[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
واستخلف مهلائيل ابنه يرد ودفع الوصية اليه وعلمه جميع العلوم واخبره بما يحدث فى العالم ونظر فى النجوم وفى الكتاب الذى أنزل على آدم عليه الصلاة و السلام وولد ليرد أخنوخ وهو أدريس عليه الصلاة و السلام ويقال له هرمس وكان الملك فى ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل وتنبأ إدريس عليه الصلاة و السلام وهو ابن أربعين سنة وأراد الملك به سوءا فعصمه الله تعالى وأنزل عليه ثلاثين صحيفة ودفع اليه أبوه وصية جده والعلوم التى عنده وكان قد ولد بمصر وخرج منها وطاف الأرض كلها ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى فأجابوه حتى عمت ملته الأرض وكانت ملته الصابئة وهى توحيد الله تعالى والطهارة والصوم وغير ذلك من رسوم التعبدات وكان فى رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرها ثم عاد الى مصر وأطاعه ملكها وآمن به إلى آخر ماقاله ونقله عن التيفاشى ويفهم منه قول فى الصابئة غير الأقوال المتقدمة وفى شذرات الذهب لعبد الحى بن أحمد بن العماد الحنبلى فى ترجمة أبى إسحق الصابئى مانصه : والصابئى بهمز آخره قيل : نسبة إلى صابئى بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة و السلام وكان على الحنيفية الأولى وقيل : الصابئى بن ماوى وكان فى عصر الخليل عليه الصلاة و السلام وقيل : الصابئى عند العرب من خرج عن دين قومه انتهى والنصارى جمع نصران وقد مر تفضيله ورفع الصابئون على الابتداء وخبره محذوف لدلالة خبر إن عليه والنية فيه والتأخير عما فى خبر إن والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت والصابئون كذلك بناءا على أن المحذوف فى إن زيدا وعمرو قائم خبر الثانى لا الأول كما هو مذهب بعض النحاة واستدل عليه بقول : صابئى بن الحرث البرجمى : فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإنى وقيار بها لغريب فان قوله : لغريب خبر ان ولذا دخلت عليعه اللام لأنها تدخل على خبر ان لا على خبر المبتدأ إلا شذوذا وقيل : أن غريب فيه خبر عن الاسمين جميعا لأن فعيلا يستوى فيه الواحد وغيره نحو الملائكة بعد ذلك ظهير ورده الخلخالى بأنه لم يرد للاثنين وإن ورد للجمع وأجاب عنه ابن هشام بأنهم قالوا فى قوله تعالى : عن اليمين وعن الشمال قعيد : إن المراد قعيدان وهذا يدل على إطلاقه على الاثنين أيضا فالصواب منع هذا الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين على معمول واحد ومثله لايصح على الأصح خلافا للكوفيين ويقول بشر بن أبى حازم : إذا جزت نواصى آل بدر فادوها وأسرى فى الوثاق وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة مابقينا فى شقاق فان قوله : بغاة مابقينا خبر إن ولو كان خبر أنتم لقال : مابقيتم و بغاة جمع بمعنى الطالب وقيل أنه باغ من البغى والتعدى وأنتم بغاة جملة معترضة لأنه لايقول فى قومه إنهم بغاة و مابقينا فى شقاق خبر إن وحينئذ لايصلح البيت شاهدا لما ذكر لأن ضمير المتكلم مع الغير فى محله وإنما وسطت الجملة هنا بين إن وخبرها مع اعتبار نية التأخير ليسلم الكلام عن الفصل بين الاسم والخبر وليعلم أن الخبر ماذا دلالة كما قيل على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم إن صح منهم
(6/201)
الايمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك ومن هنا قيل : إن الجملة كاعتراض دل على ماذكر وإنما لم تجعل اعتراضا حقيقة لانها معطوفة على جملة إن الذين وخبرها وأورد عليه ماقاله ابن هشام : من أن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه فى الشعر فكذا ينبغى أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى من بالمنع وأما ماأجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التى تدخل على الجمل المعترضة كقوله تعالى : فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار الخ وهذه الجملة معترضة لامعطوفة فلايتمشى فيما نحن فيه لأنه يفوت نكتة التقديم من تأخير التى أشير اليها لأنها لاإذا كانت معترضة لاتكون مقدمة من تأخير وبعض المحققين صرف الخبر المذكور إلى قوله تعالى : والصابئون وجعل خبر إن محذوفا وهو القول الآخر للنحاة فى مثل هذا التركيب وهو موافق للاستعمال أيضا كما فى قوله : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأى مختلف فان قوله : راضى خبر أنت وخبر نحن محذوف ورجح بأن الإلحاق بالأقرب أقرب وبأنه خال عما يلزم عن النوجيه الأول نعم غاية مايرد عليه أن الأكثر الحذف من الثانى لدلالة الأول وعكسه قليل لكنه جائز وعورض بأن الكلام فيما نحن فيه مسوق لبيان أهل الكتاب فصرف الخبر إليهم أولى وفى توسيط بيان حال الصابئين ماعلمت من التأكيد وأيضا فى صرف الخبر إلى الثانى فصل للنصارى عن اليهود وتفرقة بين أهل الكتاب لأنه حينئذ عطف على قوله سبحانه : والصابئون قطعا نعم لوصح أن المنافقين واليهود أوغل المعدودين فى الضلال والصائبين والنصارة أسهل حسن تعاطفهما وجعل المذكور خبرا عنهما وترك كلمة التحقيق المذكورة فى الأولين دليلا على هذا المعنى وقيل : إن الصابئون عطف على محل إن واسمها وقدز أجازه بعضهم مطلقا وبعضهم منعه مطلقا وفصل آخرون فقالوا : يمتنع قبل مضى الخبر ويجوز بعده
وذهب الفراء إلى أنه خفى إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة اللفظية نحو : إنك وزيد ذاهبان وإلا امتنع والمانع عند الجمهور لزوم توارد عاملين وهما إن والابتداء أو البتدأ على معمول واحد وهو الخبر ولهذا ضعفوا هذا القول فى الآية وبنوا على مذهب الكوفيين وكون خبر المعطوف فيها محذوفا وحينئذ لايلزم التوارد ليس بشىء لأن الجملة حينئذ تكون معطوفة على الجملة ولم يكن ذلك من العطف على المحل فى شىء ومن قال : إن خبر إن مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها لم يلزم عليه حديث التوارد
ونقل عن الكسائى إن العطف على الضمير فى هادوا وخطأه الزجاج بأنه لايعطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل وبأنه لو عطف على الفاعل لكان التقدير وهاد الصابئون فيقتضى أنهم هود وليس كذلك ولعل الكسائى يرى صحة العطف من غير فاصل فلا يرد عليه الاعتراض الأول وقيل : إن بمعنى نعم الجوابية ولاعمل لها حينئذ فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف عليه وضعفه أبو حيان بأن ثبوت إن بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين
وعلى تقدير ثوبته فيحتاج إلى شىء يتقدمها تكون تصديقا له ولايجىء أول الكلام والجواب بأن ثمة سؤالا مقدرا بعيد ركيك وقيل : إن الصابئين عطف على الصلة بحذف الصدر أى الذين هم الصائبون ولايخفى
(6/202)
بعده وإن عد أحسن الوجوه وقيل انه منصوب بفتحة مقدرة على الواو والعطف حينئذ مما لاخفاء فيه واعترض بأن لغة بلحارث وغيرهم الذين جعلوا المثنى دائما بالألف نحو رأيت الزيدان ومررت بالزيدان وأعربوه بحركات مقدرة إنما هى فى المثنى خاصة ولم ينقل نحو ذلك عنهم فى الجمع خلافا لما يقتضيه عبارة أبى البقاء والمسألة ممالايجرى فيها القياس فلا ينبغى تخريج القرآن العظيم على ذلك وقرأ أبى وكذا ابن كثير والصابئين وهو الظاهر والصابيون بقلب الهمزة ياءا على خلاف القياس والصابون بحذفها من صبا بابدال الهمزة ألفا فهو كرامون من رمى
وقرأ عبد الله ياأيها الذين آمنوا واللذين هادوا والصابئون وقوله سبحانه وتعالى : من امن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا إما فى محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى : فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون
96
- والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد مافى صلته لفظه والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ وعلى كل لابد من تقدير العائد أى من آمن منهم وإما فى محل نصب على أنه بدل من اسم إن وماعطف عليه أوما عطف عليه فقط وهو بدل بعض ولابد من الضمير كما تقرر فى العربية فيقدر أيضا وقوله تعالى : فلا خوف الخ خبر والفاء كما قوله عز و جل : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم الآية والمعنى كما قال غير واحد على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون من أحدث من هؤلاء الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فانه بمعزل عن ذلك وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان فلا خوف عليهم حين يخاف الكافر العقاب ولاهم يحزنون حين المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان انتفاء الأمرين لاانتفاء دوامهما على مامرت الإشارة اليه غير مرة وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المتدينين بدين النبى صلى الله عليه و سلم مخلصين كانوا أو منافقين فالمراد بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بما ذكر على الاطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام كما فى المخلصين أو بطريق الاحداث والإنشاء كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وليس هناك الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لايخفى لأن الثبات على الإيمان والاحداث فردان من مطلق الإيمان إلا أن فى هذا الوجه ضم المخلصين إلى الكفرة وفيه إخلال بتكريمهم وربما يقال : إن فائدة ذلك المبالغة فى ترغيب الباقين فى الإيمان ببيان أن تأخرهم فى الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام وتمام قد مر فى آية البقرة فليراجع لقد أخذنا ميثاق بنى اسرائيل كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم وجعله بعضهم متعلقا بما افتتح الله تعالى به السورة وهو قوله سبحانه : أوفوا بالعقود ولايخفى بعده
والمراد بالميثاق المأخوذ العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم عليهم فى الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم واتباعه فيما يأتى ويذر أو فى التوحيد وسائر الشرائع والاحكام المكتوبة عليهم فى التوراة
وأرسلنا إليهم رسلا ذوى عدد كثير وأولى شأن خطير يعرفونهم ذلك ويتعهدونهم بالعظة والتذكير ويطلعونهم على مايأتون ويذرون فى دينهم كلما جاءهم رسول بما لاتهوى أنفسهم أى بما لاتميل اليه من
(6/203)
الشرائع ومشاق التكاليف والتعبير بذلك دون بما تركهه أنفسهم للمبالغة فى ذمهم وكلمة كلما كما قال أبو حيان : منصوبة على الظرفية لاضافتها إلى ما المصدرية الظرفية وليست كلمة شرط وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول ووجه ذلك السفاقسى بأن تسميتها شرطا لاقتضائها جوابا كالشرط الغير الجازم فهى مثل إذا ولابعد فيه وجوابها كما قيل قوله تعالى فريقا كذبوا وفريقا يقتلون
70
-
وقيل : الجواب محذوف دل عليه المذكور وقدره الن المنير استكبروا لظهور ذلك فى قوله تعالى : أفكلما جاءكم رسول بما لاتهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا الخ والبعض ناصبوه لأنه أدخل فى التوبيخ على ماقابلو به مجىء الرسول الهادى لهم وأنسب بما وقع فى التفصيل مستقحبا غاية الاستقباح وهو القتل على ماسنشير اليه إن شاء الله تعالى فان الاستكبار إنما يفضى اليه بواسطة المناصبة وأما فى الأية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار نظرا اليه فى نفسه لاقتضاء المقام وادعى بعضهم أن فى الإتيان بالفاء فى آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة كأنه قيل : استكبرتم فناصبتم ففريقا الخ وفيه نظر والجملة حينئذ استئناف لبيان الجواب وجعل الزمخشرى هذا القول متعينا لأن الكلام تفصيل لحكم تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل أى كلما جاءهم رسول من الرسل والمذكور بقوله سبحانه : فريقا كذبوا الخ يقتضى أن الجائى فى كل مرة فريقان فبينهما تدافع وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لايحسن فى مثل هذا المقام تقدير المفعول مثل إن أكرمت أخى أخاك أكرمت لأنه يشعر بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع فى المفعول وتعليقه بالشرط يشعر بالشك فى أصل الفعل ولأن تقديم المفعول على ماقيل : يوجب الفاء إما لجعله الفعل بعيدا عن المؤثر فيحوجه إلى رابط وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفترقة إلى الفاء وقيل : فيه مانع آخر لأن المعنى على أنهمكلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لاكلاهما فلوكان كان جوابا لكان الظاهر أو بدل الواو ومن جعل الجملة جوابا لم ينظر إلى هذه الموانع قال بعض المحققين : أما الأول فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق وقيل : المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير ويؤيده كلما الدالة الدالة على الكثرة وأما الثانى فلأنه لايقضى قواعد العربية مثله وماذكر من الوجوه أوهام لايلتفت اليها ولايوجد مثله فى كتب النحو ومنه يعلم دفع الأخير وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر الغفلة عن مثل هذا وقد قال فى شرح التسهيل : ويجوز أن ينطلق خيرا يصب خلافا للفراء فقال شراحه : أجاز سيبويه والكسائى تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه وأنشد الكسائى : وللخير أيام فمن يصطبر لها ويعرف لها أيامها الخير يعقب تقديره يعقب الخير ومنع ذلك الفراء مع بقاء الجزم وقال : بل يجب الرفع على التقديم والتأخير أو على إضمار الفاء وتأول البيت بأن الخير صفة للأيام كأنه قال : أيامها الصالحة
واختار ابن مالك هذا المذهب فى بعض كتبه ولما رأى الزمخشرى اشتراك المانع بين الشرط الجازم ومافى معناه مال اليه خصوصا وقوة المعنى تقتضيه فهو الحق انتهى
والجملة الشرطية صفة رسلا والرابط محذوف أى رسول منهم وإلى هذا ذهب جمهور المعربين
واختار مولانا شيخ الاسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل كأنه قيل : فماذا فعلوا بالرسل فقيل كلما جاءهم رسول من اولئك الرسل بما لاتحبه أنفسهم
(6/204)
المنهمكة فى الغى والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه واعترض رحمة الله تعالى على ماذهب اليه الجمهور من القول بالوصفية بأنه لايسادعه المقام لأن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ مافيها من الحكم ويجعل عنوانا للموصوف وتتمة له ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب له ومن قالوا : إن الصفات قبل العلم بها إخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف ولاريب فى أن ماسيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسل عرضة للقتل والتكذيب حسبما يفيده جعلها يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده لابيان أنه أرسل اليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة انتهى
وتعقبه الشهاب بأنه تخيل لاطائل تحته فان قوله سبحانه : ولقد أخذنا ميثاق بنى إسرائيل الخ مسوق لبيان جناياتهم والنعى عليهم بذلك كما اعترف به المعترض وهو لايفيده إلا بالنظر إلى الصفة التى هى مرمى النظر كما فى سائر القيود وأما كونها معلومة فلا ضير فيه فانك إذا وبخت شخصا وقلت له : فعلت كيت وكيت وهو أعلم بمافعل لايضر ذلك فى تقريعه وتعييره بل هو أقوى كما لايخفى على الخبير بأساليب الكلام فلا تلتفت إلى مثل هذه الأوهام انتهى ولايخفى مافى قوله وهو لايفيده إلا بالنظر إلى الصفة الخ من المنع الظاهر وكذا جعل مانحن فيه نظير قولك لشخص تريد توبيخه فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل فيه خفاء والذى يحكم به الانصاف بعد التأمل جواز الأمرين وأن ماذهب اليه شيخ الاسلام أولى فتأمل وانصف
والتعبير بيقتلون مع أن الظاهر قتلوا ككذبوا لأستحضار الحال الماضية من أسلافهم لللتعجيب منها ولم يقصد ذلك فى التكذيب لمزيد الاهتمام بالقتل وفى ذلك أيضا رعاية الفواصل وعلل بعضهم التعبير بصيغة المضارع فيه بالتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر فهم بعد يحومون حول قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم واقتصر البعض على قصد حكاية الحال لقرينة ضمائر الغيبة وتقديم فريقا فى الوضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى مافعلوا به لا للقصر وحسبوا ألا تكون فتنة أى ظن بنو إسرائيل أن لايصيبهم من الله تعالى بما فعلوا بلاء وعذاب لزعمهم كما قال الزجاج أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه أو لامهال الله تعالى لهم أو لنحو ذلك وعن مقاتل تفسير الفتنة بالشدة والقحط والأولى حملها على العموم وعلى التقديرين ليس المراد منهاالمعروف
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائى وبعقوب أن لاتكون بالرفع على أن أن هى المخففة من الثقيلة وأصله أنه لاتكون فخفف أن وحذف ضمير الشأن وهو اسمها وتعليق فعل الحسبان بها وهى للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته و أن بما حيزها ساد مسد مفعلوليه وقيل : إن حسب هنا بمعنى علم و أن لاتخفف إلابعد ما يفيد اليقين وقيل : إن المفعول الثانى محذوف أى وحسبوا عدم الفتنة كائنا ونقل ذلك عن الأخفش و تكون على كل تقدير تامة وقوله تعالى : فعموا عطف على حسبوا والفاء للدلالة على ترتيب مابعدها على ماقبلها أى أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا فى فنون الغى والفساد وعموا عن الدين بعد ماهداهم الرسل إلى معالمه وبينوا لهم مناهجه وصموا عن استماع الحق الذى ألقوه اليهم وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتى إفساد بنى إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيا وقيل أرميا عليهما السلام ثم تاب الله عليهم حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه
(6/205)
من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بختنصر أسارى فى غاية الذل والمهانة فوجه الله عز و جل ملكا عظميا من ملوك فارس إلى بيت المقدس فعمره ورد من بقى بنى إسرائيل فى أسر بختنصر إلى وطنهم وتراجع من تفرق منهم فى الأكناف فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ماكانواعليه وقيل لما ورث بهمن ابن أسفنديار الملك من جده كاسف ألقى الله تعالى فى قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملك عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فرجعوا إلى أحسن ماكانوا عليه من الحال وذلك قوله تعالى ثم رددنا لكم الكرة عليهم ولم يسند سبحانه التوبة اليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير اليهم وإنما أشير اليها فى ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه : ثم عموا وصموا وهو إشارة اإى المرة الآخرة من مرتى إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام وجعل الزمخشرى العمى والصمم أولا إشارة إلى ماصدر منهم من عبادة العجل وثانيا إشارة إلى ماوقع منهم من طلبهم الرؤية وفيه أن عبادة العجل وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها فى عصر موسى عليهم السلام ولاتعلق لها بما حكى عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليه السلام بأعصار وكذا القول على زعمه فى طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى عليه السلام حين توجه للمناجاة وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها وحمل ثم للتراخى الرتبى دون الزمانى مما لاضرورة اليه وقيل : إن العمى والصم أولا إشارة الى ماكان فى زمن زكريا ويحيى عليه السلام وثانيا إشارة إلى ماكان فى زمن نبينا صلى الله عليه و سلم من الكفر والعصيان وبدأ بالعمى لأنه أول مايعرض للمعرض عن الشرائع فلايبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولايلتفت إلى معجزاته ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى وقرىء عموا وصموا بالضم على تقدير عماهم الله تعالى وصمهم أى رماهم وضربهم بالعمى والصمم كما يقال : نزكته إذا ضربته بالنيزك وركبته إذا ضربته بركبتك وقوله تعالى : كثير منهم بدل من الضمير فى الفعلين وقيل : هو فاعل والواو علامة الجمع لاضير وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة بأكلونى البراغيث أو هو خبر مبتدأ محذوف أى العمى والصم كثير منهم
وقيل : أى العمى والصمم كثير منهم أى صادر ذلك منهم كثيرا وهو خلاف الظاهر وجوز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره وضعف بأن الخبر الفعلى لايتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضمير مستترا إذ لاالتباس فيما إذا كان بارزا والتباسه بالفاعل فى لغة أكلونى البراغيث لم يعتبروه مانعا لأن تلك اللغة ضعيفة لايلتفت اليها ومن هنا صرح النحاة بجواز التقديم فى مثل الزيدان قاما لكن صرحوا بعدم جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدا للفاعل نحو أنا قمت فان أنا لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل ومانحن فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر أعنى البدل فتدبر وإنما قال سبحانه : كثير منهم لأن بعضا منهم لم يكونوا كذلك والله بصير بما يعملون
71
- أى بما عملوا وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة مع مافى ذلك من رعاية الفواصل والجملة تذيييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفى بها تعويلا
(6/206)
على مافصل نوع تفصيل فى سورة بنى إسرائيل ولايخفى موقع بصير هنا مع قوله سبحانه : عملوا
لقد كفرالذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم شروع فى تفصيل قبائح النصارى وإبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وقائل ذلك : منهم كما روى عن مجاهد وقد أشبعنا الكلام على تفصيل أقوالهم وطوائفهم فيما تقدم فتذكر وقال المسيح حال من فاعل قالوا بتقدير قد مفيدة لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به أى قالوا ذلك و قد قال المسيح عليه السلام مخاطبا لهم يابنى إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم فانى مربوب مثلكم فاعبدوا خالقى وخالقكم إنه أى الشأن من يشرك بالله أى شيئا فى عبادته سبحانه أو فيما يختص به من الصفات والافعال كنسبة علم الغيب وإحياء الموتى بالذات إلى عيسى عليه السلام فقد حرم الله عليه الجنة لأنها دار الموحدين والمراد يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم فالتحريم مجاز مرسل أو استعارة تبعية للمنع إذ لاتكليف ثمة وإظهار الإسم الجليل فى موقع الإضمار لتهويل الآمر وتربية المهابة ومأواه النار فانها المعدة للمشركين وهذا بيان لابتلائم بالعقاب إثر بيان حرمانهم الثواب ولايخفى مافى هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضى لادخاله النار وما للظالمين من أنصار أى مالهم من أحد ينصرهم بانقاذهم من النار : وإدخالهم الجنة إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة والجمع لمراعاة المقابلة بالظلمين
وقيل : ليعلم نفى الناصر من باب أولى لأنه إذا لم ينصرهم الجم الغفير فكيف ينصرهم الواحد منهم ! وقيل : إن ذلك جار على زعمهم أن لهم أنصارا كثيرة فنفى ذلك تهكما بهم واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى من كما إن افراد الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها وإما للجنس وهم يدخلون وهم يدخلون فيه دحولا أوليا ووضعه على الأول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالاشراك وعدلوا عن طريق الحق والجملة تذييل مقرر لما قبله وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام وإما وارد من جهته تعالى تأكيدا لمقالته عليه السلام وتقريرا لمضمونها لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة شروع فى بيان كفر طائفة أخر منهم وقد تقدم لك من هم وثالث ثلاثة لايكون إلا مضافا كما قال الفراء وكذا رابع أربعة ونحوه ومعنى ذلك أحد تلك الأعداد لا الثالث والرابع خاصة ولو قلت : ثالث اثنين ورابع ثلاثة مثلا جاز الأمران : الاضافة والنصب
وقد نص على ذلك الزجاج أيضا وعنوا بالثلاثة على ماروى عن السدى البارى عز اسمه وعيسى وأمه عليهما السلام فكل من الثلاثة إله بزعمهم والآلهية مشتركة بينهم ويؤكده قوله تعالى للمسيح عليه السلام : أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى الهين من دون الله وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى : ومامن إله إلاله واحد أى والحال أنه ليس فى الموجودات ذات واجب مستحق للعبادة لأنه مبدأ جميع الموجودات إلا إله موصوف بالوحدة متعال عن قبول الشركة بوجه إذ التعدد يستلزم انتفاء الألوهية كما يدل عليه برهان التمانع فاذا نافت الألوهية مطلق التعدد فما ظنك بالتثليث ! و من مزيدة للاستغراق كما نص على ذلك النحاة وقالوا فى وجهه : لأنها فى الأصل من الابتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهى فأصل لارجل : لا من رجل إلى مالانهاية له
(6/207)
وهذا حاصل ماذكره صاحب الإقليد فى ذلك وقيل إنهم يقولون الله سبحانه جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس ويعنون بالأول الذات وقيل : الوجود وبالثانى العلم وبالثالث الحياة وإن منهم من قال بتجسمها فمعنى قوله تعالى : وما من إله إلا اله واحد لاإله بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه التى يزعمونها وقد مر تحقيق هذا المقام بما لامزيد عليه فارجع إن أردت ذلك اليه وإن لم ينتهوا عما يقولون أى إن لم يرجعوا عماهم عليه إلى خلافه وهو التوحيد والإيمان ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم
73
- جواب قسم محذوف ساد مسد جواب الشرط على ماقاله أبو البقاء والمراد من الذين كفروا إما الثابتون على الكفر كما اختاره الجبائى والزجاج وإما النصارى كما قيل ووضع الموصول موضع ضميرهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر و من على هذا بيانية وعلى الأول تبعيضية وإنما جىء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيها على أن الاستمرار عليه بعد ورود ماورد مما يقتضى القلع عنه كفر جديد وغلو زائد على ماكانوا عليه من أصل الكفر والاستفهام فى قوله تعالى : أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه للانكار وفيه تعجيب من إصرارهم أو عدم مبادرتهم إلى التوبة والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقوال الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى الحق ويستغفرونه بتنزيهه تعالى عما نسبوه اليه عز و جل أو يسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك والله غفور رحيم
74
- فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا والجملة فى موضع الحال وهى مؤكدة الانكار والتعجيب والاظهار فى موضع الاضمار لما مر غير مرة
ماالمسيح ابن مريم إلا رسول استئناف مسوق لتحقيق الحق الذى لامحيد عنه وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه بالإشارة أولا إلى ماامتازوا به من نعوت الكمال حتى صارا من أكمل أفراد الجنس وآخر إلى الوصف المشترك بينهما وبين أفراد البشر بل أفراد الحيوانات وفى ذلك استنزال لهم بطريق التدريج عن الاصرار وإرشاد إلى التوبة والاستغفار أى هو عليه السلام مقصور على الرسالة لايكاد يتخطاها إلى مايزعم النصارى فيه عليه الصلاة و السلام وهو قوله سبحانه : قد خلت من قبله الرسل صفة رسول منبئة عن اتصافه بما ينافى الألوهية فان خلو الرسل قبله منذر بخلوه وذلك مقتضى لاستحالة الألوهية أى ماهو إلا رسول كالرسل الخالية قبله خصه الله تعالى ببعض الآيات كما خص كلا منهم ببعض آخر منها ولعل ماخص به غيره أعجب وأغرب مما خصه به فانه عليه الصلاة و السلام إن أحيا من مات من الأجسام التى من شأنها الحياة فقد أحيا موسى عليه السلام الجماد وإن كان قد خلق من غير أب فآ دم عليه الصلاة و السلام قد خلق من غير أب وأم فمن أين لكم وصفه بالألوهية ! وأمه صديقة أى وما أمه أيضا إلا كسائر النساء اللواتى يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن فى الاتصاف به فمن أين لكم وصفها بما عرى عن أمثالها ! والمراد بالصدق هنا صدق حالها مع الله تعالى وقيل : صدقها فى براءتها مما رمتها به اليهود والمراد بالتصديق تصديقها بما حكى الله تعالى عنها بقوله سبحانه : وصدقت بكلمات ربها وكتبه
وروى هذا عن الحسن واختاره الجبائى وقيل تصديقها بالأنبياء والصيغة كيفما كانت للمبالغة كشريب
(6/208)
ورجح كونها من الصدق بأن القياس فى صيغ المبالغة الأخذ من الثلاثى ولكن ماحكى ربما يؤيد أنها من المضاعف والحصر الذى أشير اليه مستفاد من المقام والعطف كما قاله العلامة الثانى وتوقف فى ذلك بعضهم وليس فى محله واستدل بالآية من ذهب إلى عدم نبوة مريم عليها السلام وذلك أنه تعالى شأنه انما ذكر فى مرض الإشارة إلى بيان أشرف مالها الصديقية كما ذكر الرسالة لعيس عليه الصلاة و السلام فى مثل ذلك المعرض فلو كان لها عليها السلام مرتبة النبوة لذكرها سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك نعم الأكثرون على أنه ليس بين النبوة والصديقية مقام وهذا أمر آخر لاضرر له فيما نحن بصدده كانا يأكلان الطعام استئناف لاموضع له من الاعراب مبين لما أشير اليه من كونهما كسائر أفراد البشر بل أفراد الحيوان فى الاحتياج إلى مايقوم به البدن من الغذاء فالمراد من أكل الطعام حقيقته وروى ذلك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما
وقيل : هو كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج الى النفض وهذا أمر ذوقا فى أفواه مدعى ألوهيتهما لما فى ذلك مع الدلالة على الاحتياج المنافى للألوهية بشاعة عرفية وليس المقصود سوى الرد على النصارى فى زعمهم المنتن واعتقادهم الكريه قيل : والآية فى تقديم مالهما من صفات الكمال وتأخير مالأفراد جنسهما من نقائص البشرية على منوال قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم حيث قدم سبحانه العفو على المعاتبة له صلى الله عليه و سلم لئلا توحشه مفاجأته بذلك وقوله تعالى : انظر كيف نبين لهم الآيات تعجب من حال الذين يدعو لهما الربوبية ولايرعون عن ذلك بعدما بين لهم حقيقة الحال بيانا لايحوم حوله شائبة ريب والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة و السلام أو لكل من له أهلية ذلك وكيف معمول لنبين والجملة فى موضع النصب معلقة للفعل قبلها والمراد من الآيات الدلائل أى انظر كيف نبين لهم الدلائل القطعية الصاعدة ببطلان مايقولون
ثم انظر أنى يؤفكون
75
- أى كيف يصرفون عن الإصاخة اليها والتأمل فيها لسوء استعدادهم وخباثة نفوسهم والكلام فيه كما مر فيما قبله وتكرير الأمر بالنظر للمباغة فى التعجيب و ثم لاظهار مابين العجبين من التفاوت أى إن بياننا للآيات أمر بديع فى بابه بالغ الأقصى الغايات من التحقيق والايضاح وإعرضهم عنها مع انتفاء مايصححه بالمرة وتعاضد مايوجب قبولها أعجب وأبدع ويجوز أن تكون على حقيقتها والمراد منها بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده أى أنهم مع طول زمان ذلك لايتأثرون ويؤفكون
قل أتعبدون من دون الله مالايملك لكم ضرا ولانفعا أمرلا بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم والمراد بما لايملك عيسى أوهو وأمه عليهما الصلاة والسلام والمعنى أتعبدون شيئا لايستطيع مثل مايستطيعه الله تعالى من البلايا والمصائب والصحة والسعة أو أتعبدون شيئا لااستطاعة له أصلا فان كل مايستطيعه البشر بايجاد الله تعالى وإقداره عليه لا بالذات وإنما قال سبحانه : ما نظرا إلى ماعليه المحدث عنه فى ذاته وأول أمره وأطواره توطئة لنفى القدرة عنه رأسا وتنبيها على أنه من هذا الجنس ومن كان بينه وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلها وقيل : إن المراد بما كل ماعبد من دون الله تعالى كالأصنام وغيرها فغلب
(6/209)
مالايعقل على من يعقل تحقيرا وقيل : أريد بها النوع كما فى قوله تعالى : فانكحوا ماطاب لكم من النساء
وقيل : يمكن أن يكون المراد الترقى من توبيخ النصارى على عبادة عيسى عليه السلام الى توبيخهم على عبادة الصليب فما على بابها ولايخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحرى النفع ولأن أدنى درجات اتأثير دفع الشر ثم جلب الخير وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق الى المؤخر وقوله سبحانه وتعالى : والله هو السميع العليم فى موضع الحال من فاعل أتعبدون مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد والواو هو الواو أى أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه مالايقدر على شىء ولاتخشونه والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالاحاطة بجميع المسموعات والمعلومات التى من جملتها ماأنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة وقد يقال : المعنى أتعبدون العاحز والله هو الذى يصح أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ولن يوكن كذلك إلا وهو حى قادر على كل شىء ومنه الضرر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيرا فخير وإن شرا فشر وفرق بين الوجهين بأن ما على هذا الوجه للتحقير والوصفية على هذا الوجه على معنى العدول إلى المبهم استحقار إلا أن ما للوصف والحال مقررة لذلك وعلى الأول للتحقير المجرد والحال كما علمت فافهم قل ياأهل الكتاب تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقى أهل الكتاب بارادة الجنس من المحلى بأل على لسان النبى صلى الله عليه و سلم
واختار الطبرسى كونه خطابا للنصارى خاصة لأن الكلام معهم ولاتغلوا فى دينكم أى لاتجاوزوا الحد وهو نهى للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة و السلام عن رتية الرسالة إلى ماتقولوا فى حقه من العظيمة وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ماانتحلوه لها عليها السلام ونهى لليهود على تقدير دخولهم فى الخطاب عن وضعهم له عليه السلام وكذا لأمه عن الرتبة العلية إلى ماافتروه من الباطل والكلام الشنيع وذكرهم بعنوان أهل الكتاب للايماء إلى أن فى كتابهم ماينهاهم عن الغلو فى دينهم غير الحق نصب على أنه صفة مصدر محذوف أى غلو غير الحق أى باطلا وتوصيفه به للتوكيد فان الغلو لايكون إلا غير الحق على ماقاله الراغب وقال بعض المحققين : إنه للتقييد وماذكره الراغب غير مسلم فان الغلو قد يكون غير حق وقد يكون حقا كالتعمق فى المباحث الكلامية
وفى الكشاف الغلو فى الدين غلوان : حق وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد فى تحصيل حججه كما يفعلون المتكلمون من أهل العدل والتوحيد وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتخطاه بالاعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل الاهواء والبدع انتهى وقد يناقش فيه على مافيه من الغلو فى التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد ولامجاوزة عنه مالم يخرج عن الدين وماذكر ليس خروجا عنه حتى يكون غلوا وجوز أنيكون غير حالا من ضمير الفاعل أى لاتغلوا مجاوزين الحق أو من دينكم أى لاتغلوا فى دينكم حال من كونه باطلا منسوخا ببعثة محمد صلى الله عليه و سلم وقيل : هو على الاستثناء المتصل أو المنقطع ولاتتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وهم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أمر من النصارى قبل مبعث النبى صلى الله عليه و سلم فى شريعتهم
(6/210)
والأهواء جمع هوى وهو الباطل الموافق للنفس والمراد لاتوافقهم فى مذاهبهم الباطلة التى لم يدع اليها سوى الشهوة ولم تقم عليها حجة وأضلوا كثيرا أى أناسا كثيرا ممن تابعهم ووافقهم فيما دعوا اليه من البدعة والضلالة أو اضلالا كثيرا والمفعول به حينئذ محذوف وضلوا عند بعثة النبى صلى الله عليه و سلم ووضوح مجة الحق وتبين مناهج الاسلام عن سواء السبيل أى قصد السبيل الذى هو الاسلام وذلك حين حسدوا النبى صلى الله عليه و سلم وكذبوه وبغوا عليه فلا تكرار بين ضلوا و ضلوا من قبل والظاهر أن عن متعلقة بالأخير وجوز أن تكون متعلقة بالأفعال الثلاثة ويراد بسواء السبيل الطريق الحق وهو بالنظر إلى الأخير دين الاسلام وقيل : فى الإخراج عن التكرار أن الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثانى إلى ضلالهم عما جاء به الشرع وقيل : إن ضمير ضلوا الأخير عائد على الكثير لا على قوم والفعل مطاوع للإضلال أى ان أولئك القوم أضلوا كثيرا من الناس وأن أولئك الكثير قد ضلوا بإضلال أولئك لهم فلا تكرار وقيل أيضا قد يراد بالضلال الأول الضلال بالغلو فى الرفع والوضع مثلا وكذا بالإضلال ويراد بالضلال عن سواء السبيل الضلال عن واضحات دينهم وحروجهم عنه بالكلية وقال الزجاج : المراد بالضلال الأخير ضلالهم فى الإضلال أى إن هؤلاء ضلوا فى أنفسهم وضلوا بإضلالهم لغيرهم كقوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ونقل هذا كالقيل الأول عن الراغب وجوز أيضا أن يكون قوله سبحانه وتعالى : عن سواء متعلقا ب قد ضلوا من قبل إلا أنه فصل بينه وبين مايتعلق به أعيد ذكره كقوله تعالى : لاتحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلاتحسبنهم بمفازة من العذاب ولعل ذم القوم على ماذهب اليه الجمهور أشنع من ذمهم على ماذهب اليه غيرهم والله تعالى أعلم بمراده لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل أى لعنهم الله تعالى وبناء الفعل لما لم يسم فاعله للحرى على سنن الكبرياء والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من فاعل كفروا وقوله سبحانه وتعالى : على لسان داود وعيسى ابن مريم متعلق بلعن أى لعنهم جل وعلا فى الانجيل والزبور على لسان هين النبيين عليهما السلام بأن أنزل سبحانه وتعالى فيهما ملعون من يكفر من بنى إسرائيل بالله تعالى أو أحد من رسله عليهم السلام ن وعن الزجاج إن المراد أن داود وعيس عليهما الصلاة والسلام أعلما بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وبشرا به وأمرا باتباعه ولعنا من كفر به من بنى إسرائيل والأول أولى وهو المروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وقيل ان أهل إيلة لما اعتدوا فى السبت قال داود عليه الصلاة و السلام : اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله تعالى قردة وأصحاب المائدة لما كفروا قال عيسى عليه الصلاة و السلام : اللهم عذب من كفر بعد ماأكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل مافيهم امرأة ولاصبى وروى هذا القول عن الحسن ومجاهد وقتادة وروى مثله عن الباقر رضى الله تعالى عنه واختاره غير واحد واالمراد باللسان الجارحة وإفراده أحد الاستعمالات الثلاث المشهورة فى مثل ذلك
(6/211)
وقيل المراد به اللغة ذلك أى اللعن المذكور وإيثار الإشارة على الضمير للاشارة إلى كمال ظهوره وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه فى سلك الأمور المشاهدة وما فى من البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعدد درجته فى الشناعة والهول بما عصو أى بسبب عصيانهم والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا عن المبتدأ قبله والجملة استئناف واقع موقع الجواب عما نشأ من الكلام كأنه قيل : بأى سبب وقع ذلك فقيل : ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب عصيانهم وقوله تعالى : وكانوا يعتدون
78
- يحتمل أن يكون معطوفا على عصوا فيكون داخلا فى حيز السبب أى وبسبب اعتدائهم المستمر وينبىء عن إرادة الاستمرار الجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل وادعى الزمخشرى إفادة الكلام حصر السبب فيما ذكر أى بسبب ذلك لاغير كما قيل استفيد من لعدول عن الظاهر وهو تعلق بما عصوا بلعن دون ذكر اسم الإشارة فلما جىء به استحقارا لذلك اللعن وجوابا عن سؤال الموجب دل على أن مجموعه بهذا السبب لابسبب آخر وقيل : استفيد من السببية لأن المتبادر منها ضمن السبب التام وهو يفيد ذلك ولايرد علىالحصر أن كفرهم سبب أيضا كما يشعر به أخذه فى حيز الصلة لأن ماذكر فى حيز السببية هنا مشتمل على كفرهم أيضا ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء وتجاوز الحد فى العصيان وقوله تعالى : كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه مؤذن باستمرار الاعتداء فانه استئناف مفيد لاستمرار عدم التناهى عن المنكر ولايمكن استمراره إلا باستمرار تعاطى المنكرات وليس المراد بالتناهى أن ينهى كل منهم الآخر عما يفعله من المنكر كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل بل مجرد صدور النهى عن أشخاص متعددة من غير أن يكون كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا كما فى تراؤا الهلال وقيل : التناهى بمعنى الانتهاء من قولهم : تناهى عن لأمر وانتهى عنه إذا امتنع فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء ومفيدة لاستمرارهما صريحا وعلى الأول إنما تفيد استمرار انتفاء النهى عن المنكر ومن ضرورته استمرار فعله وعلى التقديرين لاتقوى هذه الجملة احتمال الاستئناف فيما سبق خلافا لأبى سفيان
والمراد بامنكر قيل : صيد السمك يوم السبت وقيل أخذ الرشوة فى الحكم وقيل أكل الربا وأثمان الشحوم والأولى أن يراد به نوع المنكر مطلقا ومايفيده التنوين وحدة نوعية لاشخصية وحينئذ لايقدح وصفه بالفعل الماضى فى تعلق النهى به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد مايتعلق به النهى أو الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه فى ضمن أى فرد كان من أفراده على أنه لو جعل فى فعلوه بالنسبة إلى زمن الخطاب لازمان النهى لم يبق فى الآية إشكال ولما غفل بعضهم عن ذلك قال : إن الآية مشكلة لما فيها من ذم القوم بعدم النهى عما وقع مع أن النهى لايتصور فيه أصلا وإنما يكون عن الشىء قبل وقوعه فلابد من تأويلها بأن المراد النهى عن العود اليه وهذا اما بتقدير مضاف قبل منكر أى معاودة منكر أو يفهم من السياق أو بأن المراد فعلوا مثله أو بحمل فعلوه على أرادوا فعله كما فى قوله سبحانه : إذا قرأت القرآن فاستعذ
واعترض الأول بأن المعاودة كالنهى لاتتعلق بالمنكر المفعول فلابد من المصير إلى أحد الأمرين الأخيرين وفيهما من التعسف مالايخفى وقيل : إن الاشكال انما يتوجه لو لم يكن الكلام على حد قولنا : كانوا لاينهون يوم الخميس عن منكر فعلوه يوم الجمعة مثلا فانه لاخفاء فى صحته وليس فى الكلام مايأباه
(6/212)
فليحمل على نحو ذلك وقولهه سبحانه : لبئس ماكانوا يفعلون
79
- تقبيح لسوء فعلهم وتعجيب منه والقسم لتأكيد التعجيب أو لفعل المتعجب منه وفى هذه الآية زجر شديد لمن يترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقد أخرج أحمد والترمذى وحسنه عن حذيفة بن اليمان أن النبى صلى الله عليه و سلم قال : والذى نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله تعالى أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجب لكم وأخرج أحمد عدى بن عميرة قال : سمعت رسول اله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله الله تعالى لايعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلاينكرونه فاذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى الخاصة والعامة وأخرج الخطيب من طريق أبى سلمة عن أبيه عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال : والذى نفس محمد صلى الله عليه و سلم بيده ليخرجن من أمتى أناس من قبورهم فى صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصى وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون والأحاديث فى هذا الباب كثيرة وفيها ترهيب عظيم فياحسرة على المسلمين فى إعراضعهم عن باب التناهى عن المناكير وقلة عبئهم به ترى منهم يتولون الذين كفروا خطاب للنبى صلى الله عليه و سلم أو لكل من تصح منه الرؤية وهى هنا بصرية والجملة الفعلية بعدها فى موضع الحال من مفعولها لكونه موصوفا وضمير منهم لأهل الكتاب أو لبنى إسرائيل واستظهره فىالبحر والمراد من الكثير كعب بن الاشرف وأصحابه ومن الذين كفروا مشركوا مكة وقد روى أن جماعة من اليهود خرجوا إلى مكة ليتفقوا مع مشركيها على محاربة النبى صلى الله عليه و سلم والمؤمنين فلم يتم لهم ذلك
وروى عن الباقر رضى الله تعالى عنه أن المراد الذين كفروا الملوك الجبارون أى ترى كثيرا منهم وهم علماؤهم يوالون الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم وهذا فى غاية البعد ولعل نسبته إلى الباقر رضى الله تعالى عنه غير صحيحة وروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه والحسن ومجاهد أن المراد من الكثير منافقوا اليهود ومن الذين كفروا مجاهروهم وقيل المشركون لبئس ماقدمت لهم أنفسهم أى لبئس شيئا فعلوه فى الدنيا ليردوا على جزائه فى العقبى أن سخط اللله عليهم هو المخصوص بالذم على حذف المضاف وإقامة المضاف اليه مقامه تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شىء واحد ومبالغة فى الذم أى بئس ماقدموا لمعادهم موجب سخط الله عليهم وإنما اعتبروا المضاف لأن نفس سخط الله تعالى باعتبار إضافته إايه سبحانه ليس مذموما بل المذموم ماأوجبه من الأسباب على أن نفس السخط ممالم يعمل فى الدنيا ليرى جزاؤه فى العقبى كما لايخفى وفى إعراب المخصوص بالذم أو المدح أقوال شهيرة للمعربين واختار أبو البقاء كون المخصوص هنا خبر مبتدأ محذوف تنبىء عهن الجملة المتقدمة كأنه قيل : ماهو أو أى شىء هو فقيل : هو أن سخط الله عليهم ونقل عن سيبويه أن أن سخط الله مرفوع على البدل من المخصوص بالذم وهو محذوف وجملة قدمت صفته و ما اسم تام معرفة فى محل رفع بالفاعلية لفعل الذم والتقدير لبئس الشىء شىء قدمته لهم أنفسهم سخط الله تعالى وقيل إنه فى محل رفع بدل من ما إن قلنا إنها معرفة فاعل لفعل اذم أو فى محل نصب منها إن كانت تمييزا واعترض بأن فيه إبدال المعرفة من النكرة وقيل : إنه على تقدير الجار والمخصوص محذوف أى لبئس شيئا ذلك لأن سخط الله تعالى عليهم وفى العذاب أى عذاب جهنم هم خالدون
80
- أبد الآبدين والجملة فى موضع الحال وهى متسببة عما قبلها وليست
(6/213)
داخلة فى حيز الحرف المصدرى إعرابا كما توهمه عبارة البعض وتعسف لها عصام الملة بجعل أن مخففة عالمة فى ضمير الشأن بتقدير أنه سخط الله تعالى عليهم وفى العذاب هم خالدون ووجوز أيضا أن تكون هذه الجملة معطوفة على ثانى مفعولى ترى بجعلها علمية أى تعلم كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ويخلدون فى النار وكل ذلك مما لاحاجة اليه ولو كانوا أى الذين يتولون المشركين يؤمنون بابلله والنبى أى نبيهم موسى عليه السلام وماأنزل إليه من التوراة وقيل المراد بالنبى نبينا مخدمد صلى الله عليه و سلم وبما أنزل القرآن أى لوكان المنافقون يؤمنون بالله تعالى ونبينا محمد صلى الله عليه و سلم إيمانا صحيحا ماأتخذوهم أى المشركين أو اليهود المجاهرين أولياء فان الإيمان المذكور وازع عن توليهم قطعا ولكن كثيرا منهم فاسقون
81
- أى خارجون عن الدين أو متمردون فى النفاق مفرطون فيه 7
(6/214)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذي أشركوا جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وأكدت بالقسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم وإما لكل أحد يصلح له إيذانا بأن حالهم مما لاتخفى على أحد من الناس والوجدان متعد لأثنين أولهما أشد وثانيهما اليهود وما عطف عليه كما قال ابو البقاء وأختار السمين العكس لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر ومحط الفائدة هو الخبر ولاضير في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وهو هنا واضح إذ المقصود بيان مون الطائفتين أشد الناس عداوة للمؤمنين لأكون أشدهم عداوة لهم الطائفتين المذكروتين فليفهم و عداوة تمييز واللام الداخلة على الموصوله متعلقة بها مقوية لعملها ور يضر كونها منثة بالتاء لأنها مبنية عليه كرهبة عقابك وجوز ابو البقاء والسمين تعلقها بمحذوف وقع صفة لها أي عداوة كائنة للذين آمنوا والظاهر أن المراد من اليهود العموم لمن كان بحضرة الرسول صلى الله عليه و سلم من يهود المدينة وغيرهم ويؤيده ما أخرجه ابو الشيخ وابن مردويه عن ابي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله وفي لفظ إلا حدث نفسه بقتله وقيل : المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد وكما اختلف في عموم اليهود أختلف في عموم الذين اشركوا والمراد من الناس كما قال ابو حيان الكفار أي لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء ووصفهم سبحانه بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء عليهم السلام والاجتراء على تكذيبهم ومناصبتهم وقد قيل : إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى ولتجدن أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا إيذانا بتقدمهم عليهم في الحرص وقيل : التقديم لكون الكلام في تعديد قبائحهم ولعل التعبير بالذين أشركوا دون المشركين مع أنه اخصر للمبالغة بالذم وقيل : ليكون على نمط الذين شمنوا والتعبير به دون المؤمنين لأنه أظهر في علية ما في حيز الصلة وأعيد الموصول مع صلته في قوله تعالى ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا روما لزيادة التوضيح والبيان والتعبير بقوله سبحانه وتعالى الذين قالوا إنا نصارى دون النصارى إشعارا بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله تعالى وأوداء أهل الحق وإن لم يظهر اعتقاد حقية الاسلام
وقال ابن المنير : لم يقل سبحانه النصارى كما قال جل شأنه اليهود تعريضا بصلابة الأولين في الكفر والامتناع عن الانقياد لأن اليهود لما قيل لهم : ادخلوا الأرض المقدسة قالوا إدهب أنت وربك فقاتلا والنصارى لما قيل
(7/2)
من أنصاري إلى الله قالوا : نحن أنصار الله وكذلك أيضا ورد في أول السورة في قوله عز و جل ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به لكن ذكر ههنا تنبيها على إنقيادهم وأنهم لم يكافحوا الأمر بالرد مكافحة اليهود وذكر هناك تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق والله تعالى أعلم بأسرار كلامه والعدول كما قال شيخ السلام عن جعل مافيه التفاوت بين الفريقين شيئا واحدا قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخرا : ولتجدن أضعفهم مودة الخ أو بأن يقال اولا : لتجدن أبعد الناس مودة للايذان بكمال تباين مابين الفريقين من التفاوت ببيان أن احدهما في اقصى مراتب النقيضين والآخر في أقرب مراتب النقيض الآخر والكلام في مفعولي لتجدن وتعلق اللام كالذي سبق والمراد من النصارى على ماروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير وعطاء والسدي الجاشي وأصحابه
وعن مجاهد أنهم الذين جاؤا مع جعفر رضي الله تعالى عنه مسلمين وهم سبعون رجلا اثنان وستون من الحبشة وثمانية من اهل الشام وهم بحيرة الراهب وابرهة وادريس وأشرف وتمام وقثم ودريد وأيمن والظاهر العموم على طراز ما تقدم ذلك أي كونهم أقرب مودة للذين آمنوا بأن منهم أي بسبب أن منهم قسيسين وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب وقيل : القس مثلث الفاء تتبع الشيء وطلبه ومنه سمي عالم النصارى قسا بالفتح وقسيسا لتتبعه العلم وقيل : قص الأثر وقسه بمعنى وقال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم وقد تكلمت به العرب وأجروه مجرى سائر كلماتهم وقالوا في المصدر قسوسة وقسيسة وفي الجمع قسوس وقسيسون وقساوسة كمهالبة وكان الأصل قساسة إلا أنه كثرت السينات فابدلوا إحداهن واوا وفي مجمع البيان نقلا عن بعضهم أن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ماليس منه وبقي من علمائهم واحد على الحق والاستقامة يقال له قسيسا فما كان على هديه ودينه فهو قسيس ورهبانا جمع راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان ومصدره الرهبنة والرهبانية وقيل : إنه يطلق على الواحد والجمع وأنشد فيه قول من قال : لو عاينت رهبان دير في قلل لأقبل الرهبان يعدو ونزل وجمع الرهبان واحدا كما في القاموس رهابين ورهابنة ورهبانون والترهب التعبد في صومعة وأصله من الرهبة المخافة وأطلق الفيروزابادي والجوهري التعبد ولم يقيداه بالصومعة وفي الحديث لارهبانية في الإسلام والمراد بها كما قال الراغب الغلو في تحمل التعبد في فرط الخوف وفي النهاية هي من رهبنة النصارى وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب فنفاها النبي صلى الله عليه و سلم عن الإسلام ونهى المسلمين عنها وهي منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف والرهبنة فعلنة أو فعللة على تقدير أصالة النون وزيادتها والتنكير في رهبانا لافادة الكثرة ولابد من اعتبارها
(7/3)
في القسيسن أيضا إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنينفإن إتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها وإلا فمن اليهود أيضا قوم مهتدون لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود
وأنهم لايستكبرون 28 عطف على أن منهم أي وبأنهم لايستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود وهذه الخصلة على ماقيل شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيتها لأقربيتهم مودة للمؤمنين واضحة وفي الآية دليل على أن التواضع والاقبال على العلم والعمل والاعراض عن الشهوات محمودة أينما كانت وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع عطف على لايستكبرون و إذا في موضع نصب بتري وجملة تفيض في موضع الحال والرؤية بصرية أي ذلك بسبب أنهم لايستكبرون وأنهم إذا سمعوا القرآن رأيت أعينهم فائضة من الدمع وجوز السمين وغيره الاستئناف وأيا ما كان فهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه والظأهر عود ضمير سمعوا للذين قالوا إنا نصارى
وقد تقدم أن الظأهر فيه العموم وقيل : يتعين هنا إرادة البعض وهو من جاء من الحبشة إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأن كل النصارى ليسوا كذلك والفيض الصباب عن امتلاء ووضع هنا موضع الامتلاء باقامة المسبب مقام السبب أي تمتليء من الدمع أو قصد المبالغة فجعلت أعينهم بأنفسها تفيض من أجل الدمع قاله في الكشاف وأراد على مافي الكشف أن الدمع على الأول هو الماء المخصوص وعلى الثاني الحدث وهو على الأول مبدأ مادي وعلى الثاني سببي وفي الإنتصاف أن هذه العبارة أبلغ العبارات وهي ثلاث مراتب فالأولى فاض دمع عينه وهذا هو الأصل والثانية محولة من هذه وهي فاضت عينه دمعا فانه قد حول فيها الفعل إلى العين مجازا ومبالغة ثم نبه على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز والثالثة مافي النظم الكريم وفيها التحويل المذكور إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح التنبيه على الأصل وعدم نصب التمييز وإبرازه في صورة التعليل وجوز الزمخشري أن تكون من هذه هي الداخلة على التمييز وهو مردود وإن كان الكوفيون ذهبوا إلى جواز تعرييف التمييز وأنه لايشترط تنكيره كما هو مذهب الجمهور لأن التمييز المنقول عن الفاعل يمتنع دخول من عليه وإن كانت مقدرة معه فلا يجوز تفقأ زيد من شحم فليفهم مما عرفوا من الحق من الأولى لابتداء الغاية متعلقة بمحذوف وقع حالا من الدمع أي حال كونه ناشئا من معرفة الحق وجوز أن تكون تعليلية متعلقة بتفيض أي أن يفيض دمعهم بسبب عرفانهم
وجوز على تقدير كونها للابتداء أن تتعلق بذلك أيضا لكن لايجوز على تقدير اتحاد متعلق من هذه ومن في من الدمع القول باتحاد معناهما فانه لايتعلق حر فاجر بمعنى بعامل واحد و من الثانية للتبعيض متعلقة بعرفوا على معنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوه كله وقرأوا القرآن وأحاطوا يالسنة أو لبيان ما بناء على أنها موصولة ونص ابو البقاء على أنها متعلقة بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف ولم يذكر الاحتمال الأول وقريء ترى أعينهم على صيغة المبني للمفعول يقولون استئناف مبني على
(7/4)
سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل : ماذا يقولون فاجيب يقولون : ربنا ءامنا بما أنزل أو بمن أنزل عليه أو بهما
وقال ابو البقاء : إنه حال من الضمير في عرفوا وقال السمين : يجوز الامران وكونه حال من الضمير المجرور في أعينهم لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا
فاكتبنا مع الشاهدين 38 أي اجعلنا عندك مع محمد صلى الله عليه و سلم وامته الذين يشهدون يوم القيامة على ماروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلى الله عليه و سلم وكتابك كما نقل عن الجبائي وروي بمعناه عن الحسن ومالنا لانؤمن بالله وما جاءنا من الحق جعله جماعة ومنهم شيخ الاسلام كلاما مستأنفا تحقيقا لايمانهم وتقريرا له بانكار سبب انتفائه ونفيه بالكلية على أن لانؤمن حال من الضمير في لنا والعامل ما فيه معنى الاستقرار أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين والانكار متوجه الى السبب والمسبب جميعا كما في قوله تعالى : ومالي أعبد الذي فطني ونظائره لا إلى السبب فقط مع تحقق المسبب كما في قوله تعالى فمالهم لايؤمنون وأمثاله وقيل : هو معطوف على الجملة الأولى مندرج معها في حيز القول أي يقولون ربنا آمنا الخ ويقولون مالنا لانؤمن الخ وقيل : هو عطف على جملة محذؤفة والتقدير مالكم لاتؤمنون بالله ومالنا لانؤمن نحن بالله الخ وقال بعضهم : إنه جواب سائل قال : لم آنتم واختاره الزجاج
واعترض بأن علماء العربية صرحوا بأن الجملة المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر لا تقترن بالوا وذكر علماء المعاني أنه لابد فيها من الفصل إذ الجواب لايعطف على السؤال وأجيب بأن الواو زائدة وقد نقل الأخفش أنها تزاد في الجمل المستأنفة ولا يخى أنه لابد لذلك من ثبت والحال المذكروة على مانص عليه الشهاب لازمه لايتم المعنى بدونها قال : ولذا لايصح اقترانها بالواو في مالنا وما بالنا لانفعل كذا لأنها خبر في المعنى وهي المستفهم عنها
وأنت تعلم أن الاستفهام في نحو هذا التركيب في الغالب غير حقيقي وانما هو للانكار ويختلف المراد منه على ما أشرنا اليه ومعنى الايمان بالله تعالى الايمان بوحدانيته سبحانه على الوجه الذي جاءت به الشريعة المحمدية فان القوم لم يكونوا موحدين كذلك وقيل : بكتابه ورسوله صلى الله عليه و سلم فان الايمان بهما إيمان به سبحانه والظأهر هو الأول والايما بالكتاب والرسول صلى الله عليه و سلم يفهمه العطف فان الموصول المعطوف على الاسم الجليل يشمل ذلك قطعا و من الحق على ما ذكره ابو البقاء حال من ضمير الفاعل وجوز أن تكون من لابتداء العاية أي وبما جاءنا من عند الله وأن يكون الموصولة مبتدأ و من الحق خبره والجملة في موضع الحال أيضا ولا يخفى ما في الوجهين من البعد وقوله تعالى ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين 48 حال اخرى عند الجماعة من الضمير المتقدم بتقدير مبتدأ لأن المضارع المثبت لايقترن بالواو والعامل فيها هو العامل في الأول مقيد بها فيتعدد معنى كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى كلما رزقوا منها من ثمرة أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين وهي حال مترادفة ولزوم الأولى لأيخرجها عن الترادف أو حال من الضمير في لانؤمن على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين وجوز فيه أن يكون معطوفا على نؤمن أو على لانؤمن على معنى ومالنا نجمع بين
(7/5)
ترك الأيمان والطمع في صحبة الصالحين أو على معنى مالنا لانجمع بين الايمان والطمع المذكور بالدخول في الاسلام لأن الكافر ماينبغي له أن يطمع في تلك الصحبة وموضع المنسبك من ان وما بعدها إما نصب أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه والمراد في أن يدخلنا واختار غير واحد من المعربين أن نا مفعول اول ليدخل والمفعول الثاني محذوف اي الجنة قيل : ولولا إرادة ذلك لقال سبحانه في القوم بدل مع القوم فأثابهم الله بما قالوا أي بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد فان القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له كما قيل هذا قول فلان لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لافادة الاعتقاد
وقيل : ان القول هنا مجاز عن الرأي والاعتقاد والمذهب كما ياقل : هذا قول الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مثلا أي هذا مذهبه واعتقاده وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم : ومالنا لانؤمن الخ
واستظهر ابو حيان أنه عني به قولهم : ربنا امنا وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء أن المراد به فاكتبنا مع الشاهدين وقولهم ونطمع أن يدخلنا ربنا الخ قال الطبرسي : فالقول على هذا بمعنى المسألة وفيه نظر واإثابة المجازاة وفي البحر أنها أبلغ من الاعطاء لأنها ما تكون عن عمل بخلاف الاعطاء فانه لايلزم فيه ذلك وقرأ الحسن فآتاهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبد الآبدين وهو حال مقدرة وذلك المذكور من الأمر الجليل الشأن جزاء المحسنين 58 أي جزاؤهم وأقيم الظاهر مقام ضميرهم مدحا لهم وتشريفا بهذا الوصف الكريم ويحتمل أن يراد الجنس ويندرجون فيه اندراجا أوليا أي جزاء الذين اعتادوا الاحسان في الأمور والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم 68 عطف التكذيب بآيات الله تعالى على الكفر مع انه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم بمقابلة المصدقين بها ليقترن الوعيد بالوعد وبضدها تتبين الأشياء
هذا ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ذهب كثير من ساداتنا الصوفية إلى أن هذا أمر منه عز شأنه أن يبلغ رسوله صلى الله عليه و سلم ما أنزله إليه مما يتعلق بأحكام العبودية ولم يأمره جل جلاله بأن يعرف الناس اسرار مابينه وبينه فان ذرة من اسراره سبحانه لاتتحملها السموات والارض وهذ الأسرار هي المشار اليها بقوله تعالى فاوحى إلى عبده ما أوحى ولهذا قال سبحانه ما أنزل إليك ولم يقل ما خصصناك به او تعرفنا به اليك
وقال بعضهم وهو المنصور : أن الموصول عام ويندرج فيه الوحي والالهامات والمنامات والمشاهدات وسائر المواهب والرسول صلى الله عليه و سلم مأمور بتبليغ كل ذلك إلا أن مراتب التبليغ مختلفة حسب اختلاف الاستعدادات فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالاشارة وتبليغ بالهمة وتبليغ بالجذبة إلى غير ذلك فسبحان من أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها والله تعصمك من الناس بما اودع فيك من اسرار الألوهية فلا يقدرون أن يوصلوا اليك ما يقطعك عن الله تعالى وقريب من ذلك ما قيل : يعصمك منهم أن يكون لك بهم اشتغال وقيل : يعصمك من ان ترى لنفسك فيهم شيئا بل ترى الكل منه سبحانه وبه قل يا أهل الكتاب لستم على شيء يعتد به حتى تقيموا التوراة فتعطوا الظاهر حقه وتعملوا بالشريعة على الوجه الأكمل مع
(7/6)
توحيد الافعال والانجيل فتعطوا الباطن حقه وتعملوا بالطريقة على الوجه الاتم مع توحيد الصفات وما انزل اليكمفتعطوا الحقيقة حقها وتشاهدوا الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة ولا تحجبهم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا لجهلهم به وقلة استعدادهم لمعرفة اسراره
وعن بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن القرآن المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه و سلم ذو صفتين صفة قهر وصفة لطف فمن تجلى له القرءان بصفة اللطف يزيد نور بصيرته وحكمته وحقائق اسراره ودقائق بيانه ويزيد بذلك ظاهر الخطاب وباطنه ومن يتجلى له بصفة القهر تزيد ظلمة طغيانه وينسد عليه باب عرفانه بحيث لايدرك سر الخطاب فتكثر عليه الشكوك والأوهام وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى هدى للمتقين وقوله سبحانه يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين وشبه بعضهم ذلك بنور الشمس فانه ينتفع به من ينتفع ويتضرر به الخفاش ونحوه
ومن ذلك كتب كثير من الصوفية قدس الله تعالى اسرارهم فانه قد هدي بها ارباب القلوب الصافية وضل بها الكثير حتى تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات وعطلوا الشرائع واستحلوا المحرمات وزعموا والعياذ بالله تعالى أن ذلك والذي يقتضيه القول بوحدة الوجود التي هي معتقد القوم نفعنا الله تعالى بفتوحاتهم وقد نقل لي عن بعض من أضله الله تعالى بالاشتغال بكتب القوم ممن لم يقف على حقيقة الحال أنه لافرق بين أن يدخل الرجل اصبعه في فمه وبين ان يدخل ذكره في فرج محرم لأن الكل واحد وذا لافرق بين أن يتزوج أجنبية وبين أن يتزوج أمه أو أخته وهذا كفر صريح عافانا الله تعالى والمسلمين منه ومنشأ ذلك النظر في كتب القوم من فهم لمرادهم ومادرى هذا المسكين أن مراعاة المراتب امر واجب عندهم وان ترك ذلك زندقة وانهم قد صرحوا بأن الشريعة مظهر أعظم لأنها مظهر اسم الله تعالى الظاهر وانه لايمكن لأحد أن يصل الى الله تعالى باهمالها فقد جاء عن غير واحد من العارفين الطرق الى الله تعالى مسدودة الا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه و سلم وإذا رأيتم الرجل يطير في الهواء وقد اخل بحكم واحد من الشريعة فقولوا : إنه زنديق ولله در من قال خطابا للحضرة المحمدية : وأنت باب الله أي أمره أتاه من غيرك لايدخل ولتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا الايمان الحقيقي اليهود وذلك لقوة المباينة لأنهم محجوبون عن توحيد الصفات وتوحيد الذات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال والذين أشركوا كذلك بل هم أشد مباينة منهم للمؤمنين وأقوى لأنهم محجوبون مطلقا وإنما قدم اليهود عليهم لأن البحث فيهم وهذا خلاف ما عليه أهل العبارة ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى لأنهم برزوا من حجاب الصفات ولم يبق لهم إلا حجاب الذات وإلى هذا الأشارة بقوله سبحانه وتعالى ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لايستكبرون حيث مدحوا بالعلم والعمل وعدم الاستكبار وذلك يقتضي أنهم وصلوا إلى توحيد الافعال والصفات وأنهم مارأوا نفوسهم موصوفة بصفة العلم والعمل ولا نسبوا عملهم وعلمهم اليها بل الأفعال والصفات وأنهم مارأوا نفوسهم موصوفة بصفة العلم والعمل ولا نسبوا عملهم وعلمهم اليها بل الى الله تعالى وإلا لاستكبروا وأظهروا العجب وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من انواع التوحيد التي
(7/7)
من جملتها توحيد الذات ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا بالدليل وبواسطة الرياضة من الحق الذي أنزل الى الرسول صلى الله عليه و سلم يقولون ربنا ءامنا بذلك فاكتبنا مع الشاهدين المعاينين لذلك ومالنا لانؤمن بالله جمعا وما جاءنا من الحق تفصيلا ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين الذين استقاموا بالبقاء بعد الفناء فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار من التجليات الثلاث مع علومها وذلك جزاء المحسنين المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله عز و جل والذين كفروا أي حجبوا عن الذات وكذبوا بآياتنا الدال على التوحيد اولئك أصحاب الجحيم لحرمانهم الكلي واحتجابهم بنفوسهم وصفاتها والله تعالى الموفق
يا أيها الذين ءامنوا لاتحرموا طيبات ما أحل الله لكم أي لذائذ ذلك وما تميل إليه القلوب منه كأنه لما تضمن ماسلف من مدح النصارى على الرهبانية ترغيب للمؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقب سبحانه ذلك بالنهي عن الافراط في هذا الباب أي لاتمنعوها أنفسكم كمنع التحريم وقيل : لا تلتزموا تحريمها بنحو يمين وقيل : لاتقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم وكون المعنى لاتحرموها على غيركم بالفتوى والحكم مما لايلتفت إليه فقد روي أن رسولالله صلى الله عليه و سلم جلس يوما فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم علي كرم الله وجهه وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن مسعود وأبو ذر الغفاري وسالم مولى ابي حذيفة وعبد الله بن عمر والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن وصاحب البيت واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولايناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولايقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض وهم بعضهم أن يجب مذاكيره فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لأمرأته أم حكيم : أحق مابلغني عن زوجك وأصحابه فكرهت أن تنكر إذ سألها رسول الله صلى الله عليه و سلم وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت : يارسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك وانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما دخل عثمان فأخبرته أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو وأصحابه فقال عليه الصلاة و السلام لهم : انبئت أنكم اتفقتم على كذا وكذأ قال : نعم يا رسول الله وما اردنا إلا الخير فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني لم أومر بذلك ثم قال عليه الصلاة و السلام : إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فاني اقوم وانام واصوم وافطر واكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ثم جمع الناس وخطبهم فقالمابال اقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فانه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وان سياحة امتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فانما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع فأنزل الله تعالى هذه الآية
وروي عن ابي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وبلال وعثمان ابن مضعون فاما علي كرم الله تعالى وجهه فانه حلف ان لاينام بالليل ابدا الا ماشاء الله تعالى واما بلال
(7/8)
فحلففحلف أن لايفطر بالنهار ابدا واما عثمان فانه حلف أن لاينكح ابدا وروي ايضا غير ذلك ولم نقف على رواية فيها مايدل على هذا التحريم كان على الغير بالفتوى والحكم كما ذهب اليه هذا القائل ومع هذا يبعده ما يأتي بعد من الأمر بالأكل ولا ينافي هذا النهي أن الله تعالى مدح النصارى بالرهبانية فرب ممدوح بالنسبة الى قوم مذموم بالنسبة إلى آخرين
وقوله تعالى : ولاتعتدوا تأكيد للنهي السابق أي لاتتعدوا حدود ما أحل سبحانه لكم الى ماحرم جل شأنه عليكم أو نهى عن تحليل الحرام بعد النهي عن تحريم الحلال فيكون تأسيسا ويحتمل أن يكون نهيا عن الاسراف في الحلال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ومجاهد وقتادة ان المراد لاتجبوا أنفسكم ولا يخفى أن الجب فرد من افراد الاعتداء وتجاوز الحدود والحمل على الأعم أعم فائدة
وقوله سبحانه وتعالى : إن الله لايحب المعتدين 78 في موضع التعليل لما قبله وقد تقدمت الاشارةإلى أن نفي محبة الله سبحانه لشيء مستلزم لبغضه له لعدم الواسطة في حقه تعالى
وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا أي كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله تعالى فحلالا مفعول به لكلوا و مما رزقكم اما حال منه وقد كان في الأصل صفة له الا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالا أو متعلق بكلوا ومن ابتدائية ويحتمل أن يكون موضع المفعول لكلوا على معنى أنه صفة مفعول له قائمة مقامه أي شيئا مما رزقكم أو يجعله نفسه مفعولا بتأويل بعض الا أن في هذا تلكفا و حلالا حال من الموصول او من عائده المحذوف أو صفة لمصدر محذوف أي أكلا حلالا وعلى الوجوه كلها الآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التأكيد وهو خلاف الظأهر في مثل ذلك واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون 88 استدعاء التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن والآية ظاهرة في أن اكل اللذائذ لاينافي التقوى وقد أكل صلى الله عليه و سلم ثريد اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى وقد فصلت الاخبار ما كان يأكله عليه الصلاة و السلام وأواني الكتب ملأى من ذلك
وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السنجي فقال : يا فرقد ما تقول في هذا فقال : لا آكله ولا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال : لعاب النحل بلعاب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم وذكر الطبرسي أن فيها دلالة على النهي عن الترهب وترك النكاح وقد جاء في غير ما خبر أنه صلى الله عليه و سلم قال : إن الله تعالى لم يبعثني بالرهبانية وقال عليه الصلاة و السلام في خبر طويل : شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم وعن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرنا بالباءة وينهانا عن التبتل نهيا شديدا
وعن أبي نجيح قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس مني إلى غير ذلك مما لايحصى كثرة لايؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم اللغو في اليمين الساقط الذي لايتعلق به حكم وهو عندنا أن يحلف على أمر مضى يظنه كذلك فان علمه على خلافه فاليمين غموس وروي ذلك عن مجاهد
وعند الشافعي رحمه الله تعالى مايسبق اليه اللسان من غير نية اليمين وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله
(7/9)
وعائشة رضي الله تعالى عنهم والادلة على المذهبين مبسوطة في الفروع والاصول وقد تقدم شطر من الكلام على ذلك في ايمانكم إما متعلق باللغو فانه يقال لغا في يمينه لغوا وإما بمحذوف وقع حالا منه أي كائنا أو واقعا في إيمانكم وجوز أن يكون متعلقا بيؤاخذكم وقيل عليه : إنه لايظهر ربطه بالمؤاخذة إلا أن يجعل في للعلة كما في إن امرأة دخلت النار في هرة ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان اي بتعقيدكم الايمان وتوثيقها بالقصد والنية فما مصدرية وقيل : إنها موصولة والعائد محذؤف أي بما عقدتم الايمان عليه ورجح الأول بأن الكلام في مقابلة اللغو وبأنه خال عن مؤنة التقدير وقال بعضهم : إن ذلك التقدير في غير محله لأن شرط حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا وما هنا ليس كذلك فليتدبر والمعنى ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم أو لكن يؤاخذكم بما عقدتموها إذا حنثتم وحذف ذلك للعلم به والمراد بالمؤاخذلآ المؤاخذة في الدنيا وهي الإثم والكفارة فلا إشكال في تقدير الظرف وتعقيد الايمان شامل للغموس عند الشافعية وفيه كفارة عندهم واما عندنا فلا كفارة ولا حنث
وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم عقدتم بالتخفيف وابن عامر برواية ابن ذكوان عاقدتم والمفاعلة فيها لأصل الفعل وكذأ قراءة التشديد لأن القرءات يفسر بعضها بعضا وقيل : إن ذلك فيها للمبالغة باعتبار ان العقد باللسان والقلب لا أن ذلك التكرار اللساني كما توهم والآية كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت حين نهي القوم عما صنعوا فقالوا يا رسول الله كيف نصنع بايماننا التي حلفنا عليها وروي عن ابن زيد أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كان عنده ضيف فأخرت زوجته عشاءه فحلف لايأكل من الطعام وحلفت المرأة لاتأكل إن لم يأكل وحلف الضيف لايأكل إن لم يأكلا فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فقال عليه الصلاة و السلام له : أحسنت ونزلت
فكفارته الضمير عائد إما على الحنث المفهوم من السياق أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف أي كفارة نكثه أو على ما الموصولة بذلك التقدير وأما عوده على الأيمان لأنه مفرد كالانعام عند سيبويه أو مؤول بمفرد فكما ترى والمراد بالكفارة المعنى المصدري وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة وتسترها والمراد بالستر المحو لأن الممحو لايرى كالمستور وبهذا وجه تأنيثها وذكر عصام الدين أن فعالا يستوي فيه المذكر والمؤنث إلا أن مايستوي فيه ذلك كفعيل إذا حذف موصوفة يؤنث للمؤنث كمررت بقتيلة بني فلان ولا يقال بقتيل للالتباس وذكر أن التاء يحتمل أن تكون للنقل وأن تكون للمبالغة انتهى
ويدل على أنها بالمعنى المصدري الاخبار عنها بقوله تعالى إطعام عشرة مساكين واستدل الشافعية بظاهر الآية على جواز التكفير بالمال قبل الحنث سواء كان الحنث معصية أم لا وتقييد ذلك كما فعل الرافعي بما إذا لم يكن معصية غير معول عليه عندهم ووجه الاستدلال بذلك على ماذكر أنه سبحانه جعل الكفارة عقب اليمين من غير ذكر الحنث وقال عز شأنه : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وقيدوا ذلك بالمال ليخرج التكفير بالصوم فأنه لايكون إلا بعد الحنث عندهم لأنه عند العجز عن غيره والعجز لايتحقق بدون حنث وقد قاسوا ذلك أيضا على تقديم الزكاة على الحول واستدلوا أيضا بما أخرجه مسلم عن ابي هريرة رضي
(7/10)
الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير
ونحن نقول : إن الآيةتضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وهي غير واجبة قبله فثبت أن المراد بما عقدتم الايمان وحنثتم فيها وقد اتفقوا على أن معنى قوله سبحانه : ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من ايام أخر فأفطر فعدة من أيام أخر فكذا هذا والحديث الذي استدلوا به لايصلح للاستدلال لأنه بعد تسليم دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ يقال : إن الواقع في حيزها مجموع التكفير والايتاء ولادلالة على الترتيب بينهما ألا ترى أن قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع لايقتضي تقديم السعي على ترك البيع بالاتفاق وأيضا جاء في رواية فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه ونقل بعضهم عن الشافعية أنهم يجمعون بين الروايتين بأن إحداهما لبيان الجواز والأخرى لبيان الوجوب وقال عصام الدين : إن تقديم الكفارة تارة وتأخيرها أخرى يدل على أن التقديم والتأخير سيان
وأنت تعلم أن الشافعية كالحنفية في أنهم يقدرون في الآية ما أشرنا اليه قبل في تفسيرها إلا أن ذلك عندهم قيد للوجوب وإلا فالاستدلال بالآية في غاية الخفاء كما لايخفى فتدبر و إطعام مصدر مضاف لمفعوله وهو مقدر بحرف وفعل مبني للفاعل وفاعل المصدر يحذف كثيرا ولا ضرورة تدعو إلى تقدير الفعل مبنيا للمفعول لأنه مع كونه خلاف الأصل في تقديره خلاف ذكره السمين فالتقدير هنا فكفارته أن يطعم الحانث أو الحالف عشرة مساكين من أوسط ماتطعمون أهليكم أي من أقصده في النوع أو المقدار وهو عند الشافعية مد لكل مسكين وعندنا نصف صاع من بر أو صاع من شعير
وأخرج ابن حميد وغيره عن ابن عمر أن الأوسط الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن والأفضل نحو الخبز واللحم وعن ابن سيرين قال : كانوا يقولون الأفضل الخبز واللحم والأوسط الخبز والسمن والأخس الخبز والتمر ومحل الجار والمجرور النصب لأنه صفة مفعول ثان للأطعام لأنه ينصب مفعولين وأولهما هنا ما أضيف اليه والتقدير طعاما أو قوتا كائنا من اوسط وقيل : إنه صفة مصدر محذوف أي اطعاما كائنا من ذلك وجوز أن يكون محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي طعامهم من اوسط أو على أنه صفة لاطعام او على أنه بدل من اطعام
واعترض هذا بأن أقسام البدل لاتتصور هنا وأجيب بأنه بدل اشتمال بتقدير موصوف وذلك على مذهب ابن الحاجب وصاحب اللباب ومتابعيهما ظاهر لأنهم يكتفون بملابسة بين البدل والمبدل منه بغير الجزئية والكلية وأما على مذهب الجمهور فلأنهم يشترطون اشتمال التابع على المتبوع لا كاشتمال الظرف على المظروف بل من حيث كونه دالا عليه اجمالا ومتقاضيا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلىذكر الثاني فيجاء بالثاني ملخصا لما أجمله الأول ومبينا له ويعدون من هذا القبيل قولهم : نظرت إلى القمر فلكه كما صرح به ركن الدين في شرح اللباب ولايخفى أن اطعام عشرة مساكين دال على الطعام إجمالا ومتقاض له بوجه واختار بعض المحققين أنه بدل كل من كل بتقدير إطعام من اوسط نحو
(7/11)
أعجبنيأعجبني قرى الأضياف قراهم من أحسن ما وجد وما إما مصدرية وإما موصولة اسمية والعائد محذوف أي من اوسط الذي تطعمون
وجوز ابو البقاء تقديره مجرورا بمن أي تطعمون منه ونظر فيه السمين بأن من شرط العائد المحذوف المجرور بالحرف أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا والحرفان هنا وإن اتفقا من وجه إلا أن المتعلق مختلف لأن من الثانية متعلقة بتطعمون والأولى ليست متعلقة بذلك ثم قال : فإن قلت الموصول غير مجرور بالاضافة فالجواب أن المضاف إلى الموصول كالموصول في ذل أه وقد قدمنا انفا نحو هذا النظر وأجاب بعضهم عن ذلك بأن الحذف تدريجي ولايخفى أن فيه تطويلا للمسافة والأهلون جمع أهل على خلاف القياس كأرض وأرضون إذ شرط هذا الجمع أن يكون علما أو صفة وأهل اسم جامد قيل : والذي سوغه أنه استعمل كثيرا بمعنى مستحق فأشبه الصفة وروي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قرأ أهاليكم بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهو أيضا جمع أهل على خلاف القياس كليال في جمع ليلة
وقال ابن جني : واحدهما ليلاة وأهلاة وهو محتمل كما قيل لأن يكون مراده أن لهما مفردا مقدرا هو ما ذكره ولان يكون مراده ان لهما مفردا محققا مسموعا من العرب هو ذاك وقيل : إن أهالي جمع أهلون وليس بشيء أو كسوتهم عطف كما قال ابو البقاء على إطعام واستظهره غير واحد واختار الزمخشري أنه عطف على محل من أوسط ووجهه فيما نسب إليه بأن من أوسط بدل من الاطعام والبدل هو المقصود ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحى فكأنه قيل : فكفارته من أوسط ما تطعمون ووجه صاحب التقريب عدوله عن الظاهر بأن الكسوة اسم لنحو الثوب لا مصدرا فقد قال الراغب : الكساء والكسوة اللباس فلا يليق عطفه على المصدر السابق مع أن كليهما فيما يتعلق بالمساكين وبأنه يؤدي إلى ترك ذكر كيفية الكسوة وهو كونها أوسط ثم قال : ويمكن أن يجاب عن الأول بان الكسوة إما مصدر كما يشعر به كلام الزجاج أو يضمر مصدر كالالباس وعن الثاني بأن يقدر او كسوتهم من اوسط ما تكسون وحذف ذلك لقرينة ذكره في المعطوف عليه أو بأن تترك على اطلاقها إم بارادة اطلاقها أو باحالة بيانها على الغير وأيضا العطف على محل من أوسط لايفيد هذا المقصود وهو تقدير الأوسط في الكسوة فالالزام مشترك ويؤدي إلى صحة إقامته مقام المعطوف عليه وهو غير سديد اه
واعترض بعض المحققين على ما نسب إلى الزمخشري أيضا بأن العطف على البدل يستدعي كون المعطوف بدلا أيضا وإبدال الكسوة من اطعام لا يكون إلا غلطا لعدم المناسبة بينهما أصلا وبدل الغلط لايقع في الفصيح فضلا عن افصح الأفصح ومنع عدم الوقوع مما لا يلتفت إليه وجعل غير واحد هذا العطف من باب
علفتها تبنا وماء باردا
كانه قيل إطعام هو اوسط ما تطعمون أو الباس هو كسوتهم على معنى اطعام هو اطعام الأوسط والباس هو الباس الكسوة وفيه ابهام وتفسير في الموضعين
واعترض بأن العطف على هذا يكون على المبدل منه لا البدل وأجيب بأن المراد أنه بالنظر إلى ظاهر اللفظ عطف على البدل وهو كما ترى واعترض الشهاب على دعوى أن الداعي للزمخشري عن العدول إلى
(7/12)
الظاهر إلى اختيار العطف على محل من أوسط تحصيل التناسب بين نوعي الكفارة المتعلقة بالمساكين بأنه كيف يتأتى ذلك وقد جعل العطف على من اوسط على تقدير بدليته وهو على ذلك التقدير صفة اطعام مقدر انتهى
وقد علمت ان هذا رأي لبعضهم وبالجملة فيما ذهب إليه الزمخشري دغدغة حتى قال العلم العراقي : إنه غلط والصواب العطف على إطعام وقال الحلبي : ما ذكره الزمخشري إنما يتمشى على وجه وهو أن يكون من أوسط خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط فالكلام تام على هذا عند قوله سبحانه : عشرة مساكين ثم ابتدأ اخبارا آخر بأن الطعام يكون أوسط كذا وأما إذ قلنا إن من اوسط هو المفعول الثاني فيستحيل عطف كسوتهم عليه لتخالفهما إعرابا انتهى ثم المراد بالكسوة ما يستر عامة البدن على ماروي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف فلا يجزي عندهما السراويل لأن لابسه يسمى عريانا في العرف لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الاطعام باعتبار القيمة وهو اشتراط النية حينئذ روايتان وظاهر الرواية الاجزاء نوى أو لم ينو وروي ايضا أنه إن أعطى السراويل المرأة لايجوز وإن أعطي الرجل يجوز لأن المعتبر رد العري بقدر ما تجوز به الصلاة وذلك ما به يحصل ستر العورة والزائد تفضل للتجمل أو نحوه فلا يجب في الكسوة كالادام في الطعام والمروي عن محمد أن تجوز فيه الصلاة يجزيء مطلقا والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول ويشترط أن يكون ذلك مما يصلح للاوساط وينتفع به فوق ثلاثة أشهر وعن ابن عباس رضي الله عنهما كانت العباءة تجزيءيومئذ وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يجزيء قميص أو رداء أو كساء وعن الحسن أنها ثوبان أبيضان وروى الامامية عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنها ثوبان لكل مسكين ويجزء ثوب واحد عند الضرورة واشترط أصحابنا في المسكين أن يكون مراهقا فما فوقه فلا يجزيء غير المراهق على ما ذكره الحصكفي نقلا عن البدائع في كفارة الظهار وسيأتي إنشاء الله تعالى في آية كفارة الظهار أن المراد من الطعام التمكين من الطعم وتحقيق الكلام في ذلك على أتم وجه وقريء أو كسوتهم بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وأسوة في اسوة وقرأ سعيد بن المسيب واليماني أو كاسوتهم بكاف الجر الداخلة على أسوة وهي كما قال الراغب الحال التي يكون الانسان عليها في اتباع غيره إن حسنا وإن قبيحا والهمزة كما قال غير واحد : بدل من واو لأنه من المواساة والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف والتقدير أو طعامهم كاسوة أهليكم وقال السعد : الكاف زائدة أي أو طعامهم أسوة أهليكم وقيل : الأولى أن يكون التقدير طعام كاسوتهم على الوصف فهو عطف أيضا على من أوسط وعلى هذه القراءة يكون التخيير بين الاطعام والتحرير في قوله تعالى : أو تحرير رقبة فقط وتكون الكسوة ثابتة بالسنة وزعم أبو حيان أن الآية تنفي الكسوة وليس بشيء وقال ابو البقاء : المعنى مثل أسوة أهليكم في الكسوة فلا تكون الآية عارية عن الكسوة وفيه نظر إد ليس في الكلام ما يدل على ذلك التقدير
والمراد بتحرير رقبة اعتاق انسان كيف ما كان وشرط الشافعي عليه الرحمة فيه الايمان حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل وعندنا لايحمل لاختلاف السبب واستدل بعض الشافعية على ذلك بأن الكفارة حق الله تعالى وحق الله سبحانه لايجوز صرفه الى عدو الله عن اسمه كالزكاة ونحن نقول : المنصوص
(7/13)
عليه تحرير رقبة وقد تحقق والقصد بالاعتاق أن يتمكن المعتق من الطاعة بخلوصه عن خدمة المولى ثم مقارفته المعصية وبقاؤه على الكفر يحال به الى سوء اختياره واعترض بان القائل أن يقول : نعم مقارفته المعصية يحال به إلى ما ذكر لكن لم لا يكون تصور ذلك منه مانعا عن الصرف اليه كما في الزكاة وأجيب بأن القياس جواز صرف الزكاة اليه أيضا لأن فيه نواساة عبيد الله تعالى أيضا لكن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : خذها من أغنيائهم وردها إلى فقرائهم أخرجهم عن المصرف
وقد ذكر بعض أصحابنا ضابطا لما يجوز إعتاقه في الكفارة وما لايجوز فقال : متى اعتق رقبة كاملة الرق في ملكه مقرونا بنية الكفارة وجنس ما يبتغي من المنافع فيها قائم بلا بدل جاز وان لم يكن كذلك فانه لايجوز وهل يجوز عتق الأصم أم لا قولان : وفي الهداية ويجوز الأصم والقياس أن لا يجوز وهو رواية النوادر لأن الفائت جنس المنفعة الا أنا استحسنا الجواز لأن أصل المنفعة باق فانه اذا صيح عليه يسمع حتى لو كان بحال لايسمع أصلا بأن ولد أصم وهو الأخرس لايجزئه انتهى
ومعنى أو ايجاب احدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكلف في التعيين ونسب الى بعض المعتزلة أن الواجب الجمع ويسقط واحد وقيل : الواجب متعين عند الله تعالى وهو ما يفعله المكلف فيختلف بالنسبة الى المكلفين
وقيل : ان الواجب واجد معين لايختلف لكن يسقط به وبالآخر وتفاوتها قدرا وثوابا لا ينافي التخيير المفوض تفاوته الى الهمم وقصد زيادة الثواب فان الكسوة أعظم من الاطعام والتحرير أعظم منهما وبدأ سبحانه وتعالى بالاطعام تسهيلا على العباد وذكر غير واحد من أصحابنا أن المكلف لو أدى الكل جملة أو مرتبا ولم ينو الا بعد تمامها وقع عنها واحد هو اعلاها قيمة ولو ترك الكل عوقب بواحد هو أدناها قيمة لسقوط الفرض بالادنى وتحقيق ذلك في الاصول فمن لم يجد أي شيئا من الأمور المذكورة فصيام ثلاثة أيام أي فكفارته ذلك ويشترط الولاء عندنا ويبطل بالحيض بخلاف كفارة الفطر وإلى اشتراط الولاء ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقادة والنخعي
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما نزلت ءاية الكفارات قال حذيفة : يا رسول الله نحن بالخيار فقال صلى الله عليه و سلم : أنت بالخيار ان شئت أعتقت وان شئت كسوت وان شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات وأخرج ابن أبي شيبة وابن حميد وابن جرير وابن ابي داود في المصاحف وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي عن ابي بن كعب أنه كان يقرأ فصيام ثلاثة أيام متتابعات وأخرج غالب هؤلاء عن ابن مسعود أنه كان يقرأ أيضا كذلك وقال سفيان : نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه فمن لم يجد شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات وبمجموع ذلك يثبت اشتراط التتابع على أتم وجه وجوز الشافعي رحمه الله تعالى التفريق ولا يرى الشواذ حجة ولعل غير ذلك لم يثبت عنده واعتبر عدم الوجدان والعجز عما ذكر عندنا وقت الأداء حتى لو وهب ماله وسلمه ثم صام ثم رجع بهبته أجزأه الصوم كما في المجتبى ونسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه اعتبار العجز عند الحنث ويشترط استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم فو صام المعسر يومين ثم قبل فراغه ولو بساعة أيسر ولو بموت مورثه موسرا لايجوز له الصوم ويستأنف بالمال ولو صام ناسيا له لم يجز على الصحيح واختلف في الواجد فأخرج
(7/14)
أبو الشيخ عن قتادة قال : إذا كان عنده خمسون درهما فهو ممن يجد ويجب عليه الاطعام وإن كان عنده أقل فهو ممن لايجد ويصوم
وأخرج عن النخعي قال : إذا كان عنده عشرون درهما فعليه ان يطعم في الكفارة ونقل ابو حيان عن الشافعي واحمد ومالك أن من كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واجد وعن الامام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد
ذلك أي الذي مضى ذكره كفارة أيمانكم إذا حلفتم أي وحنثتم وقد مر تفصيل ذلك و إذا على ما قال السمين لمجرد الظرفية وليس فيها معنى الشرط وجوز أن تكون شرطية ويكون جوابها محذوفا عند المصريين والتقدير إذا حلفتم وحنثتم فذلك كفارة أيمانكم ويدل على ذلك ما تقدم أو هو ما تقدم عند الكوفيين والخلاف بين الفريقين مشهور واحفظوا أيمانكم أي راعوها لكي تؤدوا الكفارة عنها إذا حنثتم أو احفظوا أنفسكم من الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية او لا تبذلوها والوا منها كما يشعر به قوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وعليه قول الشاعر : قليل الالايا حافظ ليمينه إذا بدرت منه الألية برت أو احفظوها ولا تنسوا كيف حلفتم تهاونا بها وصحح الشهاب الأول واعترض الثاني بأنه لا معنى له لأنه غير منهي عن الحنث إذا لم يكن الفعل معصية وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم فليأت الذي هو خير وليكفر وقال سبحانه فرض الله لكم تحلة أيمانكم فثبت أن الحنث غير منهي عنه إذا لم يكن معصية فلا يجوز أن يكون احفظوا أيمانكم نهيا عن الحنث والثالث بأنه ساقط واه لأنه كيف يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين وهل هو إلا كقولك : احفظ المال بمعنى لاتكسبه واما البيت فلا شاهد فيه لأن معنى حافظ ليمينه أنه مراع لها بأداء الكفارة ولو كان معناه ما ذكر لكان مكررا مع ما قبله أهني قليل الألايا واعترض الرابع بأنه بعيد فتدبر كذلك أي ذلك البيان البديع يبين الله لكم ءياته اعلام شريعته وأحكامه لا بيانا أدنى منه وتقديم لكم على المفعول الصريح لما ار مرارا
98
- نعمة التعليم أو نعمه الواجب شكرها يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر وهو المسكر المتخذ من عصير العنب أو كل ما يخامر العقل ويغطيه من الأشربة
وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والميسر وهو القمار وعدوا من الله بالجوز والكعاب والانصاب وهي الأصنام المنصوبة للعبادة وفرق بعضهم بين الانصاب والاصنام بأن الانصاب حجارة لم تصور كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها والأصنام ماصور وعبد من دون الله عز و جل والأزلام وهي القداح وقد تقدم الكلام في ذلك على أتم وجه رجس أي قذر تعاف عنه العقول وعن الزجاج الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح وأصل معناه الصوت الشديد ولذا يقال للغمام رجاس لرعده والرجز بمعناه عند بعضهم
(7/15)
وفرق ابن دريد بن الرجس والرجز والركس فجعل الرجس الشر والرجز العذاب والركس العذرة والنتن وافراد الرجس مع انه خبر عن متعدد لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكير ومثل ذلك قوله تعالى : إنما المشركون نجس وقيل : لأنه خبر عن الخمر وخبر المعطوفات محذوف ثقة بالمذكور وقيل : لأن في الكلام مضافا إلى تلك الأشياء وهو خبر عنه أي إنما شأن هذه الأشياء او تعاطيها رجس وقوله سبحانه من عمل الشيطان في موضع الرفع على أنه صفة رجس أي كائن من عمله لأن مسبب من تزيينه وتسويله وقيل : إن من للابتداء أي ناشيء من عمله وعلى التقديرين لاضير في جعل ذلك من العمل وإن كان ماذكر من الاعيان ودعوى أنه إذا قدر المضاف لم يحتج إلى ملاحظة علاقة السببية ولا إلى القول بأن من ابتدائية لايخلو عن نظر فاجتنبوه أي الرجس أو جميع ما مر بتأويل ما مر أو التعاطي المقدر أو الشيطان لعلكم تفلحون
9
- أي راجين فلاحكم أو لكي تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مر الكلام في ذلك ولقد أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بفنون التأكيد حيث صدرت الجملة بانما وقرنا بالاصنام والازلام وسميا رجسا من عمل الشيطان تنبيها على غاية قبحهما وأمر بالاجتناب عن عينهما بناء على بعض الوجوه وجعله سببا يرجى من الفلاح فيكون ارتكابهما خيبة ثم قرر ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية فقال سبحانه : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر أي بسبب تعاطيهما لأن السكران يقدم على كثير من القبائح التي توجب ذلك ولا يبالي وإذا صحا ندم على مافعل والرجل قد يقامر حتى لايبقى له شيء وتنتهي به المقامرة إلى أن يقامر بولده وأهله فيؤدي به ذلك إلى أن يصير أعدى الأعداء لمن قمره وغلبه وهذه إشارة إلى مفاسدها الدنيوية وقوله تعالى : ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة إشارة الى مفاسدهما الدينية ووجه صد الشيطان لهم بذلك عما ذكر أن الحمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وان الميسر إن كان اللاعب به غالبا انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر مايحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك وقد شاهدنا كثير ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويصوح من سمومه الرخ بل يتساقط ريشه ويحار لشناعته بيذق الفهم ويضطرب فرزين العقل ويموت شاه القلب وتسود رقعة الأعمال وتخصيص الخمر والميسر باعادة الذكر وشرح مافيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما وذكر الأنصاب والازلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة كما يشعر بذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم والسلف الصالح من الاخبار الصادحة بمزيد ذمهما والحط على مرتكبهما
وخص الصلاة من الذكر بالافراد بالذكر مع أن الذي يصد عنه يصد عنها لأنه من أركانها تعظيما لها كما في ذكر الخاص بعد العام واشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الايمان لما أنها عماده والفارق بينه وبين الكفر اذ التصديق القلبي لايطلع عليه وهي أعظم شعائره المشاهدة في كل وقت ولذا طلبت فيها الجماعة
(7/16)
ليشاهدوا الايمان ويشهدوا به ففي الكلام اشارة الى أن مراد اللعين ومنتهى آماله من تزيين تعاطي شرب الخمر واللعب بالميسر الايقاع في الكفر الموجب للخلود معه في النار وبئس القرار ثم أنه سبحانه أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام الانكاري مع الجملة الاسمية مرتبا على ماتقدم من اصناف الصوارف فقال جل شأنه : فهل أنتم منتهون
19
- ايذانا بأن الأمر في الردع والمنع قد بلغ الغاية وأن الاعذار قد انقطعت بالكلية حتى أن العاقل اذا خلى ونفسه بعد ذلك لاينبغي أن يتوقف في الانتهاء ووجه تلك التأكيدات أن القوم رضي الله تعالى عنهم كما قيل كانوا مترددين في التحريم بعد نزول آية البقرة ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه : اللهم بين لنا ذلك بيانا شافيا فنزلت هذه الآية ولما سمع عمر رضي الله تعالى عنه فهل أنتم منتهون قال : انتهينا يارب واخرج عبد بن حميد عن عطاء قال : أول ما نزل في تحريم الخمر يسألونك عن الخمر والميسر الآية فقال بعض الناس : نشربها لمنافعها التي فيها وقال ءاخرون : لاخير في شيء فيه اثم ثم نزل يا أيها الذين ءامنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية فقال بعض الناس : نشربها ونجلس في بيوتنا وقال ءاخرون لاخير في شيء يحول بيننا وبين والصلاة مع المسلمين فنزلت يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر الآية فانتهوا
وأخرج عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ان الله سبحانه قد حرم الخمر فمن كان عنده شيء فلا يطعمه ولا تبيعوها فلبث المسلمون زمانا يجدون ريحها من طرق المدينة مما أهراقوا منها وأخرج عن الربيع أنه قال لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن ربكم يقدم في تحريم الخمر ثم نزلت آية النساء فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن ربكم يقدم في تحريم الخمر ثم نزلت آية بالمائدة فحرمت الخمر عند ذلك وقد تقدم في آية البقرة شيء من الكلام في هذا المقام فتذكر
وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول عطف على اجتنبوه أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه ويدخل فيه أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولا أوليا واحذروا أي مخالفتهما في ذلك وهذا مؤكد للأمر الأول وجوز أن يكون المراد أطيعوا فيما أمرا واحذروا عما نهيا فلا تأكيد وجوز أيضا أن لا يقدر متعلق للحذر أي وكونوا حاذرين خاشين وأمروا بذلك لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى إتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة فان توليتم أي اعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين
29
- أي ولم يأل جهدا في ذلك فقامت عليكم الحجة وانتهت الاعذار وانقطعت العلل ولم يبق بعد ذلك إلا العقاب
وفي هذا كما قال الطبرسي وغيره من التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى وقيل : إن المعنى فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليتكم الرسول صلى الله عليه و سلم لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه وليس بشيء إذ لايتوهم منهم ادعاء الضرر بتوليتهم حتى يرد عليهم ومثل ذلك ما قيل : إن المعنى فان توليتم فلا تطمعوا من الرسول عليه الصلاة و السلام أن يهملكم لأن ما على الرسول إلا البلاغ المبين فلا يجوز له ترك البلاغ ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح أي أثم وحرج
(7/17)
فيما طعموا إذا ما اتقوا و ءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا و أحسنوا والله يحب المحسنين
39
- قيل : لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : كيف بمن شربها من اخواننا الذين ماتوا وهم قد شربوا الخمر وأكلوا الميسر فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل : إنها نزلت في القوم الذين حرموا على نفوسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار وروي ذلك عن ابن عباس رض الله تعالى عنهما وأنس بن مالك والبراء بن عازب ومجاهد وقتادة والضحاك وخلق آخرين
وللمفسرين في معنى الآية كلام طويل الذيل فنقل الطبرسي والعهدة عليه عن تفسير أهل البيت أن ما عبارة عن المباحاة واختار غير واحد من المتأخرين وتعقب بأنه يلزم عليه تقييد إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله سبحانه : إذا ما اتقوا واللازم منتف بالضرورة فهي سواء كانت موصولة أو موصوفة على عمومها وإنما تخصصت بذلك القيد الطاريء عليها والطعم كالطعام يستعمل في الأكل والشرب كما تقدمت إلىه الاشارة
