن هنا محذوفا وهو نصرك والكاف فيها معنى التعليل أي لأجل أن خرجت لإعزاز دين الله تعالى نصرك وأمدك بالملائكة ودل على هذا المحذوف قوله سبحانه بعد : إذ تستغيثون ربكم الآيات ولو قيل : إن هذا مرتبط بقوله سبحانه : رزق كريم على معنى رزق حسن كحسن إخراجك من بيتك لم يكن بأبعد من كثير من هذه الوجوه وإن فريقا من المؤمنين لكارهون للخروج إما لعدم الإستعداد للقتال أو للميل للغنيمة أو للنفرة الطبيعية عنه وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والإختيار فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة رضي الله تعالى عنهم والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة لأن الكراهة وقعت بعد الخروج كما ستراه إن شاء الله تعالى أو يعتبر ذلك ممتدا والقصة على ما رواه جماعة وقد تداخلت رواياتهم أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل فرق الكفر النجاء النجاء على كل صعب وذلول عيركم أموالكم إن أصابها محمد لم تفلحوا بعدها أبدا وقد رأت عاتكة بنت عبدالمطلب في المنام أن راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد إجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفا الجبل ارفضت فما بقى بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا ودخل فيها فلقة فحدثت بها أخاها العباس فحدث بها الوليد ابن عتبة وكان صديقا له فحدث بها أباه عتبة ففشا الحديث وبلغ أبا جهل فقال للعباس : يا بني عبدالمطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم فأنكر عليه الرؤية ثم إنه خرج بجميع مكة ومضى بهم إلى بدر وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بوادي دقران فنزل عليه جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما : العير وإما قريش فاستشار أصحابه فقال بعضهم : هلا ذكرت لنا القتال حتى تتأهب له إنا خرجنا للعير فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : إن العير مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فغضب عليه الصلاة و السلام فقام أبوبكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فأحسنا الكلام في إتباع أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله تعالى فنحن معك حيث أحببت لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال : أشيروا علي أيها الناس وهو يريد الأنصار لأنهم كانوا عدوهم وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم براء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدوهم
(9/170)

بالمدينة فقام سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنهما فقال : يا رسول الله إيانا تريد قال : أجل قال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا إن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو إستعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ولا نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله تعالى يريك منا ما يقر به عينيك فسر بنا على بركات الله تعالى فنشطه قوله ثم قال عليه الصلاة و السلام : سيروا على بركة الله تعالى فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم اه وبهذا تبين أن بعض المؤمنين كانوا كارهين وبعضهم لم يكونوا كذلك وهم الأكثر كما تشير إليه الآية وجاء في بعض الأخبار أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما فرغ من بدر قيل له : عليك بالعير فليس دونها شيء فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له : لم فقال : لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك يجادلونك في الحق الذي هو تلقي النفير المعلى للدين لإيثارهم عليه تلقي العير والجملة إما مستأنفة أو حال ثانية وجوز أن تكون حالا من الضمير في لكارهون وقوله سبحانه : بعد ما تبين متعلق بيجادلون و ما مصدرية وضمير تبين للحق أي يجادلون بعد تبين الحق لهم بإعلامك أنهم ينصرون ويقولون : ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال حتى نستعد له ونتأهب كأنما يساقون إلى الموت أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل فالجملة في محل نصب على الحالية من ضمير لكارهون وجوز أن تكون صفة مصدر لكارهون بتقدير مضاف أي لكارهون كراهة ككراهة من سيق للموت وهم ينظرون
6
- حال من ضمير يساقون وقد شاهدوا أسبابه وعلاماته وفي قوله سبحانه وتعالى : كأنما الخ إيماء إلى أن مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم لأنهم كانوا ثلثمائة وتسعة عشر رجلا في قول فيهم فارسان المقداد بن الأسود والزبير بن العوام وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما كان منا فارس يوم بدر إلا المقداد وكان المشركون ألفا قد إستعدوا للقتال وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين كلام مستأنف مسوق لبيان جميل صنع الله تعالى بالمؤمنين مع ما بهم من الجزع وقلة الحزم فإذا نصب على المقعولية بمضمر إن كانت متصرفة أو ظرف لمفعول ذلك الفعل وهو خطاب للمؤمنين بطريق التلوين والإلتفات و إحدى مفعول ثان ليعد وهو يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وبالباء أي اذكروا وقت أو الحادث وقت وعد الله تعالى إياكم إحدى الطائفتين
وقريء يعدكم بسكون الدال تخفيفا وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لإستحضار صورتها وقوله سبحانه وتعالى : أنها لكم بدل إشتمال من إحدى مبين لكيفية الوعد أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم مختصة بكم تتسلطون عليها تسلط الملاك وتتصرفون فيها كيفما شئتم وتودون عطف على يعدكم داخل معه حيث دخل أي تحبون أن غير ذات الشوكة تكون لكم من الطائفتين وذات الشوكة هي النفير ورئيسهم أبو جهل وغيرها العير ورئيسهم أبو سفيان والتعبير عنهم بهذا العنوان للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجب كراهتهم ونفرتهم عن موافاة النفير والشوكة في الأصل واحدة الشوك المعروف ثم استعيرت للشدة والحدة وتطلق على السلاح أيضا وفسرها بعضهم به هنا ويريد الله أن يحق الحق أي يظهر
(9/171)

كونه حقا بكلماته الموحى بها في هذه القصة أو أوامره للملائكة بالإمداد أو بما قضى من أسر الكفار وقتلهم وطرحهم في قليب بدر وقريء بكلمته بالإفراد لجعل المتعدد كالشيء الواحد أو على أن المراد بها كلمة كن التي هي عند الكثير عبارة عن القضاء والتكوين ويقطع دابر الكافرين
7
- أي آخرهم والمراد يهلكهم جملة من أصلهم لأنه لا يفنى الآخر إلا بعد فناء الأول ومنه سمي الهلاك دبارا والمعنى أنتم تريدون سفساف الأمور والله عز و جل يريد معاليها وما يرجع إلى علو كلمة الحق وسمو رتبة الدين وشتان بين المرادين وكأنه للإشارة إلى ذلك عبر أولا بالودادة وثانيا بالإرادة وقوله تعالى : ليحق الحق ويبطل الباطل جملة مستأنفة سيقت لبيان الحكمة الداعية إلى إختيار ذات الشوكة ونصرهم عليها مع إرادتهم لغيرها واللام متعلقة بفعل مقدر مؤخر عنها أي لهذه الحكمة الباهرة فعل ما فعل لا لشيء آخر وليس فيه مع ما تقدم تكرار إذ الأول لبيان تفاوت ما بين الإرادتين وهذا لبيان الحكمة الداعية إلى ما ذكر
وأشار الزمخشري إلى أن هذا نظير قولك : أردت أن تفعل الباطل وأردت أن أفعل الحق ففعلت ما أردته لكذا لا لمقتضى إرادتك وليس نظير قولك : أردت أن أكرم زيدا لإكرامه ليكون فيه ما يكون ومعنى إبطال الباطل على طرز ما أشرنا إليه في إحقاق الحق ولو كره المجرمون
8
- ذلك أعني إحقاق الحق وإبطال الباطل والمراد بهم المشركون لا من كره الذهاب إلى النفير لأنه جرم منهم كما قيل
إذ تستغيثون ربكم بدل من إذ يعدكم وإن كان زمان الوعد غير زمان الإستغاثة لأنه بتأويل أن الوعد والإستغاثة وقعا في زمن واسع كما قال الطيبي قيل : وهو يحتمل بدل الكل إن جعلا متسعين وبدل البعض إن جعل الأول متسعا والثاني معيارا وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه : ليحق واعترض بأنه مستقبل لنصبه بأن وإذ للزمان الماضي فكيف يعمل بها وأجيب بأن ذلك مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة كابن مالك من أن إذ قد تكون بمعنى إذا للمستقبل كما في قوله تعالى : فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم
وقد يجعل من التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه وقال بعض المحققين في الجواب : إن كون الإحقاق مستقبلا إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غاية له من الفعل المقدر لا بالنسبة إلى زمان الإستغاثة حتى لا يعمل فيه بل هما في وقت واحد وإنما عبر عن زمانها بإذ نظرا إلى زمن النزول وصيغة الإستقبال في تستغيثون لحكاية الحال الماضية لإستحضار صورتها العجيبة وقيل : هو متعلق بمضمر مستأنف أي اذكروا وقيل : بتودون وليس بشيء والإستغاثة كما قال غير واحد : طلب الغوث وهو التخليص من الشدة والنقمة والعون وهو متعد بنفسه ولم يقع في القرآن الكريم إلا كذلك وقد يتعدى بالحرف كقوله : حتى استغاث بماء لا رشاد له من الأباطح في حافاته البرك وكذا إستعمله سيبويه وزعم أنه خطأ خطأ والظاهر أن المستغيث هم المؤمنون قيل : إنهم لما علموا أن لا محيص من القتال أخذوا يقولون : أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين وقال الزهري : إنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون معه وظاهر بعض الأخبار يدل على أنه الرسول عليه الصلاة و السلام فقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى
(9/172)

عنهما قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة وبضعة عشر رجلا ونظر إلى المشركين فإذا بهم ألف وزيادة فاستقبل نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه اللهم انجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبوبكر رضي الله تعالى عنه فأخذ رداؤه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت الآية في ذلك وعليه فالجمع للتعظيم فاستجاب لكم أي فأجاب دعاءكم عقيب إستغاثتكم إياه سبحانه على أتم وجه أني ممدكم أي بأني فحذف الجار وفي كون المنسبك بعد الحذف منصوبا أو مجرورا خلاف وقرأ أبو عمر بالكسر على تقدير القول أو إجراء إستجاب مجرى قال لأن الإستجابة من جنس القول والتأكيد للإعتناء بشأن الخبر وحمله على تنزيل غير المنكر بمنزلة المنكر بمنزلة المنكر عندي والمراد بممدكم معينكم وناصركم بألف من الملائكة مردفين أي وراء كل ملك ملك كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وردف وأردف بمعنى كتبع وأتبع في قول وعن الزجاج أن بينهما فرقا فردفت الرجل بمعنى ركبت خلفه وأردفته بمعنى أركبته خلفي وقال بعضهم : ردفت وأردفت إذا فعلت ذلك فإذا فعلته بغيرك فأردفت لا غير وجاء أردف بمعنى اتبع مشددا وهو يتعدى لواحد وبمعنى أتبع مخففا وهو يتعدى لأثنين على ما هو المشهور وبكل فسر هنا وقدروا المفعول والمفعولين حسبما يصح به المعنى ويقتضيه وجعلوا الإحتمالات خمسة إحتمالان على المعنى الأول أحدهما أن يكون الموصوف جملة الملائكة والمفعول المقدر المؤمنين والمعنى متبعين المؤمنين أي جائين خلفهم وثانيهما أن يكون الموصوف بعض الملائكة والمفعول بعض آخر والمعنى متبعا بعضهم بعضا آخر منهم كرسلهم عليهم السلام وثلاثة إحتمالات على المعنى الثاني الأول أن يكون الموصوف كل الملائكة والمفعولان بعضهم بعضا على معنى أنهم جعلوا بعضهم يتبع بعضا الثاني كذلك إلا أن المفعول الأول بعضهم والثاني المؤمنين على معنى أنهم اتبعوا بعضهم المؤمنين فجعلوا بعضا منهم خلفهم والثالث كذلك أيضا إلا أن المفعولين أنفسهم والمؤمنين على معنى أنهم أتبعوا أنفسهم وجملتهم المؤمنين فجعلوا أنفسهم خلفهم
وقرأ نافع ويعقوب مردفين بفتح الدال وفيه إحتمالان أن يكون بمعنى متبعين بالتشديد أي اتبعهم غيرهم وأن يكون بمعنى متبعين بالتخفيف أي جعلوا أنفسهم تابعة لغيرهم وأريد بالغير في الإحتمالين المؤمنون فتكون الملائكة على الأول مقدمة الجيش وعلى الثاني ساقتهم وقد يقال : المراد بالغير آخرون من الملائكة وفي الآثار ما يؤيده أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : نزل جبريل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيها أبوبكر رضي الله تعالى عنه ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا فيها لكن في الكشاف بدل الألف في الموضعين خمسمائة وقريء مردفين بكسر الراء وضمها وأصله على هذه القراءة مرتدفين بمعنى مترادفين فابدلت التاء دالا لقرب مخرجهما وأدغمت في مثلها فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو لإتباع الدال أو بالضم لإتباع الميم وعن الزجاج أنه يجوز في الراء الفتح أيضا للتخفيف أو لنقل حركة التاء وهي
(9/173)

القراءة التي حكاها الخليل عن بعض المكيين وذكر أبو البقاء أنه قريء بكسر الميم والراء ونقل عن بعضهم أن مردفا بفتح الراء وتشديد الدال من ردف بتضعيف العين أو أن التشديد بدل من الهمزة كأفرحته وفرحته
ومن الناس من فسر الإرتداف بركوب الشخص خلف الآخر وأنكره أبو عبيدة وأيده بعضهم وعن السدي أنه قريء بآلاف على الجمع فيوافق ما وقع في سورة أخرى بثلاثة آلاف و بخمسة آلاف قيل : ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة أو وجوههم أو من قاتل منهم
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي أنه قال : كان ألف مردفين وثلاثة آلاف منزلين وهو جمع ليس بالجيد وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة أنهم أمدوا أولا بألف ثم بثلاثة آلاف ثم أكملهم الله تعالى خمسة آلاف وأنت تعلم أن ظاهر ما روي عن الحبر يقتضي أن ما في الآية ألفان في الحقيقة وصرح بعضهم أن ما فيها بيان إجمالي لما في تلك السورة بناء على أن معنى مردفين جاعلين غيرهم من الملائكة رديفا لأنفسهم وهو ظاهر في أن المراد بالألف الرؤساء المستتبعون لغيرهم والأكثرون على أن الملائكة قاتلت يوم بدر وفي الأخبار ما يدل عليه وذكروا أنها لم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين وتفصيل ذلك في السير وقد تقدم بعض الكلام فيما يتعلق بهذا المقام فتذكر وما جعله الله كلام مستأنف لبيان أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا من النصر عند فقدان أسبابه والجعل متعد إلى واحد وهو الضمير العائد إلى المصدر المنسبك في أني ممدكم على قراءة الفتح والمصدر المفهوم من ذلك على الكسر وإعتبار القول ورجوع الضمير إليه ليس بمعتبر من القول أي وما جعل إمدادكم بهم لشيء من الأشياء إلا بشرى أي بشارة لكم بأنكم تنصرون ولتطمئن به أي بالإمداد قلوبكم وتسكن إليه نفوسكم وتزول عنكم الوسوسة ونصب بشرى على أنه مفعول له لتطمئن معطوف عليه وأظهرت اللام لفقد شرط النصب وقيل : للإشارة إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما قيل في قوله سبحانه : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة
وقيل : إن الجعل متعد إلى إثنين ثانيهما بشرى على أنه إستثناء من أعم المفاعيل واللام متعلقة بمحذوف مؤخر أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم ولتطمئن به قلوبكم فعل ما فعل لا لشيء آخر والأول هو الظاهر وفي الآية إشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالا وهو مذهب لبعضهم ويشعر ظاهرها بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخبرهم بذلك الإمداد وفي الأخبار ما يؤيده بل جاء في غير ما خبر أن الصحابة رأوا الملائكة عليهم السلام
وروي عن أبي أسيد وكان قد شهد بدرا أنه قال بعد ما ذهب بصره : لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة وما النصر إلا من عند الله أي وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا كائن من عنده عز و جل فالمنصور هو من نصره الله سبحانه والأسباب ليست بمستقلة أو المعنى لا تحسبوا النصر من الملائكة عليهم السلام فإن الناصر هو الله تعالى لكم والملائكة وعليه فلا دخل للملائكة في النصر أصلا وجعل بعضهم القصر على الأول إفرادي وعلى الثاني قلبي إن الله عزيز لا يغالب في حكمه ولا ينازع في قضيته حكيم يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة الباهرة والجملة تعليل لما قبلها وفيها إشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات الحكم البالغة
(9/174)

إذ يغشيكم النعاس أي يجعله غاشيا عليكم ومحيطا بكم والنعاس أول النوم قبل أن يثقل
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن النعاس في الرأس والنوم في القلب ولعل مراده الثقل والخفة فلا معنى له والفعل نعس كمنع والوصف ناعس ونعسان قليل و إذ يغشيكم بدل ثان من إذ يعدكم على القول بجواز تعدد البدل وفيه إظهار نعمة أخرى فإن الخوف أطار كراهم من أوكاره فلما طامن الله تعالى قلوبهم رفرف بجناحه عليها فنعسوا وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو هو منصوب باذكروا
وجوز تعلقه بالنصر وضعف بأن فيه أعمال المصدر المعرف بأل وفيه خلاف الكوفيين والفصل بين المصدر ومعموله وعمل ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له والجمهور لا يجوزون ذلك خلافا للكسائي والأخفش وتعلقه بما في عند الله من معنى الفعل وقيل عليه : إذ يلزم تقييد إستقرار النصر من الله تعالى بهذا الوقت ولا تقييد له به وأجاب الحلبي بأن المراد به نصر خاص فلا محذور في تقييده وبالجعل وفيه الفصل وعمل ما قبل إلا فيما ليس أحد الثلاثة وبما دل عليه عزيز حكيم وفيه لزوم التقييد ولا تقييد وأجيب بما أجيب والإنصاف بعد الإحتمالات الأربع وقرأ نافع يغشيكم بالتخفيف من الإغشاء بمعنى التغشية والفاعل في القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير وأبو عمرو يغشاكم على إسناد الفعل إلى النعاس وقوله سبحانه وتعالى : أمنة منه نصب على أنه مفعول له وهو مصدر بمعنى الأمن كالمنعة وإن كان قد يكون جمعا وصفة بمعنى آمنين كما ذكره الراغب واستشكل بأن شرط النصب الذي هو إتحاد فاعله وفاعل الفعل العامل فيه مفقود إذ فاعله هم الصحابة الآمنون رضي الله تعالى عنهم وفاعل الآخر هو الله على القراءتين الأوليين والنعاس على الأخرى
وأجيب بأنه مفعول له بإعتبار المعنى الكنائي فإن يغشاكم النعاس يلزمه تنعسون ويغشيكم بمعناه فيتحد الفاعلان إذ فاعل كل حينئذ الصحابة وقال بعض المدققين : إنه على القراءتين الأوليين يجوز أن يكون منصوبا على العلية لفعل مترتب على الفعل المذكور أي يغشيكم النعاس فتنعسون أمنا أو على أنه مصدر لفعل آخر كذلك أي فتأمنون أمنا وعلى القراءة الأخيرة منصوب على العلية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدر لفعل مترتب عليه كما علمت وما تقدم أقل إنتشارا
وجوز أن يراد بالأمنة الإيمان بمعناه اللغوي وهو جعل الغير آمنا فيكون مصدر آمنه وهو على بعده إنما يتمشى في القراءتين الأوليين لأن فاعل التغشية والأمان هو الله تعالى وأما القراءة الأخرى فلا ويحتاج إلى ما مر ومن الناس من جوز فيها أن يجعل الأمن من فعل النعاس على الإسناد المجازي لكونه من ملابسات أصحاب الأمن والإسناد في ذلك مقدر وليس المراد به النسبة التي بين الفعل والمفعول له أي يغشاكم النعاس لأمنه أو على تشبيه حاله بحال إنسان شأنه الأمن والخوف وأنه حصل له من الله تعالى الأمان من الكفار في مثل ذلك الوقت المخوف فلذلك غشاكم وأنامكم فيكون الكلام تمثيلا وتخييلا للمقصود بإبراز المعقول في صورة المحسوس والقطب جعل في الكلام إستعارة الكناية حيث ذكر أنه شبه النعاس بشخص من شأنه أن يأتيهم لكنه لا يأتيهم في وقت الخوف وإذا أمن أتاهم ثم ذكر النعاس وأراد ذلك الشخص والقرينة ذكر الأمنة لأنها من لوازم المشبه به وقد وصف الزمخشري النوم بنحو ذلك في قوله :
(9/175)

يهاب النوم أن يغشى عيونا تهابك فهو نفار شرود وما يقال : إن مثل هذا إنما يليق بالشعر لا بالقرآن الكريم فغير مسلم وذكر ابن المنير في توجيه إتحاد الفاعل على القراءتين أن لقائل أن يقول : فاعل تغشية النعاس إياهم هو الله تعالى وهو فاعل الأمنة أيضا لأنه خالقها فحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الإشكال على قواعد أهل السنة التي تقتضي نسبة إفعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها وتعقبه بأن للمورد أن يقول : المعتبر الفاعل اللغوي وهو المتصف بالفعل وهو هنا ليس إلا العبد إذ لا يقال لله سبحانه آمن وإن كان هو الخالق وحينئذ يحتاج إلى الجواب بما سلف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لأمنة أي أمنة كائنة منه تعالى لكم ولعل مغايرة ما هنا لما في سورة آل عمران لإختلاف المقام فقد قالوا : إن ذلك المقام إقتضى الإهتمام بشأن الأمن ولذلك قدمه سبحانه وتعالى وبسط الكلام فيه كما لا يخفى على من تأمل في السياق والسباق بخلافه هنا لأنه في مقام تعداد النعم فلذا جيء بالقصة مختصرة للرمز وقريء أمنة بالسكون وهو لغة فيه
وينزل عليكم من السماء ماء عطف على يغشيكم وكان هذا قبل النعاس كما روي عن مجاهد وتقديم الجار والمجرور على المفعول به للإهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر كما مر غير مرة وتقديم عليكم لما أن بيان كون التنزيل عليهم أهم من بيان كونه من السماء : وقرأ ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر وينزل بالتخفيف من الإنزال وقرأ الشعبي ما ليطهركم به أي من الحدث الأصغر والأكبر ووجهها كما قال ابن جني أن ما موصولة واللام متعلقة بمحذوف وقع صلة لها أي وينزل عليكم الذي ثبت لتطهيركم ونظير هذه اللام اللام في قولك : أعطيت الثوب الذي لدفع البرد وهي في قراءة الجماعة نظير اللام في قولك : زرتك لتكرمني ومرجع القراءتين واحد والمشهورة أفصح بالمراد وانظر لم لا يجوز أن تخرج هذه القراءة على ما سمع من قولهم أسقني ما بالقصر وقد حكي ذلك في القاموس وأرى أن العدول عن ذلك إن جاز كالتيمم مع وجود الماء
ويذهب عنكم رجز الشيطان أي وسوسته وتخويفه إياكم من العطش أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظميء المسلمون وصلوا مجنبين محدثين وكانت بينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال : أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله تعالى وتصلون مجنبين محدثين فأنزل الله تعالى من السماء ماء فسال عليهم الوادي فشربوا وتطهروا وثبتت أقدامهم وذهبت وسوسة الشيطان وفسر بعضهم الرجز هنا بالجنابة مع إعتبار كون التطهير منها واعترض بلزوم التكرار ودفع بأن الجملة الثانية تعليل للأولى والمعنى طهركم من الجنابة لأنها كانت من رجز الشيطان وتخييله وقريء رجس وهو بمعنى الرجز وليربط على قلوبكم أي يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد بمشاهدة طلائعه وأصل الربط الشد ويقال لمن صبر على الشيء : ربط نفسه عليه
قال الواحدي : ويشبه أن تكون على صلة أي وليربط على قلوبكم وقيل الأصل ذلك إلا أنه أتى بعلى قصدا للإستعلاء وفيه إيماء إلى أن قلوبهم قد إمتلأت من ذلك حتى كأنه علا عليها وفي ذلك من إفادة التمكن ما لا يخفى ويثبت به الأقدام ولا تسوخ في الرمل فالضمير للماء كالأول
(9/176)

وجوز أن يكون للربط والمراد بتثبيت الأقدام كما قال أبو عبيدة جعلهم صابرين غير فارين ولا متزلزلين إذ يوحي ربك إلى الملائكة متعلق بمضمر مستأنف أي اذكر خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق التجريد حسبما ينطق به الكاف وقيل : منصوب بيثبت ويتعين حينئذ عود الضمير المجرور في به إلى الربط ليكون المعنى ونثبت الأقدام بتقوية قلوبكم وقت الإيحاء إلى الملائكة والأمر بتثبيتهم إياكم وهو وقت القتال ولا يصح أن يعود إلى الماء لتقدم زمانه على زمان ذلك وقال بعضهم : يجوز ذلك لأن التثبيت بالمطر باق إلى زمانه أو يعتبر الزمان متسعا قد وقع جميع المذكور فيه وفائدة التقييد التذكير بنعمة أخرى والإيماء إلى إقتران تثبيت الأقدام بتثبيت القلوب المأمور به الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون أو الرمز إلى أن التقوية وقعت على أتم وجه وقيل : هو بدل ثالث من إذ يعدكم ويبعده تخصيص الخطاب بسيد المخاطبين عليه الصلاة و السلام واختار بعض المحققين الأول مدعيا أن في الثاني تقييد التثبيت بوقت مبهم وليس فيه مزيد فائدة وفي الثالث إباء التخصيص عنه مع أن المأمور به ليس من الوظائف العامة للكل كسائر أخواته ولا يستطيعه غيره عليه الصلاة و السلام لأن الوحي المذكور قبل ظهوره بالوحي المذكور ولا يخفى على المتأمل أن ما ذكر لا يقتضي تعين الأول نعم يقتضي أولويته
والمراد بالملائكة الملائكة الذين وقع بهم الإمداد وصيغة المضارع لإستحضار الصورة والمعنى إذ أوحى أني معكم أي معينكم على تثبيت المؤمنين ولا يمكن حمله على إزالة الخوف كما في قوله سبحانه وتعالى : لا تحزن إن الله معنا لأن الملائكة لا يخافون من الكفرة أصلا وما تشعر به كلمة مع من متبوعية الملائكة لا يضر في مثل هذه المقامات وهو نظير إن الله مع الصابرين ونحوه والمنسبك مفعول يوحى وقريء إني بالكسر على تقدير القول أي قائلا إني معكم أو إجراء الوحي مجراه لكونه متضمنا معناه والفاء في قوله سبحانه : فثبتوا الذين آمنوا لترتيب ما بعدها على ما قبلها والمراد بالتثبيت الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال قالا أو حالا وكان ذلك هنا في قول بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم فقد أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول : أبشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم وجاء في رواية كان الملك يتشبه بالرجل فيأتي ويقول : إني سمعت المشركين يقولون : والله لئن حملوا علينا لنكشفن ويمشي بين الصفين ويقول : أبشروا فإن الله تعالى ناصركم
وقال الزجاج : كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له إلهام كما إن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له وسوسة وقيل : كان ذلك بمجرد تكثير السواد
وعن الحسن أنه كان بمحاربة أعدائهم وذهب إلى ذلك جماعة وجعلوا قوله تعالى سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب تفسيرا لقوله تعالى : إني معكم كأنه قيل : أني معكم في إعانتهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم والرعب بضم فسكون وقد يقال بضمتين وبه قرأ ابن عامر والكسائي الخوف وإنزعاج النفس بتوقع المكروه وأصله التقطيع من قولهم : رعبت السنام ترعيبا إذا قطعته مستطيلا كأن الخوف يقطع الفؤاد أو يقطع السرور بضده وجاء
(9/177)

رعب السيل الوادي إذا ملأه كأن السيل قطع السلوك فيه أو لأنه إنقطع إليه من كل الجهات وجعلوا قوله سبحانه وتعالى : فاضربوا الخ تفسيرا لقوله تبارك وتعالى : فثبتوا مبين لكيفية التثبيت وقد أخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن أبي داود المازني قال : بين أنا أتبع رجلا من المشركين يوم بدر فأهويت بسيفي إليه فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قد قتله غيري وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلا يقول : أقدم حيزوم فخر المشرك مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه فجاء فحدث بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة
وجوز بعضهم أن يكون التثبيت بما يلقون إليهم من وعد النصر وما يتقوى به قلوبهم في الجملة وقوله سبحانه وتعالى : سألقي الخ جملة إستئنافية جارية مجرى التعليل لإفادة التثبيت لأنه مصدقه ومبينه لإعانته إياهم على التثبيت وقوله سبحانه وتعالى : فاضربوا الخ جملة مستعقبة للتثبيت بمعنى لا تقتصروا على تثبيتهم وأمدوهم بالقتال عقيبه من غير تراخ وكأن المعنى أني معكم فيما أمركم به فثبتوا واضربوا وجيء بالفاء للسكتة المذكورة ووسط سألقي تصديقا للتثبيت وتمهيدا للأمر بعده وعلى الإحتمالين تكون الآية دليلا لمن قال : إن الملائكة قاتلت يوم بدر وقال آخرون : التثبيت بغير المقاتلة وقوله عز و جل : سألقي تلقين منه تعالى للملائكة على إضمار القول على أنه تفسير للتثبيت أو إستئناف بياني والخطاب في فاضربوا للمؤمنين صادرا من الملائكة حكاه الله تعالى لنا وجوز أن يكون ذلك الكلام من جملة الملقن داخلا تحت القول كأنه قيل : قولوا لهم قولي سألقي الخ أو كأنه قيل : كيف نثبتهم فقيل : قولوا لهم قولي سألقي الخ ولا يخفى أن هذا القول أضعف الأقوال معنى ولفظا وأما القول بأن فاضربوا الخ خطاب منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوين فمبناه توهم وروده قبل القتال وأنى ذلك والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الواقعة وبالجملة الآية ظاهرة فيما يدعيه الجماعة من وقوع القتال من الملائكة فوق الأعناق أي الرؤوس كما روي عن عطاء وعكرمة وكونها فوق الأعناق ظاهر وأما المذابح كما قال البعض فإنها في أعالي الأعناق و فوق باقية على ظرفيتها لأنها لا تتصرف وقيل : إنها مفعول به وهي بمعنى الأعلى إذا كانت بمعنى الرأس وقيل : هي هنا بمعنى على والمفعول محذوف أي فاضربوهم على الأعناق وقيل : زائدة أي فاضربوا الأعناق واضربوا منهم كل بنان
21
- قال ابن الأنباري : البنان أطراف الأصابع من اليدين والرجلين والواحدة بنانة وخصها بعضهم باليد
وقال الراغب : هي الأصابع وسميت لأن بها إصلاح الأحوال التي بها يمكن للإنسان أن يبين أي يقيم من أبن بالمكان وبن إذا أقام ولذلك خص في قوله سبحانه وتعالى : بلى قادرين على أن نسوي بنانه وما نحن فيه لأجل أنهم بها يقاتلون ويدافعون والظاهر أنها حقيقة في ذلك وبعضهم يقول : إنها مجاز فيه من تسمية الكل باسم الجزء
وقيل : المراد بها هنا مطلق الأطراف لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل والمراد إضربوهم كيفما إتفق من المقاتل وغيرها وآثره في الكشاف وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الجسد كله في لغة هذيل ويقال فيها بنام بالميم وتكرير الأمر بالضرب لمزيد التشديد والإعتناء بأمره و منهم متعلق به أو بمحذوف
(9/178)

وقع حالا من كل بنان وضعف كونه حالا من بنان بأن فيه تقديم حال المضاف إليه على المضاف ذلك إشارة إلى الضرب والأمر به أو إلى جميع ما مر والخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من ذكر قبل من الملائكة والمؤمنين على البدل أو لكل أحد ممن يليق بالخطاب وجوز أن يكون خطابا للجمع والكاف تفرد مع تعدد من خوطب بها وليست كالضمير على ما صرحوا به ومحل الاسم الرفع على الإبتداء وخبره قوله سبحانه وتعالى : بأنهم شاقوا الله ورسوله وقال أبو البقاء : إن ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وليس الأمر ذلك والباء للسببية والمشافة للعدواة وسميت بذلك أخذا من شق العصا وهي المخالفة أو لأن كلا من المتعاديين يكون في شق غير شق الآخر كما أن العدواة سميت عداوة لأن كلا منهما في عدوة أي جانب وكما أن المخاصمة من الخصم بمعنى الجانب أيضا والمراد بها هنا المخالفة أي ذلك ثابت لهم أو واقع عليهم بسبب مخالفتهم لمن لا ينبغي لهم مخالفته بوجه من الوجوه ومن يشاقق الله ورسوله أي يخالف أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإظهار كمال شناعة ما إجترأوا عليه والإشعار بعلية الحكم وبئس خطيب القوم أنت إقتضاه الجمع على وجه لا يبين منه الفرق ممن هو في ربقة التكليف وأين هذا من ذاك لو وقع ممن لا حجر عليه وإنما لم يدغم المثلان لأن الثاني ساكن في الأصل والحركة لإلتقاء الساكنين فلا يعتد بها وقوله تعالى : فإن الله شديد العقاب إما نفس الجزاء قد حذف منه العائد عند من يلتزمه ولا يكتفي بالفاء في الربط أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله تعالى فإن الله شديد العقاب وأيا ما كان فالشرطية بيان للسببية السابقة بطريق برهاني كأنه قيل : ذلك العقاب الشديد بسبب المشاقة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فاذن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله عقاب شديد وقيل : هو وعيد بما أعد لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا قال بعض المحققين : ويرده قوله سبحانه وتعالى : ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار
41
- فإنه مع كونه هو المسوق للوعيد بما ذكر ناطق بكون المراد بالعقاب المذكور ما أصابهم عاجلا سواء جعل ذلكم إشارة إلى نفس العقاب أو إلى ما تفيده الشرطية من ثبوته لهم أما على الأول فلأن الأظهر أن محله النصب بمضمر يستدعيه فذوقوه والواو في وأن للكافرين الخ بمعنى مع فالمعنى باشروا ذلكم العقاب الذي أصابكم فذوقوه عاجلا مع أن لكم عذاب النار آجلا فوقع الظاهر موضع الضمير لتوبيخهم بالكفر وتعليل الحكم به وأما على الثاني فلأن الأقرب أن محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقوله سبحانه وتعالى : و أن الخ معطوف عليه والمعنى حكم الله تعالى ذلكم أي ثبوت هذا العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار آجلا وقوله تعالى : فذوقوه إعتراض وسط بين المعطوفين للتهديد والضمير على الأول لنفس المشار إليه وعلى الثاني لما في ضمنه اه
واعترض على الإحتمال الأول بأن الكلام عليه من باب الإشتغال وهو إنما يصح لو جوزنا صحة الإبتداء في ذلكم وظاهر أنه لا يجوز لأن ما بعد الفاء لا يكون خبرا إلا إذا كان المبتدأ موصولا أو نكرة موصوفة ورد بأنه ليس متفقا عليه فإن الأخفش جوزه مطلقا وتقدير باشروا مما إستحسنه أبو البقاء وغيره قالوا : لتكون الفاء عاطفة لا زائدة أو جزائية كما في نحو زيدا فاضربه على كلام فيه وبعضهم يقدر
(9/179)

عليكم اسم فعل واعترضه أبو حيان بأن أسماء الأفعال لا تضمر واعتذر عن ذلك الحلبي بأن من قدر لعله نحا نحو الكوفيين فإنهم يجرون اسم الفعل مجرى الفعل مطلقا ولذلك يعملونه متأخرا نحو كتاب الله عليكم وما أشار إليه كلامه من أن قوله سبحانه وتعالى : وأن للكافرين الخ منصوب على أنه مفعول معه على التقدير الأول لا يخلو عن شيء فإن في نصب المصدر المؤول على أنه مفعول معه نظرا ومن هنا إختار بعضهم العطف على ذلكم كما في التقدير الثاني وآخرون إختاروا عطفه على قوله تعالى : أني معكم داخل معه تحت الإيحاء أو على المصدر في قوله سبحانه وتعالى : بأنهم شاقوا الله ورسوله ولا يخفى أن العطف على ذلكم يستدعي أن يكون المعنى باشروا أو عليكم أو ذوقوا أن للكافرين عذاب النار وهو مما يأباه الذوق ولذا قال العلامة الثاني : إنه لا معنى له والعطفان الآخران لا أدري أيهما أمر من الآخر ولذلك ذهب بعض المحققين إلى إختيار كون المصدر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف وقيل : هو منصوب باعلموا ولعل أهون الوجوه في الآية الوجه الأخير
والإنصاف أنها ظاهرة في كون المراد بالعقاب ما أصابهم عاجلا والخطاب فيها مع الكفرة على طريق الإلتفات من الغيبة في شاقوا إليه ولا يشترط في الخطاب المعتبر في الإلتفات أن يكون بالإسم كما هو المشهور بل يكون بنحو ذلك أيضا بشرط أن يكون خطابا لمن وقع الغائب عبارة عنه كذا قيل وفيه كلام وقرأ الحسن وإن للكافرين بالكسر وعليه فالجملة تذييلية واللام للجنس والواو للإستئناف يا أيها الذين آمنوا خطاب للمؤمنين بحكم كلي جار فيما سيقع من الوقائع والحروب جيء به في تضاعيف القصة إظهارا للإعتناء به وحثا على المحافظة عليه إذا لقيتم الذين كفروا زحفا الزحف كما قال الراغب إنبعاث مع جر الرجل كإنبعاث الصبي قبل أن يمشي والبعير المعيي والعسكر إذا كثر فتعثر إنبعاثه وقال غير واحد : هو الدبيب يقال : زحف الصبي إذا دب على استه قليلا قليلا ثم سمى به الجيش الدهم المتوجه إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف لأن الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بالقياس في غاية البطء وإن كانت في نفس الأمر في غاية السرعة كما قال سبحانه وتعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب وقال قائلهم : وأرعن مثل الطود تحسب أنه وقوف لجاج والركاب تهملج ويجمع على زحوف لأنه خرج عن المصدرية ونصبه إما على أنه حال من مفعول لقيتم أي زاحفين نحوكم أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر هو الحال منه أي يزحفون زحفا وجوز كونه حالا من فاعله أو منه ومن مفعوله معا واعترض بأنه يأباه قوله تعالى : فلا تولوهم الأدبار
51
- إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدو وبكثرتهم بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة والمحوج إلى النهي وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم إثنا عشر ألفا بعيد انتهى
وأجيب بأن المراد بالزحف ليس إلا المشي للقتال من دون إعتبار كثرة أو قلة وسمي المشي لذلك به لأن الغالب عند ملاقاة الطائفتين مشي إحداهما نحو الأخرى مشيا رويدا والمعنى إذا لقيتم الكفار ماشين لقتالهم متوجهين لمحاربتهم أو ماشيا كل واحد منكم إلى صاحبه فلا تدبروا وتقييد النهي بذلك لإيضاح المراد بالملاقاة ولتفظيع أمر الإدبار لما أنه مناف لتلك الحال كأنه قيل حيث أقبلتم فلا تدبروا وفيه تأمل والمراد من تولية
(9/180)

الإدبار الإنهزام فإن المنهزم يولي ظهره من إنهزم منه وعدل عن لفظ الظهور إلى الإدبار تقبيحا للإنهزام وتنفيرا عنه وقد يقال : الآية على حد ولا تقربوا الزنا والمعنى على تقدير الحالية من المفعول كما هو الظاهر واعتبار الكثرة في الزحف وكونها بالنسبة إليهم يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم أعداءكم الكفرة للقتال وهم جمع جم وأنتم عدد نزر فلا تولوهم أدباركم فضلا عن الفرار بل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ومن يولهم يومئذ أي يوم اللقاء ووقته دبره فضلا عن الفرار
وقرأ الحسن بسكون الباء إلا متحرفا لقتال أي تاركا موقفه إلى موقف أصلح للقتال منه أو متوجها إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء أو مستطردا يريد الكر كما روي عن ابن جبير رضي الله تعالى عنه ومن كلامهم
نفر ثم نكر والحرب كر وفر وقد يصير ذلك من خدع الحرب ومكايدها وجاءالحرب خدعة وأصل التحرف على ما في مجمع البيان الزوال عن جهة الإستواء إلى جهة الحرف ومنه الإحتراف وهو أن يقصد جهة من الأسباب طالبا فيها رزقه أو متحيزا إلى فئة أي منحازا إلى جماعة أخرى من المؤمنين ومنضما إليهم وملحقا بهم ليقاتل معهم العدو والفئة القطعة من الناس ويقال : فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته وما ألطف التعبير بالفئة هنا واعتبر بعضهم كون الفئة قريبة للمتحيز ليستعين بهم وكأنه مبني على التعارف وكم يعتبر ذلك آخرون إعتبار للمفهوم اللغوي
ويؤيده ما أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذي وحسنه والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : كنا في غزاة فحاص الناس حيصة قلنا : كيف نلقى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب فأتينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل صلاة الفجر فخرج فقال : من القوم فقلنا نحن الفارون فقال : لا بل أنتم العكارون فقبلنا يده فقال عليه الصلاة و السلام : أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ثم قرأ إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة والعكارون والكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها
وبما روي أنه إنهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف فقال عمر رضي الله تعالى عنه : أنا فئتك وبعضهم يحمل قوله عليه الصلاة و السلام : أنتم العكارون على تسليتهم وتطييب قلوبهم وحمل الكلام كله في الخبرين على ذلك بعيد نعم إن ظاهرهما يستدعي أن لا يكاد يوجد فار من الزحف ووزن متحيز متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزا لأنه من حاز يحوز وإلى هذا ذهب الزمخشري ومن تبعه وتعقب بأن الإمام المرزوقي ذكر أن تدير تفعل مع أنه واوي نظر إلى شيوع ديار وعليه فيجوز أن يكون تحيز تفعل نظرا إلى شيوع الحيز بالياء فلهذا لم يجيء تدور وتحوز وذكر ابن جني أن ما قاله هذا الإمام هو الحق وأنهم قد يعدون المنقلب كالأصلي ويجرون عليه أحكامه كثيرا لكن في دعواه نفي تحوز نظر فإن أهل اللغة قالوا : تحوز وتحيز كما يدل عليه ما في القاموس وقال ابن قتيبة : تحوز تفعل وتحيز تفيعل وهذه المادة في كلامهم تتضمن العدول من جهة إلى أخرى من الحيز بفتح الحاء وتشديد الياء وقد وهم فيه من وهم وهو فناء الدار ومرافقها ثم قيل لكل ناحية فالمستقر في موضعه كالجبل لا يقال له متحيز وقد يطلق عندهم على ما يحيط به حيز موجود والمتكلمون يريدون به الأعم وهو كل ما أشير إليه فالعالم كله متحيز
(9/181)

ونصب الوصفين على الحالية وإلا ليست عاملة ولا واسطة في العمل وهو معنى قولهم : لغو وكانت كذلك لأنه إستثناء مفرغ من أعم الأحوال ولولا التفريغ لكانت عاملة أو واسطة في العمل على الخلاف المشهور وشرط الإستثناء المفرغ أن يكون في النفي أو صحة عموم المستثنى منه نحو قرأت إلا يوم كذا ومنه ما نحن فيه ويصح أن يكون من الأول بإعتبار أن يولي بمعنى لا يقبل على القتال ونظير ذلك ما قالوا في قوله عليه الصلاة و السلام العالم هلكى إلا العالمون الحديث
وجوز أن يكون على الإستثناء من المولين أي من يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا لقتال أو متحيزا فقد باء أي رجع بغضب عظيم لا يقادر قدره وحاصله المولون إلا المتحرفين والمتحيزين لهم ما ذكر من الله صفة غضب مؤكدة لفخامته أي بغضب كائن منه تعالى شأنه ومأواه جهنم أي بدل ما أراد بفراره أن يأوي إليه من مأوى ينجيه من القتل وبئس المصير
61
- جهنم ولا يخفى ما في إيقاع البوء في موقع جواب الشرط الذي هو التولية مقرونا بذكر المأوى والمصير من الجزالة التي لا مزيد عليها وفي الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : إجتنبوا السبع الموبقات قالوا : يا رسول الله وما هن قال : الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وجاء عده في الكبائر في غير ما حديث قالوا : وهذا إذا لم يكن العدو أكثر من الضعف لقوله تعالى : الآن خفف الله عنكم الآية أما إذا كان أكثر فيجوز الفرار فالآية ليست باقية على عمومها وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم
وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة : عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال من فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من إثنين فقد فر وسمى هذا التخصيص نسخا وهو المروي عن أبي رباح وعن محمد بن الحسن أن المسلمين إذا كانوا اثني عشر ألفا لم يجز الفرار والظاهر أنه لا يجوز أصلا لأنهم لا يغلبون عن قلة كما في الحديث وروي عن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي نضرة والحسن رضي الله تعالى عنهما وهي رواية عن الحبر أيضا أن الحكم مخصوص بأهل بدر وقال آخرون : إن ذلك مخصوص بما ذكر وبجيش فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعللوا ذلك بأن وقعة بدر أول جهاد وقع في الإسلام ولذا تهيبوه ولو لم يثبتوا فيه لزم مفاسد عظيمة ولا ينافيه أنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها لأن النظم لا يوجب وجودها وأما إذا كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معهم فلأن الله تعالى ناصره وأنت تعلم أنه كان في المدينة خلق كثير من الأنصار لم يخرجوا لأنهم لم يعلموا بالنفير وظنوها العير فقط وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيث أن الله تعالى ناصره كان فئة لهم وقال : بعضهم إن الإشارة بيومئذ إلى يوم بدر لا تكاد تصح لأنه في سياق الشرط وهو مستقبل فالآية وإن كانت نزلت يوم بدر قبل إنقضاء القتال فذلك اليوم فرد من أفراد يوم اللقاء فيكون عاما فيه لا خاصا به وإن نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك إستئناف حكم بعده ويومئذ إشارة إلى يوم اللقاء ودفع بأن مراد أولئك القائلين : إنها نزلت يوم بدر وقد قامت قرينة على تخصيصها ولا بعد فيه اه وعندي أن السورة إنما نزلت بعد تمام القتال ولا دليل على نزول هذه الآية قبله والتخصيص المذكور مما لا يقوم دليله على سياق ويد الله مع الجماعة والله تعالى أعلم
هذا ومن باب الإشارة في الآيات يسألونك عن الأنفال إذ لم يرتفع عنهم إذ ذاك حجاب الأفعال
(9/182)

قل الأنفال لله والرسول أي حكمها مختص بالله تعالى وبالرسول مظهرية فاتقوا الله بالإجتناب عن رؤية الأفيال رؤية فعل الله تعالى وأصلحوا ذات بينكم بمحو صفات نفوسكم التي هي منشأ صدور ما يوجب التنازع والتخالف وأطيعوا الله ورسوله بفنائها ليتيسر لكم قبول الأمر بالإرادة القلبية الصادقة إن كنتم مؤمنين الإيمان الحقيقي إنما المؤمنون كذلك الذين إذا ذكر الله بملاحظة عظمته تعالى وكبريائه وسائر صفاته وهو ذكر القلب وذكره سبحانه وتعالى بالأفعال ذكر النفس وجلت قلوبهم أي خافت لإشراق أنوار تجليات تلك الصفات عليها وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا بالترقي من مقام العلم إلى العين
وقد جاء أن الله تعالى تجلى لعباده في كلامه لو يعلمون وعلى ربهم يتوكلون إذ لا يرون فعلا لغيره تعالى وذكر بعض أهل العلم أنه سبحانه وتعالى نبه أولا بقوله عز قائلا : وجلت قلوبهم على بدء حال المريد لأن قلبه لم يقو على تحمل التجليات في المبدأ فيحصل له الوجل كضربة السعفة ويقشعر لذلك جلده وترتعد فرائصه وأما المنتهي فقلما يعرض له ذلك لما أنه قد قوي قلبه على تحمل التجليات وألفها فلا يتزلزل لها ولا يتغير وعلى هذا حمل السهروردي قدس سره ما روي عن الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلا يبكي عند قراءة القرآن فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب حيث أراد حتى قويت القلوب إذ أدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير ونبه ثانيا سبحانه وتعالى بقوله جل وعلا : زادتهم إيمان على أخذ المريد في السلوك والتجلي وعروجه في الأحوال وثالثا بقوله عز شأنه : وعلى ربهم يتوكلون على صعوده في الدرجات والمقامات وفي تقديم المعمول إيذان بالتبري عن الحول والقوة والتفويض الكامل وقطع النظر عما سواه تعالى وفي صيغة المضارع تلويح إلى إستيعاب مراتب التوكل كلها وهو كما قال العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن يفوض الأمر كله إلى مالكه ويعول على وكالته وهو من أصعب المنازل وهو دليل العبودية التي هي تاج الفخر عند الأحرار والظاهر أن الخوف الذي هو خوف الجلال والعظمة يتصف به الكاملون أيضا ولا يزول عنهم أصلا وهذا بخلاف خوف العقاب فإنه يزول وإلى ذلك الإشارة بما شاع في الأثر نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه الذين يقيمون الصلاة أي صلاة الحضور القلبي وهي المعراج المعنوي إلى مقام القرب ومما رزقناهم من العلوم التي حصلت لهم بالسير ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لأنهم الذين ظهرت فيهم الصفات الحقة وغدوا مرايا لها ومن هنا قيل : المؤمن مرآة المؤمن لهم درجات عند ربهم من مراتب الصفات وروضات جنات القلب ومغفرة لذنوب الأفعال ورزق كريم من ثمرات أشعار التجليات الصفاتية وقال بعض العارفين : المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الإشتغال بغير الله تعالى والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الإستغراق في معرفته ومحبته وهو قريب مما ذكرنا كما أخرجك ربك من بيتك متلبسا بالحق وإن فريقا من المؤمنين وهم المحتجبون برؤية الأفعال لكارهون أي حالهم في تلك الحال كحالهم في هذه الحال يجادلونك في الحق بعد ما تبين لك أو لهم بالمعجزات إذ تستغيثون ربكم بالبراءة عن الحول والقوة والإنسلاخ عن ملابس الأفعال والصفات النفسية فاستجاب لكم عند ذلك أني ممدكم من عالم الملكوت لمشابهة قلوبكم إياه حينئذ بألف من الملائكة أي القوى السماوية وروحانياتها مردفين لملائكة أخرى وهو إجمال ما في آل عمران وما جعله الله أي ماجعل الله تعالى الإمداد
(9/183)

إلا بشرى أي بشارة لكم بالنصر ولتطمئن به قلوبكم لما فيها من إتصالها بما يناسبها وما النصر إلا من عند الله والأسباب في الحقيقة ملغاة إن الله عزيز قوي على النصر من غير سبب حكيم يفعله على مقتضى الحكمة وقد إقتضت فعله على الوجه المذكور إذ يغشيكم النعاس وهو هدو القوى البدنية والصفات النفسانية بنزول السكينة أمنة منه أي أمنا من عنده سبحانه وتعالى وينزل عليكم من السماء أي سماء الروح ماء وهو ماء علم اليقين ليطهركم به عن حدث هواجس الوهم وجنابة حديث النفس ويذهب عنكم رجز الشيطان وسوسته وتخويفه وليربط على قلوبكم أي يقويها بقوة اليقين ويسكن جأشكم ويثبت به الأقدام إذ الشجاعة وثبات الأقدام في المخاوف من ثمرات قوة اليقين إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم أي يمد الملكوت بالجبروت فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب لإنقطاع المدد عنهم وإستيلاء قتام الوهم عليهم فاضربوا فوق الأعناق لئلا يرفعوا رأسا واضربوا منهم كل بنان لئلا يقدروا على المدافعة وبعضهم جعل الإشارة في الآيات نفسية والخطاب فيها حسبما يليق له الخطاب من المرشد والسالك مثلا ولكل مقام مقال وفي تأويل النيسابوري نبذة من ذلك فارجع إليه إن أردته وما ذكرناه يكفي لغرضنا وهو عدم إخلاء كتابنا من كلمات القوم ولا نتقيد بآفاقية أو أنفسية والله تعالى الموفق للرشاد ثم إنه تعالى عاد كلامه إلى بيان بقية أحكام الواقعة وأحوالها وتقرير ما سبق حيث قال سبحانه : فلم تقتلوهم الخطاب للمؤمنين والفاء قيل واقعة في جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمره بالتثبيت وغير ذلك كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم ولكن الله قتلهم بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم وجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتلوهم على معنى فاعلموا أو فاخبركم أنكم لم تقتلوهم وقيل : التقدير إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم لما روي أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا يتفاخرون يقولون : قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت وقال أبو حيان : ليست هذه الفاء جواب شرط محذوف كما زعموا وإنما هي للربط بين الجمل لأنه قال سبحانه : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان وكان إمتثال ما أمر به سببا للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأن الإقدار عليه والخلق له إنما هو لله تعالى قال السفساقسي : وهذا أولى من دعوى الحذف وقال ابن هشام : إن الجواب المنفي لا تدخل عليه الفاء
ومن هنا مع كون الكلام على نفي الفاعل دون الفعل كما قيل ذهب الزمخشري إلى إسمية الجملة حيث قدر المبتدأ أي فأنتم لم تقتلوهم وجعل بعضهم المذكور علة الجزاء أقيمت مقامه وقال : إن الأصل إن افتخرتم بقتلهم فلا تفتخروا به لأنكم لم تقتلوهم ونظائره كثيرة ولعل كلام أبي حيان كما قال السفساقسي أولى والخطاب في قوله سبحانه : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى خطاب لنبيه عليه الصلاة و السلام بطريق التلوين وهو إشارة إلى رميه صلى الله تعالى عليه وسلم بالحصى يوم بدر وما كان منه فقد روي أنه عليه الصلاة و السلام قال : لما طلعت قريش من العقنقل : هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام فقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان قال لعلي كرم الله تعالى وجهه : أعطني قبضة من حصباء الوادي فرمى بها وجوههم فقال : شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه
(9/184)

فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وجاء من عدة طرق ذكرها الحافظ ابن حجر أن هذا الرمي كان يوم بدر وزعم الطيبي أنه لم يكن إلا يوم حنين وأن أئمة الحديث لم يذكر أحد منهم أنه كان يوم بدر وهو كما قال الحافظ السيوطي ناشيء من قلة الإطلاع فإنه عليه الرحمة لم يبلغ درجة الحفاظ ومنتهى نظره الكتب الست ومسند أحمد ومسند الدارمي وإلا فقد ذكر المحدثون أن الرمي قد وقع في اليومين فنفى وقوعه في يوم بدر مما لا ينبغي وذكر ما في حنين في هذه القصة من غير قرينة بعيد جدا وما ذكره في تقريب ذلك ليس بشيء كما لا يخفى على من راجعه وأنصف ويرد نحو هذا على ما روي عن الزهري وسعيد بن المسيب من أن الآية إشارة إلى رميه عليه الصلاة و السلام يوم أحد فإن اللعين أبي بن خلف قصده عليه الصلاة و السلام فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إستأخروا فاستأخروا فأخذ عليه الصلاة و السلام حربته بيده فرماه بها فكسر ضلعا من أضلاعه وفي رواية خدش ترقوته فرجع إلى أصحابه ثقيلا وهو يقول : قتلني محمد فطفقوا يقولون : لا بأس عليك فقال : والله لو كانت بالناس لقتلتهم فجعل يخور حتى مات ببعض الطريق
وما أخرج ابن جرير عن عبدالرحمن بن جبير أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق وذلك في خيبر دعا بقوس فأتى بقوس طويلة فقال عليه الصلاة و السلام : جيئوني بقوس غيرها فجاءوه بقوس كبداء فرمى صلى الله تعالى عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله تعالى الآية والحق المعول عليه هو الأول وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود بيان حال الرمي نفيا وإثباتا إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمى به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الجم الغفير شيء من ذلك والمعنى على ما قيل : وما فعلت أنت يا محمد تلك الرمية المستتبعة لتلك الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة ولكن الله تعالى فعلها أي خلقها حين باشرتها على أكمل وجه حيث أوصل بها الحصباء إلى أعينهم جميعا واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه تعالى وإنما لهم كسبها ومباشرتها قال الإمام : أثبت سبحانه وتعالى كونه صلى الله تعالى عليه وسلم راميا ونفى كونه راميا فوجب حمله على أنه عليه الصلاة و السلام رمى كسبا والله تعالى رمى خلقا وقال ابن المنير : إن علامة المجاز أن يصدق نفيه حيث يصدق ثبوته ألا تراك تقول للبليد حمار ثم تقول ليس بحمار فلما أثبت سبحانه الفعل الخارق ونفاه عنهم دل على أن نفيه على الحقيقة وثبوته على المجاز بلا شبهة فالآية تكفح بل تلفح وجوه القدرية بالرد فإن قلت : إن أهل المعاني جعلوا ذلك من تنزيل الشيء منزلة عدمه وفسروه بما رميت حقيقة إذ رميت صورة والرمي الصوري موجود والحقيقي لم يوجد فلا تنزيل أجيب بأن الصوري مع وجود الحقيقي كالعدم وما هو إلا كنور الشمع مع شعشعة الشمس ولذا أتى بنفيه مطلقا كإثباته وما ذكروه بيان لتصحيح المعنى في نفس الأمر وهو لا ينافي النكتة المبنية على الظاهر ولذا قال في شرح المفتاح : النفي والإثبات واردان على شيء واحد بإعتبارين فالمنفي هو الرمي بإعتبار الحقيقة كما أن المثبت هو الرمي باعتبار الصورة والمشهور حمل الرمي في حيز الإستدراك على الكامل وهو الرمي المؤثر ذلك التأثير العظيم واعترض بأن المطلق ينصرف
(9/185)