والمعنى ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائنا ما كان إذا اتقوا أن يكون في ذلك شيء من المحرم واستمروا على الايمان والأعمال الصالحة وإلا لم يكن نفي الجناح في كل ما طعموه بل في بعضه ولا محذور في هذا إذ اللازم منه تقييد إباحة الكل بأن لايكون فيه محرم لاتقييد إباحة بعضه باتقاء بعض آخر منه كما هو اللازم مما عليه الجماعة و اتقوا الثاني عطف على نظيره المتقدم داخل معه في حيز الشرط والمراد اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحا فيما سبق والمراد بالايمان المعطوف عليه إما الايمان بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه اما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمن به واما الاستمرار على الايمان بما يجب الايمان به ومتعلق الاتقاء ثالثا ما حرم عليهم أيضا بعد ذلك مما كان مباحا من قبل على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة إباحة ما طعموه في ذلك الوقت لا إباحة ما طعموه قبله لانتساخ إباحة بعضه حينئذ وأريد بالاحسان فعل الاعمال الحسنة الجميلة المنتظمة بجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية
وليس تخصيص هذه المراتب بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرار بالغا ما بلغ والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الايمان والأعمال الصالحة وكانوا في طاعة الله تعالى ومراعة اوامره ونواهيه بحيث كلما حرم عليهم شيء من المباحاة اتقوه ثم و ثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المآكل والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طعمه قاله مولانا شيخ الاسلام ثم قال : وأنت خبير بأن ما عدا إتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لادخل لها في انتفاء الجناح وإنما ذكرت في حيز إذأ شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ومدحا لهم بذلك وحمدا لأحوالهم وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعا للاتقاء في كل مرة تميزا بينها وبين ماله دخل في الحكم فان مساق النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من النعوت فيما سيأتي من الزمان بقضية إذا ما لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لاثبات الحكم في حقهم ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل : ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعة الله تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذاك ولو حرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة انتهى
(7/18)
ومما يدل على أن الآية للتشريع الكلي ما أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود قال : لما نزلت ليس على الذين آمنوا الآية قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : قيل لي أنت منهم وقيل : إن ما في حيز الشرط من الاتقاء وغيره إنما ذكر على سبيل المدح والثناء للدلالة على أن القوم بتلك الصفة لأن المراد بما المباحات ونفى الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يتقيد بشرط وقال علي بن الحسين النقيب المرتضى : إن المفسرين تشاغلا بايضاح الوجه في التكرار الذي تضمنته هذه الآية وظنوا أنه المشكل فيها وتركوا ما هو أشد اشكالا من ذلك وهو أنه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتقاء والايمان والعمل الصالح مع أن المباح لو وقع من الكافر لا أثم عليه ولا وزر ولنا في حل هذه الشبهة طريقان أحدهما أن يضم إلى المشروط المصرح بذكره غيره حتى يظهر تأثير ما شرط فيكو تقدير الآية ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا الخ لأن الشرط في نفي الجناح لابد أن يكون له تأثير حتى يكون متى أنتفى ثبت الجناح وقد علمنا أن باتقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشرط اذي لا زيادة عليه ولما ولى ذكر الاتقاء الايمان والعمل الصالح ولا تأثير لهما في نفي الجناح علمنا أنه أضمر ما تقدم ذكره ذكره ليصح الشرط ويطابق الممشروط لأن من اتقى الحرام فيما يطعم لا جناح عليه فيما يطعم ولكنه قي يصح أن يثبت عليه الجناح فيما أخل به من واجب وضيعه من فرض فاذا شرطنا الايمان والعمل الصالح ارتفع عنه الجناح من كل وجه وليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى ويكون قوة الدلالة عليه مغنية عن النطق به ومنه قول الشاعر : تراه كأن الله يجدع أنفه وعينيه إن مولاه بات له وفر فانه لما كان الجدع لايليق بالعين وكانت معطوفة على الأنف الذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص وما يجرى مجراه والطريق الثاني أن يجعل الايمان والعمل الصالح ليس شرطا حقيقيا وإن كان معطوفا على الشرط فكأنه تعالى لما اراد أن يبين وجوب الايمان وعطف عليه عطفه هلى ما هو واجب من اتقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب وإن لم يشتركا كونهما شرطا في نفي الجناح فيما يطعم وهذا توسع في البلاغة يحار فيه العقل استحسانا واستغرابا انتهى ولا يخفى ما في الطريق الثاني من البعد وان الطريق الأول حزن فان مثل هذا الحذف مع ما زعمه من القرينة لايكاد يوجد في الفصيح في أمثال هذه المقامات وليس ذلك كالبيت الذي ذكره فانه من باب
(7/19)
علفتها تبنا وماء باردا
وهو مما لاكلام لنا فيه وأين البيض من الباذنجان وقيل في الجواب أيضا عن ذلك : إن المؤمن يصح أن يطلق عليه بأنه لاجناح عليه والكافر مستحق للعقاب مغمور به يوم الحساب فلا يطلق عليه ذلك وأيضا إن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحليل والتحريك فلذلك يخص المؤمن بالذكر ولا يخفى ما فيه
وقال عصام الملة : الأظهر أن المراد أنه لا جناح فيما طعموا مما سوى هذه المحرمات إذا ما اتقوا ولم يأكلوا فوق الشبع ولم يأكلوا من مال الغير وذكر الايان والعمل الصالح للايذان بأن الاتقاء لابد له منهما فان من لا إيمان له لا يتقي وكذا من لا عمل صالح له فضمهما إلى الايمان لأنهما ملاك الاتقاء وتكرير التقوى والثبات على الايمان للاشارة إلى أن ثبات نفي الجناح فيما يطعم على ثبات التقوى وترك ذكر العمل الصالح ثانيا للاشارة إلى أن
(7/0)
الايمان بعد التمرن على العمل لايدع أن يترك العمل وذكر الاحسان بعد للاشارة إلى أن كثرة مزاولة التقوى والعمل الصالح ينتهي إلى الاحسان وهو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه إلى آخر ما في الخبر انتهى وفيه الغث والسمين
وكلامهم الذي اشار اليه المرتضى في ايضاح وجه التكرير كثير فقال ابو علي الجبائي : إن الشرط الأول يتعلق بالزمان الماضي والثاني يتعلق بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله والثالث يختص بمظالم العباد وبما يتعدى الغير من الظلم والفساد واستدل على اختصاص الثالث بذلك بقوله تعالى : وأحسنوا فان الاحسان إذا كان متعديا وجب أن تكون المعاصي التي امروا باتقائها قبله أيضا متعدية وهو في غاية الضعف إذ لاتصريح في الآية بأن المراد بالاحسان الاحسان المتعدي ولا يمتنع أن يراد به فعل الحسن والمبالغة فيه وإن خص الفاعل ولم يتعد إلى غيره كما يقولون لممن بالغ في فعل الحسن أحسنت وأجملت ثم لو سلم أن المراد به الاحسان المتعدي فلم لا يجوز أن يعطف فعل متعد على فعل لايتعدى ولو صرح سبحانه فقال : اتقوا القبائح كلها وأحسنوا إلى الناس لم يمتنع وذلك ظاهر وقيل : إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي تخص المكلف ولا تتعداه والايمان الاول الايمان بالله تعالى وبما أوجب الايمان به والايمان بقبح هذه المعاصي ووجوب تجنبها والاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية والايمان الثاني هو الايمان بقبحها ووجوب تجنبها والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وهو كما ترى وقيل : المراد بالاول اتقاء ما حرم عليهم أولا مع الثبات على الايمان والاعمال الصالحة إذ لاينفع الاتقاء بدون ذلك والثاني اتقاء ما حرم عليهم بعد ذلك من الخمر ونحوه والايمان التصديق بتحريم ذلك وبالثالث الثبات على اتقاء جميع ذلك من السابق والحادث مع تحري الاعمال الجميلة وهذا مراد من قال : إن التكرير باعتبار الاوقات الثلاثة وقيل : إنه باعتبار المراتب الثلاث للتقوى المبدأ والوسط والمتهى وقد مر تفصيلها وقيل باعتبار الحالات الثلاث بأن يتقي الله تعالى ويؤمن به في السر ويتجنب ما يضر نفسه من عمل واعتقاد ويتقي الله تعالى ويؤمن به علانية ويجتنب ما يضر الناس ويتقي الله تعالى ويؤمن به بينه وبين الله تعالى بحيث يرفع الوسائط وينتهي إلى أقصى المراتب ولما في هذه الحالة من الزلفى منه تعالى ذكر الاحسان فيها بناء على أنه كما فسره صلى الله عليه و سلم في الخبر الصحيح أن تعبد الله تعالى كأنك تراه
وقيل : باعتبار ما يتقى لانه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقاب والشبهات توقيا من الوقوع في الحرام وبعض المباحات حفظا للنفس عن الخسة وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة وقيل : المراد بالاول اتقاء الكفر وبالثاني اتقاء الكبائر وبالثالث اتقاء الصغائر وقيل : إن التكرير لمجرد التأكيد ويجوز فيه العطف بثم كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ولا يخفي أن أكثر هذه الأقوال غير مناسبة للمقام وذكر العلامة الطيبي أن معنى الآية أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهاد عن المستلذات وتحريم الطيبات وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والايمان إلى مراتب الاخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك وعلى الايمان بما يجب الايمان به وعلى الاعمال الصالحة لتحصل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج أن تعبد الله تعالى كأنك تراه وهو المعني بقوله تعالى : وأحسنوا الخ وبها يمنح الزلفى عند الله تعالى ومحبته سبحانه المشار إليها بقوله عز و جل والله يحب المحسنين وفي هذا النظم نتيجة مما رواه الترمذي وابن ماجة من قوله صلى الله عليه و سلم : ليس الزهادة في
(7/20)
الدنيا بتحريم الحلال ولا اضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما بيد الله تعالد أوثق منك بما في يدك انتهى
وهو ظاهر جدا على تقدير أن تكون الآية في القوم الذين سلكوا طريق الترهب وهو قول مرجوح فتدبر
وجملة والله يحب المحسنين على سائر التقادير تذييل مقرر لمضمون ما قبله أبلغ تقرير وذكر بعضهم أنه كان الظاهر والله يحب هؤلاء فوضع المحسنين موضعه اشارة إلى أنهم متصفون بذلك
يا أيها الذين ءامنوا ليبلونكم الله جواب قسم محذوف أي والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف حالكم بشيء من الصيد أي مصيد البر كما قال الكلبي مأكولا كان أو غير مأكول ما عدا المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى فاللام للعهد والآية كما أخرج ابن ابي حاتم عن مقاتل نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وذلك قوله تعالى : تناله أيديكم ورماحكم فهموا بأخذها فنزلت وعن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن ابي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الذي تناله الايدي فراخ الطير وصغار الوحش والبيض والذي تناله الرماح الكبار من الصيد واختار الجبائي أن المراد بما تناله الايدي والرماح صيد الحرم مطلقا لأنه كيفما كان يأنس بالناس ولا ينفر منهم كما ينفر في الحل وقيل : ما تناله الايدي ما يتأتى ذبحه وما تناله الرماح ما لا يتأتى ذبحه وقيل : المراد بذلك ما قرب وما بعد وذكر ابن عطية أن الظأهر أنه سبحانه وتعالى خص الايدي بالذكر لأنها أعظم تصرفا في الاصطياد وفيها يدخل الجوارح والحبالات وما عمل بالايدي من فخاخ واشباك وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد ويدخل فيها السهم ونحوه وتنكير شيء كما قال غير واحد للتحقير المؤذن بأن ذلك من الفتن الهائلة التي تزل فيها اقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الانفس واتلاف الاموال وإنما هو من قبيل ما ابتلي به أهل أيلة من صيد البحر وفائدته التنبيه على أن من لم يثبت في مثل هذا كيف يثبت عند شدائد المحن فمن بيانية أي بشيء حقير هو الصيد
واعترضه ابن المنير بأنه قد وردت في هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة كما هو في قوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين فالظاهر والله تعالى أعلم أن من للتبعيض والمراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتبعيض التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور الله تعالى وأنه تعالى قادر على أن يجعل ما يبتليهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول وأنه مهما اندفع عنهم ما هو اعظم في المقدور فانما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل لطفا بهم ورحمة ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر وحاملا على الاحتمال والذي يرشد إلى هذا سبق الاخبار بذلك قبل حلوله لتوطين النفوس عليه فان المفاجاة بالشدائد شديدة الألم والانذار بها قبل وقوعها مما يسهل موقعها وإذا فكر العاقل فيما يبتلي به من انواع البلايا وجد المندفع منها عنه أكثر مما وقع فيه باضعاف لاتقف عنده غاية فسبحان اللطيف بعباده انتهى
وتعقبه مولانا شهاب الدين بان ما ذكر بعينه أشار اليه الشيخ في دلائل الاعجاز لأن شيئا إنما يذكر لقصد التعميم نحو قوله سبحانه : وإن من شيء إلا يسبح بحمده او الابهام وعدم التعيين او التحقير لادعا أنه لحقارته لايعرف وهنا لو قيل : ليبلونكم بصيد تم المعنى فاقحامها لابد له من نكتة وهي ما ذكر واما ما
(7/21)
من الآية الاخرى فشاهد له لا عليه لآن المقصود فيه ايضا التحقير بالنسبة إلى ما دفعه الله تعالى عنهم كما صرح به المعترض نفسه مع انه لايتم الاعتراض به إلا إذا كان ونقص معطوفا على مجرور من ولو عطف على شيء لكان مثل هذه الآية بلا فرق انتهى
وقال عصام الملة : يمكن أن يقال : التعبير بالشيء للابهام المكنى به عن العظة والتنوين للتعظيم أي بشيء عظيم في مقام المؤاخذة بهتكه إذا آخذ الله تعالى المبتلى به في الأمم السابقة بالمسخ والجعل قردة وخنازير ثم استظهر أن التعبير بذلك لافادة البعضية ومما قدمنا يعلم ما فيه وقرأ إبراهيم يناله أيديكم بالياء ليعلم الله من يخافه بالغيب أي ليتعلق علمه سبحانه بمن يخافه بالفعل فلا يتعرض للصيد فان علمه تعالى بأنه سيخافه وان كان متعلقا به لكن تعلقه بانه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمر الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل وإلى هذا يشير كلام البلخي والغيب مصدر في موضع اسم الفاعل أي يخافه فو الموضع الغائب عن الخلق فالجار متعلق بما قبله
وجوز ابو البقاء أن يكون في موضع الحال من من او من ضمير الفاعل في يخافه أي يخافه غائبا عن الخلق
وقال غير واحد : العلم مجاز عن وقوع المعلوم وظهوره ومحصل المعنى ليتميز الخائف من عقابه الأخروي وهو غائب مترقب لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد من لايخافه كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه وقيل : إن هناك مضافا محذوفا والتقدير ليعلم أولياء الله تعالى ومن على كل تقدير موصولة واحتمال كونها استفهامية أي ليعلم جواب من يخافه أي هذا الاستفهام بعيد وقريء ليعلم من الاعلام على حذف المفعول الأول أي ليعلم الله عباده الخ واظهار الاسم الجليل في موقع الاضمار لتربية المهابة وادخال الروعة فمن اعتدى أي تجاوز حد الله تعالى وتعرض للصيد بعد ذلك الاعلام وبيان أن ما وقع ابتلاء من جهته سبحانه لما ذكر من الحكمة وقيل : بعد التحريم والنهي ورد بأن النهي والتحريم ليس أمرا حادثا ترتب عليه الشرطية بالفاء وقيل : بعد الابتلاء ورد بأن الابتلاء نفسه لايصلح مدار التشديد والعذاب بل ربما يتوهم كونه عذرا مسوغا لتحقيقه
وفسر بعضهم الابتلاء بقدرة المحرم على المصيد فيما يستقبل وقال : ليس المراد به غشيان الصيود إياهم فانه قد مضى وانت تعلم أن إرادة ذلك المعنى ليست في حيز القبول والمعول عليه ما أشرنا اليه أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤد إلى تعلق العلم بالخائف بالفعل أو تميز المطيع من العاصي فله عذأب أليم
49
- لأن التعرض والاعتداء حينئذ مكابرة محضة وعدم مبالاة بتدبير الله تعالى وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية ومن لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذ البلايا الهينة لايكاد يراعيه في عظائم المداحض والمتبادر على ماقيل : أن هذا العذاب الأليم في الآخرة وقيل : هو في الدنيا
فقد أخرج ابن ابي حاتم من طريق قيس بن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : هو ان يوسع ظهره وبطنه جلدا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك في الجاهلية أيضا وقيل : المراد بذلك عذاب الدارين وإليه ذهب شيخ الاسلام ومناسبة الآية لما قبلها على ما ذكره الأجهوري أنه سبحانه لما أمرهم أن لايحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وجعلهما حرامين وإنما أخرج بعد من الطيبات ما يحرم في حال
(7/22)
دون حال وهو الصيد ثم انه عز اسمه شرع في بيان ما يتدارك به الاعتداء من الاحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب فقال عز من قائل : يا أيها الذين ءامنوا لاتقتلوا الصيد وانتم حرم والتصريح بالنهي مع كونه معلوما لاسيما من قوله تعالى : غير محلي الصيد وأنتم حرم لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه واللام في الصيد للعهد حسبما سلف وإطلاقه على غير المأكول شائع وإلى التعميم ذهبت الامامية وأنشدوا لعلي كرم الله تعالى وجهه : صيد الملوك ثعالب وأرانب وإذا ركبت فصيدي الأبطال وخصه الشافعية بالمأكول قالوا : لأنه الغالب فيه عرفا وأيد ذلك بما رواه الشيخان خمس يقتلن في الحل والحرم الحداة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور وفي رواية لمسلم والحية بدل العقرب وسيأتي إنشاء الله تعالى تتمة البحث والحرم جمع حرام كردح جمع رداح والحرام والمحرم بمعنى والمراد به من أحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل وفي حكمه من كان في الحرم وإن كان حلالا وقيل : المراد به من كان في الحرم وإن لم يكن محرما بنسك وفي حكمه المحرم وإن كان في الحل وقال اب علي الجبائي : الآية تدل على تحريم قتل الصيد على المحرم بنسك أينما كان وعلى من في الحرم كيفما كان معا وقال علي بن عيسى : لا تدل الآية على تحريم ذلك على الأول خاصة ولعل الحق مع علي لا مع ابيه وذكر القتل دون الذبح ونحوه للايذان بأن الصيد وإن ذبح في حكم الميتة وإلى ذلك ذهب الامام الأعظم وأحمد ومالك رضي الله تعالى عنهم وهو القول الجديد للشافعي رضي الله تعالى عنه وفي القديم لايكون في حكم الميتة ويح أكله للغير ويحرم على المحرم ومن قتله كائنا منكم حال كونه متعمدا أي ذاكرا لا حرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله ومثله من قتله خطأ للسنة
فقد أخرج ابن جرير عن الزهري قال : نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ وأخرج الشافعي وابن المنذر عن عمرو بن دينار قال : رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ وقال بعضهم : التقييد به بالعمد لأنه الأصل والخطأ ملحق به قياسا واعترض بأن القياس في الكفارات مختلف فيه والحنفية لا تراه وقيل : التقييد به لأنه المورد فقد روي أنه عن لهم حمار وحشي فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له : قتلته وأنت محرم فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية واعترض بأن الخبر على تقدير ثبوته إنما يدل على أن القتل من أبي اليسر كان عن قصد وهو غير العمد بالمعنى السابق إذ قد أخذ فيه العلم بالتحريم وفعل أبي اليسر خال عن ذلك بشهادة الخبر إذ يدل أيضا على أن حرمة قتل المحرم الصيد علمت بعد نزول الآية وأجيب بأنا لا نسلم أن أبا اليسر لم يكن عالما بالحرمة إذ ذاك
فقد روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الصيد كان حراما في الجاهلية حيث كانوا يضربون من قتل صيدا ضربا شديدا والمعلوم من الآية كون ذلك من شرعنا وقيل : إن العلم بالحرمة جاء في قوله تعالى : غير محلي الصيد ولعله أولى
وعن داود أنه لاشيء في الخطأ أخذا بظاهر الآية وروى ابن المنذر ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جرير وطاوس واخرج ابو الشيخ عن ابن سيرين قال : من قتله ناسيا لاحرامه فعليه الجزاء ومن قتله متعمدا لقتله غير ناس لاحرامه فذاك إلى الله تعالى إن شاء
(7/23)
عذبه وإن شاء غفر له وأخرج ابن جرير عن الحسن ومجاهد نحو ذلك و من يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر ويجوز أن تكون موصولة والفاء في قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل جزائية على الأول زائدة لشبه المبتدأ بالشرط الثاني و جزاء بالرفع والتنوين مبتدأ و مثل مرفوع على أنه صفته والخبر محذوف أي فعليه وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي فواجبه أو فالواجب عليه جزاء مماثل لما قتله
وجوز أبو البقاء أن يكون مثل بدلا والزجاج أن يكون جزاء مبتدأ و مثل خبره إذ التقدير جزاء ذلك الفعل أو المقتول مماثل لما قتله وبهذا قرأ الكوفيون ويعقوب وقرأ باقي السبعة برفع جزاء مضافا إلى مثل
واستشكل ذلك الواحدي بل قال : ينبغي أن لايجوز لأن الجزاء الواجب للمقتول لا لمثله ولا يخفى أن هذا طعن في المنقول المتواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم وذلك غاية في الشناعة وما ذكر مجاب عنه أما أولا فبأن جزاء كما قيل مصدر مضاف لمفعوله الثاني أي فعليه أن يجزى مثل ما قتل ومفعوله الأول محذوف والتقدير فعليه أن يجزى المقتول من الصيد مثله ثم حذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه وأضيف المصدر إلى الثاني وقد يقال لا حاجة إلى إرتكاب هذه المؤنة بأن يجعل مصدرا مضافا إلى مفعوله من غير تقدير مفعول آخر على أن معنى أن يجزى مثل أن يعطى المثل جزاء وأما ثانيا فبأن تجعل الاضافة بيانية أي جزاء هو مثل ما قتل وأما ثالثا فبأن يكون مثل مقحما كما في قولهم : مثلك لايفعل كذا واعترض هذا بأنه يفوت عليه اشتراط المماثلة بين الجزاء والمقتول وكون جزائه المحكوم به ما يقاومه ويعادله وهو يقتضي المماثلة مما لايكاد يسلم انفهامه من هذه الجملة كما لايخفى
وقرأ محمد بن مقاتل بتنوين جزاء ونصبه ونصب مثل أي فليجز جزاء أو فعليه أن يجزى جزاء مثل ما قتل وقرأ السلمي برفع جزاء منونا ونصب مثل أما رفع جزاء فظاهر وأما نصب مثل فبجزاء او بفعل محذوف دل جزاء عليه أي يخرج أو يؤدي مثل وقرأ عبد الله فجزاؤه برفع جزاء مضافا إلى الضمير ورفع مثل على الابتداء والخبرية والمراد عند الامام الأعظم وأبي يوسف المثل باعتبار القيمة يقوم الصيد من حيث أنه صيد لا من حيث ما زاد عليه بالصنع في المكان الذي أصابه لامحرم فيه أو في أقرب الأماكن اليه مما يباع فيه ويشرى وكذا يعتبر الزمان الذي أصابه فيه لاختلاف القيم باختلاف الامكنة والازمنة فان بلغت قيمته قيمة هدي يخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره ولا يجوز أن يطعم مسكينا نصف صاع وعليه أن يكمل بحسابه ويقع الباقي تطوعا وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما فان فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يوما كاملا لأن الصوم أقل من يوم لم يعهد في الشرع وإن لم تبلغ قيمته قيمة هدي فان بلغت ما يشتري به طعام مسكين يخير بين الاطعام والصوم وإن لم تبلغ الا ما يشتري به مدا من الحنطة مثلا يخير بن أن يطعم ذلك المقدار وبين أن يصوم يوما كاملا لما قلنا فيكون قوله تعالى : من النعم تفسيرا للهدي المشترى بالقيمة على أحد وجوه التخيير فان من فعل ذلك يصدق عليه أنه جزي بمثل ما قتل من النعم ونظر فيه صاحب التقريب لأن قراءة رفع جزاء ومثل تقتضي أن يكون الجزاء مماثلا من النعم للصيد فان كان الجزاء القيمة فليس مماثلا له منها بل الجزاء قيمة يشترى بها مماثل وأجاب في
(7/24)
الكشف أن ما يشترى بالجزاء جزاء أيضا فان طعام المساكين جزاء بالاجماع وهو مشترى بالقيمة والحاصل أنه يصدق عليه أنه جزاء وأنه اشتري بالجزاء ولا تنافي بينهما وادعى صاحب الهداية أن من النعم بيان لما قتل وأن معنى الآية فجزاء هو قيمة ما قتل من النعم بمعنى القيمة وحمل النعم على النعم الوحشي لأن الجزاء إنما يجب بقتله لا بقتل الحيوان الأهلي وقد ثبت كما قال ابو عبيدة والاصمعي أن النعم كما تطلق على ألاهلي في اللغة تطلق على الوحشي وكان كلام ابي البقاء حيث قال : يجوز أن يكون من النعم حالا من الضمير في قتل لأن المقتول يكون من النعم مبنيا على هذا وهو مع بعد ارادته من النظم الكريم خلاف المتبادر إلى نفسه فإن المشهور أن النعم في اللغة الابل والبقر والغنم دون ما ذكر وقد نص على ذلك الزجاج وذكر أنه اذا أفردت الابل قيل لها نعم أيضا وإن أفردت البقر والغنم لاتسمى نعما
وقال محمد ونسب الشافعي ومالك والامامية أيضا : المراد بالمثل والنظير في المنظر فيما له نظير في ذلك لا في القيمة ففي الظبي شاة وفي الضبع شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة وفي النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة لأن الله تعالى أوجب مثل المقتول مقيدا بالنعم فمن اعتبر بالقيمة فقد خالف النص لأنها ليست بنعم ولأن الصحابة كعلي كرم الله وجهه وعمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين أوجبوا في النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة إلى غير ذلك وجاء عن النبي صلى الله عليه و سلم كما رواه ابو داود الضبع صيد وفيه شاة وما ليس له نظير من حيث الخلقة مثل العصفور والحمام تجب فيه القيمة عند محمد كما هو عند الامام الأعظم وصاحبه وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يعتبر المماثلة من حيث الصفات فاوجب في الحمام شاة لمشابهة بينهما من حيث أن كل واحد منهما يعب ويهدر وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر ومقاتل رضي الله تعالى عنهم وأخرج ابن ابي شيبة عن عطاء قال : أول من فدى طير الحرم بشاة عثمان رضي الله تعالى عنه ولأبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أطلق المثل والمثل المطلق هو المثل صورة ومعنى وهو المشارك في النوع وهو غير مراد هنا بالاجماع فبقي أن يراد المثل معنى وهو القيمة وهذا لأن المعهود في الشرع في إطلاق لفظ المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة فقد قال تعالى في ضمان العدوان : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والمراد الأعم منها أعني المماثل في النوع إذا كان المتلف مثليا والقيمة إذا كان قيميا بناء على أنه مشترك معنوي والحيوانات من القيميات شرعا اهدارا للماثلة الكائنة في تمام الصورة فيها تغليبا للاختلاف الباطني في أبناء نوع واحد فما ظنك إذا انتفى المشاركة في النوع أيضا فلم يبق الا مشاكلة في بعض الصورة كطول العنق والرجلين في النعامة مع البدنة ونحو ذلك في غيره فاذا حكم الشرع بانتفاء اعتبار المماثلة مع المشاكلة في تمام الصورة ولم يضمن المتلف بما شاركه في تمام نوعه بل بالمثل المعني فعند عدمها وكون المشاكلة في بعض الهيئة انتفاء الاعتبار أظهر إلا أن لا يمكن وذلك بأن يكون اللفظ محمل يمكن سواه فالواجب إذا عهد المراد بلفظ في الشرع وتردد فيه في موضع يصح حمله على ذلك المعهود وغيره أن يحمل على المعهود وما نحن فيه كذلك فوجب المصير اليه وأن يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم من الحكم بالنظير على أنه كان باعتبار التقدير بالقيمة إلا أن الناس إذ ذاك لما كانوا أرباب مواش كان الاداء عليهم منها أيسر لا على معنى أنه لا يجزيء غير ذلك وحديث التقييد
(7/25)
بالنعم قد علمت الجواب عنه وذكر مولانا شيخ الاسلام أن الموجب الاصلي للجناية والجزاء المماثل للمقتول إنما هو قيمته لكن لا باعتبار أن الجاني يعمد اليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء بل باعتبار أن يجعلها معيارا فيقدر بها أحدى الخصال الثلاث فيقيمها مقامها فقوله تعالى : مثل ما قتل وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال وأما قوله سبحانه من النعم فوصف له معتبر في ثاني الحال بناء على وصفه الأول الذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلا عن العطف على الموصوف كما سيأتي إن شاء الله تعالى ومما يرشد إلى أن المراد بالمثل هو القيمة هو قوله عز و جل : يحكم به أي بمثل ما قتل دوا عدل منكم أي حكمان عدلان من المسلمين لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوي في معرفتها كل أحد من الناس وهذا ظاهر الورد على ظاهر قول محمد
وقد يقال : إن هذه الجملة مرشدة إلى ما قلنا أيضا على رأي من يجعل مدار المماثلة بين الصيد والنعم المشاكلة والمضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التباين بينهما في بقية الاحوال فان ذلك مما لا يهتدي اليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية ألا يرى أن الامام الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن أسلفنا ذكره أوجبوا في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة في العب والهدير مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون بل السمك والسمماك فكيف يفوض معرفة هذه لادقائق العويصة إلى رأي عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من انواع الصيد نوع من النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلا
وقرأ محمد بن جعفر ذو عدل وخرجها ابن جني على ارادة الامام وقيل : إن ذو تستعمل إستعمالين من للتقليل والتكثير وليس المراد بها هنا للوحدة بل للتعدد ويراد منه اثنان لأنه أقل مراتبه وفي الهداية قالوا : والعدل الواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد من الغلط وعلى هذا لا حاجة إلى حمل ذو على المتعدد ولا على الامام بل المراد منها الواحد اماما كان أو غيره ومن أشترط الاثنين حمل العدد في الآية على القراءة المتواترة الأولوية والجملة صفة لجزاء أو حال من الضمير المستتر في خبره المقدر وقيل : حال منه لتخصيصه بالصفة وجوز ابن الهمام على قراءة رفع جزاء وإضافته أن تكون صفة لمثل كما أن تكون صفة لجزاء لأن مثلا لا نتعرف بالاضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف اليها بالجملة
وقوله تعالى : هديا حال مقدرة من الضمير في به كما قال الفارسي أو من جزاء بناء على أنه خبر أو منه على تقدير كونه مبتدأ في رأي أو بدل من مثل فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أي يهديه هديا والجملة صفة أخرى لجزاء بالغ الكعبة صفة لهديا لأن اضافته لفظية أو كفارة عطف على محل من النعم على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لجزاء على ما اختاره شيخ الاسلام وقوله تعالى : طعام مساكين عطف بيان لكفارة عند من يراه كالفارسي في النكرات أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين
(7/26)
وقوله سبحانه : أو عدل ذلك صياما عطف على طعام وذلك إشارة إليه و صياما تمييز وخلاصة اةية كأنه قيل : فعليه جزاء أو فالواجب جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام أما الأولان فبلا واسطة وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلا منها بدلا عن اةخرين وكون الاختيار للجاني هو ما ذهب اليه ابو حنيفة وأبو يوسف رضي الله تعالى عنهما فعندهما إذا ظهرا قيمة الصيد بحكم الحكمين وهي تبلغ هديا فله الخيار في أن يجعله هديا او طعاما أو صوما لأن التخيير شرع رفقا بمن عليه فيكون الخيار إليه ليرتفق بما يختار كما في كفارة اليمين وقال محمد وحكاه أصحابنا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا : إن الخيار إلى الحكمين في تعيين أحد الأشياء فان حكما بالهدي يجب النظير على ما مر وإن حكما بالطعام أو الصيام فعلى ما قاله الامام وصاحبه من اعتبار القيمة من حيث المعنى
واستدل كما قيل على ذلك بالآية ووجهه أنه ذكر الهدي منصوبا على أنه تفسير للضمير المبهم العائد على مثل في قوله تعالى : يحكم به ذؤا عدل سواء كان حالا منه كما قدمنا أو تمييزا على ما قيل فيثبت أن المثل إنما يصير هديا باختيارهما وحكمهما أو هو مفعول لحكم الحاكم على أن يكون بدلا عن الضمير محمولا على محله كما في قوله تعالى : قل انني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما وفي ذلك تنصيص على أن التعيين إلى الحكمين ثم لما ثبت ذلك في الهدي ثبت في الطعام والصيام لعدم القائل بالفصل لأنه سبحانه عطفهما عليه بكلمة أو وهي عند غير الشعبي والسدي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم في رواية التخيير فيكون الخيار اليهما وأجاب عن ذلك غير واحد من أصحابنا بأن الاستدلال إنما يصح لو كان كفارة معطوفة على هديا وليس كذلك لاختلاف اعرابهما وإنما هي معطوفة على قوله تعالى : فجزاء بدليل أنه مرفوع وكذا قوله : أو عدل الخ فلم يكن في الآية دلالة على اختيار للحكمين في الطعام والصيام وإذا لم يثبت الخيار فيهما للحكمين لم يثبت في الهدي لعدم القائل بالفصل وإنما يرجح اليهما في تقديم المتلف لا غير ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه رفقا به على أن في توجيه الاستدلال على ما قاله اكمل الدين في العناية إشكالا لأن ذكر الطعام والصيام بكلمة أو لايفيد المطلوب إلا إذا كان كفارة منصوبا على ماهو قراءة عيسى بن عمر النحوي وهي شاذة والشافعي لا يرى الاستدلال بالقراءة الشاذة لا من حيث أنها كتاب ولا من حيث أنها خبر كما عرف في الاصول
واعترض مولانا شيخ الاسلام على عطف كفارة على جزاء وقد ذهب اليه أجلة المفسرين والفقهاء بأنه لايبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام والالتجاء إلى القياس على الهدي تعسف لايخفى وقد علمت ما اختاره والآية عليه أيضا لاتصلح دليلا على مدعي الخصم كما هو ظاهر على أن الظاهر منها كما قاله ابن الهمام أن اختاره والآية عليه أيضا لاتصلح دليلا على مدعي الخصم كما هو ظاهر على أن الظاهر منها كما قاله ابن الهمام أن الاختيار لمن عليه فان مرجع ضمير المحذوف من الخبر او متعلق المبتدأ اليه بناء على أن التقدير فعليه أو فالواجب عليه ثم إذا وقع الاختيار على الهدي ما يجزيه في الأضحية وهو الجذع الكبير من الظان أو الثني من غيره عند أبي حنيفة لأن مطلق اسم الهدي ينصرف اليه كما في هدي المتعة والقرآن واعترض عليه بأن اسم الهدي قد ينصرف إلى غيره كما إذا قال : إذا فعلت كذا فثوبي هذا هدي فليكن في محل النزاع كذلك وأجيب بأن الكلام في مطلق الهدي وما ذكر ليس كذلك لأن الاشارة
(7/27)
إلى الثوب قيدته وعند محمود يجزيء صغار النعم لأن الصحابة كما تقدم أوجبوا عناقا وجفرة فدل على جواز ذلك في باب الهدي وعن ابي يوسف روايتان رواية كقول الامام وأخرى كقول محمد وهي التي في المبسوط والاسرار وغيرهما وعند أبي حنيفة يجوز الصغار على وجه الاطعام فيجوز أن يكون حكم الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان على هذا الاعتبار فمجرد فعلهم حينئذ لا ينافي ما ذهب اليه الامام فلا ينتهض حجة عليه
وإذا اختار الهدي وبلغ ما يضحى به فلا يذبح إلا بالحرم وهو المراد بقوله تعالى : هديا بالغ الكعبة إلا أن ذكر الكعبة للتعظيم ولو ذبحه في الحل لا يجزيه عن الهدي بل عن الاطعام فيشترط أن يعطي كل مسكين قيمة نصف صاع حنطة أو صاع من غيرهما ويجوز أن يتصدق بالشاة الواقعة هديا على مسكين واحد كما في هدي المتعة ولا يتصدق بشيء من الجزاء على من لا تقبل شهادته له ويجوز على أهل الدمة والمسلم أحب ولو أكل من الجزاء غرم قيمة ما أكل ولا يشترط في الاطعام أن يكون في الحرم
ونقلوا عن الشافعي أنه يشترط ذلك اعتبارا له بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم ونحن نقول : الهدي قربة غير معقولة فيختص بمكان أو زمان أما الصدقة فقربة معقولة في كل زمان ومكان كالصوم فانه يجوز في غير الحرم بالاجماع فان ذبح في الكوفة مثلا أجزاه عن الطعام إذا تصدق باللحم وفيه وفاء بقيمة الطعام لأن الاراقة لاتنوب عنه ولو سرق هذا المذبوح أو ضاع قبل التصدق به بقي الواجب عليه كما كان وهذا بخلاف ما لو كان الذبح في الحرم حيث يخرج عن العهدة وإن سرق المذبوح أو ضاع قبل التصدق به و إذا وقع الاختيار على الطعام يقوم المتلف بالقيمة ثم يشترى بالقيمة طعام ويتصدق به على ما أشرنا اليه أولا وفي الهداية يقوم المتلف بالطعام عندنا لأن المضمون فتعتبر قيمته
ونقل حميد الدين الضرير عن محمد أنه يقوم النظير لأنه الواجب عينا إذا كان للمقتول نظير وأنت تعلم أنه لو سلم أن النظير هو الواجب عينا عند اختيار الهدي لم يلزم منه وجوب تقديمه عند اختيار خصلة أخرى فكيف وهو ممنوع وإن اختار الصيام فعلى ما في الهداية يقوم المقتول طعاما ثم يصوم عن طعام كل مسكين يوما على ما مر لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لاقيمة للصيام فقدرناه بالطعام والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في الفدية وتمام البحث في الفروع والكفارة والطعام في الآية على ما يشعر به كلام بعض المفسرين بالمعنى المصدري ولو أبقيا على الظاهر لصح هذا وما ذكرنا من عطف كفارة إنما هو على قراءة جزاء بالرفع وعلى سائر القراءات يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة من النعم
وذكر الشهاب أنه يجوز في كفارة على قراءة جزاء بالنصب أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي الواجب عليه كفارة وأن يقدر هناك فعل أي أن يجزيء جزاء فيكون أو كفارة عطفا على أن يجزيء وهو مبتدأ مقدم عليه خبره وفريء أو كفارة طعام مساكين على الاضافة لتبيين نوع الكفارة بناء على أنها بمعنى المكفر به وهي عامة تشمل الطعام وغيره وكذا الطعام يكون كفارة وغيرها فبين المتضايفين عموم وخصوص من وجه كخاتم حديد وقال ابو حيان : إن الطعام ليس جنسا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدا فالاضافة إنما هي إضافة الملابسة وليس بشيء
وقرأ الأعرج أو كفارة طعام مساكين على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقريء أو عدل
(7/28)
بكسر العين والفرق بينهما إن عدل الشيء كما قال الفراء ما عادله من غير جنسه كالصوم والاطعام وعدله ما عدل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وقال البصريون : العدل والعدل كلاهما بمعنى المثل سواء كان من الجنس أو من غيره وقال الراغب : العدل والعدل متقاربان لكنه بالفتح فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام وبالكسرة فيما يدرك بالحواس كالعديل بالفتح هو التقسيط على سواء وعلى هذا روي بالعدل قامت السموات تنبيها على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدا على الآخر أو ناقصا عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظما
ليذوق وبال أمره متعلق بالاستقرار الذي تعلق به المقدر وقيل : بجزاء وقيل : بصيام أو بطعام وقيل : بفعل مقدر وهو جوزي أو شرعنا ذلك و نحوه و الوبال في الأصل الثقل ومنه الوابل للمطر الكثير والوبيل للطعام الثقيل الذي لا يسرع هضمه والمرعى الوخيم ولخشبة القصار وضمير أمره إما لله تعالى أو لمن قتل الصيد أي ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتك حرمة ما هو فيه أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى القوي وعلى هذا لابد من تقدير مضاف كما أشرنا إليه لأن أمر الله تعالى لا وبال فيه وإنما الوبال في مخالفته
عفا الله عما سلف لكم من الصيد وأنتم محرمون فلم يجعل فيه إثما ولم يوجب جزاء أو لم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك مع أنه ذنب عظيم أيضا حيث كنتم على شريعة اسماعيل عليه السلام والصيد محرم فيها وقد مر رواية التحريم جاهلية والمؤاخذة على قتل الصيد بالضرب الوجيع ومن عاد إلى مثل ذلك فقتل الصيد متعمدا وهو محرم فينتقم الله منه أي فهو ينتقم الله تعالى منه لأن الجزاء اذا وقع مضارعا مثبتا لم تدخله الفاء لشبه المبتدأ بالشرط وهي زائدة والجملة بعدها خبر ولا حاجة حينئذ إلى اضمار المبتدأ والمراد بالانتقام التعذيب في الآخرة وأما الكفارة فعن عطاء وإبراهيم وابن جبير والحسن والجمهور أنها واجبة على العائد فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة حتى أنهم كانوا يسألون المستفتي هل أصيب شيئا قبله فان قال : نعم لم يحكم عليه وإن قال لا حكم عليه تعلقا بظأهر الآية
وأنت تعلم أن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى وقيل : معنى الآية ومن عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله وليس بالبعيد وأما حمل الانتقام على الانتقام في الدنيا بالكفارة وإن كان محتملا لكنة خلاف الظاهر وكذأ كون المراد ينتقم منه إذا لم يكفر وقد اختلفوا فيما إذا اضطر محرم إلى أكل الميتة أو الصيد فقال : زفر يأكل الميتة لا الصيد لتعدد جهات حرمته عليه وقال ابو حنيفة وأبو يوسف : يتناول الصيد ويؤدي الجزاء لأن حرمة الميتة أغلظ ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الاحرام فهي مؤقتة بخلاف حرمة الميتة فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما والصيد وإن كان محظور الاحرام لكن عند الضرورة يرتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء كما في المبسوط
وفي الخانية المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى في قول ابي حنيفة ومحمد
وقال ابو يوسف والحسن : يذبح الصيد ولو كان الصيد مذبوحا فالصيد أولى عند الكل ولو وجد لحم
(7/29)
صيد ولحم آدمي كان لحم الصيد أولى ولو وجد صيد وكلبا فالكلب أولى لأن في الصيد ارتكاب محظورين
وعن محمد الصيد أولى من لحم الخنزير انتهى وفي هذا خلاف ما ذكر في المبسوط والله عزيز غالب لايغالب ذو انتقام
59
- شديد فينتقم ممن يتعدى حدوده ويخالف أوامره ويصر على معاصيه أحل لكم أيها الحرمون صيد البحر أي ما يصاد في الماء بحرا كان أو نهرا أو غديرا وهو مايكون توالده ومثواه في الماء مأكولا كان أو غيره كما في البدائع وفي مناسك الكرماني الذي رخص من صيد البحر للمحرم هو السمك خاصة واما نحو طيره فلا رخصة فيه له والأول هو الاصح وطعامه أي ما يطعم من صيده وهو عطف على صيد من عطف الخاص على العام والمعنى أحل لكم التعرض لجميع ما يصاد في المياه والانتفاع به وأكل ما يؤكل منه وهو السمك عندنا وعند ابن ابي ليلى الصيد والطعام على معناهما المصدري وقدر مضافا في صيد البحر وجعل ضمير طعامه راجعا إليه لا إلى البحر أي أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه وتأكلوه فيحل عنده أكل جميع حيوانات البحر من حيث أنها حيواناته وقيل : المراد بصيد البحر ما صيد ثم مات وبطعامه ما قذفه البحر ميتا وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن عمر وقتادة
وقيل : المراد بالاول الطري وبالثاني المملوح وسمي طعاما لأنه يدخر ليطعم فصار كالمقتات به من الأغذية وروي ذلك عن ابن المسيب وابن جرير ومجاهد وهو احدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه بعد وأبعد منه كون المراد بطعامه ما ينبت بمائه من الزروع والثمار وفريء وطعمه متاعا لكم نصب على أنه مفعول له لأحل أي تمتيعا وجعله في الكشاف مختصا بالطعام كما أن نافلة في باب الحال من قوله تعالى : ووهبنا له اسحاق ويعقوب نافلة مختص بيعقوب عليه السلام والذي حمله على ذلك كما قال الشهاب مذهبه وهو مذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه من أن صيد البحر ينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل وأن طعامه هو المأكول منه إلا أنه أورد عليه أنه يؤدي إلى أن الفعل الواحد المسند إلى فاعلين متعاطفين يكون المفعول له المذكور بعدهما لأحدهما دون الآخر كقام زيد وعمرو اجلالا لك على أن الاجلال مختص بقيام أحدهما وفيه الباس وأما الحال في اةية المذكورة فليست نظيرة لهذا لأن فيه قرينة عقلية ظاهرة لأن النافلة ولد الوالد فلا تعلق لها باسحاق لأنه ولد صلب لابراهيم عليهما السلام وعلى غير مذهب الامام لا اختصاص للمفعول له بأحدهما وهو ظاهر جلي
وقيل : نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر أي متعكم به متاعا وقيل : مؤكد لمعنى أحل فانه في قوة متعكم به تمتيعا كقوله كتاب الله عليكم وقيل وليس بشيء : إنه حال مقدرة من طعام أي مستمتعا به للمقيمين منكم يأكلونه طريا وللسيارة منكم يتزودونه قديدا وهو مؤنث سيار باعتبار الجماعة كما قال الراغب
وحرم عليكم صيد البر وهو ما توالد ومثواه البر مما هو ممتنع لتوحشه الكائن في أصل الخلقة فيدخل الظبي المستأنس ويخرج البعير والشاة المتوحشان لعروض الوصف لهما وكون زكاة الظبي المستأنس بالذبح والأهلي المتوحش بالعقر لاينافيه لأن الذكاة بالذبح والعقر دائران مع الامكان وعدمه لا مع الصيدية وعدما
واستثنى رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول
(7/30)
الله صلى الله عليه و سلم خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحدأة وقد تقدم ما في رواية لمسلم وجاء تسميتهن فواسق وفي فتح القدير ويستثنى من صيد البر بعضه كالذئب والغراب والحدأة وأما باقي الفواسق فليست بصيود وأما باقي السباع فالمنصوص عليه في ظاهر الرواية عدم الاستثناء وأن يجب قتلها الجزاء ولا يجاوز شاة إن ابتدأها المحرم وإن ابتدأته فلا شيء عليه وذلك كالاسد والفهد والنمر والصقر والبازي وأما صاحب البدائع فيقسم البري إلى مأكول وغيره والثاني إلى ما يبتديء بالاذى غالبا كالاسد والذئب والنمر إلى ما ليس كذلك كالضبع والفهد والثعلب فلا يحل قتل الأول والاخير إلا أن يصول ويحل قتل الثاني ولا شيء فيه وإن لم يصل وجعل ورود النص في الفواسق ورودا فيه دلالة ولم يحك خلافا لكن في الخانية وعن ابي يوسف الأسد بمنزلة الذئب وفي ظاهر الرواية السباع كلها صيد إلا الكلب والذئب ولعل استثناء الذئب لذكره في المستثنيات على ما أخرجه ابو شيبة والدارقطني والطحاوي
وقيل : لأنه المراد بالكلب العقور في الخبر السابق وقيل : لأنه بمعناه فيلحق بمعناه فيلحق به دلالة وأما الكلب فقد جاء استثناؤه في الحديث إلا أنه وصف فيه بالعقورية ولعل الامام إنما يعتبر الجنس
ونظر فيه بأنه يفضي إلى إبطال الوصف المنصوص عليه وأجيب بأنه ليس للقيد بل لأظهار نوع إذائه فان ذلك طبع فيه وقال سعدي جلبي : لو صح هذا النظر يلزم اعتبار مفهوم الصفة بل سائر المفاهيم وهو خلاف أصولنا وأما كون السباع كلها صيدا إلا ما استثني ففيه خلاف الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا فعنده هي داخلة في الفواسق المستثنيات قياسا أو ملحقة بها دلالة أو لأن الكلب العقور يتناولها لغة
وأجاب بعض الأصحاب بأن القياس على الفواسق مما تعدو علينا للقرب منا والسبع ليس كذلك لبعده عنا فلا يكون في معنى الفواسق ليلحق بها واسم الكلب وإن تناوله لغة لم يتناوله عرفا والعرف أقوى وأرجح في هذا الموضع كما في الايمان لبنائه على الاحتياط وفيه بحث طويل الذيل فتأمل
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حرم عليكم صيد ببناء حرم للفاعل ونصب صيد أي وحرم الله عليكم صيد البر ما دمتم حرما أي محرمين
وقريء دمتم بكسر الدال كخفتم من دام يدام وذلك لغة فيها وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حرما بفتحتين أي ذوي حرم بمعنى إحرام أو على المبالغة وظاهر الآية يوجب حرمة ما صاده الحلال على المحرم وإن لم يكن له مدخل فيه وهو قول ابن عباس وابن عمر ونقل عن علي كرم الله وجهه وجماعة من السلف واحتج له أيضا بما أخرجه مسلم عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه و سلم حمارا وحشيا وفي رواية حمار وحش وفي رواية من لحم حمار وحش وفي رواية من رجل حمار وحش وفي رواية عجز حمار وحش يقطر دما وفي رواية شق حمار وحش وفي أخرى عضوا من لحم صيد وهو عليه الصلاة و السلام بالابواء أو بودان فرده عليه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : فما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما في وجهي قال : إنا لم نرده عليك الا أنا حرم
وعن ابي هريرة وعطاء ومجاهد وابن جبير ورواه الطحاوي عن عمر وطلحة وعائشة رضي الله
(7/31)
تعالى عنهم أنه يحل له أكل ماصاده الحلال وان صاده لأجله إذا لم يدل عليه ولم يشر اليه ولا أمره بصيده وكذا ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب ابي حنيفة رضي الله تعالى عنه على ما اختاره الطحاوي لأن الخطاب للمحرمين فكأنه قيل : وحرم عليكم ما صدتم في البر فيخرج منه مصيد غيرهم أو يقال : أن المراد صيدهم حقيقة أو حكما وصورة الدلالة أو الأمر من الشق الثاني وعن مالك والشافعي وأحمد وداود رحمهم الله تعالى لايباح ما صيد له لما رواه ابو داود والترمذي والنسائي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لحم الصيد حلال لكم وأنتم محرمون ما لم تصيدوه أو يصاد لكم وأجيب : بأنه قد روى محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم فامرنا باكله وروى الحافظ ابو عبد الله الحسين عن ابي حنيفة عن هشام بن عروة عن ابيه عن جده الزبير ابن العوام قال : كنا نحمل لحم الصيد صفيفا وكنا نتزوده وكنا نأكله ونحن محرمون مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وأخرج مسلم عن عبد الله بن ابي قتادة عن أبيه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حاجا وخرجنا معه فصرف نفرا من أصحابه فيهم ابو قتادة فقال : خذوا ساحل البحر حتى تلقوني قال : فأخذؤا ساحل البحر فلما انصرفوا قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم أحرموا كلهم إلا ابو قتادة فانه لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلوا فأكلوا من لحمها قال فقالوا : أكلنا لحما ونحن محرمون قال فحملوا ما بقي من لحم الأتان فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان ابو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فاكلنا من لحمها فقلنا : نأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقي من لحمها فقال عليه الصلاة و السلام : هل معكم أحد أمره أو اشار اليه بشيء قالوا : لا قال فكلوا ما بقي من لحمها
وفي رواية لمسلم أنه صلى الله عليه و سلم قال : هل عندكم منه شيء قالوا : معنا رجله فأخذها عليه الصلاة و السلام فأكلها وحديث جابر مؤول بوجهين الأول كون اللام للملك والمعنى أن يصاد ويجعل له فيكون مفاده تمليك عين الصيد من المحرم وهو ممتنع أن يتملكه فيأكل من لحمه والثاني الحمل على أن المراد أن يصاد بأمره وهذا لأن الغالب في عمل الانسان لغيره أن يكون بطلب منه والتزام التأويل دفعا للتعارض كما قال غير واحد وقال ابن الهمام وقد يقال : القواعد تقتضي أن لايحكم بالتعارض بين حديث جابر وبين الخبرين الأولين من هذه الأخبار الثلاثة لأن قول طلحة : فأمرنا بأكله مقيد عندنا بما إذا لم يدله المحرم على الصحيح خلافا لأبي عبد الله الجرجاني ولا أمره بقتله على ما يدل عليه حديث أبي قتادة فيجب تخصيصه بما إذا لم يصد للمحرم بالحديث الآخر
وحديث الزبير حاصله نقل وقائع أخبار وهي لا عموم لها فيجوز كون ما كانوا يحملونه من لحوم الصيد للتزود ما لم يصد لأجل المحرمين بل هو الظأهر لأنهم يتزودونه من الحضر ظاهرا والاحرام بعد الخروج إلى الميقات فالأولى الاستدلال على أصل المطلوب بحديث أبي قتادة المذكور على وجه المعارضة فانه أفاد أنه
(7/32)
عليه الصلاة و السلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت موجودة أم لا فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه صلى الله عليه و سلم في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحل عند خلوه عنها
وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد مانعا فيعارض حديث جابر و يقدم عليه لقوة ثبوته إذ هو في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستة بخلاف ذلك بل قيل في حديث جابر انقطاع لأن المطلب في سنده لم يسمع من جابر عند غير واحد وكذا في رجاله من فيه لين وبعد ثبوت ما دهبنا اليه بما ذكرنا يقوم دليل على ما ذكر من التأويل أنتهى وانت تعلم أن في حديث جابر أيضا شيئا من جهة العربية ولعل الأمر فيه سهل
بقي أن حديث الصعب بظاهره يعارض ما استدل به أهل المذهبين الأخيرين واختار بعض الحنفية في الجواب بأن فيه اضطرابا ليس مثله في حديث قتادة حتى روى عمرو بن أمية الضمري عن أبيه أن الصعب اهدى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عجز حمار وحش بالجحفة فأكل منه عليه الصلاة و السلام وأكل القوم فكان حديث قتادة أولى وقد وقع ما وقع فيه في الحج كما تحكيه الرواية التي ذكرناها ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجواب : يحتمل أن يكون صلى الله عليه و سلم علم أنه صيد له فرده عليه فلا يعارض حديث جابر وتعليله عليه الصلاة و السلام الرد بأنه محرم لا يمنع من كونه صيد له لأنه إنما يحرم الصيد على الانسان إذا صيد له بشرط أن يكون محرما فبين صلى الله عليه و سلم الشرط الذي يحرم به وقيل : إن جابرا إنما أهدى حمارا فرده صلى الله عليه و سلم لامتناع تملك المحرم الصيد ولا يخفى أن الروايات الدالة على البعضية أكثر ولا تعارض بينها فتحمل رواية أنه أهدى حمارا على أنه من اطلاق اسم الكل على البعض ويمتنع هنا العكس إذ إطلاق الرجل مثلا على كل الحيوان غير معهود وقد صرحوا أنه لايجوز أن يطلق على زيد اصبع ونحوه لأن شرط اطلاق اسم البعض على الكل التلازم كالرقبة والرأس على الانسان فان لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر وأما إطلاق العين على الرؤية فليس من حيث هو إنسان بل من حيث هو رقيب وهو من هذه الحيثية لايتحقق بلا عين أو هو أحد معاني المشترك اللفظي كما عده كثير منها فليتيقظ
واتقوا الله فيما نهاكم عنه من الصيد أو في جميع المعاصي التي من جملتها ذلك الذي إليه تحشرون
69
- لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إلى ذلك الغير
هذا ومن باب الاشارة في الآيات يا أيها الذين آمنوا إيمانا علميا لاتحرموا بتقصيركم في السلوك طيبات ما احل الله لكم من مكاشفات الأحوال وتجليات الصفات ولا تعتدوا بظهور النفس بصفاتها وكلوا مما رزقكم الله أي اجعلوا ما من الله تعالى به عليكم من علوم التجليات ومواهب الأحوال والمقامات غذاء قلوبكم حلالا طيبا واتقوا الله في حصول ذلك لكم بأن تردوها منه وله وجعل غير واحد هذا خطابا للواصلين من أرباب السلوك حيث أرادوا الرجوع إلى أهل البدايات من المجاهدات فنهوا عن ذلك وأمروا باكل الحلال الطيب وفسروا الحلال بما وصل الى المعارف من خزائن الغيب بلا كلفة والطيب ما يقوي القلب في شوق الله تعالى وذكر جلاله وقيل : الحلال الطيب ما يأكل على شهود وإلا فعلى ذكر فإن الأكل على الغفلة حرام في شرع السلوك وقال آخرون : الحلال الطيب هو الذي يراه العارف في خزانة القدر فيأخذه
(7/33)
منها بوصف الرضا والتسليم والحرام ما قدر لغيره وهو يجتهد في صلبه لنفسه لايؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم وهو الحلف لملالة النفس وكلالة القوى وغلبة سلطان الهوى وعدوا من اللغو في اليمين الاقسام على الله تعالى بحماله وجلاله سبحانه عند غلبة الشوق ووجدان الذوق أن يرزقه شيئا من اقباله عز و جل ووصاله فان ذلك لغو في شريعة الرضا ومذهب التسليم والذي يقتضيه ذلك ما أشير اليه بقوله : أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد لكن لا يؤاخذ الله تعالى عليه الحالف لعلمه بضعف حاله وعدوا من ذلك أيضا ما يجري على لسان السالكين في غلبة الوجد من تجديد العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم : وحقك لا نظرك إلى سواكا بعين مودة حتى أراكا فان ذلك ينافي التوحيد وهل في الدار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان وذلك إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان عن صميم الفؤاد فكفارته إطعام عشرة مساكين وهي على ما قاله بعض الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة من أوسط ما تطعمون أهليكم وهم القلب والسر والروح الخفي وطعامهم الشوق والمحبة والصدق والاخلاص والتفويض والتسليم والرضا والانس والهيبة والشهود والكشوف والأوسط الذكر والفكر والشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء وإطعام الحواس ذلك أن يشغلها به أو كسوتهم لباس التقوى أو تحرير رقبة وهي رقبة النفس فيحررها من عبودية الحرص والهوى فمن لم يجد ولم يستطع فصيام ثلاثة أيام فيمسك في اليوم الأول عما عزم عليه وفي اليوم الثاني عما لا يعنيه وفي اليوم الثالث عن العودة إليه وقيل كنى سبحانه بصيام ثلاثة أيام عن التوبة والاستقامة عليها ما دامت الدنيا فقد قيل : الدنيا ثلاثة أيام يوم مضى ويوم أنت فيه ويوم لا تدري ما الله سبحانه قاض فيه وأطيعوا الله بافناء فيه وأطيعوا الرسول بالبقاء بعد الفناء وأحذروا ظهور ذلك بالنظر إلى نفوسكم فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ ولم يقصر فالقصور منكم ليس على الذين آمنوا بالتقليد وعملوا الصالحات الأعمال البدنية الشرعية جناح فيما طعموا من المباحات إذا ما اتقوا شرك الأنانية وآمنوا بالهوية ثم اتقوا هذا الشرك وهو الفناء وأحسنوا بالبقاء به جل شأنه قاله النيسابوري
وقال غيره : ليس على الذين آمنوا الايمان العيني بتوحيد الأفعال وعملوا بمقتضى إيمانهم أعمالا تخرجهم عن حجب الافعال وتصلحهم لرؤية أفعال الحق جناح وضيق فيما تمتعوا به من انواع الحظوظ إذا ما اجتنبوا بقايا أفعالهم واتخذوا الله تعالى وقاية في صدور الافعال منهم وآنوا بتوحيد الصفات وعملوا ما يخرجهم عن حجبها ويصلحهم لمشاهدة الصفات الالهية بالمحو فيها ثم اتقوا بقايا صفاتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في ظهور صفاته عليهم وآنوا بتوحيد الذات ثم اتقوا بقية ذواتهم وأتخذوا الله تعالى وقاية في وجودهم بالفناء المحض والاستهلاك في عين الذات وأحسنوا بشهود التفصيل في عين الجمع والاستقامة في البقاء بعد الفناء والله يحب المحسنين الباقين في فنائهم أو المشاهدين للوحدة في عين الكثرة المراعين لحقوق التفاصيل في عين الجمع بالوجود الحقاني يا أيها الذين آنوا بالغيب ليبلونكم في أثناء السير والاحرام
(7/34)
لزيارة كعبة الوصول بشيء من الصيد أي الحظوظ والمقاصد النفسانية تناله أيديكم ورماحكم أي يتيسر لكم ويتهيأ ما يتوصل به إليه
وقيل : ما تناله الأيدي اللذات البدنية وما تناله الرماح اللذات الخيالية ليعلم الله العلم الذي ترتب عليه الجزاء من يخافه بالغيب أي في حال الغيبة ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين بالغيب لتعلقه بالعقاب الذي هو من باب الأفعال وأما في الحضور فالخشية والهيبة دون الخوف والأولى بتجلي صفات الربوبية والعظمة والثانية بتجلي الذات فالخوف كما قيل من صفات النفس والخشية من صفات القلب والهيبة من صفات الروح فمن اعتدى بعد ذلك بتناول شيء من الحظؤظ فله عذاب أليم وهو عذاب الاحتجاب يا أيها الذين آمنوا لاتقتلوا الصيد وأنتم حرم أي في حال الاحرام الحقيقي ومن قتله منكم متعمدا بأن ارتكب شيئا من الحظوظ النفسانية قصدا فجزاء مثل ما قتل بأن يقهر تلك القوة التي ارتكب بها من قوى النفس البهيمية بأمر يماثل ذلك الحظ يحكم به ذوا عدل منكم وهما القوتان النظرية والعملية هديا بالغ الكعبة الحقيقية وذلك بافنائها في الله عز و جل أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما أي أو بستر تلك القوة بصدقة أو صيام أحل لكم صيد البحر وهو مافي العالم الروحاني من المعارف وطعامه وهو العلم النافع من المعاملات والاخلاق متاعا أي تمتيعا لكم أيها السالكون بطريق الحق وللسيارة المسافرين سفر الآخرة وحرم عليكم صيد البر وهو في العالم الجسماني من المحسوسات والحظوظ النفسانية واتقوا الله في سيركم واعلموا أنكم اليه تحشرون بالفناء فاجتهدوا في السلوك ولا تقفوا مع الموانع وهو الله تعالى الميسر للرشاد واليه المرجع والمعاد
جعل الله الكعبة أي صيرها وسميت كعبة على ما روى عكرمة ومجاهد لأنها مربعة والتكعيب التربيع وتطلق لغة على كل بيت مربع وقد يقال : التكعيب للارتفاع قيل : ومنه سميت الكعبة كعبة لكونها مرتفعة ومن ذلك كعب الانسان لارتفاعه ونتوه وكعبت المرأة إذا نتأ ثديها وقيل : سميت كعبة لانفرادها من البناء ورده الكرماني إلى ما قبله لأن المنفرد من البناء نات من الأرض
وقوله تعالى البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لأنه عرف بالتعظيم عندهم فصار في معنى المعظم أو لأنه وصف بالحرام المشعر بحرمته وعظمته وذكر البيت كالتوطئة له فالاعتراض بالجمود من الجمود دون التوضيح وقيل : جيء به للتبيين لأنه كان لخثعم بيت يسمونه بالكعبة اليمانية
وجوز أن يكون بدلا وان يكون مفعولا ثانيا لجعل وقوله سبحانه : قياما للناس نصب على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الاول كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى بل هذا هو المفعول الثاني
وقيل : جعل بمعنى خلق فتعدى لواحد وهذا حال ومعنى كونه قياما لهم أنه سبب اصلاح أمورهم وجبرها دينا ودنيا حيث كان مأمنا لهم وملجأ ومجمعا لتجارتهم يأتون اليه من كل فج عميق ولهذا قال سعيد بن جبير : من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه ومن ذلك أخذ بعضهم أن التجارة في الحج ليست مكروهة وروي هذا عن ابي عبد الله رضي الله تعالى عنه
وأخرج ابن جرير و أبن أبي حاتم عن ابن زيد قال : كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض
(7/35)
ولم يكن في العرب ملوك كذلك فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع به بعضهم عن بعض فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله فالمراد من الناس على هذا العرب خاصة وقيل : معنى كونه قياما للناس كونه أمنا لهم من الهلاك فما دام البيت يحج إليه الناس لم يهلكوا فان هدم وترك الحج هلكوا وروي ذلك عن عطاء وقرأ ابن عامر قيما على أنه مصدر كشيع وكان القياس أن لا تقلب واوه ياء لكنها لما قلبت في فعله الفا تبعه المصدر في إعلال عينه والشهر الحرام أي الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة فالتعريف للعهد بقرينة قرنائه واختار غير واحد إرادة الجنس على ماهو الأصل والقرينة والقرينة المعهودة لا تعين العهد والمراد الأشهر الحرم وهي أربعة واحد فرد وثلاثة سرد فالفرد رجب والسرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهو وما بعده عطف على الكعبة فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر أي وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضا قياما لهم والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر والحج بها أظهر وقيل : الكلام على ظاهره فقد أخرج ابو الشيخ عن أبي مجلز أن أهل الجاهلية كان الرجل منهم اذا أحرم تقلد قلادة من شعر فلا يتعرض له أحد فاذا حج وقضى حجه تقلد قلادة من إذخر وقيل : كان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد ولا يتعرض له أحد بسوء وكانوا لايغيرون في الأشهر الحرم وينصلون فيها الاسنة ويهرع الناس فيها الى معايشهم ولا يخشون أحدا وقد توارثوا على ما قيل ذلك من دين إسماعيل عليه السلام ذلك أي الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الاحرام وغيره ومحل اسم الاشارة النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وبه تتعلق اللام فيما بعد وقيل : محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الحكم الذي قررناه ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الحكم هو الحق والحكم الاول هو الاقرب والتقدير شرع ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض فان تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل الوقوع وجلب المنافع الأولية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع واحاطة علمه سبحانه وأن الله بكل شيء واجبا كان أو ممتنعا أو ممكنا عليم
79
- كامل العلم وهذا تعميم إثر تخصيص وقدم الخاص لأنه كالدليل على ما بعد
وجوز أن يراد بما في السموات والارض الاعيان الموجودة فيهما وبكل شيء الامور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والاحوال التي هي من قبيل المعاني والاظهار في مقام الاضمار لما مر غير مرة
اعلموا أن الله شديد العقاب وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك والعقاب كما قيل هو الضرر الذي يقارنه استخفاف واهانة وسمي عقابا لأنه يستحق عقيب الذنب وأن الله غفور رحيم
89
- وعن إن حافظ على مراعاة حرماته تعالى وأقلع عن الانتهاك ووجه تقديم الوعيد ظاهر ما على الرسول إلا البلاغ ولم يأل جهدا في تبليغكم ما أمرتم به فأي عذر لكم بعد وهذا تشديد في إيجاب القيام بما أمر به سبحانه
والبلاغ اسم اقيم مقام المصدر كما أشير إليه والله يعلم ما تبدون وما تكتمون
99
- فيعاملكم بما
(7/36)
تستحقونه في ذلك قل يا محمد لايستوي الخبيث والطيب أي الرديء والجيد من كل شيء فهو حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين والتحذير عن رديهما وان كان سبب النزول أن المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهوا عن ذلك على ما مر ذكره وقيل : نزلت في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : سا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي وإني جمعت من بيعها مالا فهل ينفعني ذلك إن عملت فيه بطاعة الله تعالى فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن أنفقته في حج أو جهاد لم يعدل جناح بعوضة إن الله تعالى لايقبل إلا الطيب
وعن الحسن واختاره الجبائي الخبيث الحرام والطيب الحلال وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال : الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون وتقديم الخبيث في الذكر للأشعار من أول الأمر بأن القصور الذي ينبيء عنه عدم الاستواء فيه لا في مقابله وقد تقدمت الاشارة إلى تحقيقه ولو أعجبك أي وإن سرك أيها الناظر بعين الاعتبار كثرة الخبيث
وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد أمته والوا لعطف الشرطية على مثلها المقدر وقيل الحال أي لو لم يعجبك ولو أعجبك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل لايستوي أي لايستويان كائنين على كل حال مفروض وقد حذفت الاولى في مثل هذا التركيب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فان الشيء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلها عليه فاتقوا الله يا أولي الألباب في تحري الخبيث وان كثر وآثروا عليه الطيب وان قل فان مدار الاعتبار هو الخيرية والرداءة لا الكثرة والقلة وفي الاكثر أحسن كل شيء أقله ولله در من قال : والناس ألف منهم كواحد وواحد كالالف إن أمر عنا وفي الآية كما قيل إشارة الى غلبة أهل الاسلام وإن قلوا لعلكم تفلحون
1
- راجين أن تنالوا الفلاح والفوز بالثواب العظيم والنعيم المقيم يا أيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشياء ظاهر اللفظ كما قال ابن يعيش يقضي بكونها جمع شيء لأن فعلا إذا كان معتل العين يجمع في القلة على أفعال نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ الا إنهم رأوها غير مصروفة في حال التنكير كما هنا فتشعبت آراء الجماعة فيها فذهب سيبويه والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث وان الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو الحلفاء والطرفاء فأشياء في الأصل شيئاء بهمزتين بينهما ألف فقدمت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة على الفاء لاستثقال همزتين بينهما ألف قبلهما حرف علة وهو الياء والهمزة الثانية زائدة للتأنيث ولذلك لا تتصرف ووزنها لفعاء وقصارى ما في هذا المذهب القلب وهو كثير في كلامهم ارتكبوه مع عدم الثقل كما في أينق وقسى ونحوهما فارتكابه مع الثقل أولى فلا يضر الاعتراض بانه خلاف الأصل وذهب الفراء إلى أنها جمع شيء بياء مشددة وهمزة بوزن هين ولين إلا أنهم خففوه فقالوا شيء كميت في ميت وبعد التخفيف جمعوه على أشياء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء بزنة أفعلاء فاجتمعت همزتان إحداهما لام الكلمة والاخرى للتأنيث فخففوا ذلك بقلب الهمزة الأولى ياء ثم حذفوا الياء الأولى التي هي عين الكلمة فصار وزنه أفعلاء وقيل : في تصريف هذا المذهب أنهم حذفوا الهمزة التي هي لام الكلمة لأن الثقل حصل بها فوزنها أفعاء ومنع الصرف لهمزة التأنيث واستحسن هذا المذهب لو كان
(7/37)
علىعلى أصل شيء بالتخفيف شيء بالتشديد دليل وذهب الأخفش إلى أنها جمع شيء بوزن فلس وأصلها أشيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ثم عمل فيه ما مر ورده الزجاج بأن فعلا لايجمع على أفعلاء وناظر ابو عثمان المازني الأخفش في هذه المسألة كما قال ابو علي في التكملة فقال : كيف تصغر أشياء قال أقول أشيا فقال المازني : هلا رددتها إلى الواحد فقلت شييئات لأن أفعلا لاتصغر فلم يأت بمقنع أنتهى وأراد أن افعلاء من أمثلة الكثرة وجموع الكثرة لاتصغر على ألفاظها وتصغر باحادها ثم يجمع الواحد بالألف والتاء كقولك : في تصغير درهم دريهمات والجواب كما قال ابو علي عن ذلك أن أفعلاء هنا جاز تصغيرها على لفظها لأنها قد صارت بدلا من افعال بدلالة استجازتهم إضافلا العدد إليها كما أضيف إلى أفعال ويدل على كونها بدلا أيضا تذكيرهم العدد المضاف إليها في وقلهم ثلاثة أشياء فكما صارت بمنزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة المذكورة كذلك يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو أنها صارت بمنزلة أفعال وإن كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة التقليل والتكثير في شيء واحد انتهى ومراده كما قال ابن الشجري بأن فعلاء في هذا الموضع صارت بدلا من أفعال أنه كان القياس في جمع شيء أشياء مصروفا كقولك في جمع فيء أفياء على أن تلك همزة الجمع هي همزة الواحد ولكنهم أقاموا أشياء التي همزتها للتأنيث مقام أشياء التي وزنها أفعال واستدلاله في تجويز تصغير اشياء على لفظها بأنها صارت بدلا من أفعال بدلالة أنهم أضافوا العدد إليها وألحقوه الهاء فقالوا ثلاثة أشياء مما لايقوم به دلالة لأن أمثلة القلة وأمثلة الكثرة يشتركن في ذلك ألا ترى انهم يضيفون العدد إلى أبنية الكثرة إذا عدم بناء القلة فيقولون : ثلاثة شسوع وخمسة دراهم وأما الحاق الهاء في قولنا : ثلاثة أشياء وإن كان أشياء مؤنثا لأن الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول ثلاثة أنبياء وخمسة أصدقاء وسبعة شعراء فتلحق الهاء وان كان لفظ الجمع مؤنثا وذلك لأن الواحد نبي وصديق وشاعر كما أن واحد أشياء شيء فأي دلالة في قوله : ويدل على كونها بدلا تذكيرهم العدد المضاف اليها الخ ثم قال : والذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال : إنما جاز تصغير أفعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأن وزنه نقص بحذف لامه فصار أفعاء فشبهوه بافعال فصغروه وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كضيف وأضياف
وأورد عليه منع الصرف من غير علة ويلزمه صرف أبناء وأسماء وقد استشعر الكسائي هذا الايراد وأشار إلى دفعه بأنه على أفعال ولكن كثرت في الكلام فأشبهت فعلاء فلم يصرف كما لم يصرف حمراء وقد جمعوها على أشاوى كعذراء وعذارى واشياوات كحمراء وحمراوات فعاملوا أشياء وإن كانت على أفعال معاملة حمراء وعذراء في جمعي التكسير والتصحيح ورد بأن الكثرة تقتضي تخفيفه وصرفه وأيده بعضهم بأن العرب قد اعتبروا في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظي كما قيل في سراويل إنه منع من الصرف لشبهه بمصابيح وأجروا ألف الالحاق مجرى ألف التأنيث المقصورة ولكن مع العملية فاعتبروا مجرد الصورة فليكن هذا من ذلك القبيل وقيل : إنها جمع شيء ووزنها افعلاء جمع فعيل كنصيب وأنصباء وصديق وأصدقاء وحذفت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة وفتحت الياء لتسلم الألف فصارت أشياء بزنة أفعاء وجعل
(7/38)
مكي تصريفه كمذهب الأخفش إذا أبدل الهمزة ياء ثم حذفت إحدى الياءين وحسن حذفها من الجمع حذفها من المفرد لكثرة الاستعمال وعدم الصرف لهمزة التأنيث الممدودة وهو حسن إلا أنه يرد عليه كما ورد على الأخفش مع إيرادات أخر وقيل غير ذلك وللشهاب على الرحمة
أشياء لفعاء في وزن وقد قلبوا لاما لها وهي قبل القلب شيئاء وقيل أفعال لم تصرف بلا سبب منهم وهذا لوجه الرد إيماء أو أشياء وحذف اللام من ثقل وشيء أصل شيء وهي آراء وأصل أسماء اسما وكمثل كسا فاصرفه حتما ولا تغررك أسماء واحفظ وقل للذي ينسى العلا سفها حفظت شيئا وغابت عنك اشياء وظاهر صنيعه كغيره يشير إلى اختيار مذهب الخليل وسيبويه وقال غير واحد : إنه الأظهر لقولهم في جمعها أشاوي فجمعوها كما جمعوا صحراء على صحاري وأصله كما قال ابن الشجري أشايا بالياء لظهورها في اشياء لكنهم أبدلوها واوا على غير قياس كابدالها واوا في قولهم جبيت الخراج جباوة وأيضا يدل على أنها مفرد قولهم في تحقيرها أشيئاء كصحيراء ولو كانت جمعا لقالوا شيآت على ما تقدمت الاشارة وتمام البحث في أمالي ابن الشجري إن تبد لكم تسؤكم صفلا لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها وعطف عليها قوله سبحانه : وإن تسألوا عنها حين ينزل القرءان تبد لكم أي بالوحي كما ينبيء عنه تقييد السؤال بحين نرول القرآن لأن المساءة في الشرطية الأولى معلقة بابداء تلك الأشياء لا بالسؤال عنها فعقبها جل شأنها بما هو ناطق باستلزام السؤال عنها لابدائها الموجب المحذور فضمير عنها راجع إلى تلك الأشياء وليس على حد عندي درهم ونصفه كما وهم والمراد بها ما لا خير لهم فيه من نحو التكاليف الصعبة التي لايطيقونها والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لابدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لايجابها عليهم بطريق التشديد لاساءتهم الأدب وتركهم ما هو الأولى بهم من الاستسلام لأمر الله تعالى من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أيها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجوا فقال رجل وهو كما قال ابن الهمام الأقرع بن حابس وصرح به أحمد والدارقطني والحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين أكل عام يا رسول الله فسكت عليه الصلاة و السلام حتى قالها ثلاثا فقال صلى الله عليه و سلم : او قلت : نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال صلى الله عليه و سلم : ذروني ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فاذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه وذكر كما قال ابن حبان أن الآية نزلت لذلك
ؤاخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر وقال : لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله تعالى عنه : فجعلت أنظر يمينا وشمالا فاذا كل رجل لأف رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال : يا رسول الله من أبي قال : أبوك حذافة ثم أنشأ عمر رضي الله تعالى عنه فقال : رضينا بالله تعالى ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه و سلم نبيا نعوذ بالله تعالى من الفتن ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
(7/39)
ماما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط وذكر ابن شهاب أن أم ابن حذافة وأسمه عبد الله قالت له لما رجع اليها : ما سمعت قط أعق منك امنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابن حذافة : لو الحقني بعبد أسود للحقته وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذه الآية نزلت يومئذ ووجه إتصالها بما قبلها على الرواية الأولى ظاهر جدا لما أن الكلام فيما يتعلق بالحج
وذكر الطبرسي في ذلك ثلاث أوجه الأول أنها متصلة بقوله تعالى لعلكم تفلحون لأن من الفلاح ترك السؤال بما لاخير فيه والثاني أنها متصلة بقوله سبحانه : ما على الرسول الا البلاغ أي فانه بلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم والثالث أنها متصلة بقوله جل وعلا : والله يعلم ما تبدون وما تكتمون أي فلا تسألوا عن تلك الأشياء فتظهر سرائركم عفا الله عنها أي عن المسألة المدلول عليها بلا تسألوا
والجملة إستئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا سبحانه عنها وفيه من حثهم على الجد في الانتهاء عنها ما لا يخفى أي عفا الله تعالى عن مسئلتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء لمسئلتكم أو المراد تجاوز عن عقوبتكم الأخروية واختاره بعض المحققين وجوز غير واحد كون الجملة صفة أخرى لاشياء والضمير المجرور عائد اليها وهو الرابط على معنى لا تسألوا عن أشياء لم يكلفكم الله تعالى بها واعترض بأن هذا يقتضي أن يكون الحج قد فرض اولا ثم نسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوما للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعله وصفا له وكلاهما ضروري الانتفاء قطعا على أنه يستدعي اختصاص النهي بمسئلة الحج ونحوها مع أن النظم الكريم صريح في أنه مسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوءهم ابداؤها سواء كانت من قبيل الاحكام والتكاليف الموجبة لمساءتهم بانشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبة وتشديد كمسئلة الحج لولا عفوه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعة قبل السؤال الموجبة للمساءة بالاخبار بها كما في سبب النزول على ما أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال : أين أبي قال : في النار وفسر بعضهم العفو عنها بالكف عن بيانها والتعرض لشأنها وحينئذ يوشك أن لا يتوجه هذا الاعتراض أصلا وإلى التفسير الاول يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج مجاهد عنه أنه كان إذا سئل عن السيء لم يجيء فيه أثر يقول : هو من العفو ثم يقرأ هذه الآية والذي ذهب إليه شيخ الإسلام عليه الرحمة هو الاستئناف لا غير لما علمت واستبعاد بعض الفضلاء ليس في محله ثم قال : إن قلت تلك الأشياء غير موجبة للمساءة البتة بل هي محتملة لإيجاب المسرة أيضا لأن إيجابها للاولى وإن كان من حيث وجودها فهي من حيث عدمها موجبة للاخرى قطعا وليست إحدى الحيثيتين محققة عند السائل وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت بل ظهورها بحيثية إيجابها للمسرة فلم يعبر عنها بحيثية إيجابها للمساءة قلت : لتحقيق المنهي عنه كما ستعرفه مع مافيه من تأكيد النهي وتشديده لأن تلك الحيثية هي الموجبة للانتهاء لا الحيثية ولا حيثية التردد بين الايجابين فان قيل : الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال
(7/40)
عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزمات لابدائها فلم تخلف الابداء في مسئلة الحج ولم يفرض كل عام قلنا : لوقوع السؤال قبل النهي وما في الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعده إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد ولا تخلف فيه
فان قيل : ما ذكر إنما يتمشى فيما إذا كان السؤال عن الامور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر في التكاليف الشاقةوأما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتسنى لأن ما يتعلق به الابداء هو الذي وقع في نفس الأمر ولا مرد له سواء كان السؤال قبل أو بعد وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسئلة ابن حذافة فيكون هو متعلق الابداء لا غيره فيتعين التخلف حتما قلنا : لا احتمال له فضلا عن تعينه فان المنهي عنه في الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الكوجبة للمساءة الواقعة في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال : أين أبي لا ما يعمها وغيرها مما ليس بواقع لكنه محتمل الوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف في صورة عدم الوقوع
وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهي عن السؤال عن الأشياء التي يوجب ابداؤها المساءة البتة إما بأن تكون تلك الأشياء بعرضية الوقوع فتبدي عند السؤال بطريق الانشاء عقوبة وتشديدا كما في صورة كونها من قبيل التكاليف الشاقة وإما بأن تكون واقعة في نفس الأمر قبل السؤال فتبدى عنده بطريق الاخبار بها فالتخلف ممتنع في الصورتين معا ومنشأ توهمه عدم الفرق بين المنهي عنه وغيره بناء على عدم امتياز ما هو موجود أو بعرضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وماليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم وفائدة هذا الإبهام الانتهاء عن تلك الأشياء على الإطلاق حذار ابداء المكروه انتهى وهو تحرير لم يسبق اليه والله غفور حليم
101
- أي مبالغ في مغفرة الذنوب والاغضاء عن المعاصي ولذلك عفا سبحانه عنكم ولم يعاقبكم بما فرط منكم والجملة إعتراض تذييلي مقرر لما سبق من عفوه تعالى
قد سألها أي المسئلة فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به والمراد سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال قوم وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير المضاف أيضا فالضمير في موقع المفعول به وذلك من باب الحذف والايصال والمراد سأل عنها وقيل : لا حاجة إلى جعله من ذلك الباب لأن السؤال هنا إستعطاء وهو يتعدى بنفسه كقولك : سألته درهما بمعنى طلبته منه لا استخبار كما في صدر الآية واختلف في تعيين القوم فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هم قوم عيسى عليه الصلاة و السلام سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها وقيل : هم قوم صالح عليه السلام سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها وقيل : هم قوم موسى عليه السلام سالوه أن يريهم الله تعالى جهرة أو سألوه بيان البقرة
وعن مقاتل هم بنو إسرائيل مطلقا كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم وعن السدي هم قريش سألوا النبي صلى الله عليه و سلم أن يحول الصفا ذهبا وقال الجبائي : كانوا يسألونه صلى الله عليه و سلم عن أنسابهم فاذا أخبرهم عليه الصلاة و السلام لم يصدقوا ويقولوا : ليس الأمر كذلك ولا يخفى عليك الغث والسمين من هذه الأقوال وأن بعضها يؤيد حمل السؤال على الاستعصاء وبعضها يؤيد حمله على الاستخبار والحمل على الاستخبار اولى وإلى تعينه ذهب بعض العلماء من قبلكم متعلق بسألها وجوز كونه متعلقا بمحذوف وقع صفة لقوم واعترض
(7/41)
بأن ظرف الزمان لايكون صفة الجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها وأجيب بأن التحقيق أن هذا مشروط بما إذا عدمت الفائدة أما إذا حصلت فيجوز كما أشبهت الجثة المعنى في تجددها ووجودها وقتا دون وقت نحو الليلة الهلال بخلاف زيد يوم السبت وما نحن فيه مما فيه فائدة لأن القوم لا يعلم هل هم ممن مضى أم لا
وقال ابو حيان وهو تحقيق بديع غفلوا عنه : هذا المنع إنما هو في الزمان المجرد عن الوصف أما إذا تضمن وصفا فيجوز كقبل وبعد فإنهما وصفان في الأصل فاذا قلت جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي متقدم عليه ولذا وقع صلة للموصول ولو لم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرد لم يجز أن يقع صلة ولا صفة قال تعالى : والذين من قبلكم ولا يجوز والذين اليوم وما نحن فيه من المتضمن لا المجرد وهو ظاهر وما قيل من أنه ليس من المتنازع فيه في شيء لأن الواقع صفة هو الجار والمجرور لا الظرف نفسه ليس بشيء لأن دخول الجار عليه إذا كان من أو في لا يخرجه عن كونه في الحقيقة هو الصفة أو نحوها فليفهم ثم أصبحوا بها أي بسببها وهو متعلق بقوله سبحانه وتعالى : كافرين
201
- قدم عليه رعاية الفواصل
وقرأ أبي قد سألها قوم بينت لهم فأصبحوا بها كافرين ما جعل الله من بحيرة هي فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق والتاء للنقل إلى الأسمية أو لحذف الموصوف قال الزجاج : كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وشقوها وامتنعوا عن نحرها وركوبها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى وهي البحيرة وعن قتادة أنها إذا نتجت خمسة أبطن نظر في الخامس فان كان ذكرا ذبحوه وأكلوه وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى ولا يستعملها أحد في حلب وركوب ونحو ذلك وقيل : البحيرة هي الانثى التي تكون خامس بطن وكانوا لايحلون لحمها ولبنها للنساء فان ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها وعن محمد بن اسحاق ومجاهد أنها بنت السائبة وستأتي إن شاء الله تعالى قريبا وكانت تهمل أيضا
وقيل : هي التي ولدت خمسا أو سبعا وقيل : عشرة ابطن وتترك هملا وإذا ماتت حل لحمها للرجال خاصة
وعن ابن المسيب أنها التي منع لبنها للطواغيت فلا تحلب وقيل : هي التي ولدت خمس اناث فشقوا أذنها وتركوها هملا وجعلها في القاموس على هذا القول من الشاء خاصة وكما تسمى بالبحيرة تسمى بالغزيرة أيضا
وقيل : هي السقب الذي إذا ولد شقوا أذنه وقالوا : اللهم إن عاش فعيي وإن مات فذكي فإذا مات أكلوه وقيل : هي التي تترك في المرعى بلا راع ولا سائبة هي فاعلة من سيبته أي تركته وأهملته فهو سائب وهي سائبة أو بمعنى مفعول كعيشة راضية واختلف فيها فقيل هي الناقة تبطن عشرة ابطن اناث فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ونسب إلى محمد بن اسحاق وقيل : هي التي تسيب للاصنام فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها الا أبناء السبيل ونحوهم وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وقيل : هي البعير يدرك نتاج نتاجه فيترك ولا يركب وقيل : كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال : هي سائبة أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما وكانت لاتمنع عن ماء ولا كلأ ولا تركب وقيل : هي ما ترك ليحج عليه وقيل : هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث ولا وصيلة هي فعيلة بمعنى فاعلة وقيل : مفعولة
(7/42)
والأول أظهر كما ينبيء عن ذلك بيان المراد بها واختلف فيه فقال الفراء : هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين وإذا ولدت في آخرها عناقا وجديا قيل : وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء وتجري مجرى السائبة وقال الزجاج : هي الشاة اذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وقيل : هي الشاة تلد ذكرا ثم أنثى فتصل أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وإذا ولدت ذكرا قالوا : هذا قربان لآلهتنا وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الشاة تنتج سبعة ابطن فان كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء الا أن تموت فتأكلها الرجال والنساء وكذا إن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك معه ولا ينتفع بها الا الرجال دون النساء فان ماتت اشتركوا فيها وقال ابن قتيبة : إن كان السابع ذكرا ذبح وأكلوا منه دون النساء وقالوا : خالصة لذكورنا محرمة على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى فكقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه وقال محمد بن اسحاق : وهي الشاة تنتج عشرة أناث متواليات في خمسة أبطن فما ولدت بعده للذكور دون الاناث فإذا ولدت ذكرا وأنثى معا قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها وقيل : هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة فان كان جديا ذبحوه وإن كان انثى ابقوها وإن كان ذكرا وانثى قالوا : وصلت أخاها وقال بعضهم : الوصيلة من الابل وهي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تيني بولادة انثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر وقيل : هي الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن لا ذكر بينهما
ولا حام هو الفاعل من الحمى بمعنى المنع واختلف فيه أيضا فقال الفراء : هو الفحل إذ لقح ولد ولده فيقولون : قد حمى ظهره فيهمل ولا يطرد عن ماء ولا مرعى وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وهو قول أبي عبيدة والزجاج أنه الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى وعن الشافعي أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشرة سنين وقيل : هو الفحل ينتج له سبع أناث متواليات فيحمي ظهره وجمع بين الأقوال المتقدمة في كل تلك الأنواع بأن العرب كانت تختلف أفعالهم فيها والمراد في هذه الجملة رد وابطال لما ابتدعه أهل الجاهلية ومعنى ما جعل ما شرع ولذلك عدى إلى مفعول واحد وهو بحيرة وما عطف عليها و من سيف خطيب أتي بها لتأكيد النفي وأنكر بعضهم مجيء جعل بمعنى شرع عن أحد من أهل اللغة وجعلها هنا للتصيير والمفعول الثاني محذوف أي ما جعل البحيرة ولا ولا مشورعة وليس كما قال فان الراغب نقل ذلك عن أهل اللغة وهو ثقة لايفترى عليهم
ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون : الله سبحانه وتعالى أمرنا بهذا وامامهم عمرو بن لحي فانه في المشهور أول من فعل تلك الأفاعيل الشنيعة أخرج ابن جرير وغيره عن ابي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لاكثم بن الجون : يا أكثم عرضت علي النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا إنك مؤمن وهو كافر
(7/43)
أنه أول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة و السلام وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي وجاء في خبر ءاخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ووصل الوصيلة
وأخرج عبد الرزاق وغيره عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأعرف أول من سبب السوائب ونصب النصب وأول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة و السلام قالوا : من هو يا رسول الله اقل عليه الصلاة و السلام : عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه وأني لأعرف أول من بحر البحائر قال من هو يا رسول الله قال عليه الصلاة و السلام : رجل من بني مدلج كانت له نقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال : هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب البانهما وركب ظهورهما فلقد رأيته في النار وهما تقضمانه بأفواههما وتطآنه بأخافافهما واستدل بالآية على تحريم هذه الأمور وهو ظاهر واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع واستدل ابن الماجشون بها على منع أن يقول الرجل لعبده : أنت سائبة وقال : لايعتق بذلك
وجعل بعض العلماء من صور السائبة إرسال الطير ونحوه وصرح بعض علمائنا بأنه لا ثواب في ذلك ولعل الجاعل لايكتفي بهذا القدر ويدعي الاثم فيه والناس عن ذلك غافلون وأكثرهم لا يعقلون
301
- أن ذلك إفتراء باطل فما تقدم فعل الرؤساء وهذا شأن الأتباع وهم المراد بالأكثر كما روي عن قتادة والشعبي وظاهر سياق النظم الكريم أنهم المقلدون لأسلافهم المفترين من معاصري رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا بيان لقصور عقولهم عن الاهتداء بأنفسهم
وقوله تعالى وإذا قيل لهم أي الذين عبر عنهم بأكثرهم على سبيل الهداية والارشاد إلى الحق : نعالوا إلى ما أنزل الله من الكتاب المبين للحلال والحرام والايمان به وإلى الرسول الذي أنزل عليه ذلك لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال وقالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنا في هذا الشأن فلا نلتفت لغيره بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادي إلى الحق وانقيادهم للداعي إلى الضلال وما موصولة اسمية وجوز أن تكون نكرة موصوفة والوجدان المصادفة و عليه متعلق به أو حال من مفعوله وجوز أن يكون بمعنى العلم عليه عليه في موضع المفعول الثاني أولو كان ءاباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون
401
- ذهب الراغب إلى أن الواو للعطف وصرح غير واحد أنه على شرطية أخرى مقدرة قبلها والهمزة للتعجب وهي داخلة على مقدر في الحقيقة أي أيكفيهم ذلك لو لم يكن آباؤهم جهلة ضالين واو كانوا كذلك وكلتا الجملتين في موقع الحال أي أيكفيهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حال مفروض وعلى هذا لا يلزم كون الجملة الاستفهامية الانشائية حالا ليحتاج توجيه ذلك إلى نظر دقيق وحذفت الجملة الأولى للدلالة عليها دلالة واضحة وهو حذف مطرد في هذا الباب لذلك كما في قولك : أحسن إلى زيد ولو أساء اليك فان الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى
وجواب لو كما قال أبو البقاء محذوف لظهور أنفهامه مما سبق وقدره يتبعونهم ويجوز أن يقدر حسبهم ذلك أو يقولون وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا في نفس الأمر وفائدة ذلك المبالغة في الانكار والتعجيب وقيل : الواو للحال والهمزة لانكار الفعل على هذه الحال والمراد نفي
(7/44)
صحة الاقتداء بالجاهل الضال والحال ما يفهم من الجملة أي كائنين على هذا الحال المفروض فما قيل : إنهم جعلوا الواو للحال وليس ما دخلته الواو حالا من جهة المعنى بل ما دخلته لو أي واو كان الحال أن آباءهم لا يعلمون فيفعلون ما يقتضيه علمهم ولا يهتدون بمن له علم ناشيء من قلة التأمل وذلك غريب من حال ذلك القائل وأغرب من ذلك ما قيل : إن المعنى أنهم هل يكفيهم ما عليه آباؤهم ولو كان آباؤهم جهلة ضالين أي هل يكفيهم الجهل والضلال اللذان كان عليهما آباؤهم ويوشك أن يكون هذا من الجهل والضلال فيما يليق بالتنزيل
واستدل بالآية على أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد من غير أن يعلم أن لمن قلده حجة صحيحة على ما قلده فيه حتى قالوا : إن للمقلد دليلا أجماليا وهو دليل من قلده فتدبر يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم أي الزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة المعاصي والاصرار على الذنوب فعليكم أسم فعل أمر نقل إلى ذلك مجموع الجار والمجرور لا الجار وحده كما قيل وهو متعد إلى المفعول به بعده وقد يكون لازما والمراد به الأمر بالتمسك كما في قوله صلى الله وعليه وسلم : عليك بذات الدين وذكر أبو البقاء بأن الكاف والميم في موضع جر لأن اسم الفعل هو المجموع وعلى وحدها لم تستعمل اسما للفعل بخلاف رويدكم فان الكاف والميم هناك للخطاب فقط ولا موضع لها لأن رويدا قد استعمل اسما لأمر المواجه من غير كاف الخطاب وإلى ذلك ذهب سيبويه وهو الصحيح ونقل الطبرسي أن استعمال على مع الضمير اسم فعل خاص فيما إذا كان الضمير للخطاب فلو قلت عليه زيدا لم يجز وفيه خلاف
وقرأ نافع في الشواذ أنفسكم بالرفع والكلام حينئذ مبتدأ وخبر أي لازمة عليكم أنفسكم أو حفظ أنفسكم لازم عليكم بتقدير مضاف في المبتدأ وقوله تعالى : لا يضركم من ضل إذا اهتديتم يحتمل الرفع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله وينصره قراءة أبي حيوة لايضركم ويحتمل أن يكون مجزوما جوابا للأمر والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا يضركم وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة اليها من الراء المدغمة والأصل لا يضرركم ويجوز أن يكون نهيا مؤكدا للأمر السابق والكلام على حد لا أرينك ههناه وينصر احتمال الجزم قراءة من قرأ لايضركم بالفتح ولا يضركم بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره بمعنى ضره كذمه وذامه وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأجيب عن ذلك بوجوه الأول ان الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فان ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال فقد أخرج ابن جرير عن قيس بن أبي حازم قال : صعد ابو بكر رضي الله تعالى عنه منبر رسول الله صلى الله وعليه وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس انكم لتتلون آية من كتاب الله سبحانه وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله تعالى في كتابه أشد منها يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم الآية والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب وفي رواية يا ايها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وانكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله وعليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب
وفي رواية ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد قال : خطب أبو بكر الصديق الناس فكان في خطبته قال
(7/45)
رسول الله صلى الله وعليه وسلم : يا أيها الناس لا تتكلوا على هذه الآية يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم الخ ان الداعر ليكون في الحي فلا يمنعونه فيعمهم الله تعالى بعقاب ومن الناس من فسر الاهتداء هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وروي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب والثاني أن الآية تسلية لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يقبل منه غلبة الفسق وبعد عهد الوحي فقد أخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سأله رجل عن هذه الآية فقال : أيها الناس انه ليس بزمانها ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال : فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فان الله تعالى يقول : عليكم أنفسكم فقال : انها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال : ألا فليبلغ الشاهد الغائب فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال : يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز و جل : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : يا معاذ مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فاذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا واعجاب كل امريء برأيه فعليكم أنفسكم لايضركم ضلالة غيركم فان من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر فللعامل منهم يومئذ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم قلت : يا رسول الله خمسين منهم قال : بل خمسين منكم أنتم
والثالث أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة واسفا على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون ايمانهم فنزلت
والرابع أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة والخامس أنها للأمر بالثبات على الايمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه فقد قيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت أباك فنزلت وقيل : معنى الآية يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم لايضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك والتعبير عن أهل الدين بالانفس على حد قوله تعالى : لاتقتلوا أنفسكم ونحوه والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه ولا يخفى ما فيه إلى الله لا إلى أحد سواه مرجعكم رجوعكم يوم القيامة جميعا بحيث لايتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم فينبئكم بالثواب والعقاب بما كنتم تعملون
501
- في الدنيا من أعمال الهداية والضلال فالكلام وعد ووعيد للفريقين وفيه كما قيل دليل على أن أحدأ لايؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لايثاب بذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك يا أيها الذين ءامنوا استئناف مسوق لبيان الاحكام المتعلقة بامور دنياهم اثر بيان الاحوال المتعلقة بامور دينهم وفيه اظار كمال العنايةبمضمونه ما لا يخفى شهادة بينكم إذا حضر احدكم الموت حين الوصية اثنان للشهادة معان الاحضار والقضاء والحكم والحلف والعلم والايصاء والمراد بها هنا الاخير كما نص عليه جماعة من المفسرين وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك وقرأها الجمهور بالرفع على أنها مبتدأ و اثنان خبرها والكلام على حذف مضاف
(7/46)
من الأول أي ذو شهادة بينكم اثنان أو من الثاني أي شهادة بينكم شهادة اثنين والتزم ذلك ليتصادق المبتدأ والخبر وقيل : الشهادة بمعنى الشهود كرجل عدل فلا حاجة إلى إلى التزام الحذف وقيل : الخبر محذوف و اثنان مرفوع بالمصدر الذي هو شهادة والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد إثنان وإلى هذا ذهب الزجاج والشهادة فيه على معناها المتبادر منها لا بمعنى الاشهاد وكلام البعض يوهم ذلك وهو في الحقيقة بيان لحاصل معنى الكلام
وزعم بعضهم إنها بمعنى الإشهاد الذي هو مصدر المجهول و اثنان قائم مقام فاعله وفيه أن الاتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل وهو اسم ظاهر وإن جوزه البصريون كما في شرح التسهيل للمرادي فقد منعه الكوفيون وقالوا : إنه هو الصحيح لأن حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح و إذا ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الميت والمراد مشارفته وظهور أمارته وحين الوصية اما بدل من إذا وفيه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها
وجوز أن يتعلق بنفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو يحضر وأن يكون شهادة مبتدأ خبره إذا حضر أي وقوع الشهادة في وقت حضور الموت وحين الوصية على الأوجه السابقة ولا يجوز فيه أن يكون ظرفا للشهادة لئلا يخبر عن الموصول قبل تمام صلته أو خبره حين الوصية و إذا منصوب بالشهادة ولا يجوز نصبه بالوصية وإن كان المعنى عليه لأن معمول المصدر لا يتقدمه على الصحيح مع ما يلزم من تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو لايجوز في غير غير لأنها بمنزلة لا و إثنان على هذين الوجهين إا فاعل يشهد مقدرا أو خبر لشاهدان كذلك
وعن الفراء أن شهادة مبتدأ و إثنان فاعله سد مسد الخبر وجعل المصدر بمعنى الأمر أي ليشهد وفيه نيابة المصدر عن فعل الطلب وهو ضعيف عند غيره لأن الاكتفاء بالفاعل مخصوص بالوصف المتعمد و إذا وحين عليه منصوبان على الظرفية كما مر وإضافة شهادة إلى الظرف على التوسع لأنه متصرف ولذا قريء تقطع بينكم بالرفع وقيل : إن الاصل ما بينكم وهو كناية عن التخاصم والتنازع وحذف ما جائز نحو وإذا رأيت ثم أي ما ثم وأورد عليه أن ما الموصولة لا يجوز حذفها ومنهم من جوزه
وقرأ الشعبي شهادة بينكم بالرفع والتنوين فبينكم حينئذ منصوب على الظرفية وقرأ الحسن 0 شهادة بالنصب والتنوين وخرج ذلك ابن جني على أنها منصوبة بفعل مضمر اثنان فاعله أي ليقم شهادة بينكم إثنان
وأورد عليه أن حذف الفعل وإبقاء فاعله لم يجز النحاة إلا إذا تقدم ما يشعر به كقوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال في قراءة من قرأ يسبح بالبناء للمفعول وقول الشاعر
ليبك يزيد ضارع لخصومه
أو أجيب به نفي أو استفهام وذلك ظاهر والآية ليست واحدا من هذه الثلاثة
وأجيب بأن ما ذكر من الاشتراط غير مسلم بل هو شرط الأكثرية واختار في البحر وجهين للتخريج الأول أن تكون شهادة منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر و إثنان مرتفع به والتقدير ليشهد بينكم إثنان فيكون من باب ضربا زيدا إلا أن الفاعل في ضربا يستند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب وهذا يستند إلى الظاهر لأن معناه ما علمت والثاني أن تكون مصدرا لا بمعنى الأمر بل خبرا ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلا كقوله
وقوفا بها صحبي على مطيهم
فارتفاع
(7/47)
صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفا فانه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر والتقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحكدم الموت إثنان ذوا عدل منكم أي من المسلمين كما روي عن ابن عباس وابن مسعود والباقر رضي الله تعالى عنهم وابن المسيب عليه الرحمة أو من أقاربكم وقبيلتكم كما روي عن الحسن وعكرمة وهو الذي يقتضيه كلام الزهري وهما صفتان لاثنان أو ءاخران عطف علي إثنان في سائر احتمالاته
وقوله سبحانه من غيركم صفة له أي كائنان من غيركم والمراد بهم غير المسلمين من أهل الكتاب عند الأولين وغير الأقربين من الأجانب عند ألآخرين واختار الأول جماعة من المتأخرين حتى قال الجصاص : إن التفسير الثاني لا وجه له لأن الخطاب توجه أولا إلى أهل الايمان فالمغايرة تعتبر فيه ولم يجر للقرابة ذكر ويدل لذلك أيضا سبب النزول وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى إن أنتم ضربتم في الأرض أي سافرتم وارتفاع أنتم بفعل مضمر يفسره ما بعده والتقدير إن ضربتم فلما حذف العل وجب أن يفصل الضمير ليقوم بنفسه وهذا رأي جمهور البصريين وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناء على جواز وقوع المبتدأ بعد إن الشرطية كجواز وقوعه بعد إذا فجملة ضربتم لا موضع لها على الأول للتفسير وموضعها الرفع على الخبرية على الثاني
وقوله تعالى فاصابتكم مصيبة الموت أي قاربتم الأجل عطف على الشرط وجوابه محذوف فان كان الشرط قيدا في أصل الشهادة فالتقدير إن ضربتم في الأرض الخ فليشهد إثنان منكم أو من غيركم وإن كان شرطا في العدول إلى آخرين بالمعنى الذي نقل عن الأولين فالتقدير فاشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم وحينئذ تفيد الآية أنه لايعدل في الشهادة إلى غير المسلمين إلا بشرط الضرب في الأرض وروي ذلك عن شريح رضي الله تعالى عنه وقوله سبحانه : تحبسونهما أي تلزمونهما وتصبرونهما للتحليف استئناف كأنه قيل كيف نعمل إذا ارتبنا بالشاهدين فقال سبحانه : تحبسونهما من بعد الصلاة أي صلاة العصر كما روي ن ابي جعفر رضي الله تعالى عنه وقتادة وابن جبير وغيرهم والتقييد بذلك لأنه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون الحلف الكاذب فيه ولأنه وقت تصادم ملئكة الليل والنهار وتلاقيهم وفي ذلك تكثير للشهود منهم على صدق الحالف وكذبه فيكون أخوف وعد ذلك بعضهم من باب التغليظ على المستحلف بالزمان وعندنا لا يلزم التغليظ به ولا بالمكان بل يجوز للحاكم فعله
وعن الحسن أن المراد بها صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما وجوز أن تكون اللام للجنس أي بعد أي صلاة كانت والتقييد بذل لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ناهيك عن التفوه بالكذب والزور وارتكاب الفحشاء والمنكر وجعل الحسن التقييد بذلك دليلا على ما تقدم من تفسيره وجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لآخران وجملة الشرط معترضة فلا يضر الفصل بها وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتعقب بأنه يقتضي اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله
(7/48)
للأولين أيضا على اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر باشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وان أمكن اتمام التقريب باعتبار قيد الأرتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتي ولا يخفى ما فيه
والخطاب للموصى لهم وقيل للورثة وقيل : للحكام والقضاة
وقوله عز و جل فيقسمان بالله عطف على تحبسونهما ان ارتبتم أي شككتم في صدقهما وعدم استبدادهما بشيء من التركة والجملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما سبق من الحبس والاقسام عليه والشرط مع جوابه المحذوف معترض بين القسم وجوابه أعني قوله تعالى لانشتري به ثمنا وقد سيق من جهته تعالى للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قسم وشرط فاكتفي بذكر جواب سابقهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالبا لأن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما في قولك : والله إن أتيتني لأكرمنك ولا ريب في استحالته ههنا لأن القسم وجوابه كلام الشاهدين والشرطية كما علمت من جهته سبحانه وتعالى ولا يتوهم أن إن هنا وصيلة لأنها مع أن الواو لازمة لها ليس المعنى عليها كما لا يخفى
(7/49)
وزعم بعضهم جواز كونها شرطية ولا نشتري دليل الجواب والمعنى إن ارتبتم فلا ينبغي ذلك أو فقد أخطأتم لأنا لسنا ممن يشتري به ثمنا قليلا وهو بعيد جدا وتخلوا الآية عليه ظاهرا من شرط التحليف وضمير به عائد إلى الله تعالى والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله سبحانه أي من حرمته تعالى عرضا من الدنيا بأن نزيلها بالحلف الكاذب وحاصله لا نحلف بالله تعالى حلفا كاذبا لأجل المال وقيل : انه عائد الى القسم على تقدير مضاف أي لانستبدل بصحة القسم بالله تعالى عرضا من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب وقيل : إلى الشهادة باعتبار أنها قول ولا بد من تقدير مضاف أيضا وتقدير مضاف في ثمنا أي ذا ثمن مما لم يدع اليه إلا قلة التأمل ولو كان المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام ذا قربى أي قريبا منا وهذا تأكيد لتبريهما من الحلف الكاذب ومبالغة في التنزه عنه كأنهما قالا : لانأخذ لأنفسنا بدلا من ذلك مالا ولو أنضم اليه رعاية جانب الاقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية جانب الأقرباء لكنها كما قال شيخ الاسلام م ليست ضميمة المال بل هي راجعة إليه وقيل : الضمير للمشهود له على معنى لا نحابي أحدا بشهادتنا ولو كان قريبا منا وجواب لو محذوف اعتمادا على ما سبق عليه أي لا نشتري به ثمنا والجملة معطوفة على جملة أخرى محذوفة أي لو لم يكن ذا قربى ولو كان الخ وجعل السمين الواو للحال وقد تقدم لك ما ينفعك هنا
وجوز بعضهم ارجاع الضمير للشاهد وقدر جوابا للو غير ما قدرناه أي ولو كان الشاهد قريبا يقسمان وجعل فائدة ذلك دفع توهم اختصاص الاقسام بالاجنبي ولا يخفى ما في التركيب حينئذ من الركاكة التي لاينبغي أن تكون في كلام البعض فضلا عن كلام رب الكل ونشهد بالله سبحانه وتعالى أن حمل كلامه عز و جل عن مثل ذلك مما لا يليق ولا نكتم شهادة الله أي الشهادة التي أمرنا سبحانه وتعالى باقامتها وألزمنا أداءها
(7/0)
فالاضافة للاختصاص او لادنى ملابسة والجملة معطوفة على لا نشتري به داخل معه في حيز القسم وروي عن الشعبي أنه وقف على شهادة بالهاء ثم ابتدأ آلله بالمد والجر على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وليس هذا من حذف حرف الجر وابقاء عمله وهو شاذ كقوله
(7/50)
أشارت كليب بالاكف الاصابع
لأن ذلك حيث لا تعويض وفي الجلالة الكريمة تعويض همزة الاستفهام عن المحذوف وهل الجر به أو بالعوض قولان وروي عنه وكذا عن الحسن رضي الله تعالى عنه ويحيى بن عمر وابن جرير وآخرون الله بدون مد وفي ذلك احتمالان
الأول أن الحذف من غير عوض فيكون على خلاف القياس الثاني أن الهمزة المذكورة همزة الاستفهام وهي همزة قطع عوضت عن الحرف ولكنها لم تمد وهذا أولى من دعوى الشذوذ ولذا اختاره في الدر المصون وقريء بتنوين الشهادة ووصل الهمزة ونصب اسم الله تعالى من غير مد وخرجه ابو البقاء على أنه منصوب بفعل القسم محذوفا إنا إذا لمن اةثمين
601
- أإ إذا فعلنا ذلك وكتمنا والعدول عن آثمون إلى ما ذكر للمبالغة وقريء لملاثمين بحذف الهمزة وإلقاء حركتهما على اللام وادغام النون فيها فان عثر أي اطلع يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا إطلع عليه
وقال الغوري : تقول عثرت إذا إطلعت على ما كان خفيا وهو مجاز بحسب الأصل من قولهم : عثر إذا كبا وذلك أن العاثر ينظر إلى موضع عثاره فيعرفه ويطلع عليه وقال الليث : إن مصدر عثر بمعنى اطلع العثور وبمعنى كبا العثار وحينئذ يخفى القول بالمجاز لأن اختلاف المصدر ينافيه فلا تتأتى تلك الدعوى إلا على ما قاله الراغب من اتحاد المصدرين وفي القاموس عثر كضرب ونصر وعلم وكرم عثر أو عير او عثارا كبا والعثور الاطلاع كالعثر وظاهر هذا أن لا مجاز ويفهم منه أيضا الاتحاد في بعض المصادر فافهم والمراد فان عثر بعد التحليف على أنهما أي الشاهدين الحالفين استحقا إثما أي فعلا ما يوجبه من تحريف وكتم بأن ظهر بأيديهما شيء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه وقال الجبائي : الكلام على حذف مضاف أي استحقا عقوبة اثم فآخران أي فرجلان آخران وهو مبتدأ خبر
قوله تعالى : يقومان مقامهما والفاء جزائية وهي أحدى مصوغات الابتداء بالنكرة ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته وهو قوله سبحانه : من الذين استحق عليهما الأوليان وقيل : هو خبر مبتدأ محذؤف أي فالشاهدان آخران وجملة يقومان صفته والجار والمجرور صفة أخرى وجوز ابو البقاء أن يكون حالا من ضمير يقومان وقيل : هو فاعل فعل محذوف أي فليشهد آخران وما بعدع صفة له وقيل : مبتدأ خبره الجار والمجرور والجملة الفعلية صفته وضمير مقامهما في جميع هذه الأوجه مستحق للذين استحقا وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف و استحق بالبناء للفاعل على قراءة عاصم في رواية حفص عنه وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي رضي الله تعالى عنهم وفاعله الأوليان والمراد من الموصول أهل الميت ومن الأوليين الاقربان اليه الوارثان له الأحقان بالشهادة لقربهما واطلاعهما وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا اثما إلا أنه أقيم المظهر مقام ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف
(7/0)
ومفعول استحق محذوف واختلفوا في تقديره فقدره الزمحشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة ليظهروا بهما كذب الكاذبين وقدره ابو البقاء وصيتهما وقدره ابن عطية ما لهم وتركتهم
وقال الامام : أن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما وسبب أولويتهما أن الميت عينهما للوصية فمعنى استحق عليهم الاوليان خان في مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما وعلى هذا لاضرورة إلى القول بحذف المفعول وقرأ الجمهور استحق عليهم الاوليان ببناس إستحق للمفعول واختلفوا في مرجع ضميره والأكثرون أنه الاثم والمراد من الموصول الورثة لأن استحقاق الاثم عليهم كناية عن الجناية عليهم ولاشك أن الذين جني عليهم وارتكب الذنب بالقياس اليهم هم الورثة وقيل : إنه الايصاء وقيل : الوصية لتأوليها بما ذكر وقيل : المال وقيل : الفعل مسند إلى الجار والمجرور وكذا اختلفوا في توجيه رفع الاوليان فقيل : إنه مبتدأ خبره آخران أي الأوليان بأمر الميت آخران وقيل : بالعكس واعترض بأن فيه الاخبار عن النكرة بالمعرفة وهو مما اتفق على منعه في مثله وقيل خبر مبتدأ مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني وقيل : بدل من آخران وقيل عطف بيان عليه ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهم شرطوه فيه حتى جوز تنكيره نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط وقيل : هو بدل من فاعل يقومان
وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه حتى يلزم خلو تلك الجملة الواقعة خبرا أو صفة عن الضمير على أنه لو طرح وقام هذا مقامه كان من وضع الظأهر موضع الضمير فيكون رابطا وقيل : هو صفة آخران وفيه وصف النكرة بالمعرفة والاخفش أجازه هنا لأن النكرة بالوصف قربت من المعرفة قيل : وهذا على عكي
ولقد أمر على اللئيم يسبني
فانه يؤول فيه المعرفة بالنكرة وهذا أول فيه النكرة بالمعرفة أو جعلت في حكمها للوصف ويمكن كما قال بعض المحققين أن يكون منه بأن يجعل الاوليان لعدم تعيينهما كالنكرة
وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل استحق والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الاوليين منهم للشهادة كما قال الزمخشري أو أثم الاوليين كما قيل وهو تثنية الاولى قلبت الفه ياء عندها وفي على في عليهم أوجه الاول أنها على بابها والثاني أنها بمعنى في والثالث أنهما بمعنى من وفسر استحق بطلب الحق وبحق وغلب وقرأ يعقوب و خلف و حمزة و عاصم في رواية أبي بكر عنه استحق عليه الالين ببناء استحق للمفعول والاولين جمع أول المقابل للآخر وهو مجرور على أنه صفة الذين أو بدل منه أو من ضمير عليهم أو منصوب على المدح ومعنى الاولية التقدم على الأجانب في الشهادة وقيل : التقدم في الذكر لدخولهم في يا أيها الذين آمنوا
وقرأ الحسن الاولان بالرفع وهو كما قدمنا في الاوليان وقريء الاولين بالتثنية والنصب وقرأ ابن سيرين الاوليين بياءين تثنية اولى منصوبا وقريء الاولين بسكون الوا وفتح اللام جمع اولى كاعلين واعراب ذلك ظأهر
فيقسمان بالله عطف على يقومان والسببية ظاهرة وقوله سبحانه لشهادتنا أحق من شهادتهما جواب القسم والمراد بالشهادة عند الكثير ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اليمين كما في قوله عز و جل فشهادة أحدهم اربع شهادات بالله وسميت اليمين شهادة على ما قاله الطبرسي لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك أي ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاسحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها أولى بالقبول من يمينهما مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للاثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة
(7/51)
وصيغة التفضيل إنما هي لامكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما وقيل : إن الشهادة على معناها المتبادر عند الاطلاق وسيأتي إنشاء الله تعالى عن بعض المحققين غير ذلك
وقوله عز شأنه وما اعتدينا عطف على الجواب أي ما تجاوزنا في شهادتنا الحق وما اعتدينا عليهما بابطال حقهما وقوله تعالى إنا إدا لمن الظألمين
701
- استئناف مقرر لما قبله أي انا إذا اعتدينا فيما ذكر لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه ومعنى الآيتين عند غير واحد من المفسرين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي دينه أو نسبه فان لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ثم أن وقع ارتياب في صدقهما أقسما على صدقهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فان اطلع على كذبهما بامارة حلف آخران من أهل الميت وادعى أن الحكم منسوخ إذا كان الاثنان شاهدين فانه لايحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وقيل : إن التحليف لم ينسخ لكنه مشروط بالريبة
وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما وفي بعض كتب الحنفية أن الشاهد إن لم يجد من يزكيه يجوز تحليفه احتياطا وهذا خلاف المفتى به كما بسط في محله وكذا ادعى البعض النسخ أيضا على تقدير أن يكون المراد بالشاهدين في السفر غير مسلمين لأن شهادة الكافر على المسلم لا تقبل مطلقا وروى حديث النسخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال بعضهم : لا نسخ وأجاز شهادة الذمي على المسلم في هذه الصورة
وروي ن ابي موسى الأشعري أنه حكم لما كان واليا على الكوفة بمحضر من الصحابة بشهادة ذميين بعد تحليفهما في وصية مسلم في السفر وإلى ذلك ذهب الامام أحمد بن حنبل وقال آخرون : الاثنان وصيان وحكم تحليفهما إذا ارتاب الورثة غير منسوخ وما أفادته الآية من رد اليمين على الورثة ليس من حيث أنهم مدعون وقد ظهرت خيانة الوصيين فردت اليمين عليهما خلافا للشافعي بل من حيث أنهم صاروا مدعى عليهم لانقلاب الدعوى فان الوصي المدعى عليه أولا صار مدعيا للملك والورثة ينكرون ذلك ويدل عليه ما أخرجه البخاري في التأريخ والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وخلق آخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء وقيل نداء بالنون فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالله تعالى ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجد الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله سبحانه لشهادتهما أحق من شهادتهما وان الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيهم نزلت يا أيها الذين آمنوا الخ هذا وادعى بعض المحققين أن الشهادة ههنا لا يمكن أن تكون بمعناها المتبادر بوجه ولا تتصور لأن شهادتهما إما على الميت ولا وجه لها بعد موته وانتقال الحق إلى الورثة وحضورهم أو على الوارث المخاصم وكيف يشهد الخصم على خصمه فلابد من التأويل وذكر أن الظاهر أن تحمل في قوله سبحانه شهادة بينكم على الحضور أو الاحضار أي إذا حضر الموت المسافر فليحضر من يوصي إليه بايصال ماله لوارثه مسلما فان لم يجد فكافرا والاحتياط ان يكونا إثنين فاذا جاءا بما عندهما وحصل ريبة في كتم بعضه فليحلفا لأنهما مودعان مصدقان بيمينهما فان وجد ما خانا فيه وادعيا أنهما تملكاه منه
(7/52)
بشراء ونحوه ولا بينة لهما على ذلك يحلف المدعي عليه على عدم العلم بما ادعياه من التملك وأنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه والشهادة الثانية بمعنى العلم المشاهد أو ما هو بمنزلة لأن الشهادة المعاينة فالتجوز بها عن العلم الصحيح قريب والشهادة الثالثة إما بهذا المعنى أو بمعنى اليمين وعلى هذا وهو مما أفاضه الله تعالى علي ببركة كلامه سبحانه فلا نسخ في الآية ولا اشكال وما ذكروه كله تكلف لم يصف من الكدر لذوق ذائق وسبب النزول وفعل الرسول صلى الله عليه و سلم مبين لما ذكر انتهى
ولعل تخصيص الاثنين اللذين يحلفان باحقية شهادتهما على ما قيل لخصوص الواقعة وإلا فان كان الوارث واحد حلف وان تعدد حلف المتعدد كما بين في الكتب الفقهية وما ذكر من أن سبب النزول الخ مبين لما قرره فيه بعض خفاء إذ ليس في الخبر أن الوارثين حلفا على عدم العلم وفي غيره ما هو نص في الحلف على الثبات فقد روي في خبر أطول مما تقدم أن عمرو بن العاص والمطلب بن ابي وداعة السهميين قاما فحلفا بالله سبحانه بعد العصر أنهما أي تميما وعديا كذبا وخانا نعم قال الترمذي في الجامع بعد روايته لذلك الخبر : إنه حديث غريب وليس اسناده بصحيح وأيضا في حمل الشهادة على شيء مما ذكره في قوله سبحانه ولا نكتم شهادة الله خفاء وادعى هو نفسه أن حمل الشهادة على اليمين بعيد لأنها إذا اطلقت فهي المتعارفة فتأمل فقد قال الزجاج : إن هذه الآية من أشكل ما في القرآن وقال اواحدي : روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الاحكام وقال الامام : اتفق المفسرون على أن هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما وقال المحقق التفتازاني : اتفقوا على أن هذه الآية أصعب ما في القرءان حكما واعرابا ونظما
وقال الشهاب : أعلم أنهم قالوا : ليس في القرآن أعظم إشكالا وحكما إعرابيا وتفسيرا من هذه الآية والتي بعدها يعني يا أيها الذين آمنوا الخ وقوله تعالى فان عثر الخ حتى صنفوا فيها تصانيف مفردة قالوا : ومع ذلك لم يخرج أحد من عهدتها وذكر الطبرسي أن الآيتين من اعوص القرآن حكما ومعنى واعرابا وافتخر بما أتي فيهما ولم يأت بشيء إلى غير ذلك من أقوالهم وسبحان الخبير بحقائق كلامه ذلك كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذكر مستتبع للمنافع وارد على مقتضى الحكمة والاشارة إلى الحكم السابق تفصيله وقيل : إلى تحليف الشاهدين وقيل : إلى الحبس بعد الصلاة أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أي اقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على حقيقتها من غير تغيير لها خوفا من العذاب الأخروي وهذه حكمة التحليف الذي تقدم أولا والجار الاول متعلق بيأتوا والثاني بمحذوف وقع حالا من الشهادة وقوله تعالى : أو يخافوا أن ترد أيمان أي الى الورثة فيحلفوا بعد أيمانهم التي حلفوها عطف على مقدر ينبيء عنه المقام كأنه قيل : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة محققة ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة المحرمة في سائر الأديان أو يخافوا أن ترد الايمان إلى الورثة فيحلفوا ويأخذوا ما في أيديهم فيخجلوا من ذلك على رؤس الاشهاد فينزجروا عن الخيانة وهو بيان لحكمة شرعية قيام الآخرين فأي هذين الخوفين وقع حصل المقصد الذي هو الاتيان بالشهادة على وجهها وقيل : إنه عطف على يأتوا أي ذلك الحكم الذي ذكرناه أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها مما كنتم تفعلون وأقرب إلى خوف الفضيحة وجعل الشهاب هذا العطف على
(7/53)
حد قوله :
علفتها تبنا وماء باردا
وجوز السمين كون أو بمعنى الواو كما جوز جعلها لأحد الشيئين على ما هو الأصل فيها فتدبر وجمع ضمير يأتوا ويخافوا على ما قيل لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس والظرف بعد متعلق بترد كما هو الظاهر وجوز السمين وهو ضعيف أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لايمان
اتقوا الله في مخالفة أحكامه التي من جملتها ما ذكر والجملة على ما قيل عطف على مقدر أي احفظوا أحكام الله سبحانه واتقوا واسمعوا سمع أجابة وقبول جميع ما تؤمرون به والله لا يهدي القوم الفاسقين
801
- تذييل لما تقدم والمراد فان لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين خارجين عن الطاعة والله تعالى لايهدي القوم الخارجين عن طاعته إلى ما ينفعهم أو إلى طريق الجنة وقوله سبحانه : يوم يجمع الله الرسل قيل ظرف لقوله عز و جل : لايهدي ونظر فيه الحلبي من حيث أنه سبحانه لا يهديهم مطلقا لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا وهذا احتمال ذكره الزمخشري ونقل عن المغربي أيضا وهو ظاهر على تقدير أن يكون المراد لا يهديهم إلى طريق الجنة وفيه مراعة لمذهب الاعتزال من أن نفي الهداية المطلقة لا يجوز على الله جل وعلا ولذلك خصص المهدي إليه وقيل : إنه بدل من مفعول واتقوا فهو حينئذ مفعول لا ظرف
وتعقبه ابو حيان بأن فيه بعدا لطول الفصل بالجملتين وقال الحلبي : لا بعد فان هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الاولى وهو عند القائلين بالدلية بدل اشتمال وتعقب ذلك العلم العراقي بان الانصاف أن بدل الاشتما ههنا ممتنع لأنه لابد فيه من اشتمال البدل على المبدل منه أو بالعكس وهنا يستحيل ذلك ولهذا قال الحلبي : لابد في هذا الوجه من تقدير مضاف ليصح والمراد اتقوا عقاب الله يوم وحينئذ يصح انتصاب اليوم على الظرفية وقال المحقق التفتازاني : وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف بل بمعنى أن ينتقل الذهن اليه في الجملة ويقتضيه بوجه اجمالي مثلا إذا قيل اتقوا الله يتبادر الذهن منه إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم من أيام أفعاله يجب الاتقاء أيوم جمعه سبحانه للمرسل أم غير ذلك واعترض بأنه اشترط في ذلك أن لا يكونظرفية وهذا ظرف زمان لو أبدل منه لأوهم ذلك وقيل : إنه منصوب بمضمر معطوف على اتقوا الخ أي واحذروا أو واذكروا يوم الخ فان تذكير ذلك اليوم الهائل مما يضطرهم إلى تقوى الله تعالى وتلقي أمره بسمع الاجابة وقيل : منصوب بقوله سبحانه واسمعوا بحذف مضاف أي واسمعوا خبر ذلك اليوم
وقيل : منصوب بفعل مؤخر قد حذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعة ما يقع فيه كأنه قيل : يوم يجمع الله الرسل الخ يكون من الاحوال والاهوال ما لا يفي ببيانه نطاق المقال وتخصيص الرسل بالذكر مع أن ذلك يوم مجموع له الناس لأبانة شرفهم وأصالتهم والأيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناء على ظهور كونهم أتباعا لهم وقيل ولا يخفى لطفه على بعض الاحتمالات الآتية في الآية : لأن المقام مقام ذكر الشهداء والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الشهداء على أمم كما يدل على ذلك قوله تعالى : ونزعنا من كل أمة شهيدا ففي بيان حالهم وما يقع لهم يوم القيامة وهم هم من وعظ الشهداء الذين البحث فيهم وما لا يخفى وبهذا تتصل الآية بما قبلها أتم اتصال وإظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار لتربية
(7/54)
المهابة وتشديد التهويل فيقول لهم 0 ما أجبتم أي في الدنيا حين بلغتم الرسالة وخرجتم عن العهدة كما ينبيء عن ذلك العدول عن تصدير الخطاب بل بلغتم وفي العدول عن ماذا أجاب أممكم ما لا يخفى من الانباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة السخط والغيظ عليهم والسؤال لتوبيخ أولئك أيضا وإلا فهو سبحانه علام الغيوب و ماذا متعلق بأجبتم على أنه مفعول مطلق له أي أي إجابة أجبتم من قبل أممكم إجابة قبول أو إجابة رد وقيل : التقدير بماذا أجبتم أي بأي شيء اجبتم على أن يكون السؤال عن الجواب لا الإجابة فحذف حرف الجر وانتصب المجرور وضعف بأن حذف حرف الجر وانتصاب مجروره لا يجوز إلا في الضرورة كقوله :
(7/55)
تمرون الديار لم تعوجوا
وكذا تقديره مجرورا وقال العوفي : إن ما اسم استفهام مبتدأ و إذا بمعنى الذي خبره و أجبتم صلته والعائد محذوف أي ما الذي أجبتمبه واعترض بأنه لا يجوز حذف العائد المجرور إلا إذا جر الموصول بمثل ذلك الحرف الجار واتحد متعلقاهما وغاية ما أجابوا به عن ذلك أن الحذف وقع على التدريج وهو كما ترى قالوا استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل : فماذا يقول الرسل عليهم الصلاة والسلام حينئذ فقيل : يقولان لا علم لنا والتعبير بالماضي للدلالة على التقرر والتحقق كنفخ في الصورة وغيره ونفي العلم عن أنفسهم مع علمهم بماذا أجيبوا كما تدل عليه شهادتهم عليهم الصلاة والسلام على أممهم هنالك حسبما نطقت به بعض الآيات ليس على حقيقته بل هو كناية عن إظهار التشكي والالتجاء إلى الله تعالى بتفويض الأمر كله اليه عز شأنه
وقال ابن الانباري : إنه على حقيقته لكنه ليس لنفي العلم بماذا أجيبوا عند التبليغ ومدة حياتهم عليهم الصلاة والسلام بل بما كان في عاقبة الأمر وءاخره الذي به الاعتبار واعترض بأنهم يرون ءاثار سوء الخاتمة عليهم فلا يصح أيضا نفي العلم بحالهم وبما كان منهم بعد مفارقتهم لهم وأجيب بأن ذلك إنما يدل على سوء الخاتمة وظهور الشقاوة في العاقبة لا على حقيقة الجواب بعد الانبياء عليهم الصلاة والسلام فلعلهم أجابوا إجابة قبول ثم غلبت عليهم الشقوة وتعقب بأنه من المعلوم أن ليس المراد بماذا أجبتم نفس الجواب الذي يقولونه أو الاجابة التي تحدث منهم بل ما كانوا عليه في أمر الشريعة من الامتثال والانقياد أو عكس ذلك وفي رواية عن الحسن أن المراد لا علم لنا كعلمك لأنك تعلم باطنهم ولسنا نعلم ذلك وعليه مدار فلك الجزاء وقيل : المراد من ذلك النفي تحقيق فضيحة أممهم أي أنت أعلم بحالهم منا ولا يحتاج إلى شهادتنا
وأخرج الخطيب في تأريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد نفي العلم نظرا إلى خصوص الزمان وهو أول الأمر حين تزفر جهنم فتجثوا الخلائق على الركب وتنهمل الدموع وتبلغ القلوب الحناجر وتطيش الاحلام وتذهل العقول ثم أنهم يجيبون في ثاني الحال وبعد سكون الروع واجتماع الحواس وذلك وقت شهادتهم على الأمم وبهذا أجاب رضي الله تعالى عنه نافع بن الازرق حين سأله عن المنافاة بين هذه الآية وما أثبت الله تعالى لهم من الشهادة على أممهم في ءاية أخرى وروي أيضا عن السدي والكلبي ومجاهد وهو اختيار الفراء وأنكره الجبائي وقال : كيف يجوز القول بذهولهم من هول يوم القيامة مع قوله سبحانه : لايحزنهم الفزع الأكبر وقوله عز و جل : لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقد نقل ذلك عنه الطبرسي ثم قال : ويمكن أن يجاب عنه بأن الفزع الأكبر دخول النار وقوله سبحانه : لا خوف
(7/0)
عليهم إنما هو كالبشارة بالنجاة من أهوال ذلك اليوم مثل ما يقال للمريض لابأس عليك ولا خوف
وقيل : إن ذلك الذهول لم يكن لخوف ولا حزن وإنما هو من باب العوم في بحار الاجلال لظهور ءاثار تجلي الجلال واعترض شيخ الاسلام على ما تقدم بأن قوله سبحانه وتعالى : إنك أنت علام الغيوب
901
- في موضع التعليل ولا يلائم ما ذكر و علام صيغة مبالغة والمراد الكامل في العلم و الغيوب جمع غيب وجمع وإن كان مصدرا على ما قاله السمين لاختلاف أنواعه وإن أريد به الشيء الغائب أو قلنا إنه مخفف غيب فالامر واضح وقريء علام بالنصب على أن الكلام قد تم عند إنك أنت ونصب الوصف على المدح أو النداء أو على أنه بدل من إسم إن ومعنى إنك أنت إنك الموصوف بصفاتك المعروفة والكلام على طريقة
أنا أبو النجم وشعري شعري
وقرأ ابو بكر وحمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع وقد سمع في كل جمع على وزن فعول كبيوت كسر أوله لئلا يتوالى ضمتان وواو إذ قال الله يا عيسى ابن مريم بدل من يوم يجمع الله الرسل وقد نصب باضمار اذكر وقيل : في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء وصيغة الماضي لما مر آنفا من الدلالة على تحقق الوقوع والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عز و جل وبين الكل على وجه الاجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين وتخصيص عيسى عليه السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة و السلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتفصيله أعظ عليهم وأجلب لحسراتهم وإظهار الاسم الجليل لما مر و عيسى مبني عند الفراء ومتابعيه إا عن ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادى وفتحه عند الجمهور وهذا إذا أعرب ابن صفة لعيسى أما إذا أعرب بدلا أو بيانا فلا يجوز تقدير الفتحة أجماعا كما بين في كتب النحو و على في قوله تعالى : إذكر نعمتي عليك وعلى والدتك متعلقة بنعمتي جعل مصدرا أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالا من نعمة ان جعل إسما أي إذكر نعمتي كائنة عليك الخ وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد وليس المراد كما قال شيخ الاسلام بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه السلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى واعتدادا بها وتلذذا بذكرها على رؤوس الاشهاد وليكون حكاية ذلك على ما أنبا عنه النظم الكريم توبيخا للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليه السلام افراطا وتفريطا وإبطالا لقولهما جميعا إذ أيدتك ظرف لنعمتي أي اذكر انعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت ذلك وقيل : بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها
وجوز ابو البقاء أن يكون مفعولا به على السعة وقريء آيدتك بالمد ووزنه عند الزمخشري أفعلتك وعند ابن عطية فاعلتك وقال ابو حيان : ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فان كان يؤايد فهو فاعل
(7/56)
وإن كان يؤيد فهو أفعل ومعناه معنى أيد واحد وقيل : معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما كما قيل متقاربان لأن النصر قوة بروح القدس أي جبريل عليه السلام أو الكلام الذي يحيي به الدين ويكون سببا للطهر عن أوضار الآثام أو تحيي بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليه السلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحا مقدسة طاهرة مشرقة نورانية عليوة وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة و السلام مما لا خفاء فيه وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك
تكلم الناس في المهد أي طفلا صغيرا وما النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلا إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه والظرف في موضع الحال من ضمير تكلم
وجوز أن يكون ظرفا للفعل والجملة إما إستئناف مبين لتأييده عليه الصلاة و السلام أو في موضع الحال من الضمير المنصوب في أيدتك كما قال ابو البقاء والمهد معروف و عن الحسن أن المراد به حجر أمه عليهما السلام وأنكر النصارى كلامه عليه الصلاة و السلام في المهد وقالوا إنما تكلم عليه السلام أوان ما يتكلم الصبيان وقد تقدم مع جوابه
وقوله تعالى : وكهلا للايذان على ما قيل بعدم تفاوت كلامه عليه الصلاة و السلام طفولية وكهولة لا لأن كلا منهما ءاية فان التكلم في الكهولة معهود من كل أحد وقال الامام : إن الثاني أيضا معجزة مستقلة لأن المراد تكلم الناس في الطفولة وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه عليه الصلاة و السلام حين رفع لم يكن كهلا وهذا مبني على تفسير الكهل بمن وخطه الشيب ورأيت له بحالة أو من جاوز اربعا وثلاثين سنة إلى إحدى وخمسين وعيسى عليه الصلاة و السلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام
وقيل : رفع وهو ابن أربع وثلاثين وما صح أنه عليه الصلاة و السلام وخطه الشيب وأما لو فسر بمن جاوز الثلاثين فلا يتأتي هذا القول كما لا يخفى
وقال بعض : الأولى أن يجعل وكهلا تشبيها بليغا أي تكلمهم كائنا في المهد وكائنا كالكهل وأنت تعلم أن أخذ التشبيه من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف وإذ علمتك عطف على إذ أيدتك أي واذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك من غير معلم الكتاب والحكمة أي جنسهما وقيل : الكتاب الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب والتوراة والانجيل خصا بالذكر إظهارا لشرفهما على الأول
وإذ تخلق أي تصور من الطين أي جنسه كهيئة الطير أي هيئة مثل هيئته باذني فتنفخ فيها أي في تلك الهيئة المشبهة فتكون بعد نفخك من غير تراخ طيرا باذني أي حيوانا يطير كسائر الطيور وقرأ نافع ويعقوب طائرا وهو إا اسم مفرد وإا اسم جمع كباقر وسامر
وتريء الأكمه والأبرص باذني عطف على تخلق وقوله سبحانه : وإذ تخرج الموتى باذني عطف على إذ تخلق أعيدت فيه إذ كما قيل لكون اخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صاروا رميما معجزة
(7/57)
باهرة حرية بتذكير وقتها صريحا وما في النظم الكريم أبلغ من تحيي الموتى فلذا عدل عنه إليه وقد تقدم الكلام في بيان من أحياهم عليه الصلاة و السلام مع بيان ما ينفعك في هذه الآية في سورة عمران
وذكر باذني هنا اربع مرات وثمة مرتين قالوا : لأن هنا للامتنان وهناك للاخبار نفاسب هذا التكرار هنا وإذا كففت بني إسرائيل عنك يعني اليهود حين هموا بقتله ولم يتمكنوا منه
إذ جئتهم بالبينات أي المعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر وهو ظرف لكففت مع اعتبار قوله تعالى : فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين
11
- وهو ما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه الصلاة و السلام المحوج إلى الكف أي كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة فكلمة من بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به وقرأ حمزة والكسائي إلا ساحر فالاشارة إلى عيسى عليه الصلاة و السلام وجعل الاشارة إليه على القراءة الأولى وتأويل السحر بساحر لتتوافق القراءتان لا حاجة إليه وإذ أوحيت إلى الحواريين أي أمرتهم في الانجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي وجاء إستعمال الوحي بمعنى ألامر في كلام العرب كما قال الزجاج وأنشد : الحمد لله الذي استقلت باذنه السماء واطمأنت أوحى لها القرار فاستقرت أي أمرها أن تقر فامتثلت وقيل : المراد بالوحي إليهم الهامه تعالى إياهم كما في قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل وأوحينا إلى أم موسى وروي ذلك عن السدي وقتادة وإنما لم يترك الوحي على ظاهره لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والحواريون ليسوا كذلك وقد تقدم المراد بالحواريين
وأن قوله تعالى أن ءامنوا بي وبرسولي مفسرة لما في الإيحاء من معنى القول وقيل : مصدرية أي بأن ءامنوا الخ وتقدم الكلام في دخولها على الأمر والتعرض لعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الايمان به عليه الصلاة و السلام والرمز إلى عدم إخراجه عليه الصلاة و السلام عن حده حطا ورفعا قالوا ءامنا طبق ما أمرنا به واشهد بأننا مسلمون
111
- مخلصون في إيماننا أو منقادون لما أمرنا به
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم منصوب باذكر على أنه ابتداء كلام لبيان ما جرى بينه عليه الصلاة و السلام وبين قومه منقطع عما قبله كما يشير اليه الاظهار في مقام الاضمار
وجوز أن يكون ظرفا لقالوا وفيه على ما قيل حينئذ تنبيه على أن إدعائهم الاخلاص مع قولهم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء لم يكن عن تحقيق منهم ولا عن معرفة بالله تعالى وقدرته سبحانه لأنهم لو حققوا وعرفوا لم يقولوا ذلك إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله عز و جل وتعقب هذا القول الحلبي بأنه خارق للإجماع وقال ابن عطية : لا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين وأيد ذلك بقوله تعالى : فمن يكفر بعد منكم وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله عز من قائل : كونوا أنصار الله الآية وبأن رسول الله صلى الله عليه و سلم مدح الزبير إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير والتزام القول بأن الحواريين فرقتان مؤمنون وهم خالصة عيسى عليه الصلاة و السلام
(7/58)
والمأمور بالتشبه بهم وكافرون وهم أصحاب المائدة وسؤال عيسى عليه الصلاة و السلام ونزول المائدة وأنزالها ليلزمهم الحجة يحتاج إلى نقل ولم يوجد ومن ذلك أجيب عن الآية بأجوبة فقيل : إن معنى هل يستطيع هل يفعل كما تقول للقادر على القيام : هل تستطيع أن تقوم مبالغة في التقاضي ونقل هذا القول عن الحسن
والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الايجاد وعلى عكسه التعبيرعن إرادة الفعل بالفعل تسمية للسبب الذي هو الارادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة الخ وقيل : إن المعنى هل يطيع ربك فيستطيع بمعنى يطيع ويطيع بمعنى يجيب مجازا ونقل ذلك عن السدي وذكر ابو شامة أن النبي صلى الله عليه و سلم عاد ابا طالب في مرض فقال له : يا ابن أخي ادع ربك أن يعافني فقال : اللهم اشف عمي فقام كأنما نشط من عقال فقال : يا ابن أخي إن ربك الذي تعبده يطيعك فقال : يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك أي يجيبك لمقصودك وحسن استعماله صلى الله عليه و سلم لذلك المشاكلة وقيل : هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والارادة فكأنهم قالوا : هل إرادة الله تعالى وحكمته تعلقت بذلك أو لا لأنه لا يقع شيء بدون تعلقها به
واعترض بأن وقله تعالى الآتي : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه وقيل : إن سؤالهم للاطمئنان والتثبت كما قال الخليل عليه الصلاة و السلام : أرني كيف تحيي الموتى ومعنى إن كنتم مؤمنين إن كنتم كاملين في الايمان والاخلاص ومعنى نعلم أن قد صدقتنا نعلم علم مشاهدة وعيان بعد ما علمناه علم إيمان وياقان ومن هذا يعلم ما يندفع به الاعتراض
وقرأ الكسائي وعلي كرم الله تعالى وجهه وعائشة وابن عباس ومعاذ وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم هل تستطيع ربك بالتاء خطابا لعيسى عليه الصلاة و السلام ونصب ربك على المفعولية
والأكثرون على أن هناك مضافا محذوفا أي سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف وعن الفارسي أنه لا حاجة إلى تقدير والمعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك وأنت تعلم أن اللفظ لا يؤدي ذلك فلابد من التقدير والمائدة في المشهور الخوان الذي عليه الطعام من ما يميد إذا تحرك أو من ماده بمعنى اعطاه فهي فاعلة إما بمعنى مفعولة كعيشة راضية واختاره الزهري في تهذيب اللغة أو يجعلها للتمكن مما عليها كأنها بنفسها معطية كقولهم للشجرة المثمرة : مطعمة وأجاز بعضهم أن يقال فيها ميدة واستشهد عليه بقول الراجز : وميدة كثيرة الألوا تصنع للجيران والاخوان واختار المناوي أن المائدة كا ما يمد ويبسط والمراد بها السفرة وأصلها طعام يتخذه المسافر ثم سمي بها الجلد المستدير الذي تحمل به غالبا كما سميت المزادة راوية وجوز أن تكون تسمية الجلد المذكور سفرة لأن له معاليق متى حلت عنه انفرج فاسفر عما فيه وهذا غير الخوان بضم الخاء وكسرها وهو أفصح ويقال له اخوان بهمزة مكسورة لأنه اسم لشيء مرتفع يهيأ ليؤكل عليه الطعام والأكل عليه بدعة لكنه جائز إن خلا من قصد التكبر وتطلق المائدة على نفس الطعام أيضا كما نص عليه بعض المحققين و من سماء يجوز أن يتعلق بالفعل قبله وأن يتعلق بمحذوف وقع صفة لمائدة أي مائدة كائنة من السماء قال أي عيسى
(7/59)
عليه الصلاة و السلام لهم حين قالوا ذلك : اتقوا الله من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات كما قال الزجاج وعن الفارسي أنه أمر لهم بالتقوى مطلقا ولعل ذلك لتصير ذريعة لحصول المأمول فقد قال سبحانه : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وقال جل شأنه : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة إن كنتم مؤمنين
211
- بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوتي أو كاملين في الايمان والاخلاص أو إن صدقتم في إدعاء الايمان والاسلام قالوا نريد أن نأكل منها أي تبرك وقيل : أكل تمتع وحاجة والإرادة إما بمعناها الظاهر أو بمعنى المحبة أي نحب ذلك والكلام كما قيل تمهيد أو عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد من السؤال إزاحة شبهتنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الأيمان والتقوى ولكن نريد الخ أو ليس مرادنا اقتراح الآيات لكن مرادنا ما ذكر
وتطمئن قلوبنا بازدياد اليقين كما قال عطاء ونعلم علم مشاهدة وعيان على ما قدمناه أن قد صدقتنا أي أنه قد صدقتنا في إدعاء النبوة وقيل : في أن الله تعالى يجيب دعوتنا وقيل : فيما ادعيت مطلقا
ونكون عليها من الشاهدين
311
- عند من لم يحضرها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر وقيل : من الشاهدين لله تعالى بالوحدانية ولك النبوة
و عليها متعلق بالشاهدين إن جعل اللام للتعريف أو بمحذوف يفسره من الشاهدين إن جعلت موصولة وجوزنا تفسير ما لا يعمل للعامل وقيل : متعلق به وفيه تقديم ما في حيز الصلة وحرف الجر وكلاهما ممنوع
ونقل عن بعض النحاة جواز التقديم في الظرف وعن بعضهم جوازه مطلقا وجوز أن يكون حالا من اسم كان أي عاكفين عليها وقريء يعلم بالبناء للمفعول و تعلم وتكون بالتاء والضمير للقلوب
قال عيسى ابن مريم لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك وأخرج الترمذي في نوادر الاصول وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة و السلام لما رأى أن قد أبوا إلا أن يدعوا لهم بها قام فالقى عنه الصوف ولبس الشعر الاسود ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله تعالى فلما قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فاصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالاصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعا ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه فما رأى ذلك دعا الله تعالى فقال : اللهم ربنا ناداه سبحانه وتعالى مرتين على ما قيل مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات وأخرى بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهارا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء وإنما لم يجعل نداء واحدا بأن يعرب ربنا بدلا أو صفة لأنهم قالوا : إن لفظ اللهم لا يتبع وفيه خلاف لبعض النحاة
وحذف حرف النداء في الأول وعوض عنه الميم وكذا في الثاني إلا أن التعويض من خواص الاسم الجليل أي يا الله يا ربنا أنزل علينا مائدة أي خوانا عليه طعام أو سفرة كذلك وتقديم الظرف على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقوله سبحانه وتعالى من السماء
(7/60)
متعلق إما بانزال أو بمحذوف وقع صفة لمائدة أي كائنة من السماء والمراد بها إما المحل المعهود وهو المتبادر من اللفظ وإا جهة العلو ويؤيد الأول ما أخرجه ابن حميد وابن ابي حاتم عن عمار بن ياسر أن المائدة التي نزلت كان عليها من ثمر الجنة وكذا روي عن وهب بن منبه
ويؤيد الثاني ما روي عن سلمان الفارسي من خبر طويل أن المائدة لما نزلت قال شمعون رأس الحواريين لعيسى عليه الصلاة و السلام يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة فقال عليه الصلاة و السلام : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية فقال شمعون : لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوأ يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه الصلاة و السلام ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا إنما هو شيء ابتدعه الله تعالى في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقلا له كن فكان في أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزكم فانه بديع قادر شاكر وقوله تعالى تكون لنا عيدا صفة مائدة و لنا خبر كان و عيدا حال من الضمير في الظرف أو في تكون على رأي من يجوز إعمالها في الحال وجوز أن يكون عيدا الخبر و لنا حينئد إما حال من الضمير في تكون او حال من عيدا لانه صفة له قدمت عليه والعيد العائد مشتق من العود ويطلق على الزمان المعهود لعودة في كل عام بالفرح والسرر وعليه للابد من تقدير مضاف والمعنى يكون نزولها لنا عيدا ويطلق على نفس السرور العائد وحينئذ لا يحتاج إلى التقدير وفي الكلام لطافة لا تخفى وذكر غير واحد أن العيد يقال لكل ما عاد عليك في وقت ومنه قول الأعشى : فوا كبدي من لاعج الحب والهوى إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها وهو واوي كما ينبيء عنه الاشتقاق ولكنهم قالوا في جمعه : أعياد وكان القياس أعواد لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها كراهة الاشتباه كما قال ابن هشام بجمع عود ونظر ذلك الحريري بقولهم هو أليط بقلبي منك أي الصق حبابه فان أصله الوا لكن قالوا ذلك ليفرق بينه وبين قولهم هو الوط من فلان ولا يخفى أن هذا مخالف لما ذكره محققوا أهل اللغة وعن الكسائي يقال : لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط وهو ألوط وأليط ثم إنهم إنما لم يعكسوا الأمر في جمع عود وعيد فيقولوا في جمع الاول أعياد وفي جمع الثاني اعواد مع حصول التفرقة أيضا اعتبارا على ما قيل للأخف في الاكثر استعمالا مع رعاية ظاهر المفرد وقرأ عبد الله تكن بالجزم على جواب الأمر لأولنا وءاخرنا أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا روي أنه نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن المعنى يأكل منها أول الناس وآخرهم والجار والمجرور عند بعض بدل من الجار والمجرور أعني لنا وقال ابو البقاء إذا جعل لنا خبرا أو حالا فهو صفة لعيدا وإن جعل صفة له كان هو بدلا من الضمير المجرور باعادة الجار وظاهره أن المبدل منه الضمير لكن أعيد الجار لأن البدل في قوة تكرار العامل وهو تحكم لأن الظأهر كما أشير اليه ابدال المجموع من المجموع ثم أن ضمير الغائب يبدل منه واما ضمير الحاضر فأجازه بعضهم مطلقا وأجازه آخرون كذلك وفصل قوم فقالوا إن أفاد توكيدا واحاطة وشمولا جاز وإلا امتنع
واستظهر بعضهم على قول الحبر أن يكون لنا خبرا أي قوتا او نافعة لنا وقرأ زيد وابن محيصن
(7/61)
والجحدري لأولانا وأخرانا بتأنيث الأول والآخر باعتبار الأمة والطائفة وكون المراد بالاولى والاخرى الدار الأولى أي الدنيا والدار الأخرى أي أةخرة مما لا يكاد يصح وءاية عطف على عيدا وقوله سبحانه وتعالى : منك متعلق بمحذوف وقع صفة له أي آية كائنة منك دالة على كما قدرتك وصحة نبوتي وارزقنا أي الشكر عليها على ما حكى الجبائي أو المائدة على ما نقل عن غير واحد والمراد بها حينئذ كما قيل ما على الخوان من الطعام أو الأعم من ذلك وهذه ولعله الأولى وأنت خير الرازقين
411
- تذييل جار مجرى التعليل أي خير من يرزقه لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا ملاحظة عوض
قال الله إني منرلها عليكم مرات عديدة كما ينبيء عن ذلك صيغة التفعيل وورود الاجابة منه تعالى كذلك مع كون الدعاء منه عليه الصلاة و السلام بصيغة الأفعال لاظهار كمال اللطف والاحسان مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسما تحقيق للوعد وإيذان بأنه سبحانه وتعالى منجز له لا محالة وإشعار بالاستمرار وهذه القراءة لأهل المدينة والشام وعاصم
وقرأ الباقون كما قال الطبرسي منزلها بالتخفيف وجعل الانزال والتنزيل بمعنى واحد فمن يكفر بعد أي بعد تنزيلها حال كونه كائنا منكم فاني أعذبه بسبب كفره ذلك عذابا هو اسم مصدر بمعنى التعذيب كالمتاع بمعنى التمتيع وقيل : مصدر محذوف الزوائد وانتصابه على المصدرية في التقديرين وقيل : منصوب على التوسع والتشبيه بالمفعول به مبالغة كما ينصب الظرف ومعمول الصفة المشبهة كذلك وجوز ابو البقاء أن يكون نصبه على الحذف والايصال والمراد بعذاب وهو حينئذ أسم ما يعذب به ولا يخفى ان حذف الجار لا يطرد في غير أن وإن عند عدم اللبس والتنوين للتعظيم أي عذابا عظيما
وقوله سبحانه وتعالى : لا أعذبه في موضع النصب على أنه صفة له والهاء في موضع المفعول المطلق كما في ظننته زيدا قائما ويقوم مقام العائد إلى الموصوف كما قيل ووجه بأنه حينئذ يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل فيكون في معنى النكرة الواقعة بعد النفي من حيث العموم فيشمل العذاب المتقدم ويحصل الربط بالعموم واورد عليه أن الربط بالعموم إنما ذكره النحاة في الجملة الواقعة خبرا فلا يقاس عليه الصفة وجواز أن يكون من قبيل ضربته ضرب زيد أي عذابا لا أعذب تعذيبا مثله وعلى هذا التقدير يكون الضمير راجعا على العذاب المقدم فالربط به
وقيل : الضمير راجع إلى من بتقدير مضافين أي لا أعذب مثل عذابه أحدا من العالمين
511
- أي عالمي زمانهم أو العالمين مطلقا وهذا العذاب إما في الدنيا وقد عذب من كفر منهم بمسخهم قردة وخنازير وروي ذلك عن قتادة وإا في الآخرة وإليه يشير ما أخرجه أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون ويدل هذا على أن المائدة نزلت وكفر البعض بعد
وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن ومجاهد أن القوم لما قيل لهم : فمن يكفر الخ قالوا : لا حاجة لنا بها فلم تنزل والجمهور على ألاول وعليه المعول فقد اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن عمار بن ياسر موقوفا ومرفوعا والوقف أصح قال : أنزلت المائدة من السماء خبزا
(7/62)
ولحما وأمروا ان لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير وكان الخبز من أرز على ماروي عن عكرمة
وروي أن عيسى عليه الصلاة و السلام لما سأله قومه ذلك فدعا أنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء تهوي إليهم وعيسى عليه الصلاة و السلام يبكي خوفا من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعوا حتى استقرت السفرة بين يديه والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا رائحة مثلها قط وخر عيسى عليه الصلاة و السلام والحواريون سجدا شكرا لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم فرأوا ما يغمهم ثم انصرفوا فأقبل عيسى عليه الصلاة و السلام ومن معه ينظرونها فإذا هي مغطاة بمنديل فقال عليه الصلاة و السلام : من أجرؤنا على كشفه وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه حتى نراها ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا فقالوا : يا روح الله وكلمته أنت أولى بذلك فقام واستأنف وضوأ جديدا ثم دخل مصلاه فصلى ركعات ثم بكى طويلا ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين وكشف عنها فاذا عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسهاخل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى ألآخر تمرات وعلى ألاخر خمس رمانات وفي رواية على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فسأله شمعون عنها وأجابه بما تقدمت روايته
ثم قالوا له عليه الصلاة و السلام : إنما نحب أن ترينا آية من هذه الآيات فقال عليه السلام : سبحان الله تعالى أما إكتفيتم ثم قال : يا سمكة عودي باذن الله حية كما كنت فأحياها الله تعالى بقدرته فاضطربت وعادت حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسير ففزع القوم منها وانحاشوا فقال عليه الصلاة و السلام لهم : مالكم تسألون الآية فاذا أراكموها ربكم كرهتموها ما أخوفني عليكم بما تصنعون يا سمكة عودي باذن الله تعالى كما كنت مشوية ثم دعاهم إلى الأكل فقالوا : يا روح الله أنت الذي تبدأ بذلك فقال : معاذ الله يبدأ من طلبها فلما رأوا امتناع نبيهم عليه الصلاة و السلام خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثله فتحاموا فدعا عليه الصلاة و السلام لها الفقراء والزمنى وقال : كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم ليكون مهنئوها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا كلكم باسم الله واختتموا بحمد الله ففعلوا فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة وصدروا منها وكل واحد منهم شعبان يتجشى ونظر عيسى عليه السلام والحواريون ما عليها فاذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبريء كل زمن منهم أكل منها فلم يزالوا أغنياء صحاحا حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون واصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قوبهم وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل اليها من كل مكان يسعون فزاحم بعضهم بعضا الاغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضا فلما رأى عيسى عليه الصلاة و السلام ذلك جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل
(7/63)
يوما فلبثوا في ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم باذن الله تعالى إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة و السلام أن اجعل رزقي لليتامى والمساكين والزمنى دون الأغنياء من الناس فلما فعل الله تعالى ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها للناس واذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب المرتابين فلما علم عيسى عليه السلام ذلك منهم قال : هلكتم وإله المسيح سالتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فأبشروا بالعذاب فانه نازل بكم أن يرحمكم الله تعالى وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة و السلام إني آخذ المكذبين بشرطي وإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فلما أمسى المرتابون وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين وكان آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات
واخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عيسى عليه الصلاة و السلام قال لبني اسرائيل : هل لكم أن تصوموا ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم فان أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء إلى قوله تعالى : احد من العالمين فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم وجاء عنه أن المائدة كانت تنزل عليهم حيث نزلوا وعن وهب بن منبه أن المائدة كان يقعد عليها أربعة آلاف فاذا أكلوا شيئا ابدل الله تعالى مكانه مثله فلبثوا بذلك ما شاء الله عز و جل وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم عطف على إد قال الحواريون منصوب بما نصبه من الفعل المضمر أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك وصيغة الماضي لما مضى والمراد يقول له عليه الصلاة و السلام : ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله يوم القيامة توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم باقراره عليه الصلاة و السلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية وأمرهم بعبادته عز و جل
وقيل : قال سبحانه له عليه الصلاة و السلام في الدنيا وكان ذلك بعد الغروب فصلى عليه الصلاة و السلام المغرب ثلاث ركعات شكرا لله تعالى حين خاطبه بذلك وكان الأولى لنفي الالوهية عن نفسه والثانية لنفيها عن أمه والاثلثة لاثباتها لله عز و جل فهو عليه الصلاة و السلام أول من صلى المغرب ولا يخفى أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيات يأبى ذلك ولا يصح أيضا خبر فيه ثم أنه ليس مدار أصل الكلام المشهور وعليه قوله تعالى أأنت فعلت هذا بآلهتنا ونحوه بل على أن المتيقن هو الاتخاذ والاستفهام لتعيين أنه بامره عليه الصلاة و السلام أو أمر من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل وقال بعض : لما كان القول قد وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقررا كاتخاذ فالاستفهام لتعيين
(7/64)
من صدر منه فلذا قدم المسند إليه وقيل : التقديم لتقوية النسبة لأنها بعيدة عن القبول بحيث لا تتوجه نفس السامع إلى أن المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه وفي قوله تعالى : إتخذوني وأمي دون واتخذوني ومريم توبيخ على توبيخ كأنه قيل : أأنت قلت ما قلت مع كونك مولودا وأمك والدة والاله لا يلد ولا يولد
وأنت تعلم أن في ندائه عليه الصلاة و السلام على الكيفية المذكورة اشارة إلى ابطال ذلك الاتخاذ ولام للناس للتبليغ والاتخاذ اما متعد لاثنين فالياء مفعوله الاول و إلهين مفعوله الثاني واما متعد لواحد فالهين حال من المفعول و من دون الله حال من فاعل الاتخاذ أي متجاوزين الله تعالى أو صفة لالهين أي كائنين من دون الله تعالى أي غيره منضما إليه سبحانه فالله تعالى إله وهما بزعم الكفرة الهان فالمراد إتخاذهما بطريق اشراكهما معه عز و جل وهذا كما في قوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله إلى قوله سبحانه : سبحانه وتعالى عما يشركون وأيد ذلك بأن التوبيخ والتبكيت إنما يأتي بذلك
وقال الراغب : إن ظاهر ذلك القول استقلالهما عليهما الصلاة والسلام بالالوهية وعدم اتخاذ الله سبحانه وتعالى معهما إلها ولابد من تأويل ذلك لأن القوم ثلثوا والعياذ بالله تعالى فأما أن يقال إن من أشرك مع الله سبحانه غيره فقد نفاه معنى لأنه جل شأنه وحده لا شريك له ويكون إقراره بالله تعالى كلا اقرار وحينئذ يكون من دون الله مجازا عن مع الله تعالى أو يقال : إن المراد بمن دون الله التوسط بينهما وبينه عز شأنه فيكون الون اشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته جل جلاله لأنهم قالوا : هو عز أسمه كالشمس وهما كشعاعها
وزعم بعضهم أن المراد اتخاذهما بطريق الاستقلال ووجهه أن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يدي عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء الهين مستقلين ولم يتخذوه الها في حق ذلك البعض ولا يخفى أن الأول كالمتعين واليه اشارة العلامة ونص على اختياره شيخ الاسلام
واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم عليها السلام الها وأجيب عنه بأجوبة الأول أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة و السلام إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر الهين على طريق الالزام لهم والثاني أنهم لما عظموها تعظيم الآله أطلق عليها اسم الاله كما اطلق اسم الرب على الاحبار والرهبان في قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله لما أنهم عظموهم تعظيم الرب والتثنية حينئذ على حد القلم أحد اللسانين والثالث أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك ويعضد هذا القول ما حكاه ابو جعفر الامامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم : المريمية يعتقدون في مريم أنها إله وهذا كما كان في اليهود قوم يعتقدون عزيرا ابن الله عن اسمه وهو أولى الأوجه عندي وما قرره الزاعم من أن النصارى يعتقدون الخ غير مسلم في نصارى زماننا ولم ينقله أحد ممن يوثق به عنهم أصلا واظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه الصلاة و السلام
قال استئناف مبني على سؤال نشأ من صدور الكلام وهو ظاهر وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة
(7/65)
والسلام حين يقول له الرب عز و جل ما يقول ترتعد مفاصله وينفجر من أصل كل شعرة من حسده عين من دم خيفة من ربه جلت عظمته وفي بعضها أنه عليه الصلاة و السلام يراعد خوفا ولا يفتح له باب الجواب خمسمائة عام ثم يلهمه الله تعالى الجواب بعد فيقول : سبحانك أي تنزيها لك من أن أقول ذلك أو يقال في حقك كما قدره ابن عطية : وقدره بعضهم من أن يكون لك شريك فضلا من أن يتخذ الهان من دونك وآخرون من أن تبعث رسولا يدعي الوهية غيرك ويدعو اليها ويكفر بنعمتك والاول أوفق بسياق النظم الكريم وسبحان على سائر التقادير على أحد الأقوال فيه وقد تقدمت علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبة وفيه المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق في السبح وهو الابعاد في الأرض والذهاب ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل والعدول عن المصدر إلى الأسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة الذهن واقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى
وقوله سبحانه : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق استئناف مقرر للتنزيه ومبين المنزه عنه وما الثانية سواء كانت موصولة أو نكرة موصوفة مفعول أقول والمراد بها على التقديرين القول المذكور أو ما يعمه وغيره ويدخل في القول المذكور دخولا أوليا ونصب القول للمفردات نحو الجملة والكلام والشعر مما لا شك في صحته كنصبه الجمل الصريحة فلا حاجة إلى تفسير أقول بأذكر كما يتوهم واسم ليس ضمير عائد إلى ما و بحق خبره والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك وإيثار ليس على الفعل المنفي على ما يحق لي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقية وإفادة التأكيد بما في خبره من الباء المطرد زيادتها في خبر ليس
ومعنى ما يكون لي أي لا ينبغي ولا يليق وهو أبلغ من لم أقله فلذا أوثر عليه : والمراد لا ينبغي أن أقول قولا لا يحق لي قوله أصلا في وقت من الاوقات وجوز أبو البقاء أن يكون لي خبر ليس و بحق في موضع الحال من الضمير في الجار والعامل فيه ما فيه من معنى الاستقرار وأن يكون متعلقا بفعل محذوف على أنه مفعول له والباء للسببية أي ما ليس يثبت لي بسبب حق وأن يكون خبر ليس و لي صفة حق قدم عليه فصار حالا وهذا مخرج على رأي من أجاز تقديم حال المجرور عليه وقيل : إن لي متعلق بحق وهو الخبر وهو أيضا مبني على قول بعض النحاة المجوز تقديم صلة المجرور على الجار والجمهور على عدم الجواز ولا فرق عندهم في المنع بين أن يكون الجار زائدا أو غيره وقوله عز و جل : إن كنت قلته فقد علمته إستدلال على براءته من صدور القول المذكور عنه فان صدوره عنه مستلزم لعلمه به تعالى قطعا والعلم به منتف فينتفي الصدور ضرورة أن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم واستشكلت هذه الجملة بأن المعنى على المضي هنا وأن تقلب الماضي مستقبلا وأجاب عن ذلك المبرد بأن كان قوية الدلالة على المضي حتى قيل إنها موضوعة له فقط دون الحدث وجعلوه وجها لكونها ناقصة فلا تقدر إن على تحويلها إلى الاستقبال
وأجاب ابن السراج بأن التقدير إن أقل كنت قلته الخ وكذا يقال فيما كان من أمثال ذلك وقد نقل ذلك عثمان بن يعيش وضعفه ابن هشام في تذكرته والجمهور على أن المعنى إن صح قولي ودعواي ذلك فقد تبين علمك به تعلم ما في نفسي استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فقوله جل شأنه : ولا أعلم ما في نفسك بيان
(7/66)
وإظهار لقصوره عليه السلام وللنفس في كلامهم إطلاقات فتطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وعلى القلب وعلى الدم وعلى الارادة قيل : وعلى العين التي تصيب وعلى الغيب وعلى العقوبة ويفهم من كلام البعض أنها حقيقة في الاطلاق الأولى مجاز فيما عداه وفسر غير واحد النفس هنا بالقلب والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي فكيف با أعلنه ولا أعلم معلومك الذي تخفيه وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله : قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصا إلا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد وما في البيت ليس كذلك وفي الدر المصون أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكاه عنه ايضا في مجمع البيان وفسرها بعضهم بالذات وادعى أنه نسبتها بهذا المعنى إلى الله تعالى لا تحتاج إلى القول بالمشاكلة ومن ذلك قوله تعالى : كتب ربكم على نفسه الرحمة واصطنعتك لنفسي ويحذركم الله نفسه وقوله صلى الله عليه و سلم : أقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمرا ولم يتب إلى الله تعالى منه الا سقاه من شينة الخبال وقوله عليه الصلاة و السلام : ليس أحد أحب اليه المدح من الله عز و جل ولأجل ذلك مدح نفسه وقوله صلى الله عليه و سلم : سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه إلى غير ذلك من الأخبار
وقال المحقق الشريف في شرح المفتاح وغيره : إن لفظ النفس لا يطلق عليه تعالى وأن أريد به الذات الا مشاكلة وليس بشيء لما علمت من الآيات والأحاديث وإدعاء أن ما فيها مشاكلة تقديرية كما قيل ذلك في قوله تعالى : صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة لايخفي أنه من سقط المتاع فال صحيح المعول عليه جواز اطلاقها بمعنى الذات على الله تعالى من غير مشاكلة نعم قيل : أن لفظ النفس في هذه الآية وان كان بمعنى الذات لابد معه اعتبار المشاكلة لأن لا أعلم مافي ذاتك ليس بكلام مرضي فيحتاج إلى حمله على المشاكلة كله بأن يكون المراد لا أعلم معلوماتك فعبر عنه بلا أعلم ما في نفسك لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي
وعلى ذلك حمل العلامة الثاني كلام صاحب الكشاف ولا يخفى ما فيه والتحقيق أن الآية من المشاكلة الا أنها ليست في إطلاق النفس بل في لفظ في فان مفادها بالنظر إلى ما في نفس عيسى عليه السلام الارتسام والانتقاش ولا يمكن ذلك نظرا الى الله تعالى وإلى هذا يشير كلام بعض المحققين ومنه يعلم ما في كتب الاصول من الخبط في هذا المقام وقال الراغب : يجوز أن يكون القصد الى نفي النفس عنه تعالى فكأنه قال : تعلم ما في نفسي ولا نفس لك فأعلم ما فيها كقول الشاعر :
ولا ترى الضب بها ينجحر
وهو على بعده مما لايحتاج اليه ومثله ما ذكره بعض الفضلاء من أن النفس الثانية هي نفس عيسى عليه السلام أيضا وإنما أضافها الى ضمير الله تعالى باعتبار كونها مخلوقة له سبحانه كأنه قال : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما فيها إنك أنت علام الغيوب
611
- تقرير لمضمون الجملتين منطوقا ومفهوما لما فيه من الحص ومدلوله الاثبات فيقرر تعلم ما في نفسي لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ويلزمه النفي فيقرر لا أعلم ما في نفسك لأنه غيب أيضا ومدلول النفي أنه لا يعلم الغيب غيره تعالى شأنه
وقوله تعالى : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به استئناف كما قال شيخ الاسلام مسوق لبيان ما صدر عنه عليه السلام قد ادرج فيه عدم صدور القول المذكور عنه على أبلغ وجه وآكده حيث حكم بانتفاء صدور جميع الاقوال
(7/67)
المغايرة للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القول مذكورا دخولا أوليا والمراد عند البعض ما أمرتهم إلا بما أمرتني به الا أنه قيل : ما قلت لهم نزولا على قضية حسن الأدب لئلا يجعل ربه سبحانه ونفسه معا آمرين ومراعاة لما ورد في الاستفهام ودل على ذلك باقحام أن المفسرة في قوله تعالى أن اعبدوا الله ربي وربكم
ولا يرد أن الأمر لا يتعدى بنفسه إلى المأمور به إلا قليلا كقوله :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
فكذا ما أول به لأنه كما قال ابن هشام لا يلزم من تأويل شيء بشيء أن يتعدى تعديته كما صرحوا به لأن التعدية تنظر الى اللفظ نعم قيل في جعل أن مفسرة بفعل الأمر المذكور صلته نحو أمرتك بهذا أن قم نظر أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغن عن الآخر واما في الاستعمال فلأنه لم يوجد ونظر فيما ذكر في طريق القياس لأن الأول لا يغني عن الثاني والثاني لا يغني عن الأول وللتفسير بعد الابهام شأن ظاهر وادعى ابن المنير أن تأويل هذا القول بالأمر كلفه لا طائل وراءها وفيه نظر
وجوز ابو البقاء القول على معناه و أن اعبدوا إا خبر لمضمر أي هو أن اعبدوا أو منصوب بأعني مقدرا وقيل : عطف بيان للضمير في به واعترض بأنه صرح في المغني بأن عطف البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أن الضمير لاينعت لا يعطف عليه عطف بيان وأجيب بأن ذلك من المختلف فيه وكثير من النحاة جوزه وما في المغني قد أشار شراحه إلى رده وقيل : بدل من الضمير بدل كل من كل ورده الزمخشري في الكشاف بأن المبدل منه في حكم التنحية والطرح فيلزم خلو الصلة من العائد بطرحه وأجيب عنه بأن المذهب المنصور أن المبدل منه ليس في حكم الطرح مطلقا بل قد يعتبر طرحه في بعض الاحكام كما إذا وقع مبتدأ فإن الخبر للبدل نحو زيد عينه حسنة ولا يقال حسن وقد يقال أيضا : إنه ليس كل مبدل منه كذلك بل ذلك مخصوص فيما إذا كان البدل بدل غلط وأجاب بعضهم بأنه وإن لزم خلو الصلة من العائد بالطرح لكن لا ضير فيه لأن الأسم الظاهر يقوم مقامه كما في قوله :
وأنت الذي في رحمة الله أطمع
ولا يخفى أن في صحة قيام الظاهر هنا مقام الضمير خلافا لهم وجوز أن يكون بدلا من ما أمرتني به واعترض بأن ما مفعول القول ولابد فيه أن يكون جملة محكية أو ما يؤدي مؤداها أو ما أريد لفظه وإذا كان العبادة بدلا كانت مفعول القول مع أنها ليست واحدا من هذه الأمور فلا يقال : ما قلت لهم إلا العبادة وفي الانتصاف أن العبادة وإن لم تقل فالامر بها يقال وأن الموصولة بفعل الامر يقدر معها الامر فيقال هنا ما قلت لهم : إلا الأمر باعبادة ولا ريب في صحته لأن الأمر مقول بل قول على أن جعل العبادة مقولة غير بعيد على طريقة ثم يعودون لما قالوا أي الوطن الذي قالوا قولا يتعلق به وقوله تعالى : ونرثه ما يقول ونحو ذلك وفي الفوائد أن المراد ما قلت لهم إلا عبادة أي الزموا عبادته فيكون هو المراد من ما أمرتني به ويصح كون هذه الجملة بدلا من ما أمرتني به من حيث أنها في حكم المراد لأنها مقولة و ما أمرتني به مفرد لفظا وجملة معنى ولا يخلو عن تعسف وجوز إبقاء القول على معناه وأن مفسرة إما لفعل القول أو لفعل الأمر واعترض بأن فعل القول لا يفسر بل يحكى به ما بعده من الجمل ونحوها وبأن فعل الأمر مسند إلى الله تعالى وهو لا يصح تفسيره باعبدوا الله ربي وربكم بل باعبدوني أو اعبدوا الله ونحوه وأجيب عن هذا بأنه يجوز أن يكون حكاية بالمعنى كأنه عليه السلام حكى معنى قول
(7/68)
الله عز و جل بعبارة أخرى وكأن الله تعالى قال له عليه السلام : مرهم بعبادتي أو قال لهم على لسان عيسى عليه السلام : اعبدوا الله رب عيسى وربكم فلما حكاه عيسى عليه السلام قال : اعبدوا الله ربي وربكم فكنى عن أسمه الظأهر بضميره كما قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : قال علمها عند ربي في كتاب لايضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فان موسى عليه السلام لا يقول أخرجنا بل فأخرج الله تعالى لكن لما حكاه الله تعالى عنه عليه السلام رد الكلام إليه عز شأنه وأضاف الاخراج إلى ذاته عز و جل على طريقة المتكلم لا الحاكي وإن كان أول الكلام حكاية ومثله قوله تعالى : ليقولن خلقهن العزيز العليم إلى قوله سبحانه : فأنشرنا به بلدة ميتا إلى غير ذلك
وقال ابو حيان يجوز أن يكون المفسر اعبدوا الله ويكون ربي وربكم من كلام عيسى عليه السلام على إضمار أعني لا على الصفة لله عز اسمه واعتمده ابن الصائغ وجعله نظير قوله تعالى : إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله على رأي وفي أمالي ابن الحاجب إذا حكى حاك كلاما فله أن يصف المخبر عنه بما ليس فيما ليس في كلام المحكي عنه واستبعد ذلك الحلبي والسفاقسي وهو الذي يقتضيه الانصاف
وقيل على الأول : إن بعضهم اجاز وقوع أن المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما في معناه فيقع حينئذ مفسرا له لكن أنت تعلم أنه لاينبغي الاختلاف في أنه لايقترن المقول المحكي بحرف التفسير لأن مقول القول في محل نصب على المفعولية والجملة المفسرة لا محل لها فلعل مراد البعض مجرد الوقوع والتزام أن المقول محذوف وهو المحكي وهذا تفسير له أي ما قلت لهم مقولا فتدبر فقد أنتشرت كلمات العلماء هنا
وكنت عليهم شهيدا أي رقيبا أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك من غير واسطة ومشاهدا لأحوالهم من إيمان وكفر عليهم كما قال ابو البقاء متعلق بشهيدا ولعل التقديم لما مر غير مرة ما دمت فيهم أي مدة دوامي فيما بينهم فلما توفيتني أي قبضتني بالرفع إلى السماء كما يقال توفيت المال إذا قبضته وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور
وعن الجبائي أن المعنى أمتني وادعى أن رفعه عليه السلام إلى السماء كان بعد موته واليه ذهب النصارى وقد مر الكلام في ذلك كنت أنت الرقيب عليهم أي الحفيظ المراقب فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالارشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بارسال الرسول وانزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا وقيل المراد بالرقيب المطلع المشاهد ومعنى الجملتين إني ما دمت فيهم كنت مشاهدا لأحوالهم فيمكن لي بيانها فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لذلك لا غيرك فلا أعلم حالهم ولا يمكنني بيانها ولا يخفى أن الأول أوفق بالمقام وقد نص بعض المحققين أن الرقيب والشهيد هنا بمعنى واحد وهو ما فسر به الشهيد أولا ولكن تفنن في العبارة ليميز بين الشهيدين والرقيبين لأن كونه عليه الصلاة و السلام رقيبا ليس كالرقيب الذي يمنع ويلزم بل كالشاهد على المشهود عليه ومنعه مجرد القول وأنه تعالى شأنه هو الذي يمنع منع الزام بالأدلة والبينات و أنت ضمير فصل او تأكيد الرقيب خبر كان وقريء الرقيب بالرفع على أنه خبر أنت والجملة خبر كان و عليهم في القراءتين متعلق بالرقيب
وقوله سبحانه : وأنت على كل شيء شهيد
711
- تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه على ما قيل إيذان بأنه سبحانه كان
(7/69)
هو الشهيد في الحقيقة على الكل حين كونه عليه السلام فيما بينهم و على متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة وقوله تعالى : إن تعذبهم فانهم عبادك على معنى ان تعذبهم لم يلحقك بتعذيبهم اعتراض لأنك المالك المطلق لهم ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعله بملكه وقيل : على معنى إن تعذبهم لم يستطع أحد منهم على دفع ذلك عن نفسه لأنهم عبادك الارقاء في أسر ملكك وماذا تبلغ قدرة العبد في جنب قدرة مالكه وقيل : المعنى إن تعذبهم فانهم يستحقون ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك وخالفوا أمرك وقالوا ما قالوا ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو بعيد عن النظم نعم لا يبعد أن يكون في النظم إشارة اليه
وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم
811
- أي فان تغفر لهم ما كان منهم لا يلحقك عجز بذلك ولا استقباح فانك القوي القادر على جميع المقدرات التي من جملتها الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يريد ولا يفعل الا ما فيه حكمة والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر وعدم المغفرة للكافر بحكم النص والاجماع لا للامتناع الذاتي فيه ليمتنع الترديد والعليق بان
وقد نقل الامام ان غفران الشرك عندنا جائز وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا : لأن العقاب حق الله تعالى على المذنب وليس في اسقاطه على الله سبحانه مضرة وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن السدي أن معنى الآية إن تعذبهم فتميتهم بنصرانيتهم فيحق عليهم العذاب فانهم عبادك وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فانك أنت العزيز الحكيم وهذا قول عيسى عليه السلام في الدنيا اه
ولا يخفى أنه مخالف لما يقتضيه السياق والسياق وقيل : الترديد بالنسبة إلى فرقتين والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم وتعف عنمن آمن منهم فانك ألخ وهو بعيد جدا وظاهر ما قالوه أنه ليس في قوله سبحانه وإن تغفر الخ تعريض بسؤال المغفرة وإنما هو لاظهار قدرته سبحانه وحكمته ولذا قال سبحانه العزيز الحكيم دون الغفور الرحيم مع اقتضاء الظأهر لهما وما جاء في الأخبار مما أخرجه أحمد في المصنف والنسائي والبيهقي في سننه عن أبي ذر قال : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة فقرأ با آية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها إن تعذبهم فنهم عبادك الخ فلما أصبح قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت قال : إني سألت ربي سبحانه الشفاعة فاعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله تعالى شيئا وما أخرجه مسلم وابن ابي الدنيا في حسن الظن والبيهقي في الاسماء والصفات وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم عليه السلام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فانه مني الآية وقوله عز و جل في عيسى بن مريم : إن تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم الخ فرفع يديه فقال : اللهم أمتي أمتي وبكي فقال الله جلت رحمته : يا جبرائيل اذهب إلى محمد صلى الله عليه و سلم فقل له : إنا سنقر عينك في أمتك وما نسوءك وما أخرجه ابن مردويه عن ابي ذر قال : قلت للنبي صلى الله عليه و سلم بأبي أنت وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية من القرآن يعني بها هذه الآية ومعك قرآن لو فعل هذا بعضنا تال وجدنا عليه قال : دعوت الله
(7/70)
سبحانه لأمتي قال : فماذا أجبت قال : أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه تركوا الصلاة قلت : أفلا أبشر الناس قال : بلى فقال عمر : يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا يتكلوا ويدعوا العبادة فناداه أن ارجع فرجع لايقوم دليلا على أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة للكافر إذ لا يبعد منه صلى الله عليه و سلم الدعاء لأمته وطلب الشفاعة لهم بهذا النظم لكن على الوجه الذي قصده عيسى عليه السلام منه ويحتمل أنه صلى الله عليه و سلم اقتبس ذلك من القرآن مؤديا به مقصوده الذي أراد وليس ذلك أول اقتباس له عليه الصلاة و السلام فقد صرح بعض العلماء أن دعاء التوجه عند الشافعية من ذلك القبيل والصلاة لا تنافي الدعاء وما أخرجه مسلم ومن معه ليس فيه أكثر من أن ما ذكر آثار كأمن شفقته صلى الله عليه و سلم على أمته فدعا لهم بما دعا وذلك لا يتوقف على أن في الآية تعريضا لسؤال المغفرة للكافر ثم ان العلماء في بيان سر ذكر ذينك الاسمين الجليلين في الآية كلاما طويلا حيث أشكل وجه مناسبتهما لسياق ما قرنا به حتى حكي عن بعض القراء أنه غيرهما لسخافة عقله فكان يقرأ فانك أنت الغفور الرحيم إلى أن حبس وضرب سبع درر ووقع لبعض الطاعنين في القرآن من الملاحدة أن المناسب ما وقع في مصحف ابن مسعود فانك أنت العزيز الغفور كما نقل ذلك ابن الانباري وقد علمت أحد توجيهاتهم لذلك
وقيل : إن ذكرهما من باب الاحتراس لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة أو لأهمال ينافي الحكمة فدفع توهم ذلك بذكرهما وفي امالي العز بن عبد السلام أن العزيز معناه هنا الذي لا نظير له والمعنى وإن تغفر لهم فانك أنت الذي لا نظير لك في غفرانك وسعة رحمتك وأنت أولى من رحم وأجدر من غفر وستر الحكيم الذي لا يفعل شيئا في مستحقه وهم مستحقون ذلك لفضلك وضعفهم وهذا ظاهر في أن في اةية تعريضا بطلب المغفرة ولا أظنك تقول به وادعى بعضهم انهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط وحينئذ وجه مناسبتهما لا سترة عليه فان من له الفعل والترك عزيز حكيم وذكر أن هذا أنسب وأدق وأليق بالمقام
قال الله كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله وصيغة الماضي لما تحقق والمراد بقول الله تعالى عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيرا إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وبذلك يزول أيضا عنه عليه السلام خوفه من صورة ذلك السؤال لا أن ازالته هي المقصودة من القول على ما قيل
هذا أي اليوم الحاضر يوم ينفع الصادقين أي المستمرين على الصدق في الأمور المطلوبة منهم التي معظها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والاحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه السلام ومن الامم المصدقين لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام المقتدين بهم عقدا وعملا وبه يتحقق ترغئب السامعين المقصود بالحكاية في الايمان برسول الله صلى الله عليه و سلم صدقهم أي فيما ذكر في الدنيا إذ هو المستتبع للنفع والمجازاة يومئذ وقيل : في الآخرة
والمراد من الصادقين الأمم ومن صدقهم صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وهو ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله تعالى وهو كما ترى وقيل : المراد صدقهم المستمر في دنياهم إلى آخرتهم ليتسنى كون ماذكر شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله جوابا عن السؤال على ما يقتضيه السوق ويكون النفع باعتبار تحققه في الدنيا
(7/71)
والمطابقة لما يقتضيه السوق باعتبار تقرره ووقوع بعض جزيئاته في الآخرة والمستمر هو الامر الكلي الذي هو الاتصاف بالصدق ولا يلزم من هذا محذور مدخلية الصدق الاخروي في الجزاء ولا يحتاج إلى جعل الصدق الاخروي شرطا في نفع الصدق الدنيوي والمجازاة عليه ولعل فيما تقدم غنى عن هذا كما لا يخفى على الناظر وقيل : المراد من الصادقين النبيون ومن صدقهم صدقهم في الدنيا بالتبليغ ويكون مساق الآية للشهادة بصدقه عليه السلام في قوله : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به وأنت تعلم أن هذا الغرض حاصل على تقدير التعميم وزيادة
وقيل المراد من الصدق الصدق في الدنيا إلا أن المراد من الصادقين الامم والكلام مسوق لرد عرض عيسى عليه السلام المغفرة عليه سبحانه وتعالى كأنه قيل : هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لا غير فلا مغفرة لهؤلاء و لا يخفى أن التعميم لا ينافي كون الكلام مسوقا لما ذكر على تقدير تسليم ذلك واسم الاشارة مبتدأ و يوم بالرفع وهي قراءة الجمهور خبره وقرأ نافع وحده يوم بالنصب على أنه ظرف لقال و هذا مبتدأ خبره محذوف أي كلام عيسى عليه السلام أو حق أو نحو ذلك أو ظرف مستقر وقع خبرا والمعنى هذا الذي مر من جواب عيسى عليه السلام أو السؤال والجواب واقع يوم ينفع وجوز أن يكون هذا مبتدأ و يوم خبره وهو مبني على الفتح بناء على أن الظرف يبنى عليه إذا أضيف إلى جملة فعلية وإن كانت معربة وهو مذهب الكوفيين واحتاره ابن مالك وغيره والبصريون لا يجيزون البناء إلا إذا صدرت الجملة المضاف إليها بفعل ماض كقوله :
(7/72)
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وألحقوا بذلك الفعل المنفي ويخرجون هذه القراءة على أحد الأوجه السابقة
وقرأ الأعمش يوم بالرفع والتنوين على أنه خبر هذا والجملة بعده صفته بحذف العائد وقرأ صدقهم بالنصب على أن يكون فاعل ينفع ضمير الله تعالى و صدقهم كما قال ابو البقاء إا مفعول له أي لصدقهم أو منصوب بنزع الخافظ أي بصدقهم أو مصدر مؤكد أو مفعول به على معنى يصدقون الصدق كقولك : صدقته القتال والمراد يحققون الصدق
لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا تفسير للنفع ولذا لم يعطف عليه كأنه قيل : ما لهم من النفع فقيل : لهم نعيم دائم وثواب خالد وقوله سبحانه : رضي الله عنهم بيان لكونه تعالى أفاض عليهم غير ما ذكر وهو رضوانه عز و جل الذي لا غاية وراءه كما ينبيء عن ذلك قوله سبحانه : ورضوا عنهإذ لاشيء أعز منه حتى تمد إليه أعناق الآمال ذلك إشارة الى نيل رضوانه جل شأنه كما أختاره بعض المحققين أو إلى جميع ما تقدم كما اختاره في البحر وإليه يشير ما روي عن الحسن الفوز العظيم
911
- الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه اصلا لله ملك السموات والأرض وما فيهن تحقيق للحق وتنبيه بما فيه من تقديم الظرف المفيد للحصر على كذب النصارى وفساد ما زعموه في حق المسيح وأمه عليهما السلام
وقيل : استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : من يملك ذلك ليعطيهم إياه فقيل : لله
(7/0)
ملك السموات الخ فهو المالك والقادر على الاعطاء ولا يخفى بعده وفي إيثار ماعلى من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعة كما قيل م للأصل وإشارة إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسب تساويهما في تحقيق المربوبية وعلى تقدير اختصاصها بغير العقلاء كما يشير إليه خبر ابن الزبعري رضي الله تعالى عنه تنبيه على كما قصورهم من رتبة الألوهية وفي تغليب غير العقلاء على العقلاء على خلاف المعروف ما لا يخفى من حط قدرهم وهو على كل شيء من الأشياء قدير
21
- أي مبالغ في القدرة وفسرها الغزالي بالمعنى الذي به يوجد الشيء مقتدرا بتقدير الارادة والعلم واقعا على وفقهما وفسر الموصوف بها على الاطلاق بأنه الذي الذي يخترع كل موجود اختراعا ينفرد به ويستغنى به عن معاونة غيره وليس ذاك إلا الله تعالى الواحد القهار والظرف متعلق بتقدير والتقديم لمراعاة الفاصلة ولا يخفى ما في ذكر كبرياء الله تعالى وعزته وقهره وعلوه في آخر هذه السورة من حسن الاختتام وأخرج ابو عبيد عن أبي الزهراوية أن عثمان رضي الله تعالى عنه كتب في آخر المائدة ولله ملك السموات والأرض والله سميع بصير
من باب الاشارة في اةيات جعل الله الكعبة البيت الحرام هي عندهم حضرة الجمع المحرمة على الاغيار وقيل : قلب المؤمن وقيل : الكعبة المخصوصة لا باعتبار أنها جدران أربعة وسقف بل باعتبار أنها مظهر جلال الله تعالى وقد ذكروا أنه سبحانه يتجلى منها لعيون العارفين كما يشير إليه قوله عر شأنه على ما في التوراة جاء الله تعالى من سينا فاستعلن بساعير وظهر من فاران قياما للناس من موتهم الحقيقي لما يحصل لهم بواسطة ذلك والشهر الحرام وهو زمن الوصول أو مراعاة القلب أو الفوز بذلك التجلي الذي يحرم فيه ظهور صفات النفس أو الالتفات إلى مقتضيات القوى الطبيعية أو نحو ذلك والهدي وهي النفس المذبوحة بفناء حضرة الجمع أو الواردات الألهية التي ترد القلب أو ما يحصل للعبد من المنن عند ذلك التجلي والقلائد وهي النفس الشريفة المنقادة أو هي نوع مما يحصل للعبد من قبل مولاه يقوده قسرا إلى ترك السوي ذلك لتعلموا بما يحصل لكم أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم أي يعلم حقائق الأشياء في عالمي الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شيء قل لا يستوي الخبيث من النفوس والأعمال والاخلاق والأموال والطيب من ذلك ولو أعجبك كثرة الخبيث بسبب ملاءمته للنفس فان الأول موجب للقربة دون الثاني يا أيها الذين آمنوا الايمان البرهاني لا تسألوا من أرباب الايمان العياني عن أشياء غيبية وحقائق لا تعلم إلا بالكشف إن تبد لكم تسؤكم تهلككم لقصوركم عن معرفتها فيكون ذلك سببا لانكاركم والله سبحانه غيور وإنه ليغضب لأوليائه كما يغضب الليث للحرب وفي هذا كما قيل تحذير لأهل البداية عن كثرة سؤالهم من الكاملين عن اسرار الغيب وإرشاد لهم إلى الصحبة مع التسليم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن الجامع للظاهر والباطن المتضمن لما سئلتم عنه تبد لكم بواسطته ما جعل الله من بحيرة وهي النفس التي شقت أذنها لسماع المخالفات ولا سائبة وهي النفس المطلقة العنان السارحة في رياض الشهوات ولا وصيلة وهي النفس التي وصلت حبال آمالها بعضا ببعض فسوفت التوبة والاستعداد للآخرة ولا حام وهو من اشتغل حينا بالطاعة ولم يفتح له باب الوصول فوسوس اليه الشيطان
(7/73)
وقال : يكفيك ما فعلت وليس وراء ما أنت فيه شيء فأرح نفسك فحمى نفسه عن تحمل مشاق المجاهدات
ونقل النيسابوري عن الشيخ نجم الدين المعروف بداية أن البحيرة إشارة إلى الحيدرية والقنلدرية يثقبون آذانهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويتركون الشريعة والسائبة إشارة إلى الذين يضربون في الأرض خالعين العذر بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة والوصيلة إشارة إلى أهل الاباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المواخاة والاتحاد ويرفضون صحبة ألاقارب لأجل العصبية والعناد والحام إشارة إلى المغرور بالله عز و جل يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفة الشريعة وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله من الأحكام وإلى الرسول لمتابعته قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا من الافعال التي عاشوا بها وماتوا عليها أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشريعة والطريقة ولا يهتدون إلى الحقيقة
يا أيها الذين آنوا عليكم أنفسكم فاشتغلوا بتزكيتها لا يضركم من ضل عما أنتم فيه فأنكر عليكم إذا اهتديتم وزكيتم أنفسكم وإنما ضرر ذلك على نفسه
وقوله تعالى يا أيها الذين آنوا شهادة بينكم الآيتين لم يظهر للعبد فيه شيء يصلح للتحرير وقد ذكر النيسابوري في تطبيقه على ما في الأنفس ما رأيت الترك له أنفس يوم يجمع الرسل وهو يوم القيامة الكبرى فيقول لهم ماذا أجبتم حين دعوتم الخلق قالوا لاعلم لنا بذلك إن : أنت علام الغيوب فتعلم جواب ما سئلنا وهذا على ما قيل عند تراكم سطوات الجلال وظهور رداء الكبرياء وإزار العظمة ولهذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا ولله سبحانه تجليات على أهل قربه وذوي حبه فيفنيهم تارة بالجلال ويبقيهم ساعة بالجمال ويخاطبهم مرة باللطف ويعاملهم أخرى بالقهر وكل ما فعل المحبوب محبوب
وقال بعض أهل التأويل : يجمع الله تعالى الرسل في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات فيسألهم هل اطلعتم على مراتب الخلق في كمالاتهم حين دعوتموهم إلي فينفوا العلم عن أنفسهم ويثبتوه لله تعالى لاقتضاء مقام الفناء ذلك إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر للأحباب والمريدين نعمتي عليك وعلى والدتك لتزداد رغبتهم في وأشكر ذلك لأزيدك مما عندي فخزائني مملوءة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إذ أيدتك بروح القدس وهو الروح الذي اشرق من صبح الأزل وهي رحه الطاهرة وقيل : المراد أيدتك بجبرائيل حيث عرفك رسوم العبودية تكلم الناس في المهد أي مهد البدن أو في المهد المعلوم والمعنى نطقت لهم صغيرا بتنزيه الله تعالى واقرارك له بالعبودية وكهلا أي في حال كبرك والمراد أنك لم يختلف حالك صغرا وكبرا بل استمر تنزيهك لربك ولم ترجع القهقري وإذ علمتك الكتاب وهو كتاب الحقائق والمعارف والحكمة وهي حكمة السلوك في الله عز و جل بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد والتوراة أي العلوم الظاهرة والاحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها بالتربية أو بالتصوير من الطين وهو الاستعداد المحض أو الطين المعلوم كهيئة الطير أي كصورة طيرالقلب الطائر إلى حضرة القدس أو الطير المشهور فتنفخ فيه من الروح الظأهرة فيك فيكون طيرا نفسا مجردة طائرة بجناح الصفاء والعشق أو طيرا حقيقة باذني حيث صرت مظهرا لي وتبريء الأكمه أي المحجوب
(7/74)
عن نور الحق والأبرص أي الذي أفسد قلبه حب الدنيا وغلبة الهوى باذني وإذ تخرج الموتى بداء الجهل من قبور الطبيعة باذني وإذ كففت بني إسرائيل وهي القوى النفسانية أو المحجوبين عن نور تجليات الصفات عنك فلم ينقصك كيدهم شيئا إذ جئتهم بالبينات وهي الحجج الواضحة أو القوى الروحانية الغالبة وإذ اوحيت بطريق الالهام الى الحواريين وهم الذين طهروا أنفسهم بماء العلم النافع ونقوا ثياب قلوبهم عن لوث الطبائع أن آنوا بي إيمانا حقيقيا بتوحيد الصفات وبرسولي برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل
وذكر بعض السادة أن الوحي يكون خاصا ويكون عاما فالخاص ما كان بغير واسطة والعام ما كان بالواسطة من نحو الملك والروح والقلب والعقل والسر وحركة الفطرة وللأولياء نصيب من هذا النوع والوحي الخاص مراتب وحي الفعل ووحي الذات فوحي الذات يكون في مقام التوحيد عند رؤية العظمة والكبرياء ووحي الفعل يكون مقام العشق والمحبة وهناك منازل الأنس والانبساط إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أي المربي لك والمفيض عليك ما كملك أن ينزل علينا مائدة أي شريعة مشتملة على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام من السماء أي من جهة سماء الأرواح قال اتقوا الله أي اجعلوه سبحانه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأفعال والأخلاق إن كنتم مؤمنين ولا تسألوا شريعة مجددة قالوا نريد أن نأكل منها بان نعمل بها وتطمئن قلوبنا فان العلم غذاء ونعلم أن قد صدقتنا في الاخبار عن ربك وعن نفسك ونكون عليها من الشاهدين فنعلم بها الغائبين وندعوهم اليها قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بها منكم ويحتجب عن ذلك الدين بعد أي بعد الانزال فاني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وذلك بالحجاب عني لوجود الاستعداد ووضوح الطريق وسطوع الحجة والعذاب مع العلم أشد من العذاب مع الجهل
وقوله تعالى وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس الخ كلام الشيخ الأكبر قدس سره وكلام الشيخ عبد الكريم الجيلي في شهير منتشر على ألسنة المخلصين والمنكرين فيما بيننا والله تعالى أعلم بمراده نسأل الله تعالى أن ينزل علينا موائد كرمه ولا يقطع عنا عوائد نعمه ويلطف بنا في مبدأ وختام بحرمة نبينا أفضل الصلاة وأكمل السلام
سورة الانعام
6 - كما أخرج ابو عبيد والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروى ابن مردويه والطبراني عنه أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة وروى خبر الجملة أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا ثلاث آيات منها فانها نزلت بالمدينة قل تعالوا أتل إلى تمام الآيات الثلاث وأخرج ابن راهويه في مسنده وغيره عن شهر بن حوشب أنها مكية إلا آيتين قل تعالوا أتل والتي بعدها وأخرج ابو الشيخ أيضا عن الكلبي وسفيان قالا : نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نرلتا بالمدينة في رجل من اليهود وهو الذي قال : ما أنزل الله على بشر من شيء الآية وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة
(7/75)
فانهاا مدنية وقال غير واحد : كلها مكية إلا ست آيات وما قدروا الله حق قدره إلى تمام ثلاث آيات وقل تعالوا أتل إلى آخر الثلاث وعدة آياتها عند الكوفيين مائة وخمسة وستون وعند البصريين والشاميين ست وستون وعند الحجازيين سبع وستون وقد كثرت الأخبار بفضلها فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والاسماعيلي في معجمه عن جابر قال : لما نزلت سورة الانعام سبح رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال عليه الصلاة و السلام : لقد شيع هذ السورة من الملائكة ما سد الأفق وخبر تشييع الملائكة لها رواه جمع من المحدثين إلا أن منهم من روى أن المشيعين سبعون ألفا ومنهم من روى أنهم كانوا أقل ومنهم من روى أنهم كانوا أكثر وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من صلى الفجر بجماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله به سبعين ملكا يسبحون الله تعالى ويستغفرون له إلى يوم القيامة
وأخرج أبو الشيخ عن حبيب بن محمد العابد قال : من قرأ ثلاث ءايات م أول الأنعام إلى قوله تعالى تكسبون بعث الله تعالى له سبعين ألف ملك يدعون له إلى يوم القيامة وله مثل أعمالهم فإذا كان يوم القيامة ادخله الجنة وسقاه من السلسبيل وغسله من الكوثر وقال : أنا ربك حقا وأنت عبدي إلى غي ذلك من الأخبار وغالبا في هذا المطلب ضعيف وبعضها موضوع كما لا يخفى على من نقر عنها ولعل الأخبار بنزول هذه السورة جملة أيضا كذلك وحكى الامام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة ثم استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل مرة من آياتها إن سبب نرولها الأمر الفلاني مع أنهم يقولونه والقول بأن مراد القائل بذلك عدم تخلل نزول شيء من آيات سورة أخرى بين أوقات نزول آياتها مما لا تساعده الظواهر بل في الأخبار ما هو صريح فيما يأباه والقول بأنها نزلت مرتين دفعة وتدريجا خلاف الظاهر ولا دليل عليه
ويؤيد ما أشرنا إليه من ضعف الأخبار بالنزول جملة ما قاله ابن الصلاح في فتاويه الحديث الوارد في أنها نرلت جملة ورويناه من طريق أبي بن كعب ولم نر له سندا صحيحا وقد روي ما يخالفه أنتهى ومن هذا يعلم ما في دعوى الامام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة فتدبر ووجه مناسبتها لآخر المائدة على ما قال بعض الفضلاء أنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلامازمان كما قال سبحانه : وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين
وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة : أنه تعالى لما ذكر في آخر المائدة لله ملك السموات والأرض وما فيهن على سبيل الاجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السموات والأرض وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ثم ذكر عز أسمه أنه خلق النوع الأنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشيء القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى : قل لمن ما في السموات الخ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان ثم قال عز من قائل : وله ما سكن في الليل والنهار فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت ثم أكثر عز و جل في أثناء السورة من الانشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الاصباح وفلق الحب والنوى وانزال الماء و اخراج النبات والثمار بأنواعها وانشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه
(7/76)