إلى الفرد الكامل لتبادره منه وأما ما جرى على خلاف العادة وخرج عن طوق البشر فلا يتبادر حتى ينصرف إليه بل ذلك ليس من أفراده وأجيب بأنا لا ندعي إلا الفرد الكامل من ذاك المطلق حسبما تقتضيه القاعدة وكون ذلك الفرد جاريا على خلاف العادة وخارجا عن طوق البشر إنما جاء من خارج ووصف الرمي بما ذكر بيان لكماله ولا يستدعي ذلك أن لا يكون من أفراد المطلق ومن إدعاه فقد كابر واعترض على التفسير الأول بأنه مشعر بتفسير رمى في حيز الإستدراك بخلق الرمي وتفسير رميت في حيز النفي بخلقت الرمي فحاصل المعنى حينئذ وما خلقت الرمي إذ صدر عنك صورة ولكن الله سبحانه خلقه ويلزم منه صحة أن يقال مثلا : ما قمت إذ قمت ولكن الله سبحانه قام على معنى ما خلقت القيام إذ صدر عنك صورة ولكن الله تبارك وتعالى خلقه ولا أظنك في مرية من عدم صحة ذلك وأجيب بأن القياس يقتضي صحة ذلك إلا أن مدار الأمر على التوقيف واعترض على ما يستدعيه كلام ابن المنير من أن المعنى وما رميت حقيقة إذ رميت مجازا ولكن الله تعالى رمى حقيقة بأن نفي الرمي حقيقة حين إثباته مجازا من أجلى البديهيات فأي فائدة في الإخبار بذلك قيل : ومثل ذلك يرد على كلام الإمام لأن كسب العبد للفعل عندهم على المشهور عبارة عن محلية العبد للفعل من غير تأثير لقدرته في إيجاده ويؤول ذلك إلى مباشرته له من غير خلق فيكون المعنى وما خلقت الرمي إذ باشرت ولم تخلق وهو كما ترى وهو كما ترى وبالجملة كلام أكثر أهل الحق في تفسير الآية والإستدلال بها وكذا بالآية قبلها على مذهبهم لا يخلو عن مناقشة ما ولعل الجواب عنها متيسر لأهله
وقال بعض المحققين : إنه أثبت له صلى الله تعالى عليه وسلم الرمي لصدوره عنه عليه الصلاة و السلام ونفي عنه لأن أثره ليس في طاقة البشر ولذا عد ذلك معجزة حتى كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا مدخل له فيه فمبنى الكلام على المبالغة ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع لأن معناه الحقيقي غير مقصود ولا يصح أن تخرج الآية على الخلق والمباشرة لأن جميع أفعال العباد بمباشرتهم وخلق الله تعالى فلا يكون للتخصيص بهذا الرمي معنى وله وجه وإن قيل عليه ما قيل وأنا أقول : إن للعبد قدرة خلقها الله تعالى له مؤثرة بإذنه فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن لا أنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية ولا أن له قدرة غير مؤثرة كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة ولا أن له قدرة مؤثرة بها يفعل ما لا يشاء الله تعالى فعله كما يقول المعتزلة وأدلة ذلك قد بسطت في محلها وألفت فيها رسائل تلقم المخالف حجرا وليس إثبات صحة هذا القول وكذا القول المشهور عند الأشاعرة عند من يراه موقوفا على الإستدلال بهذه الآية حتى إذا لم تقم الآية دليلا يبقى المطلب بلا دليل
فإذا كان الأمر كذلك فأنا لا أرى بأسا في أن يكون الرمي المثبت له صلى الله تعالى عليه وسلم هو الرمي المخصوص الذي ترتب عليه ما ترتب مما أبهر العقول وحير الألباب وإثبات ذلك له عليه الصلاة و السلام حقيقة على معنى أنه فعله بقدرة أعطيت له صلى الله تعالى عليه وسلم مؤثرة بإذن الله تعالى إلا أنه لما كان ما ذكر خارجا عن العادة إذ المعروف في القدر الموهوبة للبشر أن لا تؤثر مثل هذا الأثر نفى ذلك عنه وأثبت لله سبحانه مبالغة كأنه قيل : إن ذلك الرمي وإن صدر منك حقيقة بالقدرة المؤثرة بإذن الله سبحانه لكنه لعظم أمره وعدم مشابهته لأفعال البشر كأنه لم يصدر منك بل صدر من الله جل شأنه بلا واسطة وكذا يجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله تعالى رمى بالرعب فالرمي المنفي أولا والمثبت أخيرا غير
(9/186)

المثبت في الأثناء وعلى الوجهين يظهر بأدنى تأمل وجه تخالف أسلوبي الآيتين حيث لم يقل : وما رميت ولكن الله رمى ليكون على أسلوب فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ولا فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم ليكون على أسلوب وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ولا يظهر لي نكتة في هذا التخالف على الوجوه التي ذكرها المعظم وكونها الإشارة إلى أن الرمي لم يكن في تلك الوقعة كالقتل بل كان في حنين دونه على ما فيه مخالف لما صح من أن كلا الأمرين كان في تلك الوقعة كما علمت فتأمل فلمسلك الذهن إتساع : وقريء ولكن الله بالتخفيف ورفع الإسم الجليل في المحلين وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا أي ليعطيهم سبحانه من عنده إعطاء جميلا غير مشوب بالشدائد والمكاره على أن البلاء بمعنى العطاء كما في قول زهير : جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلى واختار بعضهم تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده يقال : أبلى فلان بلاء حسنا أي قاتل قتالا شديدا وصبر صبرا عظيما سمي به ذلك الفعل لأنه ما يخبر به المرء فتظهر جلادته وحسن أثره واللام إما للتعليل متعلق بمحذوف متأخر فالواو إعتراضية أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشيء آخر غير ذلك مما لا يجديهم نفعا وإما برمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي الخ وقوله تعالى : إن الله سميع أي لدعائهم وإستغاثتهم أو لكل مسموع ويدخل فيه ما ذكر عليم
71
- أي بنياتهم وأحوالهم الداعية للإجابة أو لكل معلوم ويدخل فيه ما ذكر أيضا تعليل للحكم ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقوله سبحانه وتعالى : وأن الله موهن كيد الكافرين
81
- معطوف عليه أي المقصد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم وقيل : المشار إليه القتل أو الرمي والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل أو الرمي فيكون قوله تعالى : وأن الله الخ من قبيل عطف البيان وقيل : المشار إليه الجميع بتأويل ما ذكر وجوز جعل إسم إشارة مبتدأ محذوف الخبر وجعله منصوبا بفعل مقدر
وقرأ ابن كثير ونافع وأبوبكر موهن بالتشديد ونصب كيد وقرأ حفص عن عاصم بالتخفيف والإضافة وقرأ الباقون بالتخفيف والنصب إن تستفتحوا خطاب للمشركين على سبيل التهكم فقد روي أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين
وفي رواية أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان : اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم والأول مروي عن الكلبي والسدي والمعنى إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما فقد جاءكم الفتح حيث نصر أعلاهما وأهداهما وقد زعمتم أنكم الأعلى والأهدى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهلاك والذلة فالتهكم في نفس الفتح حيث وضع موضع ما يقابله وإن تنتهوا عن حراب الرسول عليه الصلاة و السلام ومعاداته فهو أي الإنتهاء خير لكم من الحراب الذي ذقتم بسببه ما ذقتم من القتل والأسر ومبنى إعتبار أصل الخيرية في المفضل عليه هو التهكم وإن تعودوا أي إلى حرابه عليه الصلاة و السلام نعد لما شاهدتموه من الفتح ولن تغني أي لن تدفع
(9/187)

عنكم فئتكم جماعتكم التي تجمعونها وتستغيثون بها شيئا من الإغناء أو المضار ولو كثرت تلك الفئة وقريء ولن يغني بالياء التحتانية لأن تأنيث الفئة غير حقيقي وللفصل ونصب شيئا على أنه مفعول مطلق أو مفعول به وجملة ولو كثرت في موضع الحال وأن الله مع المؤمنين
91
- أي ولأن الله تعالى معين المؤمنين كان ذلك أو والأمر أن الله سبحانه معهم وقرأ الأكثر وإن بالكسر على الإستئناف قيل : وهي أوجه من قراءة الفتح لأن الجملة حينئذ تذييل كأنه قيل : القصد إعلاء أمر المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وكيت وكيت وإن سنة الله تعالى جارية في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين وهذا إن أمكن إجراؤه على قراءة الفتح لكن قراءة الكسر نص فيه ويؤيدها قراءة ابن مسعود والله مع المؤمنين وروي عن عطاء وأبي بن كعب وإليه ذهب أبو علي الجبائي أن الخطاب للمؤمنين والمعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبة عما يرغب فيه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مدار لسعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار وتهييج العدو ولن تغني عنكم حينئذ كثرتكم إذ لم يكن الله تعالى معكم بالنصر والأمر أن الله سبحانه مع الكاملين في الإيمان ويفهم كلام بعضهم أن الخطاب في تستفتحوا و جاءكم للمؤمنين وفيما بعده للمشركين ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا وأيد كون الخطاب في الجميع للمؤمنين بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا أي تتولوا وقريء بتشديد التاء عنه أي عن الرسول وأعيد الضمير إليه عليه الصلاة و السلام لأن المقصود طاعته صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر طاعة الله تعالى توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله تعالى لأنه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى ورسوله 1 وقيل : الضمير للجهاد وقيل : للأمر الذي دل عليه الطاعة والتولي مجاز وقوله تعالى : وأنتم تسمعون
2
- جملة حالية واردة لتأكيد وجوب الإنتهاء عن التولي مطلقا لا لتقييد النهي عنه بحال السماع : أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع تفهم وإذعان وقد يراد بالسماع التصديق وقد يبقى الكلام على ظاهره من غير إرتكاب تجوز أصلا وقوله سبحانه ولا تكونوا تقريرا لما قبله أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي كالذين قالوا سمعنا كالكفرة والمنافقين الذين يدعون السماع وهم لا يسمعون
12
- أي سماعا ينتفعون به لأنهم لا يصدقون ما سمعوه ولا يفهمونه حق فهمه والجملة في موضع الحال من ضمير قالوا والمنفي سماع خاص لكنه أتي به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا بجعل سماعهم كالعدم إن شر الدواب إستئناف مسوق لبيان كمال سوء حال المشبه بهم مبالغة في التحذير وتقريرا للنهي إثر تقرير والدواب جمع دابة والمراد بها إما المعنى اللغوي أو العرفي أي أن شر من يدب على الأرض أو شر البهائم عند الله أي في حكمه وقضائه الصم الذين لا يسمعون الحق البكم الذين لا ينطقون به والجمع على المعنى ووصفوا بذلك لأن ما خلق له الحاستان سماع الحق والنطق به وحيث لم يوجد فيهم شيء من ذلك صاروا كأنهم فاقدون لهما رأسا
(9/188)

وتقديم الصم على البكم لما أن صممهم متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له كما أن النطق به من فروع سماعه وقيل : التقديم لأن وصفهم بالصمم أهم نظرا إلى السابق واللاحق ثم وصفوا بعدم التعقل في قوله تعالى : الذين لا يعقلون
22
- تحقيقا لكمال سوء حالهم فإن الأصم الأبكم كان له عقل ربما يفهم بعض الأمور ويفهمه غيره ويهتدي إلى بعض مطالبه أما إذا كان فاقدا للعقل أيضا فقد بلغ الغاية في الشرية وسوء الحال وبذلك يظهر كونهم شر الدواب حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها ولو علم الله فيهم أي في هؤلاء الصم والبكم خيرا أي شيئا من جنس الخير الذي من جملته صرف قواهم إلى تحري الحق واتباع الهدى لأسمعهم سماع تدبر وتفهم ولوقفوا على الحق وآمنوا بالرسول عليه الصلاة و السلام وأطاعوه ولو أسمعهم سماع تفهم وتدبر وقد علم أن لا خير فيهم لتولوا ولم ينتفعوا به وارتدوا بعد التصديق والقبول وهم معرضون
32
- لعنادهم والجملة حال مؤكدة مع إقترانها بالواو ومما ذكر يعلم الجواب عما قيل : إن الآية قياس إقتراني من شرطيتين ونتيجته غير صحيحة لما أنه أشير فيه أولا إلى منع القصد إلى القياس لفقد الكلية الكبرى وثانيا إلى منع فساد النتيجة إذ اللازم لو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت لتولوا بعده قاله بعض المحققين وفي المغني والجواب من ثلاثة أوجه إثنان يرجعان إلى منع كون المذكور قياسا وذلك لإختلاف الوسط أحدهما أن التقدير لأسمعهم سماعا نافعا ولو أسمعهم سماعا غير نافع لتولوا والثاني أن يقدر ولو أسمعهم على تقدير علم عدم الخير فيهم كما أشير إليه والثالث إلى منع إستحالة النتيجة بتقدير كونه قياسا متحد الوسط إذ التقدير ولو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت ما لتولوا بعد ذلك ولا يخفى ضعف الجواب الأول لأنه لا قرينة على تقييد لو أسمعهم بالسماع الغير النافع ولأنه يحقق فيهم الإسماع الغير النافع إلا أن يقيد بالإسماع بعد نزول هذه الآية وكذا ضعف الثالث لأن علمه تعالى بالخير ولو في وقت لا يستلزم التولي بل عدمه وأما الجواب الثاني فهو قوي لأن الشرطية الأولى قرينة على تقييد الإسماع في الشرطية الثانية بتقدير علم عدم الخير فيهم وذكر بعضهم في الجواب أن الشرطيتين مهملتان وكبرى الشكل الأول يجب أن تكون كلية ولو سلم فإنما ينتجان أي اللزومية لو كانت لزوميتين وهو ممنوع ولو سلم فإستحالة النتيجة ممنوعة أي لا نسلم إستحالة الحكم باللزوم بين المقدم والتالي وإن كان الطرفان محالين لأن علم الله تعالى فيهم خيرا محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وإن لم يوجد بينهما علاقة عقلية على ما هو التحقيق من عدم إشتراط العلاقة في إستلزام المحال للمحال
واعترض على أصل السؤال بأن لفظ لو لم يستعمل في فصيح الكلام في القياس الإقتراني وإنما يستعمل في القياس الإستثنائي المستثنى فيه نقيض التالي لأنها لإمتناع الشيء لإمتناع غيره ولهذا لا يصرح بإستثناء نقيض التالي وعلى الجواب بأن فيه تسليم كون ما ذكر قياسا ومنع كونه منتجا لإنتفاء شرائط الإنتاج وكيف يصح إعتقاد وقوع قياس في كلام الحكيم تعالى أهملت فيه شرائط الإنتاج وإن لم يكن مراده تعالى قياسيته وذكر أن الحق أن قوله سبحانه : لو علم الله فيهم خيرا وارد على قاعدة اللغة يعني أن سبب عدم الإسماع عدم العلم بالخير فيهم ثم ابتدأ قوله تعالى : ولو أسمعهم لتولوا كلاما آخر على طريقة لو لم يخف الله
(9/189)

تعالى لم يعصه وحاصل ذلك أنه كلام منقطع عما قبله والمقصود منه تقرير قولهم في جميع الأزمنة حيث ادعى لزومه لما هو مناف له ليفيد ثبوته على تقدير الشرط وعدمه فمعنى الآية حينئذ أنه انتفى الإسماع لإنتفاء علم الخير وأنهم ثابتون على التولي ففي الشرطية الأولى اللزوم في نفس الأمر وفي الثانية إدعائي فلا يكون على هيئة القياس
وقال العلامة الثاني : يجوز أن يكون التولي منفيا بسبب إنتفاء الإسماع كما هو مقتضى أصل لو لأن التولي بمعنى الإعراض عن الشيء كما هو أصل معناه لا بمعنى مطلق التكذيب والإنكار فعلى تقدير عدم إسماعهم ذلك الشيء لم يتحقق التولي والإعراض لأن الإعراض عن الشيء فرع تحققه ولم يلزم من هذا تحقق الإنقياد له لأن الإنقياد للشيء وعدم الإنقياد له ليسا على طرفي النقيض بل العدول والتحصيل لجواز إرتفاعهما بعدم ذلك الشيء وحاصله كما قيل : إنه إذا كان التولي بمعنى الإعراض يجوز أن يكون لو بمعناه المشهور ويكون المقصود الإخبار بأن إنتفاء الثاني في الخارج لإنتفاء الأول فيه كالشرطية الأولى ولا ينتظم منهما القياس إذ ليس المقصود منهما بيان إستلزام الأول والثاني في نفس الأمر ليستدل بل إعتبار السببية واللزوم بينهما ليعلم السببية بين الإنتفائين المعلومين في الخارج وما يقال : من أن إنتفاء التولي خير وقد ذكر أن لا خير فيهم مجاب عنه بأن لا نسلم إن إنتفاء التولي بسبب إنتفاء الإسماع خير لأنه لا يجوز أن يكون ذلك بسبب عدم الأهلية للإسماع وهو داء عضال وشر عظيم وإنما يكون خيرا لو كانوا من أهله بأن أسمعوا شيئا ثم إنقادوا له ولم يعرضوا وهذا كما يقال : لا خير في فلان لو كانت به قوة لقتل المسلمين فإن عدم قتل المسلمين بناء على عدم القوة والقدرة ليس خيرا فيه وإن كان خيرا له اه
ورده الشريف قدس سره بما تعقبه السالكوتي عليه الرحمة نعم قال مولانا محمد أمين ابن صدر الدين : إن حمل التولي ههنا على معنى الإعراض غير ممكن لمكان قوله سبحانه : وهم معرضون وأوجب أن يحمل إما على لازم معناه وهو عدم الإنتفاء لأنه يلزم الإعراض أو على ملزومه وهو الإرتداد لأنه يلزمه الإعراض فليفهم وعن الجبائي أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أخي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصي الخ وقيل : هم بنو عبد الدار ابن قصي لم يسلم منهم إلا مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون : نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسن أنهم أهل الكتاب والجملة الإسمية في موضع الحال من ضمير تولوا وجوز أن تكون إعتراضا تذييلا أي وهم قوم عادتهم الإعراض يا أيها الذين آمنوا تكرير النداء مع وصفهم بنعت الإيمان لتنشيطهم إلى الإقبال على الإمتثال بما يرد بعده من الأوامر وتنبيههم على أن فيهم ما يوجب ذلك استجيبوا لله وللرسول بحسن الطاعة إذا دعاكم أي الرسول إذ هو المباشر لدعوة الله تعالى مع ما أشرنا إليه آنفا لما يحييكم أي لما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال أو من الجهاد الذي أعزكم الله تعالى به بعد الذل وقواكم به بعد الضعف ومنعكم به من عدوكم بعد القهر كما روى ذلك عن عروة بن الزبير وإطلاق ما ذكر على العقائد والأعمال وكذا على الجهاد إما إستعارة أو مجاز مرسل بإطلاق السبب على المسبب وقال القتبي : المراد به الشهادة وهو مجاز أيضا وقال قتادة : القرآن وقال أبو مسلم : الجنة وقال غير واحد : هو العلوم الدينية التي هي مناط الحياة الأبدية كما أن الجهل مدار الموت الحقيقي وهو إستعارة مشهورة ذكرها الأدباء
(9/190)

وعلماء المعاني وللزمخشري : لا تعجبن لجهول حلته فذاك ميت وثوبه كفن واستدل بالآية على وجوب إجابته صلى الله تعالى عليه وسلم إذا نادى أحدا وهو في الصلاة وعن الشافعي أن ذلك لا يبطلها لأنها أيضا إجابة وحكى الروياني أنها لا تجب وتبطل الصلاة بها وقيل : إنه يقطع الصلاة إذا كان الدعاء لأمر يفوت بالتأخير كما إذا رأى أعمى وصل إلى بئر ولو لم يحذره لهلك وأيد القول بالوجوب بما أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر على أبي بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك من إجابتي قال : كنت أصلي قال : ألم تخبر فيما أوحي استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال : بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى ثم إنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال له : لأعلمنك سورة أعظم سورة في القرآن الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني وأنت تعلم أنه لا دلالة فيه على أن إجابته صلى الله تعالى عليه وسلم لاتقطع الصلاة وقال بعضهم : إن ذلك الدعاء كان لأمر مهم لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله وفيه نظر واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه عطف على إستجيبوا وأصل الحول كما قال الراغب تغير الشيء وانفصاله عن غيره وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول وباعتبار الإنفصال قيل حال بينهما كذا وهذا غير متصور في حق الله تعالى فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لإتصاله بهما وإنفصال أحدهما عن الآخر وظاهر كلام كثير أن الكلام من باب الإستعارة التمثيلية ويجوز أن يكون هناك إستعارة تبعية فمعنى يحول يقرب ولا بعد في أن يكون من باب المجاز المرسل المركب لإستعماله في لازم معناه وهو القرب بل ادعى أنه الأنسب وإرادة هذا المعنى هو المروي عن الحسن وقتادة فالآية نطير قوله سبحانه : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
وفيها تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما قد يغفل عنه أصحابها وجوز أن يكون المراد من ذلك الحث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها فمعنى يحول بينه وبين قلبه يميته فيفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريده الله تعالى فكأنه سبحانه بعد أن أمرهم بإجابة الرسول عليه الصلاة و السلام أشار لهم إلى إغتنام الفرصة من إخلاص القلوب للطاعة وشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه وإلى هذا ذهب الجبائي
وقال غير واحد : إنه إستعارة تمثيلية لتمكنه تعالى من قلوب العباد فيصرفها كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويلهمه رشده ويزيغ عن الصراط السوي قلبه ويبدله بالأمن خوفا وبالذكر نسيانا وذلك كمن حال بين شخص ومتاعه فإنه القادر على التصرف فيه دونه وهذا كما في حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة وقد سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن إكثاره الدعاء بيا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال لها : يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله تعالى فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ ويؤيد هذا التفسير ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذه الآية فقال عليه الصلاة و السلام : يحول بين المؤمن والكفر ويحول بين الكافر والهدى
ولعل ذلك منه عليه الصلاة و السلام إقتصار على الأمرين اللذين هما أعظم مدار السعادة والشقاوة وإلا
(9/191)

فهذا من فروع التمكن الذي أشرنا إليه ولا يختص أمره بما ذكر وقد حال سبحانه بين العدلية وبين إعتقاد هذا فعدلوا عن سواء السبيل وبين بعض الأفاضل ربط الآيات على ذلك بأنه تعالى لما نص بقوله عز من قائل : لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم الخ على أن الإسماع لا ينفع فيهم تسجيلا على أولئك الصم البكم من على المؤمنين بما منحهم من الإيمان ويسر لهم من الطاعة كأنه قيل : إنكم لستم مثل أولئك المطبوعين على قلوبهم فإنهم إنما امتنعوا عن الطاعة لأنهم ما خلقوا إلا للكفر فما تيسر لهم الإستجابة وكل مسير لما خلق له فأنتم لما منحتم الإيمان ووفقتم للطاعة فاستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما فيه حياتكم من مجاهدة الكفار وطلب الحياة الأبدية واغتنموا تلك الفرصة واعلموا أن الله تعالى قد يحول بين المرء وقلبه بأن يحول بينه وبين الإيمان وبينه وبين الطاعة ثم يجازيه في الآخرة بالنار وتلخيصه أوليتكم النعمة فاشكروها ولا تكفروها لئلا أزيلها عنكم اه
ولا يخفى ما فيه من التكليف وقيل : إن القوم لما دعوا إلى القتال والجهاد وكانوا في غاية الضعف والقلة خافت قلوبهم وضاقت صدورهم فقيل لهم : قاتلوا في سبيل الله تعالى إذا دعيتم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الأمن خوفا والجبن جرأة وقريء بين المر بتشديد الراء على حذف الهمزة ونقل حركتها إليها وإجراء الوصل مجرى الوقف وأنه أي الله عز و جل أو الشأن إليه تحشرون
42
- لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم التي لم يخف عليه شيء منها فسارعوا إلى طاعته وطاعة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وبالغوا في الإستجابة وقيل : المعنى أنه تحشرون إليه تعالى دون غيره فيجازيكم فلا تألوا جهدا في إنتهاز الفرصة أو المعنى أنه المتصرف في قلوبكم في الدنيا ولا مهرب لكم عنه في الآخرة فسلموا الأمر إليه عز شأنه ولا تحدثوا أنفسكم بمخالفته
وزعم بعضهم أنه سبحانه لما أشار في صدر الآية إلى أن السعيد من أسعده والشقي من أضله وأن القلوب بيده يقلبهما كيفما يشاء ويخلق فيها الدواعي والعقائد حسبما يريد ختمها بما يفيد أن الحشر إليه ليعلم أنه مع كون العباد مجبورين خلقوا مثابين معاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين وأنت تعلم أن الآية لا دلالة فيها على الجبر بالمعنى المشهور وليس فيها عند من أنصف بعد التأمل أكثر من إنتهاء الأمور بالآخرة إليه عز شأنه واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة أي لا تختص إصابتها لمن يباشر الظلم منكم بل تعمه وغيره والمراد بالفتنة الذنب وفسر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد حسبما يقتضيه المعنى والمصيب على هذا هو الأثر كالشامة والوبال وحينئذ إما أن يقدر أو يتجوز في إصابته وجوز أن يراد به العذاب فلا حاجة إلى التقدير أو التجوز فيما ذكر لأن إصابته بنفسه وكذا لا حاجة إلى إرتكاب تقدير في جانب الأمر ولا إلتزام إستخدام و لا نافية والجملة المنفية قيل جواب الأمر على معنى أن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكمواعترض بأن جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب ولو قدر ذلك وفاء بالقاعدة فسد المعنى إذ يكون إن تتقوا الفتنة تعمكم إصابتها ولا تختص بالظالمين منكم وهو كما ترى وأجيب بأن أصل الكلام واتقوا فتنة لا تصيبنكم فإن أصابتكم لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل عمتكم فاقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر في جواب الأمر لتسببه منه وسمى جواب الأمر لأن المعاملة معه لفظا
(9/192)

وفيه أن من البين أن عموم الإصابة ليس مسببا عن عدم الإصابة ولا عن الأمر وظاهر التعبير يقتضيه وقال بعض المحققين : إن ذلك على رأي الكوفيين من تقدير ما يناسب الكلام وعدم إلتزام كون المقدر من جنس الملفوظ نفيا أو إثباتا فيقدرون في نحو لا تدن من الأسد يأكك الإثبات أي إن تدن يأكلك وفي نحو اتقوا فتنة النفي أي إن لم تتقوا تصبكم واعترض عليه بأن ذلك القائل لم يقدر لا هذا ولا ذاك وإنما قدر ما يستقيم به المعنى من غير نظر إلى مضمون الأمر أو نقيضه وأجيب بأن مراده أن التقدير إن لم تتقوا تصبكم وإن أصابتكم لا تختص بالظالمين فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو نقيض الأمر لتسببه عنه وما أورد على هذا من أنه لا حاجة إلى إعتبار الواسطة حينئذ إذ يكفي أن يقال : إن لم تتقوا لا تصب الظالمين خاصة فمع كونه مناقشة لفظية مدفوع بأدنى تأمل لأن عدم إختصاص إصابة الفتنة بالظالمين كما يكون بعموم الإصابة لهم ولغيرهم كذلك يكون بعدم إصابتها لهم رأسا فلابد من إعتبار الواسطة قطعا
وقال بعض المتأخرين : مراد من قدر إن أصابتكم إن لم تتقوا على مذهب من يرى تقدير النفي لكنه عبر عنه بأصابت لتلازمها فلا يرد حديث الواسطة نعم قيل : إن جواب الشرط متردد فلا يليق تأكيده بالنون إذ التأكيد يقتضي دفع التردد وأجيب بأنه هنا 1 طلبي معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي وهو لا ينافيه التردد في وقوعه لأنه لا تردد في طلبه على أنه قيل : إنه وإن كان مترددا في نفسه لكونه معلقا بما هو متردد وهو الشرط لكنه ليس بمتردد بحسب الشرط وعلى تقدير وقوعه فيليق به التأكيد بذلك الإعتبار وأنت تعلم أن ابن جني رجح أن المنفيبلا يؤكد في السعة لشبهه بالنهي كما في قوله سبحانه : ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وقال ناصرالدين : إن هذا الجواب لما تضمن معنى النهي ساغ توكيده ووجهه أن النفي إذا كان مطلوبا كان في معنى النهي وفي حكمه فيجوز فيه التأكيد كالنهي الصريح ولا خفاء في أن عدم كونهم بحيث تصيبهم الفتنة مطلوب كما أن عدم كونهم يحطمهم سليمان وجنوده كذلك وجوز أن تكون الجملة المنفية في موضع النصب صفة لفتنة واعترض بأن فيه شذوذا لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم وقد يجاب بأنك قد عرفت أن ابن جني وكذا بعض النحاة جوز ذلك وقد إرتضاه ابن مالك في التسهيل نعم ما ذكر كلام الجمهور
وقال أبو البقاء وغيره : يحتمل أن تكون لا ناهية والجملة في موضع الصفة أيضا لكن على إرادة القول كقوله : حتى إذا جن الظلام واختلط
جاؤا بمذق هل رأيت الذئب قط لأن المشهور أن الجملة الإنشائية نهيا كانت أو غيرها لا تقع صفة ونحوها إلا بتقدير القول وقد صرحوا بأن قولك : مررت برجل أضربه بتقدير مقول فيه أضربه وليس المقصود بالمقولية الحكاية بل إستحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه ومن الناس من جوز الوصف بذلك باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول وأن تكون الجملة جواب قسم محذوف أي والله لا تصيبن الظالمين خاصة بل تعم وحينئذ يظهر أمر التأكيد وأيد ذلك بقراءة علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن ثابت وأبي وابن مسعود والباقر والربيع وأبو العالية لتصيبن فإن الظاهر فيها القسمية وقيل : إن الأصل لا إلا أن الألف حذفت تخفيفا كما قالوا : أم والله وقال بعضهم :
(9/193)

أن لا في القراءة المتواترة هي اللام والألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله : فأنت من العواتك حين ترمي ومن ذم الرجال بمنتزاح وكلا القولين لا يعول عليه ويحتمل أن تكون نهيا مستأنفا لتقرير الأمر وتأكيده وهو من باب الكناية لأن الفتنة لا تنهي عن الإصابة إذ لا يتصور الإمتثال منها بحال والمعنى حينئذ لا تتعرضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة و من على تقدير كون لا ناهية سواء جعلت الجملة صفة أو مؤكدة للأمر بيانية لا تبعيضية لأنها لو اعتبرت كذلك لكان النهي عن التعرض للظلم مخصوصا بالظالمين منهم دون غيرهم فغير الظالم لا يكون منهيا عن التعرض له بمنطوق الآية وذلك شيء لا يراد وأما على الوجوه الأخر من كون لا نافية لا ناهية سواء كان قوله سبحانه وتعالى : لا تصيبن صفة لفتنة كما هو الظاهر أو جواب الأمر أو جواب قسم فهي تبعيضية قطعا إذ الآية على هذه التقادير جميعا مخبرة بأن إصابة الفتنة لا تخص بالظالمين بل تعم غيرهم أيضا فلو بين الذين ظلموا بالمخاطبين لأفهمت أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم كلهم كانوا ظالمون وحاشاهم ثم لا يخفى أن الخطاب إذا كان عاما للأمة وفسرت الفتنة بإقرار المنكر لا يجيء الإشكال على عموم الإصابة بقوله سبحانه : ولا تزر وازرة وزر أخرى لأنه كما يجب على مرتكب الذنب الإنتهاء عنه يجب على الباقين رفعه وإذا لم يفعلوا كانوا آثمين فيصيبهم ما يصيبهم لإثمهم
وبدل للوجوب ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم وأخرج الترمذي وأبو داود عن قيس بن حازم عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب وروى الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل
وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره وأخرج غير واحد عن الزبير قال : قرأنا هذه الآية زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبيها على أن تعرض الفتنة وهي إفتراق الكلمة من أشد الظلم لا سيما من هؤلاء الأجلاء ثم فسر بضميرهم دلالة على الإختصاص وأكد بخاصة وكثيرا ما يشدد الأمر على الخاصة واعلموا أن الله شديد العقاب
52
- لمن خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه واذكروا إذ أنتم قليل أي في العدد والجملة الإسمية للإيذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها وقوله سبحانه : مستضعفون خبر ثان وجوز أن يكون صفة لقليل وقوله تعالى : في الأرض أي أرض مكة تحت أيدي كفار قريش والخطاب للمهاجرين أو تحت أيدي فارس والروم والخطاب للعرب كافة مسلمهم وكافرهم على ما نقل عن وهب واعترض بأنه بعيد لا يناسب المقام مع أن فارس لم تحكم على جميع العرب وقوله تعالى : تخافون أن يتخطفكم الناس خبر ثالث أو صفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعد ما وصف بغيرها وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من المستكن في مستضعفون
(9/194)

والمراد بالناس على الأول وهو الأظهر إما كفار قريش أو كفار العرب كما قال عكرمة لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم وعلى الثاني فارس والروم
وأخرج الديلمي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قيل : يا رسول الله ومن الناس قال : أهل فارس والتخطف كالخطف الأخذ بسرعة وفسر هنا بالإستلاب أي واذكروا حالكم وقت قلتكم وذلتكم وهوانكم على الناس وخوفكم من إختطافكم أو اذكروا ذلك الوقت فآواكم أي إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم وأيدكم بنصره بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة يوم بدر أو بأن قوى شوكتكم إذ بعث منكم من تضطرب قلوب أعدائكم من اسمه ورزقكم من الطيبات من الغنائم ولم تطب إلا لهذه الأمة وقيل : هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة والأول أنسب بالمقام والإمتنان به هنا أظهر والثاني متعين عند من يجعل الخطاب للعرب لعلكم تشكرون
62
- هذه النعم الجليلة يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول أصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء الإتمام واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه فإن الخائن ينقص المخون شيئا مما خانه فيه اعتبر الراغب في الخيانة أن تكون سرا والمراد بها هنا عدم العمل بما أمر الله تعالى به ورسوله عليه الصلاة و السلام وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن خيانة الله سبحانه بترك فرائضه والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بترك سننه وارتكاب معصيته
وقيل : المراد النهي عن الخيانة بأن يضمروا خلاف ما يظهرون أو يغلوا في الغنائم وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب رضي الله تعالى عنه أن المراد بها الإخلال بالسلاح في المغازي وذكر الزهري والكلبي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة وفي رواية البيهقي خمسا وعشرين فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات من أرض الشام فأبى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا : أرسل لنا أبا لبابة رفاعة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لأن ماله وولده وعياله كان عندهم فبعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتاهم فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار بيده إلى حلقه يعني أنه الذبح فلا تفعلوا قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وشد نفسه 1 على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله تعالى علي فلما بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خبره قال : أما لو جاءني لأستغفرت له أما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله تعالى عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله تعالى عليه فقيل له : يا أبا لبابة قد تيب عليك فقال : والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي يحلني فجاءه عليه الصلاة و السلام فحله بيده ثم قال أبو لبابة : إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : يجزيك الثلث أن تصدق به فنزلت فيه هذه الآية وقال السدي : كانوا يسمعون الشيء من
(9/195)

رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنهوا عن ذلك وأخرج أبو الشيخ وغيره عن جابر بن عبدالله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم مريدكم فخذوا حذركم فنزلت وتخونوا أماناتكم عطف على المجزوم أولا والمراد النهي عن خيانة الله تعالى والرسول وخيانة بعضهم بعضا والكلام عند بعض على حذف مضاف أي أصحاب أماناتكم ويجوز أن تجعل الأمانة نفسها مخونة وجوز أبو البقاء أن يكون الفعل منصوبا بإضمار أن بعد الواو في جواب النهي كما في قوله : لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم والمعنى لا تجمعوا بين الخيانتين والأول أولى لأن فيه النهي عن كل واحد على حدته بخلاف هذا فإنه نهي عن الجمع بينهما ولا يلزمه النهي عن كل واحد على حدته وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأمانات بالأعمال التي ائتمن الله تعالى عليها عباده وقرأ مجاهد أمانتكم بالتوحيد وهي رواية عن أبي عمرو ولا منافاة بينها وبين القراءة الأخرى وأنتم تعلمون
72
- أي تبعة ذلك ووباله أو أنكم تخونون أو وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح فالفعل إما متعد له مفعول مقدر بقرينة المقام أو منزل منزلة اللازم قيل : وليس المراد بذلك التقييد على كل حال واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنها سبب الوقوع في الإسم والعقاب أو محنة من الله عز و جل يختبركم بها فلا يحملنكم حبها على الخيانة كأبي لبابة ولعل الفتنة في المال أكثر منها في الولد ولذا قدمت الأموال على الأولاد ولا يخفى ما في الأخبار من المبالغة
وجاء عن ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله سبحانه يقول : واعلموا أنما أموالكم الخ فمن إستعاذ منكم فاليستعذ بالله تعالى من مضلات الفتن ومثله عن علي كرم الله تعالى وجهه وأن الله عنده أجر عظيم
82
- لمن مال إليه سبحانه وآثر رضاه عليهما وراعى حدوده فيهما فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله في كل ما تأتون وما تذرون يجعل لكم بسبب ذلك الإتقاء فرقانا أي هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل كما روي عن ابن جريج وابن زيد أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين كما قال الفراء أو نجاة في الدارين كما هو ظاهر كلام السدي أو مخرجا من الشبهات كما جاء عن مقاتل أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم كما يشعر به كلام محمد بن إسحق من بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي الصبح وكل المعاني ترجع إلى الفرق بين أمرين وجوز بعض المحققين الجمع بينها ويكفر عنكم سياءتكم أي يسترها في الدنيا ويغفر لكم بالتجاوز عنها في الأخرى فلا تكرار وقد يقال : مفعول يغفر الذنوب وتفسر بالكبائر وتفسر السيئات بالصغائر أو يقال : المراد ما تقدم وما تأخر لأن الآية في أهل بدر وقد غفر لهم
ففي الخبر لعل الله تعالى أطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم والله ذو الفضل العظيم
92
- تعليل لما قبله وتنبيه على أن ما وعد لهم على التقوى تفضل منه سبحانه وإحسان وأنها بمعزل عن أن توجب عليه جل شأنه
(9/196)

شيئا قيل : ومن عظيم فضله تعالى أنه يتفضل من غير واسطة وبدون إلتماس عوض ولا كذلك غيرهم سبحانه ثم أنه عز و جل لما ذكر من ذكر نعمته بقوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل الخ ذكر نبيه عليه الصلاة و السلام النعمة الخاصة به بقوله عز من قائل : وإذ يمكر بك الذين كفروا فهو متعلق بمحذوف وقع مفعولا لفعل محذوف معطوف على ما تقدم أو منصوب بالفعل المضمر المعطوف على ذلك أي واذكر نعمته تعالى عليك إذ أو اذكر وقت مكرهم بك ليثبتوك بالوثاق ويعضده قراءة ابن عباس ليقيدوك وإليه ذهب الحسن ومجاهد وقتادة أو بالإثخان بالجرح من قولهم : ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح وهو المروي عن أبان وأبي حاتم والجبائي وأنشد فقلت ويحكم ما في صحيفتكم
قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا أو بالحبس في بيت كما روي عن عطاء والسدي وكل الأقوال ترجع إلى أصل واحد وهو جعله صلى تعالى الله عليه وسلم ثابتا في مكانه أعم من أن يكون ذلك بالربط أو الحبس أو الإثخان بالجراح حتى لا يقدر على الحركة ولا يرد أن الإثخان إن كان بدون قتل فلا ذكر له فيما إشتهر من القصة وإن كان بالقتل يتكرر مع قوله تعالى : أو يقتلوك لأنا نختار الأول ولا يلزم أن يذكر في القصة لأنه قد يكون رأى من لا يعتد برأيه فلم يذكروا المراد على ما تقتضيه أو يقتلوك بسيوفهم أو يخرجوك أي من مكة وذلك على ما ذكر ابن إسحق أن قريشا لما رأت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم من غير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة فحذروا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا في دار الندوة هي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون فيها ما يصنعون في أمره عليه الصلاة و السلام فلما إجتمعوا كما قال ابن عباس لذلك وإتعدوا أن يدخلوا الدار ليتشاوروا فيها غدوا في اليوم الذي إتعدوا فيه وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس عليه اللعنة في هيئة شيخ جليل عليه بدلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا : من الشيخ قال : شيخ من أهل نجد سمع بالذي إتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا : أجل فادخل فدخل معهم وقد إجتمع أشراف قريش فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما رأيتم وإنا والله ما نأمنه قال : فتشاوروا ثم قال قائل 1 منهم : إحبسوه في الحديد واغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم فقال الشيخ النجدي : لا والله ما هذا برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبتوا عليكم فينزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره فتشاوروا ثم قال قائل 2 منهم : نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت قال الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به والله لو فعلتم
(9/197)

ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه عليه ثم يسير بهم إليكم فيطؤكم بهم في بلادكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد دبروا فيه رأيا غيره قال فقال أبو جهل : والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدون إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم قال فقال الشيخ النجدي : القول ما قال الرجل هو هذا الرأي لا أرى غيره فتفرقوا على ذلك فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه فلما كانت عتمة من الليل إجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكانهم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه نم على فراشي وتسبح بردى هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام وأذن له عليه الصلاة و السلام في الهجرة فخرج مع صاحبه أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار وأنشد علي كرم الله تعالى وجهه مشيرا لما من الله تعالى عليه : وقيت بنفسي من وطيء الحصى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر رسول إله خاف أن يمكروا به فنجاه ذو الطول الإله من المكر وبات رسول الله في الغار آمنا وقد صار في حفظ الإله وفي ستر وبت أراعيهم وما يتهمونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر ويمكرون ويمكر الله أي يرد مكرهم ويجعل وخامته عليهم أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد ففي الكلام إستعارة تبعية أو مجاز مرسل أو إستعارة تمثيلية وقد يكتفي بالمشاكلة الصرفة والله خير الماكرين
3
- إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره سبحانه
قال بعض المحققين : إطلاق هذا المركب الإضافي عليه تعالى إن كان بإعتبار أن مكره جل شأنه أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإضافة للتفضيل لأن لمكر الغير أيضا نفوذا وتأثيرا في الجملة وهذا معنى أصل فعل الخير فتحصل المشاركة فيه وإذا كان بإعتبار أنه سبحانه لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا بما يستوجبه الممكور به فلا شركة لمكر الغير فيه فالإضافة حينئذ للإختصاص كما في أعدلا بني مروان لإنتفاء المشاركة
وقيل : هو من قبيل الصيف أحر من الشتاء بمعنى أن مكره تعالى في خيريته أبلغ من مكر الغير في شريته
وادعى غير واحد أن المكر لا يطلق عليه سبحانه دون مشاكلة لأنه حيلة يجلب بها مضرة إلى الغير وذلك مما لا يجوز في حقه سبحانه
واعترض بوروده من دون مشاكلة في قوله تعالى : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وأجيب بأن المشاكلة فيما ذكر تقديرية وهي كافية في الغرض وفيه نظر فقد جاء عن على كرم الله تعالى وجهه من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في عقله والمشاكلة التقديرية فيه بعيدة جد
(9/198)

بل لايكاد يدعيها منصف وإذا تتلى عليهم ءاياتنا التي لو أنزلناها على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا قائله النضر بن الحرث من بني عبدالدار على ما عليه جمهور المفسرين وكان يختلف إلى أرض فارس والحيرة فيسمع أخبارهم عن رستم واسفنديار وكبار العجم وكان يمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل وإسناد القول إلى ضمير الجمع من إسناد فعل البعض إلى الكل لما أن اللعين كان رئيسهم وقاضيهم الذي يقولون بقوله ويعملون برأيه
وقيل : قاله الذين ائتمروا في أمره عليه الصلاة و السلام في دار الندوة وأيا ما كان فهو غاية المكابرة ونهاية العناد إذ لو إستطاعوا شيئا من ذلك فما منعهم من المشيئة وقد تحداهم عليه الصلاة و السلام وقرعهم بالعجز عشر سنين ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنفتهم وإستنكافهم أن يغلبوا لا سيما في ميدان البيان فإنهم كانوا فرسانه المالكين لأزمته الحائزين قصب السبق به
واشتهر أنهم علقوا القصائد السبعة المشهورة على باب الكعبة متحدين بها لكن تعقب 1 أن ذلك مما لا أصل له وإن اشتهر وزعم بعضهم أن هذا القول كان منهم قبل أن ينقطع طمعهم عن القدرة على الإتيان بمثله وليس بشيء إن هذا إلا أساطير الأولين
13
- جمع أسطورة على ما قاله المبرد كأحدوثة وأحاديث ومعناه ما سطر وكتب وفي القاموس الأساطير الأحاديث لا نظام لها جمع اسطار وإسطير وأسطور وبالهاء في الكل وأصل السطر الصف من الطيء كالكتاب والشجر وغيره وجمعه أسطر وسطور وأسطار وجمع الجمع أساطير ويحرك في الكل وقال بعضهم : إن جمع سطر بالسكون أسطر وسطور وجمع سطر اسطار واساطير وهو مخالف لما في القاموس والكلام على التشبيه وأرادوا ما هذا إلا كقصص الأولين وحكاياتهم التي سطروها وليس كلام الله تعالى وكأنه بيان لوجه قدرتهم على قول مثله لو شاءوا
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم قائل هذا النضر أيضا على ما روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وجاء في رواية أنه لما قال أولا ما قال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ويلك إنه كلام الله تعالى فقال ذلك وأخرج البخاري والبيهقي في الدلائل عن أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنهما أنه أبو جهل بن هشام وأخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض أكرم الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق الخ وهو أبلغ في الجحود من القول الأول لأنهم عدوا حقيته محالا فلذا علقوا عليها طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ولو كانت ممكنة لفروا من تعليقه عليها وما يقال : ان أن للخلو عن الجزم فكيف استعملت في صورة الجزم أجاب عنه القطب بأنها العدم الجزم بوقوع الشرط ومتى جزم بعدم وقوع عدم الجزم بوقوعه وهذا كقوله تعالى : وإن كنتم في ريب وفيه بحث ذكره العلامة الثاني واللام في الحق قيل للعهد ومعنى العهد فيه أنه الحق الذي ادعاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو أنه كلام الله تعالى المنزل عليه عليه الصلاة و السلام على النمط المخصوص ومن عندك ان سلم دلالته عليه فهو للتأكيد وحينئذ فالمعلق به كونه حقا بالوجه الذي
(9/199)

يدعيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا الحق مطلقا لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل كأساطير الأولين وفي الكشاف أن قولهم : هو الحق تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق وزعم بعضهم أن هذا قول بأن اللام للجنس وأشار إلى أن الأولى حملها على العهد الخارجي على معنى الحق المعهود المنزل من عند الله تعالى هذا لا أساطير الأولين فالتركيب مفيد لتخصيص المسند إليه بالمسند على آكد وجه وحمل كلام البيضاوي على ذلك وطعن في مسلك الكشاف بعدم ثبوت قائل أو لا على وجه التخصيص يتهكم به ولا يخفى ما فيه من المنع والتعسف وأمطر إستعارة أو مجاز لأنزل وقد تقدم الكلام في المطر والإمطار وقوله سبحانه : من السماء صفة حجارة وذكره للإشارة إلى أن المراد بها السجيل والحجارة المسومة للعذاب يروى أنها حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم وجوز أن يكون الجار متعلقا بالفعل قبله والمراد بالعذاب الأليم غير إمطار الحجارة بقرينة المقابلة ويصح أن يكون من عطف العام على الخاص وتعلق من عندك بمحذوف قيل : هو حال مما عنده أو صفة له وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأعمش الحق بالرفع على أنه مبتدأ لا فصل وقول الطبرسي : إنه لم يقرأ بذلك ليس بذاك ولا أرى فرقا بين القراءتين من جهة المراد بالتعريف خلافا لمن زعمه وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان لما كان الموجب لإمهالهم وعدم إجابة دعائهم الذي قصدوا به ما قصدوا واللام هي التي تسمى لام الجحود ولام النفي لإختصاصها بمنفي كان الماضية لفظا أو معنى وهي إما زائدة أو غير زائدة والخبر محذوف أي ما كان الله مريدا لتعذيبهم وأيا ما كان فالمراد تأكيد النفي أما على زيادتها فظاهر وأما على عدم زيادتها وجعل الخبر ما علمت فلان نفى إرادة الفعل أبلغ من نفيه وقيل : في وجه إفادة اللام تأكيد النفي هنا أنها هي التي في قولهم : أنت لهذه الخطة أي مناسب لها وهي تليق بك ونفي اللياقة أبلغ من نفي أصل الفعل ولا يخلو عن حسن وإن قيل : إنه تكلف لا حاجة إليه بعد ما بينه النحاة في وجه ذلك وحمل غير واحد العذاب على عذاب الإستئصال واعترض بأنه لا دليل على هذا التقييد مع أنه لا يلائمه المقام وأجيب بمنع عدم الملاءمة بل من أمعن النظر في كلامهم رآه مشعرا بطلب ذلك والدليل على التقييد أنه وقع عليهم العذاب والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم كالقحط فعلم أن المراد به عذاب الإستئصال والقرينة عليه تأكيد النفي الذي يصرفه إلى أعظمه فالمراد من الآية الإخبار بأن تعذيبهم عذاب إستئصال والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بين أظهرهم خارج عن عادته تعالى غير مستقيم في حكمه وقضائه والمراد بلإستغفار في قوله سبحانه : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون
32
- إما إستغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين حين هاجر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وروي هذا عن الضحاك واختاره الجبائي وقال الطيبي : إنه أبلغ لدلالته على إستغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة وإسناد الإستغفار إلى ضمير الجمع لوقوعه فيما بينهم ولجعل ما صدر عن البعض كما قيل بمنزلة الصادر عن الكل فليس هناك تفكيك للضمائر كما يوهمه كلام ابن عطية
وأما دعاء الكفرة بالمغفرة وقولهم غفرانك فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعا من عذابه جل شأنه ولو من الكفرة وروي هذا عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا : إن قريشا لما قالوا ما قالوا ندموا حين أمسوا فقالوا : غفرانك اللهم وأما التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره على معنى لو إستغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى : وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون وروي هذا عن السدي وقتادة
(9/200)

وابن زيد وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل من الأقوال الثلاثة وأيا ما كان فالجملة الإسمية في موضع الحال إلا أن القيد مثبت على الوجهين الأولين منفي على الوجه الأخير ومبنى الإختلاف في ذلك ما نقل عن السلف من الإختلاف في تفسيره والقاعدة المقررة بين القوم في القيد الواقع بعد الفعل المنفي وحاصلها على ما قيل : إن القيد في الكلام المنفي قد يكون لتقييد النفي وقد يكون لنفي التقييد بمعنى إنتفاء كل من الفعل والقيد أو القيد فقط أو الفعل فقط وقيل : 1 إن الدال على إنتفاء الإستغفار هنا على الوجه الأخير القرينة والمقام لا نفس الكلام وإلا لكان معنى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم نفى كونه فيهم لأن أمر الحالية مشترك بين الجملتين وأطال الكلام في نفي تساوي الجملتين سؤالا وجوابا ثم تكلف للتفرقة بما تكلف واعترض عليه بما اعترض والظاهر عندي عدم الفرق في إحتمال كل من حيث أنه كلام فيه قيد توجه النفي إلى القيد
ومن هنا قال بعضهم : إن المعنى الأولى لو كنت فيهم لم يعذبوا كما قيل في معنى الثانية : لو إستغفروا لم يعذبوا ويكون ذلك إشارة إلى أنهم عذبوا بما وقع لهم في بدر لأنهم أخرجوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة ولم يبق فيهم فيها إلا أن هذا خلاف الظاهر ولا يظهر عليه كون الآية جوابا لكلمتهم الشنعاء وعن ابن عباس أن المراد بهذا الإستغفار إستغفار من يؤمن منهم بعد أي وما كان الله معذبهم وفيهم من سبق له من الله تعالى العناية أنه يؤمن ويستغفر كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأضرابهم وعن مجاهد أن المراد به إستغفار من في أصلابهم ممن علم الله تعالى أنه يؤمن أي ما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر وهو كما ترى ويظهر لي من تأكيد النفي في الجملة الأولى وعدم تأكيده في الجملة الثانية أن كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم ادعى حكمة لعدم التعذيب من الإستغفار وحمل بعضهم التعذيب المنفي في الجملة الثانية بناء على الوجه الأخير على ما عدا تعذيب الإستئصال وحمل الأول على التعذيب الدنيوي والثاني على الأخروي ليس بشيء وما لهم ألا يعذبهم الله أي أي شيء لهم في إنتفاء العذاب عنهم أي لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة إذا زال المانع وكيف لا يعذبون وهم يصدون عن المسجد الحرام أي وحالهم الصد عن ذلك حقيقة كما فعلوا عام الحديبية وحكما كما فعلوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه حتى ألجأوهم للهجرة ولما كانت الآيتان يتراءى منهما التناقض زادوا في التفسير إذا زال ليزول كما ذكرنا وأنت تعلم أنه إذا حمل التعذيب في كل على تعذيب الإستئصال أحتيج إلى القول بوقوعه بعد زوال المانع وهو خلاف الواقع وقال بعضهم في دفع ذلك : إن التعذيب فيما مر تعذيب الإستئصال وهنا التعذيب بقتل بعضهم ونقل الشهاب عن الحسن والعهدة عليه أن هذه نسخت ما قبلها والظاهر أنه أراد النفيين السابقين والذي في الدر المنثور أنه وكذا عكرمة والسدي قالوا : إن قوله سبحانه : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون منسوح بهذه الآية وأيا ما كان يرد عليه أنه لا نسخ في الأخبار إلا إذا تضمنت حكما شرعيا وفي تضمن المنسوخ هنا ذلك خفاء وقال محمد بن إسحق : إن الآية الأولى متصلة بما قبلها على أنها حكاية عن المشركين فإنهم كانوا يقولون : إن الله تعالى لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب سبحانه أمة ونبيها معها فقص الله تعالى ذلك على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم مع قولهم
(9/201)