سبحانه لما ذكر في سورة المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما أحل الله لكم الخ وذكر جل شأنه بعده ما جعل الله من بحيرة الخ فاخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الايجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه واقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الاجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما واطنابا وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته اباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه ولهذ السورة أيضا اعتلاق من جهة بالفاتحة لشرحها اجمال قوله تعالى : رب العالمين وبالبقرة لشرحها اجمال قوله سبحانه : الذي خلقكم والذين من قبلكم وقوله عز اسمه الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا وبآل عمران من جهة تفصيلا لقوله جل وعلا والانعام والحرث وقوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت الخ وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها وقد يقال : إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على اثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال ابو اسحاق الاسفرايني : إن في سورة الانعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث أن فيها ابطال ألوهية عيسى عليه الصلاة و السلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا ثم أنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع اجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول وفي الكهف إلى الابقاء الأول وفي سبأ إلى الايجاد الثاني وفي فاطر إلى الابقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد فقال عز من قائل : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق السموات والأرض جملة خبرية أو إنشائية وعين بعضهم الأول لما في حملها على الانشاء من إخراج الكلام على معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الانشاء يقارن معناه لفظه في الوجود وآخرون الثاني لأنه لو كانت جملة الحمد اخبارا يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق اخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فان الانشاء يشتق منه اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال : بعت بائع
واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا لقيل لقائل : ضرب ضارب والله تعالى شأنه القائل والوالدات يرضعن أولادهن مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان إنشاء الحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ بينه وبين الخبر فيما ذكر والذي عليه المحققون جواز الاعتبارين في هذه الجملة وأجابوا عما يلزم من المحذور نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد وردع الكفرة والاعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لانشاء الثناء لا يناسبه وقيل : إن اعتبار خبريتها هنا
(7/77)
ليصح عطف ما بعد ثم الآتي عليها ومن اعتبر الانشائية ولم يجوز عطف الانشاء على الاخبار جعل العطف على صلة الموصول أو على الجملة الانشائية يجعل المعطوف لانشاء الاستبعاد والتعجب ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والخروج عن الظأهر وفي تعليق الحمد أولا باسم الذات ووصفه تعالى ثانيا بما وصف به سبحانه تنبيه على تحقق الاستحقاقين تحقق استحقاقه عز و جل الحمد باعتبار ذاته جل شأنه وتحقق استحقاقه سبحانه وتعالى باعتبار الانعام المؤذن به ما في حيز الموصول الواقع صفة ومعنى استحقاقه سبحانه وتعالى الذاتي عند بعض استحقاقه جل وعلا الحمد بجميع أوصافه وأفعاله وهو معنى قولهم إنه تعالى يستحق العبادة لذاته وأنكر هذا صحة توجه التعظيم والعبادة إلى الذات من حيث هي
وقد صرح الامام في شرح الاشارة عند ذكر مقامات العارفين أن الناس في العبادة ثلاث طبقات فالأولى في الكمال والشرف الذين يعبدونه سبحانه وتعالى لذاته لا لشيء آخر والثانية وهي التي تلي الاولى في الكمال الذين يعبدونه لصفة من صفاته وهي كونه تعالى مستحقا للعبادة والثالثة وهي آخر درجات المحققين الذين يعبدونه لتكمل نفوسهم في الانتساب إليه ولا يشكل تصور تعظيم الذات من حيث هي لأنه كما قال الشهاب لو وقع ذلك ابتداء قبل التعقل بوجوه الكمال كان مشكلا أما بعد معرفة المحمود جل جلاله بسمات الجمال وتصوره بأقصى صفات الكمال فلا بدع أن يتوجه إلى تمجيده تعالى وتحميده عز شأنه مرة أخرى بقطع النظر عما سوى الذات بعد الصعود بدجات المشاهدات ولذا قال أهل الظأهر : صفاته لم تزد معرفة لكنها لذة ذكرناها فما بالك بالعارفين الغارقين في بحار العرفان وهم القوم كل القوم والذي حققه السالكوتي وجرينا عليه في الفاتحة أن الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقا له فان استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مسندا الى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات
وذكر بعض محققي المتأخرين كلاما في هذا المقام رد به فيما عنده على كثير من العلماء الأعلام
وحاصله أن اللام الجارة في لله لمطلق الاختصاص دون الاختصاص القصري على التعيين بدليل أنهم قالوا في مثل له الحمد : إن التقديم للإختصاص القصري فلو أن اللام الجارة تفيده أيضا لما بقي فرق بين الحمد لله وله الحمد غير كون الثاني أو كد من الاول في إفادة القصر والمصرح به التفرقة بافادة أحدهما القصر دون الآخر وان الاختصاصات على انحاء وتعيين بعضها موكول إلى العلة التي يترتب عليها الحكم وتجعل محمودا عليه غالبا وغيرها من القرائن فاذا رأيت الحكم على أوصافه تعالى المختصة به سبحانه وتعالى وجب كون الحمد مقصورا عليه تعالى فيحمل الحكم المعلل على القصر ليطابق المعلول علته ومع ذلك إذا كانت الأوصاف المختصة به عن وجل مما يدل على كونه عز شأنه منعما على عباده وجب كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده سبحانه فيحمل الحكم المعلل على الاستيجاب للتطابق أيضا وإذا لم يعلل الحكم بشيء أو قطع النظر عن العلة التي رتب عليها الحكم فانما يثبت في الحكم أدنى مراتب الاختصاص الذي كونه تعالى حقيقا بالحمد مجردا عن القصر والاستيجاب ويعضد ما أشير اليه اختلاف عبارات العلامة البيضاوي في بيان مدلولات جمل الحمد وأن المراد في الاستيجاب الذي جعله بعض النحاة من معاني اللام ما هو بمنزلة مطلق الاختصاص
(7/78)
الذي قرره لا المعنى الذي رمز إليه فعلى هذا يكون مفهوم جملة الحمد لله فيما نحن فيه أنه تعالى حقيق بالحمدولا دلالة فيها من حيث هي هي مع قطع النظر عن المحمود عليه الذي هو علة الحكم على قصر الحقيقة بالحمد عليه سبحانه وتعالى ولا على بلوغها حد الاستيجاب نعم في ترتيب الحكم على ما في حيز الصفة تنبيه على كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده مختصا به عز شأنه مقصورا عليه سبحانه حيث أن ترتيب الحكم كما قالوا على الوصف يشعر بمنطوقه بعلية الوصف للحكم وبمفهومه بانتفاء الحكم عمن ينتفي عنه الوصف ثم قال : وبالجملة إن جملة الحمد لله مدعي ومدلول
وقوله سبحانه وتعالى : الذي خلق الخ دليل وعلة وليس هناك إلا حمد واحد معلل لما في حيز الوصف لا حمد معلل بالذات المستجمع لجميع الصفات أو بالذات البحت اولا على ما قيل وبالوصف ثانيا حتى يكون بمثابة حمدين باعتبار العلتين لأن لفظ الجلالة علم شخصي ولا دلالة له على الأوصاف بأحدى الدلالات الثلاث فكيف يكون محمودا عليه وعلة لاستحقاق الحمد ولذلك لا يكاد يقع الحكم باستحقاق الحمد إلا معلالا بالأمور الواضحة الدالة على صفاته سبحانه وتعالى الجليلة وأفعاله الجميلة ولا يكتفى بأسم الذات اللهم الا في تسبيحات المؤمنين وتحميداتهم لا في محاجة المنكرين التي نحن بصدد بيانها وأيضا اقتضاء الذات البحت من حيث هو الذات ماذا يفيد في الاحتجاج على القوم الذين عامتهم لا يبصرون ولا يسمعون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل وأما ما يقال : إنما قيل الحمد لله بذكر اسم الذات المستجمع لجميع الصفات ولم يقل للعالم او للقادر الى غير ذلك من الأسماء الدالة على الجلالة أو الاكرام لئلا يتوهم اختصاص الحمد بوصف دون وصف فكلام مبني على ما ظهر لك فساده من كون الذات محمودا عليه
وقد يقال : إن ذكر أسم الذات ليس إلا لأن المشركين المحجوجين الجهال لا يعرفونه تعالى ولا يذكرونه فيما بينهم ولا عند المحاجة الا بأسمه سبحانه العليم لا بالصفات كما يدل على ذلك أنه تحكى أجوبتهم بذكر ذلك الأسم الشريف في عامة السؤالات إلا ما قل حيث كان جوابهم فيه بغير اسم الذات كقوله تعالى : لقولن خلقهن العزيز العليم على أن البعض جعل هذا لازم مقولهم وما يدل عليه إجمالا أقيم مقامه فكأنهم قالوا : الله كما حكى عنهم في مواضع وحينئذ فكأنه قيل : الاله الذي يعرفونه ويذكرونه بهذا الاسم هو المستحق للحمد لكونه خالق السموات والارض ولكونه كذا وكذا وإذا عرفت أن الذات لا يلائم أن يكون محمودا عليه وإنما الحقيق لأن يكون محمودا عليه هو الصفات وأن ما يترتب عليه الحمد في كل موضع بعض الصفات بحسب اقتضاء المقام لا جميع الصفات عرفت أن من ادعى أن ترتيب الحمد على بعض الصفات دون بعض يوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف يلزم عليه أن يقع في الورطة التي فر منها كما لا يخفى
فالحق أن المحمود عليه هو الوصف الذي رتب عليه استحقاق الحمد وأن تخصيص بعض الاوصاف لأن يترتب عليه استحقاق الحمد في بعض المواقع إنما هو باقتضاء ذلك المقام إياه فان قلت فما الرأي في الحمد باعتبار الذات البحت او باعتبار استجماعه جميع الصفات على ما قيل : هل له وجه أم لا قلت : اما كون الذات الصرف محمودا عليه وكذا كون الذات محمودا عليه باستجماعه جميع الصفات في أمثال هذه المواضع التي نحن فيها فلا وجه له
(7/79)
وأما ما ذكروه في شرح خطب بعض الكتب من أن الحمد باعتبار الذات المستجمع لجميع الصفات فلعل منشأه هو أن الحمد لما اقتضى وصفا جميلا صالحا لأن يترتب عليه الحكم باستحقاق الحمد ويكون محمودا عليه فحيث لم يذكر معه وصف كذلك ولم يدل عليه قرينة بل اكتفى بذكر الذات المتصف بجميع الصفات الجميلة ثبت اعتبار الوصف الجميل هناك اقتضاء ثم من أجل تعيين البعض بالاعتبار دون البعض الآخر لا يخلوا عن لزوم الترجيح بلا مرجح يلزم اعتبار بعض الصفات الجميلة برمتها فيكون الحمد باعتبار جميعها وحيث ذكر معه وصف جميل صالح لأن يكون محمودا عليه ودل عليه بعينه قرينة استغنى عن ذلك الاعتبار لأن المصير إليه كان عن ضرورة ولا ضرورة حينئذ كما لا يخفى ومن لم يهتد إلى الفرق بين ما وقع في القرآن المجيد لمقاصد وما وقع في خطب الكتب لمجرد التيمن ولا إلى الفرق بين ما ذكر فيه المحمود عليه صريحا أو دلت عليه بعينه قرينة وبين ما لم يكن كذلك ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء فخلط عشواء فخلط مقتضيات بعض المقامات ببعض ولم يدر أن كلام الله تعالى على أي شرف وكلام غيره في أي واد
وقصارى الكلام أن ترتب الحكم الذي تضمنته جملة الحمد لله هنا على الوصف المختص به سبحانه من خلق السموات والأرض وما عطف عليه يفيد الاختصاص القصري على الوجه الذي تقدم ويشير إلى ذلك كلام العلامة البيضاوي في تفسير الآية لمن أمعن النظر إلا أن ما ذكره عليه الرحمة في أول سبأ من الفرق بين الحمد لله الذ له ما في السموات وما في الأرض وبين وله الحمد في الآخرة مما محصله أن جملة له الحمد جيء بها بتقديم الصلة ليفيد القصر لكون الانعام بنعم الآخرة مختصا به تعالى بخلاف جملة الحمد لله الذي له الخ فانها لم يجيء بها بتقديم الصلة حتى لا يفيد القصر لعدم كون الانعام مختصا به تعالى مطلقا بحيث لا مدخل فيه للغير إذ يكون بتوسط الغير فيستحق ذلك لغير الحمد بنوع استحقاق بسبب وساطته آب عنه إذ حاصل ما ذكره في تلك السورة هو أنه لا قصر في جملة الحمد لله الذي له الخ بخلاف جملة له الحمد 9 وحاصل ما أشار اليه في هذه وكذا الفاتحة هو أن جملة الحمد لله إذا رتب على الأوصاف المختصة كالخلق والجعل المذكورين مفيد للقصر أيضا غاية ما في البال أن طريق إفادة القصر في البابين متغاير ففي إحداهن تقديم الصلة وفي الأخرى مفهوم العلة فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك وجمع سبحانه السموات وأفرد الأرض مع أنها على ما تقتضيه النصوص المتعددة متعددة أيضا والمؤاخاة بين الألفاظ من محسنات الكلام فاذا جمع أحد المتقابلين أو نحوهما ينبغي أن يجمع الآخر عندهم ولذا عيب على أبي نواس قوله : ومالك فاعلمن فينا مقالا إذا استكملت آجالا ورزقا حيث جمع وأفرد إذ جمع لنكتة سوغت العدول عن ذلك الأصل وهي الإشارة إلى تفاوتهما في الشرف فجمع الأشرف اعتناء بسائر أفراده وأفرد غير الأشرف وأشرفية السماء لأنها محل الملائكة المقدسين على تفاوت مراتبهم وقبلة الدعاء ومعراج الأرواح الطاهرة ولعظمها وإحاطتها بالأرض على القول بكريتها الذاهب اليه بعض منا وعظم آيات الله فيها ولأنها لم يعص الله تعالى فيها أصلا وفيها الجنة التي هي مقر الأحباب ولغير ذلك والأرض وإن كانت دار تكليف ومحل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فليس ذلك إلا للتبليغ وكسب ما يجعلهم متأهلين للاقامة في حضيرة القدس لأنها ليست بدار قرار وخلق أبدان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ودفنهم فيها مع كون أرواحهم التي هي منشأ الشرف ليست منها ولا تدفن فيها لا يدل
(7/80)
على أكثر من شرفها وأما أنه يدل على أشرفيتها فلا يكاد يسلم لأحد وكذا كون الله تعالى وصف بقاعا منها بالبركة لا يدل على أكثر مما ذكرنا ولهذا الشرف أيضا قدمت على الأرض في الذكر وقيل : إن جمع السموات وإفراد الأرض لأن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر وهو يخل بمصالح هذا العالم وأما الأرض فهي قابلة والقابل الواحد كاف في القبول
وحاصله أن اختلاف الآثار دل على تعدد السمماء دلالة عقلية والأرض وإن كانت متعددة لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك جمعها دون الأرض
واعترض بأنه على ما فيه ربما يقتضي العكس وقال بعضهم : إنه لا تعدد حقيقيا في الأرض ولهذا لم تجمع وأما التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو قوله صلى الله عليه و سلم : من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى سبع أرضين فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة وكذا يحمل ما أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : هل تدرون ما هذه هذه أرض هل تدرون ما تحتها قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال : أرض أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة عام والتحتية لا تأبى ذلك فإن الأرض كالسماء كروية وقد يقال للشيء إذا كان بعد آخر هو تحته والمراد من قوله صلى الله عليه و سلم : بينهما خمسمائة عام أن القوس من إحدى السموات المسامت لأول أقليم وأول الآخر خمسمائة عام ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيرا ما يقصد من العدد التكثير لا الكم المعين
وقوله تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن محمول على المماثلة في السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي ولا يخفى أن هذا من التكلف الذي لم يدع اليه سوى اتهام قدرة الله تعالى وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضادوأزال بزلال كلامه الكريم أوام كل صاد وحمل المماثلة في الآية ايضا على المماثلة التي زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر
ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تتمة الكلام في هذا المقام وذكر بعض المحققين في وجه تقديم السموات على الأرض تقدم خلقها على خلق الأرض ولا يخفى أنه قول لبعضهم
وعن الشيخ الأكبر قدس الله سره أن خلق المحدد سابق على خلق الأرض وخلق باقي الأفلاك بعد خلق الأرض وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام وتخصيص خلقها بالذكر لاشتمالها على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من صنوف النعم الآفاقية وألانفسية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد
والمراد بالخلق الإنشاء والايجاد أي أوجد السموات والأرض وأنشأهما على ما هما عليه مما فيه ءايات للمتفكرين وجعل الظلمات والنور عطف على خلق السموات داخل معه في حكم الاشعار بعلة الحمد وإن كان مترتبا عليه لأن جعلهما مسبوق بخلق منشئهما ومحلهما كما قيل والجعل كما قال شيخ الاسلام م الانشاء والابداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالانشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في اةية وللتشريعي أيضا كما في قوله سبحانه : ما جعل الله من بحيرة وأيا ما كان ففيه أنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون
(7/81)
فيه او له او منه او نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان او مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه وقيل : الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين أي كونه محصلا من ءاخر كأنه في ضمنه ولذلك عبد عن أحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية
وأعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان سميعان بصيران أولها خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفاسد يبطل بمجرد هذا وأيضا الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه وأيضا أن الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه : وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا وجعل بينها برزخا إلى غير ذلك واجيب بما لا يخلوا عن نظر وجمع الظلمات وافرد النور ليحسن التقابل مع قوله سبحانه : خلق السموات والأرض أو لما قدمناه في البقرة
وقيل لأن المراد بالظلمة الضلال وهو متعدد وبالنور الهدى وهو واحد ويدل على التعدد والوحدة قوله تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله واختار غير واحد حمل الظلمة والنور هنا على الأمرين المحسوسين وإن جاء في الكتاب الكريم بمعنى الهدى والضلال وكان له هنا وجه أيضا لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته وقد أمكن مع وجود ما يلائمه ويقتضيه اقتضاء ظاهرا حيث قرنا بالسموات والأرض وعن قتادة أن المراد بهما الجنة والنار ولا يخفى بعده وللعلماء في النور والظلمة كلام طويل وبحث عريض حتى أنهم ألفوا في ذلك الرسائل ولم يتركوا بعد مقالا لقائل
وذكر الامام أن النور كيفية هي كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف أو الكيفية التي لا يتوقف الابصار بها على الابصار بشيء آخر وأن من الناس من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء وهو باطل أما أولا فلأن كونها أنوارا إا أن يكون هو عين كونها أجساما وإما أن يكون مغايرا لها والأول باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسيمة ولذلك يعقل جسم مظلم ولا يعقل نور مظلم وأما إن قيل : إنها أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل عن المضي وتتصل بالمستضيء فهو أيضا باطل لأن تلك الأجسام الموصوفة بتلك الكيفيات إما أن تكون محسوسة أو لا فإن كان الأول لم يكن الضوء محسوسا وإن كان الثاني كانت ساترة لما تحتها ويجب انها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الأمر بالعكس وأما ثانيا فلأن الشعاع لو كان جسما لكانت حركته بالطبع إلى جهة واحدة لكن النور مما يقع على كل جسم في كل جهة واما ثالثا فلأن النور إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تبقى او لا فان بقيت فإما أن تبقى في البيت وإما أن تخرج فان قيل : إنها خرجت عن الكوة قبل السد فهو محال وإن قيل : إنها عدمت فهو أيضا باطل فكيف يمكن أن يحكم أن جسما لما تخلل بين جسمين عدم أحدهما فاذن هي باقية في البيت ولا شك في زوال نوريتها عنها وهذا هو الذي نقول من أن مقابلة المستضيء سبب لحدوث تلك الكيفية وإذا ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل وأما رابعا فلأن الشمس إذا طلعت من الافق يستبين وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة سيما والخرق على الفلك محال عندهم واحتج المخالف بأن
(7/82)
الشعاع متحرك وكل متحرك جسم فالشعاع جسم بيان الصغرى بثلاثة أوجه الأول أن الشعاع منحدر من ذيه والمنحدر متحرك بالبديهة والثاني أنه يتحرك وينتقل بحركة المضيء والثالث أنه قد ينعكس عما يلقاه إلى غيره والانعكاس حركة والجواب أن قولهم : الشعاع منحدر فهو باطل وإلا لرأيناه في وسط المسافة بل الشعاع يحدث في المقابل القابل دفعة ولما كان حدوثه من شيء عال توهم أنه ينزل وأما حديث الانتقال فيرد عليه أن الظل ينتقل مع أنه ليس بجسم فالحق أنه كيفية حادثة في المقابل وعند زوال المحاذاة عنه إلى قابل آخر يبطل النور عنه ويحدث في ذلك الآخر وكذلك القول في الانعكاس فان المتوسط شرط لأن يحدث الشعاع من المضيء في ذلك الجسم ثم القائلون بأنه كيفية اختلفوا فمنهم من زعم أنه عبارة عن ظهور اللون فقط وزعموا أن الظهور المطلق هو الضوء واخفاء المطلق هو الظلمة والمتوسط بين الأمرين هو الظل وتختلف مراتبه بحسب مراتب القرب والبعد عن الطرفين واطالوا الكلام في تقرير ذلك بما لايجدي نفعا ولا يأبى أن يكون الضوء كيفية وجودية زائدة على ذات اللون كما يدل عليه أمور الاول أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إا أن يكون اللون أو صفة غير نسبية أو صفة نسبية والأول باطل لأنه لا يخلو إما أن يجعل النور عبارة عن تجدد اللون أو عن اللون المتجدد والاول يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيرا إلا آن تجدده والثاني يوجب أن يكون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم الضوء ظهور اللون معنى وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور عاد النزاع لفظيا وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فذاك باطل لأن الضوء أمر غير نسبي فلا يمكن أن يفسر بالحالة النسبية والثاني أن البياض قد يكون مضيئا و مشرقا وكذلك السواد فان الضوء ثابت لهما جميعا فلو كان كون كل منهما مضيئا نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضادا للبعض وهو محال إذ الضوء لا يقابله إلا الظلمة
الثالث أن اللون يوجد من غير الضوء فان السواد مثلا قد لا يكون مضيئا وكذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء والبلور إذا كانا في الظلمة ووقع الضوء عليه وحده فانه حينئذ يرى ضؤوه فذلك ضوء وليس بلون فاذا وجد كل منهما دون الآخر فلابد من التغاير
الرابع أن المضيء للون تارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره وتارة ينعكس منه الضوء واللون وذلك إذا كان قويا فيهما جميعا فلو كان الضوء ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره بريقا ساذجا وكون هذا البريق عبارة عن اظهار لون ذلك القابل يرد عليه أنه لماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه وضوؤه أخفى لون المنعكس اليه وأبطله وأعطاه لون نفسه إلى غير ذلك من الأدلة وفرق الامام بين النور والضوء والشعاع والبريق بأن الأجسام إذا صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فان ذلك الظهور كيفية ثابتة فيها منبسطة عليها من غير أن يقال : إنها سواد أو بياض أو حمرة أو صفرة والآخر اللمعان وهو الذي يترقرق على الأجسام ويستر لونها وكأنه شيء يفيض منها وكل واحد من القسمين إما أن يكون من ذاته أو من غيره فالظهور للشيء الذي من ذاته كما للشمس والنار يسمى ضوءا والظهور الذي للشيءمن غيره يسمى نورا والترقرق الذي للشيء من ذاته كما للشمس يسمى شعاعا والذي يكون للشيء من غيره كما للمرآة يسمى بريقا
وقد تقدم لك الكلام في الفرق بين النور والضوء في سورة البقرة أيضا وكذلك الكلام في الظلمة والنسبة بينهما وبين النور والمشهور أن بينهما تقابل العدم والملكة ولهذا قدمت الظلمات على النور في اةية الكريمة
(7/83)
فقد صرحوا بأن الاعدام مقدمة على الملكات
وتحقيق ذلك على ماذكره بعض المحققين أنه إذا تقابل شيئان أحدهما وجودي فقط فان اعتبر التقابل بالنسبة إلى موضوع قابل للأمر الوجودي إما بحسب شخصه أو بحسب نوعه أو بحسب جنسه القريب أو البعيد فهما العدم والملكة الحقيقيان أو بحسب الوقت الذي يمكن حصوله فيه فهما العدم والملكة المشهوران وإن لم يعتبر فيهما ذلك فهما السلب والايجاب فالعدم المشهوري في العمى والبصر هو ارتفاع الشيء الوجودي كالقدرة على الابصار مع ما ينشأ من المادة المهيئة لقبوله في الوقت الذي من شأنها ذلك فيه كما حقق في حكمة العين وشرحها فإذا تحقق أن كل قابل لأمر وجودي في ابتداء قابليته واستعداده متصف بذلك العدم قبل وجود ذلك الأمر بالفعل تبين أن كل ملكة مسبوقة بعدمها لأن وجود تلك الصفة بالقوة وهو متقدم على وجودها بالفعل وقال المولى ميرزاجان : لابد في تقابل العدم والملكة أن يؤخذ في مفهوم العدمي كون المحل قابل للوجودي ولا يكفي نسبة المحل القابل للوجودي من غير أن يعتبر في مفهوم العدمي كون المحل قابلا له ولذا صرحوا بأن تقابل العدم والوجود تقابل الايجاب والسلب
قال في الشفاء : العمى هو عدم البصر بالفعل مع وجوده بالقوة وهذا مما لابد منه في معناه المشهور انتهى وبه يندفع بعض الشكوك التي عرضت لبعض الناظرين في هذا المقام وقيل في تقدم عدم الملكة على الوجود : إن عدم الملكة عدم مخصوص والعدم المطلق في ضمنه وهو متقدم على الوجود في سائر المخلوقات
ولذا قال الامام : إنما قدم الظلمات على النور لأن عدم المحدثات متقدم على وجودها كما جاء في حديث رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره وفي أخرى ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك جف القلم بما هو كائن
وعليه الظلمة في الخبر بمعنى العدم والنور بمعنى الوجود ولا يلائمه سياق الحديث والظأهر ما قيل الظلمة عدم الهداية وظلمة الطبيعة والنور الهداية ومن المتكلمين من زعم أن الظلمة عرض يضاد النود واحتج لذلك بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل وتحقيقه على ما قيل أن الجعل هنا ليس بمعنى الخلق والايجاد بل تضمين شيء شيئا وتصييره قائما به ثيام المظروف بالظرف أو الصفة بالموصوف والعدم من الثاني فصح تعلق الجعل به وإن لم يكن موجود عينا وفي الطوالع أن العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل كالوجود الحادث فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك
ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
1
- يحتمل أن يكون يعدلون فيه من العدل بمعنى العدول أو منه بمعنى التسوية والكفر يحتمل أن يكون بمعنى الشرك المقابل للايمان أو بمعنى كفران النعمة والباء يحتمل أن تتعلق بكفروا وأن تتعلق بيعدلون وعلى التقادير فالجملة إما إنشائية لانشاء الاستبعاد أو إخبارية واردة للاخبار عن شناعة ما هم عليه ثم هي إما معطوفة على جملة الحمد لله انشاء أو أخبارا أو على قوله سبحانه خلق صلة الذي أو عل الظلمات مفعول جعل فالاحتمالات ترتقي إلى أربعة وستين حاصلة من ضرب ستة عشر احتمالات المعطوف في اربعة اعني احتمالات المعطوف عليه وإذا لوحظ هناك أمور
(7/84)
آخر مشهورة بلغت الاحتمالات أربعة آلاف وزيادة ولكن ليس لنا إلى هذه الملاحظة كبير داع والذي اختاره كثير من المحققين من تلك الاحتمالات أن تكون الجملة معطوفة على جملة الحمد والعدل بمعنى العدول أي الانصراف والجار متعلق بكفروا وهو من الكفر بمعنى الشرك أو كفران النعمة ويقدر مضاف بعد الجار والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلق من النعم اجسام التي أنعم بها على الخاص والعام ثم الذين أشركوا به أو كفروا بنعمه يعدلون فيكفرون نعمه وأن تكون معطوفة على جملة الصلة والعدل بمعنى التسوية والجار متعلق به والكفر بأحد المعنيين
والمعنى أنه سبحانه خلق هذ النعم الجسام والمخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه ثم إن هؤلاء الكفرة أو هؤلاء الجاحدين للنعم يسوون به غيره ممن لايقدر عليها وهم في قبضة تصرفه ومهاد تربيته
و ثم لاستبعاد ما وقع من الذين كفروا أو للتوبيخ عليه كما قال ابن عطية وجعلها ابو حيان لمجرد التراخي في الزمان وهو وإن صح هنا باعتبار أن كل ممتد يصح فيه التراخي باعتبار أولع والفور باعتبار آخره كما حققه النحاة إلا أن ماذكر أوفق بالمقام ونكتة وضع الرب موضع ضميره تعالى على تقدير تأكيد امر الاستبعاد ووجه جعل الباء متعلقة بيعدلون على أحد احتماليه وبكفروا على الاحتمال الآخر أنه إذا كان من العدل بمعنى التسوية يقتضي التوصل بالباء بخلاف ما إذا كان منه بمعنى العدول فالظأهر أنها حينئذ متعلقة بما قبلها وما قاله المحقق التفتازاني مني أنه لا مخصص لكل من توجيهي بربهم يعدلون بواحد من العطفين يمكن دفعه بأن وجه تخصيص كل بما خصص به اتساق نظم الآية حينئذ وظهور شدة المناسبة بين ما عطف بثم الاستبعادية وبين ما عطف عليه وذلك لأنه إذا قيل مثلا في الصورة الأولى إن الله تعالى إستحق جميع المحامد من العباد فهم أن العدول عنه تعالى والاعراض عن حمده سبحانه في غاية الاستبعاد فيناسب أن يقال : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه فلا يحمدونه ولا يتلفتون لفتة ولا يناسب أن يقال : إنهم يسوون به غيره إذ لم يسبق صريحا وبالقصد الأولي ما ينفي التسوية وإذا قيل مثلا في الصورة الثانية : إنه جعل شأنه خلق هذه الأجسام العظام مما لا يقدر عليه أحد ناسب في الاستبعاد أن يقال : ثم الذين كفروا يسوون به ما لا يقدر على شيء لا أنهم لا يحمدونه وعرضون عنه
وقال بعض المحققين : إذا كان المعنى على الأول الحمد والثناء مستحق للمنعم بهذه النعم الشاملة سائر الأمم فكيف يتأتى من الكفرة والمشركين المستغرقين في بحار إحسانه العدول عنه وعلى الثاني المعروف بالقدرة على إيجاد هذه المخلوقات العظأم التي دخل فيها كل ما سواه من الخاص والعام كيف يتسنى لهؤلاء الكفرة أو لهؤلاء الجاحدين للنعم أن يسووا به غيره وهم في قبضته فوجه التخصيص في الأول أنه لا يخفى استبعاد انصراف العبد عن سيده وولي نعمته إلى سواه بخلاف التسوية فان المنعم قد يساويه غيره ممن يحسن إلى غيره وفي الثاني أن استبعاد التسوية عليه مما لا يكاد يتصور بخلاف العدول عنه فانه قد يتصور لجهل العادل بحقه فان العدول لا ينافي عدم المعرفة بخلاف التسوية فانه لا يسوي بين شيئين لا يعرفهما بوجه ما فتدبر
واعترض غير واحد على العطف على الصلة بأنه لا وجه لضم ما لا دخل له في استحقاق الحمد
(7/85)
إلى ماله ذلك ثم جعل المجموع صلة في مقام يقتضي كون الصلة محمودا عليه وأجيب بأن في الكلام على ذلك التقدير إشارة إلى علو شأنه تعالى وعموم إحسانه للمستحق وغيره حيث ينعم بمثل تلك النعم الجليلة على من لا يحمده ويشرك به جل شأنه وفي ذلك تعظيم منبيء عن كمال الاستحقاق وقد يقال : وقوع هذا المعطوف موقع المحمود عليه باعتبار معنى التعظيم المستفاد من انكار مضمونه فكأنه قيل الحمد لله جل جنابه عن أن يعدل به شيء لكن لا يخفى أن المحمود عليه يجب في المشهور أن يكون جميلا اختياريا وما ذكر ليس كذلك فعليه لابد من التأويل
وذكر شيخ الاسلام في الاعتراض على العطف المذ : ور أن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده تعالى حقه أن يكون له دخل في ذلك الانباء في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزل عنه وإدعاء أن له دخلا فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل : الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا يساعده النظام وتعكيس يأباه المقام كيف لا وسياق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات لتوبيخ الكفرة ببيان غاية اساءتهم في حقه سبحانه وتعالى مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيان احسانه تعالى إليهم مع غاية اساءتهم في حقه عز و جل كما يقتضيه الادعاء المذكور وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الافادة فما ظنك بروادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام انتهى
ورد بأنه لا شك في أنه على هذا الوجه يراد الحمد لله الذي أنعم بهذه النعم الجسام على من لا يحمده ولا تعسف فيه لبلاغته وادعاء التعكيس ممنوع فان المقام مقام الحمد كما تفيده الجملة المصدر بها وما بعده كلام آخر ولا يترك مقتضى مقام لأجل مقتضى مقام ءاخر إذ لكل مقام مقال وأعترض أيضا بأنه لا يصح من جهة العربية لأن الجملة خالية من رابط يربطها بالموصول اللهم إلا أن يخرج على نحو قولهم : ابو سعيد رويت عن الخدري حيث وضع الظأهر موضع الضمير وكأنه قيل : ثم الذين كفروا به يعدلون إلا أن هذا من الندور بحيث لا يقاس عليه فلا ينبغي حمل كتاب الله تعالى على مثله مع امكان حمله على الوجه الصحيح الفصيح وأجيب بانه لا يلزم من ضعف ذلك في ربط الصلة إبتداء ضعفه فيما عطف عليها فكثيرا ما يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره والجواب بأن هذا العطف لا يحتاج إلى الرابط عجيب لأنه لم يقل أحد من النحاة : إن المعطوف على الصلة بثم يجوز خلوه عن الرابط وغاية ما ذكروه أنه نكتة للربط بالاسم
واعترض شيخ الاسلام على احتمال أن يراد بالعدل العدول مع اعتبار التشنيع عليهم بعدم الحمد بأن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته أشد شناعة وأعظم جناية من عدولهم عن حمده سبحانه فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصودا بالافادة واخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ منه مما لا عهدة له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي وأجيب بانه لما كان المقام مقام الحمد ناسب التشنيع عليهم بذلك فلا يرد اعتراض الشيخ وقد ذكر هو قدس سره توجيها للآية وادعى أنه الحقيق بجزالة التنزيل وحط عليه الشهاب فيه ولعل الأمر أهون من ذلك والذي تصدح به كلماتهم أن صلة يعدلون على تقدير أن يكون من العدل بمعنى العدول متروكة ليقع الانكار على نفس الفعل وإنما قدروا له مفعولا على تقدير أن يكون من العدل
(7/86)
بمعنى التسوية فقالوا : غيره أو الاوثان لأنه لا يحسن انكار العدل بخلاف انكار العدول ونظر في ذلك بأن مجرد العدول بدون اعتبار متعلقه غير منكر ألا ترى أن العدول عن الباطل لا ينكر فالظاهر اعتابر المتعلق إلا أنه حذف لأجل الفاصلة كما أن تقديم بربهم على احتمال تعلقه بما بعد لذلك ويجوز أن يكون للاهتمام
وقال بعض المحققين : إن هذا وان ترءاى في باديء النظر لكنه عند التحقيق ليس بوارد لأن العدول وإن كان له فردان أحدهما مذموم وهو العدول عن الحق إلى الباطل وممدوح وهو العدول عن الباطل إلى الحق لكن العدول الموصوف به الكفار لا يحتمل الثاني فلتعينه لا يحتاج إلى تقدير متعلق وتنزيله منزلة اللازم أبلغ عند التأمل بخلاف التسوية فانها من النسب التي لا تتصور بدون المتعلق فلذا قدروه ومن هذا يعلم أن تنزيل الفعل منزلة اللازم الشائع فيما بينهم إنما يكون أو يحسن فيما ليس من قبيل النسب هذا وأخرج ابن الضريس في فضائل القرءان وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن كعب قال : فتحت التوراة بالحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وختمت بالحمد لله الذي لم يتخذ ولدا إلى قوله سبحانه وتعالى وكبره تكبيرا
هو الذي خلقكم من طين استئناف مسوق لبيان كفرهم بالبعث والخطاب وإن صح كونه عاما لكنه هنا خاص بالذين كفروا كما يدل عليه الخطاب الآتي ففيه التفات والنكتة فيه زيادة التشنيع والتوبيخ وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر أدلة صحة البعث مع أن ما تقدم من أظهر أدلته لما أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة ومعنى خلق المخاطبين من طين أنه ابتداء خلقهم منه فانه المادة الاولى لما أنه أصل آدم عليه الصلاة و السلام وهو أصل سائر البشر ولم ينسب سبحانه الخلق اليه عليه الصلاة و السلام مع أنه المخلوق منه حقيقية وكفاية ذلك في الغرض الذي سيق له الكلام توضيحا لمنهاج القياس ومبالغة في إزاحة الشبهة والالتباس وقيل في توجيه خلقهم منه : إن الانسان مخلوق من النطفة والطمث وهما من الأغذية الحاصلة من التراب بالذات او بالواسطة
وقال المهدوي في ذلك : إن كل إنسان مخلوق ابتداء من طين لخبر ما من مولود يولد إلا ويذر على نطفته من تراب حفرته وفي القلب من هذا الشيء والحديث إن صح لا يخلوا من ضرب من التجوز وقيل : الكلام على حذف مضاف أي خلق آباءكم وأياما كان ففيه من وضوح اللالة على كمال قدرته تعالى شأنه على البعث ما لا يخفى فان من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة
ثم قضى أي قدر وكتب أجلا أي حدا معينا من الزمان للموت و ثم للترتيب في الذكر دون الزمان لتقدم القضاء على الخلق وقيل : الاطهر التتيب في الزمان ويراد بالتقدير والكتابة ما تعلم به الملائكة وتكتبه كما وقع في حديث الصحيحين إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه اربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر باربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد
وأجل مسمى أي حد معين للبعث من القبور وهو مبتدأ وصح الابتداء به لتخصيصه بالوصف أو لوقوعه في موقع التفصيل و عنده هو الخبر وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره وقدم على خبره الظرف
(7/87)
معمع أن في الشائع في النكرة المخبر عنها به لزوم تقديمه عليها وفاء بحق التفخيم فان ما قصد به ذلك حقيق بالتقديم فالمعنى وأجل اي أجل مستقل بعلمه سبحانه وتعالى لا يقف على وقت حلوله سواء جل شأنه لا إجمالا ولا تفصيلا وهذا بخلاف أجل الموت فانه معلوم إجمالا بناء على ظهور أماراته أو على ما هو المعتاد في أعمال الانسان
وقيل : وجه الاخبار عن هذا أو التقييد بكونه عنده سبحانه وتعالى أنه من نفس المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى والأول أيضا وإن كان لا يعلمه إلا هو قبل وقوعه كما قال تعالى : وما تدري نفس بأي أرض تموت لكنا نعلمه للذين شاهدنا موتهم وضبطنا تواريخ ولادتهم ووفاتهم فنعلمه سواء أريد به آخر المدة أو جملتها متى كانت وكم مدة كان
وذهب بعضهم إلى أن الأجل الأول ما بين الخلق والموت والثاني ما بين الموت والبعث وروى ذلك الحسن وابن المسيب وقتادة والضحاك واختاره الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه حيث قال : قضى أجلا من مولده إلى مماته وأجل مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه سبحانه فاذا كان الرجل صالحا واصلا لرحمه زاد الله تعالى له في أجل الحياة من أجل الممات إلى البعث وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله تعالى من أجل الحياة وزاد من أجل الممات وذلك لقوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب وعليه فمعنى عدم تغيير الأجل عدم تغيير آخره وقيل : الأجل الأول الزمن الذي يحيي به أهل الدنيا إلى أن يموتوا والأجل الثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له ونسب ذلك إلى مجاهد وابن جبير واختاره الجبائي
ولا يخفى بعد إطلاق الاجل على المدة الغير المتناهية وعن ابي مسلم أن الأجل الأول أجل من مضي والثاني أجل من بقي ومن يأتي وقيل : الاول النوم والثاني : الموت رواه ابن جرير وابن ابي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأيده الطبرسي بقوله تعالى : ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى ولا يخفى بعده لأن النوم وإن كان أخا الموت لكنه لم تعهد تسميته أجلا وإن سمي موتا وقيل : إن كلا الأجلين للموت ولكل شخص أجلان أجل يكتبه وهو يقبل الزيادة والنقص وهو المراد بالعمر في خبر إن صلة الرحم تزيد في العمر ونحوه وأجل مسمى عنده سبحانه وتعالى لا يقبل التغيير ولا يطلع عليه غيره عز شأنه وكثير من الناس قالوا : إن المراد بالزيادة الواردة في غير ما خبر الزيادة بالبركة والتوفيق للطاعة وقيل : المراد طول العمر ببقاء الذكر الجميل كما قالوا : ذكر الفتى عمره الثاني وضعفه الشهاب وقيل : الاجلان واحد والتقدير وهذا أجل مسمى فهو خبر مبتدأ محذوف و عنده خبر بعد خبر أو متعلق بمسمى وهو أبعد الوجوه
ثم أنتم تمترون
2
- أي تشكون في البعث كما أخرجه ابن ابي حاتم عن خالد بن معدان وعن الراغب المرية التردد في المتقابلين وطلب الامارة مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر ووجه المناسبة في استعماله في الشك أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم قيل : الامتراء الجحد وقيل : الجدال وأيا ما كان قالمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقطع مادة ذلك بالكلية فان من قدر على إفاضة الحياة وما يتفرع عليها على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك كان أوضح اقتدارا على إفاضته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة ومن هذا يعلم أن شطرا من تلك الأوجه
(7/88)
السابقة آنفا لا يلائم مساق النظم الكريم وتوجيه الاستبعاد إلى الامتراء على التفسير الأول مع أن المخاطبين جازمون بانتفاء البعث مصرون على جحوده وانكاره كما ينبيء عنه كثير من الآيات للدلالة على أن جزمهم ذلك في أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار
وذكر بعض المحققين أن اةية الأولى دليل التوحيد كما أن هذه دليل البعث ووجه ذلك بأنها تدل على أنه لا يليق الثناء والتعظيم بشيء سواه عز و جل لأنه المنعم لا أحد غيره ويلزم منه أنه لا معبود ولا إله سواه بالطريق الأولى وزعم بعضهم أنها لا تدل على ذلك إلا بملاحظة برهان التمانع إذ لو قطع النظر عنه لا تدل على أكثر من وجود الصانع ومنشأ ذلك حمل الدليل على البرهان العقلي أو مقدماته التي يتألف منها أشكاله وليس ذلك باللازم ومن الناس من جعل اةية الأولى أيضا دليلا على البعث على منوال قوله تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ولا يخفى أنه خلاف الظاهر
وقوله سبحانه وتعالى وهو الله جملة من مبتدأ عائد إليه سبحانه كما قال الجمهور وخبر معطوفة على ما قبلها مسوقة لبيان شمول أحكام الهيته لجميع المخلوقات واحاطة علمه بتفاصيل أحوال العباد وأعمالهم المؤدية إلى الجزاء إثر الاشارة إلى تحقق المعاد في تضاعيف ما تقدم والحمل ظاهر الفائدة إذا اعتبر ما يأتي وإلا فهو على حد أنا أبو النجم وشعري شعري وقوله تعالى في السموات وفي الأرض متعلق على ما قيل بالمعنى الوصفي الذي تضمنه الاسم الجليل كما في قولك : هو حاتم في طيء على معنى الجواد
والمعنى الذي يعتبر هنا يجوز أن يكون هو المأخوذ من اصل اشتقاق الاسم الكريم أعني المعبود أو ما أشتهر به الأسم من صفات الكمال إلا أنه يلاحظ في هذا المقام ما يقتضيه منها أو ما يدل عليه التركيب الحصري لتعريف طرفي الاسناد فيه من التوحيد والتفرد بالالوهية أو ما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه تعالى خاصة فكأنه قيل : وهو المعبود فيهما أو وهو المالك والمتصرف المدبر فيهما حسبما يقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة أو وهو المتوحد بالالوهية فيهما أو وهو الذي يقال له : الله فيهما لا يشرك به شيء في هذا الاسم ومعنى ذلك مجرد ملاحظة أحد المعاني المذكورة في ضمن ذلك الاسم الجليل ويكفي مثل ذلك في تعلق الجار لا أنه يحمل لفظ الله على معناه اللغوي أو على المالك والمتصرف أو المتوحد أو يقدر القول وعلى كل تقدير يندفع ما يقال : إن الظرف لا يتعلق باسم الله تعالى لجموده ولا بكائن لأنه حينئذ يكون ظرفا لله تعالى وهو سبحانه وتعالى منزه عن المكان والزمان ومن الناس من جوز تعلقه بكائن على أنه خبر بعد خبر والكلام حينئذ من التشبيه البليغ أو كناية على رأي من لم يشترط جواز المعنى الأصلي أو استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة التي حصلت من إحاطة علمه سبحانه وتعالى بالسموات والارض وبما فيهما بحالة بصير تمكن في مكان ينظره وما فيه والجامع بينهما حضور ذلك عنده
وجوز أن يكون مجازا مرسلا باستعماله في لازم معناه وهو ظاهر وأن يكون استعارة بالكتابة بأن شبه عز أسمه بمن تمكن في مكان وأثبت له من لوازمه وهو علمه به ربما فيه وليس هذا من التشبيه المحظور في شيء وعليه يكون قوله تعالى : يعلم سركم وجهركم أي ما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال أو منها ومن
(7/89)
الافعال بيانا للمراد وتوكيدا لما يفهم من الكلام وتعليق علمه سبحانه بما ذكر خاصة مع شموله لجميع من في السموات وصاحبتها لانسياق النظم الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا يعتبر بيانا على تقدير اعتبار ما اشتهر به الاسم الجليل من صفات الكمال عند تعلق الجار على ما علمت فان ملاحظته من حيث المالكية الكاملة والتصرف الكامل حسبما تقدم مستتبعة لملاحظة علمه تعالى المحيط حتما
وعلى التقادير الأخر لا مساغ كما قيل لجعله بيانا لأن ما ذكر من العلم غير معتبر في مفهوم شيء من المعبودية واختصاص اطلاق الاسم عليه تعالى وكذا مفهوم بالالوهية فكيف يكون هذا بيانا لذلك واعتبار العلم فيما صدق عليه المتوحد غير كاف في البيانية وقيل في بيانها على تقدير اعتبار المتوحد بالألوهية : إن حصر الألوهية بمعنى تدبير الخلق ومن تفرد بتدبير جميع أمور أحد لزمه معرفة جميعها حتى يتم له تدبيرها فملاحظة المتوحد بالألوهية مستتبعة لملاحظة علمه تعالى المحيط على طرز ما تقرر في ملاحظة اسمه عن اسمه من حيث المالكية الكاملة والتصرف الكامل على الوجه المتقدم
ومن هذا يعلم اندفاع ما أورد على أحتمال تعلق الجار السابق باعتبار ملاحظة المتوحد بالألوهية من أن التوحد بها أمر لا تعلق له بمكان فلا معنى لجعله متعلقا بمكان فضلا عن جميع الأمكنة فان تدبير الخلق مما يتعلق بما في حيز الجار من الحيز وكذا بما فيه وتعقب ذلك بمنع تفسير الالوهية بما ذكر ولعل الجملة على هاتيك التقادير خبر ثالث وقد جوز غير واحد الاخبار بالجملة بعد الاخبار بالمفرد وبعضهم جعلها كذلك مطلقا والقرينة على إرادة المراد من الجملة الظرفية حينئذ عقلية وهي أن كل أحد يعلم أنه تقدس وتعالى منزه عما يقتضيه الظأهر من المكان وذلك كما في قوله تعالى : وهو معكم أينما كنتم إذ لم يردف بما يبينه وجوز أن يكون كلاما مبتدأ وهو استئناف نحوي ورجحه غير واحد لخلوه عن التكلف أو استئناف بياني ويتكلف له تقدير سؤال وقيل : إن الجملة هي خبر هو والاسم الجليل بدل منه والظرف يتعلق بيعلم ويكفي في ذلك كون المعلوم فيما ذكر لا يتوقف على كون العالم فيه ليلزم تحيزه سبحانه وتعالى المحال وهذا كما قيل كقولك : رميت الصيد في الحرم فانه صادق إذا كنت خارجه والصيد فيه
ونقل بعض المدققين عن الامام التمرتاشي في الايمان إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل كما إذا قلت : إذا ضربت في الدار أو في المسجد فان كان معا فيه في فالأمر ظاهر وإن كان الفاعل فيه دون المفعول أو بالعكس فان كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه فلذا قال بعض الفقهاء : لو إن شتمته في المسجد أو رميت اليه فكذا فشرط حنثه كون الفاعل فيه وإن قال : إن ضربته في المسجد أو جرحته أو قتلته أو رميته فكذا فشرطه كون المفعول فيه وفرق بين الرميين المتعدي بالى والمتعدي بنفسه بأن الأول إرسال السهم من القوس بنية وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل والثاني إرسال السهم أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى اليه فيؤثر فيه ولذا عد كل منهما في قبيل وعلى هذا يشكل ما نحن فيه لأن العلم لا يظهر له أثر في المعلوم فيلزم أن يكون الكلام من قبيل شتمته في المسجد ويجيء المحال وكون العلم هنا مجازا عن المجازاة وهي مما يظهر أثرها في المفعول فيكون الكلام من قبيل إن ضربته في المسجد ويكفي المفعول فيه دون الفاعل في القلب منه شيء على أن كون المفعول هنا أعني سر المخاطبين وجهرهم في السموات مما لا وجه له
(7/90)
والقول بأن المعنى حينئذ يعلم نفوسكم المفارقة الكائنة في السموات ونفوسكم المقارنة لابدانكم الكائنة في الأرض تعسف وخروج عن الظأهر على أن الخطاب حينئذ يكون للمؤمنين وقد كان فيما قبل الكافرين فتفوت المناسبة والارتباط ومثله القول بتعميم الخطاب بحيث يشمل الملائكة وظاهر أن سرهم وجهرهم في السموات
وأجيب بأنه يمكن أن يكون جعل سر المخاطبين وجهرهم فيها لتوسيع الدائرة وتصوير أنه سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه شيء في أي مكان كان لا أنهما يكونان في السموات أيضا وقيل : المراد السر ما كتم عنهم من عجائب الملك وأسرار الملكوت مما لم يطلعوا عليه وبالجهر ما ظهر لهم من السموات والأرض وإضافة السر والجهر إلى ضمير المخاطبين مجازية وليس بشيء كما لا يخفى
وجوز بعضهم أن يكون الجار متعلقا بالمصدر على سبيل التنازع واعترض بأن معمول المصدر لا يتقدم عليه ويلزم أيضا التنازع مع تقدم المعمول وأجيب بأن منهم من يجوز التنازع مع تقدم المعمول ومن يقول : بجواز تقديم الظرف على المصدر لتوسعهم فيه ما لم يتوسع في غيره ونقل عن ابن هشام أنه قال : إنما يمتنع تقدم متعلق المصدر إذا قدر بحرف مصدري وفعل وهذا ليس كذلك فليس مما منعوه وقال مولانا صدر الدين : يرد على منع تعلق الجار بالمصدر المتأخر تعلقه بإله في قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله مع أن إلها مصدر وصرح بتعلقه به غير واحد فان أول بالصفة مثل المعبود فليؤول السر والجهر بالخفى والظاهر
وعن أبي علي الفارسي أنه جعل هو ضمير الشأن و الله مبتدا خبره ما بعده والجملة خبر عن ضمير الشأن أي الشأن والقصة ذلك ويعلم ما تكسبون
3
- أي ما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر من الاعمال المكتسبة بالقلوب والجوارح سرا وعلانية وتخصيص ذلك بالذكر مع اندراجه فيما تقدم على تقدير تعميم السر والجهر لاظهار كما الاعتناء به لأنه مدار فلك الجزاء وهو السر في إعادة يعلم ومن الناس من غاير بين المتعاطفين بجعل العلم هنا عبارة عن جرائه وإبقائه على معناه المتبادر فيما تقدم وتفسير المكتسب بجزاء الأعمال من المثوبات والعقوبات غير ظاهر وكذا حمل السر والجهر على ما وقع والمكتسب على مالم يقع بعد
وما تأتيهم ءاية من ءايات ربهم كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله تعالى واعراضهم عنها بالكلية بعد بيان كفرهم بالله تعالى واعراضهم عن بعض آيات التوحيد وامترائهم في البعث واعراضهم عن بعض أدلته والاعراض عن خطابهم للايذان بأن اعراضهم السابق قد بلغ مبلغا اقتضى أن لا يوجهوا بكلام بل يضرب عنهم صفحا وتعدد جناياتعن لغيرهم ذما لهم وتقبيحا لحالهم فما نافية وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية كا أشار اليه العلامة البيضاوي ولله تعالى دره أو للدلالة على الاستمرار التجددي ومن الأولى مزيدة للاستغراق أو لتأكيده والثانية للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف مجرور أو مرفوع وقع صفة لآية وجعلها ابن الحاجب للتبيين لأن كونها للتبعيض ينافي كون الأولى للاستغراق إذ الآية المستغرقة لا تكون بعضا من الآيات ورد بأن الاستغراق ههنا لآية متصفة بالاتيان فهي وإن استغرقت بعض من جميع الآيات على أن كلامه بعد لا يخلوا عن نظر
وإضافة الآيات إلى الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترؤوا عليه في حقها
(7/91)
والمراد بها إما الآيات التنزيلية أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات والاتيان على الأول بمعنى النزول وعلى الثاني بمعنى الظهور على ما قيل ويفهم من كلام بعض المحققين أنه مطلقا بمعنى الظهور استعمالا له في لازم معناه وهو المجيء الذي لايوصف به الأجسام مجازا لا كناية كما قيل
وحاصل المعنى على الأول ما تنزل إليهم آية من الآيات القرآنية الجليلة الشأن التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى شأنه المنبئة عن جريان أحكام ألوهيته على كافة الكائنات وإحاطة علمه بجميع أحوال العباد واعمالهم الموجبة للاقبال عليها والايمان بها
إلا كانوا عنها معرضين
4
- غير مقبلين عليها ولا معتنين بها وعلى الثاني ما تظهر لهم ءاية من الآيات التكوينية التي من جملتها ما ذكر من جلائل شؤونه سبحانه وتعالى الشاهدة بوحدانيته عز و جل إلا كانوا تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الايمان بمكونها وأصل الاعراض صرف الوجه عن شيء من المحسوسات واستعماله في عدم الاعتناء أو ترك النظر مجاز على ما حققه البعض وفسر شيخ الاسلام الاعراض عن الوجه الاول بما كان على وجه التكذيب والاستهزاء و عن متعلقة بمعرضين والتقديم لرعاية الفواصل
والجملة بعد إلا كما قال الكرخي في موضع النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المخصص بالوصف كما قيل وهي مشتملة على ضمير كل منهما وإيثارها على أعرضوا عنها كما وقع مثله في قوله تعالى وإن يروا آية يعرضوا للدلالة على استمرارهم على الاعراض حسب استمرار اتيان الآيات
وفي الكلام إشارة إلى غاية انهما كهم في الضلال حيث آذن أن اعراضهم عما يأتيهم من اةيات أن الاتيان كما يفصح عنه كلمة لما في قوله تعالى : فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فان الحق عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه وعبر عنه بذلك اظهارا لكمال فظاعة ما فعلوا به والفاء على تقدير أن يراد بالآيات الآيات التنريلية كما هو الأطهر على ما قرره مولانا شيخ الاسلام لترتيب ما بعدها على ما قبلها لا باعتبار أنه مغاير له حقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل على أنه عينه في الحقيقة والترتيب بحسب التغاير الاعتباري حيث أن مفهوم التكذيب بالحق أشنع من الاعراض المذكور إذ هو مما لا يتصور صدوره من أحد
ولذلك أخرج مخرج اللازم البين البطلان وترتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل بل آن المجيء تأكيدا لشناعة فعلهم الفظيع وعلى تقدير أن يراد الآيات التكوينية داخلة على جواب شرط محذوف والمعنى على الأول حيث أعرضوا عن تلك الآيات حين إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن لعاقل تكذيبه أصلا من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه وعلى الثاني أنهم إن كانوا معرضين عن الآيات حال إتيانها فلا تعجب من ذلك فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظ من الاعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات واختار في البحر كون الفاء سببية وما بعدها مسبب عما قبلها وجوز أيضا كونها سببية على معنى أن ما بعدها سبب لما قبلها فقد قال الرضى : وقد تكون الفاء السببية بمعنى لام السببية وذلك إذا كان ما بعدها سببا لما قبلها نحو قوله تعالى : أخرج منها فانك رجيم وأطلق عليها الكثير حينئذ الفاء التعليلية وهل تفيد الترتيب حينئذ أم لا لم يصرح الرضى
(7/92)
بشيء من ذلك ويفهم كلام البعض أنها للترتيب والتعقيب أيضا
واستشكل بأن السبب متقدم على المسبب ولا متعقب إياه وتكلف صاحب التوضيح لتوجيهه بان ما بعد الفاء علة باعتبار معلول باعتبار ودخول الفاء عليه باعتبار المعلولية لا باعتبار العلية ورد بأنها لا تتأتى في كل محل وفي التلويح الأقرب ما ذكره القوم من أنها إنما تدخل على العلل باعتبار أنها تدوم فتتراخى عن ابتداء الحكم وفي شرح المفتاح الشريفي فان قلت : كيف يتصور ترتب السبب على المسبب قلت : من حيث أن ذكر المسبب يقتضي ذكر السبب أنتهى وعليه يظهر وجه الترتيب هنا مطلقا لكن ظاهر كلام النحاة وغيرهم أن هذه الفاء تختص بالوقوع بعد الأمر كأكرم زيدا فانه أبوك واعبد الله فان العبادة حق إلى غير ذلك فالوجه الأول أولى وليست الفاء فصيحة كما توهمه بعضهم من قول العلامة البيضاوي في بيان معنى الآية كأنه قيل : لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن لأن الفاء الفصيحة لا تقدر جواب لما لأن جوابها الماضي لا يقترن بالفاء الفصيح فكيف يقدر للفاء ما يقتضي عدمها فما مراد العلامة إلا بيان حاصل المعنى ولذا أسقط الفاء نعم قيل : إن هذا المعنى مما ينبغي تنزيه التنزيل عنه وفيه تأمل
وقد صرح بعض المحققين أن أمر الترتيب يجري في الآية سواء كانت الآية بمعنى الدليل أو المعجزة او أةية القرآنية لتغاير الاعراض والتكذيب فيها والفاء في قوله تعالى : فسوف يأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون
5
- للترتيب أيضا بناء على أن ما تقدم لكونه أمرا عظيما يقتضي ترتب الوعيد عليه وقيل : يستهزئون ايذانا بأن ما تقدم كان مقورنا بالاستهزاء
واستدل به ابو حيان على أن في الكلام معطوفا محذوفا أي فكذبوا بالحق واستهزؤا به ولا يخفى أن ذلك مما لا ضرورة اليه وما عبارة عن الحق المذكور وعبر عنه بذلك تهويلا لأمره بابهامه وتعليلا للحكم بما في حيز الصلة والانباء جمع نبأ وهو الخبر الذي يعظم وقعه والمراد بأنباء القرآن التي تأتيهم ويتحقق مدلولها فيهم ويظهر لهم آيات وعيده وإخباره بما يحصل بهم في الدنيا بما يحصل بهم في الدنيا من القتل والسبي والجلاء ونحو ذلك من العقوبات العاجلة وقيل : المراد ما يعم ذلك والعقوبات التي تحل بهم في الآخرة من عذاب النار ونحوه وقيل : المراد بانباء ذلك ما تضمن عقوبات الآخرة أو ظهور الاسلام وعلو كلمته وظاهر ما يأتي من اةيات يرجح الأول
وصرح بعض المحققين بأن إضافة أنباء بيانية وهو احتمال مقبول وادعاء أنه مقحم وأن المعنى سيظهر لهم ما استهزؤا به من الوعيد الواقع فيه أو من نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو نحو ذلك لا وجه له إذ لا داعي لاقحامه وفي البحر إنما قيد الكذب بالحق هنا وكان التنفيس بسوف وفي الشعراء فقد كذبوا فسيأتيهم بدون تقييد الكذب والتنفيس بالسين لأن الانعام متقدمة في النزول على الشعراء فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو المراد احالة على الاول وناسب الحذفالاختصار في حرف التنفيس فجيء بالسين
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن استئناف مسوق لتعيين ما هو والمراد بما تقدم وقيل : شروع في توبيخهم ببذل النصح لهم والأول أظهر والرؤية عرفانية وقيل : بصرية والمراد في أسفارهم وليس بشيء وهي على التقديرين تستدعي مفعولا واحدا و كم استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما في حيزها مسد مفعولها وهي منصوبة باهلكنا على المفعولية وهي عبارة
(7/93)
عن الأشخاص وقيل : إن الرؤية علمية تستدعي مفعولين والجملة سادة مسدها و من قرن مميز لكم على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا بذلك لاقترانهم مدة من الزمان فهو من قرنت واختلف في مقدار تلك المدة فقيل مائلآ وعشرون سنة وقيل : مائة وقيل : ثمانون وقيل سبعون وقيل : سنون وقيل : ثلاثون وثيل : عشون وقيل : مقدار الأوسط في أعمار أهل كل زمان ولما كان هذا لا ضابط له يضبط قال الزجاج : إنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم على ما جرت به عادة الله تعالى ويحتمل أن يعتبر مائة سنة لما ورد أن الله تعالى قيض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها
وقيل : هي عبارة عن مدة من الزمان اختلف فيها على طرز ما تقدم واختار بعضهم أنه حقيقة في الزمان المعين وفي أهله والمراد به هنا ألاهل من غير تجشم تقدير مضاف أو ارتكاب تجوز
وجوز بعضهم انتصاب كم على المصدرية باهلكنا بمعنى إهلاك او على الظرفية بمعنى أزمنة وهو تكلف ومن الأولى إبتدائية متعلقة بأهلكنا وهمزة الانكار لتقرير الرؤية والمعنى ألم يعرف هؤلاء المكذبون المستهزئون بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كم أمة أهلكنا من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأضرابهم فالكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وقوله تعالى : مكناهم في الأرض استئناف بياني كأنه قيل ما كان حالهم وقال ابو البقاء : إنه في موضع جر صفة قرن لأن الجمل بعد النكرات صفات لاحتياجها إلى التخصيص وجمع الضمير باعتبار معناه وتعقبه مولانا شيخ الاسلام بأن تنوينه التفخيمي مغن له عن استدعاء الصفة على أن مع اقتضائه أن يكون مضمونه ومضمون ما عطف عليه من الجمل الأربع مفروغا عنه غير مقصود لسياق النظم مؤد إلى اختلال النظم الكريم كيف لا والمعنى حينئذ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وباهلاكنا لهم بذنوبهم وأنه بين الفساد انتهى ولا يخفى أن التنوين التفخيفي لا يأبى الوصف وما ورد فيه ذلك من النكرات أكثر من أن يحصى وأما ما ذكره بعد فقد قال الشهاب : إنه غفلة منه أو تغافل عن تفسيرهم فاهلكناهم ألخ الآتي بقولهم لم يغن ذلك عنهم شيئا وتمكين الشيء في الأرض على ما قيل جعله قارا فيها ولما لزم ذلك جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه في الأرض ومنه قوله تعالى : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وأخرى مكن له في الأرض ومنه قوله تعالى : إنا مكنا له في الأرض حتى أجرى كل منهما مجرى الآخر ومنه قوله تعالى : ما لم نمكن لكم بعدما تقدم كأنه قيل في الأول : مكنا لهم وفي الثاني ما لم نمكنكم
وفي التاج إن مكنته ومكنت له مثل نصحته ونصحت له وقال ابو علي : اللام زائدة مثل ردف لكم وكلام الراغب في مفرداته يويده وذكر بعض المحققين أن مكنه أبلغ من مكن له ولذلك خص المتقدم بالمتقدمين والمتأخر بالمتأخرين و ما إما موصولة صفة لمحذوف تقديره التمكين الذي نمكنه لكم أو نكره موصوفة أي تمكينا لم نمكنه وعليهما فهي مفعول مطلق والعائد إليها من الصلة أو الصفة محذوف وقيل : إنها مفعول به لأن المراد من التمكين الاعطاء كما يشير اليه ما روي عن قتادة أي أعطيناهم ما تمكنوا به من أنواع التصرف ما لم نعطكم وقيل : إنها مصدرية ظرفية أي مدة عدم تمكينكم ولا يخفى بعده والخطاب
(7/94)
للكفرة وقيل : لجميع الناس وقيل : للمؤمنين والظاهر الأول والالتفات لما في مواجهتهم بضعف حالهم من التبكيت ما لا يخفى وقيل : ليتضح مرجع الضميرين ولا يشتبه من أول الأمر وهي نكتة من الالتفات لم يعرج عليها أهل المعاني
وأرسلنا السماء أي المطر كما روي عن هرون التيمي ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وقيل : السحاب واستعمالها في ذلك مجاز مرسل وقيل : هي على حقيقتها بمعنى المظلة والمجاز في إسناد الارسال اليها لأن المرسل ماء المطر وهي مبدأ له وفيه من المبالغة ما لا يخفى والارسال والانزال كما في البحر متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعا عليهم مدرارا أي غزيرا كثير الصب وهو صيغة مبالغة يستوي في المذكر والمؤنث وهو حال من السماء والظرف متعلق بارسلنا وجعلنا الأنهار أي صيرناها تجري من تحتهم أي من تحت مساكنهم والمراد أنهم عاشوا في الخصب والريف بين الانهار والثمار والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا ولم يقل سبحانه : أجرينا الأنهار كما قال عز شأنه : أرسلنا السماء للايذان بكونها مسخرة مستمرة الجريان لا لأن النهر لا يكون إلا جاريا فلا يفيد الكلام لأن النظم حينئذ ناظر إلى كونه من تحتهم فالفائدة ظاهرة ولو كان ماذكر صحيحا لما ورد في النظم الكريم كقوله تعالى : تجري من تحتها الأنهار واستظهر كون الجعل بمعنى الانشاء والايجاد وهو مخصوص به تعالى فلذا غير الاسلوب وعليه فالجملة في موضع الحال من المفعول وليس المراد على ما قيل بتعداد هاتيك النعم العظام الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم في كفرانها واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيان حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومباديء الامن من المكاره والمعاطب وعدم اغناء ذلك عنهم شيئا وينبيء عن عدم الاغناء عند جمهور المفسرين
قوله تعالى : فأهلكناهم بذنوبهم والفاء للتعقيب وقيل : فصيحة والمراد فكفروا فأهلكناهم ورجح الأول والباء للسببية أي أهلكناكل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب كتكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنشأ أي أوجدنا من بعدهم أي بعد أهلاكهم بسبب ذلك قرنا ءاخرين
6
- بدلا من الهالكين وهذا بيان لأنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخلى بلاده منهم جل جلاله قادر على أن ينشيء مكانهم آخرين يعمر بهم البلاد فهو كالتتميم لما قبله نحو قوله تعالى : ولا يخاف عقباها وفيه إشارة إلى أنهم قلعوا من أصلهم ولم يبق أحد من نسلهم لجعلهم آخرين وكونهم من بعدهم ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس استئناف سيق بطريق تلوين الخطاب لبيان شدة شكيمتهم في المكابرة وما يتفرع عليها من الاقاويل الباطلة إثر بيان ما هم فيه من غير ذلك
وعن الكلبي : وغيره أنها نزلت في النضر بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى وأنك رسوله والكتاب المكتوب والجار بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أو متعلق به وقيل : إن جعل اسما كالامام فالجار في موضع الصفة له وإن جعل مصدرا بمعنى المكتوب فهو متعلق به
(7/95)
وجوز أن يتعلق بنزلنا وفيه بعد والقرطاس بكسر القاف وضمها وقريء بهما معرب كراسة كما قيل وممن نص على أنه غير عربي الجواليقي وقيل : إنه مشترك ومعناه الورق وعن قتادة الصحيفة وفي القاموس القرطاس مثلثة القاف وكجعفر ودرهم الكاغد وقال الشهاب : هو مخصوص بالمكتوب أو أعم منه ومن غيره
0 - فلمسوه أي الكتاب أو القرطاس واللمس كما قال الجوهري المس باليد فقوله تعالى : بأيديهم لزيادة التعيين ودفع احتمال التجوز الواقع في قوله تعالى : وأنا لمسنا السماء أي تفحصنا وقيل : إنه أعم من المس باليد فعن الراغب المس ادراك بظاهر البشرة كاللمس وبالتقييد به يندفع احتمال التجوز أيضا
وقيل : إنما قيد بذلك لأن الاحساس باللصوق يكون بجميع الأعضاء ولليد خصوصية في الاحساس ليست لسائرها وأما التجوز باللمس عن الفحص فلا يندفع به إذ لا بعد في أن يكون ذلك لمباشرتهم الفحص بأنفسهم بل يندفع لكون المعنى الحقيقي أنسب بالمقام وليس بشيء كما لا يخفى وقيل : إن ذكر الايدي ليفيد أن اللمس كان بكلتا اليدين ولا يظهر وجه الافادة وتخصيص اللمس لأنه يتقدمه الابصار حيث لا مانع ولأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إذا ترك العناد والتعنت : إنما سكرت ابصارنا
واعترض بأن اللمس هنا إنما يدفع احتمال كون المرئي مخيلا وأما نزوله من السماء فلا يثبت به
وأجيب بأنه إذا تأيد الادراك البصري في النزول بالادراك اللمسي في المنزل بجزم العقل بديهة بوقوع المبصر جزما لا يحتمل النقيض فلا يبقى بعده الا مجرد العناد مع أن حدوثه هناك من غير مباشرة أحد يكفي في الاعجاز كما لا يخفى وقال ابن المنير الظأهر أن فائدة زيادة لمسهم بأيديهم تحقيق القراءة على قرب أي فقرؤه وهو بأيديهم لا بعيد عنهم لما آمنوا وقوله تعالى : لقال الذين كفروا جواب لو على الأفصح من اقتران جوابها المثبت باللام والمراد لقالوا تعنتا وعنادا للحق وإنما وضع الموصول موضع الضمير للتنصيص على اتصافهم بما في حيز الصلة من الكفر الذي لا يكفر كما قيل حسن موقعه باعتبار معناه اللغوي أيضا وجوز أن يكون المراد بهم قوم معهودون من الكفرة فحديث الوضع حينئذ موضوع و إن في قوله سبحانه إن هذا أي الكتاب نافية أي ما هذا إلا سحر مبين
7
- أي ظأهر كونه سحرا وقالوا لولا أنزل عليه ملك الظاهر أنه إستئناف لبيان قدحهم بنبوته عليه الصلاة و السلام بما هو أصرح من الأول وقيل : إنه معطوف على جواب لو ويغتفر في الثواني ما يغتفر في الاوائل وأعترض بأن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور بل هي من أباطيلهم المحققة وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل وأجيب بأنه لا بعد في تقدير صدور هذه المقالة على تقدير ذلك التنزيل لأنه مما يوقع الكافر المعاند في حيص بيص فلا يدري بماذا يقابله وأي شيء يتشبث به وكلمة لولا هنا للتحضيض والمقصود به التوبيخ على عدم الاتيان بملك يشاهد معه حتى تنتفي الشبهة بزعمهم
أخرج أبو المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن اسحاق قال : دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قومه إلى الاسلام وكلمهم فابلغ اليهم فيما بلغني فقال له زمعة بن الاسود بن المطلب والنضر بن الحرث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وابن ابي خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى
(7/96)
معك فأنزل الله تعالى قوله سبحانه : وقالوا لولا أنزل الخ أي هلا أنزل عليه ملك يكون معه يحدث الناس عنه ويخبرهم أنه رسول من ربه سبحانه اليهم ولعل هذا نظير ما حكى الله تعالى عنهم بقوله جل شأنه : لولا أنزل اليه ملك فيكون معه نذيرا ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين إنزال الملك على صورته وجعله معه صلى الله عليه و سلم يحدث الناس عنه وينذرهم أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يوجد لاشتماله على المتباينين فان انزال الملك على صورته يقتضي انتفاء جعله محدثا ونذيرا وجعله محدثا ونذيرا يستدعي عدم إنزاله على صورته وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى : ولو أنزلنا عليه ملكا على صورته الحقيقية فشاهدوه بأعينهم : لقضي الأمر أي لأتم أمر هلاكهم بسبب مشاهدتهم له لمزيد هول المنظر مع ماهم فيه من ضعف القوى وعدم اللياقة
وقد قيل : إن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم إنما رأوا الملك في صورة البشر ولم يره أحد منهم على صورته غير النبي صلى الله عليه و سلم رآه كذلك مرتين مرة في الأرض بجياد ومرة في السماء ولا يخفى أن هدا محتاج إلى نقل عن الأحاديث الصحيحة والذي صح من رواية الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها ان النبي صلى الله عليه و سلم رأى جبريل عليه السلام مرتين كما ذكر على صورته الأصلية لكن ليس فيه أحد أن أحدا من أخوانه الأنبياء غيره عليه الصلاة و السلام لم يره كذلك ولم يرد هذا كما قال ابن حجر وناهيك به حافظا في شيء من كتب الآثار وأما رؤية النبي صلى الله عليه و سلم وكذا رؤية غيره من الأنبياء غير جبريل عليه السلام على الصورة الأصلية فهي جائزة بلا ريب وظاهرة الاخبار وقوعها أيضا لنبينا عليه الصلاة و السلام وأما وقوع رؤية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم أقف فيها على شيء لا نفيا ولا إثباتا وعدم وقوع رؤية جبريل عليه السلام لو صح لا يدل على عدم رؤية غيره إذ ليست صور الملائكة كلهم كصورته عليه الصلاة و السلام في العظم وخبر الخصمين والاضياف لابراهيم ولوط وداود عليهم السلام ليس فيه دلالة على أكثر من رؤية هولأء الأنبياء للملائكة بصورة الآدميين وهي لا تستلزم أنهم لا يرونهم الا كذلك والا لاستلزمت رؤية نبينا صلى الله عليه و سلم جبريل عليه السلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله تعالى عنه مثلا عدم رؤيته عليه الصلاة و السلام إياهم إلا بالصورة الآدمية وهو خلاف ما تفهمه الأخبار وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل مسندا إلى نون العظمة مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء وكلمة ثم 9 في قوله تعالى ثم ينظرون
8
- تي لا يمهلون بعد إنزاله ومشاهدتهم له طرفة عين فضلا عن ان يحظوا منه بكلمة أو يزيلوا به بزعمهم شبهة للتنبيه على بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الأنظار فان مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة وقيل : إنها للاشارة إلى أن لهم مهلة قدر أن يتأملوا
واعترض بان قوله سبحانه : ثم لا ينظرون عطف على قوله عز و جل : لقضي ولا يمهل للتأمل بعد قضاء الأمر
وقيل في سبب اهلاكهم على تقدير انزال الملك حسبما اقترحوه : إنهم إذا عاينوه قد نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم في صورته الأصلية وهي ءاية لا شيء أبين منها ثم لم يؤمنوا لم يكن بد من إهلاكهم فان سنة الله تعالى قد جرت بذلك فيمن قبلهم ممن كفر بعد نزول ما اقترح وروي هذا عن قتادة وقيل : إنه يزول
(7/97)
اختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزوله لأن هذه آية ملجئة قال تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا فيجب إهلاكهم لئلا يبقى وجودهم عاريا عن الحكمة إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف وهو لايبقى مع الالجاء وفيه أنه مخالف لقواعد أهل السنة ولا يتسنى الا على قواعد المعتزلة وهي أوهن من بيت العنكبوت ومع هذا هو غير صاف عن الاشكال كما لا يخفى على المتتبع وذكر بعض الفضلاء ان هذا الوجه ينافي ما قبله لدلالة ما قبل على بقاء الاختيار وانهم لا يؤمنون اذا عاينوا الملك قد نزل ودلالة هذا على سلب الاختيار وزواله وان الايمان ايمان يأس
وقال ابن المنير : لا يحسن أن يجعل سبب مناجرتهم بالهلك وضوح الآية في نزول الملك فانه ربما يفهم من ذلك أن الآيات التي لزمهم الايمان بها دون نزول الملك في الوضوح وليس الامر كذلك فالوجه والله تعالى أعلم أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا ما يتوقف وجوب الايمان عليه إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزا لا المعجز الخاص فاذا أجيبوا على وفق مقترحهم فلم ينجع فيهم كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة ولعل الوجه الذي عولنا عليه هو الاولى وقد أخرجه ابن جرير وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والاعتراض عليه بأن لا ينظرون يدل على اهلاكهم لا على هلاكهم بروية الملك يندفع بما أشرنا اليه كما لا يخفى وليس بتكليف يترك له كلام ترجمان القرآن وقد أشي إلى الثاني بقوله سبحانه : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا على أن الضمير الأول للنذير المحدث للناس عنه عليه الصلاة و السلام المفهوم من فحوى الكلام بمعونة المقام والضمير الثاني للملك لا لما رجع اليه الاول أي ولو جعلنا النذير الذي اقترحتم انزاله ملكا لمثلنا ذلك الملك رجلا لعدم استطاعتهم معاينة الملك على هيكله الأصلي وفي إيثار رجلا على بشرا ايذان على ما قيل بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل وفيه اشعار كما قال عصام الدين وغيره بأن الرسول لا يكون امرأة وهو متفق عليه وإنما الاختلاف في نبوتها
والعدول عن ولو أنزلناه ملكا إلى ما في النظم الجليل يعلم سره مما تقدم في بيان المراد وقيل : العدول لرعاية المشاكلة لما بعد ووجه شيخ الاسلام عدم جعل الضمير الأول للملك المذكور قبل بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال : ولو جعلناه نذيرا لجعلناه رجلا مع فهم المراد منه أيضا بأنه لتحقيق أن مناط إبراز الجعل الأول في معرض الفرض والتقدير ومدار استلزامه الثاني إنما هو ملكية النذير لا نذيرية الملك وذلك لأن الجعل حقه أن يكون مفعوله الأول مبتدأ والثاني خبرا لكونه بمعنى التصيير المنقول من صار الداخل على المبتدأ و الخبر ولاريب في أن مصب الفائدة ومدار اللزوم بين طرفي الشرطية هو محمول المقدم لا موضوعه فحيث كانت لو امتناعية أريد بيان انتفاء الجعل الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يجعل مدار الاستلزام في الأول مفعولا ثانيا لا محالة ولذلك جعل مقابله في الجعل الثاني كذلك إبراز لكمال التنافي بينهما الموجب لانتفاء الملزوم ولا يخلوا عن حسن وجوز غير واحد كون قوله تعالى : ولو جعلناه الخ جواب اقتراح ثان وذلك لأن للكفرة اتقراحين أحدهما أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم ملك في صورته الأصلية بحيث يعاينه القوم والآخر أن ينزل إلى القوم ويرسل اليهم مكان الرسول البشر ملك فانهم كما كانوا يقولون : لولا أنزل على
(7/98)
محمد صلى الله عليه و سلم ملك فيكون معه نذيرا كانوا يقولون : ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة فأجيبوا عن قولهم الأول بقوله سبحانه وتعالى : ولو أنزلنا ملكا الخ وعن قولهم الأخير بما ذكر فضمير جعلناه للرسول المنزل إلى القوم ولا يخفى أن جعله جوابا عن إقراح آخر غير ظاهر من النظم الكريم ولا داعي إليه أصلا
وبعضهم جعله جوابا آخر وجعل الضمير للمطلوب واعترض بأن المطلوب أيضا ملك ولا معنى لقولنا لو جعلنا الملك ملكا إلا أن يقال : المراد لو جعلنا المطلوب ملكيته ملكا وتعقب بأن المطلوب هو النازل المقارن للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وحينئذ لا غبار في الكلام خلا أن لزوم جعل الملك النازل رجلا لجعله ملكا كما هو مفهوم الآية الثانية ينافي لزوم هلاكهم له كما هو مفهوم الآية الأولى لتوقف الثاني على عدم الأول لأن مبناه على نزوله في صورته لا في صورة رجل فحينئذ يجب أن تكون الآية جوابا عن اقتراح آخر لا جوابا آخر عن الاقتراح الأول حتى لا يلزم المنافاة
وأجيب بأنه على تقدير كونه جوابا آخر يكون جوابا على طريق التنزل والمعنى لو أنزلناه كما اقترحوا لهلكوا ولو فرضنا عدم هلاكهم فلابد من تمثله بشرا لأنهم لا يطيقون رؤيته على صورة الحقيقية فيكون الارسال لغوا لا فائدة فيه وأنت تعلم أن ما عولنا عليه وهو المروي عن حبر الأمة سالم عن مثل هذه الاعتراضات نعم ذكر بعض الفضلاء اشكالا وهو أن المقرر عند أهل الميزان أن صدق العكس لازم لصدق الأصل فعلى هذا يلزم من كذب اللازم كذب الملزوم فههنا عكس القضية الصادقة وهي لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا غير صادق إذ هو لو جعلناه رجلا لجعلناه ملكا ولا خفاء في عدم تحققه فان الله تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله ملكا والجواب بأن ما ذكره أهل الميزان اصطلاح طار فلا يجب موافقة قاعدتهم لقاعدة أهل اللسان غير مرضي فانه قد تقرر أن تلك القاعدة غير مخالفة لقاعدة اللغة وأنها مما لا خلاف فيه
وأجيب عن ذلك بعد تمهيد مقدمة وهي أن للو الشرطية استعمالين لغويا وهي فيه لانتفاء الثاني لانتفاء الاول كما في لو جئتني أكرمتك ومفهوم القضية عليه الاخبار بأن شيئا لم يتحقق بسبب عدم تحقق شيء آخر وعرفيا تعارفه الميزانيون فيما بينهم وذلك أنهم جعلوها من أدوات الاتصال لزوميا واتفاقيا وصدق القضية التي هي فيها بمطابقة الحكم باللزوم للواقع وكذبها بعدمها ويحكمون بكذبها وإن تحقق طرفاها إذا لم يكن بينهما لزوم وقد استعملها اللغويون أيضا في هذا المعنى إما بالاشتراك أو بالمجاز كما يقال : لو كان زيد في البلد لرآه أحد وفي بعض الآثار لو كان الخضر حيا لزارني ومن البين أن المقصود الاستدلال بالعدم على العدم لا الدلالة على أن انتفاء الثاني سبب انتفاء الأول وجعلوا من هذا الاستعمال لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
وقد اشتبه هذان الاستعمالان على ابن الحاجب حتى قال ما قال بأن قول المستشكل : ان عكس القضية الصادقة الخ ان أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال الأول فلا نسلم أن عكسه ما ذكر فان عكس لو جئتني اكرمتك ليس لو أكرمتك لجئتني وإنما يكون كذلك لو كان الحكم في هذا الاستعمال بين الشرط والجزاء بالاتصال وليس كذلك بل القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كما صرح به السكاكي على أن بعض أئمة التفسير قالوا : المراد من الآية ولو جعلناه ملكا لجعلناه على صورة رجل وان المقصود
(7/99)
بيان انتقاض غرضهم من قولهم : لولا أنزل عليه ملك يعني أن نزول الملك لا يجديهم لأنهم وهم هم لا يقدرون على مشاهدة الملك على صورته التي هو عليها الا أن يجعله متمثلا على صورة البشر في مرتبة من مراتب التنزل حتى تحصل لهم معه مناسبة فيروه فتكون الآية على هذا بمراحل عن أن يبحث فيها عن أن عكسها ماذا أو كيف حالها في الصدق والكذب فانها لم تسق لبيان لزوم الجعل الثاني للجعل الأول حتى يستدل بالعدم على العدم أو بالوجود على الوجود فنسبة هذا البحث إلى اةية كنسبة السمك إلى السماك وإن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال العرفي المنطقي فمسلم أنه لابد من صدق عكسها على تقدير صدق أصلها لكن لا نسلم كذب العكس هنا على ذلك التقدير فانه إذا فرض لزوم الجعل رجلا للجعل الأول كليا على جميع التقادير يصدق لزوم الجعل ملكا للجعل رجلا على بعض الأوضاع والتقادير وهو اللازم المقرر في قواعدهم على أن قوله إن الله تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله ملكا لا يليق أن يصدر مثله من مثله لأنه استدلال بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم وهو كما لو قال قائل : إذا قلنا إن كان زيد صاهلا كان حيوانا لا يصدق عكسه وهو قد يكون إذا كان زيد حيوانا كان صاهلا لأنه ليس بصاهل في الواقع ومنشأ هذا هو ظن أن عدم تحقق احد الطرفين أو كليهما ينافي اللزوم
وأنت خبير بأن صدق اللزوم لا يتوقف على تحقق الطرفين ولا تحقق المقدم أه وبحث فيه المولى العلائي أما أولا فبأن كون القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كلام ذكره بعض أهل العربية ورده السيد السند وحقق اتفاق الفريقين على كون الجملة هي المجموع وحينئذ كيف يصح بناء الجواب على ذلك
وأما ثانيا فبأن المستشكل لم يستدل بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم كما لا يخفى على الناظر في عبارته فالصواب أن يقال : أكثر استعمال لو عند أهل العربية لمعنيين الأول ما ذكره المجيب من انتفاء الثاني لانتفاء الأول والثاني الدلالة على أن الجزاء لازم الوجود في جميع الأزمنة في قصد المتكلم وذلك إذا كان الشرط يستبعد استلزامه لذلك الجزاء ويكون نقيض ذلك الشرط أنسب وأليق باستلزام ذلك الجزاء فيلزم استمرار وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه كما في نعم العبد صهيب لو لم يخف الله تعالى لم يعصه وقد صرح المحققون أن الآية إما من قبيل الأول أي لو جعلناه قرينا لك ملكا يعاينونه أو الرسول المرسل اليهم ملكا لجعلناه ذلك الملك في صورة رجل وما جعلنا ذلك الملك في صورة رجل لأنا لم نجل القرين أو الرسول المرسل إليهم ملكا وإما من قبيل الثاني أي ولو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل فكيف إذا كان انسانا وكل منهما لا يقبل العكس المذكور ولا ثالث فلا إشكال فتدبر فالبحث بعد محتاج إلى بسط كلام ولو بسطناه لأمل الناظرين
وللبسنا عليهم ما يلبسون
9
- جعله بعضهم جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلا للبسنا الخ وكأن الداعي اليه إعادة لام الجواب فانه يقتضي استقلاله وأنه لا ملازمة بين ارسال الملك واللبس عليهم فانه ليس سببا له بل لعكسه ويجوز ان يكون عطفا على جواب لو المذكور ولا ضير في عطف لازم الجواب عليه ونكتة إعادة اللام أن لازم الشيء بمنزلته فكأنه جلباب واللبس في الأصل الستر بالثوب ويطلق على منع النفس من إدراك الشيء بما هو كالستر له يقال : لبست الأمر على القوم ألبسه إدا شبهت عليهم
(7/100)
وجعلتهوجعلته مشكلا قال ابن السكيت : يقال لبست عليه الامر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته أي لخلطنا عليهم بتمثيله رجلا ما يخلطون على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له : إنما أنت بشر ولست بملك ولو استدل على ملكيته بالمعجز كالقرآن ونحوه كذبوه كما كذبوا محمدا صلى الله عليه و سلم وإسناد اللبس اليه تعالى لأنه بخلقه سبحانه وتعالى أو للزومه لجعله رجلا
ويحتمل أن يكون المعنى للبسنا عليهم حينئذ ما يلبسون على أنفسهم الساعة في تكذيبهم النبي صلى الله عليه و سلم ونسبة آياته البينات الى السحر و ما على ما اختاره في الكشف على الأول موصولة وعلى الثاني يجوز أن تكون مصدرية وهو الأظهر لاستمرار حذف المثل في نحو ضربت ضرب الأمير وأن تكون موصولة أي مثل الذي يلبسونه ومتعلق يلبسون على الوجهين على أنفسهم ويفهم من كلام الزجاج أنه على ضعفائهم حيث قال : كانوا يلبسون على ضعفائهم في أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيقولون : انما هذا بشر مثلكم فاخبر سبحانه وتعالى أنه لو جعلنا المرسل إليهم ملكا لأريناهم اياه في صورة الرجل وحينئذ يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفاءهم منه
وقرأ ابن محيصن ولبسنا بلام واحدة والزهري وللبسنا عليهم ما يلبسون بالتشديد وهذا وقد ذكر الامام الرازي في بيان وجه الحكمة في جعل الملك على تقدير انزاله في صورة البشر أمورا الأول أن الجنس إلى الجنس أميل الثاني أن البشر لا يطيق رؤية الملك الثالث ان طاعات الملك قوية فيستحقرون طاعت البشر وربما لا يعذرونهم في الاقدام على المعاصي الرابع أن النبوة فضل من الله تعالى فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا أو بشرا ولا يخفى أنه يرد على الوجه الثالث أنه إنما يتم إذا تبدلت حقيقة الملك المقدر نزوله بحقيقة البشر وهو مع كونه من انقلاب الحقائق خلاف ما يفهم من كتب أئمة التفسير من أن التبدل صوري لا حقيقي وأن الوجه الرابع لا يظهر وجه كونه حكمة لتصوير الملك بصورة البشر
وقول العلائي : لعل وجهه ان المصور الذي قدر كونه نبيا لما اشتمل على جهتين البشرية صورة والملكية حقيقة لم يبعد أن يكون دليلا على أن النبوة فضل من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا كهذا المصور باعتبار حقيقته أو بشرا مثله باعتبار صورته مما لا يتبلج له وجه القبول
ولقد استهزيء برسل من قبلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم عما يلقاه من قومه كالوليد بن المغيرة وأمية ابن خلف وأبي جهل واضرابهم أي أنك لست أول رسول استهزأ به قومه فكم وكم من رسول جليل الشأن فعل معه ذلك فالتنوين للتفخيم والتكثير ومن ابتداء متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل والكلام على حذف مضاف وفي تصدير الجملة بالقسم وحرف التحقيق من الاعتناء ما لا يخفى وكون التسلية بهذا المقدار مما خفي على بعض الفضلاء وهو ظاهر ولك أن تقول : إن التسلية به وبما بعده من قوله تعالى : فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون
1
- لأنه متضمن أن من استهزأ بالرسل عوقب فكأنه سبحانه وتعالى وعده صلى الله تعالى عليه وسلم بعقوبة من استهزأ به عليه السلام ان أصر على ذلك
وحاق بمعنى أحاط كما روي عن الضحاك واختاره الزجاج وفسره الفراء يعاد عليه وبال امره وقيل : حل واختاره الطبري وقيل : نزل وهو قريب من سابقه ومعناه يدور على الاحاطة والشمول ولا يكاد يستعمل
(7/101)
إلا في السر كما قال : فاوطأ جرد الخيل عقر ديارهم وحاق بهم من بأس ضربة حائق وقال الراغب : أصله حق فأبدل من أحد حرفي التضعيف حرف علة كتظننت وتظنيت أو هو مثل ذمة وذامة والمعروف في اللغة ما اختاره الزجاج
وقال الأزهري : جعل ابو اسحاق حاق بمعنى أحاط وكأنه جعل مادته من الحوق بالضم وهو ما أحاط بالكمرة من حروفها وقد يفتح كما في القاموس وجعل أحد معاني الحوق بالفتح الأحاطة وفيه أيضا حاق به يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا بفتح الياء أحاط به كاحاق وفيه السيف حاك وبهم الامر لزمهم ووجب عليهم ونزل وأحاق الله تعالى بهم مكرهم والحيق ما يشتمل على الانسان من مكروه فعله وظاهره أن حاق يائي وعليه غالب أهل اللغة وهو مخالف لظاهر كلام الأزهري من أنه واوي و منهم متعلق بسخروا والظمير المرسل ويقال : سخروا منه وبه كهزأ منه وبه فهما متحدان معنى واستعمالا وقيل : السخرية والاستهزاء بمعنى لكن قد يتعدى بمن والباء وفي الدر المصون لا يقال الا استهزأ به ولا يتعدى بمن وجوز أبو البقاء أن يكون الضمير للمستهزئين والجار والمجرور حينئذ متعلق بمحذؤف وقع حالا من ضمير الفاعل في سخروا ورد بأن المعنى حينئذ فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين ولا فائدة لهذه الحال لانفهامها من سخروا وأجيب بأن هذا مبني على أن الاستهزاء والسخرية بمعنى وليس بلازم فلعل من جعل الضمير للمستهزئين يجعل الاستهزاء بمعنى طلب الهزء فيصح بيانه ولا يكون في النظم تكرار فعن الراغب الاستهزاء وارتياد الهزء وان كان قد يعبر به عن تعاطي الهزء كالاستجابة في كونها ارتيادا للاجابة وان كان قد يجري مجرى الاجابة
وجوز رجوع الضمير الى أمم الرسل ونسب الحوفي ورده ابو حيان بانه يلزم ارجاع الضمير إلى غير مذكور وأجيب عنه بانه في قوة المذكور و بالذين متعلق بحاق وتقديمه على فاعله وهو ما للمسارعة الى بيان لحوق الشر بهم وهي إما مصدرية وضمير به للرسول الذي في ضمن الرسل واما موصولة والضمير لها والكلام على حذف مضاف أي فأحاط بهم وبال الذي كانوا يستهزؤن به وقد يقال : لا حاجة إلى تقدير مضاف وفي الكلام اطلاق السبب على المسبب لأن المحيط بهم هو العذاب ونحوه لا الاستهزاء ولا المستهزأ به لكن وضع ذلك موضعه مبالغة
وقيل : ان المراد من الذي كانوا يستهزؤن هو العذاب الذ كان الرسل يخوفونهم إياه فلا حاجة الى ارتكاب التجوز السابق أو الحذف وقد اختار ذلك الامام الواحدي والاعتراض عليه بأنه لا قرينة على ان المراد بالمستهزأ به هو العذاب بل السياق دليل على أن المستهزأ بهم الرسل عليهم الصلاة والسلام يدفعه أن الاستهزاء بالرسل عليهم الصلاة والسلام مستلزم لاستهزائهم بما جاؤا به وتوعدوا قومهم بنزوله وان مثله لظهوره لا يحتاج الى قرينة
ومن الناس من رعم أن حاق بهم كناية عن إهلاكهم واسناده الى ما أسند اليه مجاز عقلي من قبيل اقدمني بلدك حق لي على فلان إذ من المعلوم من مذهب أهل الحق أن المهلك ليس الا الله تعالى فاسناده الى غيره لا يكون إلا مجازا وأنت تعلم أن الحيق الاحاطة ونسبتها الى العداب لا شبهة في انها حقيقة ولا داعي الى تفسيره بالاهلاك وارتكاب المجاز العقلي ولعل مراد من فسر بذلك بيان مؤدي الكلام ومجموع معناه نعم
(7/102)
اذااذا قلنا : ان الاحاطة انما تكون للأجسام دون المعاني فلابد من ارتكاب تجوز في الكلام على تقدير اسنادها الى العذاب لكن لا على الوجه الذي ذكره هذا الزعم كما لا يخفى وفي جمع كانوا يستهزؤن ما مر غير مرة في أثاله و به متعلق بما بعده وتقديمه لرعياة الفواصل
قل سيروا في الأرض ثم أنظروا كيف كان عاقبة المكذبين
11
- خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم وانذار قومه وتذكيرهم بأحوال الأمم الخالية وما حاق بهم لسوء أفعالهم تحذيرا لهم هما هم عليه مما يحاكي تلك الافعال وفي ذلك أيضا تكملة لتسليته عليه الصلاة و السلام بما في ضمنه من العدة اللطيفة بانه سيحيق بهم مثل ما حاق باضرابهم الأولين وقد أنجز سبحانه وتعالى ذلك إنجازا أظهر من الشمس يوم بدر والمراد من النظر التفكر وقيل : النظر بالابصار وجمع بينهما الطبرسي بناء على القول بجواز مثل ذلك و كيف خبر مقدم لكان أو حال وهي تامة والعاقبة مآل لشيء وهي مصدر كالعافية والتعبير بالمكذبين دون المستهزئين قيل : للاشارة إلى أن مآل من كذب إذا كان كذلك فكيف الحال في مآل من جمع بينه وبين الاستهزاء وأورد عليه أن تعريف المكذبين للعهد وهم الذين سخروا فيكونون جامعين بين الأمرين مع أن الاستهزاء بما جاؤا به يستلزم تكذيبه ولا يخفى أن مقصود القائل إن أولئك وإن جمعوا الأمرين لكن في الاشارة اليهم بهذا العنوان هنا ما لا يخفى من الاشارة إلى فضاعة ما نالهم وقيل : إن وضع المكذبين موضع المستهزئين لتحقيق أنه مدار أصابهم هو التكذيب لينزجر السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناء على توهم أنه المدار في ذلك وعطف الأمر بالنظر على الأمر بالسير بثم قيل للايذان بتفاوت ما بينهما وإن كان كل من الأمرين واجبا لأن الأول إنما يطلب الثاني كما في قولك : توضأ ثم صل وقيل : للايذان بالتفاوت لأن الأول لاباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع والثاني لايجاب النظر في آثار الهالكين ولا ريب في تباعد مابين الواجب والمباح وأورد عليه كما قال الشهاب أنه يأباه سلامة لذوق لأن فيه اقحام أمر أجنبي وهو بيان إباحة السير للتجارة بين الاخبار عن حال المستهزئين وما يناسبه وما يتصل به من الأمر بالاعتبار بآثارهم وهو مما يخل بالبلاغة اخلالا ظاهرا
وتعقب بأن هذا وان تراآى في باديء النظر لكنه غير وارد إذ ذاك غير أجنبي لأن المراد خذلانهم وتخليتهم وشأنهم من الاعراض عن الحق بالتشاغل بأمر دنياهم كقوله تعالى : وليتمتعوا وهذا حاصل ما قيل : إن الكلام مجاز عن الخذلان والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط إلى الغاية كما تقول لمن عزم على أمر مؤد إلى ضرر عظيم فبالغت في نصحه ولم ينجع فيه أنت وشأنك وافعل ما شئت فانك لا تريد بذلك حقيقة الامر كيف والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهة متحسر ولكنك كأنك قلت له : إذ قد أبيت النصح فانت أهل لأن يقال لك : افعل ما شئت ولا يخفى أن انفهام ذلك من الأية في غابية البعد وفرق الزمخشري بين هذه الآية وقوله في سورة النمل : قل سيروا في الأرض فانظروا بحمل الأمر بالسير هنا على الاباحة المذكورة آنفا وحمل الأمر به هناك على السير لأجل النظر ولهذا كان العطف بالفاء في تلك الآية ونظر بعضهم بغير ما أشرنا اليه أيضا
وذكر أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا : ثم انظروا وفي غير ما موضع فانظروا لان المقام هنا يقتضي
(7/103)
ثم دونه في هاتيك المواضع وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض مع قوله سبحانه وتعالى : وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين والاول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضا كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء ولا كذلك في المواضع الأخر أه ولا يخلوا عن دغدغة
واختار غير واحد أن السير متحد هنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارة نظرا إلى آخره وبم أخرى نظرا إلى أوله وكذا شأن كل ممتد قل على سبيل التقريع لهم والتوبيخ لمن ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا
وقوله سبحانه وتعالى : قل لله تقرير للجواب نيابة عنهم أو الجاء لهم الى الاقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه اشارة الى أن الجواب قد بلغ من الظهور الى حيث لا يقدر على انكاره منكر ولا على دفعه دافع فان أمر السائل بالجواب إنما يحسن كما قال الامام في موضع يكون الجواب كذلك قيل : وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى : قل لمن الخ معناه الامر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله وقوله عز و جل : قل لله معناه انك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا تنكره وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الافعال بعد الارشاد إلى التوحيد في الالوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين
وفي هذا اشارة إلى وجه الربط وسيأتي ان شاء الله تعالى قريبا ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي لله تعالى ذلك أو ذلك لله تعالى شأنه كتب على نفسه الرحمة جملة مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عز و جل لجميع الخلق اثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لانزال العقوبة بالمكذبين مسوقة لبيان أنه تعالى رءوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس الا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه ايجابها بطريق التفضل والاحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء وقيل : هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي وفي رواية ابن مردويه ان الله تعالى كتب كتابا بيده لنفسه قبل أن يخلق السموات والارض فوضعه تحت عرشه فيه رحمتي سبقت غضبي الى غير ذلك من الاخبار ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقا بالخلق وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير
وفي شرح مسلم للامام النووي قال العلماء : غضب الله تعالى ورضاه يرجعان الى معنى الارادة فارادته
(7/104)
الثواب للمطيع والمنفعة للعبد تسمى رضا ورحمة وارادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبا وارادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها قالوا : والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه انتهى وهو يرجع الى ما قلنا وحاصل الكلام في ذلك أن السبق والغلبة في التعلقات في نفس الصفة الذاتية إذ لايتصور تقدم صفة على صفة فيه تعالى لاستلزامه حدوث المسبوق وكذا لايتصور الكثرة والقلة بين صفتين لاستلزام ذلك الحدوث وقد يراد بالرحمة ما يرحم به وهي بهذا المعنى تتصف بالتعدد والهبوط ونحو ذلك أيضا وعليه يخرج ما أخرجه مسلم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السموات والأرض فجعل منها في الأرض رحمة بها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فاذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عبد الله بن عمرو قال : إن الله تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن والانس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الأرض وهوامها وما بين الهواء واختزن عنده تسعا وتسعين رحمة حتى إذا كان يوم القيامة أختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة والمراد بالرحمة في الآية ما يعم الدارين مع عموم متعلقها فما روي عن الكلبي من أن المعنى أوجب لنفسه الرحمة لأمة محمد صلى الله عليه و سلم بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية عند ذلك بل يؤخرهم إلى يوم القيامة لم يدع اليه إلا إظهار ما يناسب المقام من أفراد ذلك العام وفي التعبير عن الذات بالنفس رد على من رعم ان لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة واعتبار المشاكلة التقديرية غير ظاهر كما هو ظاهر وقوله سبحانه : ليجمعنكم إلى يوم القيامة جواب القسم محذوف وقع على ما قال أبو البقاء كتب موقعه والجملة استئناف نحوي مسوق للوعيد على اشراكهم وأغفالهم النظر وقيل : بياني كأنه قيل : وما تلك الرحمة فقيل : إنه تعالى ليجمعنكم الخ وذلك لأنه لولا خوف القيامة والعذاب لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط وأورد عليه أنه إنما يظهر ما ذكر لو كانوا معترفين بالبعث وليس فليس
وقال بعض المحققين أيضا : إنه تكلف ولا يتوجه فيه الجواب الا باعتبار ما يلزم التخويف من الامتناع عن المناهي المستلزم للرحمة وقيل : صلاحية ما في اةية للجواب باعتبار أن المراد ليجمعنكم إلى يوم القيامة ولا يعاجلكم بالعقوبة الآن على تكذيبكم على ما أشار اليه الكلبي وقيل : إن القسم وجوابه في محل نصب على أنه بدل من الرحمة بدل البعض وقد ذكر النحاة أن الجملة تبدل من المفرد نعم لم يتعرضوا الانواع البدل في ذلك والجار والمجرور قيل متعلق بمحذوف أي ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم الخ على أن البعث بمعنى الارسال وهو مما يتعدى بالى ولا يحتاج إلى ارتكاب التضمين واعترض بأن البعث يكون إلى المكان لا إلى الزمان إلا أن يراد بيوم القيامة واقعتها في موقعها وقيل : هو متعلق بالفعل المذكور والمراد جمع فيه معنى السوق والاضطرار كأنه قيل ليبعثنكم ويسوقنكم ويضطرنكم إلى يوم القيامة أي إلى حسابه وقيل : إنه متعلق بالفعل
(7/105)
وإلىوإلى بمعنى في كما في قوله : لاتتركني بالوعيد كأني إلى الناس مطلي به القار أجرب ومنع بعضهم مجيء إلى بمعنى في في كلامهم ولو صح ذلك لجاز زيد إلى الكوفة بمعنى في الكوفة وتأول البيت بتضمين مضافا أو مبغضا أو مكروها وأجيب بأن ذلك إنما يرد إذا قيل : إن استعمال إلى بمعنى في قياس مطرد ولعل القائل بالاستعمال لا يقول بما ذكر وارتكاب التضمين خلاف الأصل وارتكاب القول بأن إلى بمعنى في وإن لم يكن مطردا أهون منه وقيل : انها بمعنى اللام وقيل : زائدة والخطاب للكافرين كما هو الظأهر من السياق وقيل : عام لهم وللمؤمنين بعد أن كان خالصا بالكافرين أي ليجمعنكم أيها الناس إلى يوم القيامة لاريب فيه أي لاينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته وسطوع براهينه التي تقدم بعض منها
والجملة حال من اليوم والضمير المجرور له ويحتمل أن تكون صفة لمصدر محذوف والضمير له أي جمعا لا ريب فيه وجوز أن تكون تأكيدا لما قبلها كما قالوا في قوله تعالى : ذلك الكتاب لا ريب فيه
الذين خسروا أنفسهم بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلى الله عليه و سلم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار الرحمة وموضع الموصول قيل : نصب على الذم او رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم الذين وهو نعت مقطوع ولا يلزم أن يكون كل نعت مقطوع يصح اتباعه نعتا بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا كيف قطع فيه الذي مع عدم صحة اتباعه نعتا للنكرة فلا يرد أن القطع إنما يكون في النعت والضمير لاينعت وقيل : هو بدل من الضمير بدل بعض من كل بتقدير ضمير أو هو خبر مبتدأ على القطع على البدلية أيضا ولا اختصاص للقطع بالنعت ولعلهم إنما لم يجعلوه منصوبا بفعل مقدر أو خبرا لمبتدأ محذوف من غير حاجة لما ذكر لدعواهم أن مجرد التقدير لا يفيد الذم أو المدح إلا مع القطع واختار الأخفش البدلية وتعقب ذلك أبو البقاء بأنه بعيد لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما لوضوحهما غاية الوضوح وغيرهما دونهما في ذلك وقيل : هو مبتدأ خبره فهم لا يؤمنون
21
- والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم واصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم فان ابطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الاصرار على الكفر والامتناع عن الايمان وفي الكشاف فان قلت : كيف يكون عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم والامر على العكس قلت : معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون
وحاصل الكلام على هذا الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون والحكم بالخسران سابق على عدم الايمان لأنه مقارن للعلم باختيار الكفر لا لحصوله بالفعل فيصح ترتب عدم الايمان عليه من هذا الوجه وأنت تعلم أن هذا السؤال يندفع بحمل الخسران على ماذكرناه ولعله أولى مما في الكشاف لما فيه من الدغدغة والجملة كما قال غير واحد تذييل مسوق من جهته تعالى لتقبيح حالهم غير داخلة تحت الأمر
وقيل : الظاهر على تقدير الابتداء عطف الجملة على لاريب فيه فيحتاج الفصل إلى تكليف تقدير سؤال كأنه قيل : فلم يرتاب الكافرون به فاجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الايمان وجوز على ذلك التقدير كون الجملة حالية وهو كما ترى
(7/106)
هذا ومن باب الاشارة في الآيات الحمد لله الذي خلق السموات والأرض أي سموات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم ويقال : الروح سماء القلب لأن منها ينزل غيث الالهام والقلب أرضها لأنه فيه ينبت زهر الحكمة ونور المعرفة وجعل الظلمات أي وأنشأ في عالم الجسم ظلمات المراتب التي هي حجب ظلمانية للذات المقدس وأنشأ في عالم الأرواح نور العلم والادراك ويقال : الظلمات الهواجس والخواطر الباطلة والنور الالهام وقال بعضهم : الظلمات أعمال البدن والنور أحوال القلب ثم بعد ظهور ذلك الذين كفروا بربهم يعدلون غيره ويثبتون معه سبحانه وتعالى من يساويه في الوجود وهو الله الذي لا نظير له في سائر صفاته هو الذي خلقكم من طين وهو طين المادة الهيولانية ثم قضى أجلا أي حدا معينا من الزمان إذا بلغه السالك إلى ربه سبحانه وتعالى فنى فيه عز شأنه وأجل مسمى عنده وهو البقاء بعد الفناء وقيل الأجل الأول هو الذي يقتضيه الاستعداد طبعا بحسب الهوية وهو المسمى أجلا طبيعيا للشخص بالنظر إلى مزاجه الخاص وتركيبه المخصوص بلا اعتبار عارض من العوارض الزمانية ونكر لأنه من أحكام القضاء السابق الذي هو أم الكتاب وهي كلية منزهة عن التشخصات إذ محلها الروح الأول المقدس والأجل الثاني هو الأجل المقدر الزماني الذي يقع عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع وهو مثبت في كتاب النفس الفلكية التي هي لوح القدر ثم أنتم بعدما علمتم ذلك تمترون وتشكون في تصرفه فيكم كما يشاء وهو الله في السموات والأرض أي سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلوي والسفلي يعلم سركم في عالم الأرواح وهو عالم الغيب وجهركم في عالم الأجسام وهو عالم الشهادة ويعلم ما تكسبون فيهما من العلوم والحركات والسكنات وغيرها فيجاريكم بحسبها وقيل : المعنى يعلم جولان أرواحكم في السماء لطلب معادن الأفراح وتقلب أشباحكم في الارض لطلب الوسيلة إلى مشاهدته ويعلم ما تحصلونه بذلك وما تأتيهم آية من آيات ربهم الانفسية والآفاقية إلا كانوا عنها معرضين لسوء اختيارهم وعمى أعينهم عن مشاهدة أنوار الله تعالى الساطعة على صفحات الوجود وقالوا لضعف يقينهم لولا أنزل عليه ملك فنراه لنزول شبهتنا ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر أي أمر هلاكهم لعدم قدرتهم على تحمل مشاهدته ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ليمكنهم مشاهدته قل لمن ما في السموات وألارض أي ما في العالمين قل لله ايجادا وافناء كتب على نفسه الرحم
قال سيدي الشيخ الأكبر قدس الله سره : إن رحمة الله تعالى عامة وهي نعمة الامتنان التي تنال من غير استحقاق وهي المراد في قوله تعالى : فبما رحمة من ربك لنت لهم واليها الاشارة بالرحمن في البسملة وخاصة وهي الواجبة المرادة بقوله تعالى : فسأكتبها للذين يتقون واليها الاشارة بالرحيم فيها ويشير كلامه قدس الله تعالى سره في الفتوحات إلى أن ما في الآية هو الرحمة الخاصة ومقتضى السياق أنها الرحمة العامة
وذكر قدس الله تعالى سره في أثناء الكلام على الرحمة وقول الله عز شأنه يوم القيامة شفعت الملائكة وشفعت النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين ان رحمة الله تعالى سبقت غضبه كما في الخبر فهي امام الغضب فلا يزال غضب الله تعالى يجري في شأواه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبد المغضوب عليه فتبسط عليه ويرجع الحكم لها فيه والمدى الذي يقطعه الغضب ما بين الرحمن الرحيم الذي في البسملة وبين الرحم الرحيم الذي بعد الحمد لله رب العالمين فالحمد لله رب العالمين
(7/107)
هو المدى وأوله وآخره ما قد علمت وإنما كان ذلك عين المدى لأن فيه يظهر السراء والضراء ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بسراء ولا ضراء فيعمهما ويقول الشرع في حمد السراء : الحمد لله المنعم المتفضل ويقول في حمد الضراء : الحمد لله على كل حال فالحمد لله قد جاء في السراء والضراء فلهذا كان عين المدى وما من أحد في الدار الآخرة إلا هو يحمد الله تعالى ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراه عليه فجعل الله تعالى عقيب الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم فالعالم بينهما لما هو عليه من محمود ومذموم وهذا شبيه بما جاء في سورة ألم نشرح وهو تنبيه عجيب منه سبحانه وتعالى لعباده ليتقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى
وأنت إذا التفت أدنى التفات تعلم أنه مامن أثر ما آثار البطش إلا وهو مطرز برحمة الله تعالى بل ما من سعد ونحس إلا وقد خرج من مطالع أفلاك الرحمة التي أفاضت شآبيبها على القوابل حسب القابليات ومما يظهر سبق الرحمة أن كل شيء موجود مسبوق بتعلق الارادة بايجاده واخراجه من حيز العدم الذي هو معدن كل نقص ولا ريب في أن ذلك رحمة كما أنه لا ريب في سبقه نعم تنقسم الرحمة في بعض الحيثيات إلى قسمين رحمة محضة لا يشوبها شيء من النقمة كنعيم الجنة وهي الطالعة من بروج اسمه سبحانه الرحيم ولكونه صلى الله عليه و سلم يحب دخول أمته الجنة ويكره لهم النار سماه الحق عز اسمه الرحيم في قوله سبحانه وتعالى : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم ورحمة قد يشوبها نقمة كتأديب اولد بالضرب رحمة به وكشرب الدواء البشع وهي المشرقة من مطالع آفاق اسمه عز أسم الرحمن ولعل هذه الرحمة العامة هي المرادة في قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ثم أعلم أن سبق الرحمة الغضب يقتضي ظاهرا سبق تجليات الجمال على تجليات الجلال لأن الرحمة من الجمال والغضب من الجلال
وذكر مولانا الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس سره أن الجلال أسبق من الجمال فقد ورد في الحديث العظمة إزاري والكبرياء ردائي ولا أقرب من ثوب الرداء والازار إلى الشخص ثم قال : ولا يناقض هذا قوله جل شأنه : قد سبقت رحمتي غضبي فان الرحمة السابقة إنما هي بشرط العموم والعموم من الجلال وادعى أن الصفة الواحدة الجمالية إذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالا لقوة ظهور سلطان الجمال فمفهوم الرحمة من الجمال وعمومها وانتهاؤها جلال وأنت تعلم أنه إذا فسر السبق بالمعنى الذي نقله النووي عن العلماء سابقا وهو الكثرة والشمول فهو مما لا ريب في تحققه في الرحمة إذ في كل غضب رحمة وليس في كل رحمة غضب كما لا يخفى على من حقق النظر
وبالجملة في رحمته سبحانه مطمع أي مطمع حتى أن إبليس يرجوها يوم القيامة على ما يدل عليه بعض الآثار وأحظى الناس بها إن شاء الله تعالى هذه الأمة نسأل الله تعالى لنا ولكم الحظ الأوفر منها ليجمعنكم إلى يوم القيامة الصغرى أو الكبرى لاريب فيه في نفس الأمر وإن لم يشعر به المحجوبون الذين خسروا أنفسهم باهلاكها في الشهوات واللذات الفانية فحجبوا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية فهم لا يؤمنون لذلك نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدين والدنيا وأةخرة
وله عطف على لله فهو داخل تحت قل على أنه احتجاج ثان على المشركين واليه ذهب غير واحد
وقال ابو حيان : الظاهر أنه استئناف اخبار وليس مندرجا تحت الأمر أي ولله سبحانه وتعالى خاصة
(7/108)
ما سكن في الليل والنهار أي الوقتين المخصوصين وما موصولة و سكن إا من السكنى فيتناول الكلام المتحرك والساكن من غير تقدير وتعديتها يفي الى الزمان مع أن حق استعمالها في المكان لتشبيه الاستقرار بالزمان بالاستقرار بالمكان وجوز أن يكون هناك مشاكلة تقديرية لأن معنى لله ما في السموات والأرض ما سكن فيهما واستقر والمراد وله ما اشتملا عليه وإا من السكون ضد الحركة كما قيل وفي الكلام الاكتفاء بأحد الضدين كما في قوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر والتقدير ما سكن فيهما وتحرك وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس لأن السكون أكثر وجودا وعاقبة كل متحرك السكون كما قيل : إذا هبت رياحك فاغتنمها فان لكل خافقة سكون ولأن السكون في الغالب نعمة لكونه راحة ولا كذلك الحركة ورد بأنه لا وجه للاكتفاء بالسكون عن التحرك في مقام البسط والتقرير وإظهار كمال الملك والتصرف وأجيب بأن هذا المحذوف في قوة المذكور لسرعة انفهامه من ذكر ضده والمقام لايستدعي الذكر وإنما يستدعي عموم التغيرات والتصرفات الواقعة في الليلو النهار ومتى التزم كون السكون مع ضده السريع الانفهام كناية عن جميع ذلك ناسب المقام
وقيل : إن ما سكن يعم جميع المخلوقات إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون حتى المتحرك حال ما يرى متحركا بناء على ما حقق في موضعه من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة وكثرتها وفي معنى الحركة والسكون وبيان أقسام الحركة المشهورة كلام طويل يطلب من محله وهو السميع أي المبالغ في سماع كل مسموع فيسمع هواجس كل ما يسكن في الملوين العليم
31
- اي المبالغ في العلم بكل معلوم من الأجناس المختلفة والجملة مسوقة لبيان إحاطة سمعه وعلمه سبحانه وتعالى بعد بيان إحاطة قدرته جل شأنه أو للوعيد على أقولهم وافعالهم ولذا خص السمع والعلم بالذكر وهي تحتمل أن تكون من مقول القول وأن تكون من مقول الله تعالى قل للمشركين بعد توبيخهم بما سبق أغير الله أتخذ وليا إنكارا لاتخاذ غير الله تعالى وليا لا لاتخاذ الولي مطلقا ولذا قدم المفعول الأول وأولى الهمزة ونحوه أفغير الله تأمروني أعبد والمراد بالولي هنا المعبود لأنه رد لمن دعاه صلى الله عليه و سلم فقد قيل : إن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة و السلام : يا محمد تركت ملة قومك وقد علمنا أنه لا يحملك على ذلك إلا الفقر فارجع فانا نجمع لك من اموالنا حتى تكون من أغنانا فنزلت واعترض بأن المشرك لم يخص عبادته بغير الله تعالى فالرد عليه إنما يكون لو قيل : أأتخذ غير الله وليا وأجيب بأن من أشرك بالله تعالى غيره لم يتخذ الله تعالى معبودا لأنه لا يجتمع عبادته سبحانه مع عبادة غيره كما قيل : إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام وقيل : الولي بمعنى الناصر كما هو أحد معانيه المشهورة ويعلم من إنكار اتخاذ غير الله تعالى ناصرا أنه لا يتخذه معبودا من باب الأولى ويحتمل الكلام على ما قيل أن يكون من الاخراج على خلاف مقتضى الظاهر قصدا الى امحاض النصح ليكون أعون على القبول كما في قوله تعالى : ومالي لا أعبد الذي فطرني واليه ترجعون
فاطر السموات وألارض أي مبدعها كما أخرجه ابن ابي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
(7/109)
وأخرج ابو عبيدة وابن جرير وابن الانباري عنه رضي الله تعالى عنه قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يقول : انا ابتدأتها وهو نعت للجلالة مؤكد للانكار وصح وقوعه نعتا للمعرفة لأنه بمعنى الماضي سواء كان كلاما من الله تعالى ابتداء أو محكيا عن الرسول صلى الله عليه و سلم إد المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم ويدل على إرادة المضي انه قرأ الزهري فطر ولا يضر الفصل بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملة في عامل الموصوف وقيل : بدل من الاسم الجليل ورجحه أبو حيان بأن الفصل فيه أسهل وقريء بالرفع والنصب على المدح أي هو فاطر أو امدح فاطر وجوز أن يكون النصب على البدلية من وليا لا الوصفية لأن معرفة نعم يجوز على قراءة الزهري أن تكون الجملة وصفية له
وهو يطعم ولا يطعم أي يرزق ولا يرزق كما أخرجه ابن جرير وغيره عن السدي فالمراد من المطعم الرزق بمعناه اللغوي وهو كل ما ينتفع به بدليل وقوعه مقابلا له في قوله تعالى : ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون وعبد بالخاص عن العام مجازا لأنه أعظمه وأكثره لشدة الحاجة اليه ويحتمل أنه اكتفى بذكره عن ذكره لأنه يعلم من ذلك نفي ما سواه فهو حقيقة والجملة محل نصب على الحالية وعن ابي عمرو والأعمش وعكرمة أنهم قرأوا ولا يطعم بفتح الياء والعين أي ولا يأكل والضمير لله تعالى ومثله قراءة عبلة بفتح الياء وكسر العين وقرأ يعقوب بعكس القراءة الأولى أعني بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل والضمير حينئذ الفعلين لغير الله تعالى أي أتخذ من هو مرزوق غير رازق وليا والكلام وإن كان من عبدة الاصنام إلأ أنه نظر إلى عموم غير الله تعالى وتغليب اولي العقول كعيسى عليه الصلاة و السلام لأن فيه انكار أن يصلح الاصنام للالوهية من طريق الأولى وقد يقال : الكلام كناية عن كونه مخلوقا غير خالق كقوله تعالى : لايخلقون شيئا وهم يخلقون ويحمل الفعل على معنى النفع لا يرد شيء رأسا وقرأ الأشهب وهو يطعم ولا يطعم ببنائهما للفاعل ووجهت إما بأن أفعل بمعنى استفعل كما ذكره الأزهري أي وهو يطعم ولا يستطعم أي لا يطلب طعاما ويأخذه من غيره أو بأن المعنى يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله سبحانه وتعالى يقبض ويبسط والضميران لله تعالى ورجوع الضمير الثاني لغير الله تعالى تكلف يحتاج إلى التقدير قل بعد بيان أن اتخاذ غيره تعالى وليا مما يقضي ببطلانه بديهة العقول اني أمرت من جناب ولي جل شأنه أن أكون أول من اسلم وجهه لله سبحانه وتعالى مخلصا له لأن النبي عليه الصلاة و السلام مأمور بما شرعه الا ما كان من خصائصه عليه الصلاة و السلام وهو أمام أمته ومقتداهم وينبغي لكل آمر أن يكون هو العامل أولا بما أمر به ليكون أدعى للامتثال ومن ذلك كا حكى الله تعالى عن موسى عليه الصلاة و السلام سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين
وقيل : إن ماذكر للتحريض كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال والا فلم يصدر عنه صلى الله عليه و سلم امتناع عن ذلك حتى يؤمر به وفيه نظر ولا تكونن من المشركين
41
- أي في أمر من أمور الدين وفي الكلام قول مقدر أي وقيل لي : لا تكونن قالوا و من الحكاية عاطفة للقول المقدرعلى أمرت وحاصل المعنى إني أمرت بالاسلام ونهيت عن الشرك وقيل : إنه معطوف على مقول قل على المعنى إذ هو في معنى قل إني قيل لي كن أول مسلم ولا تكونن فالواو من المحكي وقيل إنه عطف على قل
(7/110)
على معنى أنه عليه الصلاة و السلام أمر بأن يقول كذا ونهي عن كذا وتعقب بأن سلاسة النظم تأبى عن فصل الخطابات التبليغية بعضها عن بعض بخطاب ليس منها وجوز أن يعطفه على إني أمرت داخلا في حيز قل والخطاب لكل المشركين ولا يخفى تكلفه وتعسفه وعدم صحة عطف على أكون ظاهر إذ لا وجه للالتفات ولا معنى لأن يقال أمرت أن لا تكونن : قل إني أخاف إن عصيت ربي أي بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا وقوله سبحانه وتعالى : عذاب يوم عظيم
51
- أي عذاب يوم القيامة وعظمه لعظم ما يقع فيه مفعول أخاف والشرطية معترضة بينهما وجواب الشرط محذوف وجوبا وما تقدم على الاداة شبيه به فهو دليل عليه وليس إياه على الأصح خلافا للكوفيين والمبرد والتقدير أن عصيت اخف أو اخاف عذاب الخ وقيل : صرت مستحقا لعذاب ذلك اليوم وفي الكلام مبالغة أخرى بالنظر إلى ما يفهم مما تقدم في قطع أطماعهم وتعريض بأنهم عصاة مستحقون للعذاب حيث أسند إلى ضمير المتكلم ما هو معلوم الانتفاء وقرن بان التي تفيد الشك وجيء بالماضي ابرازا له في صورة الحاصل على سبيل الفرض ويؤول المعنى في الآخرة إلى تخويفهم على صدور ذلك الفعل منهم فليس في الكلام دلالة على أنه عليه الصلاة و السلام يخاف على نفسه المقدسة الكفر والمعصية مع أنه ليس كذلك لعصمته صلى الله عليه و سلم وأورد بعضهم دلالة الآية على ما ذكر بحثا مث قال وأجيب عنه بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعا عاديا فلا تدل الا على أنه عليه الصلاة و السلام يخاف لو صدر عنه وحاشاه الكفر والمعصية وهذا لا يدل على حصول الخوف وأنت تعلم أن فيما قدمنا عنى عن ذلك ويفهم من كلام بعضهم أن خوف المعصوم من المعصية لا ينافي العصمة لعلمه أن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد وانه لا يجب عليه شيء وفي بعض الآثار أنه عز شأنه قال لموسى عليه السلام : يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط
وجاء في غير ما خبر أنه صلى الله عليه و سلم إذا عصفت الريح يصفر وجهه الشريف ويقول أخاف أن تقوم الساعة مع أن الله تعالى أخبره أن بين يديها ظهور المهدي وعيسى عليهما السلام وخروج الدجال وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك من الأمارات التي لم توجد إذ ذاك ولم تحقق بعد وصح أنه صلى الله عليه و سلم اعتذر عن عدم خروجه عليه الصلاة و السلام لصلاة التراويح بعد أن صلاها أول رمضان وتكاثر الناس رغبة فيها بقوله خشيت أن تفرض عليكم مع أن ما كان ليلة الاسراء إذ فرضت الصلوات يشعر بأنه تعالى لا يفرض زيادة عن الخمس وكل ذلك يدل على ان لله تعالى أن يفعل ما شاء وقصارى ما يلزم في امثال ذلك لو فعل تغير تعلق الصفة وهو لا يستلزم تغير الصفة ليلزم الحدوث وقيام الحوادث به تعالى شأنه وهذا بحث طويل الذيل ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه إن شاء الله تعالى
من يصرف عنه يومئذ أي من يصرف العذاب عنه فنائب الفاعل ضمير العذاب وضمير عنه يعود على من وجوز العكس أي من يصرف عن العذاب و من على الوجهين مبتدأ خبره الشرط أو الجواب أو هما على الخلاف والظرف متعلق بالفعل أو بالعذاب أو بمحذوف وقع حالا من الضمير
وجوز أن يكون نائب الفاعل وهل يحتاج حينئذ إلى تقدير مضاف أي عذاب يومئذ أم لا فيه خلاف فقيل : لابد منه لأن الظرف غير التام أي المقطوع عن الأضافة كقبل وبعد لا يقام مقام الفاعل إلا بتقدير
(7/111)
مضاف و يومئذ له حكمه وفي الدر المصون لا حاجة اليه لأن التنوين لكونه عوضا يجعل في قوة المذكور خلافا للأخفش وذكر الأجهوري أن التنوين هنا عوضا عن جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق والأصل يوم إذ يكون الجزاء ونحو ذلك والجملة مستأنفة مؤكدة لتهويل العذاب وجوز أن تكون صفة عذاب وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم من يصرف على أن الضمير فيه لله تعالى وقرأ أبي من يصرف الله باظهار الفاعل والمفعول به محذوف أي العذاب أو يومئذ بحذف المضاف أو يجعل اليوم عبارة عما يقع فيه و من في هذه القراءة مبتدأ
وجوز أبو البقاء أن تجعل في موضع نصب بفعل محذوف تقديره من يكرم يصرف الله العذاب عنه فجعل يصرف تفسيرا للمحذوف وأن يجعل منصوبا بيصرف ويجعل ضمير عنه للعذاب أي أي انسان يصرف الله تعالى عنه العذاب فقد رحمه أي الرحمة العظى وهي النجاة كقولك : ان أطعمت زيدا من جوعه فقد أحسنت اليه تريد فقد أتممت الاحسان اليه وعلى هذا يكون الكلام من قبيل من أدرك مرعى الضمان فقد أدرك ومن كانت هجرته إلى الله تعالى الخبر ومن قبيل صرف المطلق الى الكامل وقيل : المراد فقد أدخله الجنة فذكر الملزوم وأريد اللازم لأن ادخال الجنة من لوازم الرحمة إذ هي دار الثواب اللازم لترك العذاب
ونقض بأصحاب الأعراف وأجيب بأن قوله تعالى وذلك الفوز المبين
61
- حال مقيدة لما قبله والفوز المبين إنما هو بدخوله الجنة لقوله تعالى فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وأنت تعلم أنه إذا قلنا : إن الأعراف جبل في الجنة عليه خواص المؤمين كما هو أحد الأقوال لا يرد النقض وسيأتي إنشاء الله تعالى تحقيق ذلك وما ذكر من الجواب مبني على ما يخفي بعده والداعي إلى التأويل اتحاد الشرط والجزاء الممتنع عندهم
وقال بعض الكاملين : إن ما في النظم الجليل نظير قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لن يجزئ ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه يعني بالشراء المذكور وان اختلاف العنوا يفي في صحة الترتيب والتعقيب ولك أن تقول : إن الرحمة سبب للصرف سابق عليه على ما تلوح اليه صيغة الماضي والمستقبل والترتيب باعتبار الأخبار وتعقبه الشهاب بأنه تكلف لأن السبب والمسبب لابد من تغايرهما معنى والحديث المذكور منهم من أخذ بظاهره ومنهم من أوله بأن المراد لا يجزيه أصلا وهو دقيق لأنه تعليق بالمحال واما كون الجواب ماضيا لفظا ومعنى ففيه خلاف حتى منعه بعضهم في غير كان لعراقتها في المضي اه فليفهم
والاشارة إما إلى الصرف الذي في ضمن يصرف وإا إلى الرحمة وذكر لتأويل المصدر بأن والفعل ومنهم من اعتبر الرحم بضم فسكون أو بضمتين وهو على ما في القاموس بمعنى الرحمة ومعنى البعد للايذان بعلو درجة ما أشير اليه والفوز الظفر بالبغية وأل لقصره على المسند اليه
وإن يمسسك الله بضر أي ببلية كمرض و حاجة فلا كاشف أي لا مزيل ولا مفرج له عنك إلا هو والمراد لا قادر على كشفه سواه سبحانه وتعالى من الأصنام وغيرها وإن يمسسك بخير من صحة وغني فهو على كل شيء قدير
71
- ومن جملته ذلك فيقدر جل شأنه عليه فيمسك به ويحفظه عليك
(7/112)
من غير أن يقدر على دفعه ورفعه أحد كقوله تعالى : فلا راد لفضله ويظهر من هذا ارتباط الجزاء بالشرط
وقيل : إن الجواب محذوف تقديره فلا راد له غيره تعالى والمذكور تأكيد للجوابين لأن قدرته تعالى على كل شيء من الخير والشر تؤكد انه سبحانه وتعالى كاشف الضر وحافظ النعم ومديمها وزعم أنه لا تعلق له بالجواب الأول بل هو علة الجواب الثاني ظاهر بطلان إذ القدرة على كل شيء تؤكد كشف الضر بلا شبهة وإنكار ذلك مكابرة وأصل المس كما قال ابو حيان م تلاقي الجسمين والمراد به هنا الاصابة وجعل غير واحد الباء في بضر وفي بخير للتعدية وإن كان الفعل متعديا كأنه قيل : وإن يمسسك الله الضر وفسروا الضر بالضم بسوء الحال في لاجسم وغيره بالفتح بضد النفع وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر على ما في البحر لأن الشر أعم فأتي فأتي بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام رعاية لجهة الرحمة وقال ابن عطية : إن مقابلة الخير بالضر مع أن مقابلة الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون الضعة وطرح رداء التكلف وهو أن يقرن باخص من ضده ونحوه لكونه أوفق بالمعنى وألصق بالمقام كقوله تعالى : إن لك أن لاتجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فجيء بالجوع مع العري وبالضمأ مع الضحو وكأن الأظهر خلافه ومنه قول امريء القيس : كأني لم أركب جوادا للذة ولإم أتبطن كاعبا ذات خلخال ولم أسأل الزق الروى ولم أقل لخيلي كري كرة بعد اجفال وايضاحه أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر والظما الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر وكذلك قرن امريء القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال في شراء الراح ببذل الأنفس في الكفاح لأن في الأول سرور الطرب وفي الثاني سرور الظفر وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب فان انتقام العظيم عظيم ثم لما ذكر الاحسان أتى بما يعم انواعه والآية من قبيل اللف والنشر فان مس الضر ناظر إلى قوله تعالى إني أخاف الخ ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه : من يصرف عنه الخ وهي على ما قيل داخله في حيز قل والخطاب عام لكل من يقف عليه أو لسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم ولا نافية للجنس و كاشف اسمها و له خبرها والضمير المنفصل بدل من وضع لا كاشف أو من الضمير في الظرف ولا يجوز على ما قال أبو البقاء أن يكون مرفوعا بكاشف ولا بدلا من الضمير فيه لأنك في الحالين تعمل اسم لا ومتى أعملته في ظاهر نونته وفي هذه الآية الكريمة رد على من رجا كشف الضر من غيره سبحانه وتعالى وأمل أحدا سواه
وفي فتوح الغيب للقطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله تعالى سره من كلام طويل إن من أراد السلامة في الدنيا والآخرة فعليه بالصبر والرضا وترك الشكوى إلى خلقه وانزال حوائجه بربه عز و جل ولزوم طاعته وانتظار الفرج منه سبحانه وتعالى والانقطاع اليه فحرمانه عطاء وعقوبته نعماء وبلاؤه دواء ووعده حال وقوله فعل وكل أفعاله حسنة وحكمة ومصلحة غير أنه عز و جل طوى علم المصالح عن عباده وتفرد به فليس إلا الاشتغال بالعبودية من أداء الأوامر واجتناب النواهي والتسليم في القدر وترك الاشتغال
(7/113)
بالربوبية والسكون عن لم وكيف ومتى وتستند هذه الجملة إلى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : بينما أنا رديف رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ قال : ياغلام احفظ الله تعالى يحفظك أحفظ الله تتعالى تجده أمامك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن ولو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله سبحانه وتعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله تعالى عليك لم يقدروا عليه فان استطعت أن تعمل لله تعالى بالصدق في اليقين فاعمل فان لم تستطع فان في الصبر على ماتكره خيرا كثيرا وأعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه وشعاره ودثاره وحديثه فيعمل به من جهة حركاته وسكناته حتى يسلم في الدنيا والأخرة ويجد العزة برحمة الله عز و جل
وهو القاهر فوق عباده قيل هو استعارة تمثيلية وتصوير لقره سبحانه وتعالى وعلوه عز شأنه بالغلبة والقدرة وجوز أن تكون الاستعارة بالظرف بأن شبه الغلبة بمكان محسوس وقيل : إنه كناية عن القهر والعلو بالغلبة والقدرة : إن فوق زائدة وصحح زيادتها وإن كانت اسما كونها بمعنى على وهو كما ترى والداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة والله تعالى منزه عنها لأنها محدثة باحداث العالم واخرجه من العدم إلى الوجود ويلزم أيضا من كونه سبحانه وتعالى في جهة مفاسد لا تخفي وأنت تعلم أن مذهب السلف اثبات الفوقية لله تعالى كما نص عليه الامام الطحاوي وغيره واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل وقد روى الامام أحمد في حديث الاوعال عن العباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق ذلك كله وروى ابو داود عن جبير ابن محمد بن جبير بن مطعم عن ابيه عن جده قوله صلى الله عليه و سلم للرجل الذي استشفع بالله تعالى عليه : ويحك أتدري مالله تعالى إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سماواته وقال باصابعه مثل القبة وانه لئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب
وأخرج الأموي في مغازيه من حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة : لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات وروى ابن ماجة يرفعه قال : بينا أهل الجنة في معيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا اليه رؤوسهم فاذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال : يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ صلى الله عليه و سلم قوله تعالى : سلام قولا من رب رحيم فينظر اليهم وينظرون اليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون اليه وصح أن عبد الله بن رواحة أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم أبياته التي عرض بها عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته وهي : شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الاله مسومينا فأقره عليه الصلاة و السلام على ما قاله وضحك منه وكذا أنشد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله : شهدت باذن الله أن محمدا رسول الذي فوق السموات من عل
(7/114)
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل وأن أخا الاحقاف إذ قام فيهم يقوم بذات الله فيهم ويعدل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : وأنا أشهد وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى حكاية عن ابليس : ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم أنه قال : لم يستطع أن يقول ومن فوقهم لأنه قد علم أن الله تعالى سبحانه من فوقهم والآيات والاخبار التي فيها التصريح بما يدل على الفوقية كقوله تعالى : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وإليه يصعد الكلم الطيب وبل رفعه الله اليه وتعرج الملائكة والروح إليه وقوله صلى الله عليه و سلم فيما أخرجه مسلم : وأنت الظأهر فليس فوقك شيء كثيرة جدا وكذا كلام السلف في ذلك فمنه ما روى شيخ الاسلام ابو اسماعيل الانصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عمن قال : لا أعرف ربي سبحانه وتعالى في السماء أم في الأرض فقال : قد كفر لأن الله تعالى يقول الرحمن على العرش استوى وعرشه فوق سبع سموات فقال : قلت فان قال انه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض فقال رضي الله تعالى عنه هو كافر لأنه أنكر آية في السماء ومن أنكر آية في السماء فقد كفر وزاد غيره لأن الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل اه
وايد القول بالفوقية أيضا بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن دلك فانه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفا بضد ذلك لأن القابل للشيء لا يخلوا منه أو من ضده وضد الفوقية السفول وهو مذموم على الاطلاق والقول بانا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بانه سبحانه لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها فمتى سلم بانه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وانه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط بل وجوده خارج الأذهان قطعا وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإا خارج عنه وانكار ذلك انكار ما هو أجلى البديهيات فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح وإذا كان صفة الفوقية صفة كال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا اجماع كان نفيها عين الباطل لا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى
وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس امام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول : كان الله تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا يا استاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فانه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا قال : فلطم الامام على رأسه ونزل وأظنه قال وبكى وقال حيرني الهمداني وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماى قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة ثم هو أيضا منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض ولا يخفى أن هذا باطل أما أولا فلأن السماء قبلة الدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله تعالى به من
(7/115)
سلطان والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة فقد صرحوا بأنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة وقد استقبل النبي صلى الله عليه و سلم الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة فمن قال : إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين وأما ثانيا فلان القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة وما حاذا الانسان برأسه أو يديه مثلا لا يسمى قبلة أصلا فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع ان يوجه الداعي وجهه اليها ولم يثبت ذلك في شرع أصلا وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض فان واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل لأن أن يميل اليه إذ هو تحته بل هذا لا يخطر في قلب ساجد نعم سمع عن بشر المريسي أنه يقول : سبحان ربي الاسفل تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحون والطالمون علوا كبيرا
وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية اليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل كما يقال : الأمير فوق الوزير والدينار فوق الدرهم وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة فان قول القائل ابتداء : الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه من جنس قوله الثلج بارد والنار حارة والشمس أضوأ من السراج والسماء اعلى من سقف الدار ونحو ذلك وليس في ذلك أيضا تمجد ولا تعظيم لله تعالى بل هو من أرذل الكلام فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه وهو الذي لو اجتمع الانس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا على أن في ذلك تنقيصا لله تعالى شأنه ففي المثل السائر : ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف خير من العصا نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجا على مبطل كما في قول يوسف الصديق عليه السلام : أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار وقوله تعالى : آلله خير أم ما يشركون والله خير وأبقى فهو أمر لا اعتراض عليه ولا توجه سهام الطعن اليه والفوقية بمعنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضا وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون فوقية الذات ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال صفاته سبحانه وتعالى منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ولا يعدلون عن الالفاظ الشرعية نفيا ولا اثباتا لئلا يثبتوا معنى فاسدا أو ينفوا معنى صحيحا فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه وأما لفظ الجهة فقد يراد به ماهو موجود وقد يراد به ماهو معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود الا الخالق والمخلوق فاذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله تعالى وحده فاذا قيل : إنه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم ومعنى ذلك أنه فوق العالم فليس هناك إلا الله تعالى وحده فاذا قيل : إنه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم ومعنى ذلك أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه سبحانه كان قبل الجهات وأنه من قال : إنه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم وأنه جل شأنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنه عز اسمه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أم لم يسم وهو كلام حق ولكن الجهة ليست أمرا وجوديا بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك وبالجملة يجب تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتفويض علم ما جاء من المتشابهات اليه عز شأنه والايمان بها على الوجه الذي جاءت عليه والتأويل القريب إلى الذهن
(7/116)
الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف والله تعالى أعلم بمراده وهو الحكيم أي ذو الحكمة البالغة وهي العلم بالأشياء على ماهي عليه والاتيان بالافعال على ما ينبغي أو المبالغ في الاحكام وهو اتقان التدبير واحسان التقدير الخبير
81
- أي العالم بما دق من أحوال العباد وخفي من أمورهم واللام هنا وفيما تقدم للقصر قل أي شيء أكبر شهادة روى الكلبي أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم : يا محمد أما وجد الله تعالى رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فارنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمرو فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا إله إلا الله تعالى بذلك بعثت وإلى ذلك أدعوا فأنزل الله تعالى هذه الآية والاول أوفق بأول الآية والثاني بآخرها
فأي مبتدأ و أكبر خبره و شهادة تمييز والشيء في اللغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فقد ذكره سيبويه في الباب المترجم بباب مجاري أواخر الكلم وإنما يخرج التأنيث من التذكير ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى والشيء مذكر انتهى وهل يطلق على الله تعالى أم لا فيه خلاف فمذهب الجمهور أنه يطلق عليه سبحانه فقال : شيء لا كالأشياء واستدلوا على ذلك بالسؤال والجواب الواقعين في هذه الآية وبقوله سبحانه : كل شيء هالك إلا وجهه حيث استثنى من كل شيء الوجه وهو بمعنى الذات عندهم وبأنه أعم الألفاظ فيشمل الواجب والممكن
ونقل الامام أن جهما أنكر صحة الاطلاق محتجا بقوله تعالى : ولله الاسماء الحسنى فقال : لا يطلق عليه سبحانه إلا ما يدل على صفة من صفات الكمال والشيء ليس كذلك وفي المواقف وشرحه الشيء عند الاشاعرة يطلق على الموجود فقط فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء ثم سيق فيهما مذاهب الناس فيه ثم قيل : والنزاع لفظي متعلق بلفظ الشيء وأنه على ماذا والحق ما ساعد عليه اللغة والنقل إذ لا مجال للعقل في اثبات اللغات والظاهر معنا فأهل اللغة في كل عصر يطلقون لفظ الشيء على الموجود حتى لو قيل عندهم الموجود شيء تلقوه بالقبول ولو قيل : ليس بشيء تلقوه بالانكار ونحو قوله سبحانه : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ينفي اطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم لأن الحقيقة لا يصح فيها انتهى
وفي شرح المقاصد أن البحث في أن المعدوم شيء حقيقة أم لا لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال وقد وقع فيه اختلافات نظرا إلى الاستعمالات فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازا ثم قال : وما نقل عن ابي العباس أنه اسم للقديم وعن الجهمية أنه اسم للحادث وعن هشام أنه أسم للجسم فبعيد جدا من جهة أنه لا يقبله أهل اللغة انتهى وفي ذلك كله بحث فان دعوى الاشاعرة التساوي بين الشيء والموجود لغة أو الترادف كما يفهم مما تقدم من الكليتين ليس لها دليل يعول عليه وقوله : إن أهل اللغة في كل عصر الخ إنما يدل على أن كل موجود شيء وأما أن كل ما يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة لغوية موجود فلا دلالة فيه عليه إذ لا يلزم من أن يطلق على الموجود لفظ شيء دون لا شيء أن يختص الشيء لغة بالموجود لجواز أن يطلق الشيء على المعدوم والموجود حقيقة لغوية
(7/117)
مع اختصاص الموجود باطلاق الشيء دون اللاشيء وانكار أهل اللغة على من يقول : الموجود ليس بشيء لكونه سلبا للأعم عن الأخص وهو لا يصح لكونهما مترادفين أو متساويين وقد اطلق على المعدوم الخارجي كتابا وسنة فقد قال الله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله وقال سبحانه : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول كن فيكون
وأخرج الطبراني ن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد سأله رجل فقال : إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبط أجري يقول : لا يلقىي ذلك الكلام إلا مؤمنونحوه عن معاذ بن جبل والأصل في الاطلاق الحقيقة فلا يعدل عنها إلا إذا وجد صارف وشيوع الاستعمال لا يصلح أن يكون صارفا بعد صحة النقل عن سيبويه ولعل سبب ذلك الشيوع أن تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاص الشيء بالموجود لغة
وقوله تعالى ولقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا إنما يلزم منه نفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم وهو يضرنا لو كان المدعي تخصيص إطلاق الشيء لغة وليس كذلك فان التحقيق عندنا أن الشيء بمعنى المشيء العلم به والاخبار عنه وهو مفهوم كلي يصدق على الموجود والمعدوم الواجب والممكن وتخصيص إطلاقه ببعض أفراده عند قيام قرينة لا ينافي شموله لجميع أفراده حقيقة لغوية عند انتفاء قرينة مخصصة وإلا لكان شموله المعدوم والموجود معا في قوله تعالى : والله بكل شيء عليم جمعا بين الحقيقة والمجاز وهي مسألة خلافية ولا خلاف في الاستدلال على عموم تعلق علمه تعالى بالاشياء مطلقا بهذه الآية فهو دليل على أن شموله للمعدوم والموجود معا حقيقة لغوية وذكر بعض الأجلة بعد زعمه اختصاص الشيء بالموجود أنه في الأصل مصدر استعمل بمعنى شاء أو مشيء فان كان بمعنى شاء صح إطلاقه عليه تعالى وإلا فلا
وأنت تعلم أنه على ما ذكرنا من التحقيق لا مانع من اطلاق الشيء عليه تعالى من غير حاجة إلى هذا التفصيل لأنه بمعنى المشيء العلم به والاخبار عنه فيكون إطلاق الشيء بهذا المعنى عليه عز و جل كاطلاق المعلوم مثلا ومعنى أكبر شهادة أعظم وأصدق قل الله أمر له صلى الله عليه و سلم أن يتولى الجواب بنفسه بنفسي هو عليه الصلاة و السلام لما مر قريبا والاسم الجليل مبتدأ محذوف الخبر أي الله أكبر شهادة وجوز العكس
ومذهب سيبويه أنه إذا كانت النكرة اسم استفهام أو أفعل تفضيل تقع مبتدأ يخبر عنه بمعرفة وقوله سبحانه : شهيد خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه شهيد بيني وبينكم فهو ابتداء كلام وجوز أن يكون خبر الله والمجموع على ما ذهب اليه الزمخشري هو الجواب لدلالته على أن الله عز و جل إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له ونقل في الكشف أنه إن جعل تمام الجواب عند قوله سبحانه : الله فهو للتسلق من إثبات التوحيد إلى إثبات النبوة بأن هذا الشاهد الذي لا أصدق منه شهد لي بايحاء هذا القرآن وإن جعل الكلام بمجموعه الجواب فهو من الأسلوب الحكيم لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا الشاهد يحتمل أن يكون غيره تعالى بل الكلام في أنه يشهد لنبوته أو لا فليفهم وأوحى إلي من قبله تعالى هذا القرآن العظيم الشاهد بصحة رسالتي لأنذركم به بما فيه من الوعيد واكتفى بذكر الانذار عن ذكر البشارة لأنه
(7/118)
المناسب للمقام وقيل : إن الكلام مع الكفار وليس فيهم من يبشر وفي الدر المصون أن الكلام على حد سرابيل تقيكم الحر ومن بلغ عطف على ضمير المخاطبين أي لانذركم به سا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة قال ابن جرير : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه و سلم
وأخرج ابو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من بلغه القرآن فكأنما شافهته واستدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها واختلف في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالاجماع في غير الموجودين وفي غير المكلفين فذهب الحنابلة إلى الأول والحنفية إلى الثاني وتحقيقه في الأصول وعلى أن من لم يبلغه القرآن غير مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الاسلام فقالوا : لا فخلى سبيلهم ثم قرأ وأوحي الي الآية وهو مبني على القول بالمفهوم كما ذهب اليه الشافعية واعترض بأنه لا دلالة للآية على ذلك بوجه من الوجوه لأن مفهومها انتفاء الانذار بالقرآن عمن لم يبلغه وذلك ليس عين انتفاء المؤاخذة وهو ظاهر ولا مستلزما له خصوصا عند القائلين بالحسن والقبح إلا أن يلاحظ قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفيه أن عدم استلزام انتفاء الانذار بالقرآن لانتفاء المؤاخذة ممنوع والحسن والقبح العقليان قد طوي بساط ردهما وجوز أن يكون من عطفا على الفاعل المستتر في أنذركم للفصل بالمفعول أي لأنذركم أنا بالقرآن وينذركم به من بلغه القرآن أيضا وروى الطبرسي ما يقتضيه عن العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن
أئنكم لتشهدون أن مع الله ءالهة أخرى جملة مستأنفة أو مندرجة في القول والاستفهام للتقرير أو للانكار وقيل : لهما وفيه جمع بين المعاني المجازية وأخرى صفة اةلهة وصفة جمع ما لا يعقل كما قال أبو حيان كصفة الواحدة المؤنثة نحو مآرب أخرى ولله تعالى الاسماء الحسنى ولما كانت الآلهة حجارة وخشبا مثلا أجريت هذا المجرى تحقيرا لها قل لهم لا أشهد بذلك وان شهدتم به فانه باطل صرف
قل تكرير للامر للتأكيد أنما هو اله واحد أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو وما كافة
وجوز أبو البقاء وزعم أنه الأليق بما قبله كونها موصولة ويبعده كونها موصولة وعليه يكون واحد خبرا وهو خلاف الظأهر وانني بريء مما تشركون
91
- من الاصنام أو من اشراككم الذين ءاتيناهم الكتاب جواب عما سبق في الرواية الاولى من قولهم : سألنا اليهود والنصارى الخ أخر عن تعيين الشهيد مسارعة الى الجواب عن تحكمهم بقولهم : أرنا من يشهد لك فالمراد من الموصولة ما يعم الصنفين اليهود والنصارى ومن الكتاب جنسه الصادق على التوراة والانجيل وايرادهم بعنوان ايتاء الكتاب للايذان بمدار ما أسند اليهم بقوله تعالى يعرفونه أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه و سلم بحليته ونعوته المذكورة فيهما وفيه التفات وقيل : الضمير للكتاب واختاره أبو البقاء والأول هو الذي تؤيده الاخبار كما ستعرفه كما يعرفون أبناءهم
(7/119)
بحلاهم لايشكون في ذلك أصلا روى أبو حمزة وغيره أنه لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة قال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام : إن الله تعالى أنزل على بيه عليه الصلاة و السلام أن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فكيف هذه المعرفة فقال ابن سلام : نعرف نبي الله صلى الله عليه و سلم بالنعت الذي نعته الله تعالى به إذا رأيناه فيكم عرفناه كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان وأيم الله الذي يحلف به ابن سلام لانا بمحمد أشد معرفة مني بابني لاني لا أدري ما أحثت أمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه : قد وفقت وصدقت
وزعم بعضهم ان المراد بالمعرفة هنا ما هو بالنظر والاستدلال لأن ما يتعلق بتفاصيل حليته صلى الله عليه و سلم اما أن يكون باقيا وقت نزول اةية أولا بل محرفا مغيرا والاول باطل ولا يتأتى لهم إخفاء ذلك لأن إخفاء ما شاع في الآفاق محال وكذا الثاني لأنهم لم يكونوا حينئذ عارفين حليته الشريفة عليه الصلاة و السلام كما يعرفون حلية أبنائهم
وفيه أن الاخفاء مصرح به في القرآن كما في قوله تعالى : تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا واخفاؤها ليس باخفاء النصوص بل بتأويلها وبقولهم : إنه رجل آخر سيخرج وهو معنى قوله سبحانه : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
الذين خسروا أنفسهم من أهل الكتابين والمشركين فهم لا يؤمنون
2
- بما يجب الايمان به وقد تقدم الكلام في هذا التركيب آنفا ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا بادعائه أن له جل شأنه شريكا وبقوله الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله وعد من ذلك وصف النبي عليه الصلاة و السلام الموعود في الكتابين بخلاف أوصافه والاستفهام للاستعظام الادعائي والمشهور أن المراد انكار أن يكون أحد أطلم ممن فعل ذلك أو مساويا له والتركيب وإن لم يدل على انكار المساواة وضعا كما قال العلامة الثاني في شرح المقاصد وحواشي الكشاف يدل عليه استعمالا فاذا قلت : لا أفضل في البلد من زيد فمعناه أنه أفضل من الكل بحسب العرف والسر في ذلك أن النسبة بين الشيئين إنما تتصور غالبا لا سيما في باب المغالبة بالتفاوت زيادة ونقصانا فاذا لم يكن أحدهما أزيد يتحقق النقصان لا محالة
وادعى بعض المتأخرين أنه سنح له في توجيه ذلك نكتة حسنة ودقيقة مستحسنة وهي أن المتساويين بل المتقاربين في نفس الامر لا يسلم كل واحد منهما أن يفضل عليه صاحبه فان كل أحد لا يقدر على أن يقدر كل شيء حق قدره وكل انسان لا يقوي على أن يعرف كل أمر على ماهو عليه فان الافهام في مقابلة الأوهام متفاوتة والعقول في مدافعة الشكوك متباينة فاذا حكم بعض الناس مثلا بالمساواة بين المتساويين في نفس الأمر فقد يحكم البعض اةخر يرجحان ذلك على حسب منتهى أفهامهم ومبلغ عقولهم ومدرك ادراكهم فكل ما يوجد من يساويه في نفس الأمر يوجد من يفضل عليه بحسب اعتقاد الناس بل كلما يوجد من يقاربه فيه يوجد من يفوقه في ظنون العامة وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلما لا يوجد من يفضل عليه لايوجد من يساويه بل من يقاربه أيضا وهو المطلوب وبالجملة أن اثبات المساوي يستلزم اثبات الراجح الفاضل فنفى الفاضل يستلزم نفي المساوي لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما أن اثبات الملزوم يستلزم اثبات اللازم وفيه تأمل
وادعى بعض المحققين أن دلالة التركيب على نفي المساواة وضعية لأن غير الأفضل إما مساو أو أنقص
(7/120)
فاستعمل في أحد فرديه قال ابن الصائغفي مسئلة الكحل : إن ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد وإن كان نصا في نفي الزيادة وهي تصدق بالزيادة والنقصان الا أن المراد الأخير وهو من قصر الشيء على بعض أفراده كالدابة انتهى وأنت تعلم أن هذا باعتبار العرف أيضا أو كذب بآياته كأن كذب بالقرآن الذي جملته الآية الناطقة بأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو بسائر المعجزات التي أيد بها رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن سماها سحرا وعد من ذلك تحريف الكتاب وتغيير نعوته صلى الله عليه و سلم الذي ذكرها الله تعالى فيه وإنما ذكر أو وهم جمعوا بين الأمرين ايذانا بأن كلا منهما وحده بالغ غاية الافراطفي الظلم على النفس وقيل : نبه بكلمة أو على أنهم جمعوا بين أمرين متناقضين يعني أنهم أثبتوا المنفي ونفوا الثابت والمراد بالمتناقضين أمران من شأنهما أن لا يجمع بينهما عرفا أو يقال إن من نفى الثابت بالبرهان يكون بنفي مالم يثبت به أولى كذلك في الطرف الآخر فالجمع بينهما جمع بين المتناقضين من هذا الوجه
وادعى بعضهم أن وجه التناقض المشعر به هذا العطف أن الافتراء على الله تعالى دعوى وجوب القبول بلا حجة ما ينسب اليه تعالى وتكذيب الآيات دعوى أنه يجب أن لا يقبل ما ينسب اليه تعالى ولو أقيم عليه بينة ويجب أن ينكر التنبيه ويرتكب المكابرة بناء على أن الرسول يجب ان يكون ملكا
ولا يخفي أن في دعوى التناقض خفاء وهذه التوجيهات لا ترفعه إنه أي الشأن والمراد ان الشأن الخطير هذا وهو لايفلح أي لا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مكروه الظلمون
12
- من حيث أنهم ظالمون فكيف يفلح الأظلم من حيث أنه أظلم ويوم نحشرهم جميعا منصوب على الظرفية بمضمر يقدر مؤخرا وضمير نحشرهم للكل أو للعابدين للآلهة الباطلة مع معبوداتهم و جميعا حال منه أي ويوم نحشر كل الخلق أو الكفار وآلهتهم جميعا ثم نقول لهم ما نقول كان كيت وكيت وترك هذا الفعل من الكلام ليبقى على الابهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل وقدر ماضيا ليدل على التحقيق ويحسن عطف ثم لم تكن الخ عليه وجوز نصبه على المفعولية بمضمر مقدر أي واذكر لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم واختاره ابو البقاء وقيل : التقدير ليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم الخ ثم نقول للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد للذين أشركوا بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانا : أي شركاؤكم أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله عز اسمه فالاضافة لأدنى ملابسة و أين للسؤال عن غير الحاضر وظاهر قوله تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون وغيره من الآيات يقتضي حضورهم معهم في المحشر فاما أن يقال : إن هذا السؤال حين حال بينهم بعد ما شاهدوا ليشاهدوا خيبتهم كما قيل : كما أبرقت قوما عطاشا غمامة فلما رأوها اقشعت وتجلت وإما أن يقال : إنه حال مشاهدتهم لهم لكنهم لما لم ينفعوهم نزلوا منزلة الغيب كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين زيد فتجعله لعدم نفعه وإن كان حاضرا كالغائب أو الكلام على تقدير مضاف أي أين نفعهم وجدواهم والتزم بعضهم القول بأنهم غيب لظاهر
(7/121)
لسؤال وقوله تعالى وما نرى معكم شفعاءكم الذين إلى قوله سبحانه وضل عنكم ما كنتم تزعمون وأجيب أن يكون ذلك في موطن آخر جميعا بين الآيات أو المعنى وما نرى شفاعة شفعائكم
وقال شيخ الاسلام : إن هذا السؤال المنبيء عن غيبة الشركاء مع عموم الحشر لها للآيات الدالة على ذلك انما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبري من الجانبين وتقطع ما بينهم من الاسباب حسبما يحكيه قوله سبحانه : فزيلنا بينهم الخ ونحوه اما لعدم حضورها حينئذ في الحقيقة بابعاد من ذلك الموقف وإا بتنزيل عدم حضورها بعنوان الشركة والفاعة منزلة عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث هي شركاء كما يعرب عنه الوصف بالموصول ولا ريب في أن عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاء غائبة لا محالة وإن كانت حاضرة من حيث دواتها أصناما كانت أولا
واما ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيروا مكان حزنهم وحسرتهم فربما يشعروا بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم عنها بعد وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ وإنما الذي يحصل في الحشر الانكشاف الجلي واليقين القوي المترتب على المحاضرة والمحاورة اه
وتعقبه مولانا الشهاب بأنه تخيل لا أصل له لأن التوبيخ مراد في الوجوه كلها ولا يتصور حينئذ التوبيخ إلا بعد تحقق خلافه مع أن كون هذا واقعا بعد التبري في موقف آخر ليس في النظم ما يدل عليه ومثله لا يجزم به من غير نقل لاحتمال أن يكون هذا موقف التبري والاشعار المذكور لا يتأتى مع أنه توبيخ وأما العلاوة التي زيل بها كلامه فواردة عليه أيضا مع أنها غير مسلمة لأن عذاب البرزخ لا يقتضي أن يشفع لهم بعد ذلك فكم من معذب في قبره يشفع له اه
وانت تعلم أن عذابهم إن كان بسبب اعتقادهم النفع فيهم ورجاء شفاعتهم أولئك المعذبون أن عذابهم لذلك فقوله : لأن عذاب البرزخ لايقتضي الخ ليس في محله وكذا قوله : فكم من معذب في قبره يشفع له ان أراد به فكم من معذب لمعصية من المعاصي في قبره يشفع له من يشفع فمسلم لكن لا يفيد وإن أراد فكم من معذب في قبره بسبب عبادة شيء يشفع له ذلك الشيء فمنعه ظاهر كما لا يخفى فتدبر وقرأ يعقوب يحشرهم ثم يقول بالياء فيهما والضمير فيهما لله تعالى وقوله سبحانه وتعالى للمشركين : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون
22
- إما بالواسطة أو بغير واسطة والتكليم المنفي في قوله تعالى : ولا يكلمهم الخ تكليم تشريف ونفع لا مطلقا فقد كلم ابليس عليه اللعنة بما كلم والزعم يستعمل في الحق كما في قوله صلى الله عليه و سلم زعم جبريل عليه السلام وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه زعم رسولك وقول سيبويه في أشياء يرتضيها : زعم الخليل ويستعمل في الباطل والكذب كما في هذه الآية
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب وكثيرا ما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله وهو هنا متعد لمفعولين وحذفا لانفهامهما من المقام أي تزعمون شركاء
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا أصل معنى الفتنة على ما حققه الراغب من الفتن وهو ادخال الذهب النار لتعلم جودته من رداءته ثم استعمل في معان كالعذاب والاختبار والبلية والمصيبة والكفر والاثم والضلال
(7/122)
والمعذرة واختلف في المراد هنا فقيل : الشرك واختار هزا القول الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكأن التعبير عن الشرك بالفتنة أنها ما تفتتن به ويعجبك وهم كاانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به والكلام حينئذ إما على حذف مضاف كما يقتضيه ظاهر كلام البعض وإا على جعل عاقبة الشيء عينه ادعاء وهو أحلى مذاقا وأبعد مغزى والحصر اضافي بالنسبة إلى جنس الأقوال أو ادعائي
وقوله تعالى : والله ربنا ما كنا مشركين
32
- كناية عن التبري عن الشرك وانتفاء التدين به أي ثم لم يكن عاقبة شركهم شيئا إلا تبرئهم منه ونص الزجاج أن مثل ما في الآية أن ترى انسانا يحب غاويا فاذا وقع في مهلكة تبرأ منه فيقال له : ما كان محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وليس ذلك من قبيل عتابك السيف ولا من تقدير المضاف وإن صح ذلك فيه وهو معنى حسن لطيف لا يعرفهإلا من عرف كلام العرب وقيل : المراد بها العذر واستعملت فيه لأنها على ما تقدم التخليص من الغش والعذر يخلص من الذنب فاستعيرت له
وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وأبي عبد الله وقتادة ومحمد بن كعب رضي الله تعالى عنهم وقيل : الجواب بما هو كذب ووجه الاطلاق أنه سبب الفتنة فتجوز بها عنه اطلاقا للمسبب على السبب ويحتمل أن يكون هناك استعارة لأن الجواب مخلص لهم أيضا كالمعذرة قيل : والحصر على هذين القولين حقيقي والجملة القسمية على ظاهرها و تكن بالتاء الفوقانية و فتنتهم بالرفع قراءة ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ حمزة والكسائي يكن بالياء التحتانية و فتنتهم بالنصب وكذا قرأ ربنا بالنصب على النداء أوالمدح وقريء في الشواذ ربنا بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو توطئة لنفي اشراكهم وفائدته رفع توهم أن يكون نفي الاشراك بنفي الالهية عنه تقدس وتعالى وقرأ الباقون بالتاء من فوق ونصب فتنتهم أيضا وخرجوا قراءة الأولين على أن فتنتهم اسم تكن وتأنيث الفعل لاسناده الى مؤنث و أن قالوا خبره
وقرأ حمزة والكسائي على أن أنقالوا هو الاسم ولم يؤنث الفعل لاسناده إلى مذكر و فتنتهم هو الخبر
وقراءة الباقين على نحو هذا خلا ان التأنيث فيها بناء على مذهب الكوفيين فانهم يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان مصدرا مذكرا وكان الخبر مؤنثا مقدما كقوله :
وقد خاب من كانت سريرته العذر
ويستشهدون على ذلك بهذه القراءة وذهب البصريون إلى ان ذلك ضرورة وقيل : إن التأنيث على معنى المقالة وهو من قبيل جاءته كتابي أي رسالتي ولا يخفى أن هذا قليل في كلامهم وقال الزمخشري ونقل بعينه عن أبي على : إن ذلك من قبيل من كانت أمك ونوقش بما لا طائل فيه وزعم بعضهم أن القراءتين الاخيرتين أفصح من القراءة الأولى لأن فيها جعل الاعرف خبرا وغير الاعرف اسما لأن ان قالوا يشبه المضمر والمضمر أعرف المعارف وهو خلاف الشائع المعروف دونهما وفيه نظر إذ لا يلزم من مشابهة شيء لشيء في حكم مشابهته له في جميع الاحكام والجملة على سائر القراءات عطف على الفعل المقدر العامل في يوم نحشرهم الخ على ما مرت الاشارة اليه وجعلها غير واحد عطفا على الجملة قبلها و ثم اما على ظأهرها بناء على القول الأول واما للتراخي في الرتبة بناء على القولين الاخيرين لان معذرتهم أو جوبهم هذا أعظم من التوبيخ السابق
وأنت تعلم أنه لا ضرورة للعدومل عن الظاهر لجواز أن يكون هناك تراخ في الزمان بناء على أن الموقف عظيم فيمكن أن يقال : إنهم لما عاينوا هول ذلك اليوم وتجلي الملك الجبار جل جلاله عليهم بصفة الجلال كما ينبيء
(7/123)
عنه الجملة السابقة حاروا ودهشوا فلم يستطيعوا الجواب الا بعد زمان ومما ينبيء على دهشتهم وحيرتهم أنهم كذبوا وحلفوا في كلامهم هذا ولو لم يكونوا حيارى مدهوشين لما قالوا الذي قالوا لأن الحقائق تنكشف يوم القيامة فاذا اطلع أهلها عليها وعلى أنها لا تخفى عليه سبحانه وأنه لا منفعة لهم في مثل ذلك استحال صدوره عنهم
وللغفلة عن بناء الأمر عن الدهشة والحيرة منع الجبائي والقاضي ومن وافقهما جواز الكذب على أهل القيامة مستدلين بما ذكرنا وأجابو عن الآية بأن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لآنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم موحدون متباعدون عن الشرك واعترضوا على أنفسهم بأنهم على هذا التقدير يكونون صادقين فيما اخبروا فلم قال سبحانه : أنظر كيف كذبوا أي في قولهم ما كنا مشركين وأجابوا بأنه ليس المراد انهم كذبوا في الآخرة بل المراد أنظر كيف كذبوا على أنفسهم في الدنيا ورد بأن الآية لا تدل على هذا المعنى بوجه ولا تنطبق عليه لأنها في شان خسرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا بل تنبو عنه أشد نبو لأن اول النظم الكريم وآخره في ذلك فتخلل بيان حالهم في الدنيا تفكيك له وتعسف جدا ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أيضا قوله تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء إلا إنهم هم الكاذبون بعد قوله سبحانه : ويحلفون على الكذب وهم يعلمون حيث شبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا ويشير إلى هذا التشبيه أيضا الامر بالنظر كما لا يخفى على من نظر
وذكر ابن المنير أن في الآية دليلا بينا على أن الاخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره ألا تراه سبحانه جعل أخبارهم وتبرأهم كذبا مع أنه جل شأنه أخبر عنهم بقوله تعالى : وضل عنهم ما كانوا يفترون
42
- أي سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم وأنت تعلم أن تفسير هذه الجملة بما ذكر غير ظأهر والمروي عن الحسن أن ما موصولة والمراد بها الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقولون فيها : هؤلاء شفعاؤنا عند الله أو نحو ذلك وأيقاع الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها للمبالغة في امرها كأنها نفس المفترى أي لا زالت وذهبت عنهم أوثانهم التي يفترون فيها ما يفترون فلم تغن عنهم من الله شيئا وقيل : إن ما مصدرية أي ضل افترائهم كقوله سبحانه ضل سعيهم أي لم ينفعهم ذلك والجملة قيل : مستأنفة وقيل : واختاره شيخ الاسلام انها عطف على كذبوا داخل معه في حكم التعجب إذ الاستفهام السابق المعلق لا نظر لذلك وجعل المعنى على احتمال الموصول والمصدرية انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة المغلظة على أنفسهم بانكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الاشارك حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية وتبرؤا بالمرة
ومنهم من يستمع اليك كلام مسوق لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيان ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريرا لما قبله وتحقيقا لمضمونه وضمير منهم للذين اشركوا والاستماع بمعنى الاصغاء وهو لازم يعدى باللام وإلى ما صرح به أهل اللغة وقيل : إنه مضمن معنى الاصغاء ومفعوله مقدر وهو القرآن قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية ابي صالح : إن أبا سفيان بن حرب والوليد ابن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبيا بن خلف استموعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
(7/124)
وهووهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد فقال : والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فأنزل الله تعالى هذه الآية
وأفرد ضمير من في يستمع وجمعه في قوله سبحانه وجعلنا على قلوبهم أكنة نظرا إلى لفظه ومعناه وعن الكرخي إنما قيل : هنا يستمع وفي يونس يستمعون لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد وما هناك في جمع الكفار فناسب الجمع وإنما لم يجمع ثم في قوله سبحانه : ومنهم من ينظر إليك لأن المراد المستتبع لمعاينة أدلة الصدق وأعلام النبوة والناظرون كذلك أقل من المسمتعين للقرآن والجعل بمعنى الانشاء والآكنة جمع كنان كغطاء وأغظية لفظا ومعنى لأن فعالا بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة كأحمرة وأقذلة وفي الكثرة على فعل كحمر إلا أن يكون مضاعفا أو معتل اللام فيلزم جمعه على أفعلة كأكنة وأخبية إلا نادرا وفعل الكن ثلاثي ومزيد يقال : كنة وأكنة كما قال الطبرسي وغيره وفرق بينهما الراغب فقال : أكننت يستعمل لما يسترقى النفس والثلاثي لغيره والتنوين للتفخيم والوا للعطف والجملة معطوفة على الجملة قبلها عطف الفعلية على الاسمية وقيل : الواو للحال أي وقد جعلنا و على قلوبهم متعلق بالفعل قبله
وزعم أبو حيان أنه إن كان بمعنى القى فالظرف متعلق به وإن كان بمعنى صير فمتعلق بمحذوف إذ هو في موضع المفعول الثاني والمعنى على ما ذكرنا وأنشأنا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرها أن يفقهوه أي كراهة أن يفهموا ما يستمعونه من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع فالكلام على تقدير مضاف ومنهم من قدر لا دونه أي أن لا يفقهوه وكذلك يفعلون في أمثاله وجوز أن يكون مفعولا به لما دل عليه قوله تعالى : وجعلنا على قلوبهم أكنة أي منعناهم أن يفقهوه أو ملا دل عليه أكنة وحده من ذلك وفي آذانهم وقرا أي صمما وثقلا في السمع يمنع من استماعه على ما هو حقه والكلام عند غير واحد تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه و سلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم أصمها الله تعالى وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية أو مكنية أو مشاكلة وقد مر لك في البقرة ما ينفعك هنا فتذكره
وقرأ طلحة وقرا بالكسر وهو على ما نص عليه الزجاج حمل البغل ونحوه ونصبه على القراءتين بالعطف على أكنة كما قال ابو البقاء وإن يروا أي يشاهدوا ويبصروا كل ءاية أي معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه و سلم على ما نقل عن الزجاج وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانشقاق القمر ونبع الماء بين أصابعه الشريفة وتكثير القليل من الطعام وما أشبه ذلك لا يؤمنوا بها لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم والكلام من ابا عموم النفي ككل ذلك لم يكن لا من باب نفي العموم
والمراد ذمهم بعدم الانتفاع بحاسة البصر بعد أن ذكر سبحانه عدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم ونقل عن بعضهم أنه لابد من تخصيص الآية بغير الملجئة دفعا للمخالفة بين هذا وقوله تعالى : إن نشأ أن ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين واكتفى بعضهم بحمل الايمان على الايمان بالاختيار وفرق بينه وبين خضوع الاعناق فليفهم وخص شيخ الاسلام اةية بما كان من الآيات القرآنية أي وإن يروا
(7/125)
شيئا من ذلك بأن يشاهدوه بسماعه لا يؤمنوا به ولعل ما قدمناه أحلى لدى الذوق السليم
حتى إذا جاءوك يجادلونك أي يخاصمونك وينازعونك و حتى هي التي تقع بعدها الجمل ويقال لها : حتى الابتدائية ولا محل للجملة الواقعة بعدها خلافا للزجاج وابن درستويه زعما أنها في محل جر بحتى ويرده أن حروف الجر لا تعلق عن العمل إنما تدخل على المفرد أو ما في تأويله والجملة هنا هي قوله تعالى : إذا جاءوك مع جواب الشرط أعني قوله سبحانه وتعالى : يقول الذين كفروا وما بينهما حال من فاعل جاؤا وإنما وضع الموصول موضع الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعار بعلة الحكم و إذا منصوبة المحل على الظرفية بالشرط أو الجواب على الخلاف الشهير في ذلك واعترض بأن جعل يجادلونك في موضع الحال و يقول الذين جوابا مفض إلى جعل الكلام لغوا لأن المجادلة نفس هذا القول الا أن تؤول المجادلة بقصدها
ولا يخفى ما فيه فان المجادلة مطلق المنازعة وسميت بذلك لما فيها من الشدة أو لأن كل واحد من المتجادلين يريد أن يلقي صاحبة على الجدالة أي الأرض والقول المذكور فرد منها فالكلام مفيد أبلغ فائدة كقولك إذا أهانك زيد شتمك وذكر بعض النحويين أن حتى إذا وقع بعدها إذا يحتمل أن تكون بمعنى الفاء وأن تكون بمعنى إلى والغاية معتبرة في الوجهين أي بلغوا من التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاؤك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد عدم الايمان بل يقولون ان هذا أي ما هذا إلا أساطير الأولين
52
- أي أحاديثهم المسطورة التي لا يعول عليها وقال قتادة : كذبهم وباطلهم
وحاصل ما ذكر أن تكذيبهم بلغ النهاية بما ذكر لأن الفرد الكامل ونظير ذلك مات الناس حتى الأنبياء وجوز أن تكون حتى هي الجارة وإذ جاءو : في موضع الجر وهو قول الأخفش وتبعه ابن مالك في التسهيل ورده ابو حيان في شرحه وعليه فاذا خارجة عن الظرفية كما صرحوا به وعن الشرطية أيضا فلا جواب لها فيقول حينئذ : تفسير ليجادلونك وهو في موضع الحال أيضا والأساطير عند الأخفش جمع لا مفرد له كأبابيل ومذاكير وقال بعضهم : له مفرد وفي القاموس إنه جمع أسطار وأسطير بكسرهما واسطورة وبالهاء في الكل وقيل : جمع اسطار بفتح الهمزة جمع سطر بتحتين كسبب اسباب فهو جمع جمع وأصل السطر بمعنى الخط وهم ينهون عنه الضمير المرفوع للمشركين والمجرور للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعده حديث خرافة بل ينهون الناس عن استماعه لئلا يقفوا على حقيته فيؤمنوا به وينأون عنه أي يتباعدون عنه بأنفسهم اظهارا لغاية نفورهم عنه وتأكيدا لنهيهم فان اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي ولعل ذلك كما قال شيخ الاسلام هو السر في تأخير النأي عن النهي وهذا هو التفسير الذي أخرجه ابن ابي شيبة وابن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن مجاهد رحمة الله تعالى عليه وقيل : الضمير المجرور للرسول صلى الله عليه و سلم على معنى ينهون الناس عن الايمان به عليه الصلاة و السلام ويتباعدون عنه وهو التفسير الذي أخرجه أبناء جرير والمنذر وأبي حاتم ومردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه أيضا ابن جرير من طريق العوفي وروي ذلك عن محمد بن الحنفية والسدي والضحاك وقيل : الضمير المرفوع لأبي طالب واتباعه أو أضرابه والمجرور
(7/126)
للنبي صلى الله عليه و سلم على معنى ينهون عن أذيته عليه الصلاة و السلام ولا يؤمنون به
أخرج ابن ابي حاتم عن سعيد بن هلال أنه قال : ان الآية نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه و سلم وكانوا عشرة وكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه عليه الصلاة و السلام في السر وقيل ضمير الجمع لأبي طالب وحده وجمع استعظاما لفعله حتى كأنه مما لا يستقل به واحد وقيل : إنه نزل منزلة أفعال متعددة فيكون كقوله : قفا عند المازني ولا يخفى بعده وروى هذا القول جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا
وروي عن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عند ابي طالب يدعوه للاسلام فاجتمعت قريش اليه يديدون سوءا بالنبي صلى الله عليه و سلم فقال منشدا : والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر وقر بذاك منك عيونا ودعوتني وزعمت انك ناصح ولقد صدقت وكنت ثم امينا وعرضت دينا لا محالة انه من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا فنزلت هذه الآية وفيها على هذا القول والذي قبله التفات ورد الامام القول الأخير بان جميع الآيات المتقدمة في ذم فعل المشركين فلا يناسبه ذكر النهي عن أذيته عليه الصلاة و السلام وهو غير مذموم ونظر فيه بأن الذم بالمجموع من حيث هو مجموع وبهذه الآية على هذه الرواية استدل بعض من ادعى أن أبا طالب لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه و سلم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا المطلب في موضعه
والنأي لازم يتعدى بعن كما في الآية ونقل عن الواحدي أنه سمع تعديته بنفسه عن المبرد وأنشد : أعاذل إن يصبح صدى بقفرة بعيدة نآني زائري وقريبي وخرجه البعض على الحذف والايصال ولا يخفى ما في ينهون وينأون من التجنيس البديع وقريء وينون عنه وإن يهلكون أي وما يهلكون بذلك إلا أنفسهم بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والأضلال وقوله تعالى : وما يشعرون
62
- حال من ضمير يهلكون أي يقصرون الاهلاك على أنفسهم والحال أنهم غير شاعرين لا باهلاكهك أنفسهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يضروا بذلك شيئا من القرآن أو النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وإنما عبر عنه بالاهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلق الضرر للايذان بان ما يحيق بهم هو الهلاك لا الضرر المطلق على أن مقصدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذكروا بل كانوا يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو نظام عقد لآليء الآيات القرآنية
وجوز أن يكون الأهلاك معتبرا بالنسبة إلى الذين يضلونهم بالنهي فقصره على أنفسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبني على تنزيل عذاب الضلال عند عذاب الاضلال منزلة العدم ونفي الشعور على ما في البحر أبلغ من نفي العلم كأنه قيل : وما يدركون ذلك أصلا ولو ارى إذ وقفوا على النار شوروع في حكاية ما سيصدر
(7/127)
عنهم يوم القيامة من القول المتناقض لما صدر عنهم في الدنيا من القبائح المحكية مع كونه كاذبا في نفسه والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم أو لكل من له أهلية ذلك قصدا إلى بيان سوء حالهم وبلوغها من الشناعة إلى حيث لا يختص بها راء دون راء و لو شرطية على أصلها وجوابها محذوف لتذهب نفس السامع كل مذهب فيكون أدخل في التهويل ونظير ذلك قوله امريء القيس : وجدك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا وقولهم لو ذات سوار لطمتني و ترى بصرية وحذف مفعولها لدلالة ما في حيز الظرف عليه والايقاف اما من الوقوف المعروف أو من الوقوف بمعنى المعرفة كما يقال أو قفته على كذا إذا فهمته وعرفته واختاره الزجاج أي ولو ترى حالهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها أو يرفعوا على جسرها وهي تحتهم فينظرونها أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت ما لا يحيط به نطاق التعبير وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق
وقيل : إن لو بمعنى إن وجوزوا أن تكون ترى علمية وهو كما ترى وقريء وقفوا بالبناء للفاعل من وقف عليه اللازم ومصدره غالبا للوقوف ويستعمل وقف متعديا أيضا ومصدره الوقف وسمع فيه أوقف لغة قليلة
وقيل : إنه بطريق القياس فقالوا لعظم أمر ما تحققوه يا ليتنا نرد أي إلى الدنيا و يا للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا قومنا مثلا ولا نكذب بآيات ربنا أي القرآن كما كنا نكذب من قبل ونقول أساطير الأولين وفسر بعضهم الآيات بما يشمل ذلك والمعجزات وقال شيخ الاسلام : يحتمل أن يراد بها الآيات الناطقة بأحوال النار وأهالها اةمرة باتقائها بناء على أنها التي تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها ويحتمل ان يراد بها جميع الآيات المنتظمة لتلك الآيات انتظاما أوليا ونكون من المؤمنين
72
- بها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل كما لم ير المؤمنون ونصب الفعلين على ما قال الزمخشري وسبقه اليه كما قال الحلبي الزجاج باضمار أن على جواب التمني والمعنى ان رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين ورده ابو حيان بأن نصب الفعل بعد الواو ليس على الجوابية لأنها لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها او ما بعدها شرط جواب وإنما هي واو تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي عاطفة يتعين مع النصبأحد محاملها الثلاث وهي المعية ويميزها عن الفاء صحة حلول محلها أو الحال وشبهة من قال : إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتهم أنها جواب ويوضح لك أنها ليست به انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت أنجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط وأجيب بأن الواو أجريت هنا مجرى الفاء وجعلها ابن الانباري مبدلة منها ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود وابن اسحاق فلا نكذب واعترض أيضا ما ذكره الزمخشري من معنى الجزائية بأن ردهم لا يكون سببا لعدم تكذيبهم وأجيب بأن السببة يكفي فيها كونها في زعمهم ورد بأن مجرد الرد لا يصلح لذلك فلابد من العناية بأن يراد الرد الكائن بعد ما الجأهم إلى ذلك إذ قد انكشفت لهم حقائق الاشياء ولهذه الدغدغة اختار من اختار العطف على مصدر متوهم قبل كأنه قيل ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين وقرأ نافع وابن كثير والكسائي برفع الفعلين وخرج على أن ذلك ابتداء كلام منهم غير معطوف على ما قبله والوا كالزائدة كقول المذنب لمن يؤذيه على ما صدر منه دعني ولا أعود يريد لا أعود تركتني أو لم تتركني ومن ذلك على ما قاله الامام عبد القاهر قوله :
(7/128)
اليوم يومان مذ غيبت عن نظري نفسي فداؤك ما ذنبي فاعتذر وكأن المقتضى لنظمه في هذا السلك افادة المبالغة المناسبة لمقام المغازلة واختار بعضهم كونه ابتداء كلام بمعنى كونه مقطوعا عما في حيز التمني معطوفا عليه عطف اخبار على انشاء ومن النحاة من جوزه مطلقا ونقله ابو حيان عن سيبويه وجوز أن يكون داخلا في حكم التمني على أنه عطف على نرد أو حال من الضمير فيه فالمعنى كما قال الشهاب على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب أي التصديق الحاصل بعد الرد إلى الدنيا لأن الرد ليس مقصودا بالذات هنا وكونه متمنى ظاهر لعدم حصوله حال التمني وإن كان التمني منصبا على الايمان والتصديق فتمنيه لأن الحاصل الآن لا ينفعهم لأنهم ليسوا في دار تكليف فتمنوا إيمانا ينفعهم وهو إنما يكون بعد الرد المحال والمتوقف على المحال محال وقرأ ابن عامر برفع الأول ونب الثاني على ما علمت آنفا والجوابية اما بالنظر إلى المجموع أو بالنظر إلى الثاني وعدم التكذيب بالآيات مغاير للايمان والتصديق فلا اتحاد
وقريء شاذا بعكس هذه القراءة بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل اضراب عما يؤذن به تمنيهم من الوعد بتصديق الآيات والايمان بها أي ليس ذلك عن عزم صحيح ناشيء عن رغبة في الايمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه بدا وظهر لهم في وقوفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من ثالثة الأثافي والداهية الدهياء فلشدة هول ذلك ومزيد ضجرهم منه قالوا ما قالوا فالمراد من الموصول النار على ما يقتضيه السوق ومن اخفائها ستر أمرها وذلك بانكار تحققها وعدم الايمان بثبوتها أصلا فكأنه قيل : بل بدالهم ما كانوا يكذبون به في الدنيا وينكرون تحققه
وإنما لم يصرح سبحانه بالتكذيب كما في قوله عز شأنه : هذه جهنم الذي يكذب بها المجرمون وقوله عز من قائل : هذه النار التي كنتم بها تكذبون مع أن ذلك أنسب بما قبل من قولهم : لانكذب بآيات ربنا مراعات لما في مقابله من البدو في الجملة مع مافي ذلك من الرمز الخفي إلى أن تكذيبهم هذا لم يكن في محله رأسا لقوة الدليل وقيل : المراد بما كانوا يخفونه قبائحهم من غير الشرك التي كانوا يكتمونها عن الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم وقيل : المراد به الشرك الذي أنكروه في بعض مواقف القيامة بقولهم : والله ربنا ما كنا مشركين وقيل : المراد به أمر البعث والنشور والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من أمر البعث والنشور ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج
وقيل : الآية في المنافقين والضمير المرفوع لهم والمجرور للمؤمنين والمراد بالموصول الكفر أي بل ظهر للمؤمنين ما كان المنافقون يخفونه من الكفر ويكتمونه عنهم في الدنيا وقيل : هي في أهل الكتاب مطلقا أو علمائهم والذي أخفوه نبوة خاتم الرسل صلى الله تعالى عليه وسلم والضمير أن المرفوع والمجرور لهم وللمؤمنين أو للخواص والعوام وتعقب كل ذلك بأنه بعد الاغضاء عما فيه من الاعتساف لا سبيل اليه هنا لأن سوق النظم الجليل لتهويل أمر النار وتفظيع حال أهلها وقد ذكر وقوفهم عليها وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف ورتب عليهم تمنيهم المذكور بالفاء القاضبة بسببية ما قبلها لما بعدها فاسقاط النار بعد ذلك من السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجر الزواجر إلى مادونها في ذلك مع عدم جريان ذكره ثمة أمر ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن امثاله ونقل عن المبرد أن الكلام
(7/129)
على حذف مضاف أي بدالهم وبال ما كانوا يخفون ولا يخفى ما فيه أيضا فتدبر
ولو ردوا من موقفهم ذلك إلى الدنيا لعادوا لما نهو عنه من الكفر والتكذيب أو من الأعم من ذلك ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ولا يخفى حسنه ووجه اللزوم في هذه الشرطية سبق قضاء الله تعالى عليهم بذلك التابع لخبث طينتهم ونجاسة جبلتهم وسوء استعدادهم ولهذا لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوه وقيل : إن المراد أنهم لو ردوا إلى حالهم الأولى من عدم العلم والمشاهدة لعادوا ولا يخفى أنه لا يناسب مقام ذمهم بغلوهم في الكفر والاصرار وكون هذا جوابا لما مر من تمنيهم وذكر بعض الناس في توجيه عدم نفع المشاهدة في الآخرة لأهوالها المترتبة على المعاصي بعد الرد إلى الدنيا انها حينئذ كخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المؤيد بالمعجزات الباهرة فحيث لم ينتفعوا به وصدهم ما صدهم لا ينتفعون بما هو مثله ويصدهم أيضا ما يصدهم
وأنت تعلم أن هذا بعد تسليم كون المشاهدة بعد الرد كخبر الصادق يرجع في الآخرة إلى ما أشرنا اليه من سبق القضاء وسوء الاستعداد ومن خلق للشقاء والعياذ بالله سبحانه وتعالى للشقاء يكون وإنهم لكاذبون
82
- أي لقوم كاذبون فيما تضمنه تمنيهم من الخبر بأن ذلك مراد لهم ويحتمل أن يكون هذا ابتداء أخبار منه تعالى بأن ديدن هؤلاء وهجيراهم الكذب وليس الكذب على الاحتمالين متوجها الى التمني نفسه لأنه انشاء والانشاء لا يحتمل الصدق والكذب وقال الربعي : لا بأس بتوجيه الكذب إلى التمني لأنه يحتمل الصدق والكذب بنفسه واحتج على ذلك بقوله : منى أن تكن حقا أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا لأن الحق بمعنى الصدق وهو ضد الباطل والكذب ولا يخفي ما فيه مع أنه لو سلم فهو مجاز أيضا وقيل الخبر الضمني هنا هو الوعد بالايمان وعدم التكذيب واعترض بان الوعد كالوعيد من قبيل الانشاء كما حقق في موضعه فلا يتوجه اليه الكذب والصدق كما لا يتوجهان الي الانشاء وأجيب بأن ذلك أحد قولين في المسئلة ثانيهما ان الوعد والوعيد من قبيل الخبر لا الانشاء وها القيل مبني عليه على أنه يحتمل أن المراد بالكذب المتوجه الى الوعد عدم الوفاء به لا عدم مطابقته للواقع كما ذ : ره الراغب وقالوا عطف على عادوا كما عليه الجمهور واعترضه ابن الكمال بأن حق وانهم لكاذبون حينئذ يؤخر عن المعطوف أو يقدم على المعطوف عليه وأجيب بأن توسيطه لأنه اعتراض مسوق لتقرير ما أفادته الشرطية من كذبهم المخصوص ولو أخر لأوهم أن المراد تكذيبهم في انكارهم البعث وجوز أن يكون عطفا على إنهم لكاذبون أو على خبر إن أو على نهوا والعائد محذوف أي قالوه وأن يكون استئنافا بذكر ما قالوا في الدنيا إن هي أي ما هي إلا حياتنا الدنيا والضمير للحياة المذكورة بعده كما في قول المتنبي : هو الجد حتى تفضل العين أختها وحتى يكون اليوم لليوم سيدا وقد نصوا على صحة عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في مواضع منها ما إذا كان خبر الضمير مفسرا له كما هنا وجعله بعضهم ضمير الشان ولا يتأتى على مذهب الجمهور لأنهم اشترطوا في خبره أن
(7/130)
يكون جملة وخالفهم بذلك الكوفيون فقد حكي عنهم جواز كون خبره مفردا إما مطلقا أو بشرط كون المفرد عاملا عمل الفعل كاسم الفاعل نحو إنه قائم زيد بناء على أنه حينئذ سد مسد الجملة وقيل وفيه بعد : يحتمل أن يكون الضمير المذ : ور عبارة عما في الذهن وهو الحياة والمعنى أن الحياة إلا حياتنا التي نحن فيها وهو الراد بقولهم : الدنيا لا القريبة الزوال أو الدنيئة أو المتقدمة على الآخرة كما يقول المؤمنون إذ كل ذلك خلاف الظأهر لاسيما الأخير
وما نحن بمبعوثين
92
- أي إذا فارقتنا هذ الحياة أصلا ولو ترى إذ وقفوا على ربهم تمثيل لحبسهم للسؤال والتوبيخ أو كناية عنه عند من لم يشترط فيها إمكان الحقيقة وجوز اعتبار التجوز في المفرد إلا أن الأرجح عندهم اعتباره في الجملة وقيل : الوقوف بمعنى الاطلاع المتعدي بعلى أيضا وفي الكلام مضاف مقدر أي وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه ولا حاجة إلى التضمين وجعله من القلب كما توهم وقيل : هو بمعنى الاطلاع من غير حاجة إلى تقدير مضاف على معنى عرفوه سبحانه وتعالى حق التعريف ولا يلزم من حق التعريف حق المعرفة ليقال كيف هذا وقد قيل : ما عرفناك حق معرفتك واستدل بعض الظاهرية بالآية على أن أهل القيامة يقفون بالقرب من الله تعالى في موقف الحساب ولا يخفى ما فيه
قال استئناف نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : فماذا قال لهم ربهم سبحانه وتعالى إذ ذاك فقيل : قال : الخ وجوز ان يكون في موضع الحال أي قائلا أليس هذا أي البعث وما يتبعه بالحق أي حقا لا باطلا كما زعمتم وقيل : الاشارة إلى العقاب وحده وليس بشيء ولا دلالة في فذوقوا عند ارباب الذؤق على ذلك والهمزة للتقريع على التكذيب قالوا استئناف كما سبق بلى هو حق وربنا أكدوا اعترافهم باليمين اظهارا لكمال تيقنهم بحقيته وايذانا بصدور ذلك عنهم برغبة ونشاط طمعا بأن ينفعهم وهيهات قال فذوقوا العذاب الذي كفرتم به من قبل وأنكرتموه بما كنتم تكفرون
3
- أي بسبب كفركم المستمر أو ببدله أو بمقابلته أو بالذي كنتم تكفرون به فما إما مصدرية أو موصولة والاول أولى ولعل هذا التوبيخ والتقريع كما قيل إنما يقع بعدما وقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذ الأظهر أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب ويحتمل العكس وأمر الأمر سهل قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله هم الكفار الذين حكيت أحوالهم لكن وضع الموصول موضع الضمير للايذان بتسبب خسرانهم عما في حيز الصلة من التكذيب بلقاء الله تعالى والاستمرار عليه والمراد به لقاء ما وعد سبحانه وتعالى على ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم وصرح بعضهم بتقدير المضاف أي لقاء جزاء بالله تعالى وصرح آخرون بأن لقاء الله تعالى استعارة تمثيلية عن البعث وما يتبعه حتى إذا جاءتهم الساعة أي الوقت المخصوص وهو يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان وغلبت على الوقت المعلوم كالنجم للثريا وسمي ساعة لقلته بالنسبة لما بعده من الخلود أو بسرعة الحساب فيه على الباري عز اسمه وفسرها بعضهم هنا بوقت الموت والغاية المذكورة للتكذيب
وجوز أن تكون غاية الخسران لكن بالمعنى المتعارف والكلام حينئذ على حد قوله تعالى : وان عليك
(7/131)
لعنتيلعنتي إلى يوم الدين أي إنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى ذلك اليوم فاذا جاء اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه فكأنه قيل : خسر المكذبون إلى يوم قيام الساعة بانواع المحن والبلاء فإذا قامت الساعة يقعون فيما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران المبين بغتة أي فجأو وبغتة بالتحريك مثلها وبغتة كمنعة فجأة أي هجم عليه من غير شعور وانتصابها على أنها مصدر واقع موقع الحال من فاعل جاءتهم أي مباغتة او من مفعوله أي مبغوتين وجوز أن تكون منصوبة على أنها مفعول مطلق لجاءتهم على حد رجع القهقري أو لفعل مقدر من اللفظ أو من غيره وقوله سبحانه وتعالى : قالوا جواب إذا يا حسرتنا نداء للحسرة وهي شدة الندم كأنه قيل : يا حسرتنا تعالى فهذا أوانك قيل : وهذا التحسر وإن كان يعتريهم عند الموت لكن لما كان الموت من مقدمات الآخرة جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ولذا قال صلى الله عليه و سلم من مات فقد قامت قيامته أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة وقال ابو البقاء : التقدير يا حسرة احضري هذا أو انك وهو نداء مجازي ومعناه تنبيه أنفسهم لتذكير أسباب الحسرة لأن الحسرة نفسها لا تطلب ولا يتأتى إقبالها وإنما المعنى على المبالغة في ذلك حتى كأنهم ذهلوا فنادوها ومثل ذلك نداء الويل ونحوه ولا يخفى حسنه
على ما فرطنا أي على تفريطنا فما مصدرية فالتفريط التقصير فيما قدر على فعله وقال ابو عبيدة معناه التضييع وقال ابن بحر : معناه السبق ومنه الفارط للسابق ومعنى فرط خلا السبق لغيره فالتضعيف فيه للسلب كجلدت البعير أرلت جلده وسلبته فيها أي الحياة الدنيا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو في الساعة كما روي عن الحسن والمراد من التفريط في الساعة التقصير في مراعاة حقها والاستعداد لها بالايمان والاعمال الصالحة وقيل : الضمير للجنة أي على ما فرطنا في طلبها ونسب إلى السدي ولا يخفى بعده وقول الطبرسي ويدل عليه ما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في هذه الآية : يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون يا حسرتنا الخ لا يخلوا من نظر لقيام الاحتمال بعد وهو يبطل الاستدلال وعن محمد بن جرير أن الهاء يعود إلى الصفة لدلالة الخسران عليها وهو بعيد أيضا ومثل ذلك ما قيل : إن ما موصولة بمعنى التي والمراد بها الاعمال والضمير عائد اليها كأنه قيل يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي قصرنا فيها نعم مرجع الضمير على هذا مذكور في كلامهم دونه على الأقوال السابقة فانه غير مذكور فيه بل ولا في كلامه تعالى في قص حال هؤلاء القائلين على القول الأول عند بعض فتدبر وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم في موضع الحال من فاعل قالوا وهي حال مقارنة أو مقدرة والوزر في الأصل الثقل ويقال الذنب وهو المراد هنا أي يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذكر الظهور لأن المعتاد ألاغلب الحمل عليها كما في كسبت أيديكم فان الكسب في الأكثر بالايدي وفي ذلك أيضا إشارة إلى مزيد ثقل المحمول وجعل الذنوب والآثام محمولة على الظر من باب الاستعارة التمثيلية والمراد بيان سوء حالهم وشدة ما يجدونه من المشقة والآلام والعقوبات العظيمة بسبب الذنوب وقيل : حملها على الظهر حقيقة وإنها تجسم فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب
(7/132)
دنسة حتى يدخل معه قبره فإذا رآه قال ما أقبح وجهك قال كذلك كان عملك قبيحا قال : ما أنتن ريحك قال : كذلك كان عملك منتنا قال : ما أدنس ثيابك فيقول : إن عملك كان دنسا قال : من أنت قال : أنا عملك فيكون معه في قبره فاذا بعث يوم القيامة قال له إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات فانت اليوم تحملني فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار وأخرجا عن عمرو بن قيس قال : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول له : هل تعرفني فيقول لا إلا أن الله تعالى قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم وتلا يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا وان كان الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا فيقول : هل تعرفني فيقول : لا إلا أن الله تعالى قد قبح صورتك ونتن ريحك فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيء طالما ركبتني في الدنيا فانا اليوم أركبك وتلا وهم يحملون الآية
وبعضهم يجعل كل ما ورد في هذا الباب مما ذكر تمثيلا أيضا ولا مانع من الحمل على الحقيقة واجراء الكلام على ظاهره وقد قال كثير من أهل السنة بتجسيم الاعمال في تلك الدار وهو الذي يقتضيه ظاهر الوزن
ألا ساء ما يزرون
13
- تذييل مقرر لما قبله وتكملة له و ساء تحتمل كما قيل هنا ثلاثة أوجه أحدها أن تكون المتعدية المتصرفة وزنها فعل بفتح العين والمعنى ألا ساء ما يزرون وما موصولة أو مصدرية أو نكرة وموصوفة فاعل لها والكلام خبر وثانيهما أنها حولت إلى فعل اللازم بضم العين واشربت معنى التعجب والمعنى ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم وثالثها أنها حولت أيضا للمبالغة في الذم فتساوي بئس في المعنى والاحكام
وما الحياة الدنيا الا لعب ولهو لما حقق سبحانه وتعالى فيما سبق أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يلقون فيها من الخطوب ما يلقون بين جل شأنه حال تينك الحياتين في انفسهما وجعله بعضهم جوابا لقولهم : أن هي الا حياتنا الدنيا وفيه بعد وكيفما كان فالمراد وما أعمال الحياة الدنيا المختصة بها الا كاللعب واللهو في عدم النفع والثبات وبهذا التقدير خرج كما قال غير واحد ما فيها من الأعمال الصالحة كالعباد وما كان لضرورة المعاش والكلام من التشبيه البليغ ولو لم يقدر مضاف وجعلت الدنيا نفسها لعبا ولهوا مبالغة كما في قوله :
وإنما هي اقبال وادبار
صح واللهو واللعب على ما في درة التنزيل م يشتركان في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى وطرب سواء كان حراما اولا وفرق بينهما بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى وطرب وإن لم يقصد به ذلك وإذا أطلق اللهو فهو على ما قيل اجتلاب المسرة بالنساء كما في وقله : الا زعمت بسياسة اليوم انني كبرت وان لا يحسن اللهو امثالي وقال قتادة : اللهو في لغة اليمن المرأة وقيل : اللعب طلب المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به واللهو صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به وقيل : إن كل شغل أقبل عليه لزم الاعراض عن كل ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فاذا أقبل على الباطل لزم الاعراض عن الحق فالاقبال على الباطل لعب والاعراض عن الحق لهو وقيل : العاقل المشتغل بشيء لا بدله من ترجيحه وتقديمه على غيره فان قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن تركه ونسيه به فهو له وقد بين صاحب الدرة بعد أن سرد هذه الأقوال سر
(7/133)
تقديم اللعب على اللهو حيث جمعا كما هنا وتأخيره عنه كما في العنكبوت بأنه لما كان هذا الكلام مسوقا للرد على الكفرة فيما يزعمونه من إنكار الآخرة والحصر السابق وليس في اعتقادهم لجهلهم إلأ ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية قدم اللعب الدال على ذلك وتمم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها كان وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له قدم ما قدم أو لما أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وافعالهم قدم ما يدل على ذلك أو لما كان التقديم مقدما على الترك والنسيان قدم اللعب على اللهو رعية الترتيب الخارجي وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها بالنسبة اليها ولذا ذكر اسم الاشارة المشعر بالتحقير وعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى : إن الدار الآخرة لهي الحيوان والاشتغال باللهو مما يقصر به الزمان وهو أدخل من اللعب فيه وايام السرور فصاروا كما قال : وليلة أحدى الليالي الزهر لم تك غير شفق وفجر وينزل على هدا الوجوه في الفرق وتفصيله في الدرة قاله مولانا شهاب الدين فليفهم وللدار الآخرة التي هي محل الحياة الأخرى خير للذين يتقون الكفر والمعاصي لخلوص منافعها عن المضار والآلام وسلامة لذاتها عن الأنصرام أفلا تعقولن
23
- ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان والفاء للعطف على محذوف أي أتغفلون أو ألا تتفكرون فلا تعقلون وكان الظاهر أن يقال كما قال الطيبي وما الدار الآخرة إلا جد وحق لمكان وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو إلا أنه وضع خير للذين يتقون موضع ذلك اقامة للمسبب مقام السبب وقال في الكشف : إن في ذلك دليلا على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو لأنه لما جعل الدار الآخرة في مقابلة الحياة الدنيا وحكم على الاعمال المقابل بانها لعب ولهو علم تقابل العملين حسب تقابل ما أضيفا اليه أعني الدنيا وأةخرة فاذا خص الخيرية بالمتقين لزم منه أن ما عدا أعمالهم ليس من أعمال الآخرة في شيء فهو لعب ولهو لا يعقب منفعة
وقرأ ابن عامر ولدار الآخرة بالاضافة وهي من اضافة الصفة إلى الموصوف وقد جوزها الكوفيون ومن لم يجوز ذلك تأوله بتقدير ولدار النشأة الآخرة أو اجراء الصفة مجرى الأسم وقرأ ابن كثير وغيره يعقلون بالياء والضمير للكفار القائلين إن هي إلا حياتنا الدنيا وقيل : للمتقين والاستفهام للتنبيه والحث على التأمل
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الحزن الذي يعتريه عليه الصلاة و السلام مما حكي عن الكفرة من الاصرار على التكذيب والمبالغة وكلمة قد للتكثير وهو كما قال الحلبي رادا به اعتراض أبي حيان راجع إلى متعلقات العلم لا العلم نفسه إذ صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها المستلزم لحدوث من قامت به سبحانه وتعالى وقال السفاقسي : قد تصح الكثرة باعتبار المعلومات وما في حيز العلم هنا كثير بناء على أن العفل المذكور دال على الاستمرار التجددي وأنشدوا على افادتها ذلك بقول الهذلي : قد أترك القرن مصفرا أنامله كأن أثوابه مجت بفرصاد وادعى أبو حيان أن افادتها للتكثير قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم وكلام سيبويه حيث قال : وتكون قد بمنزلة ربما ليس نصا في ذلك وما استشهدوا به على دعواهم إنما فهم التكثير فيه من سياق الكلام
(7/134)
ومنه البيت فان التكثير إنما فهم فيه لأن الفخر إنما يحصل بكثرة وقوع المفتخر به وذكر بعض المحققين أن الحق ما قاله ابن مالك أن اطلاق سيبويه أنها بمنزلة ربما يوجب التسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي والبيت دليل عليه فان الفخر يقع بترك الشجاع قرنه وقد صبغت أثوابه بدمائه في بعض الأحيان
وقول أبي حيان ان الفخر إنما يحصل بكثرة الخ غير مسلم على إطلاقه بل هو فيما يكثر وقوعه وأما ما يندر فيفتخر بوقوعه نادرا لأن قرن الشجاع لو غلبه كثير لم يكن قرنا له لأن القرن بكسر القاف وسكون الراء المقاوم المساوي
وفي القاموس القرن كفؤك في الشجاعة أو أعم فلفظه يقتضي بحسب دقيق النظر أنه لا يغلبه إلا قليلا وإلا لم يكن قرنا ويتناقض أول الكلام وآخره وادعى الطيبي أن لفظ قد للتقليل وقد يراد به في بعض المواضع ضده وهو من باب استعارة أحد الضدين للآخر والنكتة هنا تصبير رسول الله صلى الله عليه و سلم من أذى قومه وتكذيبهم يعني من حقك وأنت سيد أولى العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا يعلم الله تعالى من اظهارك الشكوى إلا قليلا وأن يكون تهكما بالمكذبين وتوبيخا لهم
ونص بعضهم على أن قد هنا للتقليل على معنى أن ما هم فيه أقل معلوماته تعالى وضمير إنه للشأن وهو اسم إن وخبرها الجملة المفسرة له والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقوله وهو ما حكي عنهم من قولهم إن هذا إلا أساطير الأولين أو هو وما يعمه وغيره من هذيانهم وجملة انه الخ سادة مسد مفعولي يعلم
وقرأ نافع ليحزنك من أحزن المنقول من حزن اللازم وقوله سبحانه : فانهم لا يكذبونك تعليل لما يشعر به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا بطريق التسلي بما يفيده من بلوغه صلى الله تعالى عليه وسلم في جلالة القدر ورفعة الشأن غاية ليس وراءها غاية حيث نفى تكذيبهم قاتلهم الله تعالى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله سبحانه وتعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ايذانا بكمال القرب واضمحلال شؤونه صلى الله تعالى عليه وسلم في شأن الله عز و جل وفيه أيضا استعظام لجنايتهم منبيء عن عظم عقوبتهم كأنه قيل : لا تعتد به وكله إلى الله تعالى فانهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في احقيقة ولكن الظألمين بآيات الله يجحدون
33
- أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه وقيل : إن كان المراد من الظلم مطلقة فالوضع للاشارة إلى أن ذلك دأبهم وديدنهم وانه علة الجحود لأن التعليق بالمشتق يفيد علية المأخذ وان أريد به الظلم المخصوص فهو عين الجحد وواقع به نحو ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فيكون المبتدأ مشيرا إلى وجه بناء الخبر كقوله : ان الذي سمك السماء بنا لنا بيتا دعائمه اعز وأطول وقيل : ان أل في الظألمين إن كانت موصولة واسم الفاعل بمعنى الحدوث أفاد الكلام سببية الجحد للظلم وان كانت حرف تعريف واسم الفاعل بمعنى الثبوت أفاد سببية الظلم للجحد لا يخفى ما فيه والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظاما لما قدموا عليه وايراد الجحود في مورد التكذيب للايذان بان آياته سبحانه من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد وأن من ينكرها فانما ينكرها بطريق الجحود وهو كالجحد نفي ما في القلب ثباته أو اثبات ما في القلب نفيه والباء متعلق بيجحدون والجحد يتعدى بنفسه والباء فيقال جحده حقه وبحقه وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الجوهري والراغب وقيل انه إنما يتعدى بنفسه والباء
(7/135)