الآخر فكأنه قيل : وإذ قالوا اللهم الخ وقالوا أيضا : كيت وكيت ثم رد عليهم بقوله سبحانه وما لهم ألا يعذبهم الله على معنى أنهم يعذبون وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون وفيه أن وقوع ذلك القول منهم في غاية البعد مع أن الظاهر حينئذ أن يقال : ليعذبنا ومعذبنا ونحن نستغفر ليكون على طرز قولهم السابق وأيضا الأخبار الكثيرة تأبى ذلك فقد أخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : كان فيكم إمامان مضى أحدهما وبقي الآخر وتلا وما كان الله ليعذبهم الخ
وجاء مثل ذلك عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : إنكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقام عليه الصلاة و السلام فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده ثم قال : رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك ففرغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من صلاته وقد إنمحصت الشمس وذهب الجبائي إلى أن المنفي فيما مر عذاب الدنيا وهذا العذاب عذاب الآخرة أي أنه يعذبهم في الآخرة لا محالة وهو خلاف سياق الآية وما على ما عليه الجمهور وهو الظاهر إستفهامية وقيل : إنها نافية أي ليس ينفي عنهم العذاب مع تلبسهم بالصد عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه أي وما كانوا مستحقين ولاية المسجد الحرام مع شركهم والجملة في موضع الحال من ضمير يصدون مبينة لكمال قبح ما صنعوا من الصد فإن مباشرتهم للصد عنه مع عدم إستحقاقهم لولاية أمره في غاية القبح وهذا رد لما كانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء إن أولياؤه أي ما أولياء المسجد الحرام إلا المتقون من الشرك الذي لا يعبدون فيه غيره تعالى والمراد بهم المسلمون وهذه المرتبة الأولى من التقوى وما أشرنا إليه من رجوع الضميرين إلى المسجد هو المتبادر المروي عن أبي جعفر والحسن وقيل : هما راجعان إليه تعالى وعليه فلا حاجة إلى إعتبار الإستحقاق فيما تقدم آنفا إذ لم تثبت لهم ولاية الله تعالى أصلا بخلاف ولاية المسجد فإنهم كانوا متولين له وقت النزول فاحتيج إلى التأويل بنفي الإستحقاق ويفسر المتقون حينئذ بما هو أخص من المسلمين لأن ولاية الله تعالى لا يكفي فيها الإسلام بل لابد فيها أيضا من المرتبة الثانية من التقوى وإن وجدت المرتبة الثالثة منها فالولاية ولاية كبرى وهذا ما نعرفه من نصوص الشريعة المطهرة والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها وغالب الجهلة اليوم على أن الولي هو المجنون ويعبرون عنه بالمجذوب صدقوا ولكن عن الهدى وكلما أطبق جنونه وكثر هذيانه واستقذرت النفوس السليمة أحواله كانت ولايته أكمل وتصرفه في ملك الله تعالى أتم وبعضهم يطلق الولي عليه وعلى من ترك الأحكام الشرعية ومرق من الدين المحمدي وتكلم بكلمات القوم وتزيا بزيهم وليس منهم في عير ولا نفير وزعم أن من أجهد نفسه في العبادة محجوبا ومن تمسك في الشريعة مغبونا وإن هناك باطن يخالف الظاهر إذا هو عرف إنحل القيد ورفع التكليف وكملت النفس : وألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر ويسمون هذا المرشد صدقوا ولكن إلى النار والشيخ صدقوا ولكن النجدي والعارف صدقوا ولكن
(9/202)

بسباسب الضلال والموحد صدقوا ولكن للكفر والإيمان وقد ذكر مولانا حجة الإسلام الغزالي هذا النوع من الكفرة الفجرة وقال : إن قتل واحد منهم أفضل عند الله تعالى من قتل مائة كافر وكذا تكلم فيهم الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بنحو ذلك : إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء والزمخشري جعل المتقون أخص من المسلمين على الوجه الأول أيضا وهو أبلغ في نفي الولاية عن المذكورين أي لا يصلح لأن يلي أمر المسجد من ليس بمسلم وإنما يستأهل ولايته من كان برا تقيا فيكف بالكفرة عبدة الأوثان ولكن أكثرهم لا يعلمون
43
- أن لا ولاية لهم عليه وكأنه نبه سبحانه بذكر الأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ولكن يجحده عنادا وقد يراد بالأكثر الكل لأن له حكمه في كثير من الأحكام كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم وما كان صلاتهم عند البيت أي المسجد الحرام الذي صدوا المسلمين عنه والتعبير عنه بالبيت للإختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله تعالى فينبغي أن يعظم بالعبادة وهم لم يفعلوا إلا مكاءا أي صفيرا وهو فعال بضم أوله كسائر أسماء الأصوات فإنها تجيء على فعال إلا ما شذ كالنداء من مكا يمكو إذا صفر وقريء مكا بالقصر كبكى وتصدية أي تصفيقا وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت ووزنه تفعلة من الصد كما قال أبو عبيدة فحول إحدى الدالين ياء كما في تقضي البازي لتقضضه ومن ذلك قوله تعالى : إذا قومك منه يصدون أي يضجون لمزيد تعجبهم وأنكر عليه وقيل : هو من الصدأ وهو ما يسمع من رجع الصوت عند جبل ونحوه والمراد بالصلاة إما الدعاء أو أفعال أخر كانوا يفعلونها ويسمونها صلاة وحمل المكاء والتصدية عليها على ما يشير إليه كلام الراغب بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها ولا معنى لها كصفير الطيور وتصفيق اللعب وقد يقال : المراد أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي تليق أن تقع عند البيت على حد
تحية بينهم ضرب وجيع
يروى أنهم كانوا إذا أراد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يصلي يخلطون عليه بالصفير والتصفيق ويرون أنهم يصلون أيضا
وروي أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون وقال بعض القائلين : أن التصدية بمعنى الصد والمراد صدهم عن القراءة أو عن الدين أو الصد بمعنى الضجة كما نقل عن ابن يعيش في قوله تعالى : إذا قومك منه يصدون والمأثور عن ابن عباس وجمع من السلف ما ذكرناه
نعم روي عن ابن جبير : تفسير التصدية بصد الناس عن المسجد الحراموفيه بعد وأبعد من ذلك تفسير عكرمة لها بالطواف على الشمال بل لا يكاد يسلم والجملة معطوفة إما على وهم يصدون فتكون لتقرير إستحقاقهم للعذاب ببيان أنهم صدوا ولم يقوموا مقام من صدوه في تعظيم البيت أو على وما كانوا أولياؤه فتكون تقريرا لعدم إستحقاقهم لولايته وقرأ الأعمش صلاتهم بالنصب وهي رواية عن عاصم وأبان وهو حينئذ خبر كان ومكاء بالرفع إسمها وفي ذلك الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو من القلب عند السكاكي وقال ابن جني : لا قلب ثم قال : لسنا ندفع أن جعل إسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح وإنما جاءت منه أبيات شاذة لكن من وراء ذلك ما أذكره وهو أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته ألا تراك تقول : خرجت فإذا أسد بالباب فتجد معناه فإذا الأسد بالباب ولا فرق بينهما وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معينا
(9/203)

وإنما تريد واحدا من هذا الجنس وإذا كان كذلك جاز هنا النصب والرفع جوازا قريبا كأنه قيل : وما كان صلاتهم إلا هذا الجنس من الفعل ولا يكون مثل قولك : كان قائم أخاك لأنه ليس في قائم معنى الجنسية وأيضا فإنه يجوز مع النفي ما لا يجوز مع الإيجاب ألا تراك تقول : ما كان إنسان خيرا منك ولا تجيز كان إنسان خيرا منك وتمام الكلام عليه في موضعه فذوقوا العذاب يعني القتل والأسر يوم بدر كما روي عن الحسن والضحاك وقيل : عذاب الآخرة وقيل : العذاب المعهود في قوله سبحانه : أو ائتنا بعذاب ولا تعيين والباء في قوله تعالى : بما كنتم تكفرون
53
- للسببية والفاء على تقدير أن لا يراد من العذاب عذاب الآخرة للتعقيب وعلى تقدير أن يراد ذلك للسببية كالباء وأمر إجتماعهما ظاهر والمتبادر من الكفر ما يرجع إلى الإعتقاد وقد يراد به ما يشمل الإعتقاد والعمل كما يراد من الإيمان في العرف ذلك أيضا إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله نزلت على ما روي عن الكلبي والضحاك ومقاتل في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا أبو جهل وعتبة وشيبة إبنا ربيعة بن عبد شمس وبنية ومنية إبنا الحجاج وأبو البحتري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبدالمطلب وكلهم من قريش وكان كل يوم يطعم كل واحد عشر جزر وكانت النوبة يوم الهزيمة للعباس وروى ابن إسحاق أنها نزلت في أصحاب العير
وذلك أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا إلى مكة مشى صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل في رجال من قريش أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرنا بمن أصيب منا ففعلوا وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنها نزلت في أبي سفيان إستأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش ليقاتل بهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سوى من استجاشهم من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية من الذهب وكانت الأوقية يومئذ إثنين وأربعين مثقالا من الذهب وفيهم يقول كعب بن مالك من قصيدة طويلة أجاب بها هبيرة بن أبي وهب : فجئنا إلى موج من البحر وسطهم
أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة آلاف ونحن عصابة
ثلاث مئين إن كثرنا فأربع وسبيل الله طريقه والمراد به دينه وإتباع رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم واللام في ليصدوا لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل لأن غرضهم الصد عن السبيل بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في إعتقادهم وكأن هذا بيان لعبادتهم المالية بعد عبادتهم البدنية والموصول اسم إن وخبرها على ما قال العلامة الطيبي في قوله تعالى : فسينفقونها وينفقون إما حال أو بدل من كفروا أو عطف بيان واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط كما في قوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم فهو جزاء بحسب المعنى وفي تكرير الإنفاق في الشرط والجزاء الدلالة على كمال سوء الإنفاق كما في قوله تعالى : إنك من تدخل النار فقد أخزيته وقولهم : من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى والكلام مشعر بالتوبيخ على الإنفاق والإنكار عليه قيل : وإلى هذا يرجع قول بعضهم إن مساق ما تقدم
(9/204)

لبيان غرض الإنفاق ومساق هذا لبيان عاقبته وأنه لم يقع بعد فليس ذلك من التكرار المحظور وقيل : في دفعه أيضا : المراد من الأول الإنفاق في بدر وينفقون لحكاية الحال الماضية وهو خبران ومن الثاني الإنفاق في أحد والإستقبال على حاله والجملة عطف على الخبر لكن لما كان إنفاق الطائفة الأولى سببا لإنفاق الثانية أتى بالفاء لإبتنائه عليه وذهب القطب إلى هذا الإعراب أيضا على تقدير دفع التكرار بإختلاف الغرضين وذكر أن الحاصل أنا لو حملنا ينفقون على الحال فلا بد من تغاير الإنفاقين وإن حملناه على الإستقبال إتحدا كأنه قيل : إن الذين كفروا يريدون أن ينفقون أموالهم فسينفقونها وحمل المنفق في الأول على البعض وفي الثاني على الكل لا أراه إلا كما ترى وقوله سبحانه : ثم تكون عليهم حسرة عطف على ما قبله والتراخي زماني والحسرة الندم والتأسف وفعله حسر كفرح أي ثم تكون عليهم ندما وتأسفا لفواتها من غير حصول المطلوب وهذا في بدر ظاهر وأما في أحد فلأن المقصود لهم لم ينتج بعد ذلك فكان كالفائت وضمير تكون للأموال على معنى تكون عاقبتها عليهم حسرة فالكلام على تقدير مضافين أو إرتكاب تجوز في الإسناد
وقال العلامة الثاني : إنه من قبيل الإستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة إنفاقهم حسرة بكون ذات الأموال كذلك وأطلق المشبه به على المشبه وفيه خفاء ومن الناس من قال : إن إطلاق الحسرة بطريق التجوز على الإنفاق مبالغة فافهم ثم يغلبون أي في مواطن أخر بعد ذلك والذين كفروا أي الذين أصروا على الكفر من هؤلاء ولم يسلموا إلى جهنم يحشرون
63
- أي يساقون لا إلى غيرها ليميز الله الخبيث من الطيب أي الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح واللام على الوجهين متعلقة بيحشرون وقد يراد من الخبيث ما أنفقه المشركون لعدواة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم و من الطيب ما أنفقه المسلمون لنصرته عليه الصلاة و السلام فاللام متعلقة بتكون عليهم حسرة دون يحشرون إذ لا معنى لتعليل حشرهم بتمييز المال الخبيث من الطيب ولم تتعلق بتكون على الوجهين الأولين إذ لا معنى لتعليل كون أموالهم عليهم حسرة بتمييز الكفار من المؤمنين أو الفساد من الصلاح وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب ليميز من التمييز وهو أبلغ من الميز لزيادة حروفه وجاء من هذا ميزته فتميز ومن الأول مزته فانماز وقريء شاذا فانمازوا اليوم أيها المجرمون ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا أي يضم بعضه إلى بعض ويجمعه من قولهم : سحاب مركوم ويوصف به الرمل والجيش أيضا والمراد بالخبيث إما الكافر فيكون المراد بذلك فرط إزدحامهم في الحشر وإما الفساد فالمراد أنه سبحانه يضم كل صنف بعضه إلى بعض فيجعله في جهنم كله وجعل الفساد فيها بجعل أصحابه فيها وأما المال المنفق في عداوة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وجعله في جهنم لتكوى به جباههم وجنوبهم
وقد يراد به هنا ما يعم الكافر وذلك المال على معنى أنه يضم إلى الكافر الخبيث ماله الخبيث ليزيد به عذابه وضم إلى حسرة الدنيا حسرة الآخرة أولئك إشارة إلى الخبيث والجمع لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين الذين بقوا على الكفر فوجه الجمع ظاهر وما فيه من معنى البعد على الوجهين للإيذان ببعد درجتهم في الخبث
(9/205)

هم الخاسرون
73
- أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم قل للذين كفروا أي المعهودين وهم أبو سفيان وأصحابه واللام عند جمع للتعليل أي قل لأجلهم إن ينتهوا عما هم فيه من معاداة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالدخول في الإسلام يغفر لهم ما قد سلف منهم من الذنوب التي من جملتها المعاداة والإنفاق في الضلال وقال أبو حيان : الظاهر أن اللام للتبليغ وأنه عليه الصلاة و السلام أمر أن يقول هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ هذه الجملة المحكية بالقول سواء قاله بهذه العبارة أم غيرها وهذا الخلاف إنما هو على قراءة الجماعة وأما على قراءة ابن مسعود إن تنتهوا يغفر لكم بالخطاب فلا خلاف في أنها للتبليغ على معنى خاطبهم بذلك وقريء بغفر لهم على أن الضمير لله عز و جل وإن يعودوا إلى قتاله صلى الله تعالى عليه وسلم أو إلى المعاداة على معنى إن داوموا عليها فقد مضت سنت الأولين
83
- أي عادة الله تعالى الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة ونظير ذلك قوله سبحانه : سنة من قد أرسلنا فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته تعالى لقوله سبحانه : ولا تجد لسنتنا تحويلا بإعتبار جريانها على أيديهم ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر وبعضهم فسره بذلك ولعل الأول أولى لعمومه ولأن السنة تقتضي التكرر في العرف وإن قالوا : العادة تثبت بمرة والجملة على ما في البحر دليل الجواب والتقدير إن يعودوا إنتقمنا منهم أو نصرنا المؤمنين عليهم فقد مضت سنة الأولين وذهب غير واحد إلى أن المراد بالذين كفروا الكفار مطلقا والآية حث على الإيمان وترغيب فيه والمعنى أن الكفار إن إنتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي وخرجوا منها كما تنسل الشعرة من العجين وإن عادوا إلى الكفر بالإرتداد فقد رجع التسليط والقهر عليهم واستدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعموم الآية واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك قال : لا يؤاخذ الكافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم وذلك لأن الله تعالى قال : إن ينتهوا الخ
وقال بعض : إن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة أصلا وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى وتلزمه حقوق العباد ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن مذهبه في المرتد كمذهب المالكية في أنه إذا رجع إلى الإسلام لم تبق عليه تبعة وهو كالصريح في أن من عصى طول العمر ثم ارتد ثم أسلم لم يبق عليه ذنب
ونسب بعضهم قول ذلك إليه رضي الله تعالى عنه صريحا وادعى أنه إحتج عليه بالآية وأنه في غاية الضعف إذ المراد بالكفر المشار إليه في الآية هو الكفر الأصلي وبما سلف ما مضى في حال الكفر وتعقب ذلك بأن أبا حنيفة ومالكا أبقيا الآية على عمومها لحديث الإسلام يهدم ما كان قبله وإنهما قالا : إن المرتد يلزمه حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى كما في كتاب أحكام القرآن لابن عبد الحق وخالفهما الشافعي رضي الله تعالى عنه وقال : يلزمه جميع الحقوق وأنا أقول ما ذكره ذلك البعض عن أبي حنيفة في العاصي المذكور في غاية الغرابة وفي كتاب الإصحاب ما يخالفه ففي الخانية إذا كان على المرتد قضاء صلوات أو صيامات تركها
(9/206)

في الإسلام ثم أسلم قال شمس الأئمة الحلواني : عليه قضاء ما ترك الصلاة والصيام معصية تبقى بعد الردة نعم ذكر قاضيخان فيها ما يدل على أن بعض الأشياء يسقط عن هذا المرتد إذا عاد إلى الإسلام وأطال الكلام في المرتد ولا بأس بنقل شيء مما له تعلق في هذا المبحث إذ لا يخلو عن فائدة وذلك أنه قال : مسلم أصاب مالا أو شيئا يجب به القصاص أو حد قذف ثم إرتد أو أصاب ذلك وهو مرتد في دار الإسلام ثم لحق بدار الحرب وحارب المسلمين زمانا ثم جاء مسلما فهو مأخوذ بجميع ذلك ولو أصاب ذلك بعد ما لحق بدار الحرب مرتدا وأسلم فذلك كله موضوع عنه وما أصاب المسلم من حدود الله تعالى كالزنا والسرقة وقطع الطريق ثم إرتد أو أصاب ذلك بعد الردة ثم لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فكل ذلك يكون موضوعا عنه إلا أنه يضمن المال في السرقة وإذا أصاب دما في الطريق كان عليه القصاص وما أصاب في قطع الطريق من القتل خطأ ففيه الدية على عاقلته إن أصابه قبل الردة وفي ماله أصابه بعدها وإن وجب على المسلم حد الشرب ثم إرتد ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فأنه لا يؤاخذ بذلك لأن الكفر يمنع وجوب الحد إبتداء فإذا اعترض منع البقاء وإن أصاب المرتد ذلك وهو محبوس لا يؤاخذ بحد الخمر والسكر ويؤاخذ بما سوى ذلك من حدود الله تعالى ويتمكن الإمام من إقامة هذا الحد إذا كان في يده فإن لم يكن في يده حين أصاب ذلك ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فهو موضوع عنه أيضا انتهى ومنه يعلم أن قولهم المرتد يلزمه حقوق العباد دون حقوق الله تعالى ليس على إطلاقه وتمام الكلام في الفروع وأنت تعلم أن الوجه في الآية هو المطابق لمقتضى المقام وأن المتبادر من الكفر الكفر الأصلي والإسلام يهدم ما كان قبله بعض من حديث أخرجه مسلم عن عمرو بن العاص قال : أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت : أبسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه الشريفة قال : فقبضت يدي فقال : عليه الصلاة و السلام ما لك يا عمرو قلت : أردت أن أشترط قال : تشترط ماذا قلت : أشترط أن يغفر لي قال : أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله الحديث
والظاهر أن ما لا يمكن حملها في الكل على العموم كما لا يخفى فلا تغفل وذكر بعضهم أن الكافر إذا أسلم يلزمه التوبة والندم على ما سلف مع الإيمان حتى يغفر له وفيه تأمل فتأمل وقاتلوهم عطف على قل وعم الخطاب لزيادة ترغيب المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قوله سبحانه : فقد مضت سنة الأولين من الوعيد حتى لا تكون فتنة أي لا يوجد منهم شرك كما روي عن ابن عباس والحسن وقيل : المراد حتى لا يفتن مؤمن عن دينه ويكون الدين كله لله وتضمحل الأديان الباطلة كلها إما بهلاك أهلها جميعا أو برجوعهم عنها خشية القتل قيل : لم يجيء تأويل هذه الآية بعد وسيتحقق مضمونها إذا ظهر المهدي فإنه لا يبقى على ظهر الأرض مشرك أصلا على ما روي عن أبي عبدالله رضي الله تعالى عنه فإن إنتهوا عن الكفر بقتالكم فإن الله بما يعملون بصير
93
- الجملة قائمة مقام الجزاء أي فيجازيهم على إنتهائهم وإسلامهم أو جعلت مجازا عن الجزاء أو كناية وإلا فكونه تعالى بصيرا أمر ثابت قبل الإنتهاء وبعده ليس معلقا على شيء وعن يعقوب أنه قرأ تعملون بالتاء على أنه خطاب للمسلمين المجاهدين أي بما تعملون من الجهاد المخرج لهم إلى الإسلام وتعليق الجزاء بإنتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشرون بالمباشرة وإن تولوا ولم ينتهوا عن كفرهم
(9/207)

فاعلموا أن الله مولاكم أي ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم نعم المولى لا يضيع من تولاه ونعم النصير
4
- لا يغلب من نصره : هذا ومن باب الإشارة في الآيات فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم تأديب منه سبحانه لأهل بدر وهداية لهم إلى فناء الأفعال حيث سلب الفعل عنهم بالكلية ويشبه هذا من وجه قوله سبحانه : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى والفرق أنه لما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مقام البقاء بالحق سبحانه نسب إليه الفعل بقوله تعالى : إد رميت مع سلبه عنه بما رميت وإثباته لله تعالى في حيز الإستدراك ليفيد معنى التفصيل في عين الجمع فيكون الرامي محمدا عليه الصلاة بالله تعالى لا بنفسه ولعلو مقامه صلى الله تعالى عليه وسلم وعدم كونهم في ذلك المقام الأرفع نسب سبحانه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم ما نسب ولم ينسب إليهم رضي الله تعالى عنهم من الفعل شيئا وهذا أحد أسرار تغيير الأسلوب في الجملتين حيث لم ينسب في الأولى ونسب في الثانية بقي سر التعبير بالمضارع المنفي بلم في إحداهما والماضي المنفي بما في الأخرى فارجع إلى فكرك فلعل الله تعالى يفتحه عليك : وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا أي ليعطيهم عطاء جميلا وهو توحيد الأفعال والمراد لهذا فعل ذلك إن الله سميع بخطرات نفوسكم بنسبة القتل إليكم عليم بأنه القاتل حقيقة وكونكم مظهرا لفعله وأن الله موهن كيد الكافرين لإحتجابهم بأنفسهم إن تستفتحوا الآية قيل فيها : أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفاتيح الصدق والإخلاص وترك السوي في طلب التجلي فقد جاءكم الفتح بالتجلي فإنه سبحانه لم يزل متجليا ولا يزال لكن لا يدرك ذلك إلا من فتح قلبه وإن إنتهوا عن طلب السوي فهو خير لكم لما فيه من الفوز بالمولى وإن تعودوا إلى طلب الدنيا وزخارفها نعد إلى خذلانكم ونكلكم إلى أنفسكم ولن تغني عنكم فئتكم الدنيوية شيئا مما لخاصته سبحانه ولو كثرت لأنها كسراب بقيعة يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون لأن ثمرة السماع الفهم والتصديق وثمرتهما الإرادة وثمرتها الطاعة فلا تصح دعوى السماع مع الإعراض ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون لكونهم محجوبين عن الفهم إن شر الدواب عند الله الصم عن السماع البكم عن القبول الذين لا يعقلون لماذا خلقوا ولو علم فيهم خيرا إستعدادا صالحا لأسمعهم سماع تفهم ولو أسمعهم مع عدم علم الخير فيهم لتولوا ولم ينتفعوا به وارتدوا سريعا إذ شأن العارض الزوال وهم معرضون بالذات يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا لله وللرسول بالتصفية إذا دعاكم لما يحييكم وهو العلم بالله تعالى وقد يقال : إستجيبوا لله تعالى بالباطن والأعمال القلبية وللرسول بالظاهر والأعمال النفسية أو إستجيبوا لله تعالى بالفناء في الجمع وللرسول عليه الصلاة و السلام بمراعاة حقوق التفصيل إذا دعاكم لما يحييكم من البقاء واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيزول الإستعداد فانتهزوا الفرصة وأنه إليه تحشرون فيجازيكم على حسب مراتبكم واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل تشملهم وغيرهم بشؤم الصحبة واذكروا إذ أنتم قليل من حيث القدر لجهلكم مستضعفون في أرض النفس تخافون أن يتخطفكم الناس أي ناس القوى الحسية لضعف نفوسكم فآواكم إلى مدينة العلم وأيدكم بنصره في مقام توحيد الأفعال ورزقكم من الطيبات أي علوم تجليات الصفات لعلكم تشكرون ذلك وقد يقال : واذكروا أيها الأرواح والقلوب إذ كنتم قليلا ليس معكم غيركم إذ لم ينشأ لكم بعد الصفات والأخلاق الروحانية مستضعفون في أرض البدن تخافون أن يتخطفكم الناس من النفس وأعوانها
(9/208)

فآواكم إلى حظائر قدسه وأيدكم بنصره بالواردات الربانية ورزقكم من الطيبات وهي تجلياته سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله بترك الإيمان والرسول بترك التخلق بأخلاقه عليه الصلاة و السلام وتخونوا أماناتكم وهي ما رزقكم الله تعالى من القدرة وسلامة الآلات بترك الأعمال الحسنة أو لا تخونوا الله تعالى بنقض ميثاق التوحيد الفطري السابق والرسول عليه الصلاة و السلام بنقض العزيمة ونبذ العقد اللاحق وتخونوا أماناتكم من المعارف والحقائق التي إستودع الله تعالى فيكم حسب إستعدادكم بإخفائها بصفات النفس وأنتم تعلمون قبح ذلك أو تعلمون أنكم حاملوها واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة يختبركم الله تعالى بها ليرى أتحتجبون بمحبتها عن محبته أو لا تحتجبون وأن الله عنده أجر عظيم لمن لا يفتتن بذلك ولا يشغله عن محبته يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله بالإجتناب عن الخيانة والإحتجاب بمحبة الأموال والأولاد يجعل لكم فرقانا نورا تفرقون به بين الحق والباطل وربما يقال : إن ذلك إشارة إلى نور يفرقون به بين الأشياء بأن يعرفوها بواسطته معرفة يمتاز بها بعضها عن بعض وهو المسمى عندهم بالفراسة وفي بعض الآثار اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور من نور الله تعالى ويكفر عنكم سيآتكم وهي صفات نفوسكم ويغفر لكم ذنوب ذواتكم والله ذو الفضل العظيم فيجعل لكم الفرقان ويفعل ويفعل وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية جعلها بعضهم خطابا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعناها ما ذكرناه سابقا وجعلها بعضهم خطابا للروح وهو تأويل أنفسي أي وإذ يمكر بك أيها الروح الذين كفروا وهي النفس وقواها ليثبتوك ليقيدوك في أسر الطبيعة أو يقتلوك بإنعدام آثارك أو يخرجوك من عالم الأرواح وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم لأنك رحمة للعالمين وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون إذ لا ذنب مع الإستغفار ولا عذاب من غير ذنب وما لهم ألا يعذبهم الله أي أنهم مستحقون لذلك كيف لا وهم يصدون المستعدين عن المسجد الحرام الذي هو القلب بإغرائهم على الأمور النفسانية واللذات الطبيعية وما كانوا أولياءه لغلبة صفات أنفسهم عليهم إن أولياؤه إلا المتقون تلك الصفات ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك الحكم وقال النيسابوري : ولكن أكثرهم أي المتقين لا يعلمون أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي وما كان صلاتهم عند البيت وهو ذلك المسجد إلا مكاء إلا وساوس وخطرات شيطانية وتصدية وعزما على الأفعال الشنيعة إن الذين كفروا ينفقون أموالهم من الإستعداد الفطري في غير مرضاة الله تعالى ليصدوا عن سبيل الله طريقه الموصل إليه فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة لزوال لذاتهم حتى تكون نسيا منسيا ثم يغلبون لتمكن الأخلاق الذميمة فيهم فلا يستطيعون العدول عنها والذين كفروا أي وهم إلا أنه أقيم الظاهر مقام المضمر تعليلا للحكم الذي تضمنه قوله سبحانه : إلى جهنم يحشرون وهي جهنم القطيعة قل للذين كفروا إن ينتهوا عما هم عليه يغفر لهم ما قد سلف لمزيد الفضل وقاتلوهم أي قاتلوا أيها المؤمنون كفار النفوس فإن جهادها هو الجهاد الأكبر حتى لا تكون فتنة مانعة عن الوصول إلى الحق ويكون الدين كله لله ويضمحل دين النفس الذي شرعته فإن إنتهوا فإن الله بما يعملون بصير فيجازيهم على ذلك والله تعالى الموفق لأوضح المسالك لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره 10
(9/209)

بسم الله الرحمن الرحيم
واعلموا أنما غنمتم روي عن الكلبي أنها نزلت في بدر وهو الذي يقتضيه كلام الجمهور وقال الواقدي : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة و ما موصولة والعائد محذوف وكان حقها أن تكون مفصولة وجعلها شرطية خلاف الظاهر وكذا جعلها مصدرية وغنم في الأصل من الغنم بمعنى الربح وجاء غنم غنما بالضم وبالفتح وبالتحريك وغنيمة وغنمانا بالضم وفي القاموس المغنم والغنيم والغنيمة والغنم بالضم الفيء والمشهور تغاير الغنيمة والفيء وقيل : اسم الفيء يشملهما لأنها راجعة إلينا ولا عكس فهي أخص وقيل : هما كالفقير والمسكين وفسروها بما أخذ من الكفار قهرا بقتال أو إيجاف فما أخذ اختلاسا لا يسمى غنيمة وليس له حكمها فإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين بغير اذن الإمام فأخذوا شيئا لم يخمس وفي الدخول بأذنه روايتان والمشهور أنه يخمس لأنه لما أذن لهم فقد إلتزم نصرتهم بالإمداد فصاروا كالمنعة وحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه في المسئلة الأولى التخميس وإن لم يسم ذلك غنيمة عنده لإلحاقه بها وقوله سبحانه : من شيء بيان للموصول محله النصب على أنه حال من عائده المحذوف قصد به الإعتناء بشأن الغنيمة وأن لا يشذ عنها شيء أي ما غنمتموه كائنا مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط خلا أن سلب المقتول لقاتله إذا نفله الإمام وقال الشافعية : السلب للقاتل ولو نحو صبي وقن وإن لم يشترط له وإن كان المقتول نحو قريبه وإن لم يقاتل أو نحو إمرأة أو صبي إن قاتلا ولو أعرض عنه للخبر المتفق عليه من قتل قتيلا فله سلبه نعم القاتل المسلم القن لذمي لا يستحقه عندهم وإن خرج بإذن الإمام
وأجاب أصحابنا بأن السلب مأخوذ بقوة الجيش فيكون غنيمة فيقسم قسمتها وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لحبيب بن أبي سلمة : ليس لك من سلب قتيلك إلا من طابت به نفس إمامك وما رووه يحتمل نصب الشرع ويحتمل التنفيل فيحمل على الثاني لما رويناه والأسارى يخير فيهم الإمام وكذا الأرض المغنومة عندنا وتفصيله في الفقه والمصدر المؤول من أن المفتوحة مع ما في خبرها إذا ذكر تقديمه لئلا يتوهم أنها مكسورة فأجرى على المعتاد فيه ومنهم من أعربه خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم أن الخ والجملة خبر لأن الأولى والفاء لما في الموصول من معنى المجازاة وقيل : إنها صلة وأن بدل من أن الأولى وروى الجعفي عن أبي عمرو فإن بالكسر وتقويه قراءة النخعي فلله خمسه ورجحت المشهورة بأنها آكد لدلالتها على إثبات الخمس وأنه لا سبيل لتركه مع إحتمال الخبر لتقديرات كلازم وحق وواجب ونحوه وتعقبه صاحب التقريب بأنه معارض بلزوم الإجمال وأجيب بأنه أريد بالإجمال ما يحتمل الوجوب والندب والإباحة فالمقام يأبى إلا الوجوب وإن أريد ما ذكر من لازم وحق وواجب فالتعميم يوجب التفخيم والتهويل وقريء خمسه بسكون الميم والجمهور
(10/2)

على أن ذكر الله تعالى لتعظيم الرسول عليه الصلاة و السلام كما في قوله تعالى : والله ورسوله أحق أن يرضوه أو لبيان أنه لابد في الخمسية من إخلاصها له سبحانه وأن المراد قسمة الخمس على ما ذكر في قوله تعالى : وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل قيل ويكون قوله تعالى : للرسول معطوفا على لله على التعليل الأول وبتقدير مبتدأ أي وهو أي الخمس للرسول الخ على التعليل الثاني وإعادة اللام في ذي القربى دون غيرهم من الأصناف الباقية لدفع توهم إشتراكهم في سهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لمزيد إتصالهم به عليه الصلاة و السلام وأريد بهم بنو هاشم وبنو المطلب المسلمون لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وضع سهم ذوي القربى فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلك حين قال له عثمان وجبير بن مطعم : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله تعالى منهم أرأيت إخواننا من بني عبد المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة نحن وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلى الله تعالى عليه وسلم جاهلية ولا إسلاما
وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على خمسة أسهم سهم له عليه الصلاة و السلام وسهم للمذكورين من ذوي القربى وثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة الباقية وأما بعد وفاته عليه الصلاة و السلام فسقط سهمه صلى الله تعالى عليه وسلم كما سقط الصفى وهو ما كان يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع وسيف وجارية بموته صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا سقط سهم ذوي القربى وإنما يعطون بالفقر وتقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ولا حق لأغنيائهم لأن الخلفاء الأربعة الراشدين قسموه كذلك وكفى بهم قدوة وروي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه منع بني هاشم الخمس وقال : إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوج أيمكم ويخدم ما لا خادم له منكم فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن السبيل غني لا يعطى من الصدقة شيئا ولا يتيم موسر وعن زيد بن علي كذلك قال : ليس لنا أن نبني منه القصور ولا أن نركب منه البراذين ولأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أعطاهم للنصرة لا للقرابة كما يشير إليه جوابه لعثمان وجبير رضي الله تعالى عنهما وهو يدل على أن المراد بالقربى في النص قرب النصرة لا قرب القرابة وحيث إنتهت النصرة إنتهى العطاء لأن الحكم ينتهي بإنتهاء علته واليتيم صغير لا أب له فيدخل فقراء اليتامى من ذوي القربى في سهم اليتامى المذكورين دون أغنيائهم والمسكين منهم في سهم المساكين وفائدة ذكر اليتيم مع كون إستحقاقه بالفقر والمسكنة لا باليتيم دفع توهم أن اليتيم لا يستحق الغنيمة شيئا لأن إستحقاقها بالجهاد واليتيم صغير فلا يستحقها
وفي التأويلات لعلم الهدى الشيخ أبي منصور أن ذوي القربى إنما يستحقون بالفقر أيضا وفائدة ذكرهم دفع ما يتوهم أن الفقير منهم لا يستحق لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم وفي الحاوي القدسي وعن أبي يوسف أن الخمس يصرف لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وبه نأخذ انتهى وهو يقتضي أن الفتوى على الصرف إلى ذوي القربى الأغنياء فليحفظ وفي التحفة أن هذه الثلاثة مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الإستحقاق حتى لو صرف إلى صنف واحد منهم جاز كما في الصدقات كذا في فتح القدير ومذهب ألإمام مالك رضي الله تعالى عنه أن الخمس لا يلزم تخميسه وأنه مفوض إلى رأي الإمام كما يشعر به كلام خليل وبه صرح ابن الحاجب فقال : ولا يخمس لزوما بل يصرف منه لآله عليه الصلاة و السلام بالإجتهاد
(10/3)

ومصالح المسلمين ويبدأون إستحبابا كما نقل التتائي عن السنباطي بالصرف على غيرهم وذكر أنهم بنو هاشم وأنهم يوفر نصيبهم لمنعهم من الزكاة حسبما يرى من قلة المال وكثرته وكان عمر بن عبدالعزيز يخص ولد فاطمة رضي الله تعالى عنها كل عام اثني عشر ألف دينار سوى ما يعطى غيرهم من ذوي القربى وقيل : يساوى بين الغني والفقير وهو فعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يعطي حسب ما يراه وقيل : يخير لأن فعل كل من الشيخين حجة
وقال عبدالوهاب : إن الإمام يبدأ بنفقته ونفقة عياله بغير تقدير وظاهر كلام الجمهور أنه لا يبدأ بذلك وبه قال ابن عبدالحكم والمراد بذكر الله سبحانه عند هذا الإمام أن الخمس يصرف في وجوه القربات لله تعالى والمذكور بعد ليس للتخصيص بل لتفضيله على غيره ولا يرفع حكم العموم الأول بل هو قار على حاله وذلك كالعموم الثابت للملائكة وإن خص جبريل وميكائيل عليهما السلام بعد ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه في قسمة الغنيمة أن يقدم من أصل المال السلب ثم يخرج منه حيث لا متطوع مؤنة الحفظ والنقل وغيرهما من المؤن اللازمة للحاجة إليها ثم يخمس الباقي فيجعل خمسة أقسام متساوية ويكتب على رقعة لله تعالى أو للمصالح وعلى رقعة للغانمين وتدرج في بنادق فما خرج لله تعالى قسم على خمس مصالح المسلمين كالثغور والمشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدين والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم وألحق بهم العاجزين عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه وهذا هو السهم الذي كان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حياته وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤنة سنة ويصرف الباقي في المصالح وهل كان عليه الصلاة و السلام مع هذا التصرف مالكا لدلك أو غير مالك قولان ذهب إلى الثاني الإمام الرافعي وسبقه إليه جمع متقدمون قال : إنه عليه الصلاة و السلام مع تصرفه في الخمس المذكور لم يكن يملكه ولا ينتقل منه إلى غيره إرثاورد بأن الصواب المنصوص أنه كان يملكه وقد غلط الشيخ أبو حامد من قال : لم يكن صلى الله تعالى عليه وسلم يملك شيئا وإن أبيح له ما يحتاج إليه وقد يؤول كلام الرافعي بأنه لم ينف الملك المطلق بل الملك المقتضي للإرث عنه
ويؤيد ذلك إقتضاء كلامه في الخصائص أنه يملك وبنو هاشم والمطلب والعبرة بالإنتساب للآباء دون الأمهات ويشترك فيه الغني والفقير لإطلاق الآية وإعطائه عليه الصلاة و السلام العباس وكان غنيا والنساء ويفضل الذكر كالإرث واليتامى ولا يمنع وجود جد ويدخل فيهم ولد الزنا والمنفي لا اللقيط على الأوجه ويشترط فقره على المشهور ولا بد في ثبوت اليتم والإسلام والفقر هنا من البينة وكذا في الهاشمي والمطلبي واشترط جمع فيهما معها إستفاضة النسبة والمساكين وابن السبيل ولو بقولهم بلا يمين نعم يظهر في مدعى تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة ويشترط الإسلام في الكل والفقر في ابن السبيل أيضا وتمامه في كتبهم
وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال : يقسم ستة أسهم ويصرف سهم الله تعالى لمصالح الكعبة أي إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة وقع فيها الخمس كما قال ابن الهمام : وقد روى أبو داود في المراسيل وابن جرير عنه أنه عليه الصلاة و السلام كان يأخذ منه قبضة فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسم ما بقي خمسة أسهم ومذهب الإمامية أنه يقسم إلى ستة أسهم أيضا كمذهب أبي العالية إلا أنهم قالوا : إن سهم الله تعالى وسهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وسهم ذوي القربى للإمام القائم مقام الرسول عليه الصلاة
(10/4)

والسلام وسهم ليتامى آل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وسهم لمساكينهم وسهم لآبناء سبيلهم لا يشركهم في ذلك غيرهم ورووا ذلك عن زين العابدين ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهم والظاهر أن الأسهم الثلاثة الأول التي ذكروها اليوم تخبأ في السرداب إذ القائم مقام الرسول قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته وقيل : سهم الله تعالى لبيت المال وهو مضموم لسهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
هذا ولم يبين سبحانه حال الأخماس الأربعة الباقية وحيث بين جل شأنه حكم الخمس ولم يبينها دل على أنها ملك الغانمين وقسمتها عند أبي حنيفة للفارس سهمان وللراجل سهم واحد ولما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فعل كذلك والفارس في السفينة يستحق سهمين أيضا وإن لم يمكنه القتال عليها فيها للتأهب والمتأهب للشيء كالمباشر كما في المحيط ولا فرق بين الفرس المملوك والمستأجر والمستعار وكذا المغصوب على تفصيل فيه وذهب الشافعي ومالك إلى أن للفارس ثلاثة أسهم لما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أسهم للفارس ذلك وهو قول الإمامين
وأجيب بأنه قد روي عن ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قسم للفارس سهمين فإذا تعارضت روايتاه ترجح رواية غيره بسلامتها عن المعارضة فيعمل بها وهذه الرواية رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وفي الهداية أنه عليه الصلاة و السلام تعارض فعلاه في الفارس فنرجع إلى قوله عليه الصلاة و السلام وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : للفارس سهمان وللراجل سهم وتعقبه في العناية بأن طريقة إستدلاله مخالفة لقواعد الأصول فإن الأصل أن الدليلين إذا تعارضا وتعذر التوفيق والترجيح يصار إلى ما بعده لا إلى ما قبله وهو قال : فتعارض فعلاه فنرجع إلى قوله والمسلك المعهود في مثله أن نستدل بقوله ونقول فعله لا يعارض قوله لأن القول أقوى بالإتفاق وذهب الإمام إلى أنه لا يسهم إلا لفرس واحد وعند أبي يوسف يسهم لفرسين وما يستدل به على ذلك محمول على التنفيل عند الإمام كما أعطى عليه الصلاة و السلام سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل ولا يسهم لثلاثة اتفاقا إن كنتم آمنتم بالله شرط جزاؤه محذوف أي إن كنتم آمنتم بالله تعالى فاعلموا أنه تعالى جعل الخمس لمن جعل فسلموه إليهم واقنعوا بالأخماس الأربعة الباقية وليس المراد مجرد العلم بذلك بل العلم المشفوع بالعمل والطاعة لأمره تعالى ولم يجعل الجزاء ما قبل لأنه لا يصح تقدم الجزاء على الشرط على الصحيح عند أهل العربية وإنما لم يقدر العمل قصرا للمسافة كما فعله النسفي لأن المطرد في أمثال ذلك أن يقدر ما يدل ما قبله عليه فيقدر من جنسه وقوله سبحانه : وما أنزلنا عطف على الإسم الجليل و ما موصولة والعائد محذوف أي الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من التشريف والتعظيم وقريء عبدنا بضمنين جمع عبد وقيل : اسم جمع له وأريد به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون فإن بعض ما نزل نازل عليهم يوم الفرقان هو يوم بدر فالإضافة للعهد والفرقان بالمعنى اللغوي فإن ذلك اليوم قد فرق فيه بين الحق والباطل والظرف منصوب بأنزلنا وجوز أبو البقاء تعلقه بآمنتم وقوله سبحانه : يوم التقى الجمعان بدل منه أو متعلق بالفرقان وتعريف الجمعان للعهد والمراد بهم الفريقان من المؤمنين والكافرين والمراد بما أنزل عليه عليه الصلاة و السلام من الآيات
(10/5)

والملائكة والنصر على أن المراد بالإنزال مجرد الإيصال والتيسير فيشمل الكل شمولا حقيقيا فالموصول عام ولا جمع بين الحقيقة والمجاز خلافا لمن توهم فيه وجعل الإيمان بهذه الأشياء من موجبات العلم بكون الخمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث أن الوحي ناطق بذلك وأن الملائكة والنصر لما كانا منه تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفا إلى الجهات التي عينها الله سبحانه والله على كل شيء قدير
14
- ومن آثار قدرته جل شأنه ما شاهدتموه يوم التقى الجمعان إذ أنتم بالعدوة الدنيا بدل من يوم أو معمول لاذكروا مقدرا وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفا لقدير وليس بشيء والعدوة بالحركات الثلاث شط الوادي وأصله من العدو التجاوز والقراءة المشهورة الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب
وقرأ الحسن وزيد بن علي وغيرهما بالفتح وكلها لغات بمعنى ولا عبرة بإنكار بعضها و الدنيا تأنيث الأدنى أي إذ أنتم نازلون بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة وهم أي المشركون بالعدوة القصوى أي البعدى من المدينة وهو تأنيث الأقصى وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما القصيا ومن قواعدهم أن فعلى من ذوات الواو إذا كان اسما تبدل لامه ياء كدنيا فإنه من دنا يدنو إذا قرب ولم يبدل من قصوى على المشهور لأنه بحسب الأصل صفة ولم يبدل فيها الفرق بين الصفة والإسم وإذا أعتبر غلبته وأنه جرى مجرى الأسماء الجامدة قيل قصيا وهي لغة تميم والأولى لغة أهل الحجاز ومن أهل التصريف من قال : إن اللغة الغالبة العكس فإن كانت صفة أبدلت اللام نحو العليا وإن كانت إسما أقرت نحو حزوى قيل : فعلى هذا القصوى شاذة والقياس قصيا وعنوا بالشذوذ مخالفة القياس لا الإستعمال فلا تنافي الفصاحة وذكروا في تعليل عدم الإبدال بالفرق أنه إنما لم يعكس الأمر وإن حصل به الفرق أيضا لأن الصفة أثقل فأبقيت على الأصل الأخف لثقل الإنتقال من الضمة إلى الياء ومن عكس أعطى الأصل للأصل وهو الإسم وغير في الفرع للفرق والركب أي العير أو أصحابها أبو سفيان وأصحابه وهو اسم جمع راكب لا جمع على الصحيح أسفل منكم أي في مكان أسفل من مكانكم يعني ساحل البحر وهو نصب على الظرفية وفي الأصل صفة للظرف كما أشرنا إليه ولهذا انتصب إنتصابه وقام مقامه ولم ينسلخ عن الوصفية خلافا لبعضهم وهو واقع موقع الخبر وأجاز الفراء والأخفش رفعه على الإتساع أو بتقدير موضع الركب أسفل والجملة عطف على مدخول إذ أي إذ أنتم الخ وإذ الركب الخ
واختار الجمهور أنها في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور قبل ووجه الأطناب في الآية مع حصول المقصود بأن يقال : يوم الفرقان يوم النصر والظفر على الأعداء مثلا تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر والإمتنان والدلالة على أنه من الآيات الغر المحجلة وغير ذلك وهذا مراد الزمخشري بقوله فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وأن العير كان أسفل منهم الأخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته وتمهد أسباب العدة له وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وإن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله تعالى ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله سبحانه وقوته وباهر قدرته وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم
(10/6)

وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم وتوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر تلك الوقعة وليس السؤال عن فائدة الإخبار بما هو معلوم للمخاطب ليكون الجواب بأن فائدته لازمة كما ظنه غير واحد لما لا يخفى وعلى هذا الطرز ذكر قوله تعالى : ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال وعلمتم حالهم وحالكم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ويأسا من الظفر عليهم وجعل الضمير الأول شاملا للجمعين تغليبا والثاني للمسلمين خاصة هو المناسب للمقام إذ القصد فيه إلى بيان ضعف المسلمين ونصرة الله تعالى لهم مع ذلك والزمخشري جعله فيهما شاملا للفريقين لتكون الضمائر على وتيرة واحدة من غير تفكيك على معنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة لخالف بعضكم بعضا فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين فلم يتفق لكم من التلاقي وسبب له ولا يخفى عدم مناسبته وأمر التفكيك سهل ولكن تلاقيتم على غير موعد ليقضي الله أمرا وهو نصر المؤمنين وقهر أعدائهم كان مفعولا أي كان واجبا أن يفعل بسبب الوعد المشار إليه بقوله سبحانه : وكان حقا علينا نصر المؤمنين أو كان مقدرا في الأزل
وقيل : كان بمعنى صار الدالة على التحول أي صار مفعولا بعد أن لم يكن وقوله سبحانه : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة بدل من ليقضي بإعادة الحرف أو متعلق بمفعولا
وجوز أبو البقاء أيضا تعلقه بيقضى واستطيب الأول والمراد بالبينة الحجة الظاهرة أي ليموت من يموت عن حجة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة الحجج الغر المحجلة ويجوز أن يراد بالحياة الإيمان وبالموت الكفر إستعارة أو مجازا مرسلا وبالبينة إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدافعة أي ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة وإلى هذا ذهب قتادة ومحمد بن إسحق قيل : والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله تعالى وقضائه والمشارفة في الهلاك ظاهرة وأما مشارفة الحياة فقيل : المراد بها الإستمرار على الحياة بعد الوقعة وإنما قيل ذلك : لأن من حي مقابل لمن هلك والظاهر أن عن بمعنى بعد كقوله تعالى : عما قليل ليصبحن نادمين وقيل : لما لم يتصور أن يهلك في الإستقبال من هلك في الماضي حمل من هلك على المشارفة ليرجع إلى الإستقبال وكذا لما لم يتصور أن يتصف بالحياة المستقبلة من إتصف بها في الماضي حمل على ذلك لذلك أيضا لكن يلزم منه أن يختص بمن لم يكن حيا إذ ذاك فيحمل على دوام الحياة دون الإتصاف بأصلها فيكون المعنى لتدوم حياة من أشرف لدوامها ولا يجوز أن يكون المعنى لتدوم حياة من حي في الماضي لأن ذلك صادق على من هلك فلا تحصل المقابلة إلا أن يخصص بإعتبارها وتكلف بعضهم لتوجيه المضي والإستقبال بغير ما ذكر مما لا يخلو عن تأمل واعتبار المضي بالنظر إلى علم الله تعالى وقضائه والإستقبال بالنظر إلى الوجود الخارجي مما لا غبار عليه و عن لا يتعين كونها بمعنى بعد بل يمكن أن تبقى على معنى المجاوزة الذي لم يذكر البصريون سواه
ونظير ذلك قوله تعالى : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك بناء على أن المراد ما نتركها صادرين عن قولك كما هو رأي البعض ويمكن أن تكون بمعنى على كما في قوله تعالى : فإنما يبخل عن نفسه وقول ذي الأصبع :
(10/7)

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني وقرأ الأعمش ليهلك بفتح العين وروي ذلك عن عاصم وهي على ما قال ابن جني في المحتسب شاذة مرغوب عنها لأن الماضي هلك بالفتح ولا يأتي فعل يفعل إلأ إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام فهو من اللغة المتداخلة
وفي القاموس أن هلك كضرب ومنع وعلم وهو ظاهر في جواز الكسر والفتح في الماضي والمضارع
نعم المشهور في الماضي الفتح وفي المضارع الكسر وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب حيي بفك الإدغام قال أبو البقاء : وفيه وجهان أحدهما الحمل على المستقبل وهو يحيى فكما لم يدغم فيه لم يدغم في الماضي والثاني أن حركة الحرفين مختلفة فالأول مكسور والثاني مفتوح واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين ولذلك أجازوا في الإختيار ضبب البلد إذا كثر ضبه ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة فكأن الياء الثانية ساكنة ولو سكنت لم يلزم الإدغام فكذلك إذا كانت في تقدير الساكن واليا آن أصل وليست الثانية بدلا من واو وأما الحيوان فالواو فيه بدل من الياء وأما الحواء فليس من لفظ الحية بل من حوى يحوي إذا جمع وإن الله لسميع عليم
24
- أي بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه ولعل الجمع بين الوصفين لإشتمال الكفر والإيمان على الإعتقاد والقول أما إشتمال الإيمان على القول فظاهر لإشتراط إجراء الأحكام بكلمتي الشهادة وأما إشتمال الكفر عليه فبناء على المعتاد فيه أيضا إذ يريكهم الله في منامك قليلا مقدر باذكر أو بدل من يوم الفرقان وجوز أن يتعلق بعليم وليس بشيء ونصب قليلا على أنه مفعول ثالث عند الأجهوري أو حال على ما يفهمه كلام غيره
والجمهور على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أرى ما أرى في النوم وهو الظاهر المتبادر وحكمة إراءتهم إياه صلى الله تعالى عليه وسلم قليلين أن يخبر أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون ذلك تثبيتا لهم وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة المنامة لأنها ينام فيها فلم تكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية وإليه ذهب البلخي ولا يخفى ما فيه لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمي على ما قال بعض المحققين أو في موضع الشخص النائم على ما في الكشف ففي الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه وما قيل : إن فائدة العدول الدلالة على أن الأمن الوافر فليس بشيء لأنه لا يفيد ذلك فالنوم في تلك الحال دليل إلا من لا أن يريهم في عينه التي هي محل النوم على أن الروايات الجمة برؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم مناما وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة فإنه الفصيح العالم بكلام العرب وتخريج كلامه على أن في الكلام مضافا محذوفا أقيم المضاف إليه مقامه أي في موضع منامك مما لا يرتضيه اليقظان أيضا والتعبير بالمضارع لإستحضار الصورة الغريبة والمراد إذ أراكهم الله قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم أي لجبنتم وهبتم الإقدام وجمع ضمير الخطاب في الجزاء مع إفراده في الشرط إشارة كما قيل : إلى أن الجبن يعرض لهم لا له صلى الله تعالى عليه وسلم إن كان الخطاب للأصحاب فقط وإن كان للكل يكون من إسناد ما للأكثر للكل ولتنازعتم في الأمر أي أمر القتال وتفرقت آراؤكم في الثبات والفرار ولكن الله سلم أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع
(10/8)

إنه عليم بذات الصدور أي الخواطر التي جعلت كأنها مالكة للصدور والمراد أنه يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع ولذلك دبر ما دبر وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا مقدر بمضمر خوطب به الكل بطريق التلوين والتعميم معطوف على ما قبل والضمير أن مفعولا يرى وقيللا حال من الثاني وإنما قللهم سبحانه في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى من بجنبه : أترتهم سبعين فقال : أراهم مائة تثبيتا لهم وتصديقا لرسوله عليه الصلاة و السلام ويقللكم في أعينهم حتى قال أبو جهل : إنما أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أكلة جزور وكان هذا التقليل في إبتداء الأمر قبل إلتحام القتال ليجترؤا عليهم ويتركوا الإستعداد والإستمداد ثم كثرهم سبحانه حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا
ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور كرر لإختلاف الفعل المعلل به إذ هو في الأول إجتماعهم بلا ميعاد وهنا تقليلهم ثم تكثيرهم أو لأن المراد بالأمر ثم الإلتقاء على الوجه المحكى وههنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه هذا وذكر غير واحد أن ما وقع في هذه الواقعة من عظائم الآيات فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا لكن لا على ذلك الوجه ولا إلى ذلك الحد وإنما يتصور ذلك بصد الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشرائط واعترض بأن ما ذكر من التعليل مناسب لتقليل الكثير لا لتكثير القليل وأجيب بأن تكثير القليل من جانب المؤمنين يكون الملائكة عليهم السلام ومن جانب الكفرة حقيقة فلا يحتاج إلى توجيه فيهما وإنما المحتاج إليه تقليل الكثير وذكر في الكشاف طريقين لإبصار الكثير قليلا أن يستر الله تعالى بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما خلق في عيون الحول ما يستكثرون به القليل فيرون الواحد إثنين وعليه فيمكن أن يقال : أن رؤيتهم للمؤمنين مثليهم من قبيل رؤية الأحول بل هي أعظم على تقدير أن يراد مثلى أنفسهم وحينئذ لا يحتاج إلى حديث رؤية الملائكة مع المؤمنين وفي الإنتصاف أن في ذلك دليلا بينا على أنه تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو إرتفاع حجب أو غير ذلك إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا لما أمكن أن يستتر عنهم البعض وقد أدركوا البعض والسبب الموجب مشترك فعلى هذا يجوز أن يخلق الله تعالى الإدراك مع إنتفاء هذه الأسباب ويجوز أن لا يخلقه مع إجتماعها فلا ربط إذن بين الرؤية وبينها في مقدور الله تعالى وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤيته تعالى لفقد شرطها وهو التجسم ونحوه وحسبهم هذه الآية في بطلان زعمهم لكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون ثم إن رؤياه عليه الصلاة و السلام كانت في قول علي طرز رؤية أصحابه رضي الله تعالى عنهم المشركين وذكر بعض المحققين أنها كانت في مقام التعبير فلا يلزم أن تكون على خلاف الواقع والقلة معبرة بالمغلوبية والواقعة من الرؤيا منها ما يقع بعينه ومنها ما يعبر ويؤول وتحقيق الكلام فيها يقتضي بسطا فتيقظ واستمع لما يتلى فنقول : اعلم أن النفس الناطقة الإنسانية سلطان القوى البدنية وهي الآت لها وظاهر أن القوى الجسمانية تكل بكثرة العمل كالسيف الذي يكل بكثرة القطع فالنفس إذا إستعملت القوى الظاهرة إستعمالا كثيرا بحيث يعرض لها الكلال تعطلها لتستريح وتقوى كما أن الفارس إذا أكثر ركوب فرسه يرسله ليستريح ويرعى
(10/9)