ههنا لتضمينه معنى التكذيب وأيا ما كان فتقديم الجار و المجرور مراعاة لرؤوس الآي أو للقصر ونقل الطبرسي عن أبي على أن الجار متعلق بالظالمين وفيه خفاء وما ذكر من أن الفاء لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين وقيل انها تعليل لقوله سبحانه قد نعلم الخ بناء على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر : نعلم ما تفعل فكأنه قيل : لا تحزن مما يقولون فان التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي ويحتمل أن يكون المعنى إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فانت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم واعظم ولا يخفى أن هذا خلاف المتبادر وقيل معنى اةية فانهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بالسنتهم وروي ذلك عن قتادة وغيره ويؤيده ما رواه السدي أنه التقى الأخنس ابن شريق وابو جهل فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلى الله عليه و سلم أصادق هو أم كاذب فانه ليس ههنا أحد يسمع كلامك غيري فقال أبو جهل والله إن محمدا صلى الله عليه و سلم لصادق وما كذب محمد عليه الصلاة و السلام قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فأنزل الله تعالى هذه الآية وكذا ما أخرجه الواحدي عند مقاتل قال كان الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب يكذب النبي صلى الله عليه و سلم في العلانية فاذا خلا مع أهل بيته قال ما محمد صلى الله عليه و سلم من أهل الكذب ولا أحسبه الا صادقا فانزل الله تعالى الآية وقيل : المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي ونسب هذا إلى الكسائي وأيد بما أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن ابا جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه و سلم ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت وكذا أخرج الواحدي عن أبي ميسرة واعترض الرضى هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوه صلى الله عليه و سلم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة و السلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره ويكون الذي أتى به فاسدا بل إن كان صادقا فالذي أتي به صحيح وإن كان الذي أتى به فاسدا فلابد أن يكون كاذبا فيه وقال مولانا سنان إن حاصل المعنى انهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك وحاشاك نوع خلل فخيل اليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق وقال الطيبي : مرادهم إنك لا تكذب لانك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضى فتدبر وقيل : معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره وقيل : المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية وعلى هذا لا يكون ذكر الظالمين من وضع المظهر موضع المضمر وقيل : غير ذلك ولا يخفى ما الأليق بجزالة التنزيل
وقرأ نافع والكسائي والاعمش عن أبي بكر لايكذبونك من الأكذاب وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه ورويت أيضا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه فقال الجمهور كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل وقيل : معنى أكذوبته وجدته كاذبا كاحمدته بمعنى وجدته محمودا ونقل أحمد بن يحيى عن الكسائي أن العرب تقول كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب اليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه وقوله تعالى : ولقد كذبت رسل من قبلك تسلية اثر تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم فان عموم البلوى ربمايهونها بعض تهوين
(7/136)
وفيه ارشاد له عليه الصلاة و السلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على الأدى وعدة ضمنية بمثل ما منحوه من النصر وتصدير الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوين رسل للتفخيم والتكثير ومن متعلقة بتكذيب وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع صفة لرسل ورده ابو البقاء بأن الجنة لا توصف بالزمان وفيه منع ظاهر والمعنى تالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أولو شأن خطير وعدد كثير أو كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك فصبروا على ما كذبوا ما مصدرية وقوله : وأوذوا عطف على كذبوا داخل في حكمه ومصدر كذب التكذيب وآذى أذى وأذاة وأذية كما في القاموس وإيذاء كما أثبته الراغب وغيره وقول صاحب القاموس : ولا تقل إيذاء خطا والذي غره ترك الجوهري وغيره له وهو وسائر أهل اللغة لا يذكرون المصادر القياسية لعدم الاحتياج إلى ذكرها والمصدران هنا من المبني للمفعول وهو ظاهر أي فصبروا على تكذيب قومهم لهم وايذائهم إياهم فتأس بهم واصبر على ما نلك من قومك والمراد بايذائهم اما عين تكذيبهم أو ما يقارنه من فنون الايذاء واختاره الطبرسي ولم يصرح به ثقة باستلزام التكذيب إياه غالبا وفيه تأكيد التسلية وجوز العطف على كذبت أو على صبروا وجوز أبو البقاء أن يكون هذا استئنافا ثم رجح الأول
وقوله سبحانه : حتى أتاهم نصرنا غاية للصبر وفيه إيماء إلى وعد النصر للصابرين وجوز أن يكون غاية للايذاء وهو مبني على احتمال الاستئناف والالتفات إلى نون العظة للاشارة إلى الاعتناء بشأن النصر
ولا مبدل لكلمات الله تقرير لمضمون ما قبله من اتيان نصره سبحانه إياهم والمراد بكلماته تعالى كما قال الكلبي وقتادة الآيات التي وعد فيها نصر انبيائه عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلى الله عليه و سلم أيضا كقوله تعالى كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقوله عز شأنه : انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون
وجوز أن يراد بها جميع كلماته سبحانه التي من جملتها الآيات المتضمنة للمواعيد الكريمة ويدخل فيها المواعيد الواردة في حقه صلى الله عليه و سلم دخولا أوليا والالتفات إلى الأسم الجليل كما قيل للاشعار بعلة الحكم فان الالوهية من موجبات أن لا يغالبه سبحانه أحد في فعل من الافعال ولا يقع منه جل شأنه خلف في قول من الاقوال وظاهر الآية أن احدا غيره تعالى لا يستطيع أن يبدل كلمات الله عز و جل بمعنى ان يفعل خلاف ما دلت عليه ويحول بين الله عز اسمه وبين تحقيق ذلك وأما انه تعالى لا يبدل فلا تدل عليه الآية والذي دلت عليه النصوص أنه سبحانه ربما يبدل الوعيد ولا يبدل الوعد ولقد جاءك من نباءي المرسلين
43
- تقرير أي تقرير لما منحوا من النصر وتأكيد لما أشعر به الكلام من الوعد لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو تقرير لجميع ما ذكر من تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام وايذائهم ونصرهم والنبأ كالقصص لفظا ومعنى
وفي القاموس النبأ محركة الخبر جمعه أنباء وقيده بعضهم وقد مرت الاشارة اليه بماله شأن وهو عند الأخفش المجوز زيادة من في الاثبات وقبل المعرفة مخالفا في ذلك لسيبويه فاعل جاء وصحح أن الفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي النبا أو البيان والجار متعلق بمحذوف وقع حالا منه وقيل واليه يشير كلام الرماني إنه محذوف والجار والمجرور صفته أي ولقد جاءك نبأ كائن من نبأ المرسلين وفيه أن الفاعل لا يجوز
(7/137)
حذفه هنا وقال ابو حيان : الذي يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من التكذيب وما يتبعه
وقيل وربما يشعر به كلام الكشاف : إن من هي الفاعل والمراد بعد أنبائهم وإن كان كبر أي شق وعظم وأتي بكان على ما قيل ليقى الشرط على المضي ولا ينقلب مستقبلا لأن كان لقوة دلالته على المضي لا تقبله إن للاستقبال بخلاف سائر الافعال وهو مذهب المبرد والنحويون يؤولن ذلك بنحو وإن تبين وظهر أنه كبر عليك إعراضهم أي الكفار عن الايمان بك وبما جئت به من القرآن المجيد حسبما يفصح عنه قولهم فيه أساطير الأولين وينبيء عنه فعلهم من النأي والنهي ولعل التعبير بالاعراض دون التكذيب مع أن التسلية على ما ينبيء عنه قوله تعالى : ولقد كذبت رسل من قبلك كانت عنه لتهويل أمر التكذيب وهو فاعل كبر وتقديم الجار والمجرور لما مر مرارا والجملة خبر كان مفسرة لاسمها الذي هو ضمير الشأن ولا حاجةإلى تقدير قد وقيل : اسم كان إعراضهم و كبر مع فاعله المستتر الراجع إلى الأسم خبر لها مقدم على اسمها والكلام استئناف مسوق لتأكيد ايجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أن ذلك أمر لا محيد عنه أصلا
وفي بعض الآثار أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم في محضر من قريش فقالوا : يا محمد ائتنا بآية من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل وانا نصدقك فابى الله تعالى أن يأتيهم بآية مما اقترحوا فاعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فشق ذلك عليه عليه الصلاة و السلام لما أنه كان صلى الله عليه و سلم شديد الحرص على ايمان قومه فكان إذا سألوه آية يود أن ينزلها الله تعالى طمعا في إيمانهم فنزلت فان استطعت أي ان قدرت وتهيأ لك أن تبتغي أي تطلب نفقا في الأرض هو السرب فيها له مخلص إلى مكان كما في القاموس وأصل معناه جحر اليربوع ومنه النافقاء لأحد منافذه ويقال لها النفقة كهمزة وهي التي يكتمها ويظهر غيرها فاذا أتي من القاصعاء ضربها برأسه فانتفق ومنه أخذ النفاق والجار متعلق بمحذوف وقع صفة نفقاوالكلام على التجريد في رأي وجوز تعلقه بتبتغي وبمحذوف وقع حالا من ضميره المستتر أي نفقا كائنا في الأرض أو تبتغي في ألأرض أو تبتغي أنت حال كونك في الأرض أو سلما في السماء أي مرقاة فيها أخذا من السلامة قال الزجاج لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك وهو كما قال الفراء مذكر واستشهدوا لتذكيره بقوله تعالى أم لهم سلم يستمعون فيه ثم قال : وأنشدت في تأنيثه بيتا أنسيته انتهى
قال الغضايري البيت الذي أنسيه الفراء بيت أوس وهو : لنا سلم في المجد لا يرتقونها وليس لهم في سورة المجد سلم وأنشدوا أيضا في تذكيره الشعر صعب وطويل سلمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه يريد أن يعربه فيعجمه وفي السماء نظير ما في الجار قبله من الاحتمالات فتأتيهم أي منها بآية مما اقترحوه من الآيات والفاء في صدر هذه الشرطية وجواب الشرط فيها محذوف ولك تقديره أتيت بصيغة الخبر
(7/138)
أو فاعل فعل أمر والجملة جواب الشرط الأول والمعنى إن شق عليك إعراضهم عن الايمان وأحببت أن تجيبهم عما سألوه اقتراحا ليؤمنوا فان استطعت كذا فتأتيهم بآية فافعل وفيه إشارة إلى مزيد حرصه صلى الله عليه و سلم على ايمان قومه وتحصيل مطلوبهم واقتراحهم مع الايماء إلى توبيخ القوم أو المعنى ان شق عليك اعراضهم فلو قدرت أن تأتي بالمحال أتيت به والمقصود بيان أنه صلى الله عليه و سلم بلغ في الحرص على إيمانهم إلى هذه الغاية وفيه اشعار ببعد اسلامهم عن دائرة الوجود كما لا يخفى على المتدبر وإيثار الابتغاء على الاتخاذ ونحوه للايذان بأن ما ذكر من النفق والسلم مما لا يستطيع ابتغاءه فكيف باتخاذه
وجوز أن يكون ابتغاء ذينك الأمرين أعني نفس النفوذ في الأرض والصعود إلى السماء آية فالفاء في فتأتيهم حينئذ تفسيرية وتنوين آية للتفخيم والمعنى عليه فان استطعت ابتغاءهما فتجعل ذلك آية لهم فعلت
ورده أبو حيان بان هذا لايظهر من ظاهر اللفظ إذ لو كان كذلك لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية أي آية وأيضا فأي أية في دخول سرب في الأرض وان صح أن يكون الرقي إلى السماء آية وما ذكرناه من أن إيتاء الآية منهما هو الظأهر المتبادر إلى الأذهان ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : ان المراد فتأتيهم بآية من السماء وابتغاء النفق للهرب وأيد بما أخرجه الطستي عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخبرني عن قوله تعالى : فان استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض فقال رضي الله تعالى عنه سربا في الأرض فتذهب هربا وفيه بعد وخبر الأزرق قي قيل فيه ما قيل ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أي لوشاء الله تعالى جمعهم على ما أنتم عليه من الهدى لجمعهم عليه بأن يوفقهم للايمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ ذلك سبحانه لسوء اختيارهم حسبما علمه الله تعالى منهم في أزل الآزل وقال المعتزلة : المراد لو شاء سبحانه جمعهم على الهدى لفعل بأن يأتيهم بآية ملجئة اليه لكنه جل شأنه لم يفعل ذلك لخروجه عن الحكمة والحق ما عليه أهل السنة فلا تكونن من الجاهلين
53
- أي إذا عرفت أنه سبحانه لم يشأ هدايتهم وايمانهم فلا تكن بالحرص الشديد على اسلامهم أو الميل إلى نزول مقترحاتهم من قوم ينسبون إلى الجهل بدقائق شؤونه تعالى وجوز أن يراد بالجاهلين على ما نقل عن المعتزلة المقترحون ويراد بالنهي منعه صلى الله تعالى عليه وسلم من المساعدة على اقتراحهم ايرادهم بعنوان الجهل دون الكفر لتحقق مناط النهي
وقال الجبائي : المراد لا تجزع في موطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين بان تسلك سبيلهم والأول أولى وفي خطابه سبحانه لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا الخطاب دون خطابه بما خوطب به نوح عليه السلام من قوله سبحانه له : إني أعظك أن تكون من الجاهلين إشارة إلى مزيد شفقته صلى الله عليه و سلم واشتباب حرصه عليه الصلاة و السلام فافهم هذا
ومن باب الأشارة في الآيات وله ما سكن في الليل والنهار يحتمل أن يكون الليل والنهار اشارة الى قلب الكافر وقلب المؤمن وما سكن فيهما الكفر والايمان ومعنى كون ذلك له سبحانه أنه من آثار جلاله وجماله ويحتمل أن يكون إشارة الى قلب العارف في حالتي القبض والبسط فكأنه قيل : وله ما سكن في قلوب العارفين المنقبضة والمنبسطة من آثار التجليات فلا تلتفت في الحالتين إلى سواه عز شأنه
(7/139)
وهو السميع العليم فيسمع خواطرها السيئة والحسنة ويعلم شرها وخيرها أو فيسمع أنينها في شوقه ويعلم انسهابه أو نحو ذلك
قل أغير الله أتخذ وليا أي ناصرا ومعينا فاطر السموات والأرض أي مبدعها فهي ملكه سبحانه ونسبة المملوك إلى المالك نسبة اللاشيء إلى الشيء وهو يطعم ولا يطعم فهو الغنى المطلق وغيره جل شأنه محتاج بحت وطلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم نفسه لربه عز شأنه والمراد بالأمر بذلك الأمر الكوني أي قل إني قيل لي : كن أول من أسلم فكنت وذلك قبل ظهور هذه التعيينات واليه الاشارة بما شاع من قوله صلى الله عليه و سلم كنت نبيا وآدم بين الماء والطين فاول روح ركضت في ميدان الخضوع والانقياد والمحبة روح بينا صلى الله عليه و سلم قد أسلم نفسه لمولاه بلا واسطة وكل إخوانه الانبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أسلموا نفوسهم بواسطته عليه الصلاة و السلام فهو صلى الله عليه و سلم المرسل الى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في عالم الأرواح وكلهم أمته وهم نوابه في عالم الشهادة ولا ينافي ذلك أمره عليه الصلاة و السلام باتباع بعضهم في النشأة الجسمانية لأن ذلك لمحص استجلاب المعتقدين باولئك البعض على أحسن وجه ولا تكونن من المشركين أي وقيل لي : لا تكونن ممن أشرك مع الله تعالى أحدا بشيء من الأشياء
وهو القاهر فوق عباده بافنائهم والتصرف بهم كيف شاء وهو الحكيم أي الذي يفعل ما يفعل في عباده بالحكمة الخبير الذي يطلع على خفايا الأحوال ومراتب الاستحقاق قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم باظهار المعجزات وأعظم من ذلك عند العارفين ظهور أنوار الله تعالى في مرآة وجهه الشريف صلى الله عليه و سلم الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وذلك بالصفات التي وجدوها في كتابهم لا بالنور المتلأليء على صفحات ذلك الوجه الكريم ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا باثبات وجود غيره تعالى أو كذب بآياته فاظهر صفات نفسه إنه لا يفلح الظألمون لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله تعالى وصفاته جل وعلا ويوم نحشرهم جميعا وهو يوم القيامة الكبرى وعين الجمع ثم نقول للذين أشركوا باثبات الغير أين شركاؤكم الذين تزعمون أنهم شركاء ولهم وجود ثم لم تكن فتنتهم أي نهاية شركهم عند ظهور الأمر وبروز الكل لله الواحد القهار إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين لامتناع وجود شيء نشركه أنظر كيف كذبوا على أنفسهمبنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها وضل أي ضاع عنهم ما كانوا يفترون فلم يجدوه ومنهم من يستمع اليك من حيث أنت وجعلنا على قلوبهم أكنة حسبما اقتضاه استعدادهم أن يفقهوه وهي ظلمات النفس الأمارة وفي آذانهم وقر وهو وقر الضلالة وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها لأن على ابصارهم غشاوة العجب والجهل ولو ترى إذ وقفوا على النار وهي نار الحرمان فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا من تجليات صفاته ونكون من المؤمنين أي الموحدين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل في أنفسهم من الملكات الرديئة والهيئات المظلمة والصفات المهلكة ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه لرسوخ ذلك فيهم وإنهم لكاذبون في الدنيا والآخرة لأن الكذب عن ملكة فيهم ولو ترى إذ وقفوا على ربهم الآية قال بعض أهل التأويل هذا التصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإن كانوا في عين الجمع المطلق والوقوف على الشيء غير الوقوف معه فان الأول لا يكون إلا كرها والثاني يكون طوعا ورغبة فالواقف مع الله سبحانه بالتوحيد لا يوقف للحساب وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
(7/140)
يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء ويثاب هذا بأنواع النعيم في الجنان كلها ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب تعالى وعذب بانواع العذاب لأن الشرك ظلم عظيم ومن وقف مع الناسوت بمحبة الشهوات وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة وقرن بشياطين الأهواء المردية ومن وقف مع الافعال وقف على الجيروت وعذب بنار الطمع والرجاء ورد إلى مقام الملكوت ومن وقف مع الصفات وقف على الذوات وعذب بنار الشوق والهجران وليس هذا هو الوقوف على الرب لأن فيه حجاب الآنية وفي الوقوف على الذات معرفة الرب الموصوف بصفات اللطف والمشرك وقوف أولا على الرب فيحجب بالرد والطرد إخسئوا فيها ولا تكلمون ثم على الجبروت فيطرد بالسخط واللعن ولا يكلمهم ولا ينظر اليهم يوم القيامة ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن قيل ادخلوا أبواب جهنم ثم على النار يسجرون فيعذب بأنواع النيران أبدا فيكون وقفه على النار متأخرا على وقفه على الرب تعالى معلولا له قال تعالى : ثم الينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون وأما الواقف مع الناسوت فيوقف للحساب على الملكوت ثم على النار وقد ينجوا لعدم السخط وقد لا ينجوا لوجوده والواقف مع الافعال لا يوقف على النار أصلا بل يحاسب ويدخل الجنة واما الواقف مع الصفات فهو من الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه أنتهى فتأمل فيه قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة وهي القيامة الصغرى أعني الموت حكي عن بعض الكبار أنه قيل له : إن فلان مات فجأة فقال : لا عجب إذ من لم يت فجأة مرض فجأة فمات قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها أي في حق تلك الساعة بترك العمل النافع وهم يحلون أوزارهم على ظهورهم تصوير لحالهم وما الحياة الدنيا أي الحياة الحسية فان المحسوس أدنى وأقرب من المعقول إلا لعب ولهو لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء وللدار الآخرة أي عالم الروحانيات خير للذين يتقون وهم المتجردون عن ملابي الصفات البشرية واللذات البدنية قد نعلم إنه ليحزنك لمقتضى البشرية الذين يقولون ما يقولون فانهم لا يكذبونك في الحقيقة ولكن الظالمين بآيات الله التي تجلى بها يجحدون فهو سبحانه ينتقم منهم ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا فتأس بهم وانتظر الغاية ولا مبدل لكلمات الله التي يتجلى بها لعباده فليطمئن قلبك ولا تكونن من الجاهلين الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات فتتأسف على احتجاب من احتجب وتكذيب من كذب والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل إنما يستجيب الذين يسمعون تقرير لما يفهمه الكلام السابق من أنهم لايؤمنون والاستجابة بمعنى الاجابة وكثيرا ما أجرى استفعل مجرى أفعل كاستخلص بمعنى أخلص واستوقد بمعنى أوقد إلى غير ذلك ومنه قول الغنوي : وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب ويدل على ذلك أنه قال مجيب ولم يقل : مستجيب ومنهم من فرق بين استجاب وأجاب بأن استجاب يدل على قبول والمراد بالسماع الفرد الكامل وهو سماع الفهم والتدبر بجعل ما عداه كلاسماع أي إنما يجيب دعوتك إلى الايمان الذين يسمعون ما يلقى اليهم سماع فهم وتدبر دون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى والموتى أي الكفار كما قال الحسن
(7/141)
ورواهورواه غير واحد يبعثهم الله من قبورهم إلى المحشر وقيل : بعثهم هدايتهم إلى الايمان وليس بشيء ثم إليه يرجعون
63
- للجزاء فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى سماعهم لما أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وفي إطلاق الموتى على الكفار استعارة تبعية مبنية على تشبيه كفرهم وجهلهم بالموت كما قيل : لا يعجبن الجهول بزيه فذاك ميت ثيابه كفن وقيل الموتى على حقيقته والكلام تمثيل لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيق اولئك الكفار للايمان باختصاصه سبحانه بالقدرة على بعث الموتى الذين رمت عظامهم من القبور وفيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه و سلم لا يقدر على هدايتهم لأنها كبعث الموتى وتعقب بأنه على هذا ليس لقوله سبحانه ثم إليه يرجعون كبير دخل في التمثيل إلا أن يراد أنه إشارة إلى ما يترتب على الايمان من الآثار وفي اعراب الموتى وجهان أحدهما أنه مرفوع على الابتداء والثاني أنه منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده واختاره ابو البقاء ويفهم من كلام مجاهد أنه مرفوع بالعطف على الموصول والجملة بعده في موضع الحال والظاهر خلافه وقريء يرجعون على البناء للفاعل من رجع رجوعا والمتواترة أو في بحق المقام لأنبائها عن كون مرجعهم اليه تعالى بطريق الاضطرار
وقالوا أي رؤساء قريش الذين بلغ بهم الجهل والضلال إلى حيث لم يقنعوا بما شاهدوه من الآيات التي تخر لها صم الجبال ولم يعتدوا به لولا أي هلا نزل أي أنزل عليه ءاية من ربه ملجئة للايمان قل يا محمد إن الله قادر على أن ينزل ءاية من الآيات الملجئة ولكن أكثرهم لا يعلمون
73
- فلا يدرون أن عدم تنزيلها مع ظهور قدرته سبحانه وتعالى عليه لما أن في تنزيلها قلعا لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختا \ يار أو استئصالا لهم بالكلية إذ ذلك من لوازم جحد الآية الملجئة
وجوز أن لا يكونوا قد طلبوا الملجيء ولا يلزم من عدم الاعتداد بالمشاهد طلبه بل يجوز أن يكونوا قد طلبوا غير الحاصل مما لا يلجيء لجاجا وعنادا ويكون الجواب بالملجيء حينئذ اسلوب الحكيم أو يكون جوابا بما يستلزم مطلوبهم بطريق أقوى وهو أبلغ ومن الابتداء الغاية والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا بنزل وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لآية وما يفيد التعرض لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة و السلام من الاشعار بالعلية إنما هو بطريق التعريض بالتهكم من جهتهم والاقتصار في الجواب على بيان قدرته سبحانه وتعالى على التنزيل مع أنها ليست في حيز الانكار للايذان بأن عدم تنريله تعالى للآية مع قدرته عليه بحكمة بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبيء عنه الاستدراك وإظهار الأسم الجليل لتربية المهابة مع الاشعار بالعلية ومفعول يعلمون إما مطروح بالكلية على معنى أنهم ليسوا من أهل العلم أو محذوف مدلول عليه بقرينة المقام أي لا يعلمون شيئا وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضهم واقفون على حقيقة الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعنادا وقرأ ابن كثير ينزل بالتخفيف والمعنى هنا كما قيل واحد لأنه لم ينظر إلى التدريج وعدمه
وقوله تعالى : وما من دابة في الأرض كلام مستأنف مسوق كما قال الطبرسي وغيره لبيان كمال قدرته
(7/142)
عزD وحسن تدبيره وحكمته وشمول علمه سبحانه وتعالى فهو كالدليل على أنه تعالى قادر على الانزال وإنما لا ينزل محافظة على الحكم الباهرة وقيل : إنه دليل على أنه سبحانه وتعالى قادر على البعث والحشر والأول أنسب وزيدت من تنصيصا على الاستغراق والدابة ما يدب على الأرض من الحيوان وأصله من دب يدب دبيبا إذا مشي مشيا فيه تقارب خطو والجار والمجرور متعلق بمحذوف او مجرور أو مرفوع وقع صفة لدابة ووصفت بذلك لزيادة التعميم كأنه قيل : وما من فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من اقطار الأرض وجهها أو جوفها وكذا الوصف في قوله سبحانه ولا طائر يطير بجناحيه لزيادة التعميم أيضا أي ولا فرد من أفراد الطير يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه وقيل : إنه لقطع مجاز السرعة فقد استعمل الطيران في ذلك كقوله : قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا وكذأ استعمل الطائر في العمل والنصيب مجازا كما في قوله تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه
واحتمال التجوز مع ذلك يجعله ترشيحا للمجاز بعيد لا يلتفت اليه بدون قرينة واختار بعض المتأخرين أن وجه الوصف تصوير تلك الهيئة الغريبة الدالة على كمال القوة والقدرة واورد على الوجهين السابقين أنه لو قيل : ولا طائر في السماء لكان أخصر وفي إفادة ذينك الأمرين أظهر مع ما فيه من رعاية المناسبة بين القرينتين بذكر وجه العلو في احداهما وجهة السفل في الأخرى ورد كما قال الشهاب بأنه لو قيل : في السماء يطير بجناحيه لم يشمل أكثر الطيور لعدم استقرارها في السماء ثم أن قصد التصوير لا ينافي قطع المجاز إذ لا مانع من ارادتهما جميعا كما لا يخفى ثم لما كان المقصود من ذكر هذين الأمرين الدلالة على كمال قدرته جل وعلا ببيان مايعرفونه ويشاهدونه من هذين الجنسين وشمول قدرته وعلمه سبحانه لهما كان غيرهما غير مقصود بالبيان فالاعتراض بأن أمثال حيتان البحر خارجة عنهما والجواب بانها داخلة في القسم الأول لأن الأرض فيه بمعنى جهة السفل مما لا يلتفت اليه وقرأ ابن ابي عبلة ولا طائر بالرفع عطف على محل الجار والمجرور كأنه قيل : وما دابة ولا طائر إلا أمم أي طوائف متخالفة أمثالكم في أن أحوالها محفوظة وأمورها معنية ومصالحها مرعية جارية على سنن السداد منتظمة في سلك التقديرات الألهية والتدبيرات الربانية وجمع الأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم كما اختاره غير واحد وهو يقتضي جواز أن يقال : لا رجل قائمون والقياس كما قيل لا يأباه إلا أنه لم يرد الا مع الفصل وصرح السيد السند بأن النكرة ههنا محمولة على المجموع من حيث هو مجموع ولعل مراده أن النكرة المذكورة من حيث الاخبار عنها محمولة على المجموع لا أنه مراد منها فلا يرد أن الحكم بقوله سبحانه وتعالى : إلا أمم يأبى أن يكون التنكير فيما سبق على ما اشير اليه للفردية لأن الفرد ليس بجماعة وكذا يأبى أن يكون للنوعية أيضا لأن الفرد ليس بجماعات وهو ظاهر وأما ما قيل : إن النوع يشتمل على أصناف وكل صنف أمة أو الأمة كل جماعة في زمان فيدفعه توصيف أمم بأمثالكم إذ الخطاب بكم لافراد نوع الانسان فالمناسب تشبيه النوع بالنوع في كونهما محفوظي الاحوال لا تشبيه الصنف بالنوع أو تشبيه جماعة في وقت بالنوع نعم قال السكاكي في المفتاح : إن ذكر في الأرض مع دابة و يطير بجناحيه مع طائر لبيان أن القصد من لفظ دابة ولفظ طائر إنما هو إلى الجنسين وإلى تقرير هما وعليه لا اشكال في صحة الحمل لاشتمال كل من الجنسين
(7/143)
على أنواع كثيرة كل منها امة كالانسان فكأنه قيل : ما من جنس من هذين الجنسين إلا أمم الخ وهذا كما يقال : ما من رجل من هذين الرجلين إلا كذا ومراده أن لفظ دابة وطائر حامل لمعنى الجنس والوحدة فلبيان أن القصد من كل منهما إلى الجنس من حيث هو دون الوحدة والكثرة ووصف بصفة لازمة للجنس من حيث هو أي بلا شرط شيء منهما والاستغراق المستفاد من كلمة من بالنظر إلى الجنسين وبهذا يندفع القول بوجوب تأويل كلام السكاكي وارجاعه إلى ما ذكره الزمخشري في هذا المقام وعليه لا يتصور كون الوصف مفيدا لزيادة التعميم والاحاطة لأن الجنس من حيث هو أي لا بشرط شيء مفهوم واحد كما لا يخفى
واعترض أيضا القول بالعموم بأنه كيف يصح مع وجوب خروج المشبه به عنه وأجيب بأن القصد أولا إلى العام والمشبه به في حكم المستثنى بقرينة التشبيه كأنه قيل : ما من واحد من أفراد هذين الجنسين بعمومهما سواكم إلا أمم أمثالكم ولك أن تدعي دخول كل فرد من افراد المخاطبين بالتزام أن له اعتبارين اعتبار أنه مشبه واعتبار أنه مشبه به فتأمل جميع ذلك ما فرطنا في الكتاب من شيء التفريط التقصير وأصله أن يتعدى بفي وقد ضمن هنا معنى أغفلنا وتركنا فمن شيء في موضع المفعول به ومن زائدة للاستغراق ويبعد جعلها تبعيضية أي ما فرطنا في الكتاب بعض شيء وإن جوزه بعضهم والمراد من الكتاب القرآن واختاره البلخي وجماعة فانه ذكر فيه جميع ما يحتاج اليه من أمر الدين والدنيا بل وغير ذلك إا مفصلا وإا مجملا فعن الشافعي عليه الرحمة ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله تعالى الهدى فيها
وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى فقالت له امرأة في ذلك : فقال : مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له : قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجذتيه أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قالت : بلى قال : فانه عليه الصلاة و السلام قد نهى عنه وقال الشافعي رحمه الله تعالى مرة بمكة سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له ما تقول في المحرم يقتل الزنبور : فأجاب بأنه يقتله واستدل عليه بنحو استدلال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال : أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله سبحانه وتعالى لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلى الله عليه و سلم خلا ما استأثر الله تعالى به وقد سمعت من بعضهم والعهدة عليه أن الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قدس الله تعالى سره وقع يوما عن حماره فرضت رجله فجاءوا ليحملوه فقال : أمهلوني فأمهلوه يسيرا ثم أذن لهم فحملوه فقيل له في ذلك فقال : راجعت كتاب الله تعالى فوجدت فيه خبر هذ الحادثة قد ذكرت في الفاتحة وهذا أمر لا تصله عقولنا ومثله استخراج بعضهم من الفاتحة أيضا اسماء سلاطين ءال عثمان واحوالهم ومدة
(7/144)
سلطنتهم إلى ما شاء الله تعالى من الزمان ولا بدع فهي أم الكتاب وتلد كل أمر عجيب وعلى هدا لا حاجة إلى القول بتخصيص الشيء بما يحتاج اليه من دلائل التوحيد والتكاليف وقال ابو البقاء : إن شيئا هنا واقع موقع المصدر أي تفريطا ولا يجوز أن يكون مفعولا به لأن فرطنا لا تتعدى بنفسها بل بحرف الجر وقد عديت بفي إلى الكتاب فلا تتعدى بحرف آخر وتبعه في ذلك غير واحد وجعلوا ما يفهم من القاموس من تعدي هذا الفعل بنفسه حيث قال : فرط الشيء وفرط فيه تفريطا ضيعه وقدم العجز فيه وقصر مما تفرد به في مقابلة من هو أطول باعا منه مع أنه يحتمل ان تعديته المذكورة فيه ليست وضيعة بل مجازية أو بطريق التضمين الذي أشير اليه سابقا وعلى هذا لايبقى كما قال ابو البقاء في الآية حجة لمن ظن ان الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء والكلام حينئذ نظير قوله تعالى : لا يضركم كيدهم شيئا أي ضيرا وأورد عليه أنه ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر كان منفيا على جهة العموم ويلزمه نفي أنواع المصدر وهو يستلزم نفي جميع أفراده وليس بشيء لأنه يريد أن المعنى حينئذ أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن وهو مما لا شبهة فيه ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر وأيا ما كان فالجملة اعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها فان من جملة الأشياء أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي وعن الحسن وقتادة أن المراد بالكتاب الكتاب الذي عند الله تعالى وهو مشتمل على كل ما كان ويكون وهو اللوح المحفوظ والمراد بالاعتراض حينئذ الاشارة الى أن أحوال الأمم مستقصاة هناك غير مقصورة على هذا القدر المجمل وعن أبي مسلم أن المراد منه الأجل أي ما من شيء إلا وقد جعلنا له أجلا هو بالغه ولا يخفى بعده
وقرأ علقمة ما فرطنا بالتخفيف وهو والمشدد بمعنى وقال ابو العباس : معنى فرطنا المخفف أخرنا كما قالوا فرط الله تعالى عنك المرض أي أزاله ثم إلى ربهم يحشرون
83
- الضمير للامم مطلقا وتكون صيغة الجمع للتغليب أي إلى مالك أمورهم لا إلى غيره يحشرون يوم القيامة فيجازيهم وينصف بعضهم من بعض حتى أنه سبحانه وتعالى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء كما جاء في حديث صحيح رواه الشيخان
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حشر الحيوانات موتها ومراده رضي الله تعالى عنه على ما قيل إن قوله سبحانه وتعالى إلى ربهم يحشرون محموعه مستعار على سبيل التمثيل للموت كما ورد في الحديث من مات فقد قامت قيامته فلا يرد عليه أن الحشر بعث من مكان آخر وتعديته بالى تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن في الموت أيضا نقلا من الدنيا إلى الآخرة نعم ما ذكره الجماعة أوفق بمقام تهويل الخطب وتفظيع الحال وهذا في رسالة المعاد لأبي علي قال المعترفون بالشريعة من أهل التناسخ : إن هذه الآية دليل عليه لأنه سبحانه قال وما من دابة الخ وفيه الحكم بأن الحيوانات الغير الناطقة أمثالنا وليسوا أمثالنا بالفعل فيتعين كونهم أمثالنا بالقوة لضرورة صدق هذا الحكم وعدم الواسطة بين الفعل والقوة وحينئذ لابد من القول بحلول النفس الانسانية في شيء من تلك الحيوانات وهو التناسخ المطلوب
(7/145)
ولا يخفى أنه دليل كاسد على مذهب فاسد ومن الناس من جعلها دليلا على أن للحيوانات بأسرها نفوسا ناطقة كما لأفراد الانسان وإليه ذهب الصوفية وبعض الحكماء الاسلاميين وأورد الشعراني في الجواهر والدرر لذلك أدلة غير ما ذكر منها أنه صلى الله عليه و سلم لما هاجر وتعرض كل من الانصار لزمام ناقته قال عليه الصلاة و السلام : دعوها فانها مأمورة ووجه الاستدلال بذلك أنه صلى الله عليه و سلم أخبر أن الناقة مأمورة ولا يعقل الأمر إلا من له نفس ناطقة وإذا ثبت أن للناقة نفسا كذلك ثبت للغير إذ لا قائل بالفرق ومنها ما يشاهد في النحل وصنعتها أقراص الشمع والعناكب واحتيالها لصيد الذباب والنمل وادخاره لقوته على وجه لا يفسد معه ما ادخره وأورد بعضهم دليلا لذلك أيضا النملة التي كلمت سليمان عليه الصلاة و السلام بما قص الله تعالى لنا عنها مما لايهتدي إلى مافيه إلا العالمون وخوف الشاة من ذئب لم تشاهد فعله قبل فان ذلك لا يكون إلا عن استدلال وهو شأن ذوي النفوس الناطقة وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه فان ذلك دليل على اعتقاد النفع ومعرفة الحسن وهو من شأن ذوي النفوس وأغرب من هذا دعوى الصوفية ونقله الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس الله تعالى سره أن الحيوانات مخاطبة مكلفة من عند الله تعالى من حيث لا يشعر المحجوبون ثم قال : ويؤيده قوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير حيث ذكر سبحانه وتعالى الأمة والنذير وهم من جملة الأمم
ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول : جميع ما في الأمم فينا حتى أن فيهم ابن عباس مثلي وذكر في الأجوبة المرضية أن فيهم أنبياء وفي الجواهر أنه يجوز أن يكون النذير من أنفسهم وأن يكون خارجا عنهم من جنسهم وحكى شيخه عن بعضهم أنه قال : إن تشبيه الله تعالى من ضل من عباده بالأنعام في قوله سبحانه وتعالى : إن هم كالأنعام ليس لنقص فيها وإنما هو لبيان كما مرتبتها في العلم بالله تعالى حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى فأعلى ما يصل إليه العلماء بربهم سبحانه وتعالى هو مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عنه أي عن أصله وان كانت منتقلة من شؤونه بتنقل الشؤون الألهية لأنها لا تثبيت على حال ولذلك كان من وصفهم الله عز و جل من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن ذلك لهم والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه وذلك لشدة علمها بالله تعالى أه
ونقل الشهاب عن ابن المنير أن من ذهب الى أن البهائم والهوام مكلفة لها رسل من جنسها فهو من الملاحدة الذين لا يعول عليهم كالجاحظ وغيره وعلى اكفار القائل بذلك نص كثير من الفقهاء والجزاء الذي يكون يوم القيامة للحيوانات عندهم ليس جزاء تكليف على أن بعضهم ذهب إلى أن الحيوانات لا تحشر يوم القيامة وأول الظواهر الدالة على ذلك وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أصل له
والمثلية في الأية لا تدل على شيء مما ذكر وأغرب الغريب عند أهل الظأهر الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم جعلوا كل شيء في الوجود حيا دراكا يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان وما يزيد الحيوان على الجماد إلا بالشهوة ويستندون في ذلك الى الشهود وربما يستدلون بقوله سبحانه وتعالى : وان من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وبنحو ذلك من اةيات وألاخبار
والذي ذهب اليه الأكثرون من العلماء أن التسبيح حالي لا قالي ونظير ذلك
شكى إلي جملي طول
(7/146)
السرى
و
امتلأ الحوض وقال قطني
وما يصدر من بعض الجمادات من تسبيح كتسبيح الحصى في كفه الشريف صلى الله عليه و سلم مثلا إنما هو عن خلق ادراك إذ ذاك وما يشاهد من الصنائع العجيبة لبعض الحيوانات ليس كما قال الشيخ الرئيس مما يصدر عن استنباط وقياس بل عن الهام وتسخير ولذلك لا تختلف ولا تتنوع والنقض بالحركة الفلكية لا يرد بناء على قواعدنا وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه ليس عن اعتقاد بل هناك هيئة أخرى نفسانية وهي أن كل حيوان يحب بالطبع ما يلذه والشخص الذي يطعمه محبوب عنده فمصير ذلك مانعا من افتراسه وربما يقع هذا العارض عن الهام الهي مثل حب كل حيوان ولده وعلى هذا الطرز يخرج الخوف مثلا الذي يعتري بعض الحيوانات
وقد أطالوا الكلام في هدا المقام وأنا لا أرى مانعا من القول بأن للحيوانات نفوسا ناطقة وهي متفاوتة الادراك حسب تفاوتها في أفراد الانسان وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في ادراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الانسان والشواهد على هذا كثيرة وليس في مقابلتها قطعي يجب تأويلها لأجله وقد صرح غير واحد إنها عارفة بربها جل شأنه وأما إن لها رسلا من جنسها فلا أقول به ولا أفتي بكفر من قال به وأما أن الجمادات حية مدركة فامر وراء طور عقلي والله تعالى على كل شيء قدير وهو العليم الخبير والذين كذبوا بآياتنا أي القرآن أو سائر الحجج ويدخل دخولا أوليا والموصول عبارة عن المعهودين في قوله عز و جل ومنهم من يستمع إليك الخ أو الأعم من أولئك والكلام متعلق بقوله سبحانه ما فرطنا الخ أو بقوله جل شأنه إنما يستجيب الذين يسمعون والواو للاستئناف وما بعدها مبتدأ خبره صم بكم وجوز أن يكون هذا خبر مبتدأ محذؤف أي بعضهم صم وبعضهم بكم والجملة خبر المبتدأ وألاول أولى وهو من التشبيه البليغ على القول الأصح في أمثاله أي أنهم كالصم وكالبكم فلا يسمعون اةيات سماعا تتأثر منه نفوسهم ولا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون ويقولون في الآيات ما يقولون وقوله سبحانه في الظلمات أي في ظلمات الكفر وانواعه أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل إا خبر بعد خبر للموصول على أنه واقع موقع عمى كما في قوله تعالى : صم بكم عمي ووجه ترك العطف فيه دون ما تقدمه الايماء إلى أنه وحده كاف في الذم والاعراض عن الحق وأختير العطف فيما تقدم للتلازم وقد يترك رعاية لنكتة أخرى وإا متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في الخبر كأنه قيل : ضالون خابطين أو كائنين في الظلمات ورجحت الحالية بأنها أبلغ إذ يفهم حينئذ أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر أو الجهل وأخويه حتى لو أخرجوا منها لسمعوا ونظقوا وعليها لا يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم في الظلمات وأن يكون صفة لبكم أو ظرفا له أو لصم أو لما ينوب عنهما من الفعل وعن أبي علي الجبائي أن المراد بالظلمات ظلمات الآخرة على الحقيقة أي أنهم كذلك يوم القيامة عقابا لهم على كفرهم في الدنيا والكلام عليه متعلق بقوله تعالى ثم إلى ربهم يحشرون على أن الضمير للامم على الاطلاق وفيه بعد وقوله سبحانه : من يشأ الله يضلله تحقيق للحق وتقرير لما سبق من حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الايمان أصلا فمن مبتدأ خبره ما بعده ومفعول بشا محذوف أي اضلاله ولا يجوز أن يكون من مفعولا مقدما له لفساد
(7/147)
المعنى والمراد من يرد سبحانه أن يخلق فيه الضلال عن الحق يخلقه فيه حسب اختياره الناشيء عن استعداده وجوز بعضهم أن يكون من في موضع نصب بفعل مقدر بعده يفسره ما بعده أي من يشق أو يعذب أو يشأ اضلاله من يشأ يجعله على صراط مستقيم
93
- عطف على ما تقدم والكلام فيه كالكلام فيه والآية دليل لأهل السنة على أن الكفر والايمان بارادته سبحانه وأن الارادة لا تتخلف عن المراد والزمخشري لما رأى تخرق عقيدته الفاسدة رام رفعها كما هو دابة فقال : معنى يضلله يخذله ولم يلطف به و يجعله الخ يلطف به وقال غيره : المراد من يشأ اضلاله يوم القيامة عن طريق الجنة يضلله ومن يشأ يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة وهو كما ترى
وكان الظأهر على ما قيل : أن يقال ومن يشأ يهده إلا أنه عدل عنه لأن هدايته تعالى وهي ارشاده إلى الهدى غير مختصة ببعض دون بعض ولهذا قيل في تفسير يجعله الخ أي يرشده إلى الهدى ويحمله عليه قل أرأيتكم أمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم بأن يبكتهم ويلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى انكاره والتاء على ما قاله أبو البقاء ضمير الفاعل وما بعده حرف خطاب جيء به للتأكيد ولي اسما لأنه لو كان كذلك لكان إا مجرورا ولا جار هنا أو مرفوعا وليس من ضمائر الرفع ولا مقتضى له أيضا أو منصوبا وهو باطل لثلاثة أوجه الاول أن هذا الفعل قلبي بمعنى علم يتعدى إلى مفعولين كقولك : أرأيت زيدا ما فعل فلو جعل المذكور مفعولا لكان ثالثا
والثاني أنه لو جعل مفعولا لكان هو الفاعل في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت : أرأيتك زيدا وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه والثالث أنه لو جعل كذلك لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء فكنت تقول : أرأيتما كما وأرأيتموكم وأرأيتكن وهذا مذهب البصريين والمفعولان في هذه الآية قيل : الأول منهما محذوف تقديره أرأيتكم إياه أو إياها أي العذاب أو لاساعة الواقعين في قوله سبحانه : إن أتاكم عذاب الله أي الدنيوي حسبما أتى من قبلكم أو أتتكم الساعة أي هولها كما يدل عليه ما بعد لأن الكلام من باب التنازع حيث تنازع رأي وأتي في معمول واحد هو عذاب الله والساعة فاعمل الثاني وأضمر في الأول والثاني منهما جملة الاستفهام وهي قوله تعالى أغير الله تدعون والرابط لها بالمفعول الأول محذوف أي أغير الله تدعون لكشف ذلك وقيل : لا تنازع والتقدير أرأيتكم عبادتكم للاصنام أو ألاصنام التي تعبدونها هل تنفعكم وقيل : إن الجملة الاستفهامية سادة مسد المفعولين
وذهب الرضى تبعا لغيره أن رأي هنا بصرية وقيل : قلبية بمعنى عرف وهي على القولين متعدية لواحد وأصل اللفظ الاستفهام عن العلم أو العرفان أو الابصار إلا أنه تجوز به عن معنى أخبرني ولا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء وفيه على ما قاله الكرماني وغيره تجوز أن اطلاق الرؤية وإرادة الاخبار لأن الرؤية بأي معنى كانت سبب له وجعل الاستفهام بمعنى ألأمر بجامع الطلب وقول بعضهم : إن الاستفهام للتعجيب لا ينافي كون ذلك بمعنى أخبرني لما قيل أنه بالنظر إلى أصل الكلام ونقل عن أبي حيان أن الأخفش قال : إن العرب أخرجت هذا اللفظ عن معناه بالكلية فقالوا : أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة الثانية إذا كان بمعنى أخبرت وإذا كان بمعنى أبصرت لم تحذف همزته وألزمته أيضا الخطاب على هذا المعنى
(7/148)
فلا تقول أبدا أراني زيد عمرا ما صنع هذا على معنى أعلم وأخرجته عن موضوعه بالكلية لمعنى إما بدليل دخول الفاء بعده كقوله تعالى : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة الآية فما دخلت الفاء إلا وقد خرجت لمعنى إما والمعنى أما إذا أوينا إلى الصخرة فالأمر كذا وكذا وقد أخرجته أيضا إلى معنى أخبرني كما قدمنا وإذا كان بهذا المعنى فلابد بعده من اسم المستخبر عنه وتلزم الجملة بعد الاستفهام وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان أه ولم يوافق في جميع ذلك
وذهب شيخ أهل الكوفة الكسائي الى أن التاء ضمير الفاعل وأداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول وذهب الفراء الى أن التاء حرف خطاب واللواحق بعده في موضع الرفع على الفاعلية وهي ضمائر نصب استعملت استعمال ضمائر الرفع والكلام على ذلك مبسوط في محله والمختار عند كثير من المحققين ما ذهب اليه البصريون من جعل كم هنا وكذا سائر اللواحق حرف خطاب ومتعلق الاستخبار عندهم ومحط التبكيت قوله تعالى أغير الله الخ وقوله سبحانه : ان كنتم صادقين
4
- متعلق بأريتكم مؤكد للتبكيت كاشف عن كذبهم وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه والتقدير على ما قيل ان كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة أو أن عبادتكم لها نافعة أو ان كنتم قوما من شأنكم الصدق فأخبروني أألها غير الله تعالى تدعون ان أتاكم عذاب الله الخ فان صدقهم من موجبات أخبارهم بدعائهم غيره سبحانه
وقيل : إن الجواب ما يدل عليه قوله تعالى : أغير الله تدعون أي فادعوه على أن الضمير لغير الله واعترض بأنه يخل بجزالة النظم الكريم كيف لا والمطلوب منهم إنما هو الاخبار بدعائهم غيره جل شأنه عند اتيان ما يأتي لانفس دعائهم إياه وجوز آخرون كون متعلق الاستخبار محذوفا تقديره أخبروني ان أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون وجعلوا قوله سبحانه : أغير الله الخ استئنافا للتبكيت على معنى أتخصون آلهتكم بالدعوة كما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله تعالى دونها وعليه فتقديم المفعول للتخصيص
وبعضهم جعل تقديمه لأن الأنكار متعلق به وأنكر تعلقه بالتخصيص نعم التقديم في قوله تعالى بل اياه تدعون للتخصيص أي بل تخصونه سبحانه بالدعاء وليس لرعاية الفواصل والتخصيص مستفاد مما بعد وهو عطف على جملة منفية تفهم من الكلام السابق كأنه قيل لا غير الله تدعون بل إياه تدعون وجعله في الكشف عطفا على أغير الله تدعون وأورد الزمخشري على كون أغير الله تدعون متعلق الاستخبار أن قوله سبحانه : فيكشف ما تدعون اليه أي ما تدعونه إلى كشفه مع قوله تعالى أو أتتكم الساعة يأباه فان قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين وأجاب بأنه قد اشترط في الكشف المشيئة بقوله جل شأنه إن شاء وهو عز و جل لا يشاء كشف هاتيك القوارع عنهم وخص الايراد بذلك الوجه على ما في الكشف لأن الشرطين فيه لما كانا متعلقين بقوله سبحانه أغير الخ وكان بل إياه الخ عطفا عليه اضرابا عنه والمعطوف في حكم المعطوف عليه وجب أن يكونا متعلقين به أيضا ولما كان الكشف مستعقب الدعاء مستفادا عنه وجب أن يكونا متعلقين به أيضا فجاء سؤال أن قوارع الساعة لا تكشف وأما في الوجه الآخر فلان أغير الخ لما كان كلاما مستقلا لم متعلق به الشرطان لفظا بل جاز أن يقدرا أو هو الظأهر أن ساعد المعنى وأن يقدر واحد منهما حسب استدعاء
(7/149)
المقام وذلك أنه سبحانه وتعالى بكتم بما كانوا عليه من اختصاصهم إياه تعالى بالدعاء عند الكرب ألا ترى إلى قوله جل شأنه : ثم إذا مسكم الضر فاليه تجأرون فلا مانع من ذكر أمرين والتقريع على أحدهما دون الآخر لاسيما عند اختصاصه بالتقريع انتهى وربما يقال : إن كشف القوارع الدنيوية والاخروية بدعاء المؤمن أو المشرك بل قبوله الدعاء مطلقا مشروط بالمشيئة وبذلك تقيد آية ادعوني استجب لكم وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان لكن انتفاء المشيئة متحقق في بعض الصور كما في قبوله دعاء الكفار بكشف قوارع الساعة وما يلقونه من سوء الجزاء على كفرهم وكشف بعض الأهوال عنهم ككرب طول الوقوف حين يشفع صلى الله عليه و سلم فيشفع في الفصل بين الخلائق يومئذ ليس من باب استجابة دعائهم في شيء
على أن كرب طول الوقوف الذي يفارقونه نعيم بالنسبة إلى ما يلاقونه بعد وإن لم يعلموا قبل فالقوارع محيطة بهم في ذلك اليوم لا تفارقهم أصلا وإنما ينتقلون فيها من شديد إلى أشد فقول بعضهم اثر قول الزمخشري : فان قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين الاحسن عندي أن هول القيامة يكشف أيضا ككرب الموقف إذا طال كما ورد في حديث الشفاعة العظمى إلا أن الزمخشري لم يذكره لأن المعتزلة قائلون بنفي الشفاعة وقد غفل عن هذا من اتبعه من كلام خال من التحقيق والمتعزلة على ما في مجمع البحار لا ينفون الشفاعة في فصل القضاء وإنما ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر والكفار في النجاة من النار
هذا واختلف المفسرون في جواب الشرط الأول فقيل محذوف تقديره فمن تدعون وقيل : وعليه أبو البقاء تقديره دعوتم الله تعالى وقيل : إنه مذكور وهو أرأيتكم وقيل : ونسب للرضى هو الجملة المتضمنة للاستفهام بعده وهو كالمتعين على بعض الأقوال ورده الدماميني بأن الجملة كذلك لا تقع جوابا للشرط بدون فاء
وبحث في ذلك الشهاب في حواشيه على شرح الكافية للرضى وقال أبو حيان وتبعه غير واحد الذي أذهب اليه أن يكون الجواب محذوفا لدلالة أرأيتكم عليه تقديره ان أتاكم عذاب الله تعالى فاخبروني عنه أتدعون غير الله تعالى لكشفه كما تقول أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به فان التقدير إن جاءك فاخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت انتهى فافهم ولا تغفل وقوله تعالى : وتنسون ما تشركون
14
- عطف على تدعون والنسيان مجاز عن الترك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي تتركون ما تشركون به تعالى من الأصنام تركا كليا وقيل : يحتمل أن يكون على حقيقته فانهم لشدة الهول ينسون ذلك حقيقة ولا يخطر لهم ببال ولا يلزم حينئذ أن ينسى الله تعالى لأن المعتاد في الشدائد أن يلهج بذكره تعالى وينسى ما سواه سبحانه وقدم الكشف مع تأخره عن النسيان كتأخره عن الدعاء لاظهار كمال العناية بشأنه والايذان بترتبه على الدعاء خاصة ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك كلام مستأنف سيق لبيان أن المشركين من لا يدعو الله تعالى عند اتيان العذاب لتماديه في الغي والضلال ولا يتأثر بالزواجر التكوينية كما لا يتأثر بالزواجر التنزيلية وقيل : مسوق لتسليته صلى الله عليه و سلم وتصدير الجملة بالقسم لاظهار مزيد الاهتمام بمضمونها والمفعول محذوف لأن مقتضى المقام بيان حال المرسل إليهم لا حال المرسلين وتنوين أمم للتكثير و من ابتدائية أو بمعنى في أو زائدة بناء على جواز زيادتها في الاثبات وضعف أي تألله لقد أرسلنا رسلا إلى أمم كثيرة كائنة من زمان أو في زمان قبل زمانك فأخذناهم أي فكذبوا فعاقبناهم بالبأساء والضراء
(7/150)
أي بالبؤس والضر
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير إنه قال : خوف السلطان وغلاء السعر وقيل : البأساء القحط والجوع والضراء المرض ونقصان الانفس والأموال وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما على أفعل كأحمر حمراء كما هو القياس فانه لم يقل أضر واباس صفة بل للتفضيل لعلهم يتضرعون
24
- أي لكي يتذللوا فيدعوا ويتوبوا من كفرهم فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا أي فلم يتضرعوا حينئذ مع وجود المقتضى وانتفاء المانع الذي يعذرون به ولولا عند الرهوي تكون نافية حقيقية وجعل من ذلك قوله تعالى فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس والجمهور حملوه على التوبيخ والتنديم وهو يفيد الترك وعدم الوقوع ولذا ظهر الاستدراك والعطف في قوله تعالى ولكن قست قلوبهم وليست لولا هنا تحضيضية كما توهم لأنها تختص بالمضارع واختار بعضهم ما ذهب اليه الهروي ولما كان التضرع ناشئا من لين القلب كان نفيه نفيه فكأنه قيل فما لانت قلوبهم ولكن قست وقيل : كان الظاهر أن يقال لكن يجب عليهم التضرع إلا أنه عدل إلى ما ذكر لأن قساوة القلب التي هي المانع يشعر بأن عليهم ما ذكر ومعنى قست الخ استمرت على ما هي عليه من القساوة أو ازدادت قساوة وزين لهم الشيطان ما كانوا يفعلون
34
- من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله والتزيين له معان أحدهما إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر كقوله تعالى زينا السماء الدنيا والثاني جعله مزينا من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس والثالث جعله محبوبا للنفس مشتهى للطبع وإن لم يكن في نفسه كذلك وهذا إما بمعنى خلق الميل في النفس والطبع وإا بمعنى تزويقه وترويجه بالقول وما يشبهه كالوسوسة والاغراء وعلى هذا يبنى أمر اسناده فانه جاء في النظم الكريم تارة مسندا إلى الشيطان كما في هذه الآية وتارة اليه سبحانه كما في قوله سبحانه وكذلك زينا لكل أمة عملهم وتارة إلى البشر كقوله عز و جل زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم فان كان بالمعنى الأول فاسناده إلى الله تعالى حقيقة وكذلك إذا كان بالمعنى الثالث بناء على المراد منه أولا وإن كان بالمعنى الثاني أو الثالث بناء على المراد منه ثانيا فاسناده إلى الشيطان أو البشر حقيقة ولا يمكن إسناد ما يكون بالاغواء والوسوسة اليه سبحانه كذلك وجاء أيضا غير مذكور الفاعل كقوله سبحانه زين للمسرفين وحينئذ يقدر في كل مكان ما يليق به وقد مر لك ما يتعلق بهذا البحث فتذكر
فلما نسوا ما ذكروا به أي تركوا ما دعاهم الرسل عليهم الصلاة والسلام اليه وردوه عليهم ولم يتعظوا به كما روي عن ابن جريج وقيل : المراد أنهم انهمكوا في معاصيهم ولم يتعظوا بما نالهم من البأساء والضراء فلما لم يتعظوا فتحنا عليهم أبواب كل شيء من النعم الكثيرة كالرخاء وسعة الرزق مكرا بهم واستدراجا لهم
فقد روى أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الايمان من حديث عقبة بن عامر مرفوعا إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه فانما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما نسوا الآية وما بعدها وروي عن الحسن انه لما سمع الآية قال مكر بالقوم ورب الكعبة اعطوا حاجتهم ثم أخذؤا وقيل : المراد فتحنا عليهم ذلك الزاما للحجة وإزاحة للعلة والظاهر أن فتحنا جواب لما
(7/151)
لأن فيها سواء قيل بحرفيتها أو اسميتها معنى الشرط
واستشكل ذلك بأنه لا يظهر وجه سببية النسيان لفتح أبواب الخير وأجيب بأن النسيان سبب الاستدراج المتوقف على فتح أبواب الخير وسببه شيء لآخر تستلزم سببيته لما يتوقف عليه أو يقال إن الجواب ما ذكر باعتبار ماله ومحصله وهو ألزمناهم الحجة ونحوه وتسببه عنه ظاهر وقيل : إنه مسبب عنه باعتبار غايته وهو أخذهم بغتة وقرأ ابو جعفر وابن عامر فتحنا بالتشديد للتكثير حتى إذا فرحوا فرح بطر بما أوتوا من النعم ولم يقوموا بحق المنعم جل شأنه أخذناهم عاقبناهم وأنزلنا بهم العذاب بغتة أي فجأة ليكون أشد عليهم وأفظع هولا وهي نصب على الحالية من الفاعل أو المفعول أي مباغتين أو مبغوتين أو على المصدرية أي بغتناهم بغتة فاذا هم مبلسون
44
- أي آيسون من النجاة والرحمة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال البلخي : أذلة خاضعون وعن السدي الابلاس تغير الوجه ومنه سمي إبليس لأن الله تعالى نكس وجهه وغيره وعن مجاهد هو مبعنى الاكتئاب
وفي الحواشي الشهابية للابلاس ثلاثة معاني في اللغة الحزن والحسرة واليأس وهي معان متقاربة وقال الراغب هو الحزن المعترض من شدة اليأس ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل : أبلس فلان إذا سكت واذا انقطعت حجته و إذا هي الفجائية وهي ظرف مكان كما نص عليه أبو البقاء وعن جماعة أنها ظرف زمان ومذهب الكوفيين أنها حرف على القولين الأولين الناصب لها خبر المبتدأ أي ابلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها فقطع دابر القوم الذين ظلموا أي آخرهم كما قال غير واحد وهو من دبره إذا تبعه فكأنه في دبره أي خلفه ومنه إن من الناس من لايأتي الصلاة إلا دبرا أي في آخر الوقت
وقال الاصمعي : الدابر ألاصل ومنه قطع الله دابره أي أصله وأيا ما كان فالمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب ولم يبق منهم أحد ووضع الظأهر موضع الضمير للاشعار بعلة الحكم
والحمد لله رب العالمين
54
- على ما جرى عليهم من النكال والاهلاك فان اهلاك الكفار والعصاة من حيث أنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها فهذا منه تعالى تعليم للعباد أن يحمدوه على مثل ذلك واختار الطبرسي أنه حمد منه عز أسمه لنفسه على ذلك الفعل قل يا محمد على سبيل التبكيت والالزام أيضا أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم أي أصمكم وأعماكم فاخذهما مجاز عما ذكر لأنه لازم له والاستدلال بالآية على بقاء العرض زمانين محل نظر
وختم على قلوبكم بان غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقل وفهم أصلا وقيل : يجوز أن يكون الختم عطفا تفسيريا للاخذ فان البصر والسمع طريقان للقلب منهما يرد ما يرد من المدركات فاخذهما سد لبابه بالكلية وهو السر في تقديم أخذهما على الختم عليها واعترض بأن المدركات ما يتوقف على السمع والبصر ولهذا قال غير واحد بوجوب الايمان بالله تعالى على من ولد أعمى أصم بلغ سن التكليف وقيل : في التقديم إنه من باب تقديم ما يتعلق بالظاهر على ما يتعلق بالباطن ووجه تقديم السمع وافراده قد تقدمت الإشارة إليه من إله غير الله يأتيكم به أي بذلك على أن الضمير مستعار لاسم الاشارة المفرد لأنه الذي
(7/152)
كثر في الاستعمال التعبير به عن أشياء عدة وأما الضمير المفرد فقد قيل فيه ذلك ونقل عن الزجاج أن الضمير راجع الى المأخوذ والمختوم عليه في ضمن ما مر أي المسلوب منكم أو راجع إلى السمع وما بعده داخل معه في القصد ولا يخفى بعده
وجوز أن يكون راجعا إلى أحد هذه المذكورات و من مبتدأ و إله خبره و غير صفة للخبر ويأتيكم صفة أخرى والجملة كما قال غير واحد متعلق الرؤية ومناط الاستخبار أي أخبروني ان سلب الله تعالى مشاعركم من إله غيره سبحانه يأتيكم به وترك كاف الخطاب هنا قيل : لأن التخويف فيه أخف مما تقدم ومما يأتي
وقيل : اكتفاء بالسابق واللاحق لتسط هذا الخطاب بينهما وقيل : لما كان هذا مما لا يبقى القوم معه أهلا للخطاب حذفت كافة إيماء لذلك ورعاية لمناسبة خفية انظر كيف نصرف الآيات أي نكررها على أنحاء مختلفة ومنه تصريف الرياح والمراد من الآيات على ماروى الكلبي الآيات القرآنية وهل هي على الاطلاق أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا أو ما ذكر قبل هذا أقوال أقربها عندي الأقرب وفيها الدال على وجود الصناع وتوحيده وما فيه الترغيب والترهيب والتنبيه والتذكير وهذا تعجيب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : لمن يصلح للخطاب من عدم تأثرهم بما مر من الآيات الباهرات
ثم هم يصدفون
64
- أي يعرضون عن ذلك : وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنشد لهذا المعنى قول أبي سفيان بن الحرث : عجبت لحكم الله فينا وقد بدا له صدفنا عن كل حق منزل وذكر بعضهم أنه يقال : صدف عن الشيء صدوفا إذا مال عنه وأصله من الصدف الجانب والناحية ومثله الصدفة وتطلق على كل بناء مرتفع وجاء في الخبر أنه صلى الله عليه و سلم مر بصدف مائل فأسرع
والجملة عطف على تصرف داخل معه في حكمه وهو العمدة في التعجب و ثم للاستبعاد أي أنهم بعد ذلك التصريف الموجب للاقبال والايمان يدبرون ويكفرون قل أرأيتكم تبكيت آخر لهم بالجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم إن أتاكم عذاب الله أي العاجل الخاص بكم كما أتى أضرابكم من الأمم قبلكم بغتة أي فجأة من غير ظهور امارة وشعور ولتضمنها بهذا الاعتبار ما في الخفية من عدم الشعور صح مقابلتها بقوله سبحانه : أو جهرة وبدأ بها لأنها أردع من الجهرة وانما لم يقل : خفية لأن الاخفاء لا يناسب شأنه تعالى
وزعم بعضهم أن البغتة استعارة للخفية بقرينة مقابلتها بالجهرة وانها مكنية من غير تخييلية ولا يخفى أنه على ما فيه تعسف لا حاجة اليه فان المقابلة بين الشيء والقريب من مقابلة كثيرة في الفصيح ومنه قوله صلى الله عليه و سلم بشروا ولا تنفروا وعن الحسن أن البغتة أن تأتيهم ليلا والجهرة أن يأتيهم نهارا وقريء بغتة أو جهرة بفتح الغين والهاء على أنهما مصدران كالغلبة أي أتينا بغتة أو اتيانا جهرة وفي المحتسب لابن جني أن مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتح لا يحرك الا على أنه لغة فيه كالنهر والنهر والشعر والشعر
(7/153)
والحلب والحلب والطرد والطرد ومذهب الكوفيين أنه يجوز تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا قياسا مطردا كالبحر والبحر وما أرى الحق إلا معهم وكذأ سمعت من عامة عقيل وسمعت الشجري يقول : أنا محموم بفتح الحاء وليس في كلام العرب مفعول بفتح الفاء وقالوا : اللحم يريد اللحم وسمعته يقول تغدوا بمعى تغدوا وليس في كلامهم مفعل بفتح الفاء وقالوا : سار نحوه بفتح الحاء ولو كانت الحركة أصلية ما صحت اللام أصلا اه وهي كما قال الشهاب فائدة ينبغي حفظها وقريء بغتة وجهرة بالواو الواصلة
هل يهلك إلا القوم الظالمون
74
- أي الا أنتم ووضع الظأهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم ويذانا بأن مناط اهلاكهم ظلمهم ووضعهم الكفر موضع الايمان والاعراض موضع الاقبال وهذا كما قال الجماعة متعلق الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل تقريرا لهم باختصاص الهلاك بهم أخبروني ان أتاكم عذابه جل شأنه حسبما تستحقونه هل يهلك بذلك العذاب الا أنتم أي هل يهلك غيركم ممن لا يستحقه وقيل : المراد بالقوم الظالمين الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا واعترض بأنه يأباه تخصيص الاتيان بهم وقيل : الاستفهام بمعنى النفي لأن الاستثناء مفرغ والأصل فيه النفي ومتعلق الاستخبار حينئذ محذوف كأنه قيل : أخبروني ان أتاكم عذابه عز و جل بغتة أو جهرا مادا يكون الحال ثم قيل : بيانا لذلك ما يهلك الا القوم الظالمون أي ما يهلك بذلك العذاب الخاص بكم الا أنتم
وقيد الطبرسي وغيره الهلاك بهلاك التعذيب والسخط توجيها للحصر إذ قد يهلك غير الظالم لكن ذلك رحمة منه تعالى به ليجزيه الجزاء الأوفى على ابتلائه ولعله اشتغال بما لا يعني وقريء يهلك بفتح الياء
وما نرسل المرسلين إلى الأمم الا مبشرين من أطاع منهم بالثواب ومنذرين من عصى منهم بالعذاب واقتصر بعضهم على الجنة والنار لانهما أعظم ما يبشر به وينذر به والمتعاطفان منصوبان على أنهما حالان مقدرتان مفيدتان للتعليل وصيغة المضارع للايذان بأن ذلك أمر مستمر جرت عليه العادة الالهية والآية مرتبطة بقوله سبحانه : وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه أي ما نرسل المرسلين إلا لأجل أن يبشروا قومهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعذاب على المعصية ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويسخر بهم فمن ءامن بما يجب الايمان به وأصلح ما يجب اصلاحه والاتيان به على وفق الشريعة والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ومن موصولة ولشبه الموصول بالشرط دخلت الفاء في قوله سبحانه : فلا خوف عليهم من العذاب الذي أنذر الرسل به ولا هم يحزنون
84
- لفوات الثواب الذي بشروا به وقد تقدم الكلام في هذه الآية غير مرة وجمع الضمائر الثلاثة الراجعة إلى من باعتبار معناها كما أن إفراد الضميرين السابقين باعتبار لفظها
والذين كذبوا بآياتنا أي التي بلغتها الرسل عليهم الصلاة والسلام عند التبشير والانذار وقيل : المراد بها نبينا صلى الله عليه و سلم ومعجزاته والأول هو الظاهر والموصول مبتدأ وقوله تعالى : يمسهم العذاب خبره والجملة عطف على من آمن الخ والمراد بالعذاب العذاب الذي أنذروه عاجلا أو آجلا أو حقيقة العذاب وجنسه المنتظم لذلك أنتظاما أوليا وفي جعله ماسا إيذانا بتنزيله منزلة الحي الفاعل لما يريد ففيه استعارة مكنية على ما قيل
وجوز الطيي أن يكون المس أستعارة تبعية من غير استعارة في العذاب والظاهر أن ما ذكر مبني على أن
(7/154)
المس من خواص الاحياء وفي البحر أنه يشعر بالاختيار ومنع ذلك بعضهم وادعى عصام الملة أنه أشير بالمس إلى أن العذاب لا يأخذهم بحيث يعدمهم حتى يتخلصوا بالهلاك وله وجه بما كانوا يفسقون
94
- أي بسبب فسقهم
نعم أخرج ابن جرير عن ابن زيد أن كل فسق في القرآن معناه الكذب ولعله في حيز المنع وخروجهم المستمر عن حظيرة الايمان والطاعة وقد يقال : الفاسق لمن خرج عن التزام بعض الاحكام لكنه غير مناسب ههنا
قل أيها الرسول البشير النذير للكفرة الذين يقترحون عليك ما يقترحون : لا أقول لكم عندي خزائن الله أي مقدوراته جمع خزينة أو خزانة أو خزنة وهي في الأصل ما يخفظ فيه الاشياء النفيسة تجوز فيها عما ذكر وعلى ذلك الجبائي وغيره ولم يقل : لا أقدر على ما يقدر عليه الله قيل : لأنه أبلغ لدلالته على أنه لقوة قدرته كأن مقدوراته مخزونة حاضرة عنده وقيل : الخزائن مجاز عن المرزوقات من اطلاق المحل على الحال أو اللازم على الملزم وقيل : الكلام على حذف مضاف أي الخزائن ورزق الله تعالى أو مقدوراته والمعنى لا أدعي أن هاتيك الخزائن مفوضة إلي أتصرف فيها كيفما اشاء استقلالا أو استعاء حتى تقترحوا على تنزل الآيات أو أنزال العذاب أو قلب الجبال دهبا أو غير ذلك مما لا يليق بشأني
ولا أعلم الغيب عطف على محل عندي خزائن الله فهو مقول أقول أيضا ونظر فيه الحلبي من حيث أنه يؤدي إلى أن يصير التقدير ولا أقول لكم لا أعلم الغيب وليس بصحيح وأجيب بأن التقدير ولا أقول لكم أعلم الغيب باضمار القول بين لا وأعلم لا بين الواو ولا وقيل : لا في لا أعلم م مزيد مؤكد للنفي
وقال ابو حيان : الظاهر أنه عطف على لا أقول لا معمول له فهو أمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل فهي معمولة للأمر الذي هو قل وتعقب بأنه لا فائدة في الاخبار بأني لا أعلم الغيب وإنما الفائدة في الاخبار بأني لا أقول ذلك ليكون نفيا لادعاء الامرين اللذين هما من خواص الالهية ليكون المعنى إني لا أدعي الالهية
ولا أقول لكم إني ملك ولا أدعي الملكية ويكون تكرير لا أقول اشارة إلى هذا المعنى وقال بعض المحققين : أن مفهومي عندي خزائن الله وإني ملك لما كان حالهما معلوما عند الناس لم يكن حاجة إلى نفيهما وإنما الحاجة إلى نفي إدعائهما تبريا عن دعوى الباطل ومفهوم إني لا أعلم الغيب لما لم يكن معلوما احتيج هنا إلى نفيه فدعوى أنه لا فائدة في الاخبار بذلك منظور فيها والذي اختاره مولانا شيخ الاسلام القول الأول وأن المعنى ولا أدعي أيضا أني أعلم الغيب من أفعاله عز و جل حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت أنزال العذاب أو نحوهما
وخص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغيب بعاقبة ما يصيرون اليه أي لا أدعي ذلك ولا أدعي أيضا الملكية حتى تكفلوني من الافاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في السماء ونحوه أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في أمري كما ينبيء عنه قولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق وليس في الآية على هذا دليل على تفضيل الملائكة على الانبياء عليهم الصلاة والسلام فيها هو محل النزاع كما زعم الجبائي لأنها إنما وردت ردا على الكفار في قولهم ما لهذا الرسول الخ وتكليفهم له عليهم الصلاة والسلام بنحو الرقي في السماء ونحن لا ندعي تميز الانبياء على الملائكة عليهم الصلاة والسلام في عدم الأكل مثلا والقدرة على الافاعيل الخارقة كالرقي ونحوه ولا مساواتهم لهم في ذلك بل كون الملائكة متميزين عليهم عليهم الصلاة
(7/155)
والسلام في ذلك مما أجمع عليه الموافق والمخالف ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل منهم بالمعنى المتنازع في وإلا لكان كثير من الحيوانات أفضل من الانسان ولا يدعي ذلك الاجماد
وهذا الجواب أظهر مما نقل عن القاضي زكريا من أن هذا القول منه صلى الله عليه و سلم من باب التواضع واظهار العبودية نظير قوله عليه الصلاة و السلام : لا تفضلوني على ابن متى في رأي بل هو ليس بشيء كما لا يخفى وقيل : إن الأفضلية على زعم المخاطبين وهو من ضيق العطن وقيل : حيث كان معنى ألآية لا أدعي الألوهية ولا الملكية لا يكون فيها ترق من الأدنى إلى الأعلى بل هي حينئذ ظاهرة في التدلي وبذلك تهدم قاعدة استدلال الزمخشري في قوله تعالى : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون على تفضيل الملائكة على البشر إذ لا يتصور الترقي من الألوهية إلى ما هو أعلى منها إذ لا أعلا ليترقى إليه وتعقب بأنه لا هدم لها مع أعادة لا أقول الذي جعله أمرا مستقلا كالاضراب إذ المعنى لا أدعي الألوهية بل ولا الملكية ولذا كرر لا أقول
وقال بعضهم في التفريق بين المقامين : إن مقام نفي الاستنكاف ينبغي فيه أن يكون المتأخر أعلا لئلا يلغوا ذكره ومقام نفي الادعاء بالعكس فان من لا يتجاسر على دعوى الملكية أولا أن لا يتجاسر على دعوى الألوهية الأشد استبعادا نعم في كون المراد من الاول نفي دعوى الألوهية والتبري منها نظر وإلا لقيل لا أقول لكم إني اله كما قيل ولا أقول لكم إني ملك وأيضا في الكناية عن الألوهية بعندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة وإضافة الخزائن اليه تعالى منافية لها ودفع المنافاة بأن دعوى الألوهية ليس دعوى أن يكون هو الله تعالى بل أن يكون شريكا له عر اسمه في الألوهية نظر لأن إضافة الخزائن إليه تعالى اختصاصية فتنافي الشركة اللهم إلا أن يكون خزائن مثل خزائن أو تنسب اليه وهو كما ترى ومن هنا قال شيخ الاسلام : إن جعل ذلك تبريا عن دعوى الألوهية مما لا وجه له قطعا
ان أتبع إلا ما يوحى إلي أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى الي من غير أن يكون لي مدخل ما في الوحي أو في الموحي بطريق الاستدعاء أو بوجه آخر من الوجوه أصلا وحاصله اني عبد يمتثلأمر مولاه ويتبع ما أوحاه ولا أدعي شيئا من تلك الأشياء حتى تقترحوا علي ما هو من آثارها واحكامها وتجعلوا عدم اجابتي الى ذلك دليلا على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة ولا يخفى أن هذا أبلغ من إني نبي أو رسول ولذا عدل اليه
ولا دلالة لنفاة القياس ولا لمعاني جواز اجتهاده عليه الصلاة و السلام كما لا يخفى وذهب البعض الى أن المقصود من هذا الرد على الكفرة كأنه قيل : إن هذه دعوى وليست مما يستبعد إنما المستبعد ادعاء الالوهية أو الملكية ولست أدعيها وقد علمت آنفا ما في دعوى أن المقصود مما تقدم نفي ادعاء الألوهية والملكية قل هل يستوي الأعمى والبصير أي الضال والمهتدي على الاطلاق كما قال غير واحد
والاستفهام انكاري والمراد انكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق ومن يعلمها مع الاشعار بكمال ظهورها والتنفير عن الضلال والترغيب في الاهتداء وتكرير الأمر لتثبيت التبكيت وتأكيد الالزام أفلا تتفكرون
5
- عطف على مقدر يقتضيه المقام أي لا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه أو أتسمعونه فلا تتفكرون والاستفهام للتقرير والتوبيخ والكلام داخل الأمر ومناط التوبيخ عدم الأمرين على ألاول
(7/156)
وعدم التفكير مع تحقق ما يوجبه على الثاني وذكر بعضهم أن في ألاعمى والبصير ثلاث أحتمالات إما أن يكونا مثالا للضال والمهتدي أو مثالا للجاهل والعالم أو مثالا لمدعي المستحيل كالألوهية والملكية ومدعي المستقيم كالنبوة وأن المعنى لا يستوي هذان الصنفان أفلا تتفكرون في ذلك فتهتدوا أي فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل أو فتعلموا ان اتباع الوحي مما لا محيص عنه والجملة تذييل لما مضى إما من أول السورة إلى هنا أو لقوله سبحانه إن أتبع الخ أو لقوله عز شأنه لا أقول ورجح في الكشف الأول ثم الثاني ولا يخفى بعد هذا الترجيح واعترض القول باحالة الملكية بانها من الممكنات لأن الجواهر متماثلة والمعاني القائمة ببعضها يجوز ان تقوم بكلها
وأجيب بعد تسليم ما فيه أن البشر حال كونه بشرا محال أن يكون ملكا لتمايزهما بالعوارض المتنافية بلا خلاف وإقدام آدم عليه الصلاة و السلام بعد سماع ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين على الأكل ليس طمعا في الملكية حال البشرية على أنه يجوز أن يقال : إنه لم يطمع في الملكية أصلا وإنما طمع في الخلود فأكل وأنذر أي عظ وخوف يا محمد به أي بما يوحى أو بالقرآن كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى نهما الزجاج وقيل : أي بالله تعالى وروي ذلك عن الضحاك
وهذا أمر منه سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم بعدما حكى سبحانه وتعالى له أن من الكفرة من لا يتعظ ولا يتأثر قد التحق بالأموات واتظم في سلك الجمادات فما ينجع فيه دواء الانذار ولا يفيده العظة والتذكار إذ ينذر من يتوقع في الجملة منهم الانتفاع ويرجى منهم القبول والسماع وهم المشار إليهم بقوله سبحانه : الذين يخافون أن يحشروا الى ربهم فالمراد من الموصول المجؤزون للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كاهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين فيهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم حالهم أنهم إذا سمعوا بحديثه يخافون أن يكونوا حقا وأما المنكرون للحشر رأسا والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بانذارهم كذا قال شيخ الاسلام
وروي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموصول المؤمنون وارتضاه غير واحد إلا أنهم قيدوا بالمفرطين لأنه المناسب للانذار ورجاء التقوى وتعقبه الشيخ بأنه مما لا يساعده السباق ولا السياق بل فيه ما يقضي بعدم صحته وبينه بما سيذكر قريبا إن شاء الله تعالى وقيل : المراد المؤمنون والكافرون وعلله الامام الرازي بأنه لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر سواء قطع بحصوله أو كان شاكا فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة فكان هذا الخوف قائما في حق الكل وبأنه عليه الصلاة و السلام كان مبعوثا إلى الكل فكان مأمورا بالتبليغ اليه ولا يخفى ما فيه والمفعول الثاني للانذار إما بالعذاب الاخوري المدلول عليه بما في حيز الصلة وإما مطلق العذاب الذي ورد به الوعيد والتعرض لعنوان الربوبية بتحقيق المخافة إا باعتبار أن التربية المفهومة منها مقتضية خلاف ما خافوا لأجله الحشر وإما باعتبار أنها منبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي كما قيل والمراد من الحشر اليه سبحانه الحشر إلى المكان الذي جعله عز و جل محلا لاجتماعهم وللقضاء عليهم فلا تصلح اةية دليلا للمجسمة
(7/157)
وقوله سبحانه : ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع في حيز النصب على الحالية من ضمير يحشروا والعامل فيه فعله ونقل الامام عن الزجاج أنه حال من ضمير يخافون والأول أولى ومن دونه متعلق بمحذوف وقع حالا من أسم ليس لأنه في الأصل صفة له فلما قدم عليه انتصب على الحالية والحال الأولي لاخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيق أن ما نيط به الخوف تلك الحالة لا الحشر كيفما كان ضرورة أن المعترفين به الجازمين بنصرة غيره تعالى بمنزلة المنكرين له في عدم الخوف الذي يدور عليه أمر الانذار والحال الثانية لتحقيق مدار خوفهم وهو فقدان ما علقوا به رجاءهم وذلك إمنا هو غيره سبحانه كما في قوله جل شأنه : ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء وليست لأخراج الولي الذي لم يقيد بها عن حيز الانتفاء لاستلزامه ثبوت ولايته تعالى لهم كما في قوله سبحانه : وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير وذلك فاسد والمعنى أنذر به الذين يخافون حشرهم غير منصورين من جهة أنصارهم بزعمهم قاله شيخ الاسلام ثم قال : ومن هذا اتضح أن لا سبيل إلى كون المراد بالخائفين المفرطين من المؤمنين إذ ليس لهم ولي ولا شفيع سواء عز و جل ليخافوا الحشر بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته سبحانه انتهى وهو تحقيق لم أره لغيره ويصغر لديه ما في التفسير الكبير ولعل ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم لم يثبت عنهما فتدبر
لعلهم يتقون
15
- أي لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو على هذا تعليل للأمر بالانذار وجوز أن يكون حالا عن ضمير الأمر أي أنذرهم راجيا تقواهم أو من الموصول أي أنذرهم مرجوا منهم التقوى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي لما أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بانذار المذكورين لعلهم ينتظمون في سلك المتقين نهى عليه الصلاة و السلام عن كون ذلك بحيث يؤدي الى طردهم ويفهم من بعض الروايات أن الآيتين نزلتا معا ولا يفهم ذلك من البعض الآخر فقد أخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه و سلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك أهؤلاء من الله تعالى عليهم من بيننا أنحن نكون تبعا لهؤلاء اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فأنزل الله تعالى فيهم القرءان ؤانذر به الذين الى قوله سبحانه : وهو أعلم بالظالمين
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل وغيرهم عن خباب رضي الله تعالى عنه قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا النبي صلى الله عليه و سلم مع بلال وصهيب وعمار وخباب في اناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا : نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب له فضلنا فان وفود العرب تاتيك فنستحي أن ترانا قعودا مع هؤلاء الأعبد فاذا نحن جئناك فأقمهم عنا فاذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال : نعم قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتابا فدعا بالصحيفة ودعا عليا كرم الله تعالى وجهه ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بهذه الآية ولا تطرد الذين الخ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم الخ
(7/158)
فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم واخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة قال : مشى عتبة وشيبة أبنا ربيعة وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل والحرث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا : لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى الله عليه و سلم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم : وما يصيرون اليه من أمرهم فانزل الله سبحانه وأنذر به إلى قوله سبحانه أليس الله بأعلم بالشاكرين وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وصبيحا مولى أسيد والحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن هبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ومرثد بن ابي مرثد واشباههم ونزل في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء وكذلك فتنا بعضهم ببعض أةية فلما نرلت أقبل عمر رضي الله تعالى عنه فاعتذر من مقالته فانزل الله تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية والغداة أصله غدوة قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وأصل العشي عشوى قلبت الواو ياء وادغمت الياء في الياء وفاء بالقاعدة والظاهر أنه مفرد كالعشية وجمعه عشايا وعشيات وقيل : هو جمع عشية وفيه بعد ومعنى ألاول لغة البكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس ومعنى الثاني آخر النهار والمراد بهما ههنا الدوام كما يقال فعله مساء وصباحا إذا داوم عليه والمراد بالدعاء حقيقته أو الصلاة أو الذكر أو قراءة القرآن أقوال
وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم عن مجاهد أنهما عبارة عن صلاتي الصبح والعصر لأن الزمان كثيرا ما يذكر ويراد به ما يقع فيه كما يقال صلى الصبح والمراد صلاته وقد يعكس فيراد بالصلاة زمانها نحو قربت الصلاة أي وقتها وقد يراد بها مكانها كما قيل في قوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى أن المراد بالصلاة المساجد وخصا بالذكر لشرفهما والاقوال في الدعاء جارية على هذا القول خلا الثاني وقرأ ابن عامر هنا وفي الكهف الغدوة بالواو وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء العطاردي وغيرهم وزعم أبو عبيد أن من قرأ بالواو فقد أخطأ لان غدوة علم جنس لا تدخله الألف واللام ومنشأ خطئه أنه اتبع رسم الخط لأن الغداة تكتب بالواو كالصلاة والزكاة وقد اخطأ في هذه التخطئة لأن غدؤة وإن كان المعروف فيها ما ذكره لكن قد سمع مجيوها اسم جنس أيضا منكرا مصروفا فتدخلها أل حينئذ وقد نقل ذلك سيبويه عن الخليل وتصديره بالزعم لا يدل على ضعفه كما يشير اليه كلام الامام الننوي في شرح مسلم وذكره جم غفير من أهل اللغة
وذكر المبرد أيضا عن العرب تنكيره غدوة وصرفها وادخال اللام عليها إذا لم يرد بها غدوة يوم بعينه والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وكفى بوروده في القراءة المتواترة حجة فلا حاجة كما قيل م إلى التزام أنها علم لكنها نكرت فدخلتها أل لأن تنكير العلم وادخال ال عليه أقل قليل في كلامهم بل ان تنكير علم الجنس لم يعهد ولا إلى التزام أنها معرفة ودخلتها اللام لمشاكلة العشي كما دخلت على يزيد لمشاكلة الوليد في قوله : رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا باعباء الخلافة كاهله لأن هذا النوع من المشاكلة وهو المشاكلة الحقيقة قليل أيضا والكثير في المشاكلة المجار ولا دلالة في
(7/159)
الآية على انه صلى الله عليه و سلم وقع منه الطرد ليخدش وجه العصمة والذي تحكيه اةثار أنه عليه الصلاة و السلام هم أن يجعل لاولئك الداعين المتقين وقتا خاصا ولاشراف قريش وقتا آخر ليتالفوا فيقودهم إلى الايمان وأولئك رضي الله تعالى عنهم يعلمون ما قصد صلى الله عليه و سلم فلا يحصل لهم إهانة وانكسار قلب منه عليه الصلاة و السلام
يريدون وجهه في موضع الحال من ضمير يدعون وفي المراد بالوجه عند المؤولين خلاف فقيل وهو المشهور إنه الذات أي مريدين ذاته تعالى ومعنى إرادة الذات على ما قيل الاخلاص لها بناء على استحالة كون الله تعالى مرادا لذاته سبحانه وتعالى لأن الارادة صفة لا تتعلق الا بالممكنات لأنها تقتضي ترجيح أحد طرفي المراد على الآخر و ذلك لا يعقل إلا فيها أي يدعون ربهم مخلصين له سبحانه فيه وقيد بذلك لتأكيد عليته للنهي فإن الاخلاص من أقوى موجبات الاكرام المضاد للطرد وقيل : المراد به الجهة والطريق والمعنى مريدين الطريق الذي أمرهم جل شأنه بارادته وهو الذي يقتضيه كلام الزجاج وقيل : إنه كناية عن المحبة وطلب الرضا لأن من أحب ذاتا أحب أن يرى وجهه فرؤية الوجه من لوازم المحبة فلهذا جعل كناية عنها قاله الامام وهو كما ترى
وجوز أيضا أن يكون ذكر الوجه للتعظيم كما يقال : هذا وجه الرأي وهذا وجهه الدليل والمعنى يريدونه ما عليك من حسابهم من شيء ضمير الجمع للموصول السابق كما روي عن عطاء وغالب المفسرين
و وز في ما أن تكون تميمية وحجازية وفي شيء أن يكون فاعل الظرف المعتمد على النفي و من حسابهم وصف له قدم فصار حالا وأن يكون في موضع رفع بالابتداء والظرف المتقدم متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما له و من زائدة للاستغراق وكلام الزمخشري يشير إلى اختياره والجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريرا له ودفعا لما عسى أن يتوهم كونه مسوغا لطرد المتقين من أقاويل الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوح عليه السلام حيث قالوا : ما نراك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادي الرأي والمعنى ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطلة كما يقوله المشركون حتى تتصدى له وتبنى على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتك حسبما هو شأن منصب الرسالة النظر إلى ظواهر الأمور واجراء الاحكام على موجبها وتفويض البواطن وحسابها إلى اللطيف الخبير وظواهر هؤلاء دعاء ربهم بالغداة والعشي وروي عن ابن زيد أن المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم أي فقرهم والمراد لا يضرك فقرهم شيئا ليصح لك الاقدام على ما أراده المشركون منك فيهم
وما من حسابك عليهم من شيء عطف على ما قبله وجيء به مع أن الجواب قد تم بذلك مبالغة في بيان كون انتفاء حسابهم عليه عليه الصلاة و السلام بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا وهو انتفاء كون حسابه صلى الله عليه و سلم عليهم فهو على طريقة قوله سبحانه : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون في رأي
وقال الزمخشري : ان الجملتين في معنى جملة واحدة تؤدي مؤدى ولا تزر وازرة وزر أخرى كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه وحينئذ لابد من الجملتين وتعقب بأنه غير حقيق بجلالة التنزيل وتقديم خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم في الموضعين قيل م للتشريف له عليه أشرف الصلاة وأفضل السلام وإلا كان الظأهر وما عليهم من حسابك من شيء بتقديم على ومجرورها كما في الأول وقيل : إن تقديم عليك في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله تعالى عليه وسلم إذ هو الداعي إلى تصديه عليه الصلاة و السلام لحسابهم
(7/160)
وذهب بعض المفسرين إلى أن ضمير الجمع للمشركين وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمعنى إنك لا تؤاخذ بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين والضمير في قوله سبحانه فتطردهم للمؤمنين على كل حال والفعل منصوب على أنه جواب النفي والمراد إنتفاء الطرد لا إنتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة و السلام ضرورة انتفاء المسبب لانتفاء سببه كأنه قيل : ما يكون منك ذلك فكيف يقع منك طرد وهو أحد معنيين في مثل هذا التركيب يمتنع ثانيهما هنا وقوله تعالى : فتكون من الظالمين
25
- جواب للنهي وجوز الامام والزمخشري أن يكون عطفا على فتطردهم على وجه التسبب لأن الكون ظالما معلول طردهم وسبب له واعترض بأن الاشتراك في النصب بالعطف يقتضي الاشتراك في سبب النصب وهو توقف الثاني على الأول بحيث يلزم من انتفاء الأول انتفاؤه والكون من الظالمين منتف سواء لوحظ ابتداء أو بعد ترتبه على الطرد وجعله مترتبا على الطرد بلا اعتبار كونه مترتبا على المنفي ومنتفيا بانتفائه يفوت وجود سببية العطف وأجيب بأن الظلم بالطرد يتوقف انتفاؤه على انتفاء الطرد كما لا يتوقف وجوده على وجوده وانتفاء الطرد متوقف على انتفاء كون حسباهم عليه عليه الصلاة و السلام فانتفاء الظلم بالطرد يتوقف على ذلك أيضا فيلزم من الانتفاء الانتفاء ويتحقق الاشتراك في سبب النصب وهو ظاهر وإنكاره مكابرة واعترض أيضا بأن العطف مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض الحساب اليه صلى الله عليه و سلم فيفهم منه أنه لو كان حسابهم عليه صلى الله عليه و سلم وطردهم لكان ظلما وليس كذلك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وأجيب بأنه على حد نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه وفي الكشف في بيان مراد صاحب الكشاف أنه أراد أن الطرد سبب للظلم فقيل : ما عليك من حسابهم لتطردهم فتظلم به ويفهم منه أنه لو كان عليه حسابهم لم يكن طرده إياهم ظلما وذلك لأن الطرد جعل سببا للظلم على تقدير أن لا يملك حسابهم وعليه لا حاجة إلى جعله على حد نعم العبد الخ بل هو خروج عن الحد وجوز بعضهم أن يكون الأول جوابا للنهي كما جاز أن يكون جوابا للنفي ونقل عن الدر المصون وقال : الكلام عليه بحسب الطاهر ولا تطردهم فتطردهم وهو كما ترى وجعل بعضهم اجتماع ذينك النفيين السابقين على هذا الجواب من قبيل التنازع خلا أنه لا يمكن كون الجواب للثاني بوجه أصلا إذ يلزم المعنى حينئذ أنه لو كان عليهم شيء من حسابه عليه الصلاة و السلام كان طرده إياهم حسنا وهو خلف لا يجوز حمل القرآن عليه وليس في هذا خروج عن مختار البصريين لاعمال الثاني لأن شرطه عندهم أن يكون المعنى مستقيما فيهما فان لم يستقم أعمل الأول اتفاقا كما في قوله : ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال وأنت إذا علمت أن الجملة الثانية لماذا أتي بها علمت ما في هذا الكلام فافهم وأيا ما كان فالمراد فتكون من الظالمين لأنفسهم أو لأولئك المؤمنين أو فتكون ممن اتصف بصفة الظلم وكذلك فتنا أي ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض والمراد عاملناهم معاملة المختبر وذلك إشارة إلى الفتن المذ : ور في النظم الكريم وعبر
(7/161)
عنهعنه بذلك إيذانا بتفخيمه كقولك : ضربت ذلك الضرب والكاف مقحمة بمعنى أن التشبيه غير مقصود منها بل المقصود لازمه الكنائي أو المجازي وهو التحقق والتقرر وهو إقحام مطرد وليست زائدة كما توهم والمعنى مثل ذلك الفتن العظيم البديع فتنا بعض الناس ببعضهم حيث قدما الآخرين في أمر الدين على ألاولين المتقدمين عليهم في أمر الدنيا ويؤول إلى دا الأمر العظيم متحقق منا ومن ظن أن التشبيه هو المقصود لم يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور لما يلزمه من تشبيه الشيء بنفسه وتكلف لوجه التشبيه والمغايرة بجعل المشبه به الأمر المقرر في العقول والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي وقيل : المراد مثل ما فتنا الكفار بحسب غناهم وفقر المؤمنين حتى أهانوهم لاخلافهم في الاسباب الدنيوية فتناهم بحسب سبق المؤمنين إلى الايمان وتخلفهم عنه حتى حسدوهم وقالوا ما قالوا لاختلاف أديانهم ولا يخفى أن الأول أدق نظرا أو أعلى كعبا وقد سلف بعض الكلام على ذلك ليقولوا أي البعض الأولون مشيرين الى ألآخرين محقرين لهم أهؤلاء من الله عليهم بان وفقهم لاصابة الحق والفوز بما يسعدهم عنده سبحانه من بيننا أي من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء وغرضهم بذلك إنكار المن رأسا على حد قولهم : لو كان خيرا لما سبقونا إليه لا تحقير الممنون عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراض عليه سبحانه وذكر الامام أنه سبحانه وتعالى بين في هذه الآية أن كلا من الفريقين المؤمنين والكفار مبتلى بصاحبه فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كونهم سابقين في الاسلام متسارعين إلى قبوله فقالوا : لو دخلنا في الاسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء وكان ذلك يشق عليهم ونظيره قوله تعالى : أألقي عليه الذكر من بيننا ولو كان خيرا ما سبقونا اليه وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحة والمسرة والخصب والسعة فكانوا يقولون كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار مع أنا في الشدة والضيق والقلة والمحققون المحقون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه إما بحكم المالكية كما نقول أو بحسب المصلحة كما يقول المعتزلة انتهى وفيه نظر لأن صدر كلامه صريح في أن الكفار معترفون بوقوع المن المشار اليهم حاسدون لهم على وقوعه وهو مناف لتنظيره بقولهم : لو كان خيرا الخ وأيضا كلامة كالصريح في أن فقراء المؤمنين حسدوا الكفار على دنياهم واعترضوا على الله سبحانه بالترفيه على أعدائه والتضييق على أحبائه وذلك مما يجل عنه أدنى المؤمنين فكيف أولئك الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وأيضا مقابلة فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالمحققين المحقين يدل على أنهم وحاشاهم لم يكونوا كذلك وهو بديهي البطلان عند المحققين المحقين فتدبر
واللام ظاهرة في التعليل وهي متعلقة بفتنا وما بعدها علة له والسلف كما قال شيخنا إبراهيم الكوراني وقاضي القضاة تقي الدين محمد التنوخي وغيرهما على إثبات العلة لافعاله تعالى استدلالا بنحو عشرة آلاف دليل على ذلك واحتج النافون لذلك بوجوه ردها الثاني في المختبر وذكر الأول في مسلك السداد ما يعلم منه ردها وهذا بحث قد فرغ منه وطوي بساطه وقال غير واحد : هي لام العاقبة ونقل عن شرح المقاصد ما يأبى ذلك وهو لام العاقبة إنما تكون فيما لا يكون للفاعل شعور بالترتب وقت الفعل أو قبلة فيفعل
(7/162)
لغرض ولا يحصل له ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفعل لذلك الغرض الفاسد تنبيها على خطئه ولا يتصور هذا في كلام علام الغيوب بالنظر إلى أفعاله وان وقع فيه بالنظر إلى فعل غيره سبحانه كقوله عز و جل : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إذ ترتب فوائد أفعاله تعالى عليها مبنية على العلم التام نعم أن ابن هشام وكثير من النحاة لم يعتبروا هذا القيد وقالوا : انها لام تدل على الصيرورة والمآل مطلقا فيجوز أن تقع في كلامه تعالى حينئذ على وجه لا فساد فيه ومن الناس من قال : إنها للتعليل مقابلا به احتمال العاقبة على أن فتنا متضمن معنى خذلنا أو على أن الفتن مراد به الخذلان من اطلاق المسبب على السبب
واعترض بأن التعليل هنا ليس بمعناه الحقيقي بناء على أن أفعاله تعالى منزهة عن العلل فيكون مجازا عن مجرد الترتب وهو في الحقيقة معنى لام العاقبة فلا وجه للمقابلة واجيب بأنهما مختلفان بالاعتبار فان اعتبر تشبيه الترتيب بالتعليل كانت لام تعليل وإن لم يعتبر كانت لام عاقبة واعترض بأن العاقبة استعارة فلا يتم هذا الفرق إلا على القول بأنه معنى حقيقي وعلى خلافة يحتاج إلى فرق آخر وقد يقال : في الفرق أن في التعليل المقابل للعاقبة سببه واقتضاء وفي العاقبة مجرد ترتب وأفضاء وفي التعليل الحقيقي يعتبر البعث على الفعل وهذا هو مراد من قال : إن أفعال الله تعالى لا تعلل وحينئذ يصح أن يقال : ان اللام على تقدير تضمين فتنا معنى خذلنا أو أن الفتن مراد به الخذلان للتعليل مجازا لأن هناك تسببا وقتضاء فقط من دون بعث وعلى تقدير عدم القول بالتضمين وإبقاء اللفظ على المتبادر منه وهي لام العاقبة وهو تعليل مجازي أيضا لكن ليس فيه إلا التأدي فان ابتلاء بعضهم ببعض مؤد للحسد وهو مؤد إلى القول المذكور وليس هناك تسبب ولا بعث أصلا والحاصل أن كلا من العاقبة والتعليل المقابل لها مجاز عن التعليل الحقيقي الا أن التعليل المقابل أقرب إليه من العاقبة ومنشأ الأقربية هو الفارق والبحث بعد محتاج إلى تأمل فتأمل وإذا فتح لك فاشكر الله سبحانه
أليس الله بأعلم بالشاكرين
35
- رد لقولهم ذلك واشارة الى أن مدار استحقاق ذلك الانعام معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم والاستفهام للتقرير بعلمه البالغ بذلك والباء الأولى سيف خطيب والثانية متعلقة باعلم ويكفي أفعل العمل في مثله وفي الدر المصون العلم يتعدى بالباء لتضمنه معنى الاحاطة وهو كثير في كلام الناس نحو علم بكذا وله علم به والمعنى أليس الله تعالى عالما على أتم وجه محيطا علمه بالشاكرين لنعمه حتى يستبعدوا انعامه عز و جل عليهم وفيه من الاشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى عليهم من التوفيق للايمان والسبق اليه وغير ذلك شاكرون عليه مع التعريض بأن القائلين القائلين في مهامه الضلال بمعزل عن ذلك كله ما لا يخفى
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا هم كما روي عن عكرمة الذين نهى صلى الله عليه و سلم عن طردهم والمراد بالآيات الآيات القرآنية أو الحجج مطلقا وجوز في الباء أن تكون صلة الايمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الايمان به بسبب نزول الآيات أو النظر فيها والاستدلال بها وفي وصف اولئك الكرام بالايمان بعد وصفهم بما وصفهم سبحانه به تنبيه على حيازتهم لفضيلتي العلم والعمل وتأخير هذا الوصف مع أنه كالمنشأ للوصف السابق لما أن مدار الوعد بالرحمة هو الايمان كما أن مناط النهي عن الطرد فيما سبق هو المداومة على العبادة وتقدم في رواية ابن المنذر عن عكرمة ما يشير إلى أنها نرلت في عمر رضي
(7/163)
اللهالله تعالى عنه وروي ذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأمر صيغة الجمع على هذا ظاهر
وأخرج عبد بن حميد ومسدد في مسنده وابن جرير وآخرون عن ماهان قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليه الصلاة و السلام عليهم شيئا فانصرفوا فانزل الله تعالى الآية فدعاهم صلى الله عليه و سلم فقرأها عليهم وروي عن أنس مثل ذلك وقيل : لم تنزل في قوم بأعيانهم بل هي محمولة على إطلاقها واختاره الامام والمشهور الأول وسياق الآية يرجح ما روي عن ماهان
فقل سلام عليكم أمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم أن يبدأهم بالسلام في محل لا إبتداء به فيه إكراما لهم بخصوصهم كما روي عن عكرمة واختاره الجبائي وقيل : أمره سبحانه أن يبلغهم تحيته عز شأنه وروي ذلك عن الحسن وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن المعنى أقبل عذرهم واعترافهم وبشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه وعليه لا يكون السلام بمعنى التحية وهو أيضا مبني على سبب النزول عنده رضي الله تعالى عنه واختار بعضهم أنه بهذا المعنى أيضا على تقدير أن يراد بالموصول ما روي عن عكرمة فيكون الكلام أمرا له عليه الصلاة و السلام أن يبشرهم بالسلام من كل مكروه بعد انذار مقابليهم
وقوله تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة أي أوجبها على ذاته المقدسة تفضلا واحسانا بالذات لا بتوسط شيء أصلا وفيه احتمال آخر تقدم تبشير لهم بسعة رحمة الله تعالى ولم يعطف على جملة السلام مع أنه محكي بالقول أيضا قيل لأنها دعائية انشائية وقيل : اشارة إلى استقلال كل من مضموني الجملتين وهما السلامة من المكاره ونيل المطالب بالبشارة وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضميرهم اظهار للطف بهم واشعار بعلة الحكم وتمام الكلام في الآية قد مر عن قريب وقوله تعالى : أنه من عمل منكم سوءا بفتح الهمزة كما قرأ بذلك نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بدل من الرحمة كما قال أبو علي الفارسي وغيره وقيل : إنه مفعول كتب والرحمة مفعول له وقيل : انه على تقدير اللام وجوز أبو البقاء أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عليه سبحانه أنه ألخ ودل على ذلك ما قبله وقرأ الباقون إنه بالكسر على الاستئناف النحوي البياني كأنه قيل : وما هذه الرحمة والضمير للشأن ومن موصولة أو شرطية وموضعها مبتدأ و منكم في موضع الحال من ضمير الفاعل وقوله سبحانه : بجهالة حال أيضا على الأظهر أي من عمل ذنبا وهو جاهل أي فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل الجهل والسفه لا من أهل الحكمة والتدبير أو جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة
وعن الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل ثم تاب عن ذلك من بعده أي العمل أو السوء وأصلح أي في توبته بأن أتى بشروطها من التدارك والعزم على عدم العود أبدا فانه غفور رحيم
45
- أي فشأنه سبحانه وأمره مبالغ في المغفرة والرحمة له فان وما بعدها خبر مبتدأ محذوف والجملة خبر من أو جواب الشرط والخبر حينئذ على الخلاف وقدر بعضهم فله أنه الخ أو فعليه أنه الخ وحينئذ يجوز الرفع على الابتداء والرفع على الفاعلية وقيل : إن المنسبك في موضع نصب بفعل محذوف أي فلعلم أنه الخ وقيل : إن هذا تكرير لما تقدم لبعد العهد وقيل : بدل منه وقال أبو البقاء : وكلاهما ضعيف لوجهين
(7/164)
الاول أن البدل لا يصحبه حرف معنى إلا أن يجعل الفاء زائدة وهو ضعيف والثاني أن ذلك يؤدي إلى أن لا يبقى لمن خبر ولا جواب على تقدير شرطيتها والتزام الحذف بعيد وفتح الهمزة هنا قراءة من فتح هناك سوى نافع فانه كباقي قرأ بالكسر
وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية وهي قراءة الأعرج والزهري وأبي عمرو الداني ولم يطلع على ما قيل أبو شامة عليه الرحمة على ذلك فقال : إنه محتمل إعرابي وإن لم يقرأ به وليس كما قال ومن الناس من قال : إن هذه الآية تقوي مذهب المعتزلة حيث ذكر سبحانه في بيان سعة رحمته أن عمل السوء إد قارن الجهل والتوبة والاصلاح فانه يغفر ولذا قيل : إنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أجبتهم لما قالوا لعل الله تعالى يأتي بهم ولم يكن يعلم المضرة ثم انه تاب وأصلح حتى أنه بكى وقال معتذرا : ما أردت إلا خيرا وأورد عليه أنه من المقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزولها في حق عمر رضي الله تعالى عنه لا يدفع الاشكال
وتعقب بأن مراد المجيب أن اللفظ ليس عاما وخطاب منكم لمن كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله تعالى عنه فلا اشكال وانت تعلم أن بناء الجواب على هذه الرواية ليس من المتانة بمكان إذ للخصم أن يقول : لا نسلم تلك الرواية فلعل الأولى في الجواب أن ماذكر في الآية إنما هو هو المغفرة الواجبة حسب وجوب الرحمة في صدر الآية ولا يلزم من تقييد ذلك بما تقدم تقييد مطلق المغفرة به فحينئذ يمكن أن يقال : إنه تعالى قد يغفر لمن لم يتب مثلا إلا أنه سبحانه لم يكتب ذلك على نفسه جل شأنه فافهمه فانه دقيق
وكذلك نفصل أي دائما الآيات أي القرآنية في صفة أهل الطاعة وأهل الاجرام المصرين منهم والأوابين والتشبيه هنا مثله فيما تقدم آنفا ولتستبين سبيل المجرمين
55
- بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل وهي قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور لم يقصد تعليله بها بخصوصها وإنما قصد الاشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر أو علة لفعل مقدر وهو عبارة عن المذكور كما يشير إليه أبو البقاء فيكون مستأنفا أي ولتتبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أن الفعل متعد أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم وقرأ الباقون بالياء التحتية ورفع السبيل على أن الفعل مسند للمذكر وتأنيث السبيل وتذكيره لغتان مشهورتان
هذا ومن باب الاشارة في الآيات إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون قال ابن عطاء : أخبر سبحانه بهذه اةية أن أهل السماع هم الأحياء وهم أهل الخطاب والجواب وأخبر أن الآخرين هم الأموات وقال غيره : المعنى أنه لا يستجيب إلا من فتح الله سبحانه سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفاء الاستعداد ونور الفطرة لا موتى الجهل الذين ماتت غرائزهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فانهم قد صموا عن السماع ولا يمكنهم ذلك بل يبعثهم الله تعالى إليه بالنشأة الثانية ثم يرجعون اليه سبحانه في عين الجمع المطلق للجزاء والمكافأة مع احتجابهم وقيل : الآية إشارة إلى أهل الصحو واهل المحو وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم حيث
(7/165)
فطروا على التوحيد وجبلوا على المعرفة ولهم مشارب من بحر خطاب الله تعالى وأفنان من أشجار رياض كلماته سبحانه وحنين إليه عز و جل تغريد باسمه عن اسمه قيل : إن سمنون المحب كان إذا تكلم في المحبة يسقط الطير من الهواء وروي في بعض الآثار أن الضب بعد أن تكلم مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وشهد برسالته أنشأ يقول : ألا يا رسول الله أنك صادق فبوركت مهديا وبوركت هاديا وبركت في الآزال حيا وميتا وبوركت مولودا وبوركت ناشيا وان فيهم أيضا المحتجبين ومرتكبي الرذائل وغير ذلك وقد تقدم الكلام في هذا المبحث مفصلا ما فرطنا في الكتاب أي كتاب أعمالهم من شيء ثم إلى ربهم يحشرون في عين الجمع والذين كذبوا لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم بآياتنا وهي تجليات الصفات صم فلا يسمعون بآذان القلوب وبكم فلا ينطقون بالسنة العقول في الظلمات وهي ظلمات الطبيعة وغياهب الجهل من يشأ الله يضلله باسبال حجب جلاله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم باشراق سبحات جماله قل أرايتكم إن أتاكم عذاب الله من المرض وسائر أنواع الشدائد أو أتتكم الساعة الصغرى أو الكبرى أغير الله تدعون لكشف ما ينالكم إن كنتم صادقين بل إياه تدعون لكشف ذلك قال بعض العارفين مرجع الخواص إلى الحق جل شأنه من أول البداية ومرجع العوام اليه سبحانه بعد اليأس من الخلق وكان هذا في وقت هذا العارف وأما في وقتنا فنرى العامة إذا ضاق بهم الخناق تركوا دعاء الملك الخلاق ودعوا سكان الثرى ومن لا يسمع ولا يرى
ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فاخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون أي ليطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عن تجلي صفة القهر ولكن قست قلوبهم أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشى الهوى وحب الدنيا وأصل كل ذلك سوء الاستعداد قل أرأيتم ان أخذ الله سمعكم فلم تسمعوا خطابه وأبصاركم فلم تشاهدوا عجائب قدرته وأسرار صنعته وختم على قلوبكم فلم يدخلها شيء من معرفته سبحانه من إله غير الله يأتيكم به أي هل يقدر أحد سواه جلت قدرته على فتح باب من هذه الأبواب كلا بل هو القادر الفعال لما يريد قل لا أقول لكم عندي أي من حيث أنا خزائن الله أي مقدوراته ولا أعلم أي من حيث أنا أيضا الغيب ولا أقول لكم إني ملك أي روح مجرد لا احتاج إلى طعام ولا شراب إن أتبع أي من تلك الحيثية إلا ما يوحى إلي من الله تعالى وله صلى الله عليه و سلم مقام وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وإن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم وليس لطير العقل طيران في ذلك الجو قل هل يستوي الأعمى عن نور الله تعالى وإحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى وظهوره بما شاء حسب الحكمة وعدم تقيده سبحانه بشيء من المظاهر والبصير بذلك فيتكلم في كل مقام بمقال ولا تطرد أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان الذين يدعون ربهم الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال بالغداة أي وقت تجلي الجمال والعشي أي وقت تجلي العظمة والجلال يريدون وجهه أي يريدونه سبحانه بذاته وصفاته ويطلبون تجليه عز و جل لقلوبهم ما عليك من حسابهم أي حساب أعمالهم القلبية من شيء لأن الله تعالى قد تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج وقوله تعالى وما من حسابك عليهم من شيء عطف
(7/166)
علىعلى سابقه أتى به المبالغة على ما مر في العبارة ويحتمل أن يراد لا تطرد السالكين لأجل المحجوبين فما عليك من حساب السالكين أو المحجوبين شيء ومعنى ذلك يعرف بأدنى التفات فتطردهم عن الجلوس معك فتكون من الظالمين لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعياة شأنهم ومن المؤولين من قال إن الآية في أهل الوحدة أي لا تزجر الواصلين الكاملين ولا تنذرهم فان الانذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينجع في الذين طاشوا وتلاشوا في الله تعالى وهم الذين يخصونه سبحانه بالعبادة دائما بحضور القلب وعدم مشاهدة شيء سواه حتى ذواتهم ما عليك من حسابهم فيما يعملون من شيء إذ لا واسطة بينهم وبين ربهم وما من حسابك عليهم من شيء أي لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانك لاشتغالهم به سبحانه عمن سواه ودوام حضورهم معه فتطردهم عما هم عليه من دوام الحضور بدعوتك لهم لشغل ديني فتكون من الظألمين لتشويشك عليهم أوقاتهم والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه وكذلك فتنا بعضهم أي الناس وهم المحجوبون ببعض وهم العارفون ليقولوا أي المحجوبون مشيرين إلى العارفين مستحقرين لهم حيث لم يروا منهم سوى حالهم في الظاهر وفقرهم ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن وغرهم ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش أهؤلاء من الله عليهم بالهداية والمعرفة من بيننا أرادوا أنه سبحانه لم يمن عليهم أليس الله بأعلم بالشاكرين أي الذين يشكرونه حق شكره فيمن عليهم بعظيم جودة وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا أي بواسطتها فقل لهم أنت أيها الوسيلة : سلام عليكم وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه سلام قولا من رب رحيم وباقي الآية ظاهر
وقال الامام الرازي : إن قوله سبحانه : وإذا جاءك الخ مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله واكرامه وآيات وحدانيته وما سواه سبحانه لا نهاية لها فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الاجمال ثم انه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات وهذا شرح اجمالي لا نهاية لتفاصيله ثم ان العبد إذا صار موصوفا بهذه الصفة فعند هذا أمر اللهتعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بأن يقول لهم : سلام عليكم فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة : وقوله سبحانه كتب ربكم على نفسه الرحمة بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة أما السلامة فبالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغيرات والتبدلات وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال انتهى
وقال آخر : الاشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا بمحو صفاتهم في صفاتنا فقل سلام عليكم لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها كتب ربكم على نفسه الرحمة أي الزم ذاته المقدسة رحمة ابدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفا عن كل ما فات أنه من عمل منكم سوءا بجهالة أي ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة ثم تاب من بعده أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى الحضور وأصلح أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه
(7/167)
سبحانه والرياضة فانه عز شأنه غفور يسترها عنه رحيم يرحمه بهبة التمكين ونعمة الاستقامة وكذلك نفصل الآيات أي مثل ذلك التبيين الذي بيناه لهؤلاء المؤمنين نبين لك صفاتنا ولنستبين سبيل المجرمين وهم المحجوبون بصفاتهم الذين يفعلون لذلك ما يفعلون والله تعالى الموفق للصواب
قل إني نهيت أمر له صلى الله عليه و سلم بالرجوع إلى خطاب المصرين على الشرك إثر ما أمر بمعاملة من عداهم بما يليق بحالهم أي قل لهم لاطماعهم الفارغة عن ركونك اليهم وبيانا لكون ما هم عليه هوى محضا وضلالا صرفا إني صرفت ومنعت بالادلة الحقانية والآيات القرآنية أن اعبدوا الذين أي عن عبادة الآلهة الذين تدعون أي تعبدونهم أو تسمونهم آلهة من دون الله سواء كانوا ذوي عقول أم لا
وقد يقال المراد بهم الأصنام إلا أنه عبد بصيغة العقلاء جريا على زعمهم قل لا أتبع أهواءكم تكرير الأمر مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به وايذانا باختلاف القولين من حيث أن الأول حكاية لما مر من جهته تعالى من النهي والثاني لما من جهته عليه الصلاة و السلام من الانتهاء عن عبادة ما يعبدون وفي هذا القول استجهال لهم وتنصيص على أنهم فيما هم فيه من عبادة غير الله تعالى تابعون لأهواء باطلة وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الىين أصلا واشعار بما يوجب النهي والانتهاء وفيه كما قيل إشارة إلى عدم كفاية التقليد الصرف في مثل هذه المطالب وقيل وهو في غاية البعد : إن المراد لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين قد ضللت إذا أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت وهو استئناف مؤكد لانتهائه عليه الصلاة و السلام عما نهي عنه مقرر لكونه غاية الضلال
وقرأ يحيى بن وثاب ضللت بكسر اللام وهو لغة فيه والفتح كما قال أبو عبيدة هو الغالب
وما أنا من المهتدين
65
- عطف على ما قبله والعدول إلى الأسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوام النفي واستمراره لا نفي الدوام والاستمرار والمراد كما قيل وما أنا إذا في شيء من الهدى حتى أعد في عدادهم وفيه تعريض بأن المقول لهم كذلك قل إني على بينة تبيين للحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وبيان لاتباعه إياه إثر ابطال الباطل الذي فيه الكفرة وبيان عدم اتباعه عليه الصلاة و السلام له في وقت الأوقات والبينة كما قال الراغب الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أي الانفصال واياما كان فالمراد بها القرآن كما قال الجبائي وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد إني على يقين وعن الحسن أن المراد بها النبوة وهو غير ظاهر كتفسيرها بالحجج العقلية أو ما يعمها والتنوين للتفخيم أن بينة جليلة الشأن من ربي أي كائنة من جهته سبحانه ووصفها بذلك للتأكيد ما أفاده التنوين
وجوز أن تكون من اتصالية وفي الكلام مضاف أي بينة متصلة بمعرفة ربي وقيل : هي أجلية متعلقة بما تعلق به الخبر ويقدر المضاف أيضا أي كائن على بينة لأجل معرفة ربي والأول أظهر وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضميره صلى الله عليه و سلم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى
وقوله سبحانه : وكذبتم به كما قال أبو البقاء جملة إا مستأنفة أو حالية بتقدير قد في المشهور جيء
(7/168)
بها لاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه أو للتفرقة بينه عليه الصلاة و السلام وبينهم والضمير للبينة والتذكير باعتبار المعنى المراد وقال الزجاج : لأنها بمعنى البيان وجوز أن يكون الضمير لربي على معنى إني صدقت به ووحدته وأنتم كذبتم به وأشركتم
وقوله تعالى : ما عندي ما تستعجلون به استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالقرآن وهو عدم مجيء ما وعد فيه من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم بطريق الاستهزاء أو الألزام بزعمهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وقال الامام : إنه عليه الصلاة و السلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك والقوم لاصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك فقال لهم : ما عندي الخ وكأن الكلام مبين أيضا لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لعدم الالتفات إلى نهي الرسول صلى الله عليه و سلم عنه والاخبار بنزول العذاب بسببه أي ليس عندي ما يستعجلونه من العذاب الموعود به وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيب القرآن أو عدم الالتفات إلى النهي عنه والوعيد عليه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به أي ليس أمره مفوضا الي إن الحكم أي ما الحكم في تأخير ذلك إلا لله وحده من غير أن يكون لغيره سبحانه دخل ما فيه بوجه من الوجوه
واختار بعضهم التعميم في متعلق الحكم أي ما الحكم في ذلك تأخيرا أو تعجيلا أو ما الحكم في جميع الأشياء فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ورجح الأول بان المقصود من قوله سبحانه ان الحكم الخ التاسف على وقوع خلاف المطلوب كما يشهد به موارد استعماله وهو على التأخير فقط يقص أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره كائنا ما كان أو يبينه بيانا شافيا من قص الأثر أو الخبر وهو من قبيل التكميل للخاص على ما اخترناه باردافه بأمر عام كقوله تعالى : بيده الملك وهو على كل شيء قدير وقرأ الكسائي وغيره يقضي من القضاء وحذفت الياء في الخط تبعا لحذفها في اللفظ لالتقاء الساكنين وأصله أن يتعدى بالباء لا بنفسه فنصب الحق إما على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه أي يقضي القضاء الحق أو على أنه مفعول به ويقضي متضمن معنى ينفذ أو هو متعد من قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره كقول الهذلي مسرودتان قضاهما داود وفي الكلام على هذا استعارة تبعية واحتج مجاهد للقراءة الأولى بعدم الياء المحتاج إليها في الثانية وقد علمت فساده
واحتج أبو عمرو للثانية بقوله سبحانه وهو خير الفاصلين
75
- فان الفصل إنما يكون في القضاء لا في القصص ولو كان ذلك في الآية لقيل خير القاصين وأجاب أبو علي الفارسي بأن القصص ههنا بمعنى القول وقد جاء الفصل فيه قال تعالى : انه لقول فصل
كتاب أحكمت آياته قم فصلت
ونفصل الآيات على أنك تعلم بادنى التفات الى أن القص هنا قد يؤول بلا تكلف وبعد الى معنى القضاء وفي ارشاد العقل السليم أن أصل القضاء الفصل بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عنالتعدي إلى صاحبه وجملة وهو خير الخ تذييل مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق ههنا
(7/169)
بطريقبطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل فافهم
واحتج بعض أهل السنة بقوله سبحانه : ان الحكم الخ لافادته الحصر على أنه لا يقدر العبد على شيء من الأشياء إلا اذا قضى الله تعالى به فيمتنع منه فعل الكفر الا اذا قضى الله تعالى به وحكم وكذلك في جميع الأفعال وقالت المعتزلة : إن قوله سبحانه : يقضي الحق معناه ان كل ما يقضي به فهو الحق وهذا يقتضي أن لا ييد الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق ولا يخفى ما فيه قل لو أن عندي أي في قدرتي وامكاني ما تستعجلون به من العذاب لقضي الأمر بيني وبينكم أي بأن ينزل عليكم اثر استعجالكم وفي بناء الفعل للمفعول من الايذان بتعين الفاعل الذي هو الله جلت عظمته وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب ما لا يخفى
وقال الزمخشري ومن تبعه : المعنى لو كان ذلك في مكنتي لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي عز و جل وامتعاضا من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعا ولا يساعده المقام ومثله حمل ما يستعجلون به على الآيات المقترحة وقضاء الأمر على قيام الساعة والله أعلم بالظالمين أي بحالهم وبأنهم مستحقون للامهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوض الامر الي ولم يقض بتعجيل العذاب والجملة مقررة لما أفادته الجملة الامتناعية من انتفاء كون أمر العذاب مفوضا اليه عليه الصلاة و السلام المستتبع لانتفاء قضاء الأمر وتعليل له
وقيل : هي في معنى الاستدراك كأنه قيل : لو قدرت أهلكتكم ولكن الله تعالى أعلم بمن يهلك من غيره وله حكمة في عدم التمكين منه وأيا ما كان فلا حاجة إلى حذف مضاف وزعم بعضهم ذلك والتقدير وقت عقوبة الظألمين وهو كما ترى والله تعالى أعلم
وعنده مفاتح الغيب أي مفاتيحه كما قريء به فهو جمع مفتح بكسر الميم وهو كمفتاح آلة الفتح وقيل : أنه جمع مفتاح كما قيل في جمع محراب محارب والكلام على الاستعارة حيث شبه الغيب بالاشياء المستوثق منها بالاقفال وأثبت له المفاتيح تخييلا وهي باقية على معناها الحقيقي وجعلها بمعنى العلم قرينة المكنية بناء على أنه لا يلزم أن تكون حقيقة بعيد وأبعد منه تكلف التمثيل وقيل : الأقرب أن يعتبر هناك استعارة مصرحة تحقيقية بان يستعار العلم للمفاتح وتجعل القرينة الاضافة الى الغيب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أن المراد من المفاتح الخزائن فهي حينئذ جمع مفتح بفتح الميم وهوالمخزن
وجوز الواحدي أن يكون مصدرا بمعنى الفتح وليس المتبادر وفي الكلام استعارة مكنية تخلييلية وتقديم الخبر لأفادة الحصر والمراد بالغيب المغيبات على سبيل الاستغراق والمقصود على كل تقدير أنه سبحانه هو العالم بالمغيبات جميعها كما هي ابتداء لايعلمها إلا هو في موضع الحال من مفاتح والعامل فيها كما قال أبو البقاء ما تعلق به الظرف أو نفسه ان رفعت به ويجوز أن يكون تأكيدا لمضمون ما قبله والكلام اما مسوق لبيان اختصاص المقدورات الغيبية به سبحانه من حيث العلم أثر بيان اختصاص كلها به تعالى من حيث القدرة والمعنى أن ما تستعجلون به من العذاب ليس مقدورا لي حتى ألزمكم بتعجيله ولا
(7/170)
معلوما لدي حتى أخبركم بوقت نزوله بل هو مما يختص به جل شأنه قدرة وعلما فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبينة على الحكم وأما لاثبات العلم العام له سبحانه وهو علمه بكل شيء بعد اثبات العلم الخاص وهو علمه بالظالمين وذكر الامام أن معنى الآية على تقدير ان يراد بالمفاتح الخزائن أنه سبحانه القادر على جميع الممكنات كما في قوله تعالى : وان من شيء الا عندنا خزائنه
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : مفاتح الغيب خمس وتلا أن الله عنده علم الساعة الآية وروي نحوه عن ابن مسعود وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا نحو ذلك ولعل الحمل على الاستغراق أولى وما في الأخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر إذ لا شبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه أيضا إلا الله تعالى
ويعلم ما في البر والبحر عطف على جملة وعنده مفاتح الخ أو على الجملة قبله وهو ظاهر على تقدير حاليتها وأما على تقدير كونها تأكيدا فقد منعه البعض لأن المعطوف لا يصلح للتأكيد ولو كان علمه سبحانه بالمغيبات عند المحققين على وجه التفصيل والاختصاص لأن علم الغيب والشهادة متغايران فلا يؤكد أحدهما الآخر نعم قيل : من لم يجعلها مؤكدة جوز العطف عليها فيكون الجملتان مستأنفتين لتفصيل علمه سبحانه وشموله لا غير وجوز أن يكون المجموع مؤكدا لاشتماله على مضمون ما قبله لأن ليس توكيدا اصطلاحيا والمراد من هذه الجملة كما قال غير واحد بيان تعلق علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملة له وتنبيها على أن الكل بالنسبة الى علمه المحيط سواء والمراد من من البر الصحراء ومن البحر خلافه وفي القاموس أنه الماء الكثير أو الملح فقط ويجمع جمعه أبحر وبحور وبحار وتصغيره أبيحر لا بحير وعن مجاهد أن المراد بالبر القفار وبالبحر كل قرية فيها ماء وهو خلاف الظأهر وأيا ما كان فالمعنى يعلم ما فيهما من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها أي وما تسقط ورقة من أي شجرة كانت إلا عالما بها فمن زائدة في الفاعل والجملة بعد إلا في موضع الحال منه وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النفي والتفريغ في الحال شائع سائغ
وجوز أن تكون في موضع النعت للنكرة والكلام مسوق كما قيل لبيان تعلق علمه بأحوال المشاهدات المتغيرة بعد بيان تعلقه بذواتها فان تخصيص حال السقوط بالذكر ليس إلا بطريق الاكفاء بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكر أحوال الورقة وما عطف عليها خاصة دون أحوال سائر ما في البر والبحر من الموجودات التي لا يحيط بها نطاق الحصر باعتبار أنها أنموذج لاحوال سائرها قيل : ولعل الاكتفاء بحال السقوط دون الاكتفاء بغيرها من الأحوال لشدة ملاءمتها لما سيأتي نإ شاء الله تعالى في آية الوفي ولأن التغيير فيها أظهر فهو أوفق بما سيقت له الآية وقيل : لأن العلم بالسقوط لكونه من الأحوال الساقطة التي يغفل عنها يستلزم العلم بغيره من الأحوال المعتنى بها فتدبر فكأنه قيل : وما تتغير ورقة من حال إلى حال إلا يعلمها ولا حبة عطف على ورقة
(7/171)
وقوله سبحانه في ظلمات الأرض متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة مفيدة لكمال ظهور علمه تعالى : والمراد من ظلمات الأرض بطونها وكنى بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك فيه كما لا يدرك في الظلمة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد ظلمات الأرض ما تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع أو تحت حجر أو شيء وقوله تعالى : ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة أيضا داخل معها في حكمها والمراد بالرطب واليابس رطب ويابس من شأنهما السقوط كالثمار مثلا لاقتضاء العطف ذلك وقوله سبحانه إلا في كتاب مبين
95
- كالتكرير لقوله سبحانه إلا يعلمها لأن معناها واحد في المآل سواء أريد بالكتاب المبين علمه تعالى أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته سبحانه وإلى هذا ذهب الزمخشري وأراد كما قال السعد : أنه تكرير من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فهو صفة للمذكورات كما أن إلا يعلمها صفة لورقة وأورد عليه بأن صفة شيء كيف تكون تكريرا لصفة شيء آخر معنى وأجيب بانه غير وارد لأن الورقة داخلة في الرطب واليابس فلا تغاير بحسب المعنى فيصح ما ذكر وقيل : إنه بدل من الاستثناء الأول بدل الكل إن فسر الكتاب بالعلم وبدل الاشتمال ان فسر باللوح وفيه تأمل وقريء ولا حبة ولا رطب ولا يابس بالرفع على العطف على محل ورقة وخص بعضهم هذه القراءة بالأخيرين
وجوز أن يكون الرفع على الابتداء والخبر الا في كتاب قيل وهو الأنسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذ لما ليس من شأنه السقوط وقد جعلهما غير واحد شاملين لجميع الأشياء لأن الأجسام كلها لا تخلوا من أن تكون رطبة أو يابسة ويدخل في ذلك الحار والبارد والمراد من كل معناه اللغوي لا مصطلح الاطباء كما لا يخفى وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرطب ما ينبت واليابس ما لا ينبس وفي رواية أخرى عنه أن الأول الماء والثاني الثرى وروى أبو الشيخ عنه ما يفيد العموم ولعله الأولى بالقبول وقيل : الرطب الحي واليابس الميت
وروى الامامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال : الورقة السقط والحبة الولد وظلمات الأرض والرطب ما يحيى واليابس ما يغيض وأنا أجل أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه عن التفوه بهذا التفسير إذ هو خلاف الظأهر جدا ومثله في عدم التبادر ما أخرجه أبو الشيخ عن محمد بن جحادة أنه قال : إن لله تعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فاذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده وذلك قوله سبحانه : وما تسقط من ورقة ثم ان تفسير الكتاب باللوح هو الذي مشى عليه جماعة من المفسرين منهم الزجاج فقد قال : إنه تعالى أثبت المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال سبحانه : إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وفي رواية لمسلم ان الله تعالى كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة وفائدة ذلك أمور : أحدها اعتبار الملائكة عليهم السلام موافقات المحدثات للمعلومات الالهية وثانيهما وعليه اقتصر الحسن تنبيه المكلفين على عدم اهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب حيث ذكر أن الورقة والحبة في الكتاب وثالثها عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب ولذا جاء جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة وهذا الكتاب يسمى اللوح المحفوظ لحفظه عن التحريف ووصول الشياطين اليه أو من المحور والاثبات بناء على أنهما إنما يكونان في صحف الملائكة دونه والبلخي اختار
(7/172)
أن معنى قوله تعالى في كتاب مبين أنه محفوظ غير منسي ولا مغفول عنه كما يقول القائل لغيره ما تصنعه مسطور مكتوب عندي فانه إنما يريد أنه حافظ له يريد مكافأته عليه وأنشد لذلك :
إن لسلمى عندنا ديوانا
وذكر الامام ههنا ما سماه دقيقة وهو أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الاعراض عن قضايا الحس والخيال والفوا استحضار المعقولات المجردة وهم كالكبريت الأحمر وعنده مفاتح الغيب من تلك القضايا وحيث أريد ايصالها إلى كل عقل لأن القرآن إنما نزل لينتفع به جميع الخلق ذكر مثال من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوما لكل واحد فذكر ويعلم ما في البر والبحر ليكشف به عن حقيقة عظة المعقول وقدم ذكر البر لأن الانسان قد شاهد أحواله وكثرة ما فيه
وأما البحر فاحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب فاذا استحضر الخيال معلومات البر والبحر وعرف أن مجموعها حقير جنب ما دخل في دائرة عموم و عنده مفاتح الغيب يصير ذلك مقويا ومكملا للعظمة الحاصلة تحت ذلك ثم كشف سبحانه عن عظمة البر والبحر بقوله عز و جل وما تسقط من ورقة إلا يعلمها وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في الأرض من المدن والقرى والمفاوز والمهالك ثم يستحضر كم فيها من النجم والشجر ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة الا والحق يعلمها ثم ذكر مثالا أشد هيبة وهو ولا حبة الخ
وذلك لأن الحبة تكون في غاية الصغر و ظلمات الأرض يخفى فيها أكبر الأجسام وأعظمها فاذأ سمع العاقل أن تلك الحبة الصغيرة الملقات في ظلمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج من علمه سبحانه انتبه غاية الانتباه وفاز من مجموع ذلك بالحظ الأوفر من المعنى المشار اليه في صدر الآية ثم انه تعالى لما قوى ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة عاد إلى ذكر تلك القضية بعبارة أخرى وهي قوله عز اسمه ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب فانه عين ما تقدم وهذا مبني على أحد الوجوه في الآية فلا تغفل وفيها دليل على أن الله تعالى عالم بالجزئيات
ونسبت المخالفة فيه للفلاسفة والحق أنهم لا ينكرون ذلك وانما ينكرون علمه سبحانه بها بوجه جزئي وهو بحث طويل الذيل وكذا بحث علمه تعالى من حيث هو وقد ألفت فيه الرسائل وصار معترك أفهام الأواخر والأوائل وسبحان من لا يقدر قدره غيره
وهو الذي يتوفاكم بالليل أي ينيمكم فيه كما نقل عن الزجاج والجبائي ففيه استعارة تبعية حيث استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال احساس الحواس الظاهرة والتمييز قيل : والباطنة أيضا واصله قبض الشيء بتمامه ويقال : توفيت الشيء واستوفيته بمعنى ويعلم ما جرحتم بالنهار أي ما كسبتم وعلمتم فيه من الأثم كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة وهو الذي يقتضيه شياق الآية فانه للتهديد والتوبيخ ولهذا أوثر يتوفاكم على ينيمكم
(7/173)
ونحوه و جرحتم على كسبتم ادخالا للمخاطبين الكفرة في جنس جوارح الطير والسباع وبعضهم يجعل الخطاب عاما والمراد من الليل والنهار الجنس المتحقق في كل فرد من افرادهما إد بالتوفي والبعث الموجودين فيهما متحقق قضاء الاجل المسمى المترتب عليهما والباء في الموضعين بمعنى كما أشرنا إليه
والمراد بعلمه سبحانه ذلك كما قيل : علمه قبل الجرح كما يلوح به تقديم ذكره على البعث أي يعلم ا تجرحون وصيغة الماضي للدلالة على التحقق وتخصيص التوفي بالليل والجرح بالنهار للجري على السنن المعتاد وإلا فقد يعكس ثم يبعثكم فيه أي يوقضكم في النهار وهل هو حقيقة في هذا المعنى أو مجاز فيه قولان والمتبادر منه في عرف الشرع احياء الموتى في الآخرة وجعلوه ترشيحا للتوفي وهو ظاهر جدا على المتبادر في عرف الشرع لاختصاصه بالمشبه به ويقال غيره : انه لا يشترط في الترشيح اختصاصه بالمشبه به بل أن يكون أخص به بوجه كما قرروه في قوله
له لبد أظفاره لم تقلم
والبعث في الموتى أقوى لأن عدم الاحساس فيه كذلك فازالته أشد وقد صرحوا أيضا أن الترشيح يجوز أن يكون باقيا على حقيقته تابعا للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها
ويجوز أن يكون مستعارا من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له والجملة عطف على يتوفاكم وتوسيط ويعلم الخ بينهما لبيان ما في بعثكم من عظيم الاحسان اليهم بالتنبيه على أن ما يكسبونه من الاثم مع كونه مما يستأهلون به ابقاءهم على التوفي بل اهلاكهم بالمرة يفيض سبحانه عليهم الحياة ويمهلهم كما ينبيء عنه كلمة التراخي كأنه قيل : هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس الأنهر مع علمه جل شأنه بما ترتكبون فيها ليقضي أجل مسمى معين لكل فرد وهو أجل بقائه في الدنيا وتكلف الزمخشري في تفسير الآية فجعل ضمير فيه جاريا مجرى أسم الاشارة عائدا على مضمون كونهم متوفين وكاسبين و في بمعنى لام العلة كما في قولك : فيم دعوتني والأجل المسمى هو الكون في القبور أي ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ومن أجله ليقضي الأجل الذي سماه سبحانه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم وما ذكرناه هو الذي ذهب إليه الزجاج والجبائي وغالب المفسرين وهو عري عن التكلف الذي لا حاجة اليه
وزعم بعضهم أن الداعي اليه هو أن قوله تعالى : ويعلم ما جرحتم بالنهار دال على حال اليقظة وكسبهم فيها وكلمة ثم تقتضي تأخير البعث عنها فلهذا عدل الرمخشري إلى ما عدل اليه وقال بعض المحققين : إن قوله سبحانه : ويعلم الخ إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل والواو للحال ولا دلالة فيه على الايقاظ من هذا التوفي وان الايقاظ متأخر عن التوفي وأن قولنا : يفعل ذلك التوفي لتقضي مدة الحياة المقدرة كلام منتظم غاية الانتظام ولا يخفى أن فيه تكلفا أيضا مع أن واو الحال لا تدخل على المضارع إلا شذوذا أو ضرورة في المشهور ووجه سنان التراخي المفاد بثم بأن حقيقة الاماتة في الليل تتحقق في أوله والايقاظ متراخ عنه وإن لم يتراخ عن جماعته
واعترض بأنه حينئذ لا وجه لتوسيط ويعلم الخ بينهما وفيه نظر يعلم مما ذكرنا ثم اليه سبحانه لا إلى غيره أصلا مرجعكم أي رجوعكم ومصيركم بالموت ثم ينبئكم بما كنتم تعملون
6
- بالمجازاة
(7/174)
بأعمالكم التي كنتم داومتم على عملها في الدنيا
وهو القاهر فوق عباده فلا يعجزه أحد منهم ولا يحول بينه سبحانه وبين ما يريده فيها و فوق نصب على الظرفية حال أو خبر بعد خبر وقد تقدم الكلام مبسوطا فيما للعلماء في هذه الآية ويرسل عليكم حفظة من الملائكة وهم الكرام الكاتبون المذكورون في قوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين أو المعقبات المذ : ورة في قوله سبحانه : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله وقيل : المراد ما يشمل الصنفين ويقدر المحفوظ الأعمال والأنفس الأعم وعن قتادة يحفظون العمل والرزق والأجل
والذي ذهب اليه اكثر المفسرين المعنى الاول في الحفظة وهم عند بعض يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات باسرها كما يشعر بذلك ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وجاء في الاثر تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وقال آخرون : لا يكتبون المباحات إذ لايترتب عليها شيء
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مع كل انسان ملكين أحدهما عن يمينه والاخر عن يساره فاذا تكلم الانسان بحسنة كتبها من على اليمين وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار لتنتظره لعله يتوب منها فان لم يتب كتب عليه والمشهور أنهما على الكتفين وقيل : على الذقن وقيل : في الفم يمينه ويساره واللازم الايمان بهما دون تعيين محلهما والبحث عن كيفية كتابتهما وظواهر الآيات تدل على أن الاطلاع هؤلاء الحفظة على الاقوال والافعال كقوله تعالى : ما يلفظ من قول الخ وقوله سبحانه : يعلمون ما تفعلون واما على صفات القلوب كالايمان والكفر مثلا فليس في الظواهر ما يدل على اطلاعهم عليها والأخبار بعضها يدل على الاطلاع كخبر إذا هم العبد بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة فان الهم من أمال القلب كالايمان والكفر وبعضها يدل على عدم الاطلاع كخبر إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف محكمة فيقول الله تعالى اقبلوا هذا وردوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل فيقول سبحانه : ان عمله كان لغيري وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي وفي رواية مرسلة لابن المبارك إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى فيستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى اليهم إنكم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص في عمله فاجعلوه في سجين الحديث والقائل بأنهم لا يكتبون إلا الأعمال الظأهرة يقول : معنى كتبت في حديث الهم بالحسنة ثبتت عندنا وتحققت لا كتبت في صحف الملائكة
والقائل بأنهم يكتبون الأعمال القلبية يقول باستثناء الرياء فيكتبون العمل دونه ويخفيه الله تعالى عنهم ليبطل سبحانه عمل المرائي بعد كتابته إا في الآخرة أو في الدنيا زيادة في تنكيله وتفظيع حاله ولعل هذا كما يفعل به يوم القيامة من رده إلى النار بعد تقريبه من الجنة
فقد روى أبو نعيم والبيهقي وابن عساكر وابن النجار أنه يؤمر بناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنهما لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون وأةخرون بمثلها فيقولون : ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا قال : ذلك أردت بكم يا أشقياء
(7/175)
كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني واجللتم الناس ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتزكوا قاليوم أذيقكم العذاب على ما حرمتم من الثواب والكل عندي محتمل ولا قطع فتدبر
وأختلفوا في أن الحفظة هل يتجددون كل يوم وليلة أم لا فقيل : إنهم يتجددون وملائكة الليل غير ملائكة النهار دائا إلى الموت وقيل : إن ملائكة الليل يذهبون فتأتي ملائكة النهار ثم إذا جاء الليل ذهبوا ونزل ملائكة الليل الأولون لا غيرهم وهكذا وقيل : إن ملائكة الحسنات يتجددون دون ملائكة السيئات وهو الذي يقتضيه حسن الظن بالله تعالى واختلف في مقرهم بعد موت المكلف فقيل : يرجعون مطلقا إلى معابدهم في السماء وقيل : يبقون حذاء قبر المؤمن يستغفرون له حتى يقوم من قبره وصحح غير واحد أن كاتب الحسنات لا ينحصر في واحد لحديث رأيت كذا وكذا يبتدرونها أيهم يكتبها أول والحكمة في هؤلاء الحفظة أن الملكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح إذا وثق بلطف سيده واعتمد على ستره وعفوه لم يحتشم منه احتشامه من خدمة المطلعين عليه وقول الامام : يحتمل أن تكون الفائدة في الكتابة أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن بخلاف وزن الصحائف فانه ممكن ليس بشيء كما لا يخفى والقول بوزن الصحائف أنفسها قول لبعضهم هذا ويرسل إا مستأنف أو عطف على القاهر لأنه بمعنى الذي يقهر وعطفه كما زعم أبو البقاء على يتوفاكم وما بعده من الأفعال المضارعة ليس بشيء كاحتمال جعله حالا من الضمير في القاهر أو في الظرف لأن الواو الحالية كما أشرنا اليه آنفا لا تدخل على المضارع وتقدير المبتدأ لا يخرجه عن الشذوذ على الصحيح وعليكم متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء وتقديمه على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل : هو متعلق بمحذوف وقع حالا من حفظة إد لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم
وقيل : متعلق بحفظة وهو جمع حافظ ككتبة وكاتب و حتى في وقله تعالى : حتى إذا جاء أحدكم الموت هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها كانه قيل : ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاء أسباب الموت ومباديه توفته رسلنا الآخرون المفوض اليهم ذلك وانتهى هناك حفظ الحفظة والمراد بالرسل على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أعوان ملك الموت ونحوه ما أخرجناه عن قتادة قال : إن ملك الموت له رسل يباشرون قبض الأرواح ثم يدفعونها إلى ملك الموت
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يلي ذلك ثم يدفع الروح ان كانت مؤمنة إلى ملائكة الرحمة وان كانت كافرة إلى ملائكة العذاب والأكثرون على أن المباشر ملك الموت وله أعوان من الملائكة واسناد الفعل الى المباشر والمعاون معا مجاز كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم وقد جاء اسناد الفعل الى ملك الموت فقط باعتبار أنه المباشر والى الله تعالى باعتبار أنه سبحانه الآمر الحقيقي وقد أشرنا فيما تقدم ان بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم قال : ان المتوفي تارة يكون
(7/176)
هو الله تعالى بلا واسطة وتارة الملك وتارة الرسل وغيره وذلك حسب اختلاف أحوال المتوفى وعن الزجاج وهو غريب أن المراد بالرسل هنا الحفظة فيكون المعنى يرسلهم للحفظ في الحياة والتوفي عند مجيء الممات وقرأ حمزة توفاه بالف ممالة وقريء في الشواذ تتوفاه وهم اي الرسل لا يفرطون
16
- بالتواني والتأخير
وقرأ الأعرج يفرطون بالتخفيف من الافراط وهو مجاوزة الحد وتكون بالزيادة والنقصان أي لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان والجملة حال من رسلنا وقيل : مستأنفة سيقت لبيان اعتنائهم بما أمروا به ثم ردوا عطف على توفته والضمير كما قيل للكل المدلول عليه بأحد وهو السر في مجيئه بطريق الالتفات والافراد أولا والجمع آخرا لوقوع التوفي على الانفارد والرد على الاجتماع
وذهب بعض المحققين أن فيه التفاتا من الخطاب الى الغيبة ومن المتكلم اليها لأن الرد يناسبه الغيبة بلا شبهة وان لم يكن الرد حقيقة لأنهم ما خرجوا من قبضة حكمه سبحانه طرفة عين ونقل الامام القول بعود الضمير على الرسل أي أنهم يموتون كما يموت بنو آدم والأول هو الذي عليه غالب المفسرين المراد ثم ردوا بعد البعث والحشر أو من البرزخ إلى الله أي إلى حكمه وجزائه أو الى موضع العرض والسؤال مولاهم أي مالكهم الذي يلي أمورهم على الاطلاق ولا ينافي ذلك قوله تعالى : وان الكافرين لا مولى لهم لأن المولى فيه بمعنى الناصر الحق أي العدل أو مظهر الحق أو الصادق الوعد
وذكر حجة الاسلام قدس الله سره ان الحق مقابل الباطل وكل ما يخبر عنه فاما باطل مطلقا واما حق مطلقا واما حق من وجه باطل فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقا والواجب بذاته هو الحق مطلقا والممكن بذاته الواجب بغيره حق من وجه باطل من وجه فمن حيث ذاته لا وجود له فهو باطل ومن جهة غيره مستفيد للوجود فهو حق من الوجه الذي يلي مفيد الوجود فمعنى الحق المطلق هو الموجود الحقيقي بذاته الذي منه يؤخذ كل حقيقة وليس ذلك إلا الله تعالى وهذا هو مراد القائل إن الحق هو الثابت الباقي الذي لا فناء له وفي التفسير الكبير أن لفظ المولى والولي مشتقان من القرب وهو سبحانه القريب ويطلق المولى أيضا على المعتق وذلك كالمشعر بأنه جل شأنه أعتقهم من العذاب وهو المراد من قوله سبحانه سبقت رحمتي غضبي وأيضا أضاف نفسه إلى العبيد وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة وأيضا قال عز اسمه : مولاهم الحق والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفاته الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال سبحانه : أفرأيت من اتخذ الهه هواه فلما مات الانسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرف المولى الحق انتهى وهو كما ترى
وادعى هذه الآية من أدل الدلائل على أن الانسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية لأن صريحها يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله تعالى والميت مع كونه ميتا لا يمكن أن يرد إلى الله تعالى لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة لتعاليه سبحانه عنهما بل يجب أن يكون مفسرا بكونه منقادا لحكم الله تعالى مطيعا لقضائه وما لم يكن حيا لا يصح هذا المعنى فيه فثبت أنه حصل ههنا موت وحياة أما الموت
(7/177)
فنصيب البدن فتبقى الحياة نصيب الروح ولما قال سبحانه : ردوا وثبت أن المردود هو الروح ثبت أن الانسان ليس إلا هي وهو المطلوب وكذا تشعر بكون الروح موجودة قبل التعلق بالبدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون لو كانت موجودة كذلك ونظيره قوله سبحانه ارجعي إلى ربك وقوله تعالى : ثم إليه مرجعكم ولا يخفى ما في ذلك فتدبر وقريء الحق بالنصب على المدح
وجوز أن يكون على أنه صفة للمفعول المطلق أي الرد الحق فلا يكون حينئذ المراد به الله عز و جل والأول أظهر ألا له الحكم يومئذ صورة ومعنى لا لغيره بوجه من الوجوه واستدل بذلك على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله تعالى حكم وهو أخذ الثواب وهو ينافي ما دلت عليه الآية من الحصر وهو أسرع الحاسبين
26
- يحاسب جميع الخلائق بنفسه في أسرع زمان وأقصره ويلزم هذا أن لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن وفي الحديث أنه تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة وفي بعض الاخبار في مقدار نصف يوم وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يحاسب الخلق بنفسه بل يأمر سبحانه الملائكة عليهم السلام فيحاسب كل واحد منهم واحدا من العباد وذهب آخرون إلى أنه عز و جل إنما يحاسب المؤمنين بنفسه وأما الكفار فتحاسبهم الملائكة لأنه تعالى لو حاسبهم لتكلم معهم وذلك باطل لقوله تعالى في صفتهم : ولا يكلمهم وأجاب الأولون عن هذا بأن المراد أنه تعالى لا يكلمهم بما ينفعهم فان ظواهر الآيات ومنها ما تقدم في هذه السورة من قوله تعالى : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أي شركاؤكم الذين كنتم تزعمون وقوله سبحانه ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون تدل على تكليمه تعالى لهم في ذلك اليوم ثم ان كيفية ذلك الحساب مما لا يحيط بتفصيلها عقول البشر من طريق الكفر أصلا وليس لنا إلا الايمان به مع تفويض الكيفية وتفصيلها إلى عالم الغيب والشهادة وادعى الفلاسفة أن كثرة الافعال وتكررها يوجب حدوث الملكات الراسخة وأنه يجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة بل يجب ان يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في ذلك وحينئذ يقال إن الأفعال الصادرة من اليد هي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل فتكون الأيدي والأرجل شاهدة على الانسان بمعنى أن تلك اةثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الافعال الصادرة عن هذ الجوارح فكان ذلك الصدور جاريا مجرى الشهادة بحصول تلك الآثار في جواهر النفس وأما الحساب فالمقصود منه استعلام ما بقي من الدخل والخرج ولما كان لكل ذرة من الأعمال أثر حسن أو قبيح حسب حسن العمل وقبحه ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها معارضا بالبعض وبعد حصول المعارضة يبقى في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد وقدر آخر من الذميم فاذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك وهو إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه فيقطع فيه تعلق النفس من البدن فعبر عن هذ الحالة بسرعة الحساب ورعم من نقل عنهم أنه من تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية وأنا أقول : راحت مشرقة ورحت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
(7/178)
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر أي قل لهم تقريرا بانحطاط شركائهم عن رتبة الألهية والمراد من ظلمات البر والبحر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شدائدهما وأهوالهما التي تبطل الحواس وتدهش العقول والعرب كما قال الزجاج تقول لليوم الذي يلقى فيه شدة يوم مظلم حتى أنهم يقولون : يوم ذو كواكب أي أنه يوم قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته وأنشد : بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ومن الأمثال القديمة رأي الكواكب ظهرا أي أطلم عليه يومه لاشتداد الأمر فيه حتى كأنه أبصر الأجم نهارا ومن ذلك قول طرفة : ان تنوله فقد تمنعه وتريه النجم يجري بالظهر وقيل : المراد ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة البحر وقيل : ظلمة البر بالخسف فيه وظلمة البحر بالغرق فيه والظلمات على الأول كما قيل استعارة وعلى الاخيرين حقيقة ومنهم من جعلها كناية عن الخسف والغرق والكلام في الكناية معلوم ومن جوز جمع الحقيقة والمجاز فسر الظلمات بظلمة الليل والغيم والبحر والتيه والخوف وقرأ يعقوب وسهل ينجيكم بالتخفيف من الانجاء والمعنى واحد وقوله تعالى : تدعونه في موضع الحال من مفعول ينجيكم كما قال ابو البقاء والضمير ان أي من ينجيكم منها حال كونكم داعين له
وجوز أن يكون حالا من فاعله أي من ينجيكم منها حال كونه مدعوا من جهتكم تضرعا وخفية أي اعلانا وإسرارا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فنصبها على المصدرية وقيل : بنزع الخافض والاعلان والاسرار يحتمل أن يراد بهما ما باللسان ويحتمل أن يراد بهما ما باللسان والقلب وجوز أن يكونا منصوبين على الحال من فاعل تدعون أي معلنين ومسرين
وقرأ أبو بكر عن عاصم خفية بكسر خال وهو لغة فيه كالاسوة والاسوة وقوله سبحانه لئن أنجينا في محل النصب على المفعولية لقول مقدر وقع حالا من فاعل تدعون أيضا أي قائلين : لئن أنجيتنا والكوفيون يحكون بما يدل على معنى القول كتدعون من غير تقدير والصحيح التقدير وقيل : إن الجملة القسمية تفسير للدعاء فلا محل لها وقرا أهل الكوفة أنجانا بلفظ الغيبة مراعاة لتدعونه دون حكاية خطابهم في حالة الدعاء غير أن عاصما قرأ بالتفخيم والباقون بالامالة وقوله سبحانه من هذه إشارة إلى ما هم فيها المعبر عنها بالظليل لنكونن من الشاكرين
36
- أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمة الجليلة أو جميع النعم التي هذه من جملتها قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب أي غم يأخذ بالنفس والمراد به إما ما يعم ما تقدم والتعميم بعد التخصيص كثير أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى كالامراض والاسقام وأمر صلى الله عليه و سلم بالجواب مع كونه من وظائفهم للايذان بظهوره وتعينه أو للأهانة لهم مع بناء قوله سبحانه : ثم أنتم تشركون
46
- عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه ومن غيره ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعم الجليلة تعودون إلى الشرك في عبادته سبحانه ولا توفون بالعهد ووضع تشركون موضع لا تشكرون الذي هو الظاهر المناسب لوعدهم السابق المشار اليه بقوله تعالى : لنكونن
(7/179)
من الشاكرين
180 - للتنبيه على أن من أشرك في عبادة الله تعالى فكأنه لم يعبده رأسا إذ التوحيد ملاك الأمر واسا العبادة وقيل : لعل المقصود التوبيخ بأنهم مع علمهم بأنه لم ينجهم إلا الله تعالى كما أفاده تقديم المسند إليه أشركوا ولم يخصوا الله تعالى بالعبادة فذكر الاشراك في موقعه وكلمة ثم ليس للتراخي الزماني بل لكمال البعد بين إحسان الله تعالى عليهم وعصيانهم ولم يذكر متعلق الشرك لتنزيله منزلة اللازم تنبيها على استبعاد الشرك نفسه
وقرأ أهل الكوفة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر ينجيكم بالتشديد والباقون بالتخفيف
قل يا محمد لهؤلاء الكفار هو القادر لا غيره سبحانه على أن يبعث أي يرسل عليكم متعلق بيبعث وتقديمه على المفعول الصريح وهو قوله سبحانه : عذابا للاعتناء به والمسارعة إلى بيان كون المبعوث مما يضرهم ولتهويل أمر المؤخر والكلام استئناف مسوق لبيان أنه تعالى هو القادر على القائهم في المهالك اثر بيان أنه سبحانه هو المنجي لهم منها وفيه وعيد ضمني بالعذاب لاشراكهم المذكور والتنوين للتفخيم أي عذابا عظيما من فوقكم أي منجهة العلو كالصيحة والحجارة والريح وإرسال السماء أو من تحت أرجلكم أي من جهة السفل كالرجفة والخسف والاغراق وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : من فوقكم أي من قبل أمرائكم وأشرافكم ومن تحت أرجلكم أي من قبل سفلتكم وعبيدكم وفي رواية أخرى عنه تفسير الأول بأئمة السوء والثاني بخدم السوء المتبادر ما قدمنا وهو المروي عن غير واحد من المفسرين والجار والمجرور متعلق بيبعث أيضا ويجوز أن يكون متعلق بمحذوف وقع صفة لعذاب و أو لمنع الخلو دون الجمع فلا منع لما كان من الجهتين معا كما فعل بقوم نوح عليه الصلاة و السلام
أو يلبسكم أي يخلط أمركم عليكم ففي الكلام مقدر وخلط أمرهم عليهم يجعلهم مختلفي الأهواء وقيل : المراد اختلاط الناس في القتال بعضهم ببعض فلا تقدير وعليه قول السلمي : وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي وقريء يلبسكم بضم الياء وهو عطف على يبعث وقوله تعالى : شيعا جمع شيعة كسدرة وسدر وهم قوم اجتمعوا على أمر نصب على الحال وقيل : إنه مصدر منصوب بيلبسكم من غير لفظه وجوز على هذا أن يكون حالا أيضا أي مختلفين وقوله سبحانه : ويذيق بعضكم بأس بعض عطف على يبعث كما نقل عن السمين ويفهم من كلام البعض أنه عطف على يلبس وهو من قبيل عطف التفسير أو من عطف المسبب على السبب وقريء نذيق بنون العظمة على طريق الالتفات لتهويل الأمر والمبالغة في التحذير والبعض الأول على ما قيل الكافر والثاني المؤمنون ففيه حينئذ وعد ووعيد وقيل : كلا البعضين من الكفار أي نذيق كلا بأس الآخر وقيل البعضان من المؤمنين فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال في قوله سبحانه : عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم هذا للمشركين وفي قوله تعالى : أو يلبسكم شيعا ويذيق الخ هذا للمسلمين ولا يخفى أنه تفكيك للنظم الكريم ولعل مراد الحسن أن هذا يكون للمسلمين ويقع فيهم دون الأول وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال : لما نزلت هذه
(7/180)
الآية قام النبي صلى الله عليه و سلم فتوضأ فسأل ربه عز و جل ان لا يرسل عليهم عدابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولا يلبس أمته شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل فهبط إليه صلى الله عليه و سلم جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إنك سألت ربك أربعا فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم فانهما عذابان لكل أمة استجمعت على تكذيب نبيها ورد كتاب ربها ولكنهم يلبسون شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض وهذان عذابان لأهل الاقرار بالكتب والتصديق بالانبياء عليهم السلام وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه واللفظ له عن ثوبان أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن ربي زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وإني سألت ربي لأمتي أنه لا يهلكها بسنة عامة فاعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فاعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها وقال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء لم يرد إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة عامة ولا أظهر عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم عامة ولو اجتمع من بين أقطارها حتى يكون بعضهم هو يهلك بعضا وبعضهم هو يسبي بعضا الحديث
وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن أبي بصرة الغفاري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : سألت ربي أربعا فاعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألت الله تعالى أن لا يجمع أمتى على ضلالة فاعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلكت الأمم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها والأخبار في هذا المعنى كثيرة وفي بعضها دلالة على عد اللبس والاذاقة أمرا واحدا وفي بعضها دلالة على عد ذلك أمرين ومن هنا نشأ الاختلاف السابق في العطف وأيد بعضهم العطف على يلبس لا على يبعث بكونه بالواو دون أو ولا يعارض ما روي عن الحسن من عدم وقوع الأولين في هذه الأمة ما أخرجه أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في هذه الآية أما انها كائنة ولم يأت تأويلها بعد وكذا ما أخرج الأول في مسنده من طريق أبي العالية عن ابن كعب أنه قال في الآية : هن أربع وكلهن واقع لا محالة لجواز أن يراد بالوقوع وقوع لا على وجه الاستئصال وبعدم الوقوع عدمه على وجه الاستئصال وكلام الحسن كالصريح في هذا فافهم
انظر كيف نصرف الآيات أي نحولها من نوع إلى آخر من أنواع الكلام تقريرا للمعنى وتقريبا إلى الفهم أو نصرفها بالوعد والوعيد لعلهم يفقهون
56
- أي كي يعلموا جلية الأمر فيرجعوا عما هم عليه من المكابرة والعناد واستدل بعض أهل السنة بالآية على أن الله تعالى خالق للخير والشر وقال بعض الحشوية والمقلدة : إنها من أدل الدلائل على المنع من النظر والاستدلال لما أن في ذلك فتح باب التفرق والاختلاف المذموم بحكم الآية وليس بشيء كما لا يخفى وكذب به أي القرآن كما قال الأزهري وروي ذلك عن الحسن وقيل : الضمير لتصريف الآيات واختاره الجبائي والبلخي وقيل : هو للعذاب واختاره غالب المفسرين قومك أي قريش وقيل : هم وسائر العرب وأياما كان فالمراد المعاندون منهم وقيل :
(7/181)
ولعل إيرادهم بهذا العنوان للايذان بكمال سوء حالهم فان تكذيبهم بذلك مع كونهم من قومه عليه الصلاة و السلام مما يقضي بغاية عتوهم ومكابرتهم وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا
وهو الحق أي الكتاب الصادق في كل ما نطق به لا ريب فيه أو المتحقق الدلالة أو الواقع لا محالة والواو حالية والجملة بعدها في موضع الحال من الضمير المجرور وقيل : الواو استئنافية وبعدها مستأنفة وأيا ما كان ففيه دلالة على عظم جنايتهم ونهاية قبحها قل لست عليكم بوكيل
66
- أي بموكل فوض أمركم إلى أحفظ أعمالكم لاجازيكم بها إنما أنا منذر ولم آل جهدا في الانذار والله سبحانه هو المجازي قال الحسن
وقال الزجاج : المراد اني لم أومر بحربكم ومنعكم عن التكذيب وفي معناه ما نقل عن الجبائي والآية على وري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منسوخة بآية القتال ولا بعد في ذلك على المعنى الثاني
لكل نبأ أي لكل ينبأ به من الأنباء التي من جملتها عذابكم أو لكل أو لكل خبر من الأخبار التي من جملتها خبر مجيئه مستقر أي وقت الاستقرار ووقوع البتة أو وقت استقراره بوقوع مدلوله وليس مصدر اميميا
وسوف تعلمون
76
- أي حال نبئكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيها معا وسوف للتأكيد
وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها كما هو دأب قريش وديدنهم في أنديتهم وهم المراد بالموصول وعن مجاهد أهل الكتاب فان ديدنهم ذلك أيضا ولذا أتي باذا الدالة على التحقيق وهذا بخلاف النسيان الآتي وأصل الخوض من خاض القوم في الحديث وتخاوضوا إذا تفاوضوا فيه وقال الطبرسي : الخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث واللعب وترك التفهم والتبيين وقال بعض المحققين : أصل معنى الخوض عبور الماء استعير للتفاوض في الأمور وأكثر ماورد في القرآن للذم فأعرض عنهم أي اتركهم ولا تجالسهم حتى يخوضوا في حديث أي كلام غيره أي غير آياتنا والتذكير باعتبار كونها حديثا فان وصف الحديث بمغايرتها مشير إلى اعتبارها بعنوان الحديثية وقيل : باعتبار كونها قرآنا والمراد بالخوض هنا التفاوض لا بقيد التكذيب والاستهزاء وادعى بعضهم أن المعنى حتى يشتغلوا بحديث غيره وأن ذكر يخوضوا للمشاكلة واستظهر عود الضمير إلى الخوض واستدل بعض العلماء بالآية على أن إذا تفيد التكرار لحرمة القعود مع الخائض كلما خاض ونظر فيه بأن التكرار ليس من إذا بل من ترتب الحكم على مأخذ الاشتقاق
واستدلال بعض الحشوية بها على النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته زاعما أن ذلك خوض في آيات الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت اليه وإما ينسينك الشيطان بأن يشغلك فتنسى الأمر بالاعراض عنهم فتجالسهم ابتداء أو بقاء وهذا على سبيل الفرض إذ لم يقع وأنى للشيطان سبيل إلى اشغال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولذا عبر بأن الشرطية المزيدة ما بعدها
وذهب بعض المحققين أن الخطاب هنا وفيما قبل لسيد المخاطبين عليه الصلاة و السلام والمراد غيره وقيل : لغيره ابتداء أي إذا رأيت أيها السامع وان أنساك أيها السامع والمشهور عن الرافضة اختيار أن النبي صلى الله عليه و سلم
(7/182)
منزه عن النسيان لقوله تعالى سنقرئك فلا تنسى وان غيرهم ذهب إلى جوازه وعلى نسبة الأول اليهم نص صاحب الأحكام والجبائي وغيرهما وقال الأخير : إن الآية دليل بطلان قولهم ذلك والذي وقفت عليه في معتبرات كتبهم انهم لا يجوزون النسيان وكذا السهو عن النبي صلى الله عليه و سلم وكذا على سائر الأنبياء عليهم السلام فيما يؤديه عن الله تعالى من القرآن والوحي وأما ما سوى ذلك فيجوزون عليه عليه والصلاة والسلام أن ينساه ما لم يؤد إلى اخلال بالدين
وأنا ما أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فان ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول الله صلى الله عليه و سلم وتفصيل الكلام في ذلك على ما في متعبرات كتبنا أن مذهب جمهور العلماء جواز النسيان عليه صلى الله عليه و سلم في احكام الشرع وهو ظاهر القرآن والأحاديث لكن اتفقوا على أنه عليه الصلاة و السلام لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به ثم قال الأكثرون يشترط تنبيه عليه الصلاة و السلام على الفور متصلا بالحادثة ولا يقع فيه تأخير وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته صلى الله عليه و سلم واختاره امام الحرمين ومنعت ذلك طائفة من العلماء في الأفعال البلاغية والعبادات كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه صلى الله عليه و سلم في الأقوال البلاغية وأجابو عن الظواهر الواردة في ذلك وإليه مال الاستاذ أبو اسحاق الاسفرائيني وصحح النووي الأول فان ذلك لا ينافي النبوة وإذا لم يقر عليه لم يتحصل منه مفسدة ولا ينافي الأمر بالاتباع بل يحصل منه فائدة وهو بيان أحكام الناسي وتقرر الأحكام
وذكر القاضي أنهم اختلفوا في جواز السهو عليه صلى الله عليه و سلم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته واذكار قلبه فجوزه الجمهور وأما السهو في الأقوال البلاغية فاجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع تعمده وأما السهو في الاقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالاحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها ولا يضاف إلى وحي فجوزه قوم إذ لا مفسدة فيه ثم قال : والحق الذي لاشك فيه ترجيح قول من قال : يمتنع ذلك على الأنبياء عليهم السلام في كل خبر من الأخبار كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا لا في صحة ولا مرض ولا رضي ولا غضب وحسبك في ذلك أن سيره صلى الله عليه و سلم وكلامه وأفعاله مجموعة يعتنى بها على مر الزمان ويتناولها الموافق والمخالف والمؤمن والمرتاب فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا أعتراف بوهم في كلمة ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة ونومه عليه الصلاة و السلام عنها واستدراكه رأيه في تلقيح النخل وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع وسيأتي ان شاء الله تعالى تتمة الكلام على هذا المبحث عند تفسير قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية
وقرأ ابن عامر ينسينك بتشديد السين ونسي بمعنى أنسى وقال ابن عطية : نسي أبلغ من أنسى والنون في القراءتين مشددة وهي نون التوكيد والمشهور أنها لازمة في الفعل الواقع بعد ان الشرطية المصحوبة بما الزائدة وقيل : لا يلزم فيه ذلك وعليه قول ابن دريد : أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى فلا تقعد بعد الذكرى أي بعد تذكر الأمر بالاعراض كما عليه جمهور المفسرين وقال
(7/183)
أبو مسلم : المعنى بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين ونهيك لهم عن الخوض في الآيات وليس بشيء
وجوز الزمخشري أن تكون الذكرى بمعنى تذكير الله تعالى إياه وأن المعنى وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه ولا يخفى أنه وجه بعيد مبني على قاعدة القبح والحسن التي هدمتها معاول أفكار العلماء الراسخين ثم إنا لا نسلم أن مجالسة المستهزئين مما ينكره العقول مطلقا وذكر ابن المنير أن اللائق على ما قال وإن أنساك دون وإما ينسينك على أن إنساء الشيطان إن صح فعن السمعي أيسر وليس هذا أول خوض من الزمخشري في تأويل الآيات بل ذلك دأبه مع القوم الظالمين
86
- أي معهم فوضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم أنهم بذلك الخوض ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك وفي الآية كما قال غير واحد إيذان بعدم تكليف الناسي وهذه المسائل المتنازع فيها بينهم وعنونوها بمسئلة تكليف الغافل وعدوا منه الناسي وللأشعري فيها قولان وصوب عدم التكليف لعدم الفائدة فيه أصلا بخلاف التكليف بالمحال
ونقل ابن برهان في الأوسط عن الفقهاء القول بصحة تكليفه على معنى ثبوت الفعل بالذمة وعن المتكلمين المنع إذ لا يتصور ذلك عندهم وقد يظن أن الشافعي لنصه على تكليف السكران يرى تكليف الغافل وهو من بعض الظن فانه إنما كلف السكران عقوبة له لأنه تسبب بمحرم حصل باختياره ولهذا وجب عليه الحد بخلاف الغافل وأورد على القول بالامتناع أن العبد مكلف بمعرفة الله تعالى بدون العلم بالأمر وذلك لأن الأمر بمعرفته سبحانه وارد فلا جائز أن يكون واردا بعد حصولها لامتناع تحصيل الحاصل فيكون واردا قبله فيستحيل الاطلاق على هذا الأمر لأن معرفة أمره تعالى بدون معرفته سبحانه مستحيل فقد كلف معرفة الله تعالى مع غفلته عن ذلك التكليف
وأجيب : بأن المعرفة الاجمالية كافية في انتفاء الغفلة والمكلف به هو المعرفة التفصيلية أو بأن شرط التكليف إنما هو فهم المكلف له بأن يفهم الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بان يصدق بتكليفه والا لزم الدور وعدم تكليف الكفار وهو هنا فد فهم ذلك وإن لم يصدق به وصاحب المنهاج تبعا لصاحب الحاصل أجاب بأن التكليف بمعرفة الله تعالى خارج عن القاعدة بالاجماع وتمام البحث يطلب من كتب الأصول
وما على الذين يتقون قال أبو جعفر عليه الرحمة : لما نزلت فلا تقعد بعد الذكرى الخ قال المسلمون لئن كنا نقوم كلما استهزأ المشركون بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت فنزلت : أي وما يلزم الذين يتقون قبائح أعمال الخائضين وأحوالهم
من حسابهم أي مما يحاسب الخائضون الظالمون عليه من الجرائر من شيء أي شيء ما على أن من زائدة للاستغراق و شيء في محل الرفع مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية و من حسابهم كما قال أبو البقاء حال منه لأن نعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالا وليست من بمعنى الأجل خلافا لمن تكلفه
و على الذين يتقون متعلق بمحذوف مرفوع وقع خبرا للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يجيز أعمالها في الخبر المقدم مطلقا أو منصوب وقع خبرا لما على رأي من يجوز أعمالها في الخبر المقدم عند كونه ظرفا أو حرف جر
(7/184)
ولكن ذكرى استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير ومحل ذكرى عند كثير من المحققين إا النصب على أنه مصدر مؤكذ للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكروهم تذكيرا أو الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي ولكن عليهم ذكرى وجوز أبو البقاء النصب والرفع أيضا لكن قدر في الأول نذكرهم ذكرى بنون العظمة وفي الثاني هذه ذكرى وإلى ذلك يشير كلام البلخي ولم يجوز الزمخشري عطفه على محل من شيء لأن من حسابهم يأباه إذ يصير المعنى ولكن ذكرى من حسابهم وهو كما ترى
واعترض بأنه لا يلزم من العطف على مقيد اعتبار ذلك القيد في المعطوف والعلامة الثاني يقول : إنه إذا عطف مفرد على مفرد لاسيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكرى عليه معتبرة في المعطوف البتة بحكم الاستعمال تقول : ما جاءني يوم الجمعة او في الدار أو راكبا أو من هؤلاء القوم رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون من القوم البتة ولم يجيء الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة فانه لا يبعد كون المرأة من غير العرب قالوا : والسر فيه أن تقدم القيود يدل على أنها أمر مسلم مفروغ عنه وأنها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وان هذه القاعدة مخصوصة بالمفرد لدلك وأما في الجمل فالقيد إن جعل جزأ من المعطوف عليه وإن سبق لم يشاركه فيه المعطوف كما في قوله تعالى إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون على مافي شرح المفتاح وهذا إذا لم تقم القرينة على خلافه كما في قولك : جاءني من تميم رجل وامرأة من قريش
وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره بعض المحققين مما يقتضيه الذوق ومنهم من عمها كما قال الحلبي : إن أهل اللسان والأصوليين يقولون : إن العطف للتشريك في الظاهر فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فاذا قلت : ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا فالظاهر اشتراك زيد وعمرو في الضرب مقيدا بيوم الجمعة وإذا قامت : وعمرا يوم السبت لم يشاركه في قيده والآية من القبيل الأول فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي في المنع وبحث في السفاقسي وغيره فتدبر
ومن منع العطف على محل من شيء لما تقدم منع العطف على شيء لذلك أيضا ولأن من لا تقدر عاملة بعد الاثابت لأنها إذا علمت كانت في قوة المذكورة المزيدة وهي لا تزاد في الاثابت في غير الظروف أو مطلقا عند الجمهور لعلهم يتقون
96
- أي يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم وجوز أن يكون الضمير للذين يتقون أي لكن يذكر المتقون الخائضين ليثبت المتقون على تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر أو ليزدادوا تقوى بذلك وهذه الآية كما أخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابو الشيخ عن السدي وابن جبير منسوخة بقوله تعالى النازل في المدينة وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الخ واليه ذهب البلخي والجبائي وفي الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ أن لا نسخ
(7/185)
عند أهل التحقيق في ذلك لأن قوله سبحانه : وما على الذين الخ خبر ولا نسخ في الأخبار فافهم
وذر الذين اتخذوا دينهم الذي فرض عليهم وكلفوه وأمروا باقامة مواجبه وهو الاسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزأوا وجوز أن يكون المعنى اتخذوا الدين الواجب شيئا من جنس اللعب واللهو كعبادة الاصنام وتحريم البحائر والسوائب ونحو ذلك أو أتخذوا ما يتدينون به وينتحلونه بمنزلة الدين لأهل الأديان شيئا من اللعب واللهو وحاصله أنهم اتخذوا اللعب واللهو دينا وقيل : المراد بالدين العيد الذي يعاد إليه كل حين معهود بالوجه الذي شرعه الله تعالى كعيد المسلمين أو بالوجه الذي لم يشرع من اللعب واللهو كأعياد الكفرة لأن أصل معنى الدين العادة والعيد معتاد كل عام ونسب ذلك لأبن عباس رضي الله تعالى عنهما والمعنى في سائر الأقوال لا تبال بهؤلاء وامض لما أمرت به
وأخرج أبن جرير وغيره أن المعنى على التهديد كقوله تعالى : ذرني ومن خلقت وحيدا وذرهم يأكلوا ويتمتعوا وقيل : المراد الأمر بالكف عنهم وترك التعرض لهم والآية عليه منسوخة بآية السيف وهو مروي عن قتادة ونصب لعبا على أنه مفعول ثان لاتخذوا وهو اختيار السفاقسي ويفهم من ظاهر كلام البعض أنه مفعول أول و دينهم ثان وفيه اخبار عن النكرة بالمعرفة ويفهم من كلام الامام أنه مفعول لأجله واتخذ متعد لواحد فانه قال بعد سرد وجود التفسير في الآية : والخامس وهو الأقرب أن المحق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أن قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبه الخصم وجمع الاموال فهم نصروا الدين للدنيا وقد حكم الله تعالى عليها في سائر الآيات بأنها لعب ولهو فالمراد من قوله سبحانه : وذر الذين اتخذوا الخ هو الاشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الآية اه
و يخفى انه أبعد من العيوق فلا تغتر به وإن جل قائلة وغرتهم الحياة الدنيا أي خدعتهم وأطمعتهم بالباطل حتى أنكروا البعث وزعموا أن لا حياة بعدها واستهزأوا بآيات الله تعالى وجعل بعضهم غر من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم لذاتها حتى نسوا الآخرة وعليه قوله : ولما التقينا بالعشية غرني بمعروفه حتى خرجت أفوق وذكر به أي بالقرآن وقد جاء مصرحا به في قوله سبحانه : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد والقرآن يفسر بعضه بعضا وقيل : الضمير لحسابهم وقيل : إنه ضمير يفسره قوله سبحانه : أن تبسل نفس بما كسبت فيكون بدلا منه واختاره أبو حيان وعلى الأوجه الأخر هو مفعول لاجله أي لئلا تبسل أو مخافة أو كراهة أن تبسل ومنهم من جعله مفعولا به لذكر ومعنى تبسل تحبس كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأنشد قول زهير : وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع وقلبي مبسل علقا وفي رواية ابن أبي حاتم عنه تسلم وروي ذلك أيضا عن الحسن ومجاهد والسدي واختاره الجبائي والفراء وفي رواية ابن جرير وغيره تفضح وقال الراغب : تبسل هنا بمعنى
(7/186)
أن الابسال والبسل في الأصل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه متمنع والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وجاء البسل بمعنى الحرام وفرق الراغب بينهما بان الحرام عام لما منع منه بحكم أو قهر والبسل الممنوع بالقهر ويكون بسل بمعنى أجل ونعم واسم فعل بمعنى أكفف وتنكير نفس للعموم مثله في قوله تعالى : علمت نفس ما أحضرت أي لئلا تحبس وترهن كل نفس في الهلاك أو في النار أو تسلم إلى ذلك أو تفضح أو تحرم الثواب بسبب عملها السوء أو ذكر بحبس أو حبس كل نفس بذلك وحمل النكرة على العموم مع أنها في الاثبات لاقتضاء السياق له وقيل : انها هنا في النفي معنى وفيما اختاره أيو حيان من التفخيم وزيادة التقرير ما لا يخفى
وقوله تعالى : ليس لها أي النفس من دون الله ولي ولا شفيع إا استئناف للاخبار بذلك أو في محل رفع صفة نفس أو في محل نصب على الحالية من ضمير كسبت أو من نفس فانه في قوة نفس كافرة أو نفوس كثيرة واستظهر بعض الحالية ومن دون الله متعلق بمحذوف وقع حالا من ولي وقيل : خبرا لليس و لها حينئذ متعلق بمحذوف على البيان ومن جعلها زائدة لم يعلقها بشيء والمراد أنه لا يحول بينها وبين الله تعالى بأن يدفع عقابه سبحانه عنها ولي ولا شفيع وإن تعدل أي إن تفد تلك النفس كل عدل أي كل فداء وكل نصب على المصدرية لأنه بحسب ما يضاف اليه لا مفعول به وقيل : انه صفة لمحذوف وهو بمعنى الكامل كقولك : هو رجل كل رجل أي كامل في الرجولية والتقدير عدلا كل عدول ورد بأن كلا بهذا المعنى يلزم التبعية والاضافة إلى مثل المتبوع نعتا لا توكيدا كما في التسهيل ولا يجوز حذف موصوفه
وقوله تعالى : لا يؤخذ منها جواب الشرط والفعل مسند إلى الجار والمجرور كسير من البلد لا إلى ضمير العدل لأن العدل كما علمت مصدر وليس بمأخوذ بخلافة في قوله تعالى : لا يؤخذ منها عدل فانه فيه بمعنى المفدى به وجوز كون الاسناد إلى ضميره مرادا به الفدية على الاستخدام إلا أنه لا حاجة اليه مع صحة الاسناد إلى الجار والمجرور وبذلك يستغني أيضا عن القول بكونه راجعا إلى المعدول به المأخوذ من السياق
وقيل : معنى الآية وان تقسط تلك النفس كل قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة وإنما تقبل في الدنيا اولئك أي المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا الذين أبسلوا أي حرموا الثواب وسلموا للعذاب أو بأحد المعاني الباقية للابسال بما كسبوا أي بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة واسم الاشارة مبتدأ وما فيه من معنى البعد للايذان ببعد درجة المشار إليهم في سوء الحال وخبره الموصول بعده والجملة استئناف سيق إثر تحذير أولئك من الابسال المذكور لبيان أنهم المبتلون بذلك
وقوله سبحانه : لهم شراب من حميم استئناف آخر مبين لكيفية الابسال المذكور مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : ماذا لهم حين أبسلوا فقيل : لهم شراب من حميم أي ماء حار يتجرجر ويتردد في بطونهم ويتقطع به أمعاؤهم وعذاب أليم بنار تشتعل بابدانهم كما هو المتبادر من العذاب بما كانوا يكفرون
7
- أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا ويطلق الحميم على الماء البارد فهو ضد كما في القاموس وجوز أبو البقاء أن تكون جملة لهم شراب حالا من ضمير أبسلوا وان تكون خبرا لاسم
(7/187)
الاشارة ويكون الذين نعتا له أو بدلا منه وأن تكون خبرا ثانيا واختار كما يشير كلامه أن تكون الاشارة الى النفوس المدلول عليها بنفس وجعلت الجملة لبيان تبعة الابسال واختار كثير من المحققين ما أشرنا إليه
وترتيب ما ذكر من العذابين على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضا حسبما ينطق به قوله سبحانه بما كسبوا لأنه العمدة في أسباب العذاب والأهم في باب التحذير أو أريد كما قيل م : بكفرهم ما هو أعم منه ومن مستتبعاته من المعاصي
قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي أن المشركين قالوا للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد صلى الله عليه و سلم فقال الله تعالى : قل الخ
وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأصنام وفي توجيه الأمر إليه صلى الله عليه و سلم ما لا يخفى من تعظيم شأن المؤمنين أو أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادة الله تعالى الجامع لجميع صفات الألوهية التي من جملتها القدرة على النفع والضر ما لايقدر على نفعنا ان عبدناه ولا على ضرنا إذا تركناه وأدنى مراتب المعبودية القدرة على ذلك وفاعل ندعوا وكذا ما عطف عليه من قوله سبحانه : ونرد على أعقابنا عام لسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم ولغيره وليس مخصوصا بالصديق رضي الله تعالى عنه بناء على أنه سبب النزول وفي الآية تغليب إذ لايتصور الرد على العقب المراد به الرجوع إلى الشرك منه صلى الله عليه و سلم والمعنى أليق بنا معشر المسلمين ذلك والاعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال : رجع على عقبه إذا انثنى راجعا ويكنى به كما قيل عن الذهاب من غير رؤية موضع القدم وهو ذهاب بلا علم بخلاف الذهاب مع الاقبال وقيل : الرد على الاعقاب بمعنى الرجوع إلى الضلال والجهل شركا أو غيره والجمهور على الأول والتعبير عن الرجوع إلى الشرك بالرد على الاعقاب كما قال شيخ الاسلام لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح مع ما فيه من الاشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر وإيثار نرد على نرتد لتوجيه الانكار إلى الارتداد برد الغير تصريحا بمخالفة المضلين وقطعا لاطماعهم الفارغة وإيذانا بأن الارتداد من غير راد ليس في حيز الاحتمال ليحتاج إلى نفيه وإنكاره بعد إذ هدانا الله أي إلى التوحيد والاسلام أو إلى سائر ما يترتب عليه الفوز في الآخرة على ما قيل والظرف متعلق بنرد مسوق لتأكيد النكير لا لتحقيق معنى الرد وتصويره فقط وإلا لكفى أن يقال : بعد إد اهتدينا كأنه قيل : أنرد إلى ذلك باضلال المضل بعد إذ هدانا الله الذي لا هادي سواه وليست الآية من باب التنازع فيما يظهر ولا أن جملة نرد في موضع الحال من ضمير ندعو أي ونحن نرد وجوزه أبو البقاء 8 وقوله سبحانه : كالذي استهوته الشياطين نعت لمصدر محذوف أي أنرد ردا مثل رد الذي استهوته الخ وقدر الطبرسي أندعوا دعاء مثل دعاء الذي الخ وليس بشيء كما لا يخفى وقيل : إنه في موضع الحال من فاعل نرد أي أنرد على أعقابنا مشبهين بذلك واعترضه صاحب الفرائد بأن حاصل الحالية أنرد في حال مشابهتنا كقولك : جاء زيد راكبا أي في حال ركوبه والرد ليس في حال المشابهة كما أن المجيء في حال الركوب
وأجاب عنه الطيبي بأن الحال مؤكدة كقوله سبحانه : ثم وليتم مدبرين فلا يلزم ذلك ولا يخفى أنه في
(7/188)
حيز المنع والاستهواء استفعال من هوى في الأرض يهوي إذا ذهب كما هو المعروف في اللغة كأنها طلبت هويه وحرصت عليه أي كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة والقفار والكلام في المركب العقلي أو من التمثيل حيث شبه فيه من خلص من الشرك ثم نكص على عقبيه بحال من ذهبت به الشياطين في المهمة وأضلته بعد ما كان على الجادة المستقيمة وليس هذا مبنيا على زعمات العرب كما زعم من استهوته الشياطين وادعى بعضهم أن استهوى من هوى بمعنى سقطه يقال : هوى يهوي هويا بفتح الهاء إذا سقط من أعلى إلى أسفل والمقصود تشبيه حال هذا الضال بحال من سقط من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة لأنه في غاية الاضطراب والضعف والدهشة ونظير ذلك قوله تعالى : من يشرك بالله فكأنما خر من السماء وفيه بعد وإن قال الامام : إنه أولى من المعنى الأول مع أنه يتوقف على ورود الاستفعال من هوى بهذي المعنى وجوز أبو البقاء في الذي أن يكون مفردا أي كالرجل أو كالفريق الذي وان يكون جنسا والمراد الذين
وقرأ حمزة استهواه بالف ممالة مع التذكير في الأرض أي جنسها والجار متعلق باستهوته أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي كائنا في الأرض وكذا قوله سبحانه : حيران حال منه أيضا على أنها بدل من الاولى أو حال ثانية عند من يجيزها أو من الذي أو من المستكن في الظرف وجوز أبو البقاء أن يكون الجار حالا من حيران وهو ممنوع من الصرف ومؤنثه حيرى أي تائها ضالا عن الجادة لا يدري ما يصنع
له أي للمستهوي أصحاب أرى رفقة يدعونه إلى الهدى أي الطريق المستقيم أطلق عليه مبالغة على حد زيد عدل والجار الاول متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما و أصحاب مبتدأ والجملة إا في محل نصب على أنها صفة لحيران أو حال من الضمير فيه أو من الضمير في الظرف أو بدل من الحال التي قبلها وإا لا محل لها على أنها مستأنفة وجملة يدعونه صفة لأصحاب وقوله سبحانه : ائتنا يقدر فيه قول على أنه بدل من يدعونه أو حال من فاعله وقيل : محكي بالدعاء لأنه بمعنى القول وهذا مبني على الخلاف بين البصريين والكوفيين في أمثال ذلك والمشهور التقدير أي يقول ائتنا وفيه إشارة إلى أنهم مهتدون ثابتون على الطريق المستقيم وإن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق ليدعى إلى اتيانه وإنما يدرك سمت الداعي ومورد النعيق
وقرأ ابن مسعود كما رواه ابن جرير وابن الانباري عن ابي اسحاق ئئنا على أنه حال من الهدى أي واضحا قل لهؤلاء الكفار إن هدى الله الذي هدانا اليه وهو الاسلام هو الهدى أي وحده كما يدل عليه تعريف الطرفين أو ضمير الفصل وما عداه ضلال محض وغي صرف وتكرير الأمر للاعتناء بشأن المأمور به أو لأن ما سبق للزجر عن الشرك وهذا حث على الاسلام وهو توطئة لما بعده فان اختصاص الهدى بهداه تعالى مما يوجب امتثال الاوامر بعده وأمرنا عطف على إن هدى الله هو الهدى داخل معه تحت القول واللام في قوله سبحانه : لنسلم للتعليل ومفعول أمرنا الثاني محذوف أي أمرنا بالاخلاص لكي ننقاد ونستسلم لرب العالمين
17
- وقيل : هي بمعنى الباء أي أمرنا بالاسلام وتعقبه أبو حيان بانه غريب لا تعرفه النحاة وقيل : زائدة أي أمرنا أن نسلم على حذف الباء وقال الخليل وسيبويه ومن
(7/189)
تابعهماتابعهما : الفعل في هذا وفي نحوه يريد الله ليبين لكم مؤول بالمصدر وهو مبتدأ واللام وما بعدها خبره أي أمرنا للاسلام وهو نظير تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ولا يخفى بعده
وذهب الكسائي والفراء إلى أن اللام حرف مصدري بمعنى أن بعد أردت وأمرت خاصة فكأنه قيل : وأمرنا أن نسلم والتعرض لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمر وتأكيد وجوب الامتثال به
وقوله تعالى : وأن أقيموا الصلاة وأتقوه أي الرب في مخالفة أمره سبحانه بتقدير حرف الجر وهو عطف على الجار والمجرور السابق وقد صرح بدخول أن المصدرية على الأمر سيبويه وجماعة وجوز أن يعطف أن أقيموا على موضع لنسلم كأنه قيل : أمرنا أن نسلم وأن أقيموا وقيل : العطف على مفعول الأمر المقدر أي أمرنا بالايمان وإقامة الصلاة وقيل : على قوله تعالى : إن هدى الله الخ أي قل لهم إن هدى الله هو الهدى وأن أقيموا وقيل : على أئتنا وقيل : غير ذلك
وذكر الامام أنه كان الأظهر أن يقال : أمرنا لنسلم ولأن نقيم إلأ أنه عدل لما ذكر للايذان بأن الكافر ما دام كافرا كان كالغائب الأجنبي فخوطب بما خوطب به الغيب وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين صار كالقريب الحاضر فخوطب بما يخاطب به الحاضرون
وقوله سبحانه : وهو الذي إليه تحشرون
27
- جملة مستأنفة موجبة للامتثال بما أمر به سبحانه من الأمور الثلاثة وتقديم المعمول لافادة الحصر مع رعاية الفواصل أي إليه سبحانه لا إلى غيره تحشرون يوم القيامة
وهو الذي خلق السموات والأرض أي هذين الأمرين العظيمين ولعله أريد بخلقهما خلق ما فيهما أيضا وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العلويات والسفليات وقوله سبحانه : بالحق متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل خلق أي قائما بالحق ومعنى ألآية حينئذ كما قيل كقوله تعالى : وما خلقنا السموات والارض وما بينهما باطلا وجوز أن يكون حالا من المفعول أي متلبسة بالحق وأن يكون صفة لمصدر الفعل المؤكد أي خلقا متلبسا بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق تذييل لما تقدم والوا للاستئناف واليوم بمعنى الحين متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما و قوله مبتدأ و الحق صفته والمراد بالقول المعنى المصدري أي القضاء الصواب الجاري على وفق الحكمة فلذا صح الاخبار عنه بظرف الزمان أي وقضاؤه سبحانه المعروف بالحقية كائن حين يقول سبحانه لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء وتقديم الخبر للاهتمام بعموم الوقت كما قيل ونفى السعد كونه للحصر لعدم مناسبته وجعل التقديم لكونه الاستعمال الشائع وتعقب بأن المعروف الشائع تقديم الخبر الظرفي إذا كان المبتدأ نكرة غير موصوفة أو نكرة موصوفة أما إذا كان معرفة فلم يقله أحد وقيل : إن قوله الحق مبتدأ وخبر و يوم ظرف لمضمون الجملة والواو بحسب المعنى داخلة عليها والتقديم للاعتناء به من حيث أنه مدار الحقية وترك ذكر المقول له للثقة بغاية ظهوره والمراد بالقول كلمة كن تحقيقا أو تمثيلا والمعنى وأمره سبحانه المتعلق بكل شيء يريد خلقه من الأشياء حين تعلقه به لا قبله ولا بعده من أفراد الأحيان الحق أي المشهود له بالحقية وقيل : إن الواو للعطف و يوم إا معطوف على السموات فهو مفعول لخلق مثله والمراد به يوم الحشر أي وهو الذي اوجد السموات والأرض وما فيهما
(7/190)
وأوجد يوم الحشر والمعاد وإا على الهاء في اتقوه فهو مفعول به مثله أيضا والكلام على حذف مضاف أي اتقوا الله تعالى واتقوا هول ذلك اليوم وعقابه وفزعه وإما متعلق بمحذوف دل عليه بالحق أي يقوم بالحق يوم الخ وهو إعراب متكلف كما قال أبو حيان وقيل : إنه معطوف على بالحق وهو ظرف لخلق أي خلق السموات والأرض بعظمها حين قال كن فكان والتعبير بصيغة الماضي احضار للامر البديع وفيه أنه يتوقف على صحة عطف الظرف على الحال بناء على أن الحال ظرف في المعنى وهو تكلف وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو يحن يقوم القيامة فيكون التكوين إحياء الأموات للحشر وقيل غير ذلك فتدبر
وله الملك يوم ينفخ في الصور أي استقر الملك له في ذلك اليوم صورة ومعنى بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا المصححة للمالكية في الجملة فلا يدعيه غيره بوجه والصور قرن ينفخ فيه كما ثبت في الأحاديث والله تعالى أعلم بحقيقته وقد فصلت أحواله في كتب السنة وصاحبه إسرافيل عليه السلام على المشهور وأخرج البزار والحاكم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن ملكين موكلين بالصور ينتظران متى يومران فينفخان وقرأ قتادة في الصور جمع صورة والمراد بها الابدان التي تقوم بعد نفخ الروح فيها لرب العالمين عالم الغيب والشهادة أي كل غيب وشهادة وهو الحكيم في كل ما يفعله الخبير
37
- بجميع الامور الخفية والجلية والجملة تذييل لما تقدم وفيه لف ونشر مرتب هذا
ومن باب الاشارة في الآيات وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو أعلم أن بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ذكروا أن للغيب مراتب أولاها غيب الغيوب وهو علم الله تعالى المسمى بالعناية الاولى وثانيتها غيب عالم الأرواح وهو انتقاش صورة كل ما وجد وسيوجد من الأزل إلى الأبد في العالم الأول العقلي الذي هو روح العالم المسمى بأم الكتاب على وجه كلي وهو القضاء السابق وثالثتها غيب عالم القلوب وهو ذلك الانتقاش بعينه مفصلا تفصيلا علميا كلياوجزئيا في عالم النفس الكلية التي هي قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ ورابعتها غيب عالم الخيال وهو انتقاش الكائنات بأسرها في النفوس الجزئية الفلكية منطبعة في أجرامها معينة مشخصة مقارنة لأوقاتها على مايقع بعينه وذلك العالم هو الذي يعبر عنه بالسماء الدنيا إذ هو أقرب مراتب الغيوب إلى عالم الشهادة ولوح القدر الالهي الذي هو تفصيل قضائه سبحانه وذكروا أن علم الله تعالى الذي هو العناية الأولى عبارة عن إحاطته سبحانه بالكل حضورا فالخزائن المشتملة على جميع الغيوب حاضرة لذاته وليس هناك شيء زائد ولا يعلمها إلا هو سبحانه وكذا أبواب تلك الخزائن مغلقة مفاتيحها بيده تعالى لا يطلع على ما فيها أحد غيره عز و جل وقد يفتح منها ما شاء لما يشاءه هذا وقد يقال : حقق كثير من الراسخين في العلم أن حقائق الأشياء وماهيتها ثابتة في الأزل وهي في ثبوتها غير مجعولة وانما المجعو الصور الوجودية وهي لا تتبدل ولا تتغير ولا تتصف بالهلاك أصلا كما يشير اليه قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه بناء على عود الضمير إلى الشيء وتفسير الوجه بالحقيقة وعلم الله تعالى بها حضوري وهي كالمرايا لصورها الحادثة فتكون تلك الصور مشهودة لله تعالى أزلا مع عدمها في نفسها ذهنا وخارجا وقد بينوا انطواء العلم بها في العلم بالذات بجميع اعتباراته التي منها كونه سبحانه مبدأ
(7/191)
لافاضة وجوداتها عليها بمقتضى الحكمة فيمكن أن يقال : إن المفاتح بمعنى الخزائن إشارة إلى تلك الماهيات الأزلية التي هي كالمرايا لما غاب عنا من الصور وتلك حاضرة عنده تعالى أزلا ولا يعلمها علما حضوريا غير محتاج إلى صورة ظلية إلا هو جل وعلا وهذا ظاهر لمن أخذت العناية بيده ويعلم ما في البر أي بر النفوس من ألوان الشهوات ومراتبها والبحر أي بحر القلوب من لآليء الحكم ومرجان العرفان وما تسقط من ورقة من أوراق أشجار اللطف والقهر في مهيع النفس وخصم القلب إلا يعلمها في سائر أحوالها ولا حبة من بذر الجلال والجمال في ظلمات الأرض وهو عالم الطبائع والاشباح ولا رطب من الالهامات التي ترد على القلب بلطف من غير انزعاج ولا يلبس من الوساوس والخطرات التي تفزع منها النفس حين ترد عليها إلا في كتاب مبين وهو علمه سبحانه الجامع وبعضهم لم يؤول شيئا من المذكورات وفسر الكتاب بسماء الدنيا لتعين هذه الجزئيات فيها ويمكن أن يقال إن الكتاب إشارة إلى ماهيات الأشياء وهي المسمات بالاعيان الثابتة ومعنى كونها فيها ما أشرنا اليه أن تلك الأعيان كالمرايا لهذه الموجودات الخارجية وهو الذي يتوفاكم بالليل أي ينيمكم وقيل : يتوفاكم بطيران أرواحكم في الملكوت وسيرها في رياض حضرات اللاهوت
وقيل : يمكن أن يكون المعنى وهو الذي يضيق عليكم إلى حيث يكاد تزهق أرواحكم في ليل القهر وتجلي الجلال ويعلم ما جرحتم أي كسبتم بالنهار من الأعمال مطلقا وقيل من الأعمال الشاقة على النفس المؤلمة لها كالطاعات
وقيل : يحتمل أن يكون المعنى ويعلم ما كسبتموه بنهار التجلي الجمالي من الانس أو شوارد العرفان ثم يبعثكم فيه أي فيما جرحتم من صور أعمالكم ومكاسبكم الحسنة والقبيحة وقيل الحسنة وقيل فيما كسبتموه في نهار التجلي وأول الأقوال هنا وفيما تقدم أولى ليقضي أجل مسمى أي معين عنده ثم إلى ربكم ترجعون في عين الجمع المطلق فينبئكم بما كنتم تعملون باظهار صور أعمالكم عليكم وجزائكم بها وهو القاهر فوق عباده لأنه الوجود المطلق حتى عن قيد الاطلاق وله الظهور حسبما تقتضيه الحكمة ولا تقيده المظاهر والله من ورائهم محيط
ويرسل عليكم حفظة وهي للقوى التي ينطبع فيها الخير والشر ويصير أو ملكه ويظهر عند انسلاخ الروح ويتمثل بصورة مناسبة أو القوى السماوية التي تنتقش فيها الصور الجزئية ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا قيل : هم نفس أولئك الحفظة وقد أودع الله تعالى فيهم القدرة على التوفي ثم ردوا إلى الله في عين الجمع المطلق مولاهم أي مالكهم الذي يلي سائر أحوالهم إذ لا وجود لها إلا به الحق وكل ما سواه باطل وذكر بعض أهل الاشارة أن هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى بناء على أن الله تعالى أخبر برجوع العبد اليه سبحانه وخروجه من سجن الدنيا وأيدي الكاتبين واصفا نفسه له بأنه مولاه الحق المشعر بأن غيره سبحانه لا يعد مولى حقا ولاشك أنه لا أعز للعبد من أن يكون مرده إلى مولاه ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين إد ظهور الأعمال بالصور المناسبة آن مفارقة الروح للجسد
قل من ينجيكم من ظلمات البر وهي الغواشي النفسانية والبحر وهي حجب صفات القلب تدعونه إلى كشفها تضرعا في نفوسكم وخفية في اسراركم لئن أنجيتنا من هذه الغواشي والحجب لنكونن من الشاكرين بنعمة الانجاء بالاستقامة والتمكين قل الله ينجيكم منها بانوار تجليات صفاته ومن كل كرب سوى ذلك بأن
(7/192)
يمن عليكم بالفناء ثم أنتم بعد علمكم بقدرته تعالى على ذلك تشركون به أنفسكم وأهواءكم فتعبدونها قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم بأن يحجبكم عن النظر في الملكوت أو بأن يقهركم باحتجابكم بالمعقولات والحجب الروحانية أو من تحت أرجلكم بأن لا يسهل عليكم القيام على باب الربوبية بنعت الخذمة وطلب الوصلة أو بأن يحجبكم بالحجب الطبيعية أو يلبسكم شيعا فرقا مختلفة كل فرقة على دين قوة من القوى تقابل الفرقة الاخرى أو يجعل أنفسكم مختلفة العقائد كل فرقة على دين دجال ويذيق بعضكم بأس بعض بالمنازعات والمجادلات حسبما يقتضيه الاختلاف لكل نبأ أي ما ينبا عنه مستقر أي محل وقوع واستقرار وسوف تعلمون حين يكشف عنكم حجب أبدانكم وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا باظهار صفات نفوسهم واثبات العلم والقدرة لها فاعرض عنهم لأنهم محجوبون مشركون وما على الذين يتقون وهم المتجردون عن صفاتهم من حسابهم أي من حساب هؤلاء المحجوبين من شيء ولكن ذكرى أي فليذكروهم بالزجر والردع لعلهم يتقون يحترزون عن الخوض
وجوز أن يكون المعنى أن المتجردين لا يحتجبون مخالطة المحجوبين ولكن ذكرناهم لعلهم يزيدون في التقوى وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا لهوا أي اترك الذين عادتهم اللعب واللهو الخ فانهم قد حجبوا بما رسخ فيهم من سماع الانذار وتأثيره فيهم وذكر به أي بالقرءان كراهة أن تبسل نفس بما كسبت أي تحجب بكسبها بان يصير لها ملكة أي ذكر من لم يكن دينه اللعب واللهو لئلا دكون دينه ذلك وأما من وصل إلى ذلك الحد فلا ينفعه التذكير أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وهو شدة الشوق إلى الكمال وعذاب أليم وهو الحرمان عنه بسبب الاحتجاب بما كسبوا قل أتدعون من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا أي أنعبد من ليس له قدرة على شيء أصلا إذ لا وجود له حقيقة ونرد على أعقابنا بالشرك بعد إذ هدانا الله إلى التوحيد الحقيقي كالذي استهوته الشياطين من الوهم والتخيل في الأرض أي أرض الطبيعة ومهامه النفس حيران لا يدري أين يذهب له أصحاب من الفكر والقوى النظرية يدعونه إلى الهدى الحقيقي يقولون ائتنا فان الطريق الحق عندنا وهو لا يسمع قل إن هدى الله وهو طريق التوحيد هو الهدى وغيره غيره وأمرنا لنسلم لرب العالمين بمحو صفاتنا وأن أقيموا الصلاة الحقيقية وهو الحضور القلبي
قال ابن عطاء : اقامة الصلاة حفظها مع الله تعالى بالأسرار واتقوه أي اجعلوه سبحانه وقاية بالتخلص عن وجودكم وهو الذي اليه تحشرون بالفناء فيه سبحانه وهو الذي خلق السموات أي سموات الأرواح والأرض أي أرض الجسم بالحق أي قائما بالعدل الذي هو مقتضى ذاته ويوم يقول كن فيكون وهو وقت تعلق ارادته القديمة بالظهور في التعينات قوله الحق لاقتضائه ما اقتضاه على أحسن نظام وليس في الامكان ابدع مما كان وله الملك يوم ينفخ في الصور وهو وقت افاضة الأرواح على صور المكنونات التي هي ميتة بانفسها بل لا وجود لها ولا حياة عالم الغيب أي حقائق عالم الأرواح ويقال له الملكوت والشهادة أي صور عالم الأشباح ويقال له الملك وهو الحكيم الذي أفاض على القوابل حسب القابليات الخبير باحوالها ومقدار قابلياتها لا حكيم غيره ولا خبير سواه
(7/193)
وإذ قال إبراهيم نصب عند بعض المحققين على أنه مفعول به لفعل مضمر خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم معطوف على قل أندعوا لا على أقيموا لفساد المعنى أي واذكر يا محمد لهؤلاء الكفار بعد أن أنكرت عليهم عبادة مالا يقدر على نفع ولا ضر وحققت أن الهدى هو هدى الله تعالى وما يتبعه من شؤونه تعالى وقت قول إبراهيم عليه السلام الذين يدعون أنهم على ملته موبخا لأبيه ءازر على عبادة الأصنام فان ذلك مما يبكتهم وينادي بفساد طريقتهم وآزر بزنة آدم علم أعجمي لأبي إبراهيم عليه السلام وكان من قرية من سواد الكوفة وهو بدل من إبراهيم أو عطف بيان عليه وقال الزجاج : ليس بين التسابين اختلاف في أن اسم أبي إبراهيم عليه السلام تارح بتاء مثناة فوقية وألف بعدها راء مهملة مفتوحة وحاء مهملة ويروى بالخاء المعجمة وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن أبن جريج أن اسمه تيرح أو تاريح
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ان اسم أبي إبراهيم عليه الصلاة السلام يازر واسم أمه مثلى وإلى كون ءازر ليس اسما له ذهب مجاهد وسعيد بن المسيب وغيرهما واختلف الذاهبون إلى ذلك فمنهم من قال : إن ءآزر لقب لأبيه عليه السلام ومنهم من قال : اسم جده ومنهم من قال : اسم عمه والعم والجد يسميان ابا مجازا ومنهم من قال : هو اسم صنم وروي ذلك عن ابن عباس والسدي ومجاهد رضي الله تعالى عنهم ومنهم من قال : هو وصف في لغتهم ومعناه المخطيء وعن سليمان التيمي قال : بلغني أن معناه الاعوج وعن بعضهم أنه الشيخ الهرم بالخوارزمية وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فانه يغلب منع صرفه لكثرته في الاعلام الأعجمية وقيل الاولى أن يقال : إنه غلب عليه فالحق بالعلم وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الازر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الاثم ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل وعلى القول بأنه بمعنى الصنم يكون الكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف اليه مقامه أي عابد آزر
وقرأ يعقوب آزر بالضم على النداء واستدل بذلك على العلمية بناء على أنه لا يحذف النداء إلا من الاعلام وحذفه من الصفات شاذ أي يا ءازر أتتخذ أصناما ءالهة أي أتجعلها لنفسك ءالهة على توجيه الانكار إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما يراد صيغة الجنس باعتبار الوقوع وقريء أأزرا بهمزتين الاولى استفهامية مفتوحة والثانية مفتوحة ومكسورة وهي إا أصلية أو مبدلة من الواو ومن قرأ بذلك قرأ تتخذ باسقاط الهمزة وهو مفعول به لفعل محذوف أي أتعبد آزرا على أنه اسم صنم ويكون تتخذ الخ بيانا لذلك وتقريرا وهو داخل تحت الانكار أو مفعول له على أنه بمعنى القوة أى الأجل القوة تتخذ أصناما ءالهة والكلام انكار لتعززه بها على طريقة قوله تعالى : أتبتغون عندهم العزة وجوز أن يكون حالا أو مفعولا ثانيا لتتخذ
وأعرب بعضهم ءازر على قراءة الجمهور على أنه مفعول لمحذوف وهو بمعنى الصنم أيضا أي أتعبدون ءازر وجعل قوله سبحانه أتتخذ الخ تفسيرا وتقريرا بمعنى أنه قرينة على الحذف لا بمعنى التفسير المصطلح عليه في باب الاشتغال لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها وما لا يعمل لا يفسر عاملا كما تقرر عندهم والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة ان ءازر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادعوا أنه ليس في ءآباء النبي صلى الله عليه و سلم كافر
(7/194)
أصلا لقوله عليه الصلاة و السلام لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات والمشركين نجس وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب
وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الامام الرازي ناشيء من قلة التتبع وأكثر هؤلاء على أن ءازر اسم لعم إبراهيم عليه السلام وجاء إطلاق الأب على العم في قوله تعالى أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد الهك وإله ءابائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق وفيه اطلاق الاب على الجد أيضا
وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال : الخال والد والعم والد وتلا هذه الآية وفي الخبر ردوا على أبي العباس وأيد بعضهم دعوى أن أبا إبراهيم عليه السلام الحقيقي لم يكن كافرا وإنما الكافر عمه بما أخرجه ابن المنذر في تفسيره
(7/195)
بسند صحيح عن سليمان بن صرد قال : لما أرادوا أن يلقوا ابراهيم عليه السلام في النار جعلوا يجمعون الحطب حتى ان كانت العجوز لتجمع الحطب فلما تحقق ذلك قال : حسبي الله تعالى ونعم الوكيل فلما ألقوه قال الله تعالى يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكانت فقال عمه من أجلي دفع عنه فارسل الله تعالى عليه شرارة من النار فوقعت على قدمه فاحرقته