وهذا التعطل الحاصل باسترخاء الأعصاب الدماغية المتصلة بالآت الإدراك هو النوم وما يتراءى هناك هو الرؤيا إلا أن المتكلمين والحكماء المشائين والمتأهلين من الإشراقيين والصوفية اختلفوا في حقيقتها إلى مذاهب فذهب المعتزلة وجمهور أهل السنة من المتكلمين إلى أن الرؤيا خيالات باطلة ووجه ذلك عند المعتزلة فقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الشغاف والبنية المخصوصة إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراك عندهم وعند الجماعة وهم لم يشترطوا شيئا من ذلك أن الإدراك حالة النوم خلاف العادة وأن النوم ضد الإدراك فلا يجامعه فلا تكون الرؤيا إدراكا حقيقة وقال الأستاذ أبو إسحاق : إن الرؤيا إدراك حق إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه من إبصار وسمع وذوق وغيرها من الإدراكات وما يجده اليقظان من إدراكاته فلو جاز التشكيك فيما يجده النائم لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة والقدح في الأمور المعلومة حقيقتها بالبديهة ولم يخالف في كون النوم ضدا للإدراك لكنه زعم أن الإدراكات تقوم بجزء من أجزاء الإنسان غير ما يقوم به النوم من أجزائه فلا يلزم إجتماع الضدين في محل
وذهب المشاءون إلى أن المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك الذي هو لوح المحسوسات ومجمعها فإن الحواس الظاهرة إذا أخذت صور المحسوسات الخارجية وأدتها إلى الحس المشترك صارت تلك الصور مشاهدة هناك ثم إن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور إذا ركبت صورة فربما انطبعت تلك الصورة في الحس المشترك وصارت مشاهدة على حسب مشاهدة الصورة الخارجية فإن مدار المشاهدة الإنطباع في الحس المشترك سواء إنحدرت إليه من الخارج أو من الداخل ثم إن القوة المتخيلة من شأنها التصوير دائما لا تسكن نوما ولا يقظة فلو خليت وطباعها لما فترت عن رسم الصور في الحس المشترك إلا أنه يصرفها عن ذلك أمران أحدهما توارد الصور من الخارج على الحس المشترك إذ بعد انتقاشه بهذه الصورة لا يسع أن ينتقش بالصورة التي تركبها المتخيلة وثانيهما تسلط العقل أو الوهم عليها بالضبط عندما يستعملانها في مدركاتهما ولا شك في إنقطاع هذين الصارفين عند النوم فيتسع لإنتقاش الصور من الداخل فيكون ما يدركه النائم صورا مرتسمة في الحس المشترك وموجودة فيه وهو الرؤيا إلا أن منها ما هو صادق ومنها ما هو كاذب وأما الأولى فهي التي ترد تلك الصور فيها على الحس المشترك من النفس الناطقة وبيانه أن صور جميع الحوادث ما كان وما يكون مرتسمة في المبادي العالية التي يعبر عنها أرباب الشرع بالملائكة ومنطبعة بالنفوس المجردة الفلكية واتصال النفس المجردة بالمجرد لعلة الجنسية أشد من اتصالها بالقوى الجسمانية فمن شأنها أن تتصل بذلك وتنتقش بما فيه إلا أن إشتغالها بالحواس الظاهرة والباطنة واستغراقها بتدبير بدنها يمنعانها عن ذلك الإتصال والإنتقاش لأن إشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها من الإشتغال بغيره فإن الذي لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى الواحد القهار ولا يمكن إزالة العائق بالكلية إلا أنه يسكن إشتغالها بالإدراكات الحسية حالة النوم إذ في اليقظة ينتشر الروح إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس الظاهرة حالة الإنتشار ويحصل بها الإدراك فتشتغل النفس بتلك الإدراكات وأما في النوم الذي هو أخ الموت فينحبس الروح إلى الباطن ويرجع عن الحواس الظاهرة بعد انصبابه إليها فتتعطل فيحصل للنفس أدنى فراغ فتتصل بتلك المبادي إتصالا روحانيا معنويا وتنتقش ببعض ما فيها مما إستعدت هي له كالمرايا إذا حوذى بعضها ببعض فانتقش في بعضها ما يتسع
(10/10)

له مما إنتقش في البعض الآخر فتدرك النفس مما ارتسم في تلك المبادي ما يناسبها من أحوالها وأحوال ما يقارنها من الأقارب والأهل والولد والإقليم والبلد ماضيه وآتيه إلا أن هذا الإدراك لعدم تأديه من طرف الحس كلي فتحاكيه القوة المتخيلة التي جبلت محاكية لما يرد عليها بصور جزئية مثالية خيالية مناسبة إياه فتحاكي ما هو خير بالنسبة إليها في صورة جميلة وما هو شر كذلك في صورة قبيحة هائلة على مراتب مختلفة ووجوه متعددة ومن ثمة قد ترى ذاتها بصفة جميلة صورية ومعنوية من الجمال والعلم والكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات المحمودة وقد ترى ذاتها متصفة بأضداد ما ذكر وقد ترى تلك الصفات في صورة ما غلبت الصفات عليه بل قد ترى أنها نفسها صارت نوعا آخر لغلبة صفاته عليها ومتى غلبت عليها الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة ترى صورا جميلة وأشخاصا حميدة كذوي الجمال والعلماء والأولياء والملائكة بل قد ترى أنها صارت عالما أو ملكا مثلا ومتى غلبت عليها الصفات الذميمة ترى صورا هائلة كصورة غولية أو سبعية وكذا رؤية حال من يقاربه من الأهل والولد والإقليم مثلا فإنها تراها بإعتبار اختلاف المراتب والمناسبات على ما هي عليه في المضي أو الحال أو الإستقبال حتى لو اهتمت بمصالح الناس رأتها ولو كانت منجذبة الهمة إلى المعقولات لاحت لها أشياء منها فمتى لم يكن اختلاف بين تلك الصورة وبين ما هي مأخوذة منه إلا بالكلية والجزئية كانت الرؤيا غير محتاجة إلى التعبير والتجاوز عنها إلى ما يناسبها بوجه من الممالة أو الضدية التي يقتضيها نحو الألف والخلق والأسباب السماوية وغير ذلك من وجوه خفية لا يطلع عليها إلا الأفراد من أئمة التعبير وإن كانت مخالفة لها لقصور يقع في المتخيلة إما لذاتها أو لعروض دهشة وحيرة لها مما ترى أو لغير ذلك كانت محتاجة إلى التعبير وهو أن يرجع المعبر القهقري مجردا لما يراه النائم عن تلك الصور التي صورتها المتخيلة إلى أن ينتهي بمرتبة أو مراتب إلى ما تلقته النفس من تلك المبادي فيكون هو الواقع وقد يتفق سيما إذا كان الرائي كثير الإهتمام بالرؤيا أن يعبر رؤياه في النوم الذي رآها فيه أو غيره فهو إما بتذكره لما كانت الرؤيا حكاية عنه وإما بتصوير المتخيلة حكاية رؤياه بحكاية أخرى وحينئذ يحتاج إلى تعبيرين
وأما الثانية فهي تكون لأشياء إما لأن النفس إذا أحست في حال اليقظة بتوسط الآلات الجسمانية بصور جزئية محسوسة أو خيالية وبقيت مخزونة في قوة الخيال فعند النوم الذي يخلص فيه الحس المشترك عما يرد عليه من الحواس الظاهرة ترسم في الحس المشترك إرتسام المحسوسات إما على ما كانت عليها وإما بصورة مناسبة لها أو لأن النفس أتقنت بواسطة المتخيلة صورة ألفتها فعند النوم تتمثل في الحس المشترك أو لأن مزاج الدماغ يتغير فيتغير مزاج الروح الحاملة للقوة المتخيلة فتتغير أفعال المتخيلة بحسب تلك التغيرات ولذلك يرى الدموي الأشياء الحمر والصفراوي النيران والأشعة والسوداوي الجبال والأدخنة والبلغمي المياه والألوان البيض ومن هذا القبيل رؤية كون بدنه أو بعض أعضائه في الثلج أو الماء أو النار عند غلبة السخونة أو البرودة عليه ورؤية أنه يأكل أو يشرب أو يبول عند عروض الإحتياج إلى أحدها
ومن العجائب في هذا الباب أنه إذا غلب المني واحتاجت الطبيعة إلى دفعه تحتال باستعانة القوة المتخيلة إلى تصوير ما يندفع به من الصور الحسنة وفي إرسال الريح الناشرة لآلة الجماع وإرادة حركاتها حتى يندفع بذلك ما أرادت إندفاعه وقد يكون ذلك التوجه والإعتياد لا لغلبة المني فلهذا قد لا يندفع به شيء وقد يعرض
(10/11)

للروح إضطراب وتحريك من ألاسباب الخارجة والداخلة فترى أمورا متغيرة متفرقة غير منضبطة فربما يتركب من المجموع صورة غير معهودة قلما يتصورها أحد أو يقع مثلها في الخارج وقد يكون ذلك لإتصالات فلكية وأوضاع سماوية فإذا كانت الرؤيا لأحد هذه الأمور تسمى أضغاث أحلام ولا تعبير لها ولا تقع
وقد ذكروا أن أصدق الناس رؤيا أعدلهم مزاجا ومن كان مع ذلك منقطعا عن العلائق الشاغلة والخيالات الفاسدة معتادا للصدق متوجها إلى الرؤيا واستثباتها وكيفيتها كانت رؤياه أصح وأصدق وأكثر أحلام الكذاب والسكران والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر أو خيالات فاسدة ومقتضيات قوى غضبية وشهوية كاذبة لا يعتمد عليها ومن هنا قالوا : لا إعتماد على رؤيا الشاعر لتعوده الأكاذيب الباطلة والتخيلات الفاسدة
وذهب بعض أصحاب المكاشفات وأرباب المشاهدات من الحكماء المتأهلين والصوفية المنكرين لإرتسام الصور في الخيال إلى أن الرؤيا مشاهدة النفس صورا خيالية موجودة في عالم المثال الذي هو برزخ بين عالم المجردات اللطيفة المسمى عندهم بعالم الملكوت وبين عالم الموجودات العينية الكثيفة المسمى بعالم الملك وقالوا : فيه موجودات متشخصة مطابقة لما في الخارج من الجزئيات مثل لها قائمة بنفسها مناسبة لما في العالمين المذكورين إما لعالم الملك فلإنها صور جسمانية شبحية وإما لعالم الملكوت فلأنها معلقة غير متعلقة بمكان وجهة كالمجردات حتى أنه يرى صورا مثالية لشخص واحد في مرايا متعددة بل في مواضع متكثرة كما يرى بعض الأولياء في زمان واحد في أماكن متعددة شرقية وغربية ثم إن لتلك الصور مجالى مختلفة كالمرايا والماء الصافي والقوى الجسمانية سيما الباطنة إذا إنقطعت عن الإشتغال بالأمور الخارجية العائقة إذ بذلك يحصل لها زيادة مناسبة لذلك العالم كما للمتجردين عن العلائق البشرية وإذا قويت تلك المناسبة كما للأنبياء عليهم السلام والأولياء الكمل قدس الله تعالى أسرارهم تظهر في القوى الظاهرة أيضا ولهذا كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يشاهد جبريل عليه وسلم حين ما ينزل بالوحي والصحابة رضي الله تعالى عنهم حوله كانوا لايشاهدونه هذا واستشكل قول المتكلمين : إن الرؤيا خيالات باطلة بأنه قد شهد الكتاب والسنة بصحتها بل لم يكن أحد من الناس إلا وقد جربها من نفسه تجربة توجب التصديق بها وأجيب بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكا بالبصر رؤية وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمعا باطل فلا ينافي كونها أمارة لبعض الأشياء وذكر حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة في شرح قوله عليه الصلاة و السلام : من رآني في المنام فقد رآني الحديث أنه ليس المراد بقوله عليه الصلاة و السلام فقد رآني رؤية الجسم بل رؤية المثال الذي صار آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه إليه ثم ذكر أن النفس غير المثال المتخيل فالشكل المرئي ليس روحه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا شخصه بل مثاله على التحقيق وكذا رؤيته سبحانه نوما فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة لكن تنتهي تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره وهو آلة حقا في كونه واسطة في التعريف فقول الرائي : رأيت الله تعالى نوما لا يعني به أنه رأى ذاته تعالى
وقال أيضا : من رآه صلى الله تعالى عليه وسلم مناما لم يرد رؤيته حقيقة بشخصه المودع روضة المدينة رؤية مثاله وهو مثال روحه المقدسة عليه الصلاة و السلام
قيل : ومن هنا يعلم جواب آخر للإشكال وهو أن مرادهم أن ما يرى في المنام ليس له حقيقة ثابتة في
(10/12)

نفس الأمر كما أن المرئي في اليقظة كذلك بل هو مثال متخيل يظهره الله تعالى للنفس في المنام كما يظهر لها الأمور الغيبية بعد الموت والنوم والموت أخوان ووصف ما ذكر بالباطل لعله من قبيل وصف العالم به في قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وأنت تعلم أن ما ذكره حجة الإسلام ليس مما اتفق عليه علماؤه فقد ذهب جمع إلى أن رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة وبغيرها إدراك للمثال على أن كلام المتكلمين ظاهر المخالفة للكتاب والسنة ولا يكاد يسلم تأويله عن شيء فتأمل ولعل النوبة تفضي إلى ذكر زيادة كلام في هذا المقام
وبالجملة إنكار الرؤيا على الإطلاق ليس في محله كيف وقد جاء في مدحها ما جاء ففي صحيح مسلم أيها الناس لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها مسلم أو ترى له وجاء في أكثر الروايات أنها جزء من ست وأربعين ووجه ذلك بأنه عليه الصلاة و السلام عمل بها ستة أشهر في مبدأ الوحي وقد إستقام ينزل عليه الوحي ثلاثا وعشرين سنة ولا يتأتى هذا على رواية خمس وأربعين وكذا على رواية سبعين جزءا أو رواية ست وسبعين وهي ضعيفة ورواية ست وعشرين وقد ذكرها ابن عبد البر ورواية النووي من أربعة وعشرين والله تعالى أعلم
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة أي حاربتم جماعة من الكفرة ولم يصفها سبحانه لظهور أن المؤمنين لا يحاربون إلا كفار وقيل : ليشمل باطلاقه البغاة ولا ينافيه خصوص سبب النزول ومنهم من زعم أن الإنقطاع معتبر في معنى الفئة لأنها من فأوت أي قطعت والمنقطع عن المؤمنين إما كفار أو بغاة وبني على ذلك أنه لا ينبغي أن يقال : لم توصف لظهور الخ وليس بشيء كما لا يخفى واللقاء قد غلب في القتال كالنزال وتصدير الخطاب بحر في النداء والتنبيه إظهارا لكمال الإعتناء بمضمون ما بعده فاثبتوا للقائهم ولا تولوهم الأدبار والظاهر أن المراد إلا وأو على ما مر واذكروا الله كثيرا أي في تضاعيف القتال وفسر بعضهم هذا الذكر بالتكبير وبعضهم بالدعاء ورووا أدعية كثيرة في القتال منها اللهم أنت ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك فاقتلهم واهزمهم وقيل : المراد بذكره سبحانه أخطاره بالقلب وتوقع نصره وقيل : المراد اذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر على الأعداء في الدنيا والثواب في الآخرة ليدعوكم ذلك إلى الثبات في القتال لعلكم تفلحون
54
- أي تفوزون بمرامكم من النصر والمثوبة والأولى حمل الذكر على ما يعم التكبير والدعاء وغير ذلك من أنواع الذكر وفي الآية تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر مولاه سبحانه وذكره جل شأنه في مثل ذلك الموطن من أقوى أدلة محبته جل شأنه ألا ترى من أحب مخلوقا مثله كيف يقول : ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تشرب من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها برقت كبارق ثغرك المبتسم وأطيعوا الله ورسوله في كل ما تأتون وما تذرون ويندرج في ذلك ما أمروا به هنا ولا تنازعوا
(10/13)

باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر وأحد وقريء ولا تنازعوا بتشديد التاء فتفشلوا أي فتجبنوا عن عدوكم وتضعفوا عن قتالهم والفعل منصوب بأن مقدرة في جواب النهي ويحتمل أن يكون مجزوما عطفا عليه وقوله تعالى : وتذهب ريحكم بالنصب معطوف على تفشلوا على الإحتمال الأول وقرأ عيسى بن عمر ويذهب بياء الغيبة والجزم وهو عطف عليه أيضا على الإحتمال الثاني والريح كما قال الأخفش مستعارة للدولة لشبهها بها في نفوذ أمرها وتمشيه ومن كلامهم هبت رياح فلان إذ دالت له الدولة وجرى أمره على ما يريد وركدت رياحه إذا ولت عنه وأدبر أمره وقال : إذا هبت رياحك فاغتنمها
فإن لكل خافقة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها
فما تدري السكون متى يكون وعن قتادة وابن زيد أن المراد بها ريح النصر وقالا : لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو وعن عثمان بن مقرن قال : شهدت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تميل الشمس وتهب الرياح وعلى هذا تكون الريح على حقيقتها وجوز أن تكون كناية عن النصر وبذلك فسرها مجاهد واصبروا على شدائد الحرب إن الله مع الصابرين
64
- بالإمداد والإعانة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم بناء على المشهور من حيث أنهم المباشرون للصبر فهم متبوعون من تلك الحيثية
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بعد أن أمروا بما أمروا من أحاسن الأعمال ونهوا عما يقابلها والمراد بهم أهل مكة أبو جهل وأصحابه حين خرجوا لحماية العير بطرا أي فخرا وأشرا ورئاء الناس ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره أرسل إلى قريش أن أرجعوا فقد سلمت العير فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدر أو نشرب الخمور وتعزف علينا القينات ونطعم بها من حضرنا من العرب فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا بدل الخمور وناحت عليهم النوائح بدل القينات وكانت أموالهم غنائم بدلا عن بذلها ونصب المصدرين على التعليل ويجوز أن يكونا في موضع الحال أي بطرين مرائين وعلى التقديرين المقصود نهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم في البطر والرياء وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص إذا قلنا : إن النهي عن الشيء أمر بضده
ويصدون عن سبيل الله عطف على بطرا وهو ظاهر على تقدير أنه حال بتأويل اسم الفاعل لأن الجملة تقع حالا من غير تكلف وأما على تقدير كونه مفعولا له فيحتاج إلى تكلف لأن الجملة لا تقع مفعولا له ومن هنا قيل : الأصل أن يصدوا فلما حذفت أن المصدرية ارتفع الفعل مع القصد إلى معنى المصدرية بدون سابك كقوله : ألا أيها الزاجري احضر الوغى
أي عن أن احضر وهو شاذ واختير جعله على هذا إستئنافا ونكتة التعبير بالإسم أولا والفعل أخيرا أن البطر والرياء دأبهم بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة والله بما يعملون محيط
74
- فيجازيهم عليه وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم مقدر بمضمر خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق التلوين على ما قيل ويجوز أن يكون المضمر
(10/14)

مخاطبا به المؤمنون والعطف على لا تكونوا أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وغيرها بأن وسوس إليهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم أي ألقى في روعهم وخيل لهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم وأوهمهم أن إتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم وحافظ عن السوء حتى قالوا : اللهم أنصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين فالقول مجاز عن الوسوسة والإسناد في أني جار من قبيل الإسناد إلى السبب الداعي و لكم خبر لا أو صفة غالب والخبر محذوف أي لا غالب كائنا لكم موجود و اليوم معمول الخبر ولا يجوز تعلق الجار بغالب وإلا لانتصب لشبهه بالمضاف حينئذ وأجاز البغداديون الفتح وعليه يصح تعلقه به و من الناس حال من ضمير الخبر لا من المستتر في غالب لما ذكرنا وجملة أني جار تحتمل العطف والحالية فلما تراءت الفئتان أي تلاقي الفريقان وكثيرا ما يكنى بالترائي عن التلاقي وإنما أول بذلك لمكان قوله تعالى : نكص على عقبيه أي رجع القهقري فإن النكوص كان عند التلاقي لا عند الترائي والتزام كونه عنده فيه خفاء والجار والمجرور في موضع الحال المؤكدة أو المؤسسة إن فسر النكوص بمطلق الرجوع وأيا ما كان ففي الكلام إستعارة تمثيلية شبه بطلان كيده بعد تزيينه بمن رجع القهقري عما يخافه كأنه قيل : لما تلاقتا بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم
وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله تبرأ منهم إما بتركهم أو بترك الوسوسة لهم التي كان يفعلها أولا وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة عليهم السلام وإنما لم نقل خاف على نفسه لأن الوسوسة بخوفه عليهم أقرب إلى القبول بل يبعد وسوسته إليهم بخوفه على نفسه وقيل : إنه لا يخاف على نفسه لأنه من المنظرين وليس بشيء
وقد يقال : المقصود من هذا الكلام أنه عظم عليهم الأمر وأخذ يخوفهم بعد أن كان يحرضهم ويشجعهم كأنه قال : يا قوم الأمر عظيم والخطب جسيم وإني تارككم لذلك وخائف على نفسي الوقوع في مهاوي المهالك مع أني أقدر منكم على الفرار وعلى مراحل هذه القفار وحينئذ لا يبعد أن يراد من الخوف الخوف على نفسه حيث لم يكن هناك قول حقيقة وقال غير واحد من المفسرين : إنه لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينها وبين كنانة من الأحنة والحرب فكاد ذلك يثبطهم فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وكان من أشراف كنانة فقال لهم لا غالب لكم اليوم وإني جار لكم من بني كنانة وحافظكم ومانع عنكم فلا يصل إليكم مكروه منهم فلما رأى الملائكة تنزل من السماء نكص وكانت يده في يد الحرث بن هشام فقال له : إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة فقال له : إني أرى ما لا ترون فقال : والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب فدفع في صدر الحرث وانطلق وانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا : هزم الناس سراقة فبلغه الخبر فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان وروي هذا عن ابن عباس والكلبي والسدي وغيرهم وعليه يحتمل أن يكون معنى قوله : إني أخاف الله إني أخاف أن يصيبني بمكروه من الملائكة أو يهلكني ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله وفي الموطأ ما رؤى الشيطان يوما هو أصغر فيه ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رؤى يوم بدر فإنه قد رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة عليهم السلام وما في كتاب التيجان من أن إبليس قتل ذلك اليوم مخرج على هذا وإلا فهو تاج سلطان الكذب
(10/15)

وروي الأول عن الحسن واختاره البلخي والجاحظ وقوله سبحانه : والله شديد العقاب
84
- يحتمل أن يكون من كلام اللعين وإن يكون مستأنفا من جهته سبحانه وتعالى وادعى بعضهم أن الأول هو الظاهر إذ على إحتمال كونه مستأنفا يكون تقريرا لمعذرته ولا يقتضيه المقام فيكون فضلة من الكلام وتعقب بأنه بيان لسبب خوفه حيث أنه يعلم ذلك فافهم إذ يقول المنافقون ظرف لزين أو نكص أو شديد العقاب وجوز أبو البقاء أيضا أن يقدر اذكروا والذين في قلوبهم مرض أي الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان بعد وبقى فيها شبهة قيل : وهم فتية من قريش أسلموا بمكة وحبسهم آباؤهم حتى خرجوا معهم إلى بدر منهم قيس بن الوليد ابن المغيرة والعاص بن منبه بن الحجاج والحرث بن زمعة وأبو قيس بن الفاكة فالمرض على هذا مجاز عن الشبهة
وقيل : المراد بهم المنافقون سواء جعل العطف تفسيرا أو فسر مرض القلوب بالأحن والعداوات والشك مما هو غير النفاق والمعنى إذ يقول الجامعون بين النفاق ومرض القلوب وقيل : يجوز أن يكون الموصول صفة المنافقين وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف لأن هذه صفة للمنافقين ولا تنفك عنهم أو تكون الواو داخلة بين المفسر والمفسر نحو أعجبني زيد وكرمه وزعم بعضهم أن ذلك وهم وهو من التحامل بمكان إذ لا مانع من ذلك صناعة ولا معنى والقول بأن وجه الوهم فيه أن المنافقين جار على موصوف مقدر أي القوم المنافقون فلا يوصف ليس بوجيه إذ للقائل أن يقول : إنه أجرى المنافقون هنا مجرى الأسماء مع أن الصفة لا مانع من أن توصف وقيام العرض بالعرض دون إثبات امتناعه خرط القتاد ومن فسر الذين في قلوبهم مرض بأولئك الفئة الذين أسلموا بمكة قال : إنهم لما رأوا قلة المسلمين قالوا : غر هؤلاء يعنون المؤمنين الذين مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دينهم حتى تعرضوا لمن لا يدى لهم به فخرجوا وهم ثلثمائة وبضعة عشر إلى زهاء الألف وعلى إحتمال جعله صفة للمنافقين يشعر كلام البعض أن القول لم يكن عند التلاقي فقد روي عن الحسن أن هؤلاء المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : هم يومئذ في المسلمين وفي القلب من هذا شيء فإن الذي تشهد الآثار أن أهل بدر كانوا خلاصة المؤمنين ومن يتوكل على الله جواب لهم ورد لمقالتهم فإن الله عزيز غالب لا يذل من توكل عليه ولا يخذل من إستجار به وإن قل حكيم
94
- يفعل بحكمته البالغة ما تستبعده العقول وتحار في فهمه ألباب الفحول وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه أو أنه قائم مقامه ولو ترى خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب والمضارع هنا بمعنى الماضي لأن لو الإمتناعية ترد المضارع ماضيا كما أن إن ترد الماضي مضارعا أي ولو رأيت إذ يتوفى الذين كفروا الملائكلاة الخ لرأيت أمرا فظيعا ولا بد عند العلامة من حمل معنى المضي هنا على الفرض والتقدير وليس المعنى على حقيقة المضي قيل : والقصد إلى إستمرار إمتناع الرؤية وتجدده وفيه بحث وإذ ظرف لترى والمفعول محذوف أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ و الملائكة فاعل يتوفى وتقديم المفعول للإهتمام به ولم يؤنث الفعل لأن الفاعل غير حقيقي التأنيث وحسن ذلك الفصل
(10/16)

بينهما ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن عامر تتوفى بالتاء وجوز أبو البقاء أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى والملائكة على هذا مبتدأ خبره جملة يضربون وجوههم والجملة الإسمية مستأنفة وعند أبي البقاء في موضع الحال ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير ومن يرى أنه لا بد فيها من الواو وتركها ضعيف يلتزم الأول وعلى الأول يحتمل أن يكون جملة يضربون مستأنفة وأن تكون حالا من الفاعل أو المفعول أو منهما لإشتمالها على ضميريهما وهي مضارعية يكتفى فيها بالضمير كما لا يخفى والمراد من وجوههم ما أقبل منهم ومن قوله سبحانه : وأدبارهم ما أدبر وهو كل الظهر وعن مجاهد أن المراد منه أستاههم ولكن الله تعالى كريم يكنى والأول أولى وذكرهما يحتمل أن يكون للتخصيص بهما لأن الخزي والنكال في ضربهما أشد ويحتمل أن يراد التعميم على حد قوله تعالى : بالغدو والآصال لأنه أقوى ألما والمراد من الذين كفروا قتلى بدر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره
وروي عن الحسن أن رجلا قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك فقال عليه الصلاة و السلام : ذلك ضرب الملائكة وفي رواية عن ابن عباس ما يشعر بالعموم فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : آيتان يبشر بهما الكافر عند موته وقرأ ولو ترى الخ ولعل الرواية عنه رضي الله تعالى عنه لم تصح وذوقوا عذاب الحريق عطف على يضربون بإضمار القول أي ويقولون ذوقوا أو حال من ضميره كذلك أي ضاربين وجوههم وقائلين ذوقوا وهو على الوجهين من قول الملائكة المراد بعذاب الحريق عذاب النار في الآخرة فهو بشارة لهم من الملائكة بما هو أدهى وأمر مما هم فيه وقيل كان مع الملائكة يوم بدر مقامع من حديد كلما ضربوا المشركين بها التهبت النار في جراحاتهم وعليه فالقول للتوبيخ والتعبير بذوقوا قيل : للتهكم لأن الذوق يكون في المطعوعات المستلذة غالبا وفيه نكتة أخرى وهو أنه قليل من كثير وأنه مقدمة كأنموذج الذائق وبهذا الإعتبار يكون فيه المبالغة وأنه أشعر الذوق بقلته
وذكر بعضهم : وهو خلاف الظاهر أن يحتمل أن يكون هذا القول من كلام الله تعالى كما في آل عمران ونقول ذوقوا عذاب الحريق وجواب لو محذوف لتفظيع الأمر وتهويله وتقديره ما أشرنا إليه سابقا وقدره الطيبي لرأيت قوة أوليائه ونصرهم على أعدائه ذلك أي الضرب والعذاب اللذان هما وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : بما قدمت أيديكم والباء للسببية وتقديم الأيدي مجاز عن الكسب والفعل أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي وقوله سبحانه : وأن الله ليس بظلام للعبيد
15
- قيل خبر مبتدأ محذوف والجملة إعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم قطعا على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم
وقال البيضاوي بيض الله غرة أحواله : هو عطف على ما للدلالة على أن سببيته مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا
(10/17)

حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وأراد بذلك الرد على الزمخشري عامله الله تعالى بعدله حيث جعل كلا من الأمرين سببا بناء على مذهبه في وجوب الأصلح فقوله : لا أن لا يعذبهم عطف على أن يعذبهم والمعنى أن سبب هذا القيد دفع إحتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا إحتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن وقوله للدلالة الخ على معنى أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبهم بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب فحاصل معنى الآية أن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر فلا يرد عليه ما قيل : كون تعذيب الله تعالى للعباد بغير ذنب ظلما لا يوافق مذهب الجماعة وما قيل : إن هذا يخالف ما في آل عمران من أن سببيته للعذاب من حيث أن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضى إثابة المحسن ومعاقبة المسيء مدفوع بأن لنفي الظلم معنيين : أحدهما ما ذكر من إثابة المحسن الخ والآخر عدم التعذيب بلا ذنب وكل منهما يؤول إلى معنى العدل فلا تدافع بين كلاميه وأما جعله هناك سببا وهنا قيدا للسبب فلا يوجب التدافع أيضا فإن المراد كما ذكرنا فيما قبل بالسبب الوسيلة المحضة وهو وسيلة سواء اعتبر سببا مستقلا أو قيدا للسبب ولمولانا شيخ الإسلام في هذا المقام كلام لا يخفى عليك رده بعد الوقوف على ما ذكرنا وقد تقدم لك بسط الكلام فيه ومن الناس من بين قول القاضي : للدلالة الخ بقوله يريد أن سببية الذنوب للعذاب تتوقف على إنتفاء الظلم منه تعالى فإنه لو جاز صدوره عنه سبحانه لأمكن أن يعذب عبيده بغير ذنوبهم فلا يصلح أن يكون الذنب سببا للعذاب لا في هذه الصورة ولا في غيرها ثم قال : فإن قلت : لا يلزم من هذا إلا نفي إنحصار السبب للعذاب في الذنوب لا نفي سببيتها له والكلام فيه إذ يجوز أن يقع العذاب في الصورة المفروضة بسبب غير الذنوب ولا ينافي هذا كونها سببا له في غير هذه الصورة كما في أهل بدر فلا يتم التقريب
قلت : السبب المفروض في الصورة المذكورة إن أوجب إستحقاق العذاب يكون ذنبا لا محالة والمفروض خلافه وإن لم يوجب فلا يتصور أن يكون سببا إذ لا معنى لكون شيء سببا إلا كونه مقتضيا لإستحقاقه له فإذا إنتفى هذا ينتفي ذلك وبالجملة فمآل كون التعذيب من غير ذنب إلى كونه بدون السبب لإنحصار السبب فيه إنتهى
ورد بأن قوله : وإن لم يوجب فلا يتصور أن يكون سببا ممنوع فإن السبب الموجب ما يكون مؤثرا في حصول شيء سواء كان عن إستحقاق أو لم يكن ألا يرى أن الضرب بظلم والقتل كذلك سببان للإيلام والموت مع أنهما ليسا عن إستحقاق فاعتراض السائل واقع موقعه ولا يمكن التفصي عنه إلا بما قرر سابقا من معنى الآية فإن المقام مقام تعيين السببية وتخصيصها للذنوب وذلك لا يحصل إلا بنفي صدور العذاب بلا ذنب منه سبحانه وتعالى ومن هنا علم أن قوله : وبالجملة الخ ليس بسديد فإن مبناه كون الإستحقاق شرطا للسببية وقد مر ما فيه مع ما فيه من المخالفة لكلام الأجلة من كون نفي الظلم سببا آخر للتعذيب لأن سببية نفي الظلم موقوفة على إمكان إرادة التعذيب بلا ذنب وكونها سببا للعذاب فكيف يكون مآل كون التعذيب بلا ذنب إلى كونه بدون السبب فتأمل فالمقام معترك الإفهام ثم أن المراد في الآية نفي نفس الظلم وإنما كثر توزيعا على الآحاد كأنه قيل : ليس بظالم لفلان ولا بظالم لفلان وهكذا فلما جمع هؤلاء عدل إلى ظلام لذلك وجوز أن يكون إشارة إلى عظم العذاب على سبيل الكناية وذلك لأن الفعل يدل بظاهره على غاية الظلم إذ لم يتعلق بمستحقه فإذا صدر ممن هو أعدل العادلين دل على أنه إستحق أشد العذاب لأنه أشد المسيئين قال في الكشف : وهذا أوفق للطائف
(10/18)

كلام الله تعالى المجيد وفيه وجوه أخر مر لك بعضها وقوله تعالى : كدأب آل فرعون خبر مبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء كائن كدأب الخ والجملة إستئناف مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بشيء آخر حيث شبه حالهم بحال المعروفين بالإهلاك لذلك لزيادة تقبيح حالهم وللتنبيه على أن ذلك سنة مطردة فيما بين الأمم المهلكة والدأب العادة المستمرة ومنه قوله : وما زال ذلك الدأب حتى تجادلت هوازن وارفضت سليم وعامر والمراد شأنهم الذي إستمروا عليه مما فعلوا وفعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعون المشهورين بقباحة الأعمال وفظاعة العذاب والنكال والذين من قبلهم أي من قبل آل فرعون وأصحابه من الأمم الذين فعلوا ما فعلوا ولقوا من العذاب ما لقوا كقوم نوح وعاد وأضرابهم وقوله تعالى : كفروا بأيات الله تفسيرا لدأبهم لكن بملاحظة أنه الذي فعلوه لا لدأب آل فرعون ومن بعدهم فإن ذلك معلوم منه بقضية التشبيه
والجملة لا محل لها من الإعراب لما أشير إليه وكذا على ماقيل : من أنها مستأنفة إستئنافا نحويا أو بيانيا وقيل : إنها حالية بتقدير قد فهي في محل نصب وقوله سبحانه : فأخذهم الله بذنوبهم عليها وحكمه في التفسير حكمها لكن بملاحظة الدأب الذي فعل بهم والفاء لبيان كونه من لوازم جناياتهم وتبعاتها المتفرعة عليها
وذكر الذنوب لتأكيد ما أفادته الفاء من السببية مع الإشارة إلى أن لهم مع كفرهم ذنوبا أخر لها دخل في إستتباع العقاب وجوز أن يراد بذنوبهم معاصيهم المتفرعة على كفرهم فيكون الباء للملابسة أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غير تائبين عنها وجعل العذاب من جملة دأبهم مع أنه ليس مما يتصور مداومتهم عليه واعتيادهم إياه كما هو المعتبر في مدلول الدأب كما عرفت إما لتغليب ما فعلوه على ما فعل بهم أو لتنزيل مدوامتهم على ما يوجبه من الكفر والمعاصي بمنزلة مداومتهم عليه لما بينهما من الملابسة التامة وإلى كون المراد بدأبهم مجموع ما فعلوه وما فعل بهم يشير ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إن آل فرعون أيقنوا بأن موسى عليه السلام نبي الله تعالى فكذبوه كذلك هؤلاء جاءهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى لهم عقوبة كما أنزل بآل فرعون وإلى ذلك ذهب ابن الخازن وغيره وقيل : المراد بدأبهم ما فعلوا فقط وقيل : ما فعل بهم فقط وليس بشيء
وقوله سبحانه : إن الله قوي شديد العقاب
25
- إعتراض مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ أي أنه سبحانه لا يغلبه غالب فيدفع عقابه عمن أراد معاقبته ذلك إشارة إلى ما يفيده النظم الكريم من كون ما حل بهم من العذاب منوطا بأعمالهم السيئة غير واقع بلا سابقة ما يقتضيه وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : بأن الله إلى آخره والباء للسببية والجملة مسوقة لتعليل ما أشير إليه أي ذلك كائن بسبب أن الله سبحانه لم يك مغيرا نعمة أنعمها أي لم ينبغ له سبحانه ولم يصح في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمة أي نعمة كانت جلت أو هانت أنعم بها على قوم من الأقوام حتى يغيروا ما بأنفسهم أي ذواتهم من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستهم للنعمة ويتصفوا بما ينافيها سواء كانت أحوالهم السابقة مرضية صالحة أو أهون من الحالة الحادثة كدأب كفرة قريش المذكورين حيث كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام
(10/19)

مستمرين على حال مصححة لإفاضة نعم الإمهال وسائر النعم الدنيوية عليهم كصلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل عليهم السلام فلما بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غيروها على أسوء حال منها وأسخط حيث كذبوه عليه الصلاة و السلام وعادوه ومن تبعه من المؤمنين وتحزبوا عليهم وقطعوا أرحامهم فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهال ووجه إليهم نبال العقاب والنكال وقيل : إنهم لما كانوا متمكنين من الإيمان ثم لم يؤمنوا كان ذلك كأنه حاصل لهم فغيروه كما قيل في قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ولا يخلو عن حسن وجعل بعضهم الإشارة إلى ما حل بهم ثم أنه لما رأى أن إنتفاء تغيير الله تعالى حتى يغيروا لا يقتضي تحقق تغييره إذا غيروا وأن العدم ليس سببا للوجود هنا وأيضا عدم التغيير صارف عما حل بهم لا موجب له بحسب الظاهر قال : إن السبب ليس منطوق الآية بل مفهومها وهو جرى عادته سبحانه على التغيير حين غيروا حالهم فالسبب ليس إنتفاء التغيير بل التغيير قيل : وإنما أوثر التعبير بذلك لأن الأصل عدم التغيير من الله تعالى لسبق إنعامه ورحمته ولأن الأصل فيهم الفطرة وأما جعله عادة جارية فبيان لما استقر عليه الحال من ذلك لا أن كونه عادة له دخل في السببية ولا يخفى أن ما ذكرناه أسلم من القيل والقال على أن ما فعله البعض لا يخلو بعد عن مقال فتدبر وأصل يك يكن فحذفت النون تخفيفا لشبهها بأحرف العلة في أنها من الزوائد وهي تحذف من أحرف المجزوم فلذا حذفت هذه وهو مختص بهذا الفعل لكثرة إستعماله وأن الله سميع عليم
35
- عطف على أن لله الخ داخل معه في حيز التعليل أي وسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميع ما يأتون ويذرون من الأقوال والأفعال السابقة واللاحقة فيرتب على كل منها ما يليق من إبقاء النعمة وتغييرها وقريء وأن الله بكسر الهمزة فالجملة حينئذ إستئناف مقرر لمضمون ما قبله كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم إستئناف آخر على ما ذكره بعض المحققين مسوق لتقرير ما سيق له الإستئناف الأول بتشبيه دأبهم بدأب المذكورين لكن لا بطريق التكرير المحض بل بتغيير العنوان وجعل الدأب في الجانبين عبارة عما يلازم معناه الأول من تغيير الحال وتغيير النعمة أخذا مما نطق به قوله تعالى : ذلك بأن الله لم يك مغيرا الخ أي دأب هؤلاء وشأنهم الذي هو عبارة عن التغييرين المذكورين كدأب أولئك حيث غيروا حالهم فغير الله تعالى نعمته عليهم فقوله سبحانه : كذبوا بآيات ربهم تفسير لدأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم وأشير بلفظ الرب إلى أن ذلك التغيير كان بكفران نعمه تعالى لما فيه من الدلالة على أنه مربيهم المنعم عليهم وقوله سبحانه : فأهلكناهم تفسير لدأبهم الذي فعل بهم من تغييره تعالى ما بهم من نعمته جل شأنه
وفي الإهلاك رمز إلى التغيير ولذا عبر به دون الأخذ المعبر به أولا وليس الأخذ مثله في ذلك ألا ترى أنه كثيرا ما يطلق الإهلاك على إخراج الشيء عن نظامه الذي هو عليه ولم نر إطلاق الأخذ على ذلك وقيل : إنما عبر أولا بالأخذ وهنا بالإهلاك لأن جنايتهم هنا الكفران وهو يقتضي أعظم النكال والإهلاك مشير إليه ولا كذلك ما تقدم وفيه نظر وأما دأب قريش فمستفاد مما ذكر بحكم التشبيه فلله تعالى در التنزيل حيث اكتفى في كل من التشبيهين بتفسير أحد الطرفين وفي الفوائد أن هذا ليس بتكرير لأن معنى الأول حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر فأخذهم وأتاهم العذاب ومعنى الثاني حال هؤلاء كحال آل فرعون
(10/20)

في تغييرهم النعم وتغيير الله تعالى حالهم بسبب ذلك التغيير وهو أنه سبحانه أغرقهم بدليل ما قبله وما ذكرناه أتم تحريرا واعترضه العلامة الطيبي بأن النظم الكريم يأباه لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب فكذلك ينبغي أن يكون وجهه في الثاني ما يفهم من قوله سبحانه : كذبوا الخ لأنه مثله لأن كلا منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه صالحة لأن تكون وجه الشبه فتحمل عليه كما في قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب وأما قوله سبحانه : ذلك بأن الله الخ فكالتعليل لحلول النكال معترض بين التشبيهين غير مختص بقوم بل هو متناول لجميع من يغير نعمة الله تعالى من الأمم السابقة واللاحقة فاختصاصه بالوجه الثاني دون الأول وإيقاعه وجها للتشبيه مع وجوده صريحا كما علمت بعيد عمن ذاق معرفة الفصاحتين ووقف على ترتيب النظم من الآيتين انتهى
ولا يخفى أن هذا غير وارد على ما قدمناه عند التأمل والقول في التفرقة بين الآيتين أن الأولى لبيان حالهم في إستحقاقهم عذاب الآخرة والثانية لبيان إستحقاقهم عذاب الدنيا أو أن المقصود أولا تشبيه حالهم بحال المذكورين في التكذيب والمقصود ثانيا تشبيه حالهم بحالهم في الإستئصال أو أن المراد فيما تقدم بيان أخذهم بالعذاب وهنا بيان كيفيته مما لا ينبغي أن يعول عليه وقال بعض الأكابر : إن قوله سبحانه : كدأب في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا كائنا كدأب آل فرعون أي كتغييرهم على أن دأبهم عبارة عما فعلوه كما هو الأنسب بمفهوم الدأب وقوله تعالى : كذبوا الخ تفسير له بتمامه وقوله سبحانه : فأهلكناهم الخ إخبار بترتب العقوبة عليه لا أنه من تمام تفسيره ولا ضير في توسط قوله عز شأنه : وأن الله سميع عليم بينهما سواء عطفا أو إستئنافا وفيه خروج الآية عن نمط أختها بالكلية وأيضا لا وجه لتقييد التغيير الذي يترتب عليه تغيير الله تعالى بكونه كتغيير آل فرعون على أن كون الجار في محل النصب على أنه نعت بعيد مع وجود ذلك الفاصل وإن قلنا بجواز الفصل ومن أنصف علم أن بلاغة التنزيل تقتضي الوجه الأول والإلتفات إلى نون العظمة في أهلكنا جريا على سنن الكبرياء لتهويل الخطب وهذا لا ينافي النكتة التي أشرنا إليها سابقا كما لا يخفى والكلام في الفاء وذكر الذنوب على طرز ما ذكرنا في نظيره وقوله سبحانه : وأغرقنا آل فرعون عطف على أهلكنا وفي عطفه عليه مع إندراج مضمونه تحت مضمونه إيذان بكمال هول الإغراق وفظاعته وكل أي كل من الفرق المذكورين أو كل هؤلاء وأولئك أو كل من آل فرعون وكفار قريش على ما قيل بناء على أن ما قبله في تشبيه دأب كفرة قريش بدأب آل فرعون صريحا وتعيينا وأن مثله يكفي قرينة للتخصيص كانوا ظالمين
45
- أي أنفسهم بالكفر والمعاصي ولو عمم لكان له وجه أو واضعين للكفر والتكذيب مكان الإيمان والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم إن شر الدواب عند الله أي في حكمه وقضائه الذين كفروا أي أصروا على الكفر ورسخوا فيه وهذا شروع في بيان أحوال سائر الكفرة بعد بيان أحوال المهلكين منهم ولم يقل سبحانه شر الناس إيماء إلى أنهم بمعزل عن مجانستهم بل هم من جنس الدواب وأشر أفراده فهم لا يؤمنون
55
- حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه وتسجيل عليهم بكونهم من أهل الطبع لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف جيء به على وجه الإعتراض وقيل :
(10/21)

عطف على الصلة مفهم معنى الحال كأنه قيل : إن شر الدواب الذين كفروا مصرين على عدم الإيمان وقيل : الفاء فصيحة أي إذا علمت أن أولئك شر الدواب فاعلم أنهم لا يؤمنون أصلا فلا تتعب نفسك وقيل : هي للعطف وفي ذلك تنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف حيث جعل ذلك مترتبا عليه ترتب المسبب على سببه والكل كما ترى الذين عاهدت منهم بدل من الموصول الأول أو عطف بيان أو نعت أو خبر مبتدأ محدوف أو نصب على الذم وعائد الموصول قيل : ضمير الجمع المجرور والمراد عاهدتهم و من للإيذان بأن المعاهدة التي هي عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين معتبرة ههنا من حيث أخذه صلى الله تعالى عليه وسلم إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض لا إعطاؤه عليه الصلاة و السلام إياهم عهده كأنه قيل : الذين أخذت منهم عهدهم وإلى هذا يرجع قولهم : إن من لتضمين العهد معنى الأخذ أي عاهدت آخذا منهم
وقال أبو حيان : إنها تبعيضية لأن المباشر بعضهم لا كلهم وذكر أبو البقاء أن الجار والمجرور في موضع الحال من العائد المحذوف أي الذين عاهدتهم كائنين منهم وقيل : هي زائدة وليس بذاك وقوله سبحانه : ثم ينقضون عهدهم عطف على الصلة وصيغة الإستقبال للدلالة على تعدد النقض وتجدده وكونهم على نيته في كل حال أي ينقضون عهدهم الذي أخذ منهم في كل مرة أي من مرات المعاهدة كما هو الظاهر واختاره غير واحد وجوز أن يراد في كل مرة من مرات المحاربة وفيه بحث وهم لا يتقون في موضع الحال من فاعل ينقضون أي يستمرون على النقض والحال أنهم لا يتقون سبة الغدر ومغبته أو لا يتقون الله تعالى فيه وقيل : لا يتقون نصرة المسلمين وتسلطهم عليهم والآية على ما قال جمع نزلت في يهود قريظة عاهدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فاعانوا المشركين بالسلاح فقالوا نسينا ثم عاهدهم عليه الصلاة و السلام فنكثوا ومالؤهم عليه عليه الصلاة و السلام يوم الخندق وركب كعب إلى مكة فحالفهم على حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنها نزلت في ستة رهط من يهود منهم ابن تابوت ولعله أراد بهم الرؤساء المباشرين للعهد فإما تثقفنهم شروع في بيان أحكامهم بعد تفصيل أحوالهم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها والثقف يطلق على المصادفة وعلى الظفر والمراد به هنا المترتب على المصادفة والملاقاة أي إذا كان حالهم كما ذكر فإما تصادفنهم وتظفرن بهم في الحرب أي في تضاعيفها فشرد بهم أي فرق بهم من خلفهم أي من وراءهم من الكفرة يعني إفعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك فعلا من القتل والتنكيل العظيم يفرق عنك ويخافك بسببه من خلفهم ويعتبر به من سمعه من أهل مكة وغيرهم وإلى هذا يرجع ما قيل : من أن المعنى نكل به ليتعظ من سواهم وقيل : إن معنى شرد بهم سمع بهم في لغة قريش قال الشاعر : أطوف بالأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بي حكيم وقرأ ابن مسعود والأعمش فشرذ بالذال المعجمة وهو بمعنى شرد بالمهملة وعن ابن جني أنه لم يمر بنا في اللغة تركيب شرذ والأوجه أن تكون الذال بدلا من الدال والجامع بينهما أنهما مجهوران ومتقاربان وقيل : إنه قلب من شذر ومنه شذر مذر للمتفرق وذهب بعض أهل اللغة إلى أنها موجودة ومعناها التنكيل
(10/22)

ومعنى المهمل التفريق كما قاله قطرب لكنها نادرة وقرأ أبو حيوة من خلفهم بمن الجارة والفعل عليها منزل منزلة اللازم كما في قوله
يجرح في عراقيبها نصلي
فالمعنى فعل التشريد من ورائهم وهو في معنى جعل الوراء ظرفا للتشريد لتقارب معنى من و في تقول : اضرب زيدا من وراء عمرو وورائه أي في وراءه وذلك يدل على تشريد من في تلك الجهة على سبيل الكناية فإن إيقاع التشريد في الوراء لا يتحقق إلا بتشريد من ورائهم فلا فرق بين القراءتين الفتح والكسر إلا في المبالغة لعلهم يذكرون
75
- أي لعل المشردين يتعظون بما يعلمونه مما نزل بالناقضين فيرتدعون عن النقض قيل : أو عن الكفر وإما تخافن من قوم خيانة بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد إثر بيان أحكام الناقضين له بالفعل والخوف مستعار للعلم أي وإما تعلمن من قوم معاهدين لك نقض عهد فيما سيأتي بما يلوح لك منهم من الدلائل فانبذ إليهم أي فاطرح إليهم عهدهم وفيه إستعارة مكنية تخييلية على سواء أي على طريق مستو وحال قصد بأن تظهر لهم النقض وتخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد كيلا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في انبذ فانبذ إليهم ثابتا على سواء وجوز أن يكون حالا من ضمير إليهم أو من الضميرين معا أي حال كونهم كائنين على إستواء في العلم بنقض العهد بحيث يستوي فيه أقصاهم وأداهم أو حال كونك أنت وهم على إستواء في ذلك ولزوم الإعلام عند أكثر العلماء الأعلام إذا لم تنقض مدة العهد أو لم يستفض نقضهم له ويظهر ظهورا مقطوعا به أما إذا انقضت المدة أو استفاض النقض وعلمه الناس فلا حاجة إلى ما ذكر ولهذا غزا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أهل مكة من غير نبذ ولم يعلمهم بأنهم كانوا نقضوا العهد علانية بمعاونتهم بني كنانة على قتل خزاعة حلفاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله لا يحب الخائنين
85
- تعليل للأمر بالنبذ باعتبار إستلزامه للنهي عن المناجزة التي هي خيانة فيكون تحذيرا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم منها
وجوز أن يكون تعليلا لذلك باعتبار إستتباعه للقتال بالآخرة فتكون حثا له صلى الله تعالى عليه وسلم على النبذ أولا وعلى قتالهم ثانيا كأنه قيل : وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ثم قاتلهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت حالهم والأول هو المتبادر وعلى كلا التقديرين المراد من نفي الحب إثبات البغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض بالنسبة إليه تعالى ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا بياء الغيبة وهي قراءة حفص وابن عامر وأبي جعفر وحمزة وزعم تفرد الأخير بها وهم كزعم أنها غير نيرة فقد نص في التيسير على أنه قرأ بها الأولان أيضا وفي المجمع على أنه قرأ بها الأربعة وقال المحققون : إنها أنور من الشمس في رابعة النهار لأن فاعل يحسبن الموصول بعده ومفعوله الأول محذوف أي أنفسهم وحذف للتكرار والثاني جملة سبقوا أي لا يحسبن أولئك الكافرون أنفسهم سابقين أي مفلتين من أن يظفر بهم
والمراد من هذا إقناطهم من الخلاص وقطع أطماعهم الفارغة من الأنتفاع بالنبذ والإقتصار على دفع هذا للتوهم وعدم دفع توهم سائر ما تتعلق به أمانيهم الباطلة من مقاومة المؤمنين أو الغلبة عليهم للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم عليه عقاب وهمهم وحسباتهم وإنما الذي يمكن أن يدور في خلدهم حسبان المناص فقط ويحتمل أن يكون الفاعل ضميرا مستترا والحذف لا يخطر بالبال كما توهم أي لا يحسبن هو أي
(10/23)

أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو الحاسب أو من خلفهم أو أحد وهو معلوم من الكلام فلا يرد عليه أنه لم يسبق له ذكر ومفعولا الفعل الذين كفروا وسبقوا وحكي عن الفراء أن الفاعل الذين كفروا وأن سبقوا بتقدير أن سبقوا فتكون أن وما بعدها سادة مسد المفعولين وأيد بقراءة ابن مسعود أنهم سبقوا
واعترضه أبو البقاء وغيره بأن أن المصدرية موصول وحذف الموصول ضعيف في القياس شاذ في الإستعمال لم يرد منه إلا شيء يسير كتسمع بالمعيدي خير من أن تراه ونحوه فلا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه
وقرأ من عدا من ذكر تحسبن بالتاء الفوقية على أن الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من له حظ في الخطاب والذين كفروا سبقوا مفعولاه ولا كلام في ذلك
وقرأ الأعمش ولا تحسب الذين بكسر الباء وفتحها على حذف النون الخفيفة وقوله تعالى : إنهم لا يعجزون
95
- أي لا يفوتون الله تعالى أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم تعليل للنهي على طريق الإستئناف وقرأ ابن عامر أنهم بفتح الهمزة وهو تعليل أيضا بتقدير اللام المطرد حذفها في مثله
وقيل : الفعل واقع عليه و لا صلة ويؤيده أنه قريء بحذفها و سبقوا حال بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين
وضعف بأن لا لا تكون صلة في موضع يجوز أن لا تكون كذلك وبأن المعهود كما قال أبو البقاء في المفعول الثاني لحسب في مثل ذلك أن تكون أن فيه مكسورة وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى أن يحذر من عاقبة النبذ لما أنه إيقاظ للعدو وتمكين لهم من الهرب والخلاص من أيدي المؤمنين وفيه نفي لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجه وآكده كما يشير إليه وذكر الجبائي أن لا يعجزون على معنى لا يعجزونك على أنه خطاب أيضا للنبي عليه الصلاة و السلام ولا يخلو عن حسن والظاهر أن عدم الإعجاز كيفما قدر المفعول إشارة إلى أنه سبحانه سيمكن منهم في الدنيا فما روي عن الحسن أن المعنى لا يفوتون الله تعالى حتى لا يبعثهم في الآخرة غريب منه إن صح وادعى الخازن أن المعنى على العموم على معنى لا يعجزون الله تعالى مطلقا إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بعذاب النار وذكر أن فيه تسلية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منه وهو ظاهر على القول بأن الآية نزلت فيمن أفلت من فل المشركين وروي ذلك عن الزهري وقريء يعجزون بالتشديد
وقرأ ابن محيصن يعجزون بكسر النون بتقدير يعجزونني فحذفت إحدى النونين للتخفيف والياء إكتفاء بالكسرة ومثله كثير في الكتاب وأعدوا لهم خطاب لكافة المؤمنين لما أن المأمور به من وظائف الكل أي أعدوا لقتال الذين نبذ إليهم العهد وهيئوا لحرابهم كما يقتضيه السباق أو لقتال الكفار على الإطلاق وهو الأولى كما يقتضيه ما بعده ما استطعتم من قوة أي من كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان وأطلق عليه القوة مبالغة وإنما ذكر هذا لأنه لم يكن له في بدر إستعداد تام فنبهوا على أن النصر من غير إستعداد لا يتأتى في كل زمان وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير القوة بأنواع الأسلحة وقال عكرمة : هي الحصون والمعاقل وفي رواية أخرى عنه أنها ذكور الخيل
وأخرج أحمد ومسلم وخلق كثير عن عقبة بن عامر الجهني قال : سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول
(10/24)

وهو على المنبر : وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة إلا أن القوة الرمي قالها ثلاثا والظاهر العموم إلا أنه عليه الصلاة و السلام خص الرمي بالذكر لأنه أقوى ما يتقوى به فهو من قبيل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم الحج عرفة
وقد مدح عليه الصلاة و السلام الرمي وأمر بتعلمه في غير ما حديث وجاء عنه عليه الصلاة و السلام كل شيء من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة انتضالك بقوسك وتأديبك فرسك وملاعبتك أهلك فإنها من الحق وجاء في رواية أخرجها النسائي وغيره كل شيء ليس من ذكر الله تعالى فهو لغو وسهو إلا أربع خصال مشي الرجل بين الغرضين وتأديب فرسه وملاعبته أهله وتعليم السباحة وجاء أيضا انتضلوا واركبوا وأن تنتضلوا أحب إلي إن الله تعالى ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه محتسبا والمعين به والرامي به في سبيل الله تعالى
وأنت تعلم أن الرمي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو لأنهم إستعملوا الرمي بالبندق والمدافع ولا يكاد ينفع معهما ما نبل وإذا لم يقابلوا بالمثل عم الداء العضال واشتد الوبال والنكال وملك البسيطة أهل الكفر والضلال فالذي أراه والعلم عند الله تعالى تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين وحماة الدين ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه مقامه في الذب عن بيضة الإسلام ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه إلا سببا للفوز بالجنة إن شاء الله تعالى ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله سبحانه : وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة ومن رباط الخيل الرباط قيل : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله تعالى على أن فعال بمعنى مفعول أو مصدر سميت به يقال : ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا واعترض بأنه بلزم على ذلك إضافة الشيء لنفسه
ورد بأن المراد أن الرباط بمعنى المربوط مطلقا إلا أنه استعمل في الخيل وخص بها فالإضافة باعتبار المفهوم الأصلي وأجاب القطب بأن الرباط لفظ مشترك بين معاني الخيل وانتظار الصلاة بعد الصلاة والإقامة على جهاد العدو بالحرب ومصدر رابطت أي لازمت فاضيف إلى أحد معانيه للبيان كما يقال : عين الشمس وعين الميزان قيل : ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركا وإذا كانت الإضافة من إضافة المطلق إلى المقيد فهي على معنى من التبعيضية وجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال أو جمع ربط ككعب وكعاب وكلب وكلاب وعن عكرمة تفسيره باناث الخيل وهو كتفسيره القوة بما سبق قريبا بعيد وذكر ابن المنير أن المطابق للرمي أن يكون الرباط على بابه مصدرا وعلى تفسير القوة بالحصون يتم التناسب بينه وبين رباط الخيل لأن العرب سمت الخيل حصونا وهي الحصون التي لا تحاصر كما في قوله : ولقد علمت على تجنبي الردا أن الحصون الخيل لا مدر القرى وقال
وحصني من الأحداث ظهر حصاني
وقد جاء مدحها فيما لا يحصى من الأخبار وصح الخيل معقود في نواصها الخير إلى يوم القيامة
وأخرج أحمد عن معقل بن يسار والنسائي عن أنس لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد النساء من الخيل وميز صلى الله تعالى عليه وسلم بعض أصنافها على بعض فقد أخرج أبو عبيدة عن الشعبي في حديث رفعه التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الأرثم المحجل الثلاث المطلق اليد اليمنى
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يمن الخيل في شقرها وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله
(10/25)

صلى الله تعالى عليه وسلم يكره الشكال من الخيل واختلف في تفسيره ففي النهاية الشكال في الخيل أن تكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة تشبيها بالشكال الذي يشكل به الخيل لأنه يكون في ثلاث قوائم غالبا وقيل : هو أن تكون الواحدة محجلة والثلاث مطلقة وقيل : هو أن تكون إحدى يديه وإحدى رجليه من خلاف محجلتين وإنما كرهه عليه الصلاة و السلام تفاؤلا لأنه كالمشكول صورة ويمكن أن يكون جرب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة وقيل : إذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبه الشكال انتهى
ولا يخفى عليك أن حديث الشعبي يشكل على القول الأول إلا أن يقال : إنه يخصص عمومه وأن حديث التفاؤل غير ظاهر والظاهر التشاؤم وقد جاء إنما الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأة والدار وحمله الطيبي على الكراهة التي سببها ما في هذه الأشياء من مخالفة الشرع أو الطبع كما قيل شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وشؤم المرأة عقمها وسلاطة لسانها وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها لكن قال جلال السيوطي في فتح المطلب المبرور : إن حديث التشاؤم بالمرأة والدار والفرس قد إختلف العلماء فيه هل هو على ظاهره أو مؤول والمختار أنه على ظاهره وهو ظاهر قول مالك انتهى ولا يعارضه ما صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : ذكر الشؤم عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة و السلام : إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس فإنه ليس نصافي إستثناء نقيض المقدم وأن حمله عياض على ذلك لإحتمال أن يكون على حد قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : قد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه عمر بن الخطاب وقد ذكروا هناك أن التعليق للدلالة على التأكيد والإختصاص ونظيره في ذلك إن كان لي صديق فهو زيد فإن قائله لا يريد به الشك في صداقة زيد بل المبالغة في أن الصداقة مختصة به لا تتخطاه إلى غيره ولا مخطور في إعتقاد ذلك بعد إعتقاد أن المذكورات أمارات وأن الفاعل هو الله تبارك وتعالى وقرأ الحسن ومن ربط الخيل بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطف ما ذكر على القوة بناء على المعنى الأول لها للإيذان بفضلها على سائر أفرادها كعطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم السلام ترهبون به أي تخوفون به وعن الراغب أن الرهبة والرهب مخافة مع تحرز واضطراب وعن بعقوب أنه قرأ ترهبون بالتشديد
وقرأ ابن عباس ومجاهد تخزون والضمير المجرور لما استطعتم أو للإعداد وهو الأنسب والجملة في محل النصب على الحالية من فاعل أعدوا أي أعدوا مرهبين به أو من الموصول كما قال أبو البقاء أو من عائده المحذوف أي أعدوا ما إستطعتموه مرهبا به وفي الآية إشارة إلى عدم تعين القتال لأنه قد يكون لضرب الجزية ونحوه مما يترتب على إرهاب المسلمين بذلك عدو الله المخالفين لأمره سبحانه وعدوكم المتربصين بكم الدوائر والمراد بهم على ما ذكره جمع من أهل مكة وهم في الغاية القصوى من العداوة وقيل : المراد هم وسائر كفار العرب وآخرين من دونهم أي من غيرهم من الكفرة وقال مجاهد : هم بنو قريظة وقال مقاتل وابن زيد : هم المنافقون وقال السدي : هم أهل فارس
وأخرج الطبراني وابو الشيخ وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر وجماعة عن يزيد بن عبدالله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : هم الجن ولا يخيل الشيطان إنسانا في داره
(10/26)

فرس عتيق وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا واختاره الطبري وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه وقوله سبحانه : لا تعلمونهم أي لا تعرفونهم بأعيانهم الله يعلمهم لا غير في غاية الظهور وله وجه على غير ذلك وإطلاق العلم على المعرفة شائع وهو المراد هنا كما عرفت ولذا تعدى إلى مفعول واحد وإطلاق العلم بمعنى المعرفة على الله تعالى لا يضر نعم منع الإكثر إطلاق المعرفة عليه سبحانه وجوزه البعض بناء على إطلاق العارف عليه تعالى في نهج البلاغة وفيه بحث وبالجملة لا حاجة إلى القول بأن إطلاق هنا للمشاكلة لما قبله وجوز أن يكون العلم على أصله ومفعوله الثاني محذوف أي لا تعلمونهم معادين أو محاربين لكم بل الله تعالى يعلمهم كذلك وهو تكلف واختار بعضهم أن المعنى لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وقال : إنه الأنسب بما تفيده الجملة الثانية من الحصر نظرا إلى تعليق المعرفة بالأعيان لأن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضا وهو مسلم نظرا إلى تفسيره وأما الإحتياج إليه في تفسير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ففيه تردد
وما تنفقوا من شيء جل أو قل في سبيل الله وهي وجوه الخير والطاعة ويدخل في ذلك النفقة في الأعداد السابق والجهاد دخولا أوليا وبعضهم خصص اعتبارا للمقام يوف إليكم أي يؤدي بتمامه والمراد يؤدى إليكم جزاؤه فالكلام على تقدير المضاف أو التجوز في الإسناد وأنتم لا تظلمون
6
- بترك الإثابة أو بنقص الثواب وفي التعبير عن ذلك بالظلم مع أن له سبحانه أن يفعل ما يشاء للمبالغة كما مر
وإن جنحوا الجنوح الميل ومنه جناح الطائر لأنه يتحرك ويميل ويعدى باللام وبإلى أي وإن مالوا للسلم أي الإستسلام والصلح وقرأ ابن عباس وأبو بكر بكسر السين وهو لغة فاجنح لها أي للسلم والتأنيث لحمله على ضده وهو الحرب فإنه مؤنث سماعي وقال أبو البقاء : إن السلم مؤنث ولم يذكر حديث الحمل وأنشدوا
السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جرع وقرأ الأشهب العقيلي فاجنح بضم النون على أنه من جنح يجنح كقعد يقعد وهي لغة قيس والفتح لغة تميم وهي الفصحى والآية قيل مخصوصة بأهل الكتاب فإنها كما قال مجاهد والسدي نزلت في بني قريظة وهي متصلة بقصتهم بناء على أنهم المعنيون بقوله تعالى : الذين عاهدت الخ والضمير في وأعدوا لهم لهم وقيل هي عامة للكفار لكنها منسوخة بآية السيف لأن مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم فإنه تقبل منهم الجزية وروي القول بالنسخ عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وصحح أن الأمر فيمن تقبل منهم الجزية على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا أو يجابوا إلى الهدنة أبدا وادعى بعضهم أنه لا يجوز للإمام أن يهادن أكثر من عشر سنين إقتداء برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه صالح أهل مكة هذه المدة ثم إنهم نقضوا قبل إنقضائها كما مر فتذكر وتوكل على الله أي فوض أمرك إليه سبحانه ولا تخف أن يظهروا لك السلم وجوانحهم مطوية على المكر والكيد إنه جل شأنه هو السميع فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع العليم
16
- فيعلم نياتهم
(10/27)

فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم وإن يريدوا أن يخدعوك بإظهار السلم فإن حسبك الله أي محسبك الله وكافيك وناصرك عليهم فلا تبال بهم فحسب صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل والكاف في محل جر كما نص عليه غير واحد وأنشدوا لجرير : إني وجدت من المكارم حسبكم وأن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا وقال الزجاج : إنه اسم فعل بمعنى كفاك والكاف في محل نصب وخطأه فيه أبو حيان لدخول العوامل عليه وإعرابه في نحو بحسبك درهم ولا يكون إسم فعل هكذا هو عز و جل الذي أيدك بنصره إستئناف مسوق لتعليل كفايته تعالى إياه صلى الله تعالى عليه وسلم فإن تأييده عليه الصلاة و السلام فيما سلف على الوجه الذي سلف من دلائل تأييده صلى الله تعالى عليه وسلم فيما سيأتي أي هو الذي أيدك بإمداده من عنده بلا واسطة أو بالملائكة مع خرقه للعادات وبالمؤمنين من المهاجرين والأنصار على ما هو المتبادر
وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه والنعمان بن بشير وابن عباس والسدي أنهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم وألف بين قلوبهم مع ما جبلوا عليه كسائر العرب من الحمية والعصبية والإنطواء على الضغينة والتهالك على الإنتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة
وقيل : إن الأنصار وهم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب ما أهلك ساداتهم ودق جماجمهم ولم يكن لبغضائهم أمد وبينهم التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس فأنساهم الله تعالى ما كان بينهم فاتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا وما ذاك إلا بلطيف صنعه تعالى وبليغ قدرته جل وعلا واعترض هذا القول بأنه ليس في السياق قرينة عليه وأجيب بأن كون المؤمنين مؤيدا بهم يشعر بكونهم أنصارا ولا يخفى ضعفه ولا تجد له أنصارا وبالجملة ما وقع من التأليف من أبهر معجزاته عليه الصلاة و السلام لو أنفقت ما في الأرض جميعا أي لتأليف ما بينهم ما ألفت بين قلوبهم لتناهي عداوتهم وقوة أسبابها والجملة إستئناف مقرر لما قبله ومبين لعزة المطلب وصعوبة المأخذ والخطاب لكل واقف عليه لأنه لا مبالغة في إنتفاء ذلك من منفق معين وذكر القلوب للإشعار بأن التأليف بينها لا يتسنى وإن أمكن التأليف ظاهرا ولكن الله جلت قدرته ألف بينهم قلبا وقالبا بقدرته البالغة إنه عزيز كامل القدرة والغلبة لا يستعصي عليه سبحانه شيء مما يريد حكيم يعلم ما يليق تعلق الإرادة به فيوجده بمقتضى حكمته عز و جل ومن آثار عزته سبحانه تصرفه بالقلوب الأبية المملوءة من الحمية الجاهلية ومن آثار حكمته تدبير أمورهم على وجه أحدث فيهم التواد والتحاب فاجتمعت كلمتهم وصاروا جميعا كنانة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذابين عنه بقوس واحدة والجملة على ما قال الطيبي كالتعليل للتأليف هذا ومن باب الإشارة في الآيات واعلموا أنما غنمتم من شيء إلى قوله سبحانه : والله شديد العقاب طبقه بعض العارفين على ما في الأنفس فقال : واعلموا أي أيها القوى الروحانية أنما غنمتم من شيء من العلوم النافعة فأن لله خمسه وهي كلمة التوحيد التي هي الأساس الأعظم للدين وللرسول الخاص وهو القلب ولذي القربى الذي هو السر واليتامى من القوة النظرية والعلمية والمساكين من القوى
(10/28)

النفسانية وابن السبيل الذي هو النفس السالكة الداخلة في الغربة السائحة في منازل السلوك النائية عن مقرها الأصلي باعتبار التوحيد التفصيلي والأخماس الأربعة الباقية بعد هذا الخمس من الغنيمة تقسم على الجوارح والأركان والقوى الطبيعية إن كنتم آمنتم بالله تعالى الإيمان الحقيقي جمعا وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان وقت التفرقة بعد الجمع تفصيلا يوم التقى الجمعان من فريقي القوى الروحانية والنفسانية عند الرجوع إلى مشاهدة التفصيل في الجمع والله على كل شيء قدير فيتصرف فيه حسب مشيئته وحكمته إذ أنتم بالعدوة الدنيا أي القريبة من مدينة العلم ومحل العقل الفرقاني وهم بالعدوة القصوى أي البعيدة من الحق والركب أي ركب القوى الطبيعية الممتارة أسفل منكم معشر الفريقين ولو تواعدتم اللقاء للمحاربة من طريق العقل دون طريق الرياضة لاختلفتم في الميعاد لكون ذلك أصعب من خرط القتاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا مقدرا محققا فعل ذلك ليهلك من هلك عن بينة وهي النفس الملازمة للبدن الواجب الفناء ويحيى من حي عن بينة وهي الروح المجردة المتصلة بعالم القدس الذي هو معدن الحياة الحقيقية الدائم البقاء وبينة الأول تلك الملازمة وبينة الثاني ذلك التجرد والإتصال إذ يريكهم الله أيها القلب في منامك وهو وقت تعطل الحواس الظاهرة وهدو القوى البدنية قليلا أي قليل القدر ضعاف الحال ولو أراكهم كثيرا في حال غلبة صفات النفس لفشلتم ولتنازعتم في الأمر أمر كسرها وقهرها لإنجذاب كل منكم إلى جهة ولكن الله سلم من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته إنه عليم بذات الصدور أي بتحقيقها فيثبت علمه بما فيها من باب الأولى ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم وهم القوى النفسانية خرجوا من مقارهم وحدودهم بطرا فخرا وأشرا ورئاء الناس وإظهارا للجلادة
وقال بعضهم : حذر الله تعالى بهذه الآية أولياؤه عن مشابهة أعدائه في رؤية غيره سبحانه ويصدون عن سبيل الله هو التوحيد والمعرفة وإذ زين لهم الشيطان أي شيطان الوهم أعمالهم في التغلب على مملكة القلب وقواه وقال لا غالب لكم اليوم من الناس أوهمهم تحقيق أمنيتهم بأن لا غالب لكم من ناس الحواس وكذا سائر القوى وإني جار لكم أمدكم وأقويكم وأمنعكم من ناس القوى الروحانية فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه لشعوره بحال القوى الروحانية وغلبتها لمناسبته إياها من حيثية إدراك المعاني وقال إني بريء منكم لأني لست من جنسكم إني أرى ما لا ترون من المعاني ووصول المدد إليهم من سماء الروح وملكوت عالم القدس إني أخاف الله سبحانه لشعور ببعض أنواره وقهره وذكر الواسطي بناء على أن المراد من الشيطان الظاهر أن اللعين ترك ذنب الوسوسة إذ ذاك لكن ترك الذنب إنما يكون حسنا إذا كان إجلالا وحياء من الله تعالى لا خوفا من البطش فقط وهو لم يخف إلا كذلك والله شديد العقاب إذ صفاته الذاتية والفعلية في غاية الكمال اه بأدنى تغيير وزيادة وذكر أن الفائدة في مثل هذا التأويل تصوير طريق السلوك للتنشيط في الترقي والعروج ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا وهم الذين غلبت عليهم صفات النفس الملائكة أي ملائكة القهر والعذاب يضربون وجوههم لإعراضهم عن عالم الأنوار ومزيد الكبر والعجب وأدبارهم لميلهم إلى عالم الطبيعة ومضاعف الشهوة والحرص ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق وهو عذاب الحرمان وفوات المقصود ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم أي حتى يفسدوا إستعدادهم فلا تبقى لهم مناسبة للخير وحينئذ يغير الله سبحانه النعمة
(10/29)

إلى النقمة لطلبهم إياها بلسان الإستعداد وإلا فالله تعالى أكرم من أن يسلب نعمة شخص مع بقاء إستحقاقها فيه إن شر الدواب عند الله الذين كفروا لجهلهم بربهم وعصيانهم له دون سائر الدواب فهم لا يؤمنون لغلبة شقاوتهم ومزيد عتوهم وغيهم الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة من مرات المعاهدة لأن ذلك شنشنة فيهم مع مولاهم ألا ترى كيف نقضوا عهد التوحيد الذي أخذ منهم في منزل ألست بربكم وهم لا يتقون العار ولا النار وأعدوا لهم ماإستطعتم من قوة قال أبو على الروزباري : القوة هي الثقة بالله تعالى وقال بعضهم : هي الرمي بسهام التوجه إلى الله تعالى عن قسي الخضوع والإستكانة هو الذي أيدك بنصره الذي لم يعهد مثله وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم بجذبها إليه تعالى وتخليصها مما يوجب العداوة والبغضاء أو لكشفه سبحانه لها عن حجب الغيب حتى تعارفوا فيه والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم لصعوبة الأمر وكثافة الحجاب ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم والتأليف من آثار ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل يا أيها النبي شروع في بيان كفايته تعالى إياه عليه الصلاة و السلام في جميع أموره وحده أو مع أمور المؤمنين أو في الأمور المتعلقة بالكفار كافة إثر بيان الكفاية في مادة خاصة وتصدير الجملة بحرفي النداء والتنبيه للنداء والتنبيه على الإعتناء بمضمونها وإيراده عليه الصلاة و السلام بعنوان النبوة للإشعار بعلية الحكم كأنه قيل : يا أيها النبي حسبك الله أي كافيك في جميع أمورك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحراب لنبوتك
ومن اتبعك من المؤمنين قال الزجاج : في محل النصب على المفعول معه كقوله على بعض الروايات : فحسبك والضحاك سيف مهند إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا وتعقبه أبو حيان بأنه مخالف لكلام سيبويه فإنه جعل زيدا في قولهم : حسبك وزيدا درهم منصوبا بفعل مقدر أي وكفى زيدا درهم وهو من عطف الجمل عنده انتهى وأنت تعلم أن سيبويه كما قال ابن تيمية لأبي حيان لما احتج عليه بكلامه حين أنشد له قصيدة فغلطه فيها ليس نبي النحو فيجب إتباعه وقال الفراء : إنه يقدر نصبه على موضع الكاف واختاره ابن عطية وورده السفاقسي بأن إضافته حقيقية لا لفظية فلا محل له اللهم إلا أن يكون من عطف التوهم وفيه ما فيه
وجوز أن يكون في محل الجر عطفا على الضمير المجرور وهو جائز عند الكوفيين بدون إعادة الجار ومنعه البصريون بدون ذلك لأنه كجزء الكلمة فلا يعطف عليه وأن يكون في محل رفع إما على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي ومن اتبعك من المؤمنين كذلك أي حسبهم الله تعالى وأما على أنه خبر مبتدأ محذوف أي وحسبك من اتبعك وإما على أنه عطف على الإسم الجليل واختاره الكسائي وغيره وضعف بأن الواو للجمع ولا يحسن ههنا كما لم يحسن في ما شاء الله تعالى وشئت والحسن فيه ثم وفي الأخبار ما يدل عليه اللهم إلا أن يقال بالفرق بين وقوع ذلك منه تعالى وبين وقوعه منا والآية على ما روي عن الكلبي نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال والظاهر شمولها للمهاجرين والأنصار وعن الزهري أنها نزلت في الأنصار
وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن جبير وأبو الشيخ عن ابن المسيب أنها نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مكملا أربعين مسلما ذكورا وإناثا هن ست وحينئذ تكون مكية
(10/30)

و من يحتمل أن تكون بيانية وأن تكون تبعيضية وذلك للإختلاف في المراد بالموصول
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال بعد أن بين سبحانه الكفاية أمر جل شأنه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بترتيب بعض مباديها وتكرير الخطاب على الوجه المذكور لإظهار كمال الإعتناء بشأن المأمور به والتحريض الحث على الشيء
وقال الزجاج : هو في اللغة أن يحث الإنسان على شيء حتى يعلم منه أنه حارض أي مقارب للهلاك وعلى هذا فهو للمبالغة في الحث وزعم في الدر المصون أن ذلك مستبعد من الزجاج والحق معه ويؤيده ما قاله الراغب من أن الحرض يقال لما أشرف على الهلاك والتحريض الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض نحو قذيته أزلت عنه القذى ويقال : أحرضته إذا أفسدته نحو أقذيته إذا جعلت فيه القذى فالمعنى هنا يا أيها النبي بالغ في حث المؤمنين على قتال الكفار
وجوز أن يكون من تحريض الشخص وهو أن يسميه حرضا ويقال له : ما أراك إلا حرضا في هذا الأمر ومحرضا فيه ونحوه فسقته أي سميته فاسقا فالمعنى سمهم حرضا وهو من باب التهييج والإلهاب والمعنى الأول هو الظاهر وقريء حرص بالصاد المهملة من الحرص وهو واضح
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد العشرة والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا بعون الله تعالى وتأييده فالجملة خبرية لفظا إنشائية معنى والمراد ليصبرن الواحد لعشرة وليست بخبر محض وجعلها الزمخشري عدة من الله تعالى وبشارة وهو ظاهر في كونها خبرية والآية كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى منسوخة والنسخ في الخبر فيه كلام في الأصول على أنه قد ذكر الإمام أنه لو كان الكلام خبرا لزم أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ومعلوم أنه ليس كذلك والإعتراض عليه بأن التعليق الشرطي يكفي فيه ترتب الجزاء على الشرط في بعض الأزمان لا في كلها ليس بشيء كما بينه الشهاب وذكر الشرطية الثانية مع إنفهام مضمونها مما قبلها للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف وكذا يقال فيما يأتي
و يكن يحتمل أن يكون تاما والمرفوع فاعله و منكم حال منه أو متعلق بالفعل ويحتمل أن يكون ناقصا والمرفوع اسمه و منكم خبره وقوله تعالى : من الذين كفروا بيان للألف وقوله سبحانه : بأنهم قوم لا يفقهون
56
- متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر لا يقاتلون إحتسابا وإمتثالا لأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وإبتغاء لرضوانه كما يفعل المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية وإتباع خطوات الشيطان وإثارة ثائرة البغي والعدوان فلا يستحقون إلا القهر والخذلان وقال بعضهم : وجه التعليل بما ذكر أن من لا يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر لا يؤمن بالمعاد والسعادة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيا فيشح بها ولا يعرضها للزوال بمزاولة الحروب وإقتحام موارد الخطوب فيميل إلى ما فيه السلامة فيفير فيغلب وأما من إعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة الفانية وإنما السعادة هي الحياة الباقية فلا يبالي بهذه الحياة الدنيا
(10/31)

ولا يلتفت إليها فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح فيقوم الواحد من مثله مقام الكثير انتهى
وتعقب بأن كلام حق لكنه لا يلائم المقام الآن خفف عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما نزلت إن يكن منكم عشرون الخ شق ذلك على المسلمين إذ فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف وكان ذلك كما قيل بعد مدة وقيل : كان فيهم قلة في الإبتداء ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف وهل يعد ذلك نسخا أم لا قولان إختار مكي الثاني منهما وقال : إن الآية مخففة ونظير ذلك التخفيف على المسافر بالفطر وذهب الجمهور إلى الأول وقالوا : إن الآية ناسخة وثمرة الخلاف قيل تظهر فيما إذا قاتل واحد عشرة فقتل هل يأثم أم لا فعلى الأول لايأثم وعلى الثاني يأثم والضعف الطاريء بعد عدم القوة البدنية على الحرب لأنه قد صار فيهم الشيخ والعاجز ونحوهما وكانوا قبل ذلك طائفة منحصرة معلومة قوتهم وجلادتهم أو ضعف البصيرة والإستقامة وتفويض النصر إلى الله تعالى إذ حدث فيهم حديثو عهد بالإسلام ليس لهم ما للمتقدمين من ذلك وذكر بعضهم في بيان كون الكثرة سببا للضعف أن بها يضعف الإعتماد على الله تعالى والتوكل عليه سبحانه ويقوى جانب الإعتماد على الكثرة كما في حنين والأول هو الموجب للقوة كما يرشد إليه وقعة بدر ومن هنا قال النصراباذي : إن هذا التخفيف كان للأمة دون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه الذي يقول بك أصول وبك أحول وتقييد التخفيف بالآن ظاهر وأما تقييد علم الله تعالى به فبإعتبار تعلقه وقد قالوا : إن له تعلقا بالشيء قبل الوقوع وحال الوقوع وبعده وقال الطيبي : المعنى الآن خفف الله تعالى عنكم لما ظهر متعلق علمه أي كثرتكم التي هي موجب ضعفكم بعد ظهور قلتكم وقوتكم وقرأ أكثر القراء ضعفا بضم الضاد وهي لغة فيه كالفقر والمكث
ونقل عن الخليل أن الضعف بالفتح ما في الرأي والعقل وبالضم ما في البدن وقرأ أبو جعفر ضعفاء جمع ضعيف وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر يكن المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء إعتبارا للتأنيث اللفظي ووافقهم أبو عمرو ويعقوب في يكن في الآية الثانية لقوة التأنيث بالوصف بصابرة المؤنث وأما إن يكن منكم عشرون فالجميع على التذكير فيه نعم روي عن الأعرج أنه قرأ بالتأنيث والله مع الصابرين
66
- تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفي النظم الكريم صنعة الإحتباك قال في البحر : انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيدا في الجملة الأولى وهو صابرون وحذف نظيره من الثانية وأثبت قيدا في الثانية وهو من الذين كفروا وحذفه من الأولى ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختم الآية بقوله سبحانه : والله مع الصابرين مبالغة في شدة المطلوبية ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر إكتفاء بما قبله انتهى
وذكر الشهاب أنه بقي عليه أنه سبحانه ذكر في التخفيف بإذن الله وهو قيد لهما وأن قوله تعالى : والله مع الصابرين إشارة إلى تأييدهم وأنهم منصورون حتما لأن من كان الله تعالى معه لا يغلب وأنا أقول : لا يبعد أن يكون في قوله تعالى : والله مع الصابرين تحريض لهم على الصبر بالإشارة إلى أن أعداءهم إن صبروا كان الله تعالى معهم فأمدهم ونصرهم وبقي في هذا الكلام الجليل لطائف غير ما ذكر الله تعالى در التنزيل ما أعذب ماء فصاحته وأنضر رونق بلاغته ما كان لنبي قرأ أبو الدرداء وأبو حيوة للنبي بالتعريف والمراد به نبينا
(10/32)

صلى الله تعالى عليه وسلم وهو عليه الصلاة و السلام المراد أيضا على قراءة الجمهور عند البعض وإنما عبر بذلك تلطفا به صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لا يواجه بالعتاب ولذا قيل : إن ذاك على تقدير مضاف أي لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بدليل قوله تعالى الآتي : تريدون ولو قصد بخصوصه عليه الصلاة و السلام لقيل : تريد ولأن الأمور الواقعة في القصة صدرت منهم لا منه صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه نظر ظاهر والظاهر أن المراد على قراءة الجمهور العموم ولا يبعد إعتباره على القراءة الأخرى أيضا وهو أبلغ لما فيه من بيان أن ما يذكر سنة مطردة فيما بين الأنبياء عليهم السلام أي ما صح وما إستقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكون له أسرى قرأ أبو عمرو ويعقوب تكون بالتاء الفوقية إعتبارا لتأنيث الجمع وعن أبي جعفر أنه قرأ أيضا أسارى قال أبو على : وقراءة الجماعة أقيس لأن أسيرا فعيل بمعنى مفعول والمطرد فيه جمعه على فعلى كجريح وجرحى وقتيل وقتلى ولذا قالوا في جمعه على أسارى : إنه على تشبيه فعيل بفعلان ككسلان وكسالى وهذا كما قالوا كسلى تشبيها لفعلان بفعيل ونسب ذلك إلى الخليل وقال الأزهري : إنه جمع أسرى فيكون جمع الجمع واختار ذلك الزجاج وقال : إن فعلى جمع لكل من أصيب في بدنه أو في عقله كمريض ومرضى وأحمق وحمقى حتى يثخن في الأرض أي يبالغ في القتل ويكثر منه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولي أهله وأصل معنى الثخانة الغلظ والكثافة في الأجسام ثم استعير للمبالغة في القتل والجراحة لأنها لمنعها من الحركة صيرته كالثخين الذي لا يسيل وقيل : إن الإستعارة مبنية على تشبيه المبالغة المذكورة بالثخانة في أن في كل منهما شدة في الجملة وذكر في الأرض للتعميم وقريء يثخن بالتشديد للمبالغة في المبالغة تريدون عرض الدنيا إستئناف مسوق للعتاب والعرض ما لإثبات له ولو جسما وفي الحديث الدنيا عرض حاضر أي لا ثبات لها ومنه إستعاروا العرض المقابل للجوهر أي تريدون حطام الدنيا بأخذكم الفدية وقريء يريدون بالياء والظاهر أن ضمير الجمع لأصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله يريد الآخرة أي يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل الآخرة من الطاعة بإعزاز دينه وقمع أعدائه فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وذكر نيل في الإحتمال الثاني قيل : للتوضيح لا لتقدير مضافين والإرادة هنا بمعنى الرضا وعبر بذلك للمشاكلة فلا حجة في الآية على عدم وقوع مراد الله تعالى كما يزعمه المعتزلة وزيادة لكم لأنه المراد وقرأ سليمان بن جماز المدني الآخرة بالجر وخرجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جره وقدره أبو البقاء عرض الآخرة وهو من باب المشاكلة وإلا فلا يحسن لأن أمور الآخرة مستمرة ولو قيل : إن المضاف المحذوف على القراءة الأولى ذلك لذلك أيضا لم يبعد وقدر بعضهم هنا كما قدرنا هناك من الثواب أو السبب ونظير ما ذكر قوله : أكل امريء تحسبين أمرأ ونار توقد في الليل نارا وفي رواية من جر نار الأولى وأبو الحسن يحمله على العطف على معمولي عاملين مختلفين والله عزيز يغلب أولياءه على أعدائه حكيم
76
- يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفدية حيث كان الإسلام غضا وشوكة أعدائه قوية وخير بينه وبين المن بقوله تعالى : فإما منا بعد وإما فداء لما تحولت الحال واستغلظ زرع الإسلام واستقام على سوقه
(10/33)

أخرج أحمد والترمذي وحسنه والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبوبكر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله تعالى أن يتوب عليهم وقال عمر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم وقال عبدالله بن رواحة رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فاضرمه عليهم نارا فقال العباس وهو يسمع ما يقول : قطعت رحمك فدخل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا فقال أناس يأخذ بقول أبي بكر وقال أناس : يأخذ بقول عمر وقال أناس : يأخذ بقول عبدالله ابن رواحة فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال : من تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام إذ قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا أنتم عالة فلا يفلتن أحد إلا بفداء أو ضرب عنق فقال عبدالله رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله عليه الصلاة و السلام : إلا سهيل بن بيضاء
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال عمر رضي الله تعالى عنه : فهوى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال أبوبكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبوبكر قاعدان يبكيان قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت لبكائكما فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام : أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه صلى الله تعالى عليه وسلم
واستدل بالآية على أن الأنبياء عليهم السلام قد يجتهدون وأنه قد يكون الوحي على خلافه ولا يقرون على الخطأ وتعقب بأنها إنما تدل على ذلك لو لم يقدر في ما كان لنبي لأصحاب نبي ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر مع أن الأذن لهم فيما اجتهدوا فيه إجتهاد منه عليه الصلاة و السلام إذ لا يمكن أن يكون تقليدا لأنه لا يجوز له التقليد وأما إنها إنما تدل على إجتهاد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا إجتهاد غيره من الأنبياء عليهم السلام فغير وارد لأنه إذا جاز له عليه الصلاة و السلام جاز لغيره بالطريق الأولى وتمام البحث في كتب الأصول لكن بقي ههنا شيء وهو أنه قد جاء من إجتهد وأخطأ فله أجر ومن إجتهد وأصاب فله أجر إلى عشرة أجور فهل بين ما يقتضيه الخبر من ثبوت الأجر الواحد للمجتهد المخطيء وبين عتابه على ما يقع منه منافاة أم لا لم أر من تعرض لتحقيق ذلك وإذا قيل : بالأول لا يتم الإستدلال بالآية كما لا يخفى لولا كتاب من الله سبق قيل : أي لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعذب قوما قبل تقديم ما يبين لهم أمرا أو نهيا وروى ذلك
(10/34)

الطبراني في الأوسط وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ورواه أبو الشيخ عن مجاهد أو المخطيء في مثل هذا الإجتهاد وقيل : هو أن لا يعذبهم وروسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم أو أن لا يعذب أهل بدر رضي الله تعالى عنهم فقد روى الشيخان وغيرهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه في قصة حاطب وكان قد شهد بدرا : وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر وقال : إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وقريب من هذا ما روي عن مجاهد أيضا وابن جبير وزعم أن هذا قول بسقوط التكليف لا يصدر إلا عمن سقط عنه التكليف والعجب من الإمام الرازي كيف تفوه به لأن المراد أن من حضر بدرا من المؤمنين يوفقه الله تعالى لطاعته ويغفر له الذنب لو صدر منه ويثبته على الإيمان الذي ملأ به صدره إلى الموافاة لعظم شأن تلك الوقعة إذ هي أول وقعة أعز الله تعالى بها الإسلام وفاتحة للفتوح والنصر من الله عز و جل وليس الأمر في الحديث على حقيقته كما لا يخفى وقيل : هو أن الفدية التي أخذوها ستصير حلالا لهم واعترض بأن هذا لا يصلح أن يعد من موانع مساس العذاب فإن الحل اللاحق لا يرفع حكم الحرمة السابقة كما أن الحرمة اللاحقة كما في الخمر مثلا لا ترفع حكم الإباحة السابقة على أنه قادح في تهويل ما نعى عليهم من أخذ الفداء كما يدل عليه قوله سبحانه : لمسكم أي لأصابكم فيما أخذتم أي لأجل أخذكم أو الذي أخذتموه من الفداء عذاب عظيم لا يقادر قدره
وأجيب بأنه لا مانع من إعتبار كونها ستحل سببا للعفو ومانعا عن وقوع العذاب الدنيوي المراد بما في الآية وإن لم يعتبر في وقت من الأوقات كون المباح سيحرم سببا للإنتقام ومانعا من العفو تغليبا لجانب الرحمة على الجانب الآخر وحاصل المعنى أن ما فعلتم أمر عظيم في نفسه مستوجب للعذاب العظيم لكن الذي تسبب العفو عنه منع ترتب العذاب عليه إني سأحله قريبا لكم ومثل ذلك نظرا إلى رحمتي التي سبقت غضبي يصير سببا للعفو ومانعا عن العذاب وكأن الداعي لتكلف هذا الجواب أن ما ذكر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأخرجاهما البيهقي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا ولا يبعد عندي أن يكون المانع من مساس العذاب كل ما تقدم وفي ذلك تهويل لما نعى عليهم حيث منع من ترتب مساس العذاب عليه موانع جمة ولولا تلك الموانع الجمة لترتب وتعدد موانع شيء واحد جائز وليس كتعدد العلل وإجتماعها على معلول واحد شخصي كما بين في موضعهوبهذا يجمع بين الروايات المختلفة عن الحبر في بيان هذا الكتاب وذلك بأن يكون في كل مرة ذكر أمرا واحدا من تلك الأمور والتنصيص على الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه وليس في شيء من الروايات ما يدل على الحصر فافهم وقال بعضهم : إن المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم ونصركم لمسكم عذاب عظيم من أعدائكم بغلبتهم لكم وتسليطهم عليكم يقتلون ويأسرون وينهبون وفيه نظر لأنه إن أريد بهذه الغلبة المفروضة الغلبة في بدر فالأخذ الذي هو سببها إنما وقع بعد إنقضاء الحرب وحينئذ يكون مآل المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم لغلبكم الكفار قبل بسبب ما فعلتم بعد وهو كما ترى وإن أريد الغلبة بعد ذلك فهي قد مست القوم في أحد فإن أعداءهم قد قتلوا منهم سبعين عدد الأسرى وكان ما كان فلا يصح نفي المس حينئذ نعم أخرج ابن جرير عن محمد بن إسحق أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية : لو أنزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ لقوله : كان الإثخان في القتل أحب إلي وأخرجه ابن مردويه عن ابن عمر لكن لم يذكر فيه سعد بن معاذ وذلك يدل على أن المراد
(10/35)

بالعذاب عذاب الدنيا غير القتل مما لم يعهد لمكان نزل من السماء وحينئذ لا يرد أنه إستشهد منهم بعدتهم لأن الشهادة لا تعد عذابا لكن هذا لا ينفع ذلك القائل لأنه لم يفسر العذاب إلا بالغلبة وهي صادقة في مادة الشهادة فكلوا مما غنتم قال محيي السنة : روي أنه نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت هذه الآية فالمراد مما غنتم إما الفدية وإما مطلق الغنائم والمراد بيان حكم ما إندرج فيها من الفدية وإلا فحل الغنيمة مما عداها قد علم سابقا من قوله سبحانه : واعلموا أنما غنتم الخ بل قال بعضهم : إن الحل معلوم قبل ذلك بناء على ما في كتاب الأحكام أن أول غنيمة في الإسلام حين أرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبدالله بن جحش رضي الله تعالى عنه لبدر الأولى ومعه ثمانية رهط من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم فأخذوا عيرا لقريش وقدموا بها على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فاقتسموها وأقرهم على ذلك
ويؤيد القول بأن هذه الآية محللة للفدية ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مما هو نص في ذلك وقيل : المراد بما غنمتم الغنائم من غير إندراج الفدية فيها لأن القوم لما نزلت الآية الأولى إمتنعوا عن الأكل والتصرف فيها تزهدا منهم لا ظنا لحرمتها إذ يبعده أن الحل معلوم لهم مما مر وليس بالبعيد والقول بأن القول الأول مما يأباه سباق النظم الكريم وسياقه ممنوع ودون إثباته الموت الأحمر
والفاء للعطف على سبب مقدر أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مثلا وقيل : قد يستغنى عن العطف على السبب المقدر بعطفه على ما قبله لأنه بمعناه أي لا أؤاخذكم بما أخذتم من الفداء فكلوه وزعم بعضهم أن الأظهر تقدير دعوا والعطف عليه أي دعوا ما أخذتم فكلوا مما غنمتم وهو مبني على ما ذهب إليه من الأباء وبنحو هذه الآية تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة وضعف بأن الإباحة ثبتت هنا بقرينة أن الأكل إنما أمر به لمنفعتهم فلا ينبغي أن تثبت على وجه المضرة والمشقة وقوله تعالى : حلالا حال من ما الموصولة أو من عائدها المحذوف أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا وفائدة ذكره وكذا ذكر قوله تعالى : طيبا تأكيد الإباحة لما في العتاب من الشدة واتقوا الله في مخالفته إن الله غفور رحيم
96
- ولذا غفر لكم ذنبكم وأباح لكم ما أخذتموه وقيل : فيغفر لكم ما فرط منك من إستباحة الفداء قبل ورود الإذن ويرحمكم ويتوب عليكم إذا إتقيتموه يا أيها النبي قل لمن في أيديكم أي في ملكتكم وإستيلائكم كأن أيديكم قابضة عليهم من الأسرى الذين أخذتم منهم الفداء وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر من الأسارى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا إيمانا وتصديقا كما قال ابن عباس يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء
والآية على ما في رواية ابن سعد وابن عساكر نزلت في جميع أسارى بدر وكان فداء العباس منهم أربعين أوقية وفداء سائرهم عشرين أوقية وعن محمد بن سيرين أنه كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما وستة دنانير
وجاء في رواية أنها نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه وقد روي عنه أنه قال : كنت مسلما لكن إستكرهوني فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن يكن ما تذكر حقا فالله تعالى يجزيك فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فاد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحرث وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو فقلت : ما ذاك عندي يا رسول الله قال عليه الصلاة و السلام : فأين الذي دفنت أنت وأم الفضل فقلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في
(10/36)

وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبدالله وعبيدالله وقثم فقلت : وما يدريك فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أخبرني ربي فعند ذلك قال العباس : أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك رسول الله إنه لم يطلع على ذلك أحد إلا الله تعالى ولقد دفعته إليها في سواد الليلوروي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال بعد حين : أبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم بتأويل ما في قوله تعالى : ويغفر لكم والله غفور رحيم
7
- فإنه وعد بالمغفرة مؤكد بالإعتراض التذييلي وروي أنه قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفا فتوضأ صلى الله تعالى عليه وسلم وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان رضي الله تعالى عنه يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة والظاهر أن الآية عامة لسائر الأسارى على ما يقتضيه صيغة الجمع ولا يأبى ذلك رواية أنها نزلت في العباس لما قالوا من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
وقرأ الأعمش يثبكم خيرا والحسن وشيبة مما أخذ منكم على البناء للفاعل وإن يريدوا أي الأسرى خيانتك أي نقض ما عاهدوك عليه من إعطاء الفدية أو أن لا يعودوا لمحاربتك ولا إلى معاضدة المشركين ويجوز أن يكون المراد وإن يريدوا نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردة واستحباب دين آبائهم فقد خانوا الله من قبل بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ على كل عاقل بل إدعى بعضهم أنه الأقرب فأمكن منهم أي أقدرك عليهم حسبما رأيت في بدر فإن أعادوا الخيانة فاعلم أنه سيمكنك الله تعالى منهم أيضا فالمفعول محذوف وقوله سبحانه : فقد خانوا قائم مقام الجواب والجملة كلام مسوق من جهته تعالى لتسليته عليه الصلاة و السلام بطريق الوعد له صلى الله تعالى عليه وسلم والوعيد لهم والله عليم فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب حكيم
17
- يفعل كل ما يفعله حسبما تقتضيه حكمته البالغة إن الذين آمنوا وهاجروا هم المهاجرون الذين هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله لله عز و جل وجاهدوا بأموالهم فصرفوها للكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج من المسلمين وأنفسهم بمباشرة القتال وإقتحام المعارك والخوض في لجج المهالك في سبيل الله قيل : هو متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجروا وجاهدوا ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا وأتم دفعا للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال وقيل : ترتيب هذه المتعاطفات في الآية على حسب الوقوع فإن الأول الإيمان ثم الهجرة ثم الجهاد بالمال لنحو التأهب للحرب ثم الجهاد بالنفس والذين ءاووا ونصروا هم الأنصار آووا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وآثروهم على أنفسهم ونصروهم على أعدائهم أولئك أي المذكورين الموصوفون بالصفات الفاضلة وهو مبتدأ وقوله تعالى : بعضهم إما بدل منهم وقوله سبحانه : أولياء بعض خبر وإما مبتدأ ثان و أولياء خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أي بعضهم أولياء بعض في الميراث على ما هو المروي عن ابن عباس رضي الله
(10/37)

تعالى عنهما والحسن ومجاهد والسدي وقتادة فإنهم قالوا : آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري وإستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة فالولاية على هذا الوراثة المسببة عن القرابة الحكمية
والآية منسوخة وقال الأصم : هي محكمة والمراد الولاية بالنصرة والمظاهرة وكأنه لم يسمع قوله تعالى : فعليكم النصر بعد نفي موالاتهم في الآية الآتية والذين ءامنوا ولم يهاجروا كسائر المؤمنين ما لكم من ولايتهم من شيء أي توليهم في الميراث وإن كانوا أقرب ذوي قرابتكم حتى يهاجروا وحينئذ يثبت لهم الحكم السابق وقرأ حمزة والأعمش ويحيى بن وثاب ولايتهم بالكسر وزعم الأصمعي أنه خطأ وهو المخطيء فقد تواترت القراءة بذلك وجاء في اللغة الولاية مصدرا بالفتح والكسر وهما لغتان فيه بمعنى واحد وهو القرب الحسي والمعنوي كما قيل وقيل : بينهما فرق فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه والكسر ولاية السلطان ونسب ذلك إلى أبي عبيدة وأبي الحسن وقال الزجاج : هي بالفتح النصرة والنسب وبالكسر للإمارة ونقل عنه أنه ذهب إلى أن الولاية لإحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعات ولذا جاء فيها الكسر كالإمارة وذلك لما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة من أن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ويجعل فيه كاللفافة والعمامة وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال كالكتابة والخياطة والزراعة والحراثة وما ذكره من حديث التشبيه بالصناعات يحتمل أن يكون من الواضع بمعنى أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك فتكون حقيقة ويحتمل أن يكون من غيره على طرز تشبيه زيد بالأسد فحينئذ يكون هناك إستعارة وهي كما قال بعض الجلة : إستعارة أصلية لوقوعها في المصدر دون المشتق وإن كان التصرف في الهيئة لا في المادة ومنه يعلم أن الإستعارة الأصلية قسمان ما يكون التجوز في مادته وما يكون في هيئته وإن إستنصروكم في الدين فعليكم النصر أي فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين أعداء الله تعالى وأعدائكم إلا على قوم منهم بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليه لما في ذلك من نقض عهدهم والله بما تعملون بصير
27
- فلا تخالفوا أمره ولا تتجاوزوا ما حده لكم كي لا يحل عليكم عقابه والذين كفروا بعضهم أولياء بعض آخر منهم أي في الميراث كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال قتادة وابن إسحق : في المؤازرة وهذا بمفهومه مفيد لنفي الموارثة والمؤازرة بينهم وبين المسلمين وإيجاب ضد ذلك وإن كانوا أقارب ومن هنا ذهب الجمهور إلى أنه لا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما وأخرج ذلك ابن مردويه والحاكم وصححه عن أسامة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال ذلك وقرأ الآية ومن الناس من قال : إن المسلم يرث الكافر دون العكس وليس مما يعول عليه والفتوى على الأول كما تحقق في محله إلا تفعلوه أي إلا تفعلوا ما أمرتم به في الآيتين وقيل : الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو الإرث أو النصر أو الإستنصار المفهوم من الفعل والأولى ما ذكرنا وفي الأخير ما لا يخفى من التكلف
تكن فتنة في الأرض أي تحصل فتنة عظيمة فيها وهي اختلاف الكلمة وضعف الإيمان وظهور
(10/38)

الكفر وفساد كبير
37
- وهو سفك الدماء على ما روي عن الحسن فالمراد فساد كبير فيها وقيل : المراد في الدارين وهو خلاف الظاهر وعن الكسائي أنه قرأ كثير بالمثلثة
والذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار بأنهم الفائزون بالقدح المعلى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله سبحانه : لهم مغفرة لا يقادر قدرها ورزق كريم
47
- أي لا تبعة له ولا منة فيه وقيل : هو الذي لا يستحيل نجوا في الأجواف وهو رزق الجنة
والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم أي في بعض أسفاركم والمراد بهم قيل : المؤمنون المهاجرون من بعد صلح الحديبية وهي الهجرة الثانية وقيل : من بعد نزول الآية وقيل : من بعد غزوة بدر والأصح أن المراد بهم الذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فأولئك منكم أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار وفيه إشارة إلى أن السابقين هم السابقون في الشرف وأن هؤلاء دونهم فيه ويؤيد أمر شرفهم توجيه الخطاب إليهم بطريق الإلتفات وبهذا القسم صارت أقسام المؤمنين أربعة والتوارث إنما هو في القسمين الأولين على ما علمت وزعم الطبرسي أن ذلك الحكم يثبت لهؤلاء أيضا فيكون التوارث بين ثلاثة أقسام وجعل معنى منكم من جملتكم وحكمهم حكمكم في وجوب الموالاة والموارثة والنصرة ولم أره لأصحابنا
وألو الأرحام أي ذووا القرابة بعضهم أولى ببعض آخر منهم في التوريث من الأجانب في كتاب الله أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ أخرج الطيالسي والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب وأخرج ابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه قال : توارث المسلمون لما قدموا المدينة بالهجرة ثم نسخ ذلك بهذه الآية واستدل بها على توريث ذوي الأرحام الذين ذكرهم الفرضيون وذلك لأنها نسخ بها التوارث بالهجرة ولم يفرق بين العصبات وغيرهم فيدخل من لا تسمية لهم ولا تعصيب وهم هم وبها أيضا احتج ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم على أن ذوي الأرحام أولى من مولى العتاقة ولما سمع الحبر قال : هيهات هيهات أين ذهب إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الأعراب فنزلت وخالفه سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضا على ما قيل وأنت تعلم أنه إذا أريد بكتاب الله تعالى آيات المواريث السابقة في سورة النساء أو حكمه سبحانه المعلوم هناك لا يبقى للإستدلال على توريث ذوي الأرحام بالآية وجه وكذا ما قاله ابن الفرس من أنه قد يستدل بها لمن قال : إن القريب أولى بالصلاة على الميت من الوالي إن الله بكل شيء عليم
57
- ومن جملته ما في تعليق التوارث بالقرابة الدينية أولا على الوجه السابق وبالقرابة النسبية آخرا من الحكم البالغة هذا ومن باب الإشارة والذين آمنوا الإيمان العلمي وهاجروا من أوطان نفوسهم وجاهدوا بأموالهم بإنفاقها حتى تخللوا بعباء التجرد والإنقطاع إلى الله عز و جل وأنفسهم باتعابها بالرياضة ومحاربة الشيطان وبذلها في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه والذين آووا إخوانهم في الطريق ونصروهم على عدوهم بالإمداد أولئك بعضهم أولياء بعض بميراث الحقائق والعلوم النافعة والذين آمنوا ولم يهاجروا
(10/39)

عن وطن النفس مالكم من ولايتهم من شيء فلا توارث بينكم وبينهم إذ ما عندكم لا يصلح لهم ما لم يستعدوا له وما عندهم يأباه إستعدادكم حتى يهاجروا كما هاجرتم فحينئذ يثبت التوارث بينكم وبينهم وإن إستنصروكم في الدين فعليكم النصر فإن الدين مشترك وعلى هذا الطرز يقال في باقي الآيات والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق
سورة التوبة
9 - مدنية كما روي عن ابن عباس وعبدالله بن الزبير وقتادة وخلق كثير وحكى بعضهم الإتفاق عليه
وقال ابن الفرس : هي كذلك إلا آيتين منها لقد جاءكم رسول من أنفسكم الخ وهو مشكل بناء على مافي المستدرك عن أبي بن كعب وأخرجه أبو الشيخ في تفسيره عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن آخر آية نزلت لقد جاءكم الخ ولا يتأتى هنا ما قالوه في وجه الجمع بين الأقوال المختلفة في آخر ما نزل واستثنى آخرون ما كان للنبي الآية بناء على ما ورد أنها نزلت في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لأبي طالب : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك وقد نزلت كما قال ابن كيسان على تسع من الهجرة ولها عدة أسماء التوبة لقوله تعالى فيها : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله سبحانه : وعلى الثلاثة الذين خلفوا والفاضحة أخرج أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما عن ابن جبير قال : قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما سورة التوبة قال : التوبة بل هي الفاضحة ما زالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى أحد منا إلا ذكر فيها وسورة العذاب أخرج الحاكم في مستدركه عن حذيفة قال : التي يسمون سورة التوبة هي سورة العذاب
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا ذكر له سورة براءة وقيل سورة التوبة قال : هي إلى العذاب أقرب ما أقلعت عن الناس حتى ما كادت تدع منهم أحدا والمقشقشة أخرج ابن مردويه وغيره عن زيد بن أسلم أن رجلا قال لعبد الله : سورة التوبة فقال ابن عمر : وأيتهن سورة التوبة فقال براءة فقال رضي الله تعالى عنه : وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي ما كنا ندعوها إلا المقشقشة أي المبرئة ولعله أراد عن النفاق والمنقرة أخرج أبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال : كانت براءة تسمى المنقرة نقرت عما في قلوب المشركين والبحوث بفتح الباء صيغة مبالغة من البحث بمعنى اسم الفاعل كما روى ذلك الحاكم عن المقداد والمبعثرة أخرج ابن المنذر عن محمد بن إسحق قال : كانت براءة تسمى في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس وظن أنه تصحيف المنقرة من بعد الظن
وذكر ابن الفرس أنها تسمى الحافرة أيضا لأنها حفرت عن قلوب المنافقين وروي ذلك عن الحسن والمثيرة كما روي عن قتادة لأنها أثارت المخازي والقبائح والمدمدمة كما روي عن سفيان بن عيينة والمخزية والمنكلة والمشردة كما ذكر ذلك السخاوي وغيره وسورة براءة فقد أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب وغيرهما عن أبي عطية الهمداني قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور وهي مائة وتسع وعشرون عند الكوفيين ومائة وثلاثون عند الباقين
ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما علمت وفي هذه قيمة
(10/40)

الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء الله تعالى وفي الأولى أيضا ذكر العهود وهنا نبذها وأنه تعالى أمر في الأولى بالإعداد فقال سبحانه : وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة ونعى هنا على المنافقين عدم الإعداد بقوله عز و جل : ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة وأنه سبحانه ختم الأولى بإيجاب أن يوالي المؤمنين بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية وصرح جل شأنه في هذه بهذا المعنى بقوله تبارك وتعالى : براءة من الله ورسوله الخ إلى غير ذلك من وجوه المناسبة
وعن قتادة وغيره أنها مع الأنفال سورة واحدة ولهذا لم تكتب بينهما البسملة وقيل : في وجه عدم كتابتها أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في كونها سورة أو بعض سورة ففصلوا بينها وبين الأنفال رعاية لمن يقول هما سورتان ولم يكتبوا البسملة رعاية لمن يقول هما سورة واحدة والحق أنهما سورتان إلا أنهم لم يكتبوا البسملة بينهما لما رواه أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن علي كرم الله تعالى وجهه من أن البسملة أمان وبراءة نزلت بالسيف ومثله عن محمد ابن الحنفية وسفيان بن عيينة ومرجع ذلك إلى أنها لم تنزل في هذه السورة كأخواتها لما ذكر ويؤيد القول بالإستقلال تسميتها بما مر
واختار الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أنهما سورة واحدة وأن الترك لذلك قال في الباب الحادي والثلثمائة بعد كلام : وأما سورة التوبة فاختلف الناس فيها هل هي سورة مستقلة كسائر السور أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة فإنه لا يعرف كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ولم تجيء هنا فدل على أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه وإن كان لتركها وجه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ولكن ماله تلك القوة بل هو وجه ضعيف
وسبب ضعفه أنه في الاسم الله من البسملة ما يطلبه والبراءة إنما هي من الشريك لا من المشرك فإن الخالق كيف يتبرأ من المخلوق ولو تبرا منه من كان يحفظ وجوده عليه والشريك معدوم فتصح البراءة منه فهي صفة تنزيه وتنزيه الله تعالى من الشريك والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من إعتقاد الجهل ووجه آخر من ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو أن البسملة موجودة في أول سورة ويل لكل همزة و ويل للمطففين وأين الرحمة من الويل انتهى وقد يقال : كون البراءة من الشريك غير ظاهر من آيتها أصلا وستعلم إن شاء الله تعالى المراد منها وما ذكره قدس سره في الوجه الآخر من الضعف قد يجاب عنه بأن هذه السورة لا تشبهها سورة فإنها ما تركت أحدا كما قال حذيفة إلا نالت منه وهضمته وبالغت في شأنه أما المنافقون والكافرون فظاهر وأما المؤمنون ففي قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم إلى الفاسقين وهو من أشد ما يخاطب به المخالف فكيف بالموافق وليس في سورة ويل ولا في سورة تبت ولا ولا ولو سلم إشتمال سورة على نوع ما إشتملت عليه لكن الامتياز بالكمية والكيفية مما لا سبيل لإنكاره ولذلك تركت فيها البسملة على ما أقول والاسم الجليل وإن تضمن القهر الذي يناسب ما تضمنته السورة لكنه متضمن غير ذلك أيضا مع إقترانه صريحا بما لم يتضمنا سوى الرحمة وليس المقصود هنا إلا إظهار صفة القهر ولا يتأتى ذلك مع الإفتتاح بالبسملة ولو سلم خلوص الاسم الجليل له نعم إنه سبحانه لم يترك عادته في إفتتاح السور هنا بالكلية حيث افتتح هذه السورة بالباء كما إفتتح غيرها بها في ضمن البسملة وإن كانت باء البسملة كلمة وباء هذه السورة جزء كلمة وذلك لسر دقيق يعرفه أهله هذا ونقل عن السخاوي أنه قال في جمال القراء : إشتهر ترك التسمية
(10/41)

في أول براءة وروي عن عاصم التسمية أولها وهو القياس لأن إسقاطها إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة بل من الأنفال ولا يتم الأول لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ونحن إنما نسمي للتبرك ألا ترى أنه يجوز بالإتفاق بسم الله الرحمن الرحيم وقاتلوا المشركين الآية ونحوها وإن كان الترك لأنها ليست مستقلة فالتسمية في أول الأجزاء جائزة وروي ثبوتها في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
وذهب ابن متادر إلى قراءتها وفي الإقناع جوازها والحق إستحباب تركها حيث أنها لم تكتب في الإمام ولا يقتدى بغيره وأما القول بحرمتها ووجوب تركها كما قاله بعض المشايخ الشافعية فالظاهر خلافه ولا أرى في الإتيان بها بأسا لمن شرع في القراءة من أثناء السورة والله تعالى أعلم برآءة من الله ورسوله أي هذه براءة والتنوين للتفخيم و من إبتدائية كما يؤذن به مقابلتها بإلى متعلقة بمحذوف وقع صفة للخبر لفساد تعلقه به أي واصلة من الله وقدروه بذلك دون حاصلة لتقليل التقدير لأنه يتعلق به إلى الآتي أيضا وجوز أن تكون مبتدأ لتخصيصها بصفتها وخبره قوله تعالى : إلى الذين عاهدتم من المشركين
1
-
وقرأ عيسى بن عمرو براءة بالنصب وهي منصوبة باسمعوا أو الزموا على الإغراء وقرأ أهل نجران من الله بكسر النون على أن الأصل في تحريك الساكن الكسر لكن الوجه الفتح مع لام التعريف هربا من توالي الكسرتين وإنما لم يذكر ما تعلق به البراءة حسبما ذكر في قوله تعالى : إن الله بريء من المشركين إكتفاء بما في حيز الصلة فإنه منبيء عنه أنباء ظاهرا واحترازا عن تكرار لفظ من والعهد العقد الموثق باليمين والخطاب في عاهدتم للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله تعالى وإتفاق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فنكثوا إلأ بني ضمرة وبني كنانة وأمر المسلمون بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهلوا أربعة أشهر ليسيروا حيث شاءوا
وإنما نسبت البراءة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مع شمولها للمسلمين في إشتراكهم في حكمها ووجوب العمل بموجبها وعلقت المعاهدة بالمسلمين خاصة مع كونها بإذن الله تعالى وإتفاق الرسول عليه الصلاة و السلام للانباء عن تنجزها وتحتمها من غير توقف على رأي المخاطبين لأنها عبارة عن إنهاء حكم الأمان ورفع الخطر المترتب على العهد السابق عن التعرض للكفرة وذلك منوط بجانب الله تعالى من غير توقف على شيء أصلا وإشتراك المسلمين إنما هو على طريقة الإمتثال لا غير وأما المعاهدة فحيث كانت عقدا كسائر العقود الشرعية لا تتحصل ولا تترتب عليها الأحكام إلا بمباشرة المتعاقدين على وجه لا يتصور صدوره منه تعالى وإنما الصادر عنه سبحانه الأذن في ذلك وإنما المباشر له المسلمون ولا يخفى أن البراءة إنما تتعلق بالعهد لا بالأذن فيه فنسبت كل واحدة منهما إلى من هو أصل فيها على أن في ذلك تفخيما لشأن البراءة وتهويلا لأمرها وتسجيلا على الكفرة بغاية الذل والهوان ونهاية الخزي والخذلان وتنزيها لساحة الكبرياء عما يوهم شائبة النقص والبداء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإدراجه صلى الله تعالى عليه وسلم في النسبة الأولى وإخراجه عن الثانية لتنويه شأنه الرفيع صلى الله تعالى عليه وسلم في كلا المقامين كذا حرره بعض المحققين وهو توجيه وجيه وزعم بعضهم أن المعاهدة لما لم تكن واجبة بل مباحة مأذونة نسبت إليه بخلاف البراءة فإنها واجبة بإيجابه تعالى فلذا نسبت للشارع وهو كما ترى وذكر ابن المنير في سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ من المشركين لا يحسن أدبا
(10/42)

ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم : إذا نزلتم بحصن فطلبوا النزول على حكم الله تعالى فأنزلوهم على حكمكم فإنكم لا تدرون أصادفتم حكم الله تعالى فيهم أم لا وإن طلبوا ذمة الله تعالى فأنزلوهم على ذمتكم فلأن تخفر ذمتكم خير من أن تخفر ذمة الله تعالى فانظر إلى أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بتوقير ذمة الله تعالى مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع فتوقير عهد الله تعالى وقد تحقق من المشركين النكث وقد تبرأ منه تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام بأن لا ينسب العهد المنبوذ إليه سبحانه أحرى وأجدر فلذلك نسب العهد للمسلمين دون البراءة منه ولا يخلو عن حسن إلا أنه غير واف وفاء ما قد سبق وقيل : إن ذكر الله تعالى للتمهيد كقوله سبحانه : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله تعظيما لشأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ولولا قصد التمهيد لأعيدت من كما في قوله عز و جل : كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله وإنما نسبت البراءة إلى الرسول عليه الصلاة و السلام والمعاهدة إليهم لشركتهم في الثانية دون الأولى وتعقب بأنه لا يخفى ما فيه فإن من برأ الرسول عليه الصلاة و السلام منه تبرأ منه المؤمنون وما ذكر من إعادة الجار ليس بلازم وما ذكره من التمهيد لا يناسب المقام لضعف التهويل حينئذ وقيل : ولك أن تقول : إنه إنما أضاف العهد إلى المسلمين لأن الله تعالى علم أن لا عهد لهم وأعلم به رسوله عليه الصلاة و السلام فلذا لم يضف العهد إليه لبراءته منهم ومن عهدهم في الأزل وهذه نكتة الإتيان بالجملة إسمية خبرية وإن قيل : إنها إنشائية للبراءة منهم ولذا دلت على التجدد
وفيه أن حديث الأزل لا يتأتى في حق الرسول عليه الصلاة و السلام ظاهرا وبالتأويل لا يبعد إعتبار المسلمين أيضا ونكتة الإتيان بالجملة الإسمية وهي الدلالة على الدوام والإستمرار لا تتوقف على ذلك الحديث فقد ذكرها مع ضم نكتة التوسل إلى التهويل بالتنكير التفخيمي من لم يذكره فسيحوا في الأرض أي سيروا فيها حيث شئتم وأصل السياحة جريان الماء وانبساطه ثم استعملت في السير على مقتضى المشيئة ومنه قوله : لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلا أمامي تسيح ففي هذا الأمر من الدلالة على كمال التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة في الأرض زيادة في التعميم والكلام بتقدير القول أي فقولوا لهم سيحوا أو بدونه وهو الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب والمقصود الإباحة والإعلام بحصول الأمان من القتل والقتال في المدة المضروبة وذلك ليتفكروا ويحتاطوا ويستعدوا بما شاءوا ويعلموا أن ليس لهم بعد إلا الإسلام أو السيف ولعل ذلك يحملهم على الإسلام ولأن المسلمين لو قاتلوهم عقيب إظهار النقض فربما نسبوا إلى الخيانة فامهلوا سدا لباب الظن وإظهارا لقوة شوكتهم وعدم إكتراثهم بهم وبإستعدادهم وللمبالغة في ذلك أختيرت صيغة الأمر دون فلكم أن تسيحوا والفاء لترتيب الأمر بالسياحة وما يعقبه على ما يؤذن به البراءة المذكورة من الحرب على أن الأول مترتب على نفسه والثاني بكلا متعلقيه على عنوان كونه من الله العزيز جل شأنه كأنه قيل : هذه براءة موجبة لقتالكم فاسعوا في تحصيل ما ينجيكم وإعداد ما يجديكم أربعة أشهر وهي شوال وذو العقدة وذو الحجة والمحرم عند الزهري لأن الآية نزلت في الشهر الأول وقيل : إنها وإن نزلت فيه إلا أن قراءتها على الكفار وتبليغها إليهم كان يوم الحج الأكبر فابتداء المدة عاشر ذي الحجة إلى إنقضاء عشر شهر ربيع الآخر وروي ذلك عن
(10/43)

أبي عبدالله رضي الله تعالى عنه ومجاهد ومحمد بن كعب القرضي
وقيل : إبتداء تلك المدة يوم النحر لعشر من ذي القعدة إلى إنقضاء عشر من شهر ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع التي قال فيها صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا إن الزمان قد إستدار كهيأته يوم خلق السموات والأرض وإلى ذلك ذهب الجبائي واستصوب بعض الأفاضل الثاني وإدعى أن الأكثر عليه روي من عدة أخبار متداخلة بعضها في الصحيحين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فدخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنشد : لا هم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه ألا تلدا قد كنتم ولدا وكنا والدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا وادعو عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا أن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا إلى من كداء رصدا وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالحطيم جهدا وقتلونا ركعا وسجدا فقال عليه الصلاة و السلام : لا نصرت إن لم أنصرك ثم تجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحج فقال : إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة فبعث عليه الصلاة و السلام تلك السنة أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميرا على الناس ليقيم لهم الحج وكتب له سننه ثم بعث بعده عليا كرم الله تعالى وجهه على ناقته العضباء ليقرأ على أهل الموسم صدر براءة فلما دناه علي كرم الله تعالى وجهه سمع أبوبكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما لحقه قال : أمير أو مأمور قال : مأمور فلما كان قبل التروية خطب أبوبكر وحدثهم عن مناسكهم وقال علي كرم الله تعالى وجهه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : أيها الناس إني رسول رسول الله تعالى إليكم فقالوا : بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من السورة ثم قال : أمرت بأربع ألا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده واختلفت الروايات في أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هل كان مأمورا أولا بالقراءة أم لا والأكثر على أنه كان مأمورا وأن عليا كرم الله تعالى وجهه لما لحقه رضي الله تعالى عنه أخذ منه ما أمر بقراءته وجاء في رواية ابن حبان وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه حين أخذ منه ذلك أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد أنزل فيه شيء فلما أتاه قال : ما لي يا رسول الله قال : خير أنت أخي وصاحبي في الغار وأنت معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عني غيري أو رجل مني
(10/44)

وجاء من رواية أحمد والترمذي وحسنه وأبو الشيخ وغيرهم عن أنس قال : بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ثم دعاه فقال : لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا عليا كرم الله تعالى وجهه فأعطاه إياه وهذا ظاهر في أن عليا لم يأخذ ذلك من أبي بكر في الطريق وأكثر الروايات على خلافه وجاء في بعضها ما هو ظاهر في عدم عزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه عن الأمر بل ضم إليه علي كرم الله تعالى وجهه فقد أخرج الترمذي وحسنه والبهيقي في الدلائل وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات فحجا فقام علي رضي الله تعالى عنه في أيام التشريق فنادى أن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي كرم الله تعالى وجهه ينادي فإذا أعيا قام أبوبكر رضي الله تعالى عنه فنادى بها وأيا ما كان ليس في شيء من الروايات ما يدل على أن عليا رضي الله تعالى عنه هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دون أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يبلغ عني غيري أو رجل مني سواء كان بوحي أم لا جار على عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب لتنقطع الحجة بالكلية فالتبليغ المنفي ليس عاما كما يرشد إلى ذلك حديث أحمد والترمذي
وكيف يمكن إرادة العموم وقد بلغ عنه صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا من الأحكام الشرعية في حياته وبعد وفاته كثير ممن لم يكن من أقاربه صلى الله تعالى عليه وسلم كعلي كرم الله تعالى وجهه ومنهم أبوبكر رضي الله تعالى عنه فإنه في تلك السنة حج بالناس وعلمهم بأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سنن الحج وما يلزم فيه وهو أحد الأمور الخمسة التي بني الإسلام عليها على أن من أنصف من نفسه علم أن في نصب أبي بكر رضي الله تعالى عنه لإقامة مثل هذا الركن العظيم من الدين على ما يشعر به قوله سبحانه : ولله على الناس حج البيت الآية إشارة إلى أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في إقامة شعائر دينه لا سيما وقد أيد ذلك بإقامته مقامه عليه الصلاة و السلام في الصلاة بالناس في آخر أمره عليه الصلاة و السلام وهي العماد الأعظم والركن الأقوم لدينه عليه الصلاة و السلام في الصلاة بالناس والقول بأنه رضي الله تعالى عنه عزل في المسألتين كما يزعمه بعض الشيعة لا أصل له وعلى المدعي البيان ودونه الشم الراسيات وبالجملة دلالة لاينبغي الخ على الخلافة مما لا ينبغي القول بها وقصارى ما في الخبر الدلالة على فضل الأمير كرم الله تعالى وجهه وقربه من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمن لا ينكر ذلك لكنه بمعزل عن إقتضائه التقدم بالخلافة على الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ذكر بعض أهل السنة نكتة في نصب أبي بكر أميرا للناس في حجهم ونصب الأمير كرم الله تعالى وجهه مبلغا نقض العهد في ذلك المحفل وهي أن الصديق رضي الله تعالى عنه لما كان مظهرا لصفة الرحمة والجمال كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الإسراء وما جاء من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر أحال إليه عليه الصلاة و السلام أمر المسلمين الذين هم مورد الرحمة ولما كان علي كرم الله تعالى وجهه الذي هو أسد الله مظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر فكانا كعينين فوارتين يفور من إحداهما صفة الجمال ومن الأخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان انموذجا للحشر وموردا للمسلم والكافر انتهى ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
(10/45)

وجعل المدة أربعة أشهر قيل لأنها ثلث السنة والثلث كثير ونصب العدد على الظرفية لسيحوا أي فسيحوا في أقطار الأرض في أربعة أشهر واعلموا أنكم لسياحتكم تلك غير معجزي الله لا تفوتونه سبحانه بالهرب والتحصن وأن الله مخزي الكافرين
2
- في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب المهين وأظهر الإسم الجليل لتربية المهابة وتهويل أمر الإخزاء وهو الإذلال بما فيه فضيحة وعار والمراد من الكافرين إما المشركون المخاطبون فيما تقدم والعدول عن مخزيكم إلى ذلك لذمهم بالكفر بعد وصفهم بالإشراك وللإشعار بأن علة الإخزاء هي كفرهم وأما الجنس الشامل لهم ولغيرهم ويدخل فيه المخاطبون دخولا أوليا
وأذان من الله ورسوله أي إعلام وهو فعال بمعنى الإفعال أي إيذان كالأمان والعطاء ونقل الطبرسي أن أصله من النداء الذي يسمع بالأذن بمعنى أذنته أو صلته إلى أذنه ورفعه كرفع براءة والجملة معطوفة على مثلها
وزعم الزجاج أنه عطف على براءة وتعقب بأنه لا وجه لذلك فإنه لا يقال : أن عمرا معطوف على زيد في قولك زيد قائم وعمرو قاعد وذكر العلامة الطيبي أن لقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يعطف على براءة على أن يكون من عطف الخبر على الخبر كأنه قيل : هذه السورة براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم خاصة وأذان من الله ورسوله إلى الناس عامة نعم الأوجه أن يكون من عطف الجمل لئلا يتخلل بين الخبرين جمل أجنبية ولئلا تفوت المطابقة بين المبتدأ والخبر تذكيرا وتأنيثا ونظر فيه بعضهم أيضا بأنهم جوزوا في الدار زيد والحجرة عمرو وعدوا ذلك من العطف على معمولي عاملين وصرحوا بأن نحو زيد قائم وعمرو يحتمل الأمرين وأجيب بأنه أريد عطف أذان وحده على براءة من غير تعرض لعطف الخبر على الخبر كما في نحو أريد أن يضرب زيد عمرا ويهين بكر خالدا فليس العطف إلا في الفعلين دون معموليهما هذا الذي منعه من منع وإرادة العموم من الناس هو الذي ذهب إليه أكثر الناس لأن هذا الأذان ليس كالبراءة المختصة بالناكثين بل هو شامل للكفرة وسائر المؤمنين أيضا وقال قوم : المراد بهم أهل العهد وقوله سبحانه : يوم الحج الأكبر منصوب بما تعلق به إلى الناس لا باذان لأن المصدر الموصوف لا يعمل على المشهور والمراد به يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ولأن الأعلام كان فيه
ولما أخرج البخاري تعليقا وأبو داود وابن ماجة وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال : أي يوم هذا قالوا : يوم النحر قال : هذا يوم الحج الأكبر وروي ذلك عن على كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن جبير وابن زيد ومجاهد وغيرهم وقيل : يوم عرفة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم الحج عرفة ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وأخرجه ابن أبي حاتم عن المسور عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج ابن جرير عن أبي الصهباء أنه سأل عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذا اليوم فقال : هو يوم عرفة وعن مجاهد وسفيان أنه جميع أيام الحج كما يقال : يوم الجمل ويوم صفين ويراد باليوم الحين والزمان والأول أقوى رواية ودراية ووصف بالحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما وقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال فالتفضيل نسبي وغير مخصوص بحج تلك السنة وعن الحسن أنه وصف بذلك لأنه اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب وقيل : لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين وذكره فيما تقدم إهتماما به لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه
(10/46)

فالتفضيل مخصوص بتلك السنةوأما تسمية الحج الموافق يوم عرفة فيه ليوم الجمعةبالأكبر فلم يذكروها وإن كان ثواب ذلك الحج زيادة على غيره كما نقله ألجلال السيوطي في بعض رسائله أن الله بريءمن المشركين أي من عهودهموقرأ الحسنوالأعرج إن بالكسر لما أن ألأذان فيه معنى القول وقيل : يقدر القول وعلى قراءة الفتح يكون بتقدير حرف جر وهو مطرد في إن وأن والجار والمجرور جوز أن يكون خبرأ عن أذان وأن يكون متعلقا به وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة له وقوله سبحانه : ورسوله عطف على المستكن في برىء وجوز ان يكون مبتدأ خبره محذوف وأن يكون عطفا على محل اسم إن لكن على قراءة الكسر لأن المكسورة لما لم تغير المعنى جاز أن تقدر كالعدم فيعطف على محل ما عملت فيه أي على محل كان له قبل دخولها فإنه كان إذ ذاك مبتدأ ووقع في كلامهم محل أن مع إسمها والامر فيه هين ولم يجيزوا ذلك على المشهور مع المفتوحة لأن لها موضعا غير الإبتداء وأجاز إبن ألحاجب ههنا العطف على المحل في قراءة الجماعة أيضا بناء على ما ذكر من أن المفتوحة على قسمين ما يجوز فيه العطف على المحل وما لا يجوز فإن كان بمعنى إن المكسورة كالتي بعد أفعال ألقلوب نحو علمت أن زيدا قائم وعمرو جاز العطف لأنها لإختصاصها بالدخول على الجمل يكون المعنى معها أن زيدا قائم وعمرو في علمي ولذا وجب الكسر في علمت إن زيدا لقائم وإن لم تكن كذلك لا يجوز نحو أعجبني أن زيدا كريم وعمرو ويتعين النصب فيه لأنها حينئذ ليست مكسورة ولا في حكمها ووجه الجواز بناء على هذا أن ألأذن بمعنى العلم فيدخل على الجمل أيضا كعلم
وقرأ يعقوب برواية روح وزيد ورسوله بالنصب وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحق وعيسى ابن عمرو وعليها فالعطف على اسم أن وهو الظاهر وجوز أن تكون الواو بمعنى مع ونصب رسوله على أنه مفعول معه أي بريء معه منهم
وعن الحسن أنه قرأ بالجر على أن الواو للقسم وهو كالقسم بعمره صلى الله عليه و سلم في قوله سبحانه : لعمرك وقيل : يجوز كون الجر على الجوار وليس بشيء وهذه القراءة لعمري موهمة جدا وهي في غاية الشذوذ والظاهر أنها لم تصح يحكى أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال : إن كان الله تعالى بريئا من رسوله فأنا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر رضي الله تعالى عنه فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية ونقل أن أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر الى علي كرم الله تعالى وجهه فكان ذلك سبب وضع النحو والله تعالى أعلم
وفرق الزمخشري بين معنى الجملة الاولى وهذه الجملة بأن تلك اخبار بثبوت البراءة وهذه اخبار بوجوب الاعلام بما ثبت وفي الكشف أن هذا على تقدير رفعهما بالخبرية ظاهر إلا أن في قوله اخبار بوجوب الاعلام تجوزا وأراد أن يبين أن المقصود ليس الاخبار بالاعلام بل أعلم سبحانه أنه بريءليعلموا الناس به وعلى التقدير الثاني وجهه أن المعتى في الجملة الأولى البراءة الكائنة من الله تعالى حاصلة منتهية إلى المعاهدين من المشركين فهو إخبار بثبوت البراءة كما تقول في زيد موجود مثلا : إنه إخبار بثبوت زيد وفي الثانية إعلام المخاطبين الكائن من الله تعالى بتلك البراءة ثابت واصل إلى الناس فهو إخبار بثبوت الاعلام الخاص صريحا ووجوب أن يعلم المخاطبون الناس ضمنا ولما كان المقصود هو المعنى المضمن ذكر أنها إخبار بوجوب الاعلام وزعم بعضهم لدفع التكرار أن البراءة الأولى لنقض العهد والبراءة الثانية لقطع الموالاة والإحسان
(10/47)

وليس بذلك فإن تبتم من الكفر والغدر بنقض العهد فهو أي التوب خير لكم في الدارين والالتفاف من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التهديد والتشديد والفاء الأولى لترتيب مقدم الشرطية على الأذان المذيل بالوعيد الشديد المؤذن بلين عريكتهم وانكسار شدة شكيمتهم وإن توليتم عن التوبة أو ثبتم على التولي عن الإسلام والوفاء فاعلموا أنكم غير معجزي الله غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه وبشر الذين كفروا بعذاب أليم
3
- أي في الآخرة على ما هو الظاهر
ومن هنا قيد بعضهم غير معجزي الله بقوله في الدنيا والتعبير بالبشارة للتهكم مصرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قيل : لأن البشارة إنما تليق بمن يقف على الاسرار الالهية وقد يقال : لا يبعد كون الخطاب لكل من له حظ فيه وفيه من المبالغة ما لا يخفى إلا الذين عاهدتم من المشركين استثناء على ما في الكشاف من المقدر في قوله : فسيحوا في الأرض الخ لأن الكلام خطاب مع المسلمين على أن المعنى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم وهو بمعنى الاستدراك كأنه قيل : فلا تمهلوا الناكثين غير أربعة أشهر ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا اليهم عهدهم ولا تجروهم مجرى الناكثين واعترض بأنه كيف يصح الاستثناء وقد تخلل بين المستثنى والمستثنى منه جملة أجنبية أعني قوله سبحانه : وأذان من الله فإنه كما قرر عطف على براءة وأجيب بأن تلك الجملة ليست أجنبية من كل وجه لأنها في معنى الأمر بالاعلام كأنه قيل : فقولوا لهم سيحوا واعلموا أن الله بريء منهم لكن الذين عاهدتم الخ وجعله بعضهم استدراكا من النبذ السابق الذي أخر فيه القتال أربعة أشهر والمآل واحد وقيل : هو استثناء من المشركين الأول واليه ذهب الفراء ورد بأن بقاء التعميم في قوله تعالى : إن الله بريءمن المشركين ينافيه وقيل : هو استثناء من المشركين الثاني ورد بأن بقاء التعميم في الأول ينافيه والقول بالرجوع اليهما والمستثنى منهما في الجملتين ليستا على نسق واحد لا يحسن وجعل الثاني معهودا وهم المشركون المستثنى منهم هؤلاء فقيل مجيءالاستثناء يبعد ارتكابه في النظم المعجز وقوله سبحانه : فأتموا إليهم حينئذ لا بد من أن يجعل جزاء شرط محذوف وهو أيضا خلاف الظاهر والظاهر الخبرية والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وكون المراد به أناسا بأعيانهم فلا يكون عاما فيشبه الشرط فتدخل الفاء في خبره على تقدير تسليمه غير مضر فقد ذهب الاخفش إلى زيادة الفاء في خبر الموصول من غير اشتراط العموم واستدل القطب لما في الكشاف بأن ههنا جملتين يمكن أن يعلق بهما الاستثناء جملة البراءة وجملة الامهال لكن تعليق الاستثناء بجملة البراءة يستلزم أن لا براءة عن بعض المشركين فتعين تعلقه بجملة الامهال أربعة أشهر وفيه غفلة عن أن المراد البراءة عن عهود المشركين لا عن أنفسهم ولا كلام في أن المعاهدين الغير الناكثين ليس الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم بريئين من عهودهم وإن برئا عن أنفسهم بضرب من التأويل فافهم وقال ابن المنير : يجوز أن يكون قوله سبحانه : فسيحوا خطابا للمشركين غير مضمر قبله القول ويكون الاستثناء على هذا من قوله تعالى : إلى الذين عاهدتم كأنه قيل : براءة من الله تعالى ورسوله إلى المعاهدين إلا الباقين على العهد فأتموا إاليهم أيها المسلمون عهدهم ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في إلا الذين عاهدتم إلى خطاب المشركين في فسيحوا ثم التفات من التكلم إلى الغيبة في واعلموا
(10/48)

أنكم غير معجزي الله وأن الله والاصل غير معجزي وإني وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعضيم للأمر ثم يتلوا هذا الالتفات العود إلى الخطاب في قوله سبحانه : إلا الذين عاهدتم الخ وكل هذا من حسنات الفصاحة انتهى ولا يخفى ما فيه من كثرة التعسف و من قيل بيانية وقيل : تبعيضية وثم في قوله تعالى : ثم لم ينقصوكم شيئا للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة وينقصوا بالصاد المهملة كما قرأ الجمهور يجوز أن يتعدى إلى واحد فيكون شيئا منصوبا على المصدرية أي لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا ويجوز أن يتعدى إلى اثنين فيكون شيئا مفعوله الثاني أي لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد وأدوها لكم بتمامها وقرأ عكرمة وعطاء ينقضوكم بالضاد المعجمة والكلام حينئذ على حذف مضاف أي لم ينقضوا عهودكم شيئا من النقض وهي قراءة مناسبة للعهد إلا أن قراءة الجمهور أوقع لمقابلة التمام مع استغنائها عن ارتكاب الحذف ولم يظاهروا إي لم يعاونوا عليكم أحدامن أعدائكم كما عدت بنو بكر على خزاعة فظاهرتهم قريش بالسلاح كما تقدم فأتموا إليهم عهدهم أي أدوه اليهم كملا إلى مدتهم أي إلى انقضائها ولا تجروهم مجرى الناكثين قيل : بقى لبني ضمرة وبني مدلج حيين من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم وأخرج ابن أبي حاتم أنه قال : هؤلاء قريش عاهدوا نبي الله صلى الله عليه و سلم زمن الحديبية وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر فأمر الله تعالى شأنه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ذلك إلى مدتهم وهو خلاف ما تظافرت به الروايات من أن قريشا نقضوا العهد على ما علمت والمعتمد هو الأول إن الله يحب المتقين
4
- تعليل لوجوب الامتثال وتنبيه على أن مراعاة العهد من باب التقوى وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا فإذا انسلخ الأشهر الحرم أي انقضت وأصله من السلخ بمعنى الكشط يقال : سلخت الإهاب عن الشاة أي كشطه ونزعته عنها ويخيء بمعنى الاخراج كما يقال : سلخت الشاة عن الاهاب اذا أخرجتها منه وذكر أبو الهيثم أنه يقال : أهللنا شهر كذا أي دخلنا فيه فنحن نزداد كل ليلة لباسا إلى نصفه ثم نسلخه عن أنفسنا جزأ فجزأ حتى ينقضي وأنشد : إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلا سلخى الشهور واهلالى والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة وتحقيق ذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه إشتمال الجلد على الحيوان وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة كالأيام والشهور والسنين فاذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه وفي ذلك مزيد لطف لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهر كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالهم بزوالها ومن هنا يعلم أن جعله إستعارة من المعنى الأولى للسلخ أولى من جعله من المعنى الثاني باعتبار أنه لما انقضى كأنه أخرج من الأشياء الموجودة إذ لا يظهر هذا التلويح عليه ظهور على الأول وأل في الأشهر للعهد فالمراد بها الأشهرالأربعة المتقدمة في قوله سبحانه : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وهو المروي عن مجاهد وغيره وفي الدر المصون أن العرب إذا ذكرت نكرة ثم أرادت ذكرها ثانيا بالضمير أو باللفظ معرفا بأل ولا يجوزأن تصفه حينئذ بصفة تشعر بالمغايرة
(10/49)

فلو قيل رأيت رجلا وأكرمت الرجل الطويل لم ترد بالثاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضى المغايرة جاز كقولك فاكرمت الرجل المذكور والآية من هذا القبيل فإن الحرم صفة مفهومة من فحوى الكلام فلا تقتضي المغايرة وكأن النكتة في العدول عن الضمير ووضع الظاهر وضعه الاتيان بهذه الصفة لتكون تأكيدا لما ينبىء عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم مع ما في ذلك من مزيد الاعتناء بشأن الموصوف
وعلى هذا فالمراد بالمشركين في قوله سبحانه : فاقتلوا المشركين الناكثون فيكون المقصود بيان حكمهم بعد التنبيه على إتمام مدة من لم ينكث ولا يكون حكم الباقين مفهوما من عبارة النص بل من دلالته وجوز أن يكون المراد بها تلك الأربعة مع ما فهم من قوله سبحانه : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم من تتمة مدة بقيت لغير الناكثين وعليه يكون حكم الباقين مفهوما من العبارة حيث إن المراد بالمشركين حينئذ ما يعمهم والناكثين إلا أنه يكون الانسلاخ وما نيط به من القتال شيئا فشيئا لا دفعة واحدة فكأنه قيل : فاذا تم ميقات كل طائفة فاقتلوهم وقيل المراد بها الأشهر المعهودة الدائرة في كل سنة وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم وهو مخل بالنظم الكريم لأنه يأباه الترتيب بالفاء وهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر وقيل : انه مخالف للاجماع أيضا لأنه قام على أن هذه الأشهر يحل فيها القتال وأن حرمتها نسخت وعلى تفسيره بها يقتضي بقاء حرمتها ولم ينزل بعد ما ينسخها ورد بأنه لا يلزم أن ينسخ الكتاب بالكتاب بل قد ينسخ بالسنة كما تقرر في الأصول وعلى تقدير لزومه كما هو رأي البعض يحتمل أن يكون ناسخه من الكتاب منسوخ من التلاوة وتعقب هذا بأنه احتمال لا يفيد ولا يسمع لأنه لو كان كذلك لنقل والنسخ لا يكفي فيه الاحتمال وقيل : إن الاجتماع إذا قام على أنها منسوخة كفى ذلك من غير حاجة إلى نقل سند إلينا وقد صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم وكما أن ذلك كاف لنسخها يكفي لنسخ ما وقع في الحديث الصحيح وهو إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب فلا يقال : إنه يشكل علينا لعدم العلم بما ينسخه كما توهم وإلى نسخ الكتاب بالاجماع ذهب البعض منا ففي النهاية شرح الهداية تجوز الزيادة على الكتاب بالإجماع صرح به الامام السرخسي وقال فخر الاسلام : إن النسخ بالاجماع جوزه بعض أصحابنا بطريق أن الاجماع يوجب العلم اليقيني كالنص فيجوز أن يثبت به النسخ والاجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور والنسخ به جائز فبالإجماع أولى وأما إشتراط حياة النبي صلى الله عليه و سلم في جواز النسخ فغير مشروط على قول ذلك البعض من الأصحاب أه وأنت تعلم أن المسألة خلافية عندنا على أن في الاجماع كلاما فقد قيل : ببقاء حرمة قتال المسلمين إلا أن يقاتلوا ونقل ذلك عن عطاء لكنه قول لا يعتد به والقول بأن منع القتال في الأشهر الحرم كان في تلك السنة وهو لا يقتضي منعه في كل ما شابهها بل هو مسكوت عنه فلا يخالف الاجماع ويكون حله معلوما من دليل آخر ليس بشيء لأن الظاهر أن من يدعي الاجماع يدعيه في الحل في تلك السنة أيضا وبالجملة لا معول على هذا التفسير وهذه على ما قال الجلال السيوطي هي آية السيف التي نسخت آيات العفو والصفح والاعراض والمسالمة
وقال العلامة ابن حجر : آية السيف وقاتلوا المشركين كافة وقيل : هما واستدل الجمهور بعمومها على قتال الترك والحبشة كأنه قيل : فاقتلوا الكفار مطلقا حيث وجدتموهم من حل وحرم وخذوهم قيل : أي اسروهم
(10/50)

والأخيذ الأسير وفسر الأسر بالربط لا لاسترقاق فإن مشركي العرب لا يسترقون وقيل : المراد إمهالهم للتخيير بين القتل والاسلام وقيل : هو عبارة عن أذيتهم بكل طريق ممكن وقد شاع في العرف الأخذ على الاستيلاء على مال العدو فيقال : إن بني فلان أخذوا بني فلان أي إستولوا على أموالهم بعد أن غلبوهم واحصروهم قيل أي أحبسوهم
ونقل الخازن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد امنعوهم عن الخروج إذا تحصنوا منكم بحصن ونقل غيره عنه أن المعنى حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام واقعدوا لهم كل مرصد أي كل ممر ومجتاز يجتازون منه في أسفارهم وانتصابه عند الزجاج ومن تبعه على الظرفية ورده أبو علي بأن المرصد المكان الذي يرصد فيه العدو فهو مكان مخصوص لا يجوز حذف في منه ونصبه على الظرفية إلا سماعا وتعقبه أبو حيان بأنه لا مانع من انتصابه على الظرفية لأن قوله تعالى : واقعدوا لهم ليس معناه حقيقة القعود بل المراد ترقبهم وترصدهم فالمعنى ارصدوهم كل مرصد يرصد فيه والظرف مطلقا ينصبه باسقاط في فعل من لفظه أو معناه نحو جلست و قعدت مجلس الأمير والمقصور على السماع ما لم يكن كذلك و كل وإن لم يكن ظرفا لكن له حكم ما يضاف اليه لأنه عبارة عنه
وجوز ابن المنير أن يكون مرصدا مصدرا ميميا فهو مفعول مطلق والعامل فيه الفعل الذي بمعناه كأنه قيل : وارصدوهم كل مرصد ولا يخفى بعده وعن الأخفش أنه منصوب بنزع الخافض والأصل على كل مرصد فلما حذف على انتصب وأنت تعلم أن النصب بنزع الخافض غير مقيس خصوصا إذا كان الخافض على فانه يقل حذفها حتى قيل : إنه مخصوص بالشعر فان تابوا عن الشرك بالايمان بسبب ما ينالهم منكم وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة تصديقا لتوبتهم وايمانهم واكتفى بذكرهما لكونهما رئيسي العبادات البدنية والمالية فخلوا سبيلهم أي فاتركوهم وشأنهم ولا تتعرضوا لهم بشيء مما ذكر
وقيل : المراد خلوا بينهم وبين البيت ولا تمنعوهم عنه والأول أولى وقد جاءت تخلية السبيل في كلام العرب كناية عن الترك كما في قوله : خل السبيل لمن يبني المنار به وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر ثم يراد منها في كل مقام ما يليق به ونقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه إستدل بالآية على قتل تارك الصلاة وقتال مانع الزكاة وذلك لأنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الطرق والأحوال ثم حرمها عند التوبة عن الكفر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فما لم يوجد هذا المجموع تبقى إباحة الدم على الأصل ولعل أبا بكر رضى الله تعالى عنه استدل بها على قتال مانعي الزكاة وفي الحواشى الشهابية أن المزني من جلة الشافعية رضى الله تعالى عنهم أورد على قتل تارك الصلاة تشكيكا تحيروا فيدفعه كما قال السبكى في طبقاته فقال إنه لا يتصور لأنه إما أن يكون على ترك صلاة قد مضت أو لم تأت والأول باطل لأن المقضية لا يقتل بتركها والثاني كذلك لأنه ما لم يخرج لوقت فله التأخير فعلام يقتل وسلكوا في الجواب مسالك
الأول أن هذا وارد أيضا على القول بالتعزير والضرب والحبس كما هو مذهب الحنفية فالجواب الجواب وهو جدلى والثاني أنه على الماضية لأنه تركها بلا عذر ورد بأن القضاء لا يجب على الفور وبأن الشافعى
(10/51)

رضي الله تعالى عنه قد نص على أنه لا يقتل بالمقضية مطلقا والثالث أنه يقتل للمؤداة في آخر وقتها ويلزمه أن المبادرة إلى قتل تارك الصلاة تكون أحق منها إلى المرتد إذ هو يستتاب وهذا لا يستتاب ولا يمهل إذ لو أمهل صارت مقضية وهو محل كلام فلا حاجة إلى أن يجاب من طرف أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كما قيل : بأن إستدلال الشافعية مبني على القول بمفعول الشرط وهو لا يعول به ولو سلمه فالتخلية الإطلاق عن جميع ما مر وحينئذ يقال : تارك الصلاة لا يخلى ويكفي لعدم التخلية أن يحبس على أن ذلك منقوض بمانع الزكاة عنده وأيضا يجوز أن يراد بإقامتهما التزامهما وإذا لم يلتزمهما كان كافرا إلا أنه خلاف المتبادر وإن قاله بعض المفسرين
وأنت تعلم أن مذهب الشافعية ان من ترك صلاة واحدة كسلا بشرط إخراجها عن وقت الضرورة بأن لا يصلي الظهر مثلا حتى تغرب الشمس قتل حدا واستدل بعض أجلة متأخريهم بهذه الآية وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناسالحديث وبين ذلك بأنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة الاسلام واقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يمكن الامام أخذها ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا منها وقاتلونا فكانت فيها على حقيقتها بخلافها في الصلاة فانه لا يمكن فعلها بالمقاتلة فكانت فيها بمعنى القتل ثم قال : فعلم وضوح الفرق بين الصلاة والزكاة وكذا الصوم فانه اذا علم انه يحبس طول النهار نواه فاجدى الحبس فيه ولا كذلك الصلاة فتعين القتل في حدها ولا يخفى أن ظاهر هذا قول بالجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية والحديث لأن الصلاة والزكاة في كل منهما وفي الآية القتل وحقيقته لا تجري في مانع الزكاة وفي الحديث المقاتلة وحقيقتها لا تجري في تارك الصلاة فلا بد أن يراد مع القتل المقاتلة في الآية ومع المقاتلة القتل في الحديث ليتأتى جريان ذلك في تارك الصلاة ومانع الزكاة والجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز عندنا على أن حمل الآية والحديث على ذلك مما لا يكاد يتبادر إلى الذهن فالنقض بمانع الزكاة في غاية القوة وأشار الى ما نقل عن المزنى مع جوابه بقوله : لا يقال : لا قتل بالحاضرة لأنه لم يخرجها عن وقتها ولا بالخارجة عنه لأنه لا قتل بالقضاء وان وجب فورا لأنا نقول : بل يقتل بالحاضرة اذا أمر بها من جهة الامام أو نائبه دون غيرهما فيما يظهر في الوقت عند ضيقه وتوعد على إخراجها عنه فامتنع حتى خرج وقتها لأنه حينئذ معاند للشرع عنادا يقتضى مثله القتل فهو ليس لحاضرة فقط ولا لفائتة فقط بل لمجموع الامرين الامر والاخراج مع التصميم ثم إنهم قالوا : يستتاب تارك الصلاة فورا ندبا وفارق الوجوب في المرتد بأن ترك استتابته توجب تخليده في النار اجماعا بخلاف هذا ولا يضمن عندهم من قتله قبل التوبة مطلقا لكنه يأثم من جهة الافتيات على الامام وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله
واستدل بالآية أيضا كما قال الجلال السيوطي من ذهب الى كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وليس ذلك بشىء والصحيح أنهما مؤمنان عاصيان ولا يشعر بالكفر خارج مخرج التغليض إن الله غفور رحيم
5
- يغفر لهم ما قد سلف منهم ويثيبهم بايمانهم وطاعتهم وهو تعليل للامر بتخلية السبيل وإن أحد شروع في بيان حكم المتصدين لمبادىء التوبة من سماع كلام الله تعالى والوقوف على شعائر الدين اثر بيان حكم التائبين عن الكفر والمصرين عليه وفيه ازاحة ما عسى يتوهم من قوله سبحانه : فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين
(10/52)

إذ الحجة قد قامت عليهم وأن ما ذكره عليه الصلاة و السلام قبل من الدلائل والبينات كاف في إزالة عذرهم بطلبهم للدليل لا يلتفت اليه بعد و إن شرطية والاسم مرفوع بشرط مضمر يفسره الظاهر لا بالابتداء ومن زعم ذلك فقد أخطأ كما قال الزجاج لأن إن لكونها تعمل العمل المختص بالفعل لفظا أو محلا مختصة به فلا يصح دخولها على الاسماء أي وإن استجارك أحد من المشركين استجارك أي استأمنك وطلب مجاورتك بعد انقضاء الأجل المضروب فأجره أي فآمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعوا إليه والاقتصار على ذكر سماع لعدم الحاجة الى شىء آخر في الفهم لكونهم من أهل اللسن والفصاحة والمراد بكلام الله تعالى الآيات المشتملة على ما يدل على التوحيد ونفي الشبه والشبيه وقيل : سورة براءة وقيل : جميع القرآن لان تمام الدلائل والبينات فيه و حتى للتعليل متعلقة بما عندها وليست الآية من التنازع على ما صرح به الفاضل ابن العادل حيث قال : ولا يجوز ذلك عند الجمهور لأمر لفضي صناعي لأنا لو جعلناها من ذلك الباب واعملنا الاول اعني استجارك لزم اثبات الممتنع عندهم وهو إعمال حتى في الضمير فانهم قالوا : لا يرتكب ذلك الا في الضرورة كما في قوله : فلا والله لا يلفى أناس فتى حتاك يا ابن أبى زياد ضرورة أن القائلين باعمال الثاني يجوزون إعمال الأول المستدعى لما ذكر سيما على مذهب الكوفيين المبني على رجحان إعماله ومن جوز إعماله في الضمير يصح ذلك عنده لعدم المحذور حينئذ ويفهم ظاهر كلام بعض الافاضل جواز التعلق باستجارك حيث قال : لا داعي لتعلقه بأجره سوى الظن أنه يلزم أن يكون التقدير على تقدير التعلق بالاول وإن أحد من المشركين استجارك حتى يسمع كلام الله فأجره حتاه أي حتى السمع وهل يقول عاقل بتوقف تمام قولك إن استأمنك زيد لأمر كذا فآمنه على أن تقول لذلك الأمر كلا فرضنا الاحتياج ولزوم التقدير ولكن ما الموجب لتقدير حتاه الممتنع في غير الضرورة ولم لا يجوز أن يقدر أوله أو حتى يسمعه أو غير ذلك في معناه وقال آخر : إن لزوم الاضمار الممتنع على تقدير إعمال الأول لا يعين إعمال الثاني فلا يخرج التركيب من باب التنازع بل يعدل حينئذ إلى الحذف فان تعذر أيضا ذكر مظهرا كما يستفاد من كلام نجم الأئمة وغيره من المحققين
وقد يقال : ان المانع من كونه من باب التنازع انه ليس المقصود تعليل الاستجارة بما ذكر كما أن المقصود تعليل الاجارة به نعم قال شيخ الإسلام ان تعليق الاجارة بسماع كلام الله تعالى يستلزم تعلق الاستجارة أيضا بذلك أو ما في معناه من أمور الدين وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتاه رجل من المشركين فقال : ان أراد الرجل منا أن يأتى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بعد انقضاء هذا الاجل لسماع كلام الله تعالى أو لحاجة قتل قال : لا لأن الله تعالى يقول : و إن أحد من المشركين استجارك فأجره الخ فالمراد بما فيه من الحاجة هي الحاجة المتعلقة بالدين لا ما يعمها وغيرها من الحاجات الدنيوية كما ينبىء عنه قوله أن يأتي محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فان من يأتيه عليه الصلاة و السلام إنما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين انتهى لكنه ليس بشىء لأن الظاهر من كلام ذلك القائل العموم فيكون جواب الامير كرم الله تعالى وجهه مؤيدا لما قلناه ويرد على قوله قدس سره أن يأتيه عليه الصلاة و السلام انما يأتيه للامور المتعلقة بالدين منع ظاهر فلا يتم بناء الأنباء وجوز غير واحد كون حتى للغاية والخبر المذكور وجزالة المعنى يشهدان بكونها للتعليل بل قال المولى سرى الدين المصري :
(10/53)

إن جعلها للغاية يأباه قوله تعالى : ثم أبلغه بعد سماعه وكلام الله تعالى إن لم يؤمن مأمنه أي مسكنه الذي يأمن فيه أو موضع أمنه وهو ديار قومه على أن المأمن إسم مكان أو مصدر بتقدير مضاف والأول أولى لسلامته من مؤنة التقدير والجملة الشرطية على ما بينه في الكشف عطف على قوله سبحانه : فاقتلوا المشركين ولا حجة في الآية للمعتزلة على نفي الكلام النفسي لأن السماع قد ينسب إليه باعتبار الدال عليه أو يقال : إن الكلام مقول بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز على الكلام النفسي والكلام اللفضي ولا يلزم من تعين أحدهما في مقام نفي ثبوت الآخر في نفس الأمر وقد تقدم في المقدمات من الكلام ما يتعلق بهذا المقام فتذكر ذلك أى الأمن أو الأمر بأنهم أي بسبب أنهم قوم لا يعلمون
6
- ما الاسلام وما حقيقة ما تدعوهم إليه أو قوم جهلة فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا ذلك ولا يبقى لهم معذرة أصلا والآية كما قال الحسن محكمة
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة أنها منسوخة بقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وروي ذلك عن السدي والضحاك أيضا وما قاله الحسن أحسن واختلف في مقدر مدة الامهال فقيل : أربعة أشهر وذكر النيسابوري أنه الصحيح من مذهب الشافعي وقيل : مفوض الى رأي الامام ولعله الأشبه
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله تبيين للحكمة الداعية لما سبق من البراءة ولواحقها والمراد من المشركين الناكثون لأن البراءة إنما هي في شأنهم والاستفهام لانكار الوقوع ويكون تمامه وكيف في محل النصب على التشبيه بالحال أو الظرف
وقال غير واحد : ناقصة و كيف خبرها وهو واجب التقديم لأن الاستفهام له صدر الكلام و للمشركين متعلق بيكون عند من يجوز عمل الأفعال الناقصة بالظروف أو صفة لعهد قدمت فصارت حالا و عند اما متعلق بيكون على ما مر أو بعهد لأنه مصدر أو بمحذوف وقع صفة له وجوز أن يكون الخبر للمشركين و عند فيها الأوجه المتقدمة ويجوز أيضا تعلقها بالاستقرار الذي تعلق به للمشركين أو الخبر عند الله وللمشركين اما تبيين كما في سقيا لك فيتعلق بمقدر مثل أقول هذا الإنكار لهم أو متعلق بيكون واما حال من عهد أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر ويغتفر تقدم معمول الخبر لكونه جارا ومجرورا و كيف على الوجهين الأخيرين شبيه بالظرف أو بالحال كما في احتمال كون الفعل تاما وهو على ما قاله شيخ الإسلام الأولى لأن في إنكار ثبوت العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوته للمشركين لأن ثبوته الرابطي فرع ثبوته العيني فانتفاء الأصل يوجب انتفاء الفرع رأسا وتعقب بأنه غير صحيح لما تقرر أن انتفاء مبدأ المحمول في الخارج لا يوجب انتفاء الحمل الخارجي لاتصاف الأعيان بالاعتباريات والعدميات حتى صرحوا بأن زيدا عمى قضية خارجية مع أنه لا ثبوت عينا للعمى وصرحوا بأن ثبوت الشىء للشىء وإن لم يقتض ثبوت الشىء الثابت في ظرف الاتصاف لكنه يقتضى ثبوته في نفسه ولو في محل انتزاعه وتحقيق ذلك في محله نعم في توجيه الانكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأنه إذا انتفى جميع أحوال وجود الشىء وكل موجود يجب أن يكون وجوده على حال فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني أي في أي حال يوجد لهم عهد معتد به عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم يستحق أن يراعى حقوقه ويحافظ عليه إلى تمام المدة ولا يتعرض لهم بحسبه قتلا وأخذا
(10/54)

وتكرير كلمة عند للايذان بعدم الاعتداد عند كل من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام على حدة إلا الذين عاهدتم وهم المستثنون فيما سلف والخلاف هو الخلاف والمعتمد هو المعتمد والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام لزيادة بيان أصحابها والاشعار بسبب وكادتها والاستثناء منقطع وهو بمعنى الاستدراك من النفى المفهوم من الاستفهام الانكاري المتبارد شموله بجميع المعاهدين ومحل الموصول الرفع على الابتداء وخبره مقدر أو هو فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم والفاء لتضمنه معنى الشرط على ما مر و ما كما قال غير واحد إما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية بتقدير مضاف أي فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم وإما شرطية منصوبة المحل على الظرفية الزمانية أي أي زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم وهوأسم من القيل صناعة من الاحتمال الأول على التقدير الثاني ويحتمل أن تكون مرفوعة المحل على الابتداء وفي خبرها الخلاف المشهور واستقيموا جواب الشرط والفاء واقعة في الجواب وعلى احتمال المصدرية مزيدة للتأكيد
وجوز أن يكون الاستثناء متصلا ومحل الموصول النصب أو الجر على أنه بدل من المشركين لأن الاستفهام بمعنى النفي والمراد بهم الجنس لا المعهودون وأياما كان فحكم الامر بالاستقامة ينتهي بانتهاء مدة العهد فيرجع هذا الى الامر بلاتمام المار خلا أنه قد صرح ههنا بما لم يصرح به هناك مع كونه معتبرا فيه قطعا وهو تقييد الاتمام المأمور به ببقائهم على ما كانوا عليه من الوفاء وعلل سبحانه بقوله تعالى : إن الله يحب المتقين
7
- على طرز ما تقدم حذو القذة بالقذة كيف تكرير لاستنكار ما مر من أن يكون للمشركين عهد حقيق بالمراعاة عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : لاستبعاد ثباتهم على العهد وفائدة التكرار التأكيد والتمهيد لتعداد العلل الموجبة لما ذكر لا خلال تخلل ما في البين بالارتباط والتقريب وحذف الفعل المستنكر للايذان بأن النفس مستحضرة له مترقبة لورود ما يوجب استنكاره وقد كثر حذف الفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده ومن ذلك قوله كعب الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار : وخبر تمانى أنما الموت في القرى فكيف وهاتا هضبة وقليب يريد فكيف مات والحال ما ذكر والمراد هنا كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله عليه الصلاة و السلام و حالهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفروا بكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة أي لم يراعوا في شأنكم ذلك وأصل الرقوب النظر بطريق الحفظ والرعاية منه الرقيب ثم استعمل في مطلق الرعاية والمراقبة أبلغ منه كالمراعاة وفي نفي الرقوب من المبالغة ما ليس في نفيهما وما ألطف ذكر الرقوب مع الظهور و الال بكسر الهمزة وقد يفتح على ما روى عن ابن عباس الرحم والقرابة وأنشد قول حسان : لعمرك إن الك من قريش كال السقب من رأل النعام وإلى ذلك ذهب الضحاك وروى عن السدي أنه الحلف والعهد قيل : ولعله بهذا المعنى مشتق من الأل وهو الجوار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا أصواتهم ثم استعير للقرابة لان بين القريبين عقدا اشد من عقد التحالف وكونه أشد لا ينافي كونه مشبها لأن الحلف يصرح به ويلفظ فهو أقوى من وجه آخر وليس التشبيه من المقلوب كما توهم وقيل : مشتق من ألل الشىء إذا حدده أو من أل البرق إذا لمع وظهر ووجه المناسبة ظاهر
(10/55)

وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة ومجاهد أن الال بمعنى الله عز و جل ومنه ما روى أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه قرىء عليه كلام مسيلمة فقال لم يخرج هذا من أل فأين تذهب بكم قيل : ومنه اشتق الال بمعنى القرابة كما اشتقت الرحم من الرحمن والظاهر أنه ليس بعربي إذ لم يسمع في كلام العرب ال بمعنى إله ومن هنا قال بعضهم أنه عبري ومنه جبرال : وأيده بأنه قرىء إيلا وهو عندهم بمعنى الله أو الاله أي لا يخافون الله ولا يراعونه فيكم والذمة الحق الذي يعاب ويذم على اغفاله أو العهد وسمى به لأن نقضه يوجب الذم وهي في قولهم في ذمتي كذا محل الالتزام ومن الفقهاء من قال : هو معنى يصير به الآدمي على الخصوص أهلا لوجوب الحقوق عليه وقد تفسر بالأمان و الضمان وهي متقاربة وزعم بعضهم أن الال والذمة كلاهما هنا بمعنى العهد والعطف للتفسير ويأباه إعادة لا ظاهرا فليس هو نظير
فالفى قولها كذبا ومينا
فالحق المغايرة بينهما والمراد من الآية قيل : بيان أنهم اسراء الفرصة فلا عهد لهم وقيل : الارشاد إلى أن وجوب مراعاة حقوق العهد على كل من المتعاهدين مشروط بمراعاة الآخر لها فاذا لم يراعها المشركون فكيف تراعونها فهو على منوال قوله : علام تقبل منهم فدية وهم لا فضة قبلوا منا ولا ذهبا ولم أجد لهؤلاء مثلا من هذه الحيثية المشار إليها بقوله سبحانه : وإن يظهروا الخ إلا أناسا متزينين بزي العلماء وليس منهم ولا قلامة ظفر فانهم معى وحسبي الله وكفى على هذا الطرز فرفعهم الله تعالى لا قدرا وحطهم ولا حط عنهم وزرا وقوله سبحانه : يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم استئناف للكشف عن حقيقة شؤنهم الجلية والخفية دافع لما يتوهم من تعليق عدم رعاية العهد بالظفر أنهم يراعونه عند عدم ذلك حيث بين فيه أنهم في حالة العجز أيضا ليسوا من الوفاء في شىء وإن ما يظهرونه أخفاهم الله تعالى مداهنة لا مهادنة وكيفية ارضائهم المؤمنين أنهم يبدون لهم الوفاء والمصافات ويعدونهم بالايمان والطاعة ويؤكدون ذلك بالأيمان الفاجرة والمؤمن غر كريم إذا قال صدق وإذا قيل له صدق ويتعللون لهم عند ظهورهم خلاف ذلك بالمعاذير الكاذبة
وتقييد الارضاء بالأفواه للايذان بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم وأكد هذا بمضمون الجملة الثانية وزعم بعضهم أن الجملة خالية من فاعل يرقبوا لا استئنافية ورد بأن الحال تقتضى المقارنة والارضاء قبل الظهور الذي هو قبل عدم الرقوب الواقع جزاء فأين المقارنة وأيضا ان بين الحالتين منافات ظاهرة فان الارضاء بالافواه حالة إخفاء الكفر والبغض مداراة للمؤمنين وحالة عدم المراعاة والوقوف حالة مجاهرة بالعداوة لهم وحيث تنافيا لا معنى لتقييد إحداهما بالأخرى وأكثرهم فاسقون
8
- خارجون عن الطاعة متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردهم وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التحامى عن العذر والتعفف عما يجر أحدوثة السوء ووصف الكفرة بالفسق في غاية الذم اشتروا بآيات الله أي المتضمنة للأمر بايفاء العهود والاستقامة في كل أمر أو جميع آياته فيدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا والمراد بالاشتراء الاستبدال وفي الكلام استعارة تبعية تصريحية ويتبعها مكنية حيث شبهت الآيات بالشىء المبتاع وقد يكون هناك مجاز مرسل باستعمال المقيد وهو الاشتراء في المطلق وهو الاستبدال على حد ما قالوا في المرسن أي استبدلوا بذلك ثمنا قليلا أي شيئا حقيرا من حطام الدنيا وهو أهواؤهم وشهواتهم التي اتبعوها
(10/56)

والجملة كما قال العلامة الطيبي مستأنفة كالتعليل لقوله تعالى : وأكثرهم فاسقون فيه أن من فسق وتمرد كان سببه مجرد اتباع الشهوات والركون الى اللذات وفسر بعضهم الثمن القليل بما أنفقه أبو سفيان من الطعام وصرفه الى الاعراب فصدوا أي عدلوا وأعرضوا على أنه لازم من صد صدودا أو صرفوا ومنعوا غيرهم على أنه متعد من صده عن الأمر صدا والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم الى الصدود أو الصد عن سبيله أي الدين الحق الموصل إليه تعالى والاضافة للتشريف أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصدون الحجاج والعمار عنه فالسبيل إما مجاز وإما حقيقة وحينئذ إما أن يقدر في الكلام مضاف أوتجعل النسبة الاضافية متجوزا فيها إنهم ساء ما كانوا يعملون
9
- أي بئسما كانوا يعملونه أو عملهم المستمر والمخصوص بالذم محذوف
وقد جوز أن يكون كلمة ساء على بابها من التصرف لازمة بمعنى قبح أو معتدية والمفعول محذوف أي ساءهم الذي يعملونه أو عملهم وإذا كان جارية مجرى بئس تحول إلى فعل بالضم ويمتنع تصرفها كما قرر في محله وقوله سبحانه : لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة نعى عليهم عدم مراعاة حقوق عهد المؤمنين على الاطلاق بخلاف الأول لمكان فيكم فيه وفي مؤمن في هذا فلا تكرار كما في المدارك وقيل : إنه تفسير لما يعملون وهو مشعر باختصاص الذم والسوء لعملهم هذا دون غيره وقيل : إن الاول عام في الناقضين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والاعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم للاستعانة بهم على حرب النبي صلى الله عليه و سلم وعليه فالمراد بالايات ما يشمل القرآن والتوراة وفي هذا القول تفكيك للضمائر وارتكاب خلاف الظاهر والجبائي يخص هذا باليهود وفيه ما فيه وأولئك أي الموصوفون بما عدد من الصفاة السيئة هم المعتدون
1
- المجاوزون الغاية القصوى من الظلم والشرارة فان تابوا عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم كنقض العهد وغيره والفاء للايذان بأن تقريعهم بما نعى عليهم من فظائع الأعمال مزجرة عنها ومظنة للتوبة وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة على الوجه المأمور به فاخوانكم أي فهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم وعليهم ما عليكم والجار والمجرور متعلق باخوانكم كما قال أبو البقاء لما فيه من معنى الفعل قيل : ولاختلاف بين جواب هذه الشرطية وجواب الشرطية السابقة مع اتحاد الشرط فيهما لما أن الأولى سيقت إثر الأمر بالقتل ونظائره فيجب أن يكون جوابها أمرا بخلاف هذه وهذه سيقت بعد الحكم عليهم بالاعتداء وأشباهه فلا بد من أن كون جوابها حكما البتة وهذه الآية أجلب لقلوبهم من تلك الآية إذ فرق ظاهر بين تخلية سبيلهم وبين اثبات الاخوة الدينية لهم وبها استدل على تحريم دماء أهل القبلة وروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وجاء في رواية ابن جرير وأبي الشيخ عنه أنها حرمت قتال أو دماء أهل الصلاة والمآل واحد واستدل بها بعضهم على كفر تارك الصلاة إذ مفهومها نفي الاخوة الدينية عنه وما بعد الحق إلا الضلال ويلزمه القول بكفر مانع الزكاة أيضا بعين ما ذكره وبعض من لا يقول باكفارهما التزم تفسير اقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالتزامهما والعزم على إقامتهما ولا شك في كفر من لم يلتزمهما بالاتفاق
وذكر بعض جلة الأفاضل أنه تعالى علق حصول الأخوة في الدين على مجموع الأمور الثلاثة التوبة وإقام الصلاة
(10/57)

وإيتاء الزكاة والمعلق على الشيء بكلمة إن ينعدم عند ذلك الشيء فيلزم أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا تحصل الأخوة في الدين وهو مشكل لأن المكلف المسلم لو كان فقيرا أو كان غنيا لكن لم ينقض عليه الحول لا يلزمه إيتاء الزكاة فإذا لم يؤتها فقد انعدم عنه ما توقف عليه حصول أخوة الدين فيلزم أن لا يكون مؤمنا إلا أن يقال : التعليق بكلمة إن إنما يدل على مجرد كون المعلق عليه مستلزما ما علق عليه ولا يدل على إنعدام المعلق عليه بانعدامه بل يستفاد ذلك من دليل خارجي لجواز أن يكون المعلق لازما أعم فيتحقق بدون تحقق ما جعل ملزوما له ولو سلم أن نفس التعليق يدل على انعدام المعلق عند انعدام المعلق عليه لكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن لا يكون المسلم الفقير مؤمنا بعدم إيتاء الزكاة وإنما يلزم ذلك أن لو كان المعلق عليه إيتاؤها على جميع التقادير وليس كذلك بل المعلق عليه هو الإيتاء عند تحقق شرائط مخصوصة مبينة بدلائل شرعية انتهى
وأنت تعلم ما في القول بمفهوم الشرط من الخلاف والحنفية يقولون به والظاهر أن هذا البحث كما يجري في إيتاء الزكاة يجري في إقامة الصلاة واستدل ابن زيد باقترانهما على أنه لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له ونفصل الآيات أي نبينها والمراد بها إما ما مر من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين من الناكثين وغيرهم وأحكامهم حالتي الكفر والإيمان وأما جميع الآيات فيندرج فيها تلك الآيات إندراجا أوليا لقوم يعلمون
11
- ما فصلنا أو من ذوي العلم على أن الفعل متعد ومفعوله مقدر أو منزل منزلة اللازم والعلم كما قيل كناية عن التأمل والتفكر أو مجاز مرسل عن ذلك بعلاقة السببية والجملة معترضة للحث على التأمل في الآيات وتدبرها وقوله تعالى : وإن نكثوا عطف على قوله سبحانه : فإن تابوا أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا أيمانهم من بعد عهدهم الموثق بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوة إلى الفعل وجوز أن يكون المراد وإن ثبتوا واستمروا على ما هم عليه من النكث وفسر بعضهم النكث بالإرتداد بقرينة ذكره في مقابلة فإن تابوا والأول أولى بالمقام وطعنوا في دينكم قدحوا فيه بأن أعابوه وقبحوا أحكامه علانية
وجعل ابن المنير طعن الذمي في ديننا بين أهل دينه إذا بلغنا كذلك وعد هذا كثير ومنهم الفاضل المذكور نقضا للعهد فالعطف من عطف الخاص على العام وبه ينحل ما يقال : كان الظاهر أو طعنوا لأن كلا من الطعن وما قبله كاف في إستحقاق القتل والقتال وكون الواو بمعنى أو بعيد وقيل : العطف للتفسير كما في قولك : إستخف فلان بي وفعل معي كذا على معنى وإن نكثوا ايمانهم بطعنهم في دينكم والأول أولى ولا فرق بين توجيه الطعن إلى الدين نفسه إجمالا وبين توجيهه إلى بعض تفاصيله كالصلاة والحج مثلا ومن ذلك الطعن بالقرآن وذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحاشاه بسوء فيقتل الذمي به عند جمع مستدلين بالآية سواء شرط انتقاض العهد به أم لا وممن قال بقتله إذا أظهر الشتم والعياذ بالله مالك والشافعي وهو قول الليث وأفتى به ابن الهمام والقول بأن أهل الذمة يقرون على كفرهم الأصلي بالجزية وذا ليس بأعظم منه فيقرون عليه بذلك أيضا وليس هو من الطعن المذكور في شيء ليس من الإنصاف في شيء ويلزم عليه أن لا يعزروا أيضا كما يعزرون بعد الجزية على الكفر الأصلي وفيه لعمري بيع يتيمة الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم
(10/58)

بثمن بخس والدنيا بحذافيرها بل والآخرة بأسرها في جنب جنابه الرفيع جناح بعوضة أو أدنى وقال بعضهم : إن الآية لا تدل على ما ادعاه الجمع بفرد من الدلالات وإنها صريحة في أن إجتماع النكث والطعن يترتب عليه ما ترتب فكيف تدل على القتل بمجرد الطعن وفيه ما فيه ولا يخفى حسن موقع الطعن مع القتال المدلول عليه بقوله تعالى : فقاتلوا أئمة الكفر أي فقاتلوهم ووضع فيه الظاهر موضع الضمير وسموا أئمة لأنهم صاروا بذلك رؤساء متقدمين على غيرهم بزعمهم فهم أحقاء بالقتال والقتل وروي ذلك عن الحسن وقيل : المراد بأئمتهم رؤساؤهم وصناديدهم مثل أبي سفيان والحرث بن هشام وتخصيصهم بالذكر لأن قتلهم أهم لا لأنه لا يقتل غيرهم وقيل : للمنع من مراقبتهم لكونهم مظنة لها أو للدلالة على إستئصالهم فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم وعن مجاهد أنهم فارس والروم وفيه بعد وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال : ما قوتل أهل هذه الآية بعد وما أدري ما مراده والله تعالى أعلم بمراده وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أئمة بهمزتين ثانيتهما بين بين أي بين مخرج الهمزة والياء والألف بينهما والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما من غير ادخال ألف وهشام كذلك إلا أنه أدخل بينهما الألف هذا هو المشهور عن القراء السبعة ونقل أبو حيان عن نافع المد بين الهمزتين والياء
وضعف كما قال بعض المحققين قراءة التحقيق وبين بين جماعة من النحويين كالفارسي ومنهم من أنكر التسهيل بين بين وقرأ بياء خفيفة الكسرة وأما القراءة بالياء فارتضاها أبو علي وجماعة والزمخشري جعلها لحنا وخطأه أبو حيان في ذلك لأنها قراءة رأس القراء والنحاة أبو عمرو وقراءة ابن كثير ونافع وهي صحيحة رواية وعدم ثبوتها من طريق التيسير يوجب التضييق وكذا دراية فقد ذكر هو في المفصل وسائر الأئمة في كتبهم أنه إذا اجتمعت همزتان في كلمة فالوجه قلب الثانية حرف لين كما في آدم وأئمة فما اعتذر به عنه غير مقبول والحاصل أن القراءات هنا تحقيق الهمزتين وجعل الثانية بين بين بلا إدخال ألف وبه والخامسة بياء صريحة وكلها صحيحة لا وجه لإنكارها ووزن أئمة أفعلة كحمار وأحمرة وأصله أئممة فنقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت ولما ثقل اجتماع الهمزتين فروا منه ففعلوا ما فعلوا إنهم لا أيمان لهم أي على الحقيقة حيث لا يراعونها ولا يفون بها ولا يرون نقضها نقصا وإن أجروها على ألسنتهم وإنما علق النفي بها كالنكث فيما سلف لا بالعهد المؤكد بها لأنها العمدة في المواثيق والجملة في موضع التعليل إما لمضمون الشرط كأنه قيل : وإن نكثوا وطعنوا كما هو المتوقع منهم إذ لا أيمان لهم حقيقة حتى ينكثوها فقاتلوا أو لاستمرار القتال المأمور به المستفاد من السياق فكأنه قيل : فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا إنهم لا أيمان لهم حتى يعقد معهم عقد آخر وجعلها تعليلا للأمر بالقتال لا يساعده تعليقه بالنكث والطعن لأن حالهم في أن لا أيمان لهم حقيقة بعد ذلك كحالهم قبله والحمل على معنى عدم بقاء أيمانهم بعد النكث والطعن مع أنه لا حاجة إلى بيانه خلاف الظاهر وقيل : هو تعليل لما يستفاد من الكلام من الحكم عليهم بأنهم أئمة الكفر أي إنهم رؤساء الكفرة وأعظمهم شرا حيث ضموا إلى كفرهم عدم مراعاة الأيمان وهو كما ترى والنفي في الآية عند الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة على ما هو المتبادر فيمين الكافر ليست يمينا عنده معتدا بها شرعا وعند الشافعي عليه الرحمة هي يمين لأن الله تعالى وصفها بالنكث في صدر الآية وهو لا يكون حيث لا يمين
(10/59)

ولا أيمان لهم بما علمت وأجيب بأن ذلك باعتبار اعتقادهم أنه يمين ويبعده أن الاخبار من الله تعالى والخطاب للمؤمنين وقال آخرون : إن الإستدلال بالنكث على اليمين إشارة أو اقتضاء ولا أيمان لهم عبارة فتترجح والقول بأنها تؤول جمعا بين الأدلة فيه نظر لأنه إذا كان لابد من التأويل في أحد الجانبين فتأويل غير الصريح أولى ولعله لا يعتبر في ذلك التقدم والتأخر وثمرة الخلاف أنه لو أسلم الكافر بعد يمين انعقدت في كفره ثم حنث هل تلزمه الكفارة فعند أبي حنيفة عليه الرحمة لا وعند الشافعي رحمه الله تعالى نعم
وقرأ ابن عامر إيمان بكسر الهمزة على أنه مصدر آمنه إيمانا بمعنى أعطاه الأمان ويستعمل بمعنى الحاصل بالمصدر وهو الأمان والمراد أنه لا سبيل إلى أن تعطوهم أمانا بعد ذلك أبدا قيل : وهذا النفي بناء على أن الآية في مشركي العرب وليس لهم إلا الإسلام أو السيف ومن الناس من زعم أن المراد لا سبيل إلى أن يعطوكم الأمان بعد وفيه أنه مشعر بأن معاهدتهم معنا على طريقة أن يكون إعطاء الأمان من قبلهم وهو بين البطلان أو على أن الإيمان بمعنى الإسلام والجملة على هذا تعليل لمضمون الشرط لا غير على ما بينه شيخ الإسلام كأنه قيل إن نكثوا وطعنوا كما هو الظاهر من حالهم لأنه إسلام 1 لهم حتى يرتدعوا عن نقض جنس إيمانهم وعن الطعن في دينكم وتشبث بهذه الآية على هذه القراءة من قال : إن المرتد لا تقبل توبته بناء على أن الناكث هو المرتد وقد نفي الإيمان عنه ونفيه مع أنه قد يقع منه نفي لصحته والإعتداد به ولا يخفى ضعفه لما علمت من معنى الآية وقد قالوا : الإحتمال يسقط الإستدلال وقال القاضي : بيض الله تعالى غرة أحواله في بيان ضعفه : أنه يجوز أن يكون المراد نفي الإيمان عن قوم معينين والإخبار عنهم بأنه طبع على قلوبهم فلا يصدر منهم إيمان أصلا أو يكون المراد أن المشركين لا إيمان لهم حتى يراقبوا ويمهلوا لأجله ويفهم من هذا أنه لم يجعل الجملة تعليلا لمضمون الشرط كما ذكرنا والظاهر أنه جعلها تعليلا لقوله سبحانه : فقاتلوا يعني أن المانع من قتلهم أحد أمرين إما العهد وقد نقضوه أو الايمان وقد حرموه وربما يؤول ذلك إلى جعلها علة لما يفهم من الكلام كأنه قيل : إن نكثوا وطعنوا فقاتلوهم ولا تتوقفوا لأنه لا مانع أصلا بعد ذلك لأنهم لا إيمان لهم ليكون مانعا ولا يخفى ما فيه
وإن قيل : إنه سقط به ما قيل : إن وصف أئمة الكفر بأنهم لا إسلام لهم تكرار مستغنى عنه وجعل الجملة تعليلا لما يستفاد من الكلام من الحكم عليهم بأنهم أئمة الكفر أي رؤساؤه على إحتمال أن يراد الاخبار عن قوم مخصوصين بالطبع أظهر من جعلها تعليلا لها على القراءة السابقة نعم يأبى حديث الاخبار بالطبع قوله تعالى : لعلهم ينتهون
21
- إذ مع الطبع لا يتصور الإنتهاء وهو متعلق بقوله سبحانه : فقاتلوا أي قاتلوهم إرادة أن ينتهوا أي ليكن غرضكم من القتال انتهاؤهم عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم لا مجرد إيصال الأذية بهم كما هو شنشنة المؤذين ومما قرر يعلم أن الترجي من المخاطبين لا من الله عز شأنه ألا تقاتلون تحريض على القتال لأن الإستفهام فيه للإنكار والإستفهام الإنكاري في معنى النفي وقد دخل النفي ونفي النفي إثبات وحيث كان الترك مستقبحا منكرا أفاد بطريق برهاني أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه فيفيد الحث والتحريض عليه وقد يقال : وجه التحريض على القتال أنهم حملوا على الإقرار بانتفائه كأنه أمر لا يمكن أن يعترف به طائعا لكمال شناعته فيلجئون إلى ذلك ولا يقدرون على الإقرار به فيختارون القتال فيقاتلون قوما نكثوا أيمانهم التي حلفوها عند المعاهدة لكم
(10/60)

على أن لا يعاونوا عليكم فعاونوا حلفاؤهم بني بكر على حلفاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خزاعة والمراد بهم قريش وهموا بإخراج الرسول من مكة مسقط رأسه عليه الصلاة و السلام حين تشاوروا بدار الندوة حسبما ذكر في قوله تعالى : وأذ يمكر بك الذين كفروا وقال الجبائي : هم اليهود الذين نقضوا العهد وخرجوا مع الأحزاب وهموا باخراج الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة ولا يخفى أنه يأباه السياق وعدم القرينة عليه والأول هو المروي عن مجاهد والسدي وغيرهما واعترض بأن ما وقع في دار الندوة هو الهم بالإخراج أو الحبس أو القتل والذي استقر رأيهم عليه هو القتل لا الإخراج فما وجه التخصيص وأجيب بأن التخصيص لأنه الذي وقع في الخارج ما يضاهيه مما ترتب على همهم وإن لم يكن بفعل منهم بل من الله تعالى لحكمة وما عداه لغو فخص بالذكر لأنه المقتضى للتحريض لا غيره مما لم يظهر له أثر
وقيل : إنه سبحانه اقتصر على الأدنى ليعلم غيره بطريق أولى ولا يرد عليه أنه ليس بأدنى من الحبس كما توهم لأن بقاؤه عليه الصلاة و السلام في يد عدوه المقتضى للتبريح بالتهديد ونحوه أشد منه بلا شبهة وهم بدءوكم بالمقاتلة أول مرة وذلك يوم بدر وقد قالوا بعد أن بلغهم سلامة العير : لا ننصرف حتى نستأصل محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه وقال الزجاج : بدأوا بقتال خزاعة حلفاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإليه ذهب الأكثرون واختار جمع الأول لسلامته من التكرار وقد ذكر سبحانه ثلاثة أمور كل منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بها حال الإجتماع ففي ذلك من الحث على القتال ما فيه ثم زاد ذلك بقوله سبحانه : أتخشونهم وقد أقيم فيه السبب والعلة مقام المسبب والمعلول والمراد أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم فالله أحق أن تخشوه بمخالفة أمره وترك قتال عدوه والاسم الجليل مبتدأ و أحق خبره و أن تخشوه بدل من الجلالة بدل إشتمال أو بتقدير حرف جر أي بأن تخشوه فمحله النصب أو الجر بعد الحذف على الخلاف وقيل : إن أن تخشوه مبتدأ خبره أحق والجملة خبر الاسم الجليل أي خشية الله تعالى أحق أو الله أحق من غيره بالخشية أو الله خشيته أحق وخير الأمور عندي أوسطها إن كنتم مؤمنين
31
- فإن مقتضى إيمان المؤمن الذي يتحقق أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى ولا يقدر أحد على مضرة ونفع إلا بمشيئته أن لا يخاف إلا من الله تعالى ومن خاف الله تعالى خاف منه كل شيء وفي هذا من التشديد ما لا يخفى قاتلوهم تجريد للامر بالقتال بعد بيان موجبه على أتم وجه والتوبيخ على تركه ووعد بنصرهم وبتعذيب أعدائهم واخزائهم وتشجيع لهم يعذبهم الله بأيديكم بالقتل ويخزهم ويذلهم بالأسر وقد يقال : يعذبهم قتلا وأسرا ويذلهم بذلك وينصركم عليهم أي يجعلكم جميعا غالبين عليهم أجمعين ولذلك أخر كما قال بعض المحققين عن التعذيب والإخزاء ويشف صدور قوم مؤمنين
41
- قد تألموا من جهتهم والمراد بهم أناس من خزاعة حلفائه عليه الصلاة و السلام كما قال عكرمة وغيره وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا فبعثوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يشكون إليه فقال عليه الصلاة و السلام : أبشروا فإن الفرج قريب
(10/61)

وروي عنه رضي الله تعالى عنه أن قوله سبحانه : ألا تقاتلون الخ ترغيب في فتح مكة وأورد عليه أن هذه السورة نزلت بعد الفتح فكيف يتأتى ما ذكر وأجيب بأن أولها نزل بعد الفتح وهذا قبله وفائدة عرض البراءة من عهدهم مع أنه معلوم من قتال الفتح وما وقع فيه من الدلالة على عمومه لكل المشركين ومنعهم من البيت فتذكر ولا تغفل قيل : ولا يبعد حمل المؤمنين على العموم لأن كل مؤمن يسر بقتل الكفار وهوانهم ويذهب غيظ قلوبهم بما نالهم من الأذى ولم يكونوا قادرين على دفعه وقيل : المراد يذهب غيظهم لأنتهاك محارم الله تعالى والكفر به عز و جل وتكذيب رسوله عليه الصلاة و السلام وظاهر العطف أن إذهاب الغيظ غير شفاء الصدور ووجه بأن الشفاء بقتل الأعداء وخزيهم وإذهاب الغيظ بالنصرة عليهم أجمعين وقيل : إذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله تعالى عليهم من تعذيبه أعدائهم وإخزائهم ونصرته سبحانه لهم عليهم ولعل إذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه فيكون ذكره من باب الترقي ولا يخلو عن حسن وقيل : إن شفاء الصدور بمجرد الوعد بالفتح وإذهاب الغيظ بوقوع الفتح نفسه وليس بشيء وقد أنجز الله تعالى جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فالآية من المعجزات لما فيها من الأخبار بالغيب ووقوع ما أخبر عنه واستدل بها على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وقيل : إن إسناد التعذيب إليه سبحانه مجاز باعتبار أنه جل وعلا مكنهم منه وأقدرهم عليه
وفي الحواشي الشهابية قيل : إن قوله سبحانه : بأيديكم كالصريح بأن مثل هذه الأفعال التي تصلح للباري فعل له تعالى وإنما للعبد الكسب بصرف القوى والالآت وليس الحمل على الإسناد المجازي بمرضى عند العارف بأساليب الكلام ولا الإلزام بالإتفاق على إمتناع كتب الله تعالى بأيديكم وامتناع كذب الله تعالى شأنه بألسنة الكفار بوارد لأن مجرد خلق الفعل لا يصحح اسناده إلى الخالق ما لم يصلح محلا له وإمتناع ما ذكر للإحتراز عن شناعة العبارة إذ لا يقال : يا خالق القاذورات ولا المقدر للزنا والممكن منه ثم قال : ولا يخفى ما فيه فإنه تعالى لا يصلح محلا للقتل ولا للضرب ونحوه مما قصد بالإذلال وإنما هو خالق له والفعل لا يسند حقيقة إلى خالقه وإن كان هو الفاعل الحقيقي للفرق بينه وبين الفاعل اللغوي إذ لا يقال : كتب الله تعالى بيد زيد على أنه حقيقة بلا شبهة مع أنه لا شناعة فيه لقوله سبحانه : كتب الله فما ذكره غير مسلم اه وأنا أقول : إن مسألة خلق الأفعال قد قضى العلماء المحققون الوطر منها فلا حاجة إلى بسط الكلام فيها وقد تكلموا في الآية بما تكلموا لكن بقي فيها شيءوهو السر في نسبة التعذيب إليه تعالى وذكر الأيدي ولم يذكروه ولعل ذلك في النسبة إرادة المبالغة فإنه تعذيب الله تعالى القوي العزيز وإن كان بأيدي العباد وفي ذكر الأيدي إما للتنصيص على أن ذلك في الدنيا لا في الآخرة وإما لتكون البشارة بالتعذيب على الوجه الأتم الذي يترتب عليه شفاء الصدور ونحوه على الوجه الأكمل إذ فرق بين تعذيب العدو بيد عدوه وتعذيبه لا بيده ولعمري أن الأول أحلى وأوقع في النفس فافهم ولا يخفى ما في الآية من الإنسجام حيث يخرج منها بيت كامل من الشعر ويتوب الله على من يشاء ابتداء إخبار بأن بعض هؤلاء الذين أمروا بمقاتلتهم يتوب من كفره فيتوب الله تعالى عليه وقد كان كذلك حيث أسلم منهم
(10/62)

أناس وحسن إسلامهم وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وعمرو بن عبيد ويتوب بالنصب ورويت عن أبي عمرو ويعقوب أيضا واستشكلها الزجاج بأن توبة الله تعالى على من يشاء واقعة قاتلوا أو لم يقاتلوا والمنصوب في جواب الأمر مسبب عنه فلا وجه لإدخال التوبة في جوابه وقال ابن جني : إن ذلك كقولك : إن تزرني أحسن إليك وأعط زيدا كذا على أن المسبب عن الزيارة جميع الأمرين لا أن كل واحد مسبب بالإستقلال وقد قالوا بنظير ذلك في قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الخ وفيه تعسف
وقال بعضهم : إنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على البعض فإذا قاتلوا جرى قتالهم مجرى التوبة من تلك الكراهية فيصير المعنى إن تقاتلوهم يعذبهم الله ويتب عليكم من كراهة قتالهم ولا يخفى أن الظاهر أن التوبة للكفار وذكر بعض المدققين أن دخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى لأنه يكون منصوبا بالفاء فهو على عكس فأصدق وأكن وهو المسمى بعطف التوهم ووجهه أن القتال سبب لغل شوكتهم وإزالة نخوتهم فيتسبب لذلك لتأملهم ورجوعهم عن الكفر كما كان من أبي سفيان وعكرمة وغيرهما والتقييد بالمشيئة للإشارة إلى أنها السبب الأصلي وأن الأول سبب عادي وللتنبيه إلى أن إفضاء القتال إلى التوبة ليس كافضائه إلى البواقي وزعم بعض الأجلة أن قراءة الرفع على مراعاة المعنى حيث ذكر مضارع مرفوع بعد مجزوم هو جواب الأمر ففهم منه أن المعنى ويتوب الله على من يشاء على تقدير المقابلة لما يرون من ثباتكم وضعف حالهم
وأما على قراءة النصب فمراعاة اللفظ إذ عطف على المجزوم منصوب بتقدير نصبه وليس بشيء والحق أنه على الرفع مستأنف كما قدمنا والله عليم لا تخفى عليه خافية حكيم
51
- لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمة ومصلحة فامتثلوا أمره عز و جل وإيثار إظهار الإسم الجليل على الإضمار لتربية المهابة وإدخاله الروعة
أم حسبتم خطاب لمن شق عليه القتال من المؤمنين أو المنافقين وأم منقطعة جيء بها للإنتقال عن أمرهم بالقتال إلى توبيخهم أو من التوبيخ السابق إلى توبيخ آخر والهمزة المقدرة مع بل للتوبيخ على الحسبان المذكور أي بل أحسبتم وظننتم أن تتركوا على ما أنتم عليه ولا تؤمروا بالجهاد ولا تبتلوا بما يمحصكم ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم الواو حالية و لما للنفي مع التوقع ونفي العلم والمراد نفي المعلوم وهو الجهاد على أبلغ وجه إذ هو بطريق البرهان إذ لو وقع جهادهم علمه الله تعالى لا محالة فإن وقوع ما لا يعلمه عز و جل محال كما أن عدم وقوع ما يعلمه كذلك وإلا لم يطابق علمه سبحانه الواقع فيكون جهلا وهو من أعظم المحالات فالكلام من باب الكناية وقيل : إن العلم مجاز عن التبيين مجازا مرسلا باستعماله في لازم معناه وفي الكشاف ما يشعر أولا بأن العلم مجاز عما ذكر وثانيا ما يشعر بأنه من باب الكناية وأجيب عنه بأنه أشار بذلك إلى أنه إستعمل لنفي الوجود مبالغة في نفي التبيين وما ذكره أولا من قوله : إنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم وهم الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى لوجهه جل شأنه حاصل المعنى وذلك لأنه خطاب للمؤمنين إلهابا لهم وحثا على ما حضهم عليه بقوله سبحانه : قاتلوهم يعذبهم الله فإذا
(10/63)

وبخوا على حسبان أن يتركوا ولم يوجد فيما بينهم مجاهد مخلص دل على أنهم إن لم يقاتلوا لو يكونوا مخلصين وأن الإخلاص إذا لم يظهر أثره بالجهاد في سبيل الله تعالى ومضادة الكفار كلا إخلاص ولو فسر العلم بالتبين لم يفد هذه المبالغة فتدبر وقوله تعالى : ولم يتخذوا عطف على جاهدوا وداخل في حيز الصلة أو حال من فاعله أي جاهدوا حال كونهم غير متخذين من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة أي بطانة وصاحب سر كما قال ابن عباس وهي من الولوج وهو الدخول وكل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة ويكون للمفرد وغيره بلفظ واحد وقد يجمع على ولائج و من دون متعلق بالإتخاذ إن أبقى على حاله أو مفعول ثان له إن جعل بمعنى التصبير والله خبير بما تعملون
61
- أي بجميع أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وقريء على الغيبة وفي هذا إزاحة لما يتوهم من ظاهر قوله سبحانه : ولما يعلم الخ من أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها كما ذهب إليه هشام مستدلا بذلك
ووجه الإزاحة أن تعملون مستقبل فيدل على خلاف ما ذكره ما كان للمشركين أي لا ينبغي لهم ولا يليق وإن وقع أن يعمروا مساجد الله الظاهر أن المراد شيئا من المساجد لأنه جمع مضاف فيعم ويدخل فيه المسجد الحرام دخولا أوليا وتعميره مناط افتخارهم ونفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية وعن عكرمة وغيره أن المراد به المسجد الحرام واختاره بعض المحققين وعبر عنه بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها المتوجهة إليه محاريبها فعامره كعامرها أو لأن كل مسجد ناحية من نواحيه المختلفة مسجد على حياله بخلاف سائر المساجد ويؤيد ذلك قراءة أبي عمرو ويعقوب وابن كثير وكثير 1 مسجد بالتوحيد وحمل بعضهم ما كان على نفي الوجود والتحقق وقدر بأن يعمروا بحق لأنهم عمروها بدونه ولا حاجة إلى ذلك على ما ذكرنا شاهدين على أنفسهم بالكفر بإظهارهم ما يدل عليه وإن لم يقولوا نحن كفار وقيل : بقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وقيل : بقولهم كفرنا بما جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو حال من الضمير في يعمروا قيل : أي مااستقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة البيت والكفر بربه سبحانه وقال بعضهم : إن المراد محال أن يكون ما سموه عمارة بيت الله تعالى مع ملابستهم لما ينافيها ويحبطها من عبادة غيره سبحانه فإنها ليست من العمارة في شيء واعترض على قولهم : إن المعنى مااستقام لهم أن يجمعوا بين متنافيين بأنه ليس بمعرب عن كنه المرام فإن عدم إستقامة الجمع بين المتنافيين إنما يستدعي إنتفاء أحدهما لا بعينه لا إنتفاء العمارة الذي هو المقصود وظاهره أن النفي في الكلام راجع إلى المقيد وحينئذ لا مانع من أن يكون المراد من ما كان نفي اللياقة على ما ذكرنا والغرض إبطال إفتخار المشركين بذلك لإقترانه بما ينافيه وهو الشرك وجوز أن يوجه النفي إلى القيد كما هو الشائع وتكلف له بما يخلو عن نظر ولعل من قال في بيان المعنى : مااستقام لهم أن يجمعوا الخ جعل محط النظر المقارنة التي أشعر بها الحال ومع هذا لا يأبى أن يكون المقصود نظرا للمقام نفي صحة الإفتخار بالعمارة والسقاية فتدبر جدا
(10/64)

ومما يدل على أن المقام لنفي الإفتخار ما أخرجه أبو الشيخ وابن جرير عن الضحاك أنه لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ عليه علي كرم الله تعالى وجهه في القول فقال : تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونقري الحجيج ونفك العاني فنزلت : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه أولئك أي المشركون المذكورون حبطت أعمالهم التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت كلا شيء وفي النار هم خالدون
71
- لعظم ماارتكبوه وإيراد الجملة إسمية للمبالغة في الخلود والظرف متعلق بالخبر قدم عليه للإهتمام به ومراعاة للفاصلة وهذه الجملة قيل : عطف على جملة حبطت على أنها خبر آخر لأولئك وقيل : هي مستأنفة كجملة أولئك حبطت وفائدتهما تقرير النفي السابق الأولى من جهة نفي إستتباع الثواب والثانية من جهة نفي استدفاع العذاب إنما يعمر مساجد الله اختلف في المراد بالمساجد هنا كما اختلف في المراد بها هناك خلا أن من قال هناك بأن المراد المسجد الحرام لا غير جوز هنا إرادة جميع المساجد قائلا : إنها غير مخالفة لمقتضى الحال فإن الإيجاب ليس كالسلب وادعى أن المقصود قصر تحقق العمارة على المؤمنين لا قصر لياقتها وجوازها وأنا أرى قصر اللياقة لائقا بلا قصور وقريء بالتوحيد أي إنما يليق أن يعمرها من آمن بالله واليوم الآخر على الوجه الذي نطق به الوحي وأقام الصلاة وءاتى الزكاة التي أتى بهما الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فيندرج في ذلك الإيمان به عليه الصلاة و السلام حتما إذ لا يتلقى ذلك إلا منه صلى الله تعالى عليه وسلم
وجوز أن يكون ذكر الإيمان به عليه الصلاة و السلام قد طوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى دلالة على أنهما كشيء واحد إذا ذكر أحدهما فهم الآخر على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى ما يجب الإيمان به أجمع ومن جملته رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : إنما لم يذكر عليه الصلاة و السلام لأن المراد بمن هو صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه أي المستحق لعمارة المساجد من هذه صفته كائنا من كان وليس الكلام في إثبات نبوته عليه الصلاة و السلام والإيمان به بل فيه نفسه وعمارته المسجد واستحقاقه لها فالآية على حد قوله سبحانه : إني رسول الله اليكم جميعا إلى قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته والوجه الثاني أولى والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتزيينها بالفرش لا على وجه يشغل قلب المصلي عن الحضور ولعل ما هو من جنس ما يخرج من الأرض كالقطن والحصر السامانية أولى من نحو الصوف إذ قيل : بكراهة الصلاة عليه وتنويرها بالسرج ولو لم يكن هناك من يستضيء بها على ما نص عليه جمع وإدامة العبادة والذكر ودراسة العلوم الشرعية فيها ونحو ذلك وصيانتها مما لم تبن له في نظر الشارع كحديث الدنيا ومن ذلك الغناء على مآذنها كما هو معتاد الناس اليوم لاسيما بالأبيات التي غالبها هجر من القول وقد روي عنه عليه الصلاة و السلام الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش وهذا حديث في الحديث المباح فما ظنك بالمحرم مطلقا أو المرفوع فوق المآذن وأخرج الطبراني بسند صحيح عن سلمان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من توضأ في بيته ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى وحق على المزور أن يكرم الزائر وأخرج سليم الرازي في الترغيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال :
(10/65)

قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه وأخرج أبو بكر الشافعي وغيره عن أبي قرصافة قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين وسمعته عليه الصلاة و السلام يقول من بنى لله تعالى مسجدا بنى الله تعالى له بيتا في الجنة فقالوا : يا رسول الله وهذه المساجد التي تبنى في الطرق فقال عليه الصلاة و السلام : وهذه المساجد التي تبنى في الطرق وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الغدو والرواح إلى المسجد من الجهاد في سبيل الله تعالى وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان وتلا صلى الله تعالى عليه وسلم إنما يعمر الآية
واستشكل ذكر إيتاء الزكاة في الآية بأنه لاتظهر مدخليته في العمارة وتكلف لذلك بأن الفقراء يحضرون المساجد للزكاة فتعمر بهم وأن من لايبذل المال للزكاة الواجبة لايبذله لعمارتها وهو كما ترى والحق أن المقصود بيان أن من يعمر المساجد هو المؤمن الظاهر إيمانه وهو إنما يظهر بإقامة واجباته فعطف الإقامة والإيتاء على الإيمان للإشارة إلى ذلك ولم يخش أحدا إلا الله فعمل بموجب أمره ونهيه غير آخذ له في الله تعالى لومة لائم ولا مانع له خوف ظالم فيندرج فيه عدم الخشية عند القتال الموبخ عليها في قوله سبحانه : أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه وأما الخوف الجبلي من الأمور المخوفة فليس من هذا الباب ولا هو مما يدخل تحت التكليف والخطاب والنهي في قوله تعالى : خذها ولا تخف ليس على حقيقته
وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فاريد نفي تلك الخشية عنهم فعسى أولئك المنعوتون بأكمل النعوت أن يكونوا من المهتدين
81
- أي إلى الجنة وما أعد الله تعالى فيها لعباده كما روي عن ابن عباس والحسن وإبراز اهتدائهم لذلك مع مابهم من تلك الصفات الجليلة في معرض التوقع لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الإهتداء لأن هؤلاء المؤمنين وهم هم إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى فما بال الكفرة بيت المخازي والقبائح وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم وما هم عليه وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء وهذا هو المناسب للمقام لا الأطماع وسلوك سنن الملوك مع كون القصد إلى الوجوب وكون الكفرة يزعمون أنهم محقون وأن غيرهم على الباطل فلا يتأتى حسم أطماعهم لا يلتفت إليه بعد ظهور الحق وهذا لاريب فيه
وقيل : إن الأوصاف المذكورة وإن أوجبت الإهتداء ولكن الثبات عليها مما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد يطرأ ما يوجب ضد ذلك والعبرة للعاقبة فكلمة التوقع يجوز أن تكون لهذا ولا يخفى ما فيه فإن النظر إلى العاقبة هنا لا يناسب المقام الذي يقتضي تفضيل المؤمنين عليهم في الحال
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله السقاية والعمارة مصدر أسقى وعمر بالتخفيف إذ عمر المشدد يقال في عمر الإنسان لا في العمارة كما يتوهمه العوام وصحت الياء في سقاية لأن بعدها هاء التأنيث وظاهر الآية تشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات وأنه
(10/66)

لا يحسن هنا فلا بد من التقدير إما في جانب الصفة أي أجعلتم أهل السقاية والعمارة كمن آمن ويؤيده قراءة محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنه وابن الزبير وأبي جعفر وأبي وجزة السعدي وهو من القراء وإن اشتهر بالشعر أجعلتم سقاة الحاج بضم السين جمع ساق وعمرة المسجد بفتحتين جمع عامر وكذا قراءة الضحاك سقاية بالضم أيضا مع الياء والتاء وعمرة كما في القراءة السابقة ووجه سقاية فيها أن يكون جمعا جاء على فعال ثم أنث كما أنث من الجموع نحو حجارة فإن في كلا القراءتين تشبيه ذات بذات وإما في جانب الذات أي أجعلتموهما كايمان من آمن وجهاد من جاهد وقيل : لا حاجة إلى التقدير في شيء وإنما المصدر بمعنى اسم الفاعل والمعنى عليه كما في الأول وأيا ما كان فالخطاب إما للمشركين على طريقة الإلتفات واختاره أكثر المحققين وهو المتبادر من النظم وتخصيص ذكر الإيمان في جانب المشبه به واستدل له بما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين قالوا : عمارة بيت الله تعالى والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد فذكر الله تعالى خير الإيمان به سبحانه والجهاد مع نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية وبما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك قال : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج فأنزل الله تعالى أجعلتم الآية وهذا ظاهر في أن الخطاب لهم وهم مشركون
وإما لبعض المؤمنين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد واستدل له بما أخرجه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل عملا لله تعالى بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله تعالى خير مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله تعالى عنه وقال : لاترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاستفتيه فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى الآية إلى قوله سبحانه : والله لا يهدي القوم الظالمين وبما روي من طرق أن الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والعباس وذلك أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال له : يا عم لو هاجرت إلى المدينة فقال له : أولست في أفضل من الهجرة وألست أسقي الحاج وأعمر البيت وهذا ظاهر في أن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذ ذاك مسلما على خلاف ما يقتضيه غيره من الأخبار المتقدم بعضها وأيد هذا القول بأنه المناسب للإكتفاء في الرد عليهم ببيان عدم مساواتهم عند الله تعالى للفريق الثاني وبيان أعظمية درجتهم عند الله تعالى الظاهر دخوله في الرد على وجه يشعر بعدم حرمان الأولين بالكلية لمكان أفعل التفضيل وجعل المشتمل على ذلك استطرادا لتفضيل من اتصف بتلك الصفات على غيره من المسلمين خلاف الظاهر وكذا القول بأنه سيق لتفضيلهم على أهل السقاية والعمارة من الكفرة وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله تعالى جاء على زعمهم ومدعاهم على أنه قيل عليه : إنه ليس فيه كثير نفع لأنه إن لم يشعر بعدم الحرمان فليس بمشعر بالحرمان والكلام على الأول توبيخ للمشركين ومداره إنكار تشبيه أنفسهم من حيث اتصافهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظر عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافهم بالإيمان والجهاد أو على
(10/67)

إنكار تشبيه وصفيهم المذكورين في حد ذاتهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهاد
والقول باعتبار المقارنة مما أغمض عنه المحققون لإباء المقام إياه كيف لا وقد بين حبوط أعمالهم بذلك الإعتبار وكونها بمنزلة العدم فتوبيخهم بعد على تشبيهها بالإيمان والجهاد ثم رد ذلك بما يشعر بعدم حرمانهم عن أصل الفضيلة بالكلية مما لا يساعده النظم الكريم ولو اعتبر لما احتيج إلى تقرير إنكار التشبيه وتأكيده بشيء آخر إذ لا شيء أظهر بطلانا من نسبة المعدوم إلى الموجود وقيل : لا مانع من إعتبارها ويقطع النظر عما تقدم من بيان الحبوط وعدم الحرمان من المشعور به مبني على ذلك وفيه ما فيه والمعنى أجعلتم أهل السقاية والعمارة في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهاد وشتان ما بينهما فإن السقاية والعمارة وإن كانتا في أنفسهما من أعمال البر والخير لكنهما وإن خلتا عن القوادح بمعزل أن يشبه أهلهما بأهل الإيمان والجهاد أو يشبه نفسهما بنفس الإيمان والجهاد وذلك قوله سبحانه : لايستوون عند الله أي لا يساوي الفريق الأول الثاني وبظاهره يترجح التقدير الأول وإذا كان المراد لايستوون بأوصافهم يرجع إلى نفي المساواة في الأوصاف فيوافق الإنكار على التقدير الثاني وإسناد عدم الإستواء إلى الموصوفين لأن الأهم بيان تفاوتهم وتوجيه النفي ههنا والإنكار فيما سلف إلى الإستواء والتشبيه مع أن دعوى المفتخرين بالسقاية والعمارة من المشركين أو المؤمنين إنما هي الأفضلية دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفي التساوي والتشابه نفي للأفضلية بالطريق الأولى لكن ينبغي أن يعلم أن الإفضلية التي يدعيها المشركون تشعر بثبوت أصل الفضيلة للمفضل عليه وهم بمعزل عن إعتقاد ذلك وكيف يتصور منهم أن في جهادهم وقتلهم فضيلة أو أن في الإيمان المستلزم لتسفيه رأيهم فيما هم عليه فضيلة فلا بد أن يكون ذلك من باب المجاراة فلا تغفل
والجملة إستئناف لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من مفعولي الجعل والرابط ضمير الجمع كأنه قيل : سويتم بينهم حال كونهم متفاوتين عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين
91
- أريد بهم المشركون وبالظلم الشرك أو وضع الشيء في غير موضعه شركا كان أو غيره فيدخل فيه ظلمهم في ذلك الجعل وهو أبلغ في الذم والمراد من الهداية الدلالة الموصلة لا مطلق الدلالة لأنه لا يناسب المقام وهذا حكم منه تعالى أنه سبحانه لايوفق هؤلاء الظالمين إلى معرفة الحق وتمييز الراجح من المرجوح ولعله سيق لزيادة تقرير عدم التساوي
وقوله سبحانه الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله إستئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد وتكميلا له وزيادة الهجرة وتفصيل نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهاد لا أنه أعتبر بطريق التدارك أمر لم يعتبر فيما سلف والظاهر من السياق أن المفضل عليه أهل السقاية والعمارة من المشركين وقد أنشرنا إلى ما له وما عليه حسبما ذكره بعض الفضلاء وأنا أقول : إذا أريد من أفعل المبالغة في الفضل وعلو المرتبة والمنزلة فالأمر هين وإذا أريد به حقيقته فهناك إحتمالان الأول أن يقال : حذف المفضل عليه إيذانا بالعموم أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفات أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم يتصف بها كائنا من كان ويدخل فيه أهل السقاية والعمارة ويكفي في تحقيق حقيقة أفعل
(10/68)

وجود أصل الفعل في بعض الأفراد المندرجة تحت العموم كما يقال : فلان أعلم الخلق مع أن منهم من لا يتصف بشيء من العلم بل لايمكن أن يتصف به أصلا وهذا مما لا ينبغي أن يشك فيه سوى أنه يعكر علينا أن المقصود بالمفضل عليه في المثال من له مشاركة في أصل الفعل ولا كذلك ما نحن فيه فإن لم يضر هذا فالأمر ذاك وإلا فهو كما ترى الثاني أن يقال : ما أفهمته الصيغة من أن للسقاة والعمار من المشركين درجة جاء على زعم المشركين وحسن ذلك وقوع مثله في كلامهم مع المؤمنين فإنهم قالوا كما دل عليه بعض الأخبار السابقة : السقاية والعمرة خير من الإيمان والجهاد ولاشك أن ما يشعر به خير من أن في الإيمان والجهاد خيرا إنما جاء على زعم المؤمنين فما في الآية خارج مخرج المشاكلة مع ما في كلامهم وإن إختلف اللفظ وما قيل : من أن جعل معنى التفضيل بالنسبة إلى زعم الكفرة ليس فيه كثير نفع ليس فيه كثير ضرر كما لا يخفى على من ذاق طعم البلاغة ولو بطرف اللسان ويشعر كلام بعضهم أن التفضيل مبني على ما تقدم من قطع النظر وإغماض العين أي المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة أعلى رتبة ممن خلا منها وإن حاز جميع ما عداها مما هو كمال في حد ذاته كالسقاية والعمارة والمراد بسبيل الله هنا الإخلاص أو نحوه لا الجهاد فالمعنى جاهدوا مخلصين وأولئك الموصوفون بما ذكر هم الفائزون
2
- أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق كأن فوز عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم
والكلام على الثاني توبيخ لمن يؤثر السقاية والعمارة من المؤمنين على الهجرة والجهاد أي أجعلتم أهلها من المؤمنين في الفضيلة والكرامة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما كالإيمان والجهاد قالوا : وإنما لم يذكر الإيمان في جانب المشبه مع كونه معتبرا فيه قطعا تعويلا على ظهور الأمر وإشعارا بأن مدار إنكار التشبيه هو السقاية والعمارة دون الإيمان وإنما لم يترك ذكره في جانب المشبه به أيضا تقوية للإنكار وتذكيرا لأسباب الرجحان ومباديء الأفضلية وإيذانا بكمال التلازم بين الإيمان وما تلاه ومعنى عدم الإستواء عند الله تعالى وأعظمية درجة الفريق لثاني على هذا التقرير ظاهر
والمراد بالظلم الظلم بوضع كل من الراجح والمرجوح في موضع الآخر لا الظلم الأعم وبعدم الهداية عدم هدايته تعالى للمؤثرين إلى معرفة ذلك لا عدم الهداية مطلقا والقصر في قوله سبحانه : أولئك هم الفائزون بالنسبة إلى درجة الفريق الثاني أو إلى الفوز المطلق إدعاء كما مر اه
وأنت تعلم أن عدم ذكر الإيمان في جانب المشبه ظاهر لأن المؤمنين ما تنازعوا كما يدل عليه حديث مسلم السابق إلا فيما هو الأفضل بعده فمن قائل السقاية ومن قائل العمارة ومن قائل الجهاد نعم يحتاج ذكره في جانب المشبه به إلى نكتة والتوبيخ في الآية على هذا التقدير أبلغ منه على التقدير الأول فتأمل يبشرهم ربهم أي في الدنيا على لسان رسوله عليه الصلاة و السلام وقرأ حمزة يبشرهم بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين والتخفيف على أنه من بشر الثلاث وأخرجها أبو الشيخ عن طلحة بن مصرف وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم وكونه سبحانه هو المبشر ما لا يخفى من اللطافة واللطف برحمة منه واسعة ورضوان كبير وجنات عالية قطوفها دانية لهم فيها أي الجنات وقيل : الرحمة نعيم مقيم
12
- لا يرتحل ولا يسافر عنهم وهو
(10/69)

إستعارة للدائم خالدين فيها أي الجنات أبدا تأكيد لما يدل عليه الخلود ودفع إحتمال أن يراد منه المكث الطويل إن الله عنده أجر عظيم
22
- لا قدر بالنسبة إليه لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته والجملة إستئناف وقع تعليلا لما سبق وذكر أبو حيان أنه تعالى لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث الرحمة والرضوان والجنة وبدأ سبحانه بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو السابق وثنى تعالى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال وثلث عز و جل بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها بدلهم بدار الكفر الجنان الدار التي هي في جواره
وفي الحديث الصحيح يقول الله سبحانه : ياأهل الجنة هل رضيتم فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك فيقول سبحانه : لكم عندي أفضل من ذلك فيقولون : وما أفضل من ذلك فيقول جل شأنه : أحل لكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيم مقيم على هذا التوزيع في غاية اللطافة لما أن في الهجرة السفر الذي هو قطعة من العذاب
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا ءاباءكم وإخوانكم أولياء نهي لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من المشركين لا عن مولاة طائفة منهم فإن ذلك مفهوم من النظم الكريم دلالة لا عبارة والآية على ما روى الثعلبي عن ابن عباس نزلت في المهاجرين فانهم لما أمروا بالهجرة قالوا : إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشيرتنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا وبقينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم في ذلك وروي عن مقاتل أنها نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا مكة نهيا عن موالاتهم وروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى قريش يخبرهم بخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما عزم على فتح مكة وهذا ونحوه يقتضي أن هذه الآية نزلت قبل الفتح واستشكل ذلك الإمام الرازي بأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن أن يكون سبب النزول ما ذكر وأجيب بأن نزولها قبل الفتح لا ينافي كون نزول السورة بعده لأن المراد معظمها وصدرها وعلى القول بأنها نزلت في حاطب فالمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب ويدخل حاطب في النهي عن الإتخاذ بلا شبهة إن استحبوا أي إختاروا الكفر على الإيمان وأصروا عليه إصرارا لا يرجى معه إقلاع أصلا ولتضمن استحب معنى ما ذكر تعدى بعلى وتعليق النهي عن الإتخاذ بذلك لما أنه قبل ذلك ربما يؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورهم بمحاسن الدين ومن يتولهم أي واحدا منهم والضمير في الفعل لمراعاة لفظ الموصول وللإيذان باستقلال كل واحد منهم بالإتصاف بالظلم الآتي لأن المراد تولي فرد واحد منهم و من في قوله سبحانه : منكم للجنس لا للتبعيض فأولئك أي المتولون هم الظالمون
32
- بوضعهم الموالاة في غير موضعها فالظلم بمعناه اللغوي وقد يراد به التجاوز والتعدي عما حد الله تعالى إن كان المراد ومن يتولهم بعد النهي : والحصر ادعائي كأن ظلم غيرهم كلا ظلم عند ظلمهم
(10/70)

وفي ذلك من الرجز عن الموالاة ما فيه قل تلوين للخطاب وأمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يثبت المؤمنين ويقوي عزائمهم على الإنتهاء عما نهوا عنه من موالاة الآباء والإخوان ويزهدهم فيهم وفيمن يجري مجراهم ويقطع علائقهم عن زخارف الدنيا على وجه التوبيخ والترهيب أي قل يا محمد للمؤمنين إن كان ءاباءكم وأبناءكم وإخوانكم وأزواجكم لم يذكر الأبناء والأزواج فيما سلف وذكرهم هنا لأن ما تقدم في الأولياء وهم أهل الرأي والمشورة والأبناء والأزواج تبع ليسوا كذلك وما هنا في المحبة وهم أحب إلى كل أحد وعشيرتكم أي ذووا قرابتكم وقيل : عشيرة الرجل أهله الأدنون وأيا ما كان فذكره للتعميم والشمول وهو من العشرة أي الصحبة لأنها من شأن القربى وقيل من العشرة العدد المعروف وسميت العشيرة بذلك على هذا لكمالهم لأن العشرة كما علمت عدد كامل أو لأن بينهم عقد نسب كعد العشرة فإنه عقد من العقود وهو معنى بعيد
وقرأ أبوبكر عن عاصم عشيراتكم والحسن عشائركم وأنكر أبو الحسن وقوع الجمع الأول في كلامهم وإنما الواقع الجمع الثاني وأموال إقترفتموها أي إكتسبتموها وأصل الإقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره من قرفت القرحة إذا قشرتها والقرف القشر ووصفت الأموال بذلك إيماء إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين وعرق الجبين وتجارة أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح تخشون كسادها بفوات وقت رواجها بغيبتكم عن مكة المعظمة في أيام المواسم ومساكن ترضونها منازل تعجبكم الإقامة فيها والتعرض للصفات المذكورة للإيذان بأن الوم على محبة ما ذكر من زينة الحياة الدنيا لا ينافي ما فيها من مبادي المحبة وموجبات الرغبة فيها وأنها مع ما لها من فنون المحاسن بمعزل عن أن تكون كما ذكر سبحانه بقوله : أحب إليكم من الله ورسوله بالحب الإختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وتقديم الطاعة لا ميل الطبع فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه ولا يؤاخذ عليه ولا يكلف الإنسان بالإمتناع عنه وجهاد في سبيله أي طريق ثوابه ورضاه سبحانه ولعل المراد به هنا أيضا الإخلاص ونحوه لا الجهاد وإن أطلق عليه أيضا أنه سبيل الله تعالى ونظم حب هذا في سلك حب الله تعالى شأنه وحب رسوله عليه الصلاة و السلام تنويها بشأنه وتنبيها على أنه مما يجب أن يحب فضلا عن أن يكره وإيذانا بأن محبته راجعة إلى محبة الله عز و جل ومحبة حبيبه صلى الله تعالى عليه وسلم فإن الجهاد عبارة عن قتال أعدائهما لأجل عداوتهم فمن يحبهما يجب أن يحب قتال من لا يحبهما فتربصوا أي إنتظروا حتى يأتي الله بأمره أي بعقوبته سبحانه لكم عاجلا أو آجلا على ما روي عن الحسن واختاره الجبائي وروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل أنه فتح مكة
والله لا يهدي القوم الفاسقين
42
- أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين وتقديم محبة من ذكر على محبة الله عز و جل ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو القوم الفاسقين كافة ويدخل المذكورون دخولا أولياء أي لا يهديهم إلى ما هو خير لهم والآية أشد آية نعت على الناس ما لا يكاد يتخلص منه إلا من تداركه الله سبحانه بلطفه وفي الحديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله تعالى ويبغض في الله تعالى حتى يحب في الله سبحانه أبعد الناس ويبغض في الله عز و جل أقرب الناس والله تعالى الموفق لأحسن الأعمال
(10/71)

ومن باب الإشارة أنه سبحانه أشار إلى تمكن رسوله عليه الصلاة و السلام ووصول أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى مقام الوحدة الذاتية بعد أن كانوا محتجبين بالأفعال تارة وبالصفات أخرى وبذلك تحققت الضدية على أكمل وجه بينهم وبين المشركين فنزلت البراءة وأمروا بنبذ العهد ليقع التوافق بين الباطن والظاهر وأمر المشركون بالسياحة في الأرض أربعة أشهر على عدد مواقفهم في الدنيا والآخرة تنبيها لهم لما وقفوا في الدنيا مع الغير بالشرك حجبوا عن الدين والأفعال والصفات والذات في برزخ الناسوت فلزمهم أن يوقفوا في الآخرة على الله عز و جل ثم على الجبروت ثم على الملكوت ثم على النار في جحيم الآثار فيعذبوا بأنواع العذاب ومن طبق الآيات على ما في الأنفس ذكر أن هذه المدة هي مدة كمال الأوصاف الأربعة النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية ثم قال سبحانه لهم : واعلموا أنكم غير معجزي الله إذ لابد من حبسكم في تلك المواقف بسبب وقوفكم مع الغير بالشرك وأن الله مخزي الكافرين المحجوبين عن الحق بافتضاحهم عند ظهور رتبة ما عبدوه من دونه ووقوفهم معه على النار وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أي وقت ظهور الجمع الذاتي في صورة التفصيل أن الله بريء من المشركين ورسوله المراد بذلك كمال المخالفة والتضاد وانقطاع المدد الروحاني والمراد من قوله سبحانه : إلى الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا الذين بقيت فيهم مسكة من الإستعداد وأثر من سلامة الفطرة وبقايا من المروءة أمر المؤمنون أن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وهي مدة تراكم الدين وتحقق الحجاب إن لم يرجعوا ويتوبوا ثم قال سبحانه بعد أن ذكر ما ذكر : الذين آمنوا أي علما وهاجروا أي هجروا الرغائب الحسية والأوطان النفسية وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وهي أموال معلوماتهم ومراداتهم ومقدوراتهم والجهاد بهذه إشارة إلى محو صفاتهم والجهاد بالأنفس إشارة إلى فنائها في الله تعالى أولئك أعظم درجة في التوحيد عند الله تعالى يبشرهم ربهم برحمة منه وهو ثواب الأعمال ورضوان وهو ثواب الصفات وجنات لهم فيها نعيم مقيم وهو مشاهدة المحبوب الذي لا يزول وذلك جزاء الأنفس ووجه الترتيب على هذا ظاهر وإنما تولى الله تعالى بشارتهم بنفسه عز و جل ليزدادوا حبا له تبارك وتعالى لأن القلوب مجبولة على حب من يبشرها بالخير ثم إنه سبحانه بين أن القرابة المعنوية والتناسب المعنوي والوصلة الحقيقية أحق بالمراعاة من الإتصال الحقيقي والتعين الأول له والسبب الأقوى للوصول إلى الحضرة وتوعد عليه بما توعد تسأل الله تعالى التوفيق إلى ما يقربنا منه إنه ولي ذلك لقد نصركم الله في مواطن خطاب للمؤمنين خاصة وامتنان عليهم بالنصرة على الأعداء التي يترك لها الغيور أحب الأشياء إليه والمواطن جمع موطن وهو الموضع الذي يقيم فيه صاحبه وأريد بها مواطن الحرب أي مقاماتها ومواقفها ومن ذلك قوله : كم موطن لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوى والمنع من الصرف لصيغة منتهى الجموع واللام موطئة للقسم أي أقسم والله لقد نصركم الله في مواقف ووقائع كثيرة منها وقعة بدر التي ظهرت بها شمس الإسلام ووقعة قريظة والنظير والحديبية وأنهاها بعضهم إلى ثمانين وروي أن المتوكل اشتكى شكاية شديدة فنذر أن يتصدق إن شفاه الله تعالى بمال كثير
(10/72)

فلما شفي سأل العلماء عن حد الكثير فاختلفت أقوالهم فأشير إليه أن يسأل أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم وقد كان حبسه في داره فأمر أن يكتب إليه فكتب رضي الله تعالى عنه يتصدق بثمانين درهما ثم سألوه عن العلة فقرأ هذه الآية وقال : عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين ويوم حنين عطف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على المكان وعكسه جائز على ما يقتضيه كلام أبي علي ومن تبعه نعم ظاهر كلام البعض المنع لأن كلا من الظرفين يتعلق بالفعل بلا توسط العاطف ومتعلقات الفعل إنما يعطف بعضها على بعض إذا كانت من جنس واحد وقال آخرون : لامنع من نسق زمان على مكان وبالعكس إلا أن الأحسن ترك العاطف في مثله ومن منع العطف أو إستحسن تركه قال : إنه معطوف بحذف المضاف أي وموطن يوم حنين ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر
وقد يعتبر الحذف في جانب المعطوف عليه أي في أيام مواطن والعطف حينئذ من عطف الخاص على العام ومزية هذا الخاص التي أشار إليها العطف هي كون شأنه عجيبا وما وقع فيه غريبا للظفر بعد اليأس والفرج بعد الشدة إلى غير ذلك وليس المراد بها كثرة الثواب وعظم النفع ليرد أن يوم حنين ليس بأفضل من يوم بدر الذي نالوا به القدح المعلى وفازوا فيه بالدرجات العلا فلا تتأتى فيه نكتة العطف وقيل : إن موطن اسم زمان كمقتل الحسين فالمعطوفان متجانسان وهو بعيد عن الفهم وأوجب الزمخشري كون يوم منصوبا بمضمر والعطف من عطف جملة على جملة أي ونصركم يوم حنين ولا يصح أن يكون ناصبه نصركم المذكور لأن قوله سبحانه : إذ أعجبتكم كثرتكم بدل من يوم حنين فيلزم كون زمان الإعجاب بالكثرة ظرف النصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لإتحاد الفعل ولتقييد المعطوف بما يقيد به المعطوف عليه وبالعكس
واليوم مقيد بالإعجاب بالكثرة والعامل منسحب على البدل والمبدل منه جميعا ويلزم من ذلك أن يكون زمان الإعجاب ظرفا وقيدا للنصرة الواقعة في المواطن الكثيرة وهو باطل إذ لا إعجاب في تلك المواطن
وأجيب بأن الفعل في المتعاطفين لا يلزم أن يكون واحدا بحيث لا يكون له تعدد أفراد كضربت زيدا اليوم وعمرا قبله وأضربه حين يقوم وحين يقعد إلى غير ذلك بل لابد في نحو قولك : زيد وعمرو من إعتبار الأفراد وإلا لزم قيام العرض الواحد بالشخص بمحلين مختلفين وهو لايجوز ضرورة فلا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق المعطوف عليه بذلك ولا نسلم أن هذا هو الأصل حتى يفتقر غيره إلى دليل وقال بعضهم : إن ذلك إنما يلزم لو كان المبدل منه في حكم التنحية مع حرف العطف ليؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة إذ أعجبتكم وليس كذلك بل يؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة وإذ أعجبتكم ولا محذور فيه وفي كون البدل قيدا للمبدل منه نظر وحنين واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من مكة حارب فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون هوازن وثقيفا وحشما وفيهم دريد بن الصمة يتيمنون برأيه وأناسا من بني هلال وغيرهم وكانوا أربعة آلاف وكانوا المسلمون على ما روى الكلبي عشرة آلاف وعلى ما روي عن عطاء ستة عشر ألفا وقيل : ثمانية آلاف وصحح أنهم كانوا اثني عشر ألفا العشر الذين حضروا مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء فلما التقوا قال سلمة بن سلامة أو أبوبكر
(10/73)

رضي الله تعالى عنهما : لن نغلب اليوم من قلة اعجابا بكثرتهم وقيل : إن قائل ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستبعد ذلك الإمام لإنقطاعه صلى الله تعالى عليه وسلم عن كل شيء سوى الله عز و جل ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن الربيع أن رجلا قال يوم حنين : لن نغلب من قلة فشق ذلك على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والظاهر أن هذه الكلمة إذا لم ينضم إليها أمر آخر لا تنافي التوكل على الله تعالى ولا تستلزم الإعتماد على الأسباب وإنما شقت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما انضم إليها من قرائن الأحوال مما يدل على الإعجاب ولعل القائل أخذها من قوله عليه الصلاة و السلام : خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلآف ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة كلمتهم واحدة لكن صحبها ما صحبها من الإعجاب ثم إن القوم اقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمون إعجابهم والجمع قد يؤخذ بفعل بعضهم فولوا مدبرين وكان أول من انهزم الطلقاء مكرا منهم وكان ذلك سببا لوقوع الخلل وهزيمة غيرهم وقيل : إنهم حملوا أولا على المشركين فهزموهم فأقبلوا على الغنائم فتراجعوا عليهم فكان ما كان والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم على بغلته الشهباء تزول الجبال ولا يزول ومعه العباس وابن عمه أبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وربيعة بن الحرث والفضل ابن العباس وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وقتل رضي الله تعالى عنه بين يديه عليه الصلاة و السلام وهؤلاء من أهل بيته وثبت معه أبوبكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فكانوا عشرة رجال ولذا قال العباس رضي الله تعالى عنه : نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه بما مسه في الله لا يتوجع وقد ظهر منه صلى الله تعالى عليه وسلم من الشجاعة في تلك الوقعة ما أبهر العقول وقطع لأجله أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأنه عليه الصلاة و السلام أشجع الناس وكان يقول إذ ذاك غير مكترث بأعداء الله تعالى
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
واختار ركوب البغلة إظهارا لثباته الذي لا ينكره إلا الحمار وأنه عليه الصلاة و السلام لم يخطر بباله مفارقة القتال فقال للعباس وكان صيتا : صح بالناس فناد يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة فكروا عنقا واحدا واحدا لهم حنين يقولون : لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : هذا حين حمي الوطيس ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال صلى الله تعالى عليه وسلم : انهزموا ورب الكعبة فانهزموا وتفصيل القصة على أتم وجه في كتب السير فلم تغن عنكم أي لم تنفعكم تلك الكثرة شيئا من النفع في أمر العدو أو لم تعطكم شيئا يدفع حاجتكم وضاقت عليكم الأرض بما رحبت أي برحبها وسعتها على أن ما مصدرية والباء للملابسة والمصاحبة أي ضاقت مع سعتها عليكم وفيه إستعارة تبعية إما لعدم وجدان مكان يقرون به مطمئنين أو أنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق ثم وليتم أي الكفار ظهوركم على أن ولى متعدية إلى مفعولين كما في قوله سبحانه : فلا تولوهم الأدبار ويدل عليه كلام الراغب وزعم بعضهم أنه لا حاجة إلى تقدير مفعولين لما في القاموس ولى تولية أدبر بل لا وجه له عند بعض وليس بشيء والإعتماد على كلام
(10/74)

الراغب في مثل ذلك أرغب عند المحققين بل قيل : إن كلام القاموس ليس بعمدة في مثله وقوله تعالى : مدبرين
52 - حال مؤكدة وهو من الإدبار بمعنى الذهاب إلى خلف والمراد منهزمين
ثم أنزل الله سكينته على رسوله أي رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن إطمئنانا كليا مستتبعا للنصر القريب وأما مطلق السكينة فقد كانت حاصلة له صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى المؤمنين عطف على رسوله وإعادة الجار للإيذان بالتفاوت والمراد بهم الذين انهزموا وفيه دلالة على أن الكثرة لا تنافي الإيمان
وعن الحسن أنهم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : المراد ما يعم الطائفتين ولا يخلو عن حسن ولا ضير في تحقق أصل السكينة في الثابتين من قبل وفسر بعضهم السكينة بالأمان وهو له صلى الله تعالى عليه وسلم بمعاينة الملائكة عليهم السلام ولمن معه بظهور علامات ذلك وللمنهزمين بزوال قلقهم واضطرابهم باستحضار إن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أو نحو ذلك والظاهر أن ثم في محلها للتراخي بين الإنهزام وإنزال السكينة على هذا الوجه
وقيل : إذا أريد من المؤمنين المنهزمون فهي على محلها وإن أريد الثابتون يكون التراخي في الاخبار أو باعتبار مجموع هذا الإنزال وما عطف عليه وجعلها للتراخي الرتبى بعيد وأنزل جنودا لم تروها بأبصاركم كما يرى بعضكم بعضا وهم الملائكة عليهم السلام على خيول بلق عليهم البياض وكون المراد لم تروا مثلها قبل ذلك خلاف الظاهر ولم نر في الآثار ما يساعده واختلف في عددهم فقيل : ثمانية آلآف لقوله تعالى : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلآف مع قوله سبحانه بعد : يمددكم ربكم بخمسة آلآف وقيل : خمسة آلآف للآية الثانية والثلاثة الأولى داخلة في هذه الخمسة وقيل : ستة عشر ألفا بعدد العسكرين اثنا عشر ألفا عسكر المسلمين وأربعة آلآف عسكر المشركين وكذا اختلفوا في أنهم قاتلوا في هذه الوقعة أم لا والجمهور على أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر وإنما نزلوا لتقوية قلوب المؤمنين بالقاء الخواطر الحسنة وتأييدهم بذلك والقاء الرعب في قلوب المشركين فعن سعيد بن المسيب قال حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما إنتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا
واحتج من قال : إنهم قاتلوا بما روي أن رجلا من المشركين قال لبعض المؤمنين بعد القتال : أين الخيل البلق والرجال عليهم ثياب بيض ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة و السلام : تلك الملائكة وليس له سند يعول عليه وعذب الذين كفروا بالقتل والأسر والسبي وذلك أي ما فعل بهم مما ذكر جزآء الكافرين
62
- لكفرهم في الدنيا ثم يتوب الله من بعد ذلك التعذيب على من يشاء أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه والمراد يوفقه للإسلام والله غفور يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي رحيم
72
- يتفضل عليهم ويثيبهم بلا وجوب عليه سبحانه روى البخاري عن المسور بن مخرمة أن أناسا منهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس
(10/75)

وأبر الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا وقد سبى يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال عليه الصلاة و السلام : إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساؤكم وإما أموالكم قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن هؤلاء جاؤنا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده شيء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه قالوا : قد رضينا وسلمنا فقال عليه الصلاة و السلام : إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه صلى الله تعالى عليه وسلم العرفاء أنهم قد رضوا يا أيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس أخبر عنهم بالمصدر للمبالغة كأنهم عين النجاسة أو المراد ذوو نجس لخبث بواطنهم وفساد عقائدهم أو لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم وجوز أن يكون نجس صفة مشبهة وإليه ذهب الجوهري ولابد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظا مجموع معنى ليصح الاخبار به عن الجمع أي جنس نجس ونحوه وتخريج الآية على أحد الأوجه المذكورة هو الذي يقتضيه كلام أكثر الفقهاء حيث ذهبوا إلى أن أعيان المشركين طاهرة ولا فرق بين عبدة الأصنام وغيرهم من أصناف الكفار في ذلك وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من صافح مشركا فليتوضأ أو ليغسل كفيه وأخرج ابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده قال : استقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جبريل عليه السلام فناوله يده فأبى أن يتناولها فقال : يا جبريل ما منعك أن تأخذ بيدي فقال : إنك أخذت بيد يهودي فكرهت أن تمس يدي يدا قد مستها يد كافر فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بماء فتوضأ فناوله يده فتناولها وإلى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مال الإمام الرازي وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا بدليل منفصل قيل : وعلى ذلك فلا يحل الشرب من أوانيهم ولا مؤاكلتهم ولا لبس ثيابهم لكن صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والسلف خلافه واحتمال كونه قبل نزول الآية فهو منسوخ بعيد والإحتياط لا يخفى والإستدلال على طهارتهم بأن أعيانهم لو كانت نجسة ما أمكن بالإيمان طهارتها إذ لا يعقل كون الإيمان مطهرا ألا ترى أن الخنزير لو قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله لا يطهر وإنما يطهر نجس العين بالإستحالة على قول من يرى ذلك وعين الكافر لم تستحل بالإيمان عينا أخرى ليس بشيء وإن ظنه من تهوله القعقعة شيئا لأن الطهارة والنجاسة أمران تابعان لما يفهم من كلام الشارع عليه الصلاة و السلام وليستا مربوطتين بالإستحالة وعدمها فإذا فهم منه نجاسة شيء في وقت وطهارته في وقت آخر أو ما بالعكس كما في الخمر اتبع وإن لم يكن هناك استحالة وذلك ظاهر وقرأ ابن السميقع أنجاس على صيغة الجمع وقرأ أبو حيوة نجس بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف نجس ككبد في كبد ويقدر حينئذ موصوف كما قررناه آنفا فيما قاله الجوهري وأكثر ما جاء هذا اللفظ تابعا لرجس وقول الفراء وتبعه الحريري في درته إنه لا يجوز ذلك بغير إتباع ترده هذه القراءة إذ لا إتباع فيها فلا يقربوا المسجد الحرام تفريع على نجاستهم والمراد النهي عن الدخول إلا أنه نهى عن القرب للمبالغة وأخرج عبدالرازاق والنحاس عن
(10/76)

عطاء أنهم نهوا عن دخول الحرم كله فيكون المنع من قرب نفس المسجد على ظاهره وبالظاهر أخذ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ صرف المنع عن دخول الحرم إلى المنع من الحج والعمرة ويؤيده قوله تعالى : بعد عامهم هذا فإن تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة حين أمر أبوبكر رضي الله تعالى عنه على الموسم ويدل عليه نداء علي كرم الله تعالى وجهه يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك وكذا قوله سبحانه : وإن خفتم عيلة أي فقرا بسبب منعهم لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى
والحاصل أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهي عليه ولا يمنعون من دخول المسجد الحرام وسائر المساجد عنده ومذهب الشافعي وأحمد ومالك رضي الله تعالى عنهم كما قال الخازن أن لا يجوز للكافر ذميا كان أو مستأمنا أن يدخل المسجد الحرام بحال من الأحوال فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام فيه لم يأذن له في دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارجه ويجوز دخوله سائر المساجد عند الشافعي عليه الرحمة وعن مالك كل المساجد سواء في منع الكافر عن دخولها وزعم بعضهم أن المنع في الآية إنما هو عن تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه وهو خلاف الظاهر جدا والظاهر النهي على ما علمت وكون العلة فيه نجاستهم إن لم نقل بأنها ذاتية لا يقتضي جواز الفعل ممن اغتسل ولبس ثيابا طاهرة لأن الخصوص العلة لا يخصص الحكم كما في الإستبراء والكلام على حد لا أرينك هنا فهو كناية عن نهي المؤمنين عن تمكينهم مما ذكر بدليل أن ما قبل وما بعد خطاب للمؤمنين ومن حمله على ظاهره استدل به على أن الكفار مخاطبون بالفروع حيث إنهم نهوا فيه والنهي من الأحكام وكونهم لا ينزجرون به لا يضر بعد معرفة معنى مخاطبتهم بها
يروى أنه لما جاء النهي شق ذلك على المؤمنين وقالوا : من يأتينا بطعامنا وبالمتاع فأنزل الله سبحانه وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله أي عطائه أو تفضيله بوجه آخر فمن على الأول ابتدائية أو تبعيضية وعلى الثاني سببية وقد أنجز الله تعالى وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ووفق أهل نجد وتبالة وجرش فأسلموا وحملوا إليهم الطعام وما يحتاجون إليه في معاشهم ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج عميق وعن ابن جبير أنه فسر الفضل بالجزية ويؤيد بأن الأمر الآتي شاهد له وما ذكرناه أولى وأمر الشهادة هين وقريء عائلة على أنه إما مصدر كالعاقبة والعافية أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أي حالا عائلة أي مفتقرة وتقييد الإغناء بقوله سبحانه : إن شاء ليس للتردد ليشكل بأنه لا يناسب المقام وسبب النزول بل لبيان أن ذلك بإرادته لا سبب له غيرها حتى ينقطعوا إليه سبحانه ويقطعوا النظر عن غيره وفيه تنبيه على أنه سبحانه متفضل بذلك الإغناء لا واجب عليه عز و جل لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى المشيئة وجوز أن يكون التقييد لأن الإغناء ليس مطردا بحسب الافراد والأحوال والأوقات إن الله عليم بأحوالكم ومصالحكم حكيم
82
- فيما يعطي ويمنع قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
(10/77)

أمر بقتال أهل الكتابين إثر أمرهم بقتال المشركين ومنعهم من أن يحوموا حول المسجد الحرام وفي تضاعيفه تنبيه لهم على بعض طرق الاغناء الموعود والتعبير عنهم بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال وبانتظامهم بسبب ذلك في سلك المشركين وإيمانهم الذي يزعمونه ليس على ما ينبغي فهو كلا إيمان ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله أي ما ثبت تحريمه بالوحي متلوا وغير متلوا فالمراد بالرسول نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : المراد به رسولهم الذي يزعمون اتباعه فإنهم بدلوا شريعته وأحلوا وحرموا من عند أنفسهم اتباعا لأهوائهم فيكون المراد لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم ومجموع الأمرين سبب لقتالهم وإن كان التحريف بعد النسخ ليس علة مستقلة ولا يدينون دين الحق أي الدين الثابت فالإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف والمراد به دين الإسلام الذي لا ينسخ بدين كما نسخ كل دين به وعن قتادة أن المراد بالحق هو الله تعالى وبدينه الإسلام وقيل : ما يعمه وغيره أي لا يدينون بدين من الأديان التي أنزلها سبحانه على أنبيائه وشرعها لعباده والإضافة على هذا على ظاهرها من الذين أوتوا الكتاب أي جنسه الشامل للتوراة والإنجيل و من بيانية لا تبعيضية حتى يكون بعضهم على خلاف ما نعت حتى يعطوا أي يقبلوا أن يعطوا الجزية أي ما تقرر عليهم أن يعطوه وهي مشتقة من جزى دينه أي قضاه أو من جزيته بما فعل أي جازيته لأنهم يجزون بها من من عليهم بالعفو عن القتل وفي الهداية أنها جزاء الكفر فهي من المجازاة وقيل : أصلها الهمز من الجزء والتجزئة لأنها طائفة من المال يعطى وقال الخوارزمي : إنها معرب كزيت وهو الخراج بالفارسية وجمعها جزى كلحية ولحى عن يد يحتمل أن يكون حالا من الضمير في يعطوا وأن يكون حالا من الجزية واليد يحتمل أن تكون اليد المعطية وأن تكون اليد الآخذة و عن تحتمل السببية وغيرها أي يعطوا الجزية عن يد مؤاتية أي منقادين أو مقرونة بالإنقياد أو عن يدهم أي مسلمين أو مسلمة بأيديهم لا بأيدي غيرهم من وكيل أو رسول لأن القصد فيها التحقير وهذا ينافيه ولذا منع من التوكيل شرعا أو عن غنى أي أغنياء أو صادرة عنه ولذلك لا تؤخذ من الفقير العاجز أو عن قهر وقوة أي أذلاء عاجزين أو مقرونة بالذل أو عن إنعام عليهم فإن إبقاء مهجهم بما بذلوا من الجزية نعمة عظيمة أي منعما عليهم أو كائنة عن إنعام عليهم أو نقدا أي مسلمة عن يد إلى يد أو مسلمين نقدا واستعمال اليد بمعنى الإنقياد إما حقيقة أو كناية ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه هذي يدي لعمار أي أنا منقاد مطيع له واستعمالها بمعنى الغنى لأنها تكون مجازا عن القدرة المستلزمة له واستعمالها بمعنى الإنعام وكذا النعمة شائع ذائع وأما معنى النقدية فلشهرة يدا بيد في ذلك ومنه حديث أبي سعيد الخدري في الربا وما في الآية يؤول إليه كما لا يخفى على من له اليد الطولى في المعاني والبيان
وتفسير اليد هنا بالقهر والقوة أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة وأخرج عن سفيان بن عيينة ما يدل على أنه حملها على ما يتبادر منها طرز ما ذكرناه في الوجه الثاني وسائر الأوجه ذكرها غير واحد من المفسرين وغاية القتال ليس نفس هذا الاعطاء بل قبوله كما أشير إليه وبذلك صرح جمع من الفقهاء حيث قالوا : إنهم يقاتلون إلى أن يقبلوا الجزية وإنما عبروا بالاعطاء لأنه المقصود من القبول وهم صاغرون
92
- أي أذلاء
(10/78)

وذلك بأن يعطوها قائمين والقابض منهم قاعد قاله عكرمة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تؤخذ الجزية من الذمي ويوجأ عنقه وفي رواية أنه يؤخذ بتلبيبه ويهز هزا ويقال : أعط الجزية يا ذمي وقيل : هو أن يؤخذ بلحيته وتضرب لهزمته ويقال : أد حق الله تعالى يا عدو الله ونقل عن الشافعي أن الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم وكل الأقوال لم نر اليوم لها أثرا لأن أهل الذمة فيه قد امتازوا على المسلمين والأمر لله عز و جل بكثير حتى إنه قبل منهم إرسال الجزية على يد نائب منهم وأصح الروايات أنه لا يقبل ذلك منهم بل يكلفون أن يأتوا بها بأنفسهم مشاة غير راكبين وكل ذلك من ضعف الإسلام عامل الله تعالى من كان سببا له بعدله وهي تؤخذ عند أبي حنيفة من أهل الكتاب مطلقا ومن مشركي العجم والمجوس لا من مشركي العرب لأن كفرهم قد تغلظ لما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نشأ بين أظهرهم وأرسل إليهم وهو عليه الصلاة و السلام من أنفسهم ونزل القرآن بلغتهم وذلك من أقوى البواعث على إيمانهم فلا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام زيادة في العقوبة عليهم مع اتباع الوارد في ذلك فلا يرد أن أهل الكتاب قد تغلظ كفرهم أيضا لأنهم عرفوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معرفة تامة ومع ذلك أنكروه وغيروا اسمه ونعته من الكتاب وعند أبي يوسف لا تؤخذ من العربي كتابيا كان أو مشركا وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا وأخذها من المجوس إنما ثبت بالسنة فقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يأخذها منهم حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وقال الشافعي : رضي الله تعالى عنه إنها تؤخذ من أهل الكتاب عربيا كان أو أعجميا ولا تؤخذ من أهل الأوثان مطلقا لثبوتها في أهل الكتاب وفي المجوس بالخبر فبقى من وراءهم على الأصل
ولنا أنه يجوز استرقاقهم وكل من يجوز استرقاقه يجوز ضرب الجزية عليه إذا كان من أهل النصرة لأن كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس أما الإسترقاق فظاهر لأن نفع الرقيق يعود إلينا جملة وأما الجزية فلأن الكافر يؤديها من كسبه والحال أن نفقته في كسبه فكان أداء كسبه الذي هو سبب حياته إلى المسلمين راتبة في معنى أخذ النفس منه حكما وذهب مالك والأوزاعي إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار ولا تؤخذ عندنا من امرأة ولا صبي ولا زمن ولا أعمى وكذلك المفلوج والشيخ وعن أبي يوسف إنها تؤخذ منه إذا كان له مال ولا من فقير غير معتمل خلافا للشافعي ولا من مملوك ومكاتب ومدبر ولا تؤخذ من الراهبين الذين لا يخالطون الناس كما ذكره بعض أصحابنا وذكر محمد عن أبي حنيفة انها تؤخذ منهم إذا كانوا يقدرون على العمل وهو قول أبي يوسف
ثم إنها على ضربين جزية توضع بالتراضي والصلح فتقدر بحسب ما يقع عليه الإتفاق كما صالح صلى الله تعالى عليه وسلم بني نجران على ألف ومائتي حلة ولأن الموجب التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه
وجزية يبتديء الإمام بوضعها إذا غلب على الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغني الظاهر الغني في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يؤخذ في كل شهر منه أربعة دراهم وعلى الوسط الحال أربعة وعشرين في كل شهر درهمين وعلى الفقير المعتمل وهو الذي يقدر على العمل وإن لم يحسن حرفة اثني عشر درهما في كل شهر درهما والظاهر أن مرجع الغنى وغيره إلى عرف البلد
وبذلك صرح به الفقيه أبو جعفر وإلى ما ذهبنا إليه من اختلافها غنى وفقرا وتوسطا ذهب عمر وعلي وعثمان رضي الله تعالى عنهم ونقل عن الشافعي أن الإمام يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدله والغني والفقير في ذلك سواء لما أخرجه ابن أبي شيبة عن مسروق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما بعث معاذا إلى
(10/79)

اليمن قال له : خذ من كل حالم دينارا أو عدله مغافر ولم يفصل عليه الصلاة و السلام وأجيب عنه بأنه محمول على أنه كان صلحا ويؤيده ما في بعض الروايات من كل حالم وحالمة لأن الجزية لا تجب على النساء والأصح عندنا أن الوجوب أول الحول لأن ما وجب بدلا عنه لا يتحقق إلا في المستقبل فتعذر إيجابه بعد مضي الحول فأوجبناها في أوله وعن الشافعي أنها تجب في آخره اعتبارا بالزكاة وتعقبه الزيلعي بأنه لا يلزمنا الزكاة لأنها وجبت في آخر الحول ليتحقق النماء فهي لا تجب إلا في المال النامي ولا كذلك الجزية فالقياس غير صحيح واقتضى كما قال الحصاص في أحكام القرآن وجوب قتل من ذكر في الآية إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة أنه لا يكون لهم ذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولاية ونفاذ الأمر والنهي لأن الله سبحانه إنما جعل لهم الذمة باعطاء الجزية وكونهم صاغرين فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغضب وأخذ الضرائب بالظلم وإن كان السلطان ولاه ذلك وإن فعله بغير إذنه وأمره فهو أولى وهذا يدل على أن هؤلاء اليهود والنصارى الذين يتولون أعمال السلطان وأمرائه ويظهر منهم الظلم والإستعلاء وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة ولو قصد مسلم مسلما لأخذ ماله أبيح قتله في بعض الوجوه فما بالك بهؤلاء الكفرة أعداء الدين
وقد أفتى فقهاؤنا بحرمة توليتهم الأعمال لثبوت ذلك بالنص وقد ابتلى الحكام بذلك حتى احتاج الناس إلى مراجعتهم بل تقبيل أيديهم كما شاهدناه مرارا وما كل ما يعلم يقال فإنا لله وإنا إليه راجعون هذا وقد استشكل أخذ الجزية من هؤلاء الكفرة بأن كفرهم من أعظم الكفر فكيف يقرون عليه بأخذ دراهم معدودات
وأجاب القطب بأن المقصود من أخذ الجزية ليس تقريرهم على الكفر بل إمهال الكافر مدة ربما يقف فيها على محاسن الإسلام وقوة دلائله فيسلم وقال الأتقاني : إن الجزية ليست بدلا عن تقرير الكفر وإنما هي عوض عن القتل والإسترقاق الواجبين فجازت كاسقاط القصاص بعوض أو هي عقوبة على الكفر كالإسترقاق والشق الأول أظهر حيث يوهم الثاني جواز وضع الجزية على النساء ونحوهن وقد يجاب بأنها بدل عن النصرة للمقاتلة منا ولهذا تفاوتت لأن كل من كان من أهل دار الإسلام يجب عليه النصرة للدار بالنفس والمال وحيث إن الكافر لا يصلح لها لميله إلى دار الحرب اعتقادا أقيمت الجزية المأخوذة المصروفة إلى الغزاة مقامها ولا يرد إن النصرة طاعة وهذه عقوبة فكيف تكون العقوبة خلفا عن الطاعة لما في النهاية من أن الخليفة عن النصرة في حق المسلمين لما في ذلك من زيادة القوة لهم وهم يثابون على تلك الزيادة الحاصلة بسبب أموالهم وهذا بمنزلة ما لو أعاروا دوابهم للغزاة ومن هنا تعلم أن من قال : إنها بدل عن الإقرار على الكفر فقد توهم وهما عظيما وقالت اليهود إستئناف سيق لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه وانتظامهم بذلك في المشركين والقائل عزير ابن الله متقدمو اليهود ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل مما شاع وسبب ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق وكان التابوت عندهم فلما رأى الله سبحانه وتعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا عزير ربه عز و جل
(10/80)

وابتهل أن يرد إليه ما نسخ من صدره فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله عز و جل نزل نور من الله تعالى فدخل جوفه فعاد الذي كان ذهب من جوفه من التوراة فأذن في قومه فقال : يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة وردها إلي فطفق يعلمهم فمكثوا ما شاء الله تعالى أن يمكثوا وهو يعلمهم ثم إن التابوت نزل عليهم بعد ذهابه منهم فعرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم فوجدوه مثله فقالوا : والله ما اؤتي عزير هذا إلا لأنه ابن الله سبحانه وقال الكلبي في سبب ذلك : إن بختنصر غزا بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيرا فلم يقتله لصغره فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله تعالى عزيرا ليجدد لهم التوراة وليكون آية لهم بعد ما أماته الله تعالى مائة سنة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فشرب منه فمثلت له التوراة في صدره فلما أتاهم قال : أنا عزير فكذبوه وقالوا : إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره فقال رجل منهم : إن أبي حدثني عن جدي أنه وضعت التوراة في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر حرفا فقالوا : إن الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا لأنه ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وروي غير ذلك ومرجع الروايات إلى أن السبب حفظه عليه السلام للتوراة وقيل : قائل ذلك جماعة من يهود المدينة منهم سلام بن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أن قائل ذلك فنحاص بن عازوراء وهو على ما جاء في بعض الروايات القائل : إن الله فقير ونحن أغنياء
وبالجملة إن هذا القول كان شائعا فيهم ولا عبرة بانكارهم له أصلا ولا بقول بعضهم : إن الواقع قولنا عزير أبان الله أي أوضح أحكامه وبين دينه أو نحو ذلك بعد أن أخبر الله سبحانه وتعالى بما أخبر وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب وسهل عزير بالتنوين والباقون بتركه أما التنوين فعلى انه اسم عربي مخبر عنه بابن وقال أبو عبيدة : إنه أعجمي لكنه صرف لخفته بالتصغير كنوح ولوط وإلى هذا ذهب الصغاني
وهو مصغر عزار تصغير ترخيم والقول بأنه أعجمي جاء على هيئة المصغر وليس به فيه نظر وأما حذف التنوين فقيل لالتقاء الساكنين فإن نون التنوين ساكنة والباء في ابن ساكنة أيضا فالتقى الساكنان فحذفت النون له كما يحذف حروف العلة لذلك وهو مبني على تشبيه النون بحرف اللين وإلا فكان القياس تحريكها وهو مبتدأ وابن خبره أيضا ولذا رسم في جميع المصاحف بالألف وقيل : لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل : لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا وتعقب بأنه تمحل عنه مندوحة ورده الشيخ في دلائل الإعجاز بأن الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف تكذيبه إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلما فلو كان المقصود بالإنكار قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبودا لهم وحصل تسليم ابنا لله سبحانه وذلك كفر واعترض عليه الإمام قائلا : إن قوله يتوجه الإنكار إلى الخبر مسلم لكن قوله : يكون ذلك تسليما للوصف ممنوع لأنه لا يلزم من كونه مكذبا لذلك الخبر كونه مصدقا لذلك
(10/81)

الوصف إلا أن يقال : ذلك بالخبر يدل على أن ما سواه لا يكذبه وهو مبني على دليل الخطاب وهو ضعيف وأجاب بعضهم بأن الوصف للعلية فانكار الحكم يتضمن إنكار علته وفيه أن إنكار الحكم قد يحتمل أن يكون بواسطة عدم الإفضاء لا لأن الوصف كالأبنية مثلا منتف
وفي الإيضاح أن القول بمعنى الوصف وأراد أنه لا يحتاج إلى تقدير الخبر كما أن أحدا إذا قال مقالة ينكر منها البعض فحكيت منها المنكر فقط وهو كما في الكشف وجه حسن في رفع التمحل لكنه خلاف الظاهر كما يشهد له آخر الآية وقال بعض المحققين : إنه يحتمل أن يكون عزير ابن الله خبر مبتدأ محذوف أي صاحبنا عزير ابن الله مثلا والخبر إذا وصف توجه الإنكار إلى وصفه نحو هذا الرجل العاقل وهذا موافق للبلاغة وجار على وفق العربية من غير تكلف ولا غبار ولم يظهر لي وجه تركه مع ظهوره والظاهر أن التركيب خبر ولا حذف هناك واختلف في عزير هل هو نبي أم لا والأكثرون على الثاني وقالت النصارى المسيح ابن الله هو أيضا قول بعضهم ولعلهم إنما قالوه لإستحالة أن يكون ولد من غير أب أو لأنهم رأوا من أفعاله ما رأوا
ويحتمل وهو الظاهر عندي أنهم وجدوا إطلاق الأبن عليه عليه السلام وكذا اطلاق الأب على الله تعالى فيما عندهم من الإنجيل فقالوا ما قالوا وأخطأوا في فهم المراد من ذلك وقد قدمنا من الكلام ما فيه كفاية في هذا المقام
ومن الغريب ولا يكاد يصح ما قيل : إن السبب في قولهم هذا أنهم كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام احدى وثمانين سنة يصلون ويصومون ويوحدون حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة منهم ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى عليه السلام فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون أن دخلنا النار ودخلوا الجنة وإني سأحتال عليهم وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا ثم إنه عمد إلى فرس يقاتل عليه فعقره وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه وأتى النصارى فقالوا له من أنت فقال : عدوكم بولص قد نوديت من السماء أنه ليست لك توبة حتى تنتصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه الكنيسة ونصروه ودخل بيتا فيها فلم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال : قد نوديت إن الله تعالى قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم ثم إنه عمد إلى ثلاثة رجال منهم نسطور ويعقوب وملكا فعلم نسطور أن الأله ثلاثة الله وعيسى ومريم تعالى الله عن ذلك وعلم يعقوب أن عيسى ليس بانسان ولكنه ابن الله سبحانه وعلم ملكا أن عيسى هو الله تعالى لم يزل ولا يزال فلما استمكن ذلك منهم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له : أنت خالصتي فادع الناس إلى ما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد ثم قال لهم : إني رأيت عيسى عليه السلام في المنام وقد رضى عني وأنا ذابح نفسي تقربا إليه ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه وتفرق أولئك الثلاثة فذهب واحد منهم إلى الروم وواحد إلى بيت المقدس والآخر إلى ناحية أخرى وأظهر كل مقالته ودعا الناس إليها فتبعه من تبعه وكان من كان من الإختلال والضلال ذلك أي ما صدر عنهم من العظيمتين قولهم بأفواههم أي أنه قول لا يعضده برهان مماثل للألفاظ المهملة التي لا وجود لها إلا في الأفواه من غير أن يكون لها مصداق في الخارج وقيل : هو تأكيد لنسبة القول المذكور إليهم ونفي التجوز عنها وهو الشائع في مثل ذلك وقيل : أريد بالقول الرأي والمذهب وذكر الأفواه إما للإشارة إلى أنه لا أثر له في قلوبهم وإنما يتكلمون به جهلا وعنادا وإما للإشعار بأنه مختار لهم غير متحاشين عن التصريح
(10/82)

به فإن الإنسان ربما ينبه على مذهبه بالكتابة أو بالكناية مثلا فإذا صرح به وذكره بلسانه كان ذلك الغاية في إختياره وادعى غير واحد أن جعل ذلك من باب التأكيد كما في قولك : رأيته بعيني وسمعته بأذني مثلا مما يأباه المقام ولو كان المراد به التأكيد مع التعجيب من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة لا ينافيه المقام ولا تزاحم في النكات يضاهئون أي يضاهي قولهم في الكفر والشناعة قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وصير مرفوعا ويحتمل أن يكون من باب التجوز كما قيل في قوله تعالى : وأن الله لا يهدي كيد الخائنين لا يهديهم في كيدهم فالمراد يضاهئون في قولهم قول الذين كفروا من قبل أي من قبلهم وهم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة واختاره الفراء المشركون الذين قالوا : الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون وقيل : المراد بهم قدماؤهم فالمضاهي من كان في زمنه عليه الصلاة و السلام منهم لقدمائهم وأسلافهم والمراد الاخبار بعراقتهم في الكفر
وأنت تعلم أنه لا تعدد في القول حتى يتأتى التشبيه وجعله بين قولي الفريقين ليس فيه مزيد مزية وقيل : المراد بهم اليهود على أن الضمير للنصارى ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وإن أخرجه ابن المنذر وغيره عن قتادة مع أن مضاهاتهم قد علمت من صدر الآية ويستدعى أيضا اختصاص الرد والإبطال بقوله تعالى : ذلك قولهم بأفواههم بقول النصارى وقرأ الأكثر يضاهون بهاء مضمومة بعدها واو وقد جاء ضاهيت وضاهأت بمعنى من المضاهاة وهي المشابهة وبذلك فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن الحسن تفسيرها بالموافقة وهما لغتان وقيل : الياء فرع عن الهمزة كما قالوا قريت وتوضيت وقيل : الهمزة بدل من الياء لضمها ورد بأن الياء لا تثبت في مثله حتى تقلب بل تحذف كرامون من الرمي وقيل : إنه مأخوذ من قولهم : امرأة ضهيا بالقصر وهي التي لا ثدي لها أو لا تحيض أو لاتحمل لمشابهتها الرجال ويقال : ضهياء بالمد كحمراء وضهياءة بالمد وتاء التأنيث وشذ فيه الجمع بين علامتي التأنيث وتعقب بأنه خطأ لاختلاف المادتين فإن الهمزة في ضهياء على لغتها الثلاث زائدة وفي المضاهاة أصلية ولم يقولوا : إن همزة ضهياء أصلية وياؤها زائدة لأن فعيلاء لم يثبت في أبنيتهم ولم يقولوا وزنها فعلل كجعفر لأنه ثبت زيادة الهمزة في ضهياء بالمدفتتعين في اللغة الأخرى وفي هذا المقام كلام مفصل في محله ومن الناس من جوز الوقف على قولهم وجعل بأفواههم متعلقا بيضاهئون ولا توقف في أنه ليس بشيء وفي الجملة ذم للذين كفروا على أبلغ وجه وإن لم تسق لذمهم قاتلهم الله دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتل الله تعالى فمقتول ومن غالبه فمغلوب وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله وهو معنى مجازي لقاتلهم ويجوز أن يكون المراد من هذه الكلمة التعجب من شناعة قولهم فقد شاعت في ذلك حتى صارت تستعمل في المدح فيقال : قاتله الله تعالى ما أفصحه
وقيل : هي للدعاء والتعجب يفهم من السياق لأنها كلمة لا تقال إلا في موضع التعجب من شناعة فعل قوم أو قولهم ولا يخفى ما فيه مع أن تخصيصها بالشناعة شناعة أيضا أنى يؤفكون
3 - أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل وسطوع البرهان اتخذوا أحبارهم زيادة تقرير لما سلف من
(10/83)

كفرهم بالله تعالى والأحبار علماء اليهود واختلف في واحده فقال الأصمعي : لا أدري أهو حبر أو حبر وقال أبو الهيثم : هو بالفتح لا غير وذكر ابن الأثير أنه بالفتح والكسر وعليه أكثر أهل اللغة والصحيح إطلاقه على العالم ذميا كان أو مسلما فقد كان يقال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما الحبر ويجمع كما في القاموس على حبور أيضا وكأنه مأخوذ من تحبير المعاني بحسن البيان عنها ورهبانهم وهم علماء النصارى من أصحاب الصوامع وهو جمع راهب وقد يقع على الواحد ويجمع على رهابين ورهابنة وفي مجمع البيان أن الراهب هو الخاشي الذي تظهر عليه الخشية وكثر إطلاقه على متنسكي النصارى وهو مأخوذ من الرهبة أي الخوف وكانوا لذلك يتخلون من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : لا رهبانية في الإسلام والمراد في الآية اتخذ كل من الفريقين علماءهم لا الكل الكل أربابا من دون الله بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله تعالى وتحليل ما حرمه سبحانه وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد روى الثعلبي وغيره عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقلت له : يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم فقال عليه الصلاة و السلام : أليس يحرمون ما أحل الله تعالى فيحرمونه ويحلون ما حرم الله فيستحلون فقلت بلى قال : ذلك عبادتهم وسئل حذيفة رضي الله تعالى عنه عن الآية فأجاب بمثل ما ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونظير ذلك قولهم : فلان يعبد فلانا إذا أفرط في طاعته فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة أو مجاز مرسل باطلاق العبادة وهي طاعة مخصوصة على مطلقها والأول أبلغ وقيل : اتخاذهم أربابا بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا للرب عز و جل وحينئذ فلا مجاز إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة و السلام لكلام علماءهم ورؤسائهم والحق أحق بالإتباع فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه وان أخطأه اجتهاد مقلده والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم بأن اتخذوه ربا معبودا أو بأن جعلوه ابنا لله كما يقتضيه سياق الآية على ما قيل وفيه نظر وتخصيص الإتخاذ به عليه السلام يشير إلى أن اليهود ما فعلوا ذلك بعزيز وتأخيره في الذكر مع أن اتخاذهم له كذلك أقوى من مجرد الإطاعة في أمر التحليل والتحريم لأنه مختص بالنصارى ونسبته عليه السلام إلى أمه للإيذان بكمال ركاكة رأيهم والقضاء عليهم بنهاية الجهل والحماقة
وما أمروا أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في الكتب الإلهية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام إلا ليعبدوا إلها واحدا جليل الشأن وهو الله سبحانه ويطيعوا أمره ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه فإن ذلك مناف لعبادته جل شأنه وأما إطاعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة إطاعة الله عز و جل أو وما أمر الذين اتخذهم الكفرة أربابا من المسيح عليه السلام والأحبار والرهبان إلا ليطيعوا
(10/84)

أو ليوحدوا الله تعالى فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون مثلهم ولا يخفى أن تخصيص العبادة به تعالى لا يتحقق إلا بتخصيص الطاعة أيضا به تعالى ومتى لم يخص به جل شأنه لم تخص العبادة به سبحانه لا إله إلا هو صفة ثانية لإلها أو إستئناف وهو على الوجهين مقرر للتوحيد وفيه على ما قيل فائدة زائدة وهو ما سبق يحتمل غير التوحيد بأن يؤمروا بعبادة إله واحد من بين الألهة فإذا وصف المأور بعبادته بأنه هو المنفرد بالألوهية تعين المراد وجوز أن يكون صفة مفسرة لواحدا سبحانه عما يشركون
13
- تنزيه له أي تنزيه عن الإشراك به في العبادة والطاعة يريدون أن يطفؤا نور الله إطفاء النار على ما في القاموس إذهاب لهبها الموجب لإذهاب نورها لا إذهاب نورها على ما قيل لكن لما كان الغرض من إطفاء نار لا يراد بها إلا النور كالمصباح إذهاب نورها جعل إطفاؤها عبارة عنه ثم شاع ذلك حتى كان عبارة عن مطلق إذهاب النور وإن كان لغير النار والمراد بنور الله حجته تعالى النيرة المشرقة الدالة على وحدانيته وتنزهه سبحانه عن الشركاء والأولاد أو القرآن العظيم الصادع الصادح بذلك وقيل : نبوته عليه الصلاة و السلام التي ظهرت بعد أن استطال دجا الكفر صبحا منيرا وأيا ما كان فالنور استعارة أصلية تصريحية لما ذكر وإضافته إلى أن الله تعالى قرينة والمراد من الإطفاء الرد والتكذيب أي يريد أهل الكتابين أن يردوا ما دل على توحيد الله تعالى وتنزيهه عما نسبوه إليه سبحانه بأفواههم أي بأقاويلهم الباطلة الخارجة عنها من غير أن يكون لها مصداق وتنطبق عليه أو أصل تستند إليه بل كانت أشبه شيء بالمهملات قيل : ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يشبه حالهم في محولة إبطال نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ويكون قوله تعالى : ويأبى الله إلا أن يتم نوره ترشيحا للإستعارة لأن إتمام النور زيادة في استنارته وفشو ضوئه فهو تفريع على المشبه به وما بعد من قوله سبحانه : هو الذي الخ تجريد وتفريع على الفرع وروعي في كل من المشبه والمشبه به معنى الإفراط والتفريط حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم ونسب النور إلى الله تعالى العظيم الشأن ومن شأن النور المضاف إليه سبحانه أن يكون عظيما فكيف يطفى بنفخ الفم وتمم كلا من الترشيح والتجريد بما تمم لما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور والإطفاء من المناسبة وبين دين الحق الذي هو التوحيد والشرك من المقابلة انتهى
ولا يخلو عن حسن والظاهر أن المراد بالنور هنا هو الأول إلا أنه أقيم الظاهر مقام الضمير وأضيف إلى ضميره سبحانه لمزيد الإعتناء بشأنه وللإشعار بعلة الحكم والإستثناء مفرغ فالمصدر منصوب على أنه مفعول به والمصحح للتفريغ عند جمع كون يأبى في معنى النفي والمراد به إما لا يريد لوقوعه في مقابلة يريدون كما قيل أو لا يرضى كما ارتضاه بعض المحققين بناء على أن المراد بإرادة إتمام نوره سبحانه إرادة خاصة وهي الإرادة على وجه الرضا بقرينة ولو كره الكافرون لا الإرادة المجامعة لعدم الرضا كما هو مذهب أهل الحق خلافا لمن يسوي بينهما وقال الزجاج : إن مصحح التفريغ عموم المستثنى منه وهو محذوف ولا يضر كون ذلك نسبيا إذ غالب العموميات كذلك بل قد قيل : ما من عام إلا وقد خص منه البعض أي يكره كل شيء يتعلق بنوره إلا إتمامه وقرينة التخصيص السياق
(10/85)

ولا يجوز تأويل الجماعة عنده إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي فيلزم جريان التفريغ في كل شيء وهو كما ترى والحق أنه لا مانع من التأويل إذا إقتضاه المقام وإتمام النور بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام ولو كره الكافرون
23
- جواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه أي يتم نوره
والجملة معطوفة على جملة قبلها مقدرة أي لو لم يكره الكافرون ولو كره وكلتاهما في موضع الحال والمراد أنه سبححانه يتم نوره ولا بد هو الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم متلبسا بالهدى أي القرآن الذي هو هدى للمتقين ودين الحق أي الثابت وقيل : دينه تعالى وهو دين الإسلام ليظهره أي الرسول عليه الصلاة و السلام على الدين كله أي على أهل الأديان كلها فيخذلهم أو ليظهر دين الحق على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحكمة فأل في الدين سواء كان الضمير للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أم للدين الحق للإستغراق وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للرسول عليه الصلاة و السلام وأل للعهد أي ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه عليه الصلاة و السلام شيء منها وأكثر المفسرين على الإحتمال الثاني قالوا : وذلك عند نزول عيسى عليه السلام فإنه حينئذ لا يبقى دين سوى دين الإسلام والجملة بيان وتقرير لمضمون الجملة السابقة لأن مآل الإتمام هو الإظهار ولو كره المشركون
33
- على طرز ما قبله خلا إن وصفهم بالشرك بعد وصفهم بالكفر قيل : للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك بالله تعالى وظاهر هذا أن المراد بالكفر فيما تقدم الكفر بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتكذيبه وبالشرك الكفر بالله سبحانه بقرينة التقابل ولا مانع منه
وقد علمت ما في هذين المتممين من المناسبة التي يليق أن يكون فلك البلاغة حاويا لها فتدبر
يا أيها الذين آمنوا شروع في بيان حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم إثر بيان سوء حال الاتباع في إتخاذهم لهم أربابا وفي ذلك تنبيه للمؤمنين حتى لا يحوموا حول ذلك الحمى ولذا وجه الخطاب إليهم إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل يأخذونها بالإرتشاء لتغيير الأحكام والشرائع والتخفيف والمسامحة فيها والتعبير عن الأخذ بالأكل مجاز مرسل والعلاقة العلية والمعلولية أو اللازمية والملزومية فإن الأكل ملزوم للأخذ كما قيل
وجوز أن يكون المراد من الأموال الأطعمة التي تؤكل بها مجازا مرسلا ومن ذلك قوله : يأكلن كل ليلة أكافا فإنه يريد علفا يشتري بثمن أكاف واختار هذا العلامة الطيبي وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري وثانيهما أن يستعار الأكل للأخذ وذلك على ما قرره العلامة أن يشبه حالة أخذهم أموال الناس من غير تمييز بين الحق والباطل وتفرقة بين الحلال والحرام للتهالك على جمع حطامها بحالة منهمك جائع لا يميز بين طعام وطعام في التناول ثم ادعى أنه لا طائل تحت هذه الإستعارة وأن استشهاده بأخذ الطعام وتناوله سمج وأجيب بأن الإستشهاد به على أن بين الأخذ والتناول شبها وإلا فذاك عكس المقصود وفائدة الإستعارة المبالغة في أنه أخذ بالباطل لأن الأكل غاية الإستيلاء على الشيء ويصر قوله تعالى : بالباطل على هذا زيادة مبالغة ولا كذلك لو قيل يأخذون ويصدون الناس
(10/86)