وبما أخرج عن محمد بن كعب وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم أن ابراهيم عليه السلام لم يزل يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدو لله فلم يستغفر له ثم هاجر بعد موته وواقعة النار إلى الشام ثم دخل مصر واتفق له مع الجبار ما اتفق ثم رجع إلى الشام ومعه هاجر ثم أمره الله تعالى أن ينقلها وولدها إسماعيل إلى مكة فنقلها ودعا هناك فقال : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم الى قوله رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب فانه يستنبط من ذلك أن المذكور في القرءان بالكفر هو عمه حيث صرح في الاثر الأول أن الذي هلك قبل الهجرة هو عمه ودل الأثر الثاني على أن الاستغفار لوالديه كان بعد هلاك أبيه بمدة مديدة فلو كان الهالك هو أبوه الحقيقي لم يصح منه عليه السلام هذا الاستغفار له أصلا فالذي يظهر أن الهالك هو العم الكافر المعبر عنه بالاب مجازا وذلك لم يستغفر له بعد الموت وان المستغفر له إنما هو الاب الحقيقي وليس بازر وكان في التعبير بالوالد في آية الاستغفار وبالأب في غيرها إشارة إلى المغايرة
ومن الناس من احتج أن آزر ما كان والد ابراهيم عليه السلام بأن هذه دالة على أنه عليه السلام شافهه بالغلظة والجفاء لقوله تعالى : إني أراك وقومك أي الذين يتبعونك في عباداتها في ضلال عظيم عن الحق مبين
47
- أي ظاهر لا اشتباه فيه أصلا ومشافهة الأب بالجفاء لا يجوز لما فيه من الايذاء وآية التأفيف بفحواها تعم سائر أنواع الايذاءات كعمومها للاب الكافر والمسلم وأيضا ان الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه والقول اللين له رعاية لحق التربية وهي في الوالد أتم وأيضا الدعوة بالرفق أكثر تأثيرا فان الخشونة توجب النفرة فلا تليق من غير ابراهيم عليه السلام مع الاجانب فكيف تليق منه مع أبيه وهو الاواه الحليم وأجيب بان هذا ليس من الايذاء المحرم في شيء وليس مقتضى المقام الا ذاك ولا نسلم أن الداعي لأمر موسى عليه السلام باللين مع فرعون مجرد رعاية حق التربية وقد يقسو
(7/0)
الانسان أحيانا على شخص لمنفعته كما قال أبو تمام : فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم وقال ابو العلاء المعري : اضرب وليدك وادلله على رشد ولا تقل هو طفل غير محتلم فرب شق برأس جر منفعة وقس على شق رأس السهم والقلم وقال ابو خفاجة الاندلسي : نبه وليدك من صباه بزجره فلربما أغفى هناك ذكاؤه وانهره حتى تستهل دموعه في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه فالسيف لا يذ : و بكفك ناره حتى يسيل بصفحتيه ماؤه وكون الرفق أكثر تأثيرا غير مسلم على الاطلاق فان المقامات متفاوتة كما ينبيء عن ذلك قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام تارة : وجادلهم بالتي هي أحسن وأخرى واغلظ عليهم نعم لو ادعى أن ما ذكر مؤيد لكون آزر ليس أبا حقيقيا لابراهيم عليه السلام لربما قبل وحيث ادعى انه حجة على ذلك فلا يقبل فتدبر والرؤية إما علمية والظرف مفعولها الثاني وإما بصرية فهو حال من المفعول والجملة تعليل للانكار والتوبيخ ومنشأ ضلال عبدة الاصنام على ما يفهم من كلام أبي معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض كتبه اعتقاد أن الله تعالى جسم فقد نقل عنه الامام أنه قال : إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الاله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه سبحانه جسم ذو صورة كاحسن ما يكون من الصور والملائكة أيضا صور حسنة الرواء والهيكل وجعلوا الأحسن هيكل الاله وما دونه هيكل الملك وواظبوا على عبادة ذلك قاصدين الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة وذكر الامام نفسه في أصل عبادة الأصنام أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فزعموا ارتباط السعادة والنحوسة بكيفية وقوعها في الطوالع ثم غلب على ظن أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فبالغوا في تعظيم الكواكب ثم منهم من أعتقد أنها واجبة الوجود لذاتها ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للاله الأكبر إلا أنهم قالوا : إنها مع ذلك هي المدبرة لاحوال العالم وعلى كلا التقديرين اشتغلوا بعبادتها ولما رأوها قد تغيب عن الابصار اتخذوا لكل كوكب صنما من الجوهر المنسوب اليه بزعمهم وأقبلوا على عبادته وغرضهم من ذلك عبادة تلك الكواكب والتقرب اليها ولهذا أقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدلة على أن الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال سبحانه ألا له الخلق والأمر بعد أن بين أن الكواكب مسخرة وعلى أنها لو قدر صدور فعل منها وتأثير في هذا العالم لا تخلوا عن دلائل الحدوث وكونها مخلوقة فيكون الاشتغال بعبادة الفرع دون عبادة الأصل ضلالا محضا ويرشد إلى أن حاصل دين عبدة الاصنام ما ذكر أنه سبحانه بعد أن حكى توبيخ ابراهيم عليه السلام لأبيه على اتخاذها أقام الدليل على أن الكواكب والقمر لا يصلح شيء منها للالهية وأنا أقول : لعل هذا سبب في عبادة الأصنام أولا
(7/196)
وأما سبب عبادة العرب لها فغير ذلك قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام خرج من مكة إلى الشام في بعض أسفاره فلما قدم أرض البلقاء وبها يومئذ العمالقة أولاد عملاق ويقال عمليق بن لاود بن سام بن نوح عليه السلام رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم : ما هذه التي أراكم تعبدون فقالوا : هذه الأصنام نعبدها ونستمطر بها فتمطرنا ونستنصر بها فتنصرنا فقال لهم : ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه فاعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وقال ابن اسحق : يزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني اسمعيل عليه السلام وذلك أنه كان لايظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد الا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى خلفهم الخلف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان فصاروا على ما كانت الامم قبلهم من الضلالات وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك وكذلك نري إبراهيم هذه الاراءة من الرؤية البصرية المستعارة استعارة لغوية للمعرفة من إطلاق السبب على المسبب أي عرفناه وبصرناه وكان الظاهر أرينا بصيغة الماضي إلا أنه عدل إلى صيغة المستقبل حكاية للحال الماضية استحضارا لصورتها حتى كأنها حاضرة مشاهدة وقيل : إن التعبير بالمستقبل لأن متعلق الاراءة لا يتناهى وجه دلالته فلا يمكن الوقوف على ذلك إلا بالتدريج وليس بشيء والاشارة إلى مصدر نري لا إلى اراءة أخرى مفهومة من قوله تعالى إني أراك ولا إلى ما أنذر به أباه وضلل قومه من المعرفة والبصارة وجوز كل وقيل : يجوز أن يجعل المشبه التبصير من حيث أنه واقع والمشبه به التبصير من حيث أنه مدلول اللفظ ونظيره وصف النسبة بالمطابقة للواقع وهي عين الواقع وجوز كون الكاف بمعنى اللام والاشارة إلى القول السابق وأنت تعلم ماهو الاجزل والاولى مما تقدم لك في نظائره وليس هو إلا الاول أي ذلك التبصير البديع نبصره عليه السلام ملكوت السموات والأرض أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما لا تبصيرا آخر أدنى منه فالملكوت مصدر كالرغبوت والرحموت كما قاله ابن مالك وغيره من أهل اللغة وتاؤه زائدة للمبالغة ولهذا فسر بالملك العظيم والسلطان القاهر وهو كما قال الراغب مختص به تعالى خلافا لبعضهم وعن مجاهد أن المراد بالملكوت الآيات وقيل : العجائب التي في المسوات والارض فانه عليه السلام فرجت له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى أنتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والارض أشرف على رجل على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر فذهب يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه أن يا إبراهيم انك رجل مستجاب الدعوة فلا تدع على عبادي فانهم مني على ثلاث إا أن يتوب العاصي فأتوب عليه وإا أن أخرج من صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح وإا أن أقبضه إلي فان شئت عفوت وإن شئت عاقبت روي نحوه موقوفا ومرفوعا من طرق شتى ولا خلاف فيها لدلائل المعقول خلافا لمن توهمه وقيل : ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والاشجار والبحار
(7/197)
وهذه الأقوال على ما قيل لاتقتضي ان تكون الاراءة بصرية إذ ليس المراد باراءة ما ذكر من الامور الحسية مجرد تمكينه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل اطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شؤونه عز و جل ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حسا كما ينبيء عنه التشبيه السابق
وقريء ترى بالتاء واسناد الفعل إلى الملكوت أي تبصره عليه السلام دلائل الربوبية وليكون من الموقنين
57
- أي من زمرة الراسخين في الايقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى وهذا لا يقتضي سبق الشك كما لا يخفى واللام متعلقة بمحذوف مؤخر والجملة اعتراض مقرر لما قبلها أي وليكون كذلك فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور والحصر باعتبار أن هذا الكون هو المقصود الأصلي من ذلك التبصير ونحو ارشاد الخلق والزام الكفار من مستتبعاته وبعضهم لم يلاحظ ذلك فقدر الفعل مقدما لعدم انحصار العلة فيما ذكر
وقيل : هي متعلقة بالفعل السابق والجملة معطوفة على علة مقدرة ينسحب عليها الكلام أي ليستدل وليكون واعترض بان الاستدلال مع قطع النظر عن كونه سببا للالتفات لا يكون علة للاراءة فكيف يعطف عليه باعادة اللام وليس بشيء وادعى بعضهم أنه ينبغي على ذلك أن يراد بملكوت السموات والأرض بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات اراءتها لامن غاية الاراءة نفس الربوبية وأنت تعلم أن رؤية الربوبية إنما هي برؤية دلائلها وآثارها ومن الناس من كوز كون الواو زائدة واللام متعلقة بما قيل وفيه بعد وإن ذكروه وجها كالأولين في كل ما جاء في القرآن من هذا القبيل
وقوله تعالى : فلما جن عليه الليل يحتمل أن يكون عطفا على إد قال إبراهيم وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق ولحق فان تعريفه عليه السلام ربوبيته ومالكيته تعالى للسموات والأرض وما فيهن وكون الكل مقهورا تحت ملكوته مفتقرا اليه عز شأنه في جميع أحواله وكونه من الراسخين في المعرفة الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقتضي بان يحكم باستحالة ألوهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب التي كان يعبدوها قومه واختاره بعض المحققين ويحتمل أن يكون تفصيلا لما ذكر من آراء الملوت وبيانا لكيفية استلاله عليه السلام ووصوله إلى رتبة الايقان والترتيب ذكرى لتأخر التفصيل عن الاجمال في الذكر ومعنى فلما جن عليه الليل ستره بظلامه وهذ المادة بمتصرفاتها تدل على الستر وعن الراغب أصل الجن الستر عن الحاسة يقال : جنه الليل وأجنه وجن عليه فجنه وجن عليه ستره وأجنه جعل له ما يستره
وقوله سبحانه : رأى كوكبا جواب لما فان رؤيته إنما تتحقق عادة بزوال نور الشمس عن الحس وهذا كما قال شيخ الاسلام صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان بعد غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس والتحقيق عنده أنه كان قريبا من الغروب وسيأتي إن شاء الله تعالى الاشارة إلى سبب ذلك والمراد بالكوكب فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المشتري وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنه الزهرة قال هذا ربي استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق وهدا منه عليه السلام على سبيل الفرض وارخاء العنان مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فان المستدل على فساد قول يحكيه ثم يكر عليه بالابطال وهذا هو الحق الحقيق بالقبول
(7/198)
وقيل : إن في الكلام استفهاما إنكاريا محذوفا وحذف أداة الاستفهام كثير في كلامهم ومنه قوله : ثم قالوا تحبها قلت بهرا وقوله : فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى : فلا اقتحم العقبة إن المعنى أفلا اقتحم وجعل من ذلك قوله تعالى : وتلك نعمة تمنها علي وقيل : انه مقول على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوما : هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء وقيل : إنه عليه السلام أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا فمال إلى طريق يستدرجهم إلى استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنا بالايمان ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإن لم يقبلوا وقرر الامام هذا بأنه عليه السلام لما لم يجد إلى الدعوة طريقا سوى هذا الطريق وكان مأمورا بالدعوة إلى الله تعالى كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر ومعلوم أنه عند الاكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان وإذا جاز ذلك لبقاء شخص واحد فبأن يجوز لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى فكلام ابراهيم عليه السلام كان من باب الموافقة ظاهرا للقوم حتى إدا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم له اتم وانتفاعهم باستماعه أكمل ثم قال : ومما يقوي هذا القول أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله تعالى فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم وذلك لأن القوم كانوا يستدلون بعلم النجوم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم في الظاهر مع أنه كان بريئا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الاصنام فمتى جازت الموافقة لهذا الغرض فلم لا تجوز في مسئلتنا لمثل ذلك وقيل : إن القوم بينما كانوا يدعونه عليه السلام إلى عبادة النجوم وكانت المناظرة بينهم قائمة على ساق إذ طلع النجم فقال : هذا ربي على معنى هذا هو الرب الذي تدعونني اليه وقيل وقيل والكل ليس بشيء عند المحققين لا سيما ما قرره الامام وتلك الأقوال كلها مبنية على أن هذا القول كان بعد البلوغ ودعوة القوم إلى التوحيد وسياق الآية وسباقها شاهدا عدل على ذلك
وزعم بعضهم أنه كان قبل البلوغ ولا يلزمه اختلاج شك مؤد إلى كفر لأنه لما آمن بالغيب أراد أن يؤيد ما جزم به بأنه لو لم يكن الله تعالى إلها وكان ما يعبده قومه لكان إما كذا وإا كذا والكل لا يصح لذلك فيتعين كون الله تعالى إلها وهو خلاف الظأهر ويأباه السياق والسياق كما لايخفى وزعم أنه عليه السلام قال ما قال إد لم يكن عارفا بربه سبحانه والجهل حال الطفولية قبل قيام الحجة لا يضر ولا يعد ذلك كفرا مما لا يلتفت اليه أصلا فقد قال المحققون المحقون : إنه لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الاوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء وقد قص الله تعالى من حال إبراهيم عليه السلام خصوصا في صغره مالا يتوهم معه شائبة مما يناقض ذلك فالوجه الأول لا غير ولعل سلوك تلك الطريقة في بيان استحالة ربوبية الكوكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام كما قيل لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام لتمادوا في المكابرة والعناد ولجوا في طغيانهم يعمهون وكان تقديم بطلان إلهية الأصنام على ما ذكر من باب الترقي من الخفي
(7/199)
إلىإلى الاخفى وقيل : إن القوم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذؤا لكل كوكب صنما من المعادن المنسوبة اليه كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا اليها فكان الصنم كالقبلة لهم فأنكر أولا عبادتهم للاصنام بحسب الظاهر ثم أبطل منشآتها وما نسبت إليه من الكواكب بعدم استحقاقها لذلك أيضا ولعلهم كانوا يعتقدون تأثيرها إستقلالا دون تأثير الأصنام ولهذا تعرض لبطلان الالهية في الأصنام والربوبية فيها وقرأ أبو عمرو وورش من طريق البخاري رأى بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف ويحيى عن أبي بكر رأئى بسر الراء والهمزة فلما أفل أي عرب : قال لا أحب الآفلين
67
- اي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال ونفي لمحبة قيل إشارة إلى نفي اعتقاد الربوبية
الكلام مضافا أي لا أحب عبادة الآفلين وأيا ما كان فمبتدأ الاشتقاق علة للحكم لأن الأقوال انتقال واحتجاب وكل منها ينافي استحقاق الربوبية والألوهية التي هي من مقتضيات الربوبية لاقتضاء ذلك الحدوث والامكان المستحيلين على الرب المعبود القديم فلما رأى القمر بازغا أي مبتدأ في الطلوع منتشر الضوء ولعله كما قال الازهري مأخوذ من البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا ويقال بزغ الناب إذا ظهر وبزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها ويقال : بزغ الدم أي سال وعلى هذا فيمكن أن يكون بزوغ القمر مشبها بما ذكر وكلام الراغب صريح فيه وظاهر الآية أن هذه الرؤية بعد غروب الكواكب
وقوله سبحانه : قال هذا ربي جواب لما وهو على طرز الكلام السابق فلما أفل كما أفل الكوكب قال لئن لم يهدني ربي الى جنابة الحق الذي لا محيد عنه لأكونن من القوم الضالين
77
- فان شيئا مما زايته لا يصلح للربوبية وهذا مبالغة منه عليه السلام في النصفة وفيه كما قال الزمخشري تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكواكب في الأفول فهو ضال والتعريض بضلالهم هنا كما ابن المنير أصرح وأقوى من قوله أولا لا أحب الآفلين وإنما ترقى عليه السلام إلى ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الاول حجة فانسوا بالقدح في معتقدهم ولو قيل هذا في الاول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون الى الاستدلال فما عرض عليه السلام بانهم على ضلالة إلا بعد أن وثق باصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم له إلى آخره والدليل على ذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة عليهم وتبلج الحق وبلغ من الظهور غايةته
وفي هذه الجملة دليل من غير وجه على أن استدلاله عليه السلام ليس لنفسه بل كان محاجة لقومه وكذا ما سيأتي
وحمل هذا على أنه عليه الصلاة و السلام استعجز نفسه فاستعان بربه عز و جل في درك الحق وما سيأتي على أنه إشارة الى حصول اليقين من الدليل خلاف الظاهر جدا على أنه قيل : إن حصول اليقين من الدليل لا ينافي المحاجة مع القوم ثم الظاهر على ما قال شيخ الاسلام أنه عليه السلام كان إذا ذاك في موضع كان في جانبه الغربي جبل شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريبا منه وافقه الشرقي مكشوف أولا وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قبل طلوع الشمس كما
(7/200)
ينبيء عنه قوله تعالى : فلما رأى الشمس بازغة أي مبتدأة في اللوع مما لا ياد يتصور وقال آخر : أن القمر لم يكن حين رآه في ابتداء الطلوع بل كان وراء جبل ثم طلع منه أو في جانب آخر لا يراه وإلا فلا احتمال لأن يطلع القمر من مطلعه بعد أفول الكوكب ثم يغرب قبل طلوع الشمس انتهى
ؤانت تعلم أن القول بوجود جبل في المغرب أو المشرق خلاف الظأهر لا سيما على قول شيخ الاسلام لان هذا الاحتجاج كان في نواحي بابل على ما يشير إليه كلام المؤرخين وأهل الاثر وليس هناك اليوم جبل مرتفع بحيث يستتر به الكوكب وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل واحتمال كونه كان إذ ذاك ولم يبق بتتالي الاعوام بعيد وكذا يقال على القول المشهور عند الناس اليوم : إن واقعة إبراهيم عليه السلام كانت قريبا من حلب لأنه أيضا ليس هناك جبل شامخ كما يقوله الشيخ على أن المتبادر من البزوغ والافول البزوغ من الافق الحقيقي لذلك الموضع والافول عنه لا مطلق البزوغ والافول
وقال الشهاب إن الذي ألجاهم إلى ما ذكر التعقيب بالفاء ويمكن أن يكون تعقيبا عرفيا مثل تزوج فولد له اشارة إلى أنه لم تمض أيام وليال بين ذلك سواء كان استدلالا أو وضعا واستدراجا لا أنه مخصوص بالثاني كما توهم على أنا لا نسلم ما ذكر إذا كان كوكبا مخصوصا وإنما يرد لو أريد جملة الكواكب أو واحد لا على التعيين فتأمل انتهى ولا يخفى أن القول بالتعقيب العرفي والتزام أن هذا الاستدلال لم يكن في ليلة واحدة وصبيحتها هو الذي يميل اليه القلب ودعوى أمكان طلوع القمر بعد أفول الكوكب حقيقة وقبل طلوع الشمس وافوله قبل طلوعها لا يدعيها عارف بالهيئة في هذه الآفاق التي نحن فيها لأن امتناع ذلك عادة ولو أريد كوكب مخصوص أمر ظاهر لا سيما على ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن رؤية القمر كانت في ءاخر الشهر نعم قد يمكن ذلك في بعض البروج في عروض مخصوصة لكن بيننا وبينها مهامة فيح ولعله لذلك أمر بالتأمل فتأمل قال أي على المنوال السابق هذا ربي إشارة إلى الجرم المشاهد من حيث هو لا من حيث هو مسمى باسم من الأسامي فضلا عن حيثية تسميته بالشمس ولذا ذكر اسم الاشارة
وقال ابو حيان يمكن أن يقال : إن أكثر لغة العجم لا تفرق في الضمائر ولا في الاشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث بل المؤنث والمذكر عندهم سواء فاشير في اةية إلى المؤنث بما يشار به إلى المذكر حين حكى كلام إبراهيم عليه السلام وحين أخبر سبحانه عن المؤنث ببازغة وأفلت أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية
وتعقب بأن هذا إنما يظهر لو حكي كلامهم بعينه في لغتهم أما إذا عبر عنه بلغة العرب فالمعتبر حكم لغة العرب وقد صرح غير واحد بأن العبرة في التذكير والتأنيث بالحكاية لا المحكي ألا ترى أنه لو قال أحد : الكوب النهاري طلع فحكيته بمعناه وقلت : الشمس طلعت لم يكن لك ترك التأنيث بغير تأويل لما وقع في عبارته وإدا تتبعت ما وقع في النظم الكريم رأيته إنما يراعي فيه الحكاية على أن القول بان محاورة ابراهيم عليه السلام كانت بالعجمية دون العربية مبني على أن إسمعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية والصحيح خلافه
وقيل : التذكير لتذكير الخبر وقد صرحوا في الضمير واسم الاشارة مثله أن رعاية الخبر فيه أولى من رعاية المرجع لأنه مناط الفائدة في الكلام وما مضى فات وفي الكشاف بعد جعل التذكير لتذكير الخبر
(7/201)
وكانوكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث واعترض عليه بان هذا في الرب الحقيقي مسلم وما هنا ليس كذلك وأجيب بان ذلك على تقدير أن يكون مسترشدا ظاهر والمراد على المسلك الآخر اظهار صون الرب ليستدرجهم اذ لو حقر بوجه ما كان سببا لعدم اصغائهم وقوله تعالى : هذا أكبر تأكيدا لما رامه عليه الصلاة و السلام من أظهار النصفة مع اشارة خفية كما قيل الى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الاكبر أحق بالربوبية من الأصغر وكون الشمس أكبر مما قبلها مما لا خفاء فيه والآثار في مقدار جرمها مختلفة والذي عليه محققوا أهل الهيئة انها مائة وستة وستون مثلا وربع وثمن مثل الارض وستة آلاف وستمائة وأربة وأربعون مثلا وثلثا مثل للقمر وذكروا أن الأرض تسعة وثلاثون مثلا وخمس وعشر مثل للقمر وتحقيق ذلك في شرح مختصر الهيئة للبرجدي فلما أفلت كما أفل ما قبلها قال لقومه صادحا بالحق بين ظهرانيهم : يا قوم اني بريء مما تشركون
87
- أي من اشراككم او من الذي تشركونه من الاجرام المحدثة المتغيرة من حال إلى أخرى المسخرة لمحدثها وانما أحتج عليه السلام بالافول دون البزوغ مع أنه أيضا انتقال قيل لتعدد دلالته لأنه انتقال مع احتجاب والاول حركة وهي حادثة فيلزم حدوث محلها والثاني اختفاء يستببع امكان موصوفه ولا كذلك البزوغ لأنه وان كان انتقالا مع الروز لكن ليس للثاني مدخل في الاستدلال واعترض بان البزوغ أيضا انتقال مع احتجاب لأن الاحتجاب في الأول لاحق وفي الثاني سابق وكونه عليه السلام رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء كما قيل ولم يشاهد بزوغه فانما يصير نكتة في الكوكب دون القمر والشمس إلا أن يقال بترجيح الافول بعمومه بخلاف البزوغ
والاولى ما قيل : إن ترتيب هذا الحكم ونظيريه على الافول دون البزوغ والظور من ضروريات سوق الاحتجاج على هذا المساق الحكيم فان كلا منهما وإن كان في نفسه انتقالا منافيا لاستحقاق في الجملة رتب عليه الحكم الاول أعني هذا ربي على الطريقة المذكورة وحيث كان الثاني حالة مقتضية لانطماس الآثار وبطلان الاحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد رتب عليها ما رتب انتهى
وبمعنى هذا ما قاله الامام في وجه الاستدلال بالافول من أن دلالته على المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد فان الآفل يزول سلطانه وقت الافول ونقل عن بعض المحققين أن الهوى في حضيض الامكان أفول وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الاوساط وحصة العوام فالخواص يفهمون من الافول الامكان وكل ممكن محتاج والمحتاج لا يكون مقطعا للحاجة فلابد من الانتهاء الى ما يكون منزها عن الامكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال سبحانه : وان إلى ربك المنتهى وأما الأوساط فهم يفهمون من الافول مطلق الحركة وكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج الى القديم القادر فلا يكون الآفل إلها بل الاله هو الذي احتاج اليه ذلك الآفل وأما العوام فانهم يفهمون من الافول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الافول والغروب فانه يزول نوره وينتقص ضوؤه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن
(7/202)
كان كذلك لم يصلح للالهية ثم قال : فكلمة لا أحب الآفلين مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين وهنا أيضا دقيقة اخرى وهو أنه عليه السلام انما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ومذهب أهل النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي وكان صاعدا الى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير أما إذا كان غربيا وقريبا من الافول فانه يكون ضعيف الاثر قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الاله هو الذي لا تتغير قدرته الى العجز وكماله إلى النقصان ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجزا عن التدبير وذلك يدل على القدح في إلهيته
ويظهر من هذا أن للافول على قول المنجمين مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في الهيته ولا يخفى أن فهم الهوى في حضيض الامكان من فلما أفل في هذه الآية مما لا يكاد يسلم وكون المراد فلما تحقق إمكانه لظهور أمارات ذلك من الجسمية والتحيز مثلا قال الخ لا يخفى ما فيه نعم فهم هذا المعنى من لا أحب الآفلين ربما يحتمل على بعد ونقل عن حجة الاسلام الغزالي أنه حمل الكوكب على النفس الحيوانية التي لكل كوكب والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك والشمس على العقل المجرد الذي لكل فلك وعن بعضهم أنه حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل والمراد أن هذ القوى المدركة قاصرة متناهية القوة ومدبر العالم مستولي عليها قاهر لها وهو خلاف الظاهر أيضا وسيأتي ان شاء الله تعالى في باب الاشارة نظير ذلك وإنما لم يقتصر عليه السلام في الاحتجاج على قومه بأفول الشمس مع أنه يلزم من امتناع صفة الربوبية فيها لذلك امتناعها في غيرها من باب أولى
وفيه أيضا رعاية الايجاز والاختصار ترقيا من الادون إلى الأعلى مبالغة في التقرير والبيان على ماهو اللائق بذلك المقام ولم يحتج عليهم بالجسمية والتحيز ونحوهما مما يدركه الرائي عند الرؤية في أمارات الحدوث والامكان اختيارا لما هو أوضح من ذلك في الدلالة وأتم ثم أنه عليه السلام لما تبرأ مما تبرأ منه توجه إلى مبدع هذه المصنوعات وموجدها فقال : إني وجهت وجهي للذي فطر أي أوجد وأنشأ السموات التي هذه الأجرام من أجزائها والأرض التي تلك الاصنام من أجزائها حنيفا أي مائلا عن الاديان الباطلة والعقائد الزائغة كلها وما أنا من المشركين
97
- أصلا في شيء من الأقوال والأفعال والمراد من توجيه الوجه للذي فطر الخ قصده سبحانه بالعبادة
وقال الامام : المراد وجهت عبادتي وطاعتي وسبب هذا الجواز ان من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فانه يتوجه بوجهه اليه فجعل توجه الوجه اليه كناية عن الطاعو والظاهر ان اللام صلة وجه وفي الصحاح وجهت وجهي لله وتوجهت نحوك واليك وظاهره التفرقة بين وجه وتوجه باستعمال الأول باللام والثاني بالى وعليه وجه اللام هنا دون إلى ظاهر وليس في القاموس تعرض لهذا الفرق وادعى الامام أنه حيث كان المعنى توجيه وجه القلب إلى خدمته تعالى وطاعته لأجل عبوديته لا توجه القلب اليه جل شانه لأنه متعال عن الحيز والجهة تركت إلى واكتفى باللام فتركها والاكتفاء باللام ههنا دليل ظاهر على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة وفي القلب من ذلك شيء فان قيل : إن قصارى ما يدل عليه الدليل أن الكوكب
(7/203)
والشمس والقمر لا يصلح شيء منها للربوبية والألوهية ولا يلزم من هذا القدر نفي الشرك مطلقا واثبات التوحيد فلم جزم عليه السلام باثبات التوحيد ونفي الشرك بعد إقامة ذلك الدليل فالجواب بأن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذ الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل على أن هذه الأشياء ليست أربابا ولا آلهة وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الاطلاق ثم ان المشهور أن هذا الاستدلال من أول ضروب الشكل الثاني
والشخصية عندهم في حكم الكلية كأنه قيل : هذا أو القمر أو هذه أو أفلت ولا شيء من الآله بآفل أو ربي ليس بآفل ينتج هذا أو القمر أو هذه ليس باله أو ليس بربي أما الصغرى فهي كالمصرح بها في قوله تعالى فلما أفل في الموضعين وقوله سبحانه : فما أفلت في الأخير وأما الكبرى فمأخوذة من قوله تعالى : لا أحب الآفلين لأنه يشير إلى قياس وهو كل آفل لا يستحق العبودية وكل من لا يستحق العبودية فليس باله ينتج من الأول كل آفل ليس باله ويستلزم لا شيء من اةفل باله لاستلزام الكوجبة المعدولة السالبة المحصلة ويصح جعل الكبرى ابتداء سالبة فينتج ما ذكر وينعكس إلى لا شيء من الاله بآفل وهي أحدى الكبريين ويعلم من هذا بأدنى التفات كيفية أخذ الكبرى الثانية
وقال الملوي : الأحسن أن يقال إن قوله تعالى : لا أحب الآفلين يتضمن قضية وهي لا شيء من الآفل يستحق العبودية فتجعل كبرى لصغرى ضرورية وهي الاله المستحق للعبودية ينتج لا شيء من الاله بآفل وإذا ضمت هذ النتيجة إلى القضية السابقة وهي هذا آفل ونحوه أنتج من الثاني هذا ليس باله أو لا شيء من القمر باله وإن ضممت عكسها المستوى اليها انتج من الأول المطلوب بعينه فلا يتعين الثاني في الآية بل الأول مأخوذ منها أيضا اه فتأمل فيه ولا تغفل
وحاجه قومه أي خاصمون كما قال الربيع أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة بايراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض التقليد وأخرى بالتخويف والتهديد قال منكرا عليهم محاجتهم له عليه السلام مع قصورهم عن تلك المرتبة وعزة المطلب وقوة الخصم ووضوح الحق أتحاجوني في الله أي في شأنه تعالى ووحدانيته سبحانه وقرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذ : وان بتخفيف النون ففيه حذف أحدى النونين
وأختلف في أيهما المحذوفة فقيل : نون الرفع وهو مذهب شيبويه ورجح بأن الحاجة دعت إلى نون مكسورة من أجل الياء ونون الرفع لا تكسر وبأنه جاء حذفها كما في قوله : كل له نية في بغض صاحبه بنعمة الله نقليكم وتقلونا أراد تقلوننا والنون الثانية هنا ليست وقاية بل هي من الضمير وحذف بعض الضمير لا يجوز وبأنها نائبة عن الضمة وهي قد تحذف تخفيفا كما في قراءة أبي عمرو ينصركم ويشعركم ويأمركم وقيل نون الوقاية وهو مذهب الأخفش ورجح بأنها الزائدة التي حصل بها الثقل وقوله تعالى : وقد هدان في موضع الحال من ضمير المتكلم مؤكذة للانكار فان كونه عليه الصلاة و السلام مهديا من جهة الله تعالى ومؤيدا من عنده سبحانه مما يوجب الكف عن محاجته صلى الله تعالى عليه وسلم وعدم المبالاة بها والالتفات اليها إدا وقعت قيل : والمراد وقد هدان إلى إقامة الدليل عليكم بوحدانيته عز شأنه وقيل : هدان إلى الحق بعد
(7/204)
ما سلكت طريقكم بالفرض والتقدير وتبين بطلانها تبينا تاما كما شاهدتموه وعلى القولين لا يقتضي سبق ضلال له عليه الصلاة و السلام وجهل بمعرفة ربه جل وعلا وهدان يرسم كما قال الأجهوري بلا ياء
ولا أخاف ما تشركون به جواب كما روي عن ابن جريج عما خوفوه عليه السلام من إصابة مكروه من جهة معبودهم الباطل كما قال لهود عليه السلام قومه إن نقل إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء وهذا التخويف قيل : كان على ترك عبادة ما يعبدونه وقيل : بل على الاستخفاف به واحتقاره بنحو الكسر والتنقيص وقيل : ولعل ذلك حين فعل بالهتهم ما فعل مما قص الله تعالى علينا وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما شب وكبر جعل آزر يصنع الأصنام فيعطيها له ليبيعها فئذهب وينادي من يشترى ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فاذأ بارت ذهب بها إلى النهر وضرب فيه رؤوسها وقال لها اشربي استهزاء بقومه حتى فشا فيهم استهزاؤه فجادلوه حينئذ وخوفوه وما موصوله أسمية حذف عائدها والضمير المجرور لله تعالى أي لا أخاف الذي تشركونه به سبحانه وجوز أن يكون عائدا إلى الموصول والياء سببية أي الذي تشركون بسببه وأن تكون نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية
وقوله تعالى : إلا أن يشاء ربي شيئا بتقدير الوقت عند غير واحد مستثنى من أعم الأوقات استثناء مفرغا وقال بعضهم : إن المصدر منصوب على الظرفية من غير تقدير وقت ومنع ذلك ابن الانباري مفرقا بين المصدر الصريح فيجوز نصبه على الظرفية وغير الصريح فلا يجوز فيه ذلك وابن جني لا يفرق بين الصريح وغيره ويجوز ذلك فيهما على السواء والاستثناء متصل في رأي وشيأ مفعول به أو مفعول مطلق أي لا أخاف ما تشركون به في وقت من الاوقات إلا في وقت مشيئته تعالى شيئا من إصابة مكروه لي من جهتها أو شيئا من مشيئته تعالى إصابة مكروه لي من جهتها وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم في إيجاده وإحداثه وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى ولكن أخاف أن يشأ ربي خوفي ما أشركتم به وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضميره عليه السلام إشارة إلى أن مشيئته تلك إن وقعت غير خالية عن مصلحة تعود إليه بالتربية أو إظهار منه عليه الصلاة و السلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته تعالى
وسع ربي كل شيء علما كأنه تعليل للاستثناء أي أحاط بكل شيء علما فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه انزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب ونصب علما على التمييز المحول عن الفاعل وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لوسع من غير لفظه وفي الاظهار في موضع الاضمار تأكيد للمعنى المذكور واستلذاذ بذكره تعالى : أفلا تتذكرون
8
- أي أتعرضون بعدما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم بمعزل عن القدرة على شيء ما من النفع أو الضر فلا تتذكرون أنها غير قادرة على إضراري وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول لا يتوقف إلا على التذكير
وكيف أخاف ما أشركتم استئناف كما قال شيخ الاسلام مسوق لنفي الخوف عنه عليه السلام بحسب زعم الكفرة بالطريق الالزامي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر والاستفهام لانكار
(7/205)
الوقوع ونفيه بالكلية وفي توجيه الانكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال : أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية فاذا انتفى وجوده من جميع الجهات بالطريق البرهاني وكيف حال والعوامل فيها أخاف وما موصولة أو نكرة موصوفة والعائد محذوف وجوز أن تكون مصدرية وقوله تعالى : ولا تخافون أنكم أشركتم بالله في موضع الحال من ضمير أخاف بتقدير مبتدأ لمكان الواو وقيل : لا حاجة إلى التقدير لأن المضارع المنفي قد يقرن بالفاء ولا حاجة هنا إلى ضمير عائد إلى ذي الحال لأن الواو كافية في الربط وهو مقرر لانكار الخوف ونفيه عنه عليه السلام ومفيد لاعترافهم بذلك فانهم حيث لم يخافوا في محل الخوف فلأن لا يخاف عليه السلام في محل الأمن واحرى اي كيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلا وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها وهو اشراككم بالله تعالى الذي فطر السموات والأرض ما هو من جملة مخلوقاته وعبر عنه بقوله سبحانه : ما لم ينزل به عليكم سلطانا أي حجة على طريق التهكم قيل مع الايذان بأن الامور الدينية لا يعول فيها إلا على الحجة المنزلة من عند الله تعالى وضمير به عائد على الموصول والكلام على حذف مضاف أي باشراكه وجوز أن يكون راجعا إلى الاشراك المقيد بتعلقه بالموصول ولا حاجة إلى العائد وهو على ما قيل مبني على مذهب الأخفش في الاكتفاء في الربط برجوع العائد إلى ما يتلبس بصاحبه وذكر متعلق الاشراك وهو الاسم الجليل في الجملة الحالية دون الجملة الأولى قيل لأن المراد في الجملة الحالية تهويل الأمر وذكر المشرك به أدخل في ذلك
وقال بعض المحققين : الظأهر أن يقال في وجه الذكر في الثانية والترك في الاولى إنه لما قيل قبيل هذا ولا أخاف ما أشركتم به كان ما هنا كالتكرار له فناسب الاختصار وأنه عليه السلام حذفه إشارة إلى بعد وجدانيته تعالى عن الشرك فلا ينبغي عنده نسبته إلى الله تعالى ولا ذكر معه ولما ذكر حال المشركين الذين لا ينزهونه سبحانه عن ذلك صرح به وقيل : إن ذكر الاسم الجليل في الجملة الثانية ليعود إليه الضمير في مالم ينرل وليس بشيء لانه يكفي سبق ذكره في الجملة وقيل : لأن المقصود انكاره عليه السلام عدم خوفهم من اشراكهم بالله تعالى لأنه المنكر المستبعد عند العقل السليم لا مطلق الانكار ولا كذلك في الجملة الاولى فان المقصود فيها إنكار أن يخاف عليه السلام غير الله تعالى سواء كان مما يشركه الكفار أولا وليس بشيء أيضا لأن الجملة الثانية ليست داخلة مع الأولى في حكم الانكار إلا عند مدعي العطف وهو مما سبيل اليه أصلا لأفضائه إلى فساد المعنى قطعا لما تقدم أن الانكار بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوف عنه عليه السلام ونفي نفيه عنهم وانه بين الفساد وأيضا أن ما أشركتم كيف يدل على ما سوى الله تعالى غير الشريك أن هذا الا شيء عجاب ثم ان الآية نص في أن الشرك مما لم ينزل به سلطان وهل يمتنع عقلا حصول السلطان في ذلك أم لا ظاهر كلام بعضهم وفي أصول الفقه ما يؤيده في الجملة الثاني والذي اختاره الأول وقول الامام إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء ليس من محل الخلاف كما لا يخفى على الناظر فانظر
فأي الفريقين أحق بالأمن كلام مرتب على انكار خوفه عليه السلام في محل الامن مع نحقق عدم
(7/206)
خوفهم في محل الخوف مسوق لالجائهم الى الاعتراف باستحقاقه عليه السلام لما هو عليه من الامن وبعدم استحقاقهم لما هم عليه وبهذا وبهذا يعلم ما في دعوى أن الانكار في الجملة الأولى لنفي الوقوع وفي الثانية لاستبعاد الواقع وإنما جيء بصيغة التفضيل المشعرة باستحقاقهم له في الجملة لاستنزالهم عن رتبة المكابرة والاعتساف بسوق الكلام على سنن الانصاف والمراد بالفريقين الفريق الآمن في محل الأمن والآمن في محل الخوف فايثار ما في النظم الكريم كما قيل م على أن يقال : فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم لتأكيد الالجاء إلى الجواب بالتنبيه على علة الحكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم التي ربما تدعو إلى اللجاج والعناد مع الاشارة بما في النظم إلى أن أحقية الامن لا تخصه عليه السلام بل تشمل كل موحد ترغيبا لهم في التوحيد إن كنتم تعلمون
18
- أي من هو أحق بذلك أو شيء من الأشياء أو ان كنتم من أولي العلم فاخبروني بذلك وقريء سلطانا بضم اللام وهي لغة اتبع فيها الضم الضم الذين ءامنوا استئناف يحتمل أن يكون من جهته تعالى مبين للجواب الحق الذي لا محيد عنه
وروي ذلك عن محمد بن اسحق وابن زيد والجبائي ويحتمل أن يكون من جهة إبراهيم عليه السلام وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه واستشل كونه استئنافا بانه لا يمكن جعله بيانا لأنه ما كان جواب سؤال مقدر وهذا جواب سؤال محقق ولا نحويا لما قال ابن هشام إن الاستئناف النحوي ما كان في ابتداء الكلام ومنقطعا عما قبله وهذا مرتبط بما قبله لارتباط الجواب والسؤال ضرورة وليس عندنا غيرهما
واجيب باختيار كونه نحويا ومعنى كونه منقطعا عما قبله أن لا يعطف عليه ولا يتعلق به من جهة الاعراب وإن ارتبط بوجه آخر وقيل : المراد بابتداء الكلام ابتداؤه تحقيقا أو تقديرا أي الفريق الذين آنوا بما يجب الايمان به ولم يلبسوا أي لم يخلطوا إيمانهم ذلك بظلم أي شرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم مؤمنون بالله تعالى وان عبادتهم لغيره سبحانه معه من تتمات ايمانهم وأحكامه لكونهما لاجل التقريب والشفاعة كما ينبيء عنه قولهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وإلى تفسير الظلم بالشرك هنا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن المسيب وقتادة ومجاهد وأكثر المفسرين ويؤيد ذلك أن الآية واردة مورد الجواب عن حال الفريقين
ويدل عليه ما أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن اةية لما نرلت شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه فقال صلى الله عليه و سلم : ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان عليه السلام لابنه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ولا يقال : أنه لا يلزم من قوله : إن الشرك الخ أن غير الشرك لا يكون ظلما لأنهم قالوا : إن التنوين في بظلم للتعظيم فكأنه قيل : لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك أو أن المتبادر من المطلق أكمل إفراده وقيل : المراد به المعصية وحكي ذلك عن الجبائي والبلخي وارتضاه الزمخشري تبعا لجمهور المعتزلة
واستدلوا بالآية على أن صاحب الكبيرة لا أمن له ولا نجاة من العذاب حيث دلت بتقديم لهم الآتي على اختصاص الأمن بمن لم يخلط إيمانه بظلم أي بفسق وادعوا أن تفسيره بالشرك يأباه ذكر اللبس أي
(7/207)
الخلط إذ هو لايجامع الايمان للضدية وإنما يجامع المعاصي والحديث خبر واحد فلا يعمل به في مقابلة الدليل القطعي والقول بأن الفسق أيضا لا يجامع الايمان عندهم أيضا فلا يتم لهم الاستدلال لكونه اسما لفعل الطاعات واجتناب السيئات حتى أن الفاسق ليس بمؤمن كما أنه ليس بكافر مدفوع كما قيل بأنه كثيرا ما يطلق الايمان على نفس التصديق بل لا يكاد يفهم منه بلفظ الفعل غير هذا حتى أنه يعطف عليه عمل الصالحات كما جاء في غير ما آية وأجيب بأنه أريد بالايمان تصديق القلب وهو قد يجامع الشرك كان يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته كما أشرنا اليه آنفا ومن ذلك قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وكذا إدا أريد به مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره بل المجامعة على هذا أظهر كما في المنافق ولو أريد به التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر يقال : إنه لا يلزم من لبس الايمان بالشرك الجمع بينهما بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوبا مضمحلا أو اتصافه بالايمان ثم الكفر ثم الايمان ثم الكفر مرارا وبعد تسليم جميع ما ذكر نقول : إن قوله تعالى : اولئك لهم الأمن إنما يدل على اختصاص الأمن بغير العصاة وهو لا يوجب كون العصاة معذبين البتة بل خائفين ذلك موقعين للاحتمال ورجحان جانب الوقوع وقيل المراد من الأمن الأمن من خلود العذاب لا الأمن من العذاب مطلقا والموصول مبتدأ واسم الاشارة مبتدأ ثان والاشارة الى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة وفي الاشارة اليه بما فيه معنى البعد بعد وصفه بما ذكر ما لا يخفى وجملة لهم الامن من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الاول وجوز أن يكون اولئك بدلا من الموصول أو عطف بيان له و لهم هو الخبر والامن فاعلا للظرف لاعتماده على المبتدأ وأن يكون لهم خبرا مقدما و الامن مبتدأ مؤخر أو الجملة خبر الموصول وجوز أبو البقاء كون الموصول خبر مبتدأ محذوف وقال : التقدير هم الذين ولا يخلوا عن بعد والأكثرون على الاول وهم مهتدون
28
- الى الحق ومن عداهم في ضلال مبين وقدر بعضهم الى طريق توجب الامن من خلود العذاب وتلك اشارة الى ما أحتج به إبراهيم عليه السلام من قوله سبحانه : فلما جن الليل الخ وقيل من قوله سبحانه أتحاجوني الى وهم مهتدون وتركيب حجة اصطلاحية منه يحتاج إلى تأمل وما في اسم الاشارة من معنى البعد لتفخيم شأن المشار اليه وهو مبتدأ وقوله عز شأنه : حجتنا خبره وفي إضافته الى نون العظة من التفخيم ما لا يخفى وقوله تعالى : ءاتيناها إبراهيم أي أرشدناه اليها أو علمناه إياها في موضع الحال من حجة والعامل فيه معنى الاشارة أو في محل الرفع على أنه خبر ثان أو هو الخبر و حجتنا بدل او بيان للمبتدأ وجور أم تكون جملة آتينا الخ معترضة أو تفسيرية ولا يخفى بعده وابراهيم مفعول أول لآتينا قدم على الثاني لكونه ضميرا
وقوله سبحانه : على قومه متعلق بحجتنا أن جعل خبرا لتلك أو بمحذوف إن جعل بدلا لئلا يلزم الفصل بين أجزاء البدل بأجنبي أي آتيناها إبراهيم حجة على قومه ولم يجوز أبو البقاء تعلقه بحجتنا أصلا للمصدرية والفصل ولعل المجوز لا يرى المصدرية مانعة عن تعلق الظرف ويجعل الفصل مغتفرا وقيل : يصح
(7/208)
تعلقه بآتينا لتضمنه معنى الغلبة وقوله عز شأنه : نرفع درجات أي رتبا عظيمة عالية من العلم والحكمة مستأنف لا محل له من الاعراب مقرر لما قبله وجوز أبو البقاء أن يكون في محل نصب على أنه حال من فاعل آتينا أي حال كوننا رافعين ونصب درجات إما على المصدرية بتأويل رفعات أو على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز ومفعول نرفع قوله تعالى : من نشاء وتأخيره على الأوجه الثلاثة الاخيرة لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ومفعول المشيئة محذوف أي من نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المطلحة وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن ذلك سنة مستمرة فيما بين الأخيار غير مختصة بابراهيم عليه السلام وقري يرفع بالياء على طريقة الالتفات وكذا نشاءوقرأ غير واحد من السبعة درجات منبالاضافة على أنه مفعول نرفع ورفع درجات الانسان رفع له وجوز بعضهم جعله مفعولا أيضا على قراءة التنوين وجعل من بتقدير لمن وهو بعيد
وقوله سبحانه : إن ربك حكيم أي في كل ما يفعل من رفع وخفض عليم
38
- أي بحال من يرفعه واستعداده له على مراتب متفاوتة وإن شئت عممت ويدخل حينئذ ما ذكر دخولا أوليا تعليل لما قبله وفي وضع الرب مضافا إلى ضميره عليه الصلاة و السلام موضع نون العظة بطريق الالتفات في تضاعيف بيان حال إبراهيم عليه السلام ما لا يخفى من إظهار مزيد اللطف والعناية به صلى الله تعالى عليه وسلم هذأ وقد ذكر الامام في هذه الآيات الابارهيمية عدة أحكام الأول أن قوله سبحانه : لا أحب الآفلين يدل على أنه عز و جل ليس بجسم إذ لو كان جسما لكان غائبا عنا فيكون آفلا والأفول ينافي الربوبية ولا يخفى أن عد تلك الغيبة المفروضة أفولا لا يخلوا عن شيء لأن الافول احتجاب مع انتقال وتلك الغيبة المفروضة لم تكن كذلك بل هي مجرد احتجاب فيما يظهر نعم أنه ينافي الربوبية أيضا لكن الكلام في كونه أفولا ليتم الاحتجاج بالآية لا يقال قد جاء في حديث الاسراء ذكر الحجاب فكيف يصح القول بأن الاحتجاب مناف للربوبية لأنا نقول : الحجاب الوارد كما قال القاضي عياض إنما هو في حق العباد لا في حقه تعالى فهم المحجوبون والباري جل اسمه منزه عما يحجبه إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس ونص واحد أن ذكر الحجاب له تعالى تمثيل لمنعه سبحانه الخلق عن رؤيته وقال السيد النقيب في الدرر والغرر : العرب تستعمل الحجاب بمعنى الخفاء وعدم الظهور فيقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه : بيني وبينك حجاب ويقولون لما يستعب طريقه : بيني وبينه كذا حجب وموانع وساتر وما جرى ذلك والظاهر على هذا أن فيما ذكر مجاز في المفرد فتدبر الثاني أن هذه الآية تدل على أنه يمتنع أن يكون تعالى بحيث ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى والا لحصل معنى الأفول وأنت تعلم أن الواصفين ربهم عز شأنه بصفة النزول حيث سمعوا حديثه الصحيح عن رسولهم صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقولون : إنه حركة وانتقال كما هو كذلك في الأجسام بل يفوضون تعيين المراد منه الى الله تعالى بعد تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وحينئذ لا يرد عليه أنه في معنى الأفول المتتنع على الرب جل جلاله
(7/209)
الثالثالثالث أنها تدل على أنه جل شأنه ليس محلا للصفات المحدثة كما تقول الكرامية والا لكان متغيرا وحينئذ يحصل معنى الافول وهو ظاهر الرابع أن ما ذكر يدل على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل لا على التقليد والا لم يكن للاستدلال فائدة البتة الخامس أنه يدل على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية والا لما احتاج إبراهيم عليه السلام الى الاستدلال السادس أنه يدل على أنه لا طريق الى تحصيل معرفة الله تعالى الا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل عليه السلام الى هذه الطريقة ولا يخفى عليك ما في هذين الأخيرين السابع أن قوله سبحانه : 0 وتلك حجتنا الخ يدل على أن تلك الحجة انما حصلت في عقل ابراهيم عليه السلام بايتاء الله تعالى واظهارها في عقله وذلك يدل على أن الايمان والكفر لا يحصلان إلا بخق الله تعالى ويتأكد ذلك بقوله سبحانه : نرفع درجات الخ الثامن أن قوله سبحانه نرفع الخ يدل على فساد طعن الحشوية في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل وفيه أحكام أخر لا تخفى على من يتدبر
ومن باب الاشارة فيها وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر حين رآه محتجبا بظواهر عالم الملك عن حقائق الملكوت وربوبيته تعالى للاشياء معتقدا تأثير الأكوان والأجرام ذاهلا عن الملكوت جل شأنه أتتخذ أصناما أي أشباحا خالية بذواتها عن الحياة ءالهة فتعتقد تأثيرها إني أراك وقومك في ضلال مبين ظاهر عند من كشف عن عينه الغين وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والأرض أي نوقفه على القوى الروحانية التي ندبر بها أمر العالم العلوي والسفلي أو نوقفه على حقيقتها وليكون من الموقنين أي أهل الايقان العالمين أن لا تأثير إلا لله تعالى يدبر الأمر باسمائه سبحانه فلما جن عليه الليل أي أظلم عليه ليل عالم الطبيعة الجسمانية وذلك عند الصوفية في صباه وأول شبابه رأى كوكبا وهو كوكب النفس المسماة روحا حيوانية الظاهر في ملكوت الهيكل الانساني فقال حين رأى فيضه وحياته وتربيته من ذلك بلسان الحال هذا ربي وكان الله تعالى يريه في ذلك الحين باسمه المحيي فلما أفل بطلوع نور القلب قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر أي قمر القلب بازغا من أفق النفس ووجد فيضه بمكاشفات الحقائق والمعارف وتربيته منه قال هذا ربي وكان الله تعالى يريه إذ ذاك باسمه العالم والحكيم فلما أفل قال لئن لم يهديني ربي إلى نور وجههلأكونن من الضالين المحتجبين بالبواطن عنه سبحانه فلما رأى الشمس أي شمس الروح بازغة متجلية عليه قال إذ وجد فيضه وشهوده وتربيته منها هذا ربي وكان سبحانه يريه حينئذ باسمه الشهيد والعلي العظيم هذا أكبر من الأولين فلما أفلت بتجلي أنوار الحق وتشعشع سبحات الوجه قال يا قوم إني بريء مما تشركون إذ لا وجود بغيره سبحانه إني وجهت وجهي أي أسلمت ذاتي ووجودي للذي فطرأوجد السموات والأرض أي سموات الأرواح وأرض النفس حنيفا مائلا عن كل سواه حتى عن وجودي وميلي بالفناء فيه جل جلاله وما أنا من المشركين في شيء وحاجه قومه في ترك سوي قال أتحاجوني في الله وقد هداني إلى وجوده الحق وتوحيده الذين آمنوا الايمان الحقيقي ولم يلبسوا إيمانهم بظلم من ظهور نفس أوقلب أو وجود بقية اولئك لهم الأمن الحقيقي وهم مهتدون حقيقة إلى الحق
وقال النيسابوري : قد يدور في الخلد أن إبراهيم عليه السلام جن عليه ليل الشبهة وظلمتها فنظر أولا في عالم
(7/210)
الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغيير فلم يرها تصلح للالهية فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للاجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم مادونها فصعد منها إلى عالم العقول المجرد فصادفها ءفلة في أفق الامكان فلم يبق إلا الواجب وقيل : غير ذلك وما ذكر مبني على أن الاحتجاج كان مع نفسه عليه السلام وهو الذي ذهب إليه بعض من المفسرين ورووا في ذلك خبرا طويلا وهو مذكور في كثير من الكتب مشهور بين العامة والمختار عندي ما علمت والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل
ووهبنا له أي لابراهيم عليه السلام إسحق وهو ولده من سارة عاش مائة وثمانين سنة وفي نديم الفريد أن معنى إسحق بالعربية الضحاك ويعقوب وهو ابن اسحق عاش مائة وسبعا وأربعين سنة والجملة عطف على قوله تعالى : وتلك حجتنا الخ وعطف الفعلية على الأسمية مما لا نزاع في جوازه ويجوز على بعد أن تكون عطفا على جملة ءاتينا بناء على أنها لا محل لها من الاعراب كما هو أحد الاحتمالات
وقوله تعالى : كلا مفعول لما بعده وتقديمه عليه للقصر لا بالنسبة إلى غيرهما بل بالنسبة إلى أحدهما أي كل واحد منهما هدينا لا أحدهما دون الآخر وقيل : المراد كلا من الثلاثة وعليه الطبرسي واختار كثير من المحققين الأول لأن هداية إبراهيم عليه السلام معلومة من الكلام قطعا وترك ذكر المهدي اليه لظهور أنه الذي أوتي إبراهيم عليه السلام فانهما متعبدان به
وقال الجبائي : المراد هديناهم بنيل الثوابوالكرمات ونوحا قال شيخ الاسلام : منصوب بمضمر يفسره هدينا من قبل ولعله إنما لم يجعله مفعولا مقدما للمذكور لئلا يفصل بين العاطف والمعطوف بشيء أو يخلوا التقديم عن الفائدة أعني القصر ولا يخلوا عن تأمل أي من قبل إبراهيم عليه السلام
ونوح كما قال الجواليقي أعجمي معرب زاد الكرماني ومعناه بالسريانية الساكن وقال الحاكم في المستدرك : إنما سمي نوحا لكثرة بكائه على نفسه وأسمه عبد الغفار والأول أثبت عندي وأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما قال الحاكم أنه عليه السلام كان قبل أدريس عليه السلام وذكر النسابون أنه ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة ابن اخنوخ بفتح المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم معجمة وهو أدريس فيما يقال وروى الطبراني عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : قلت يا رسول الله من أول الأنبياء قال : آدم عليه السلام قلت : ثم من قال نوح عليه السلام : وبينهما عشرة قرون وهذا ظاهر في أن ادريس عليه السلام لم يكن قبله
وذكر ابن جرير أن مولده عليه السلام كان بعد وفاة ءادم عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاما وذكر سبحانه هنا قيل لأنه لما ذكر سبحانه انعامه على خليله من جهة الفرع ثنى بذكر انعامه عليه من جهة الأصل فان شرف الوالد سار إلى الولد وقيل : إنما ذكره سبحانه لأن قومه عبدوا الأصنام فذكره ليكون له به أسوة وأما أنه ذكر لما مر فلا دلالة على علاقة الأبوة ليقبل ودلالة من قبل على ذلك غير ظاهرة وقنع بعضهم بالشهرة عن ذلك ومن ذريته الضمير عند جمع لابراهيم عليه السلام لأن مساق النظم الجليل لبيان شؤونه
(7/211)
وماوما من الله تعالى به عليه من إيتاء الحجة ورفع الدرجات وهبة الأولاد الانبياء وإبقاء هذه الكرماة في نسله كل ذلك لالزام من ينتمي إلى ملته من المشركين واليهود وأختار آخرون كونه لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأنه ذكر في الجملة لوطا عليه السلام وليس من ذرية إبراهيم بل كان ابن أخيه كما سيأتي إنشاء الله تعالى آمن به وشخص معه مهاجرا إلى الشام فارسله الله تعالى إلى أهل سدوم وكذلك يونس عليه السلام لم يكن من ذريته فيما ذكر محيي السنة فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها وأما المذكورون في الآية الثالثة فعطف على نوحا ولا يجب أن يعتبر في المعطوف ما هو قيد في المعطوف عليه ولا يضر ذكر اسماعيل هناك وإن كان من ذرية ابراهيم عليهما السلام لان السكوت عن إدراجه في الذرية لا يقتضي أنه ليس منهم وإنما لم يعد كما قال بعض المحققين : في موهبته كاسحق لأن هبة اسحق كانت في كبره وكبر زوجته فكانت في غاية الغرابة وذكر يعقوب لأن إبقاء النبوة بطنا بعد بطن غاية النعمة ولم يعطف كلا هدينا لأنه مؤكد لكونه نعمة
ومن الناس من ادعى أن يونس عليه السلام من ذرية إبراهيم صلى الله عليه و سلم وصرح في جامع الأصول إنه كان من الاسباط في زمن شعيا وحينئذ يبقى لوط فقط خارجا ولا يترك له ارجاع الضمير على إبراهيم وجعله مختصا بالمعدودين في الآيات الثلاث لأنه لما كان ابن أخيه آن به وهاجر معه أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب كما قال الطيبي وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان منهم لم يلحقه بولادة من قبل أم لا ولا أب لأن لوطا ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق مع أن إسماعيل عم يعقوب والجار والمجرور متعلق بفعل مضمر مفهوم مما سبق وقيل : بمحذوف وقع حالا من المذكورين في الآية وأختير الأول أي وهدينا من ذريته داود هو كما قال الجلال السيوطي ابن ايشا بكسر الهمزة وسكون الياء المثناة التحتية وبالشين المعجمة ابن عوبر بمهملة وموحدة بوزن جعفر ابن عابر بموحدة ومهملة مفتوحة ابن سلمون بن يخيثون بن عمي بن يارب بتحتية وآخره باء موحدة ابن رام بن حضر موت بمهملة تم معجمة بن فارص بفاء وآخره مهملة بن يهوذا بن يعقوب
قال كعب : كان أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت والخلق وجمع له بين النبوة والملك ونقل النووي عن المؤرخين أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون وله اثنا عشر ابنا وسليمان ولده قال كعب : كان أبيض جسيما وسيما وضيئا جميلا خاشعا متواضعا وكان أبوه يشاوره في كثير من أموره في صغر سنه لوفور عقله وعلمه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ملك الأرض وعن المؤرخين أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدا بناء بيت المقدس بعد ملكه بأربع سنين وتوفي وله ثلاث وخمسون سنة وتقديم المفعول الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيل من نوع طول ربما يخل تأخيره بتجاوب النظم الكريم وأيوب قال ابن جرير : هو أبن موص بن روم بن عيص ابن اسحق وقيل : ابن موص بن تارخ بن روم الخ وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام وأن أباه ممن آن بابراهيم فهو قبل موسى عليه السلام وقال ابن جرير إنه كان بعد شعيب وقال
(7/212)
ابن أبي خيثمة كان بعد سليمان وروى الطبراني أن مدة عمره كانت ثلاثا وتسعين سنة ويوسف وهو على الصحيح المشهور ابن يعقوب ابن اسحق بن ابراهيم ويشهد له ما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عاش مائة وعشرين سنة وفيه ست لغات تثليث السين مع الياء والهمزة والصواب أنه أعجمي لا اشتقاق له وموسى وهو ابن عمران ابن يصهر بن ماهيث بن لاوي بن يعقوب ولا خلاف في نسبه وهو اسم سرياني
وأخرج أبو الشيخ من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين شجر وماء فالماء بالقبطية مو والشجر شا وفي الصحيح وصفه بأنه آدم طوال جعد كأنه من رجال شنوءة وعاش كما قال الثعلبي مائة وعشرين سنة وهارون أخوه وشقيقه وقيل : لأمه وقيل : لأبيه فقط حكاهما الكرماني في عجائبه مات قبل موسى عليهما السلام وكان ولد قبله بسنة وفي بعض أحاديث الاسراء صعدت إلى السماء الخامسة فاذا أنا بهرون ونصف لحيته أبيض ونصفها أسود تكاد تضرب سرته من طولها فقلت : يا جبريل من هذا قال : المحبب في قومه هرون بن عمران وذ : ربعضهم أن معنى هرون بالعبرانية المحبب وكذلك نجزي المحسنين
48
- قيل : أي نجزيهم مثل ما جزينا ابراهيم عليه السلام برفع درجاته وكثرة أولاده والنبوة فيهم والمراد مطلق المشابهة في مقابلة الاحسان بالاحسان والمكانات بين الأعمال والاجزية من غير بخس لا المماثلة من كل وجه لأن اختصاص ابراهيم صلى الله عليه و سلم بكثرة النبوة في عقبه أمر مشهور
واختار بعض المحققين كون التشبيه على حد ما تقدم في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا ونظائره وأل في المحسنين للعهد والأظهار في موضع الاضمار للثناء عليهم بالاحسان الذي هو عبارة عن الاتيان بالاعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المقارن لحسنها الذاتي وقد فسره صلى الله عليه و سلم بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك والجملة اعتراض مقرر لما قبلها
وزكريا هو ابن ازن بن بركيا كان من ذرية سليمان عليهما السلام وقتل بعد قتل ولده وكان له يوم بشر به اثنان وتسعون وقيل : تسع وتسعون وقيل : مائة وعشرون سنة وهو اسم أعجمي وفيه خمس لغات اشهرها المد والثانية القصر وقريء بهما في السبع وزكرى بتشديد الياء وتخفيفها وزكر كقلم
ويحيى ابنه وهو اسم أعجمي وقيل : عربي وعلى القولين كما قال الواحدي لا ينصرف وسمي بذلك على القول الثاني لأنه حيي به رحم أمه وقيل : غير ذلك وعيسى ابن مريم وهو اسم عبراني أو سرياني وفي الصحيح أنه ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس وفي ذكره عليه السلام دليل على أن الذرية يتناول أولاد البنات لأن انتسابه ليس إلا من جهة أمه وأورد عليه أنه ليس له أب يصرف اضافته إلى الام إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم
وتعقب بان مقتضى كونه بلا أب ان يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون بهذه الآية وبها احتج موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه على ما رواه البعض عن الرشيد وفي التفسير الكبير أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف
(7/213)
بآية المباهلة حيث دعا صلى الله عليه و سلم الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعدما نزل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم
وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلى الله عليه و سلم وقد اختلف افتاء أصحابنا في هذه المسألة والذي أميل اليه القول بالدخول وإلياس قال ابن اسحاق في المبتدأ : هو ابن يس بن فنحاص بن العيزار بن هرون أخي موسى بن عمران عليهم السلام وحكى القتبي أنه من سبط يوشع وقيل : من ولد اسماعيل عليه السلام وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه أدريس وهو على ما قال ابن اسحق ابن يرد بن مهلاييل بن أنوش ابن قينان ابن شيث بن آدم وهو جد نوح كما أشرنا وروي ذلك عن وهب بن منبه وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بين نوح وادريس ألف سنة وعلى القول بأنه قبل نوح يكون البيان مختصا بمن في الآية الأولى ونص الشهاب أن قوله تعالى : وزكريا وما بعده حينئذ معطوفا على مجموع الكلام السابق كل أي كل واحد من أولئك المذ : ورين من الصالحين
58
- أي الكاملين في الصلاح الذي هو عبارة عن الاتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي وهو مقول بالتشكيك فيوصف بما هو من أعلى مراتب الأنبياء عليهم السلام والجملة اعتراض جيء بها للثناء عليهم بمضمونها واسماعيل هو كما قال النووي أكبر ولد ابراهيم عليه السلام ويقال كما نقل عن الجواليقي بالنون آخره قيل ومعناه : مطيع الله واليسع قال ابن جرير : هو ابن أخطوب بن العجوز وقرأ حمزة والكسائي الليسع بوزن ضيغم وهو أعجمي دخلت عليه اللام على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب كما قاله التبريزي ونص على أن استعماله بدونها خطأ يغفل عنه الناس فليس كاليزيد في قوله : رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا باعباء الخلافة كاهله من جميع الوجوه وهو على القراءة الأولى أعجمي أيضا وقيل : انه معرب يوشع وقيل : عربي منقول من يسع مضارع وسع ويونس وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور كحتى ويقال متتى بالفك وهو اسم أبيه كما قاله ابن حجر وغيره من الحفاظ ووقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه وهو مردود ولم نقف كغيرنا على اتصال نسبه عليه السلام وقد مر ما في جامع الاصول وقيل : إسنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو مثلث النون ويهمز
وقرأ أبو طلحة يونس بكسر النون قيل : أراد أن يجعله عربيا من أنس وهو شاذ ولوطا قال ابن اسحاق وهو ابن هاران بن آزر وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ابن أخي ابراهيم ولم يصرح باسم أبيه وكلا أي كل واحد من هؤلاء المذكورين لا بعضهم دون بعض فضلنا بالنبوة على العالمين
68
- أي عالمي عصرهم والجملة اعتراض كاختيها وفيها دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم يحتمل كما قيل أن يتعلق بما تعلق به من ذريته ومن ابتدائية والمفعول محذؤف أي وهدينا من آبائهم وابنائهم واخوانهم جماعات كثيرة أو معطوف على كل فضلنا ومن تبعيضية أي فضلنا بعض ءابائهم الخ
(7/214)
وجعله بعضهم عطفا على نوحا ومن واقعة موقع المفعول به مؤولا ببعض واعتبار البعضية لما أن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا قيل وهذا في غير الآباء لأن آباء كلهم مهديون موحدون وأنت تعلم أن هذا مختلف فيه نظرا إلى ءاباء نبينا صلى الله عليه و سلم وكثير من الناس من وراء المنع فما ظنك بآباء غيره من الأنبياء عليهم السلام
ولا يخفى إضافة الآباء والابناء والاخوان إلى ضميرهم لا يقتضي أن يكون لكل منهم أب أو ابن أو أخ فلا تغفل واجتبيناهم عطف على فضلناهم أي اصطفيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم
78
- تكرير للتأكيد وتمهيد لبيان ما هدوا إليه ولم يظهروا له السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل ومتأخر بالزمان على متقدم به وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى وكذلك نجزي الخ وثانيا بقوله سبحانه : وكل من الصالحين والله تعالى أعلم بأسرار كلامه
ذلك أي الهدى إلى الطريق المستقيم أو ما يفهم من النظم الكريم من مصادر الأفعال المذكورة أو ما دانوا به وما في ذلك معنى البعد لما مر مرارا هدى الله الأضافة للتشريف يهدي به من يشاء هدايته من عباده وهم المستعدون لذلك وفي تعليق الهداية بالموصول إشارة إلى علية مضمون الصلة ويفيد ذلك أنه تعالى متفضل بالهداية ولو أشركوا أي اولئك المذكوري المذكورون لحبط أي لبطل وسقط عنهم من فضلهم وعلو شأنهم ما كانوا يعملون
88
- اشارة الى المذكورين من الانبياء الثمانية عشر والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة كما قيل واقتصر الامام على المذكورين من الأنبياء وعن ابن بشير قال : سمعت رجلا سأل الحسن عن اولئك فقال له : من في صدر اةية وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : الذين ءاتيناهم الكتاب أي جنسه والمراد بايتائه التفهيم التام لما فيه من الحقائق والتمكين من الاحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالانزال ابتداء وبالايراث بقاء فان ممن ذكر من لم ينزل عليه كتاب معين : والحكم أي فصل الأمر بين الناس بالحق او الحكمة وهي معرفة حقائق الأشياء والنبوة فسرها بعضهم بالرسالة وعلل بأن المذكورين هنا رسل لكن في المحاكمات لمولانا احمد بن حيدر الصفوي أن داود عليه السلام ليس برسول وإن كان له كتاب ولم أجد في ذلك نصا وذهب بعضهم إلى أن يوسف بن يعقوب عليه السلام ليس برسول أيضا ويوسف في قوله تعالى : ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ليس هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام وإنما هو يوسف بن افراثيم بن يوسف بن يعقوب وهو غريب وأغرب منه بأنه كان من الجن رسولا إليهم وقال الشهاب : قد يقال انما ذكر الأعم في النظم الكريم لأن بعض من دخل في عموم آبائهم وذرياتهم ليسوا برسل فان يكفر بها أي بهذه الثلاثة أو النبوة الجامعة للباقين هؤلاء أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة مع دلالة الاشارة والمقام على ما قيل وقيل : المراد بهم الكفار الذين جحدوا بنبوته صلى الله تعالى
(7/215)
عليه وسلم مطلقا وأيا ما كان فكفرهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن يستلزم كفرهم بما يصدقه جميعا وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة فقد وكلنا بها أي أمرنا برعايتها ووفقنا للايمان بها والقيام بحقوقها قوما فخاما ليسوا بها بكافرين
98
- في وقت من الأوقات بل مستمرون على الايمان بها والمراد بهم ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد بن حميد عن سعيد بن المسيب أهل المدينة من الأنصار وقيل : أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مطلقا وقيل : كل مؤمن من بني آدم عليه السلام وقيل : الفرس فان كلا من هؤلاء الطوائف موفقون للايمان بالأنبياء وبالكتب المنزلة اليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائع وفروعها الباقية في شريعتنا وعن قتادة أنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وعليه يكون المراد بالتوكيل الأمر بما هو أعم من إجراء أحكامها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومن اعتقاد حقيتها كما هو شأنهم في حق سائر الكتب التي نور فرقها القرآن ورجح واختار هذا الزجاج ورجحه الزمخشري بوجهين الأول أن الآية التي بعد إشارة إلى الأنبياء المذكورين عليهم السلام فان لم يكن الموكلون هم لزم الفصل بالأجنبي الثاني أنه مرتب بالفاء على ما قبله فيقتضي ذلك واستبعد بعضهم فان الظاهر كون مصدق النبوة ومنكرها مغايرا لمن أوتيها
وأخرج ابن حميد وغيره عن أبي رجاء العطاري أنهم الملائكة فالتوكيل حينئذ هو الأمر بانزالها وحفظها واعتقاد حقيتها واستبعد الامام لأن القوم قلما يقع على غير بني آدم وأيا ما كان فتنوين قوما للتفخيم كما أشرنا إليه وهو مفعول وكلنا و بها قبله متعلق بما عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما مر ولأن فيه طولا ربما يؤدي تقديمه إلى الاخلال بتجاوب النظم الكريم أو الى الفصل بين الصفة والموصوف والباء التي بعد صلة لكافرين قدمت محافظة على الفواصل والتي بعدها لتأكيد النفي وجواب الشرط محذوف يدل عليه جملة فقد وكلنا الخ أي فان يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلا فقد وفقنا للايمان قوما مستمرين على الايمان بها والعمل بما فيها ففي إيمانهم مندوحة عن إيمان هؤلاء ومن هذا يعلم أن الأرجح كما قال شيخ الاسلام تفسير القوم باحدى الطوائف ممن عدا الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إذ بايمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه يتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل باحكامه ولا كذلك إيمان الانبياء والملائكة عليهم السلام اولئك أي الانبياء المذكورين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي وأبن زيد وقيل : الاشارة إلى المؤمنين الموكلين وروي ذلك عن الحسن وقتادة ولا يخفى ما فيه وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : الذين هدى الله أي هديناهم الى الحق والصراط المستقيم والالتفات الى الاسم الجليل للاشعار بعلة الهداية وحفظ المهدي اليه اعتمادا على غاية ظهوره فبهداهم اقتده أي اجعل هداهم منفردا بالاقتداء واجعل الاقتداء مقصورا عليه والمراد بهداهم عند جمع طريقهم في الايمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ فانها بعد النسخ لا تبقى هدى وهم أيضا مختلفون فيها فلا يمكن التأسي بهم جميعا ومعنى أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بالاقتداء بذلك الأخذ به لا من حيث أنه طريق أولئك الفخام بل من حيث أنه طريق العقل والشرع ففي ذلك تعظيم لهم على أن طريقهم هو الحق الموافق
(7/216)
لدليل العقل والسمع وبهذا أجاب العلامة الثاني عما أورده سؤالا من أن الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع فلا يجوز سيما للنبي صلى الله عليه و سلم أن يقلد غيره فيما معنى أمره عليه الصلاة و السلام بالاقتداء وأورد عليه أن اعتقاده عليه الصلاة و السلام حينئذ ليس لأجل اعتقادهم بل لأجل الدليل فلا معنى لامره بالاقتداء بذلك واعترض أيضا بأن الأخذ باصول الدين حاصل له قبل نزول اةية فلا معنى للامر بأخذ ما قد أخذ قبل اللهم الا أن يحمل على الأمر بالثبات عليه وحقق القطب الرازي في حواشيه على الكشاف أنه يتعين ان الاقتداء المأمور به ليس إلا في الاخلاق الفاضلة والصفات الكاملة كالحلم والصبر والزهد وكثرة الشكر والتضرع ونحوها ويكون في الآية دليل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل منهم قطعا لتضمنها أن الله تعالى هدى اولئك الانبياء عليهم والسلام إلى فضائل الاخلاق وصفات الكمال وحيث أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقتدي بهداهم جميعا امتنع للعصمة أن يقال : إنه لم يمتثل فلابد أن يقال : إنه عليه الصلاة و السلام قد أمتثل وآتى بجميع ذلك وصل تلك الاخلاق الفاضلة التي في جميعهم فاجتمع فيه من خصال الكمال ما كان متفرقا فيهم وحينئذ يكون أفضل من جميعهم قطعا كما أنه أفضل من كل واحد منهم وهو استنباط حسن
واستدل بعضهم بها على أنه صلى الله عليه و سلم متعبد بشرع من قبله وليس بشيء وفي أمره عليه الصلاة و السلام بالاقتداء بهم دون الاقتداء بهم ما لا يخفى من الاشارة إلى علو مقامه صلى الله عليه و سلم عند أرباب الذوق والهاء في اقتده هاء السكت التي تزاد في الوقف ساكنة أيضا اجراء للوصل مجرى الوقف وبذلك قرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة والكسائي وقرأ ابن عامر اقتده بكسر الهاء من غير اشباع وهو الذي تسميه القراء اختلاسا وهي رواية هشام عنه وروى غيره اشباعها وهو كسرها ووصلها بياء وزعم أبو بكر بن مجاهد أن قراءة ابن عامر غلط معللا ذلك بان الهاء هاء الوقف فلا تحرك في حال من الأحوال وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها وتعقبه أبو علي الفارسي بأن الهاء ضمير المصدر وليست هاء السكت أي اقتد الاقتداء ومثله كما قال ابو البقاء قوله : هذا سراقة للقرآن يدرسه والمرء عند الوشا إن يلقها ذيب فان الهاء فيه ضمير الدرس لا مفعول لأن يدرس قد تعدى إلى القرآن وقال بعضهم : إن هاء السكت قد تحرك تشبيها لها بهاء الضمير والعرب كثيرا ما تعطي الشيء حكم ما يشبهه وتحمله عليه وقد روي قول أبي الطيب :
واحر قلباه مما قلبه شبم
بضم الهاء وكسرها على أنها هاء السكت شبهت بهاء الضمير فحركت واستحسن صاحب الدر المصون جعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبه الضمير لأن هاءه لا تكسر بعد الألف فكيف ما يشبهها ورعم الامام أن اثبات الهاء في الوصل للاقتداء بالامام ولا يقتدى به في ذلك لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليد للخط وهو وهم قل لا أسألكم أي لا أطلب منكم عليه أي على القرآن أو على التبليغ فان مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما أجرا أي جعلا قل أو أكثر كما لم يسأله من قبلي من
(7/217)
الانبياء عليه السلام أممهم قيل : وهذا من جملة ما أمرنا بالاقتداء به من هداهم عليهم السلام وهو ظاهر على ما قاله القطب لان الكف عن أخذ أجر في مقابلة الاحسان من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال واما على قول من خص الهدى السابق بالاصول فقد قيل : إن بين القول به والقول بذلك الاختصاص تنافيا وأجيب بأن استفادة الاقتداء بالأصول من الأمر الأول لا ينافي أن يؤمر عليه الصلاة و السلام بالاقتداء بأمر آخر كالتبليغ وتقديم المتعلق هناك إنما هو لنفي اتباع طريقة غيرهم في شيء آخر
واستدل بالآية على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام وفيه كلام للفقهاء على طوله مشهور غني عن البيان
إن هو أي ما القرآن إلا ذكرى أي تذكير فهو مصدر وحمله على ضمير القرآن للمبالغة ولا حاجة لتأوليه بمذكر للعالمين
9
- كافة فلا يختص به قوم دون ءاخرين واستدل باةية على عموم بعثته صلى الله عليه و سلم وما قدروا الله لما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد وابطال الشرك وقرر جل شأنه ذلك الدليل بأوضح وجه شرع سبحانه بعد في تقرير امر النبوة لأن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وبهذا ترتبط اةية بما قبلها كما قال الامام وأولى منه ما قيل : إنه سبحانه شأن القرءان العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الامم حسبما نطق به قوله عز و جل : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سري ذلك الى الكفر بجميع الكتب الالهية وأصل القدر معرفة المقدار بالسبر ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه وقال الواحدي : يقال قدر الشيء إذا سبره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدرا وقال صلى الله عليه و سلم : إن غم عليكم فاقدرا له أي فاطلبوا أن تعرفوه ثم قيل : لمن عرف شيئا هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته إنه لا يقدر قدره
واختلف التفسير هنا فعن الأخفش أن المعنى ما عرفوا الله تعالى : حق قدره أي حق معرفته وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما عظوا الله تعالى حق تعظيمه وقال أبو العالية : ما وصفوه حق صفته والكل محتمل
واختار بعض المحققين ما عليه الأخفش لأنه الأوفق بالمقام أي ما عرفوه سبحانه معرفته الحق في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك بل أخلوا بها إخلالا عظيما إذ قالوا منكرين لبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام وإنزال الكتب كافرين بنعمه الجليلة فيهما أو ما عرفوه جل شأنه حق معرفته في السخط على الكفار وشدة بطشه بهم حين اجترؤا على إنكار ذلك بقولهم : ما أنزل الله على بشر من شيء أي شيئا من الأشياء فمن للتأكيد ونصب حق على المصدرية وهو كما قال أبو البقاء في ألاصل صفة للمصدر أي قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه و إذ ظرف للزمان الزمان وهل فيها معنى العلة هنا أم لا احتمالان وأبو البقاء يعلقها بقروا وليس بالمثعين وقريء قدره بفتح الدال
واختلف في قائلي ذلك القول الشنيع فاخرج أبو الشيخ عن مجاهد أنهم مشركوا قريش والجمهور على أنهم
(7/218)
اليهود ومرادهم من ذلك الطعن في رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم على سبيل المبالغة فقيل لهم على سبيل الالزام : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فان المراد أنه تعالى قد أنزل التوراة على موسى عليه السلام ولا سبيل لكم إلى إنكار ذلك فلم لا تجوزون إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه و سلم وبهذا ينحل استشكال ما عليه الجمهور بأن اليهود يقولون إن التوراة كتاب الله تعالى أنزله على موسى عليه السلام فكيف يقولون : ما أنزل الله على بشر من شيء وحاصل ذلك أنهم أبرزوا إنزال القرآن عليه عليه الصلاة و السلام في صورة الممتنعات حتى بالغوا في انكاره فالزموا بتجويزه وقيل : إن صدور هذا القول كان عن غضب وذهول عن حقيقته فقد أخرج ابن جرير والطبراني عن سعيد بن جبير أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : أنشدك الله تعالى الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين فان الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود فضحك القوم فغضب فالتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال : ما أنزل الله تعالى على بشر من شيء فقال له قومه : ما هذا الذي بلغنا عنك قال : إنه أغضبني فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فانزل الله تعالى هذه اةية واعترض بأن هذا لا يلائم الالزام بانزال التوراة على موسى عليه السلام فقد اعترف القائل بانه إنما صدر ذلك عنه من الغضب فليفهم ولا يرد أن هذه السورة مكية والناظرات التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين اليهود كلها مدنية فلا يتأتى القول بأن الآية نزلت في اليهود لما أخرج أبو الشيخ عن سفيان والكلبي أن هذه الآية مدنية واستشكل أيضا قول مجاهد بأن مشركي قريش كما ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه و سلم ينكرون رسالة سائر الانبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف يحسن إيراد هذا الالزام عليهم ودفع بأن ذلك لما أنه كان إنزال التوراة من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم حسن الزامهم بما ذكر ومع هذا ما ذهب اليه الجمهور أحرى بالقبول ومن الناس من ادعى أن في الآية حجة من الشكل الثالث وهي أن موسى بشر وموسى أنزل عليه كتاب ينتج أن بعض البشر انزل عليه كتاب وتؤخذ الصغرى من قوة الآية والكبرى من صريحها والنتيجة موجبة جزئية تكذيب السالبة الكلية التي ادعتها اليهود وهي لا شيء من البشر أنزل عليه كتاب المأخوذ من قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء وإنما نتجت هاتان الشخصيتان مع أن شرط الشكل الثالث كلية أحدى المقدمتين لأن الشخصية عندهم في حكم الكلية
وقال الامام : تفلسفت حجة الاسلام الغزالي عليه الرحمة فقال : إن هذ الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وذلك لأن حاصلها يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئا وواحد من البشر ما أنزل الله تعالى عليه شيئا ينتج أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال وهذ الاستحالة ليست بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق الا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم : ما أنزل الله الخ فوجب القول بأنها كاذبة وفي ذلك تأمل فليتأمل ثم ان وصف الكتاب بالوصول اليهم لزيادة التقرير وتشديد التبكيت وكذا بقوله سبحانه : نورا وهدى فان كونه بينا بنفسه ومبينا لغيره مما يؤكد الالزام توكيد وانتصابها على الحالية من الكتاب والعامل أنزل أو من ضمير به والعامل جاء والظاهر
(7/219)
تعلقتعلق الظرف بجاء وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من الفاعل واللام في قوله سبحانه : للناس اما متعلق بهدى او بمحذوف وقع صفة له أي هدى كائنا للناس والمراد بهم بنو إسرائيل وقيل : هم ومن عداهم ومعنى كونه هدى لهم انه يرشد من وقف عليه بالواسطة أو بدونها إلى ما ينجيه من الايمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله تعالى : تجعلونه قراطيس استئناف لا موضع له من الاعراب مسوق لنعي ما فعلوه من التحريف والتغيير عليهم وجوز أن يكون في موضع نصب على الحال كما تقدم أي تضعونه في قراطيس مقطعة وأوراق مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم كما قيل
وقال أبو علي الفارسي : المراد تجعلونه ذا قراطيس وجوز غير واحد عدم التقدير على معنى تجعلونه نفس القراطيس وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة وليس المراد على الأول توبيخهم بمجرد وضعهم له في قراطيس إد كل كتاب لا بد وأن يودع في القراطيس بل المراد التوبيخ على الجعل في قراطيس موصوفة بقوله سبحانه : تبدونها وتخفون كثيرا فالجملة المعطوفة والمعطوف عليها في موضع الصفة لقراطيس والعائد على الموصوف من المعطوفة محذوف أي كثيرا منها والمراد من الكثير نعوت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر ما كتموه من أحكام التوراة كرجم الزاني المحصن وهذا خطاب لليهود بلا مرية وكانوا يفعلون ذلك مع عوامهم متواطئين عليه وهو ظاهر على تقدير أن يكون الجواب السابق لهم لأن مشافهتهم به يقتضي خطابهم ومن جعل ما تقدم للمشركين حمل هذا على الالتفات لخطاب اليهود حيث جرى ذكرهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الثلاثة بياء الغيبة وضمير الجمع لليهود أيضا إلا أنه التفت عن خطابهم تبعيدا لهم بسبب ارتكابهم القبيح عن ساحة الخطاب ولذا خاطبهم حيث نسب اليهم الحسن في قوله سبحانه : وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم وهذا أحسن كما قيل من الالتفات على القول الأول لأن فيه نقلا من الكلام مع جماعة هم المشركون إلى الكلام مع جماعة أخرى هم اليهود قبل اتمام الكلام الأول لأن اتمامه بقوله سبحانه : قل الله الخ بخلاف الالتفات على القول الثاني والجملة على ما قال أبو البقاء في موضع الحال من فاعل تجعلونه باضمار قد أو بدونه على اختلاف الرأيين وعليه كما قال شيخ الاسلام فينبغي أن يجعل ما عبارة عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائع ليكون التقييد بالحال مفيدا لتأكيد التوبيخ وتشديد التشنيع لا على ما تلقوه من جهة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليهم وعلى آبائنهم من مشكلاتها حسبما ينطق به قوله تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون لأن تلقيهم ذلك ليس مما يزجرهم عما صنعوا بالتوراة فتكون الجملة خالية عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقع موقع الحال بل الوجه حينئذ أن يكون استئنافا مقررا لما قبله من مجيء الكتاب بطريق التكملة والاستطراد والتمهيد لما يعقبه من مجيء القرآن ولا سبيل كما قال إلى جعل ما عبارة عما كتموه من أحكام التوراة كما يفصح عنه قوله تعالى : قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب فان ظهوره وإن كان مزجرة لهم عن الكتم مخافة الافتضاح ومصححا لوقوع الجملة في موقع الحال لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتما
وجوز أن تكون الجملة معطوفة على من أنزل الكتاب من حيث المعنى أي قل من أنزل الكتاب ومن
(7/220)
علمكم ما لم تعلموا وفيه بعد وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن هذا خطاب للمسلمين وروي عنه أنه قرأ وعلمتم معشر العرب مالم الخ وهو عند قوم اعتراض للامتنان على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واتباعه بهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن وقال بعضهم : إن الناس فيما تقدم عام يدخل فيهم المسلمون واليهود و علمتم عطف على تجعلونه والخطاب فيه للناس باعتبار اليهود وفي علمتم لهم باعتبار المسلمين ولا يخفى أنه تكلف
وقوله سبحانه : قل الله أمر لرسوله صلى الله عليه و سلم بأن يجيب السؤال السابق عنهم إشارة إلى أنهم ينكرون الحق مكابرة منهم وإشعارا بتعين الجواب وإيذانا بأنهم أفحموا ولم يقدروا على التكلم أصلا والاسم الجليل إا فاعل فعل مقدر أو مبتدأ خبره جملة مقدرة أي أنزله الله والله تعالى أنزله والخلاف في الأرجح من الوجهين مشهور ثم ذرهم أي دعهم في خوضهم أي باطلهم فلا عليك بعد الزام الحجة والقام الحجر يلعبون
9
- في موضع الحال هم الأول والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعول ذرهم أو من فاعل يلعبون
وجوز أن يكون في موضع الحال من هم الثاني وهو في المعنى فاعل المصدر المضاف اليه والظرف متصل بما قبله إا على أنه لغو أو حال من هم ولا يجوز حينئذ جعله متصلا بيلعبون على الحالية أو اللغوية لأنه يكون معمولا له متأخرا عنه رتبة ومعنى مع أنه متقدم عليه رتبة أيضا لأن العامل في الحال عامل في صاحبها فيكون فيه دور وفساد في المعنى والآية عند بعض منسوخة بآية السيف واختار الامام عدم النسخ لأنها واردة مورد التهديد وهو لا ينافي حصول المقاتلة فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوبها رافعا للمدلول فلم يحص النسخ فيه وهذا كتاب أنزلناه تحقيق لانزال القرآن الكريم بعد تقرير إنزال ما يشير به من التوراة وتكذيب لكلمتهم الشنعاء إثر تكذيب وتنكير كتاب للتفخيم وجملة أنزلناه في موضع الرفع صفة به
وقوله سبحانه مبارك أي كثير الفائدة والنفع لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الاولين والآخرين صفة بعد صفة قال الامام : جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن خذا الكتاب المتمسك به يحصل به عز الدنيا وسعادة الآخرة ولقد شاهدنا والحمد لله عز و جل ثمرة خدمتنا له في الدنيا فنسأله ان لا يحرمنا سعدة الآخرة إن البر الرحيم وقوله جل وعلا : مصدق الذي بين يديه صفة أخرى والاضافة على ما نص عليه أبو البقاء غير محضة والمراد بالموصول إا التوراة لأنها أعظم كتاب نزل قبل ولأن الخطاب مع اليهود وأما ما يعمها وغيرها من الكتب السماوية وروي ذلك عن الحسن وتذكير الموصول باعتبار الكتاب أو المنزل أو نحو ذلك ومعنى كونها بين يديه أنها متقدمة عليه فان كل ما كان بين اليدين كذلك وتصديقه للكل في إثبات التوحيد والأمر به ونفي الشرك والنهي عنه وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ
ولتنذر أم القرى قيل : عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والانذار واختار العلامة الثاني كونه عطفا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للانذار وادعى أنه لا حاجة مع هذا إلى ذلك التكلف فان عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير ودعوى أن الداعي اليه عرو تلك الصفات السابقة عن حرف العطف واقتران هذا به تستدعي القول بأن الصفات
(7/221)
إذا تعددت ولم يعطف أولها يمتنع العطف أو يقبح والواقع خلافه والاولى ما يقال : إن الداعي أن اللفظ والمعنى يقتضيانه أما المعنى فلان الانذار كما يدل عليه وأوحي إلي هذا القرآن لانذركم به ولو عطف لكان على أول الصفات على الراجح في العطف عند التعدد ولا يحسن عطف التعليل على المعلل به ولا الجار والمجرور على الجملة الفعلية فانه نظير هذا رجل قام عندي وليخدمني ونو كما ترى ومنه يعلم الداعي اللفظي
وجوز أن يكون علة لمحذوف يقدر مؤخرا أو مقدما أي ولتنذر أنزلناه أو وأنزلناه وتقديم الجار للاهتما أو للحصر الاضافي وأن يكون عطفا على مقدر أي لتبشر ولتنذر وأيا ما كان ففي الكلام مضاف محذوف أي أهل أم القرى والمراد بها مكة المكرمة وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى وحجهم وهم يتجمعون عندها تجمع الاولاد عند الأم المشفقة ويعظمونها أيضا تعظيم الأم ونقل ذلك عن الزجاج والجبائي ولأنها أعظم القرى شأنا فغيرها تبع لها كما يتبع الفرع الأصل وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها فكأنها خرجت من تحتها كما تخرج الأولاد من تحت الأم أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس ونقل ذلك عن السدي
وقرأ أبو بكر عن عاصم لينذر بالياء التحتية على الاسناد المجازي للكتاب لأنه منذر به ومن حولها من أهل المدر والوبر في المشارق والمغارب لعموم بعثته صلى الله تعالى عليه وسلم الصادع بها القرآن في غير آية واللفظ لا يأبى هذا الحمل فلا متمسك بالآية لطائفة من اليهود زعموا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مرسل للعرب خاصة على أنه يمكن أن يقال : خص أولئك بالذكر لأنهم أحق بانذاره عليه الصلاة و السلام كقوله تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه والذين يؤمنون بالآخرة وبما فيها من الثواب والعقاب ومن اقتصر على الثاني في البيان لاحظ سبق الانذار يؤمنون به أي بالكتاب قيل : أو بمحمد صلى الله عليه و سلم لأنهم يرهبون من العذاب ويرغبون في الثواب ولا يزال ذلك يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به وهم على صلاتهم يحافظون
29
- يحتمل أن يراد بالصلاة مطلق الطاعة مجازا أو اكتفى ببعضها الذي هو عماد الدين وعلم الايمان ولذا أطلق على ذلك الايمان مجازا كقوله تعالى ما كان الله ليضيع إيمانكم ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا كالذين قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء أو قال أوحي إلي من جهته تعالى ولم يوح اليه أي والحال أنه لم يوح اليه شيء كمسيلمة والاسود العنسي ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله أي أنا قادر على مثل ذلك النظم كالذين قالوا : لو شئنا لقلنا مثل هذا وتفسير الأول بما ذكرناه لم نقف عليه لغيرنا وتفسير الثاني ذهب إليه الزمخشري وغيره وتفسير الثالث ذهب إليه الزجاج ومن وافقه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جريج أن قوله سبحانه : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي الي ولم يوح اليه شيء نزلت في مسيلمة الكذاب والاخير نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وجعل بعضهم على هذا عطف أو قال الاول على افترى الخ من عطف التفسير
وتعقب بأنه لا يكون بأو واستحسن أنه من عطف المغاير باعتبار العنوان واو للتنويع يعني أنه تارة أدعى أن الله تعالى بعثه نبيا واخرى أن الله تعالى أوحى إليه وإن كان يلزم النبوة في نفس الأمر الايحاء ويلزم الايحاء النبوة ويفهم من صنيع بعضهم أن أو بمعنى الواو وأما ابن أبي سرح فلم يدع صريحا القدرة ولكن
(7/222)
قد يقتضيها كلامه على ما يفهم من بعض الروايات وفسر بعضهم الثاني بعبد الله ودعواه ذلك على سبيل الترديد فقد روي أن عبد الله بن سعد كان قد تكلم بالاسلام فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فكتب له شيئا فلما نزلت الآية في المؤمنين ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله سبحانه ثم أنشأناه خلقا آخر عجب عبد الله من تفصيل خلق الانسان فقال تبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله : هكذا أنزلت علي فشك حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال وجعل الشق الثاني في معنى دعوى القدر على المثل فيصح تفسير الثاني والثالث به لا يصح إلا إذا أعتبر عنوان الصلة في الأخير من باب المماشاة مثلا كما لا يخفى واعتبر الامام عموم افتراء الكذب على الله تعالى وجعل المعطوف عليه نوعا من الأشياء التي وصفت بكونها إفتراء ثم قال : والفرق بين هذا القول وما قبله أن في الأول كان يدعي أنه أوحي إليه فيما يكذب به ولم ينكر نزول الوحي على النبي صلى الله عليه و سلم وفي الثاني أثبت الوحي لنفسه ونفاه عنه عليه الصلاة و السلام فكان جمعا بين أمرين عظيمين من الكذب إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود أنتهى وفيه عدول عن الظأهر حيث جعل ضمير اليه راجعا للنبي صلى الله عليه و سلم والواو في ولم يوح للعطف والمتعاطفان مقول القول والمنساق للذهن جعل الضمير لمن والواو للحال وما بعدها من كلامه سبحانه وتعالى وربما يقال لو قطع النظر عن سبب النزول : إن المراد بمن افترى على الله كذبا من أشرك بالله تعالى أحدا بحمل افتراء الكذب على أعظ أفراده وهو الشرك وكثير من الآيات يصدح بهذا المعنى وبمن قال : أوحي إلي والحال لم يوح إليه مدعي النبوة كاذبا وبمن قال سأنزل مثل ما أنزل الله الطاعن في نبوة النبي عليه الصلاة و السلام فكأنه قيل : من أظلم ممن أشرك بالله عز و جل أو ادعى النبوة كاذبا أو طعن في نبوة النبي صلى الله عليه و سلم وقد تقدم الكلام على مثل هذه الجملة الاستفهامية فتذكر وتدبر
ولو ترى أي تبصر ومفعول محذوف لدلالة الظرف في قوله تعالى : إذ الظالمون عليه ثم لما حذف أقيم الظرف مقامه والاصل لو ترى الظالمين إذ هم و إذ ظرف لترى و الظالمون مبتدأ وقوله تعالى : في غمرات الموت خبره وإذ ظرف لترى وتقييد الرؤية بهذا الوقت ليفيد أنه ليس المراد مجرد رؤيتهم بل رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر وقيل : المفعول إذ والمقصود تهويل هذا الوقت لفظاعة ما فيه وجواب الشرط محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا هائلا والمراد بالظالمين ما يشمل الانواع الثلاثة من الافتراء والقولين الاخيرين والغمرة كما قال الشهاب في الأصل : المرة من غمر الماء ثم استعير للشدة وشاع فيها حتى صار كالحقيقة ومنه قول المتنبي : وتسعدني في غمرة بعد غمرة سبوح لها منها عليها شواهد والمراد هنا سكرات الموت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والملائكة الذين يقبضون أرواحهم وهم أعوان ملك الموت باسطوا أيديهم أي بالعذاب وأخرج أبن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم قائلين لهم أخرجوا أنفسكم أي خلصوها مما أنتم فيه من العذاب والأمر للتوبيخ والتعجيز وذهب بعضهم أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في
(7/223)
قبضقبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له : أخرج ما لي عليك الساعة ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك وفي الكشف أنه كناية عن العنف في السياق والالحاح والتشديد في الازهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها
اليوم المراد به مطلق الزمان لا المتعارف عليه وهو إا حين الموت أو ما يشمله وما بعده تجزون عذاب الهون أي المشتمل على الهوان والشدة والاضافة كما في رجل سوء تفيد أنه متمكن في ذلك لأن الاختصاص الذي تفيده الاضافة اقوى من اختصاص التوصيف وجوز أن تكون الاضافة على ظاهرها لأن العذاب قد يكون للتأديب لا للهوان والخزي ومن الناس من فسر غمرات الموت بشدائد العذاب في النار فانها وان كانت أشد من سكرات الموت في الحقيقة الا أنها استعملت فيها تقريبا للافهام وبسط الملائكة أيديهم بضربهم للظالمين في النار بمقامع من حديد والاخراج بالاخراج من النار وعذابها واليوم باليوم المعلوم بما كنتم تقولون مفترين على الله غير الحق من نفي أنزاله على بشر شيئا وادعاء الوحي أو من نسبة الشرك اليه ودعوى النبوة كذبا ونفيها عمن اتصف بها حقيقة أو نحو ذلك وفي التعبير بغير الحق عن الباطل ما لا يخفى وهو مفعول تقولون وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون
39
- أي تعرضون فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون ولقد جئتمونا للحساب فرادى أي منفردين عن الاعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم أو عن الأموال والاولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عكرمة قال : قال النضر بن الحرث سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت والجملة على ماذهب اليه بعض المحققين مستأنفة من كلامه تعالى ولا ينافي قوله تعالى : ولا يكلمهم لأن المراد نفي تكليمهم بما ينفعهم أو لأنه كناية عن الغضب وقيل : معطوفة على قول الملائكة اخرجوا الخ وهي من جملة كلامهم وفيه بعد وإن ظنه الأمام أولى وأقوى ونصب فرادى على الحال من ضمير الفاعل وهو جمع فرد على خلاف القياس كانه جمع فردان كسكران على ما في الصحاح والألف للتأنيث ككسالى والراء في فرده مفتوحة عند صاحب الدر المصون وحكى بصيغة التمريض سكونها ونقل عن الراغب أنه جمع فريد كأسير وأسارى وفي القاموس ياقل : جاءوا فرادا وفرادا وفرادى وفراد وفراو وفراد وفردى كسكرى أي واحدا بعد واحد والواحد فرد وفرد وفريد وفردان ولا يجوز فرد في هذا المعنى ولعل هذا بعيد الارادة في الآية وقريء فرادا كرخال المضموم الراء وفراد كاحاد ورباع في كونه صفة معدولة ولا يرد أن مجيء هذا الوزن المعدول مخصوص بالعدد بل ببعض كلماته كما نص عليه الفراء وغيره من عدم الاختصاص نعم هو شائع فيما ذكر وفردى كسكرى تأنيث وفردان والتأنيث لجمع ذي الحال كما خلقناكم أول مرة بدل من فرادى بدل كل لأن المراد المشابهة في الانفراد المذكور والكاف اسم بمعنى مثل أي مثل الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ويجوز أن يكون حالا ثانية على رأي من يجوز تعدد الحال من غير عطف وهو الصحيح أو حالا من الضمير في فرادى فهي حال مترادفة أو متداخلة والتشبيه
(7/224)
أيضا في الانفراد ويحتمل أن يكون باعتبار ابتداء الخلقة أي مشبهين ابتداء خلقكم بمعنى شبيهة حالكم حال ابتداء خلقكم حفاة عراة غرلا بهما وجوز أن يكون صفة مصدر جئتمونا أي مجيئا كخلقنا لكم
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت : يا رسول الله واسوأتاه إن النساء والرجال سيحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض
وتركتم ما خولناكم أي ما أعطيناكم في الدنيا من المال والخدم وهو متضمن للتوبيخ أي فشغلتم به عن الآخرة وراء ظهوركم ما قدمتم منه شيئا لأنفسكم أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن قال : يؤتى بان آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيقول له تبارك وتعالى : أين ما جمعت فيقول : يارب جمعته وتركته أوفر ما كان فيقول : أين ما قدمت لنفسك فلا يراه قدم شيئا وتلا هذه الآية والجملة قيل مستأنفة أو حال بتقدير قد وما نرى أي نبصر وهو على ما نص عليه أبو البقاء حكاية حال وبه يتعلق قوله تعالى : معكم وليس حالا من مفعول نرى أعني قوله سبحانه شفعاؤكم ولا مفعولا ثانيا والرؤية علمية وإضافة الشفعاء إلى ضمير المخاطبين باعتبار الزعم كما يفصح عنه وصفهم بقوله عز و جل : الذين رعمتم في الدنيا أنهم فيكم شركاؤا أي شركاء لله تعالى في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم والزعم هنا نص في الباطل وجاء استعماله في الحق كما تقدمت الاشارة اليه ومن ذلك قوله : تقول هلكنا إن هلكت وإنما على الله أرزاق العباد كما زعم لقد تقطع بينكم بنصب بين م وهي قراءة عاصم والكسائي وحفص عن عاصم واختلف في تخريج ذلك فقيل : الكلام على إضمار الفاعل لدلالة ما قبل عليه أي تقطع الأمر أو الوصل بينكم وقيل : ان الفاعل ضمير المصدر وتعقبه أبو حيان بأنه غير صحيح لأن شرط افادة الاسناد مفقودة فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام وجلس هو أي الجلوس
ورد بأنه سمع بدا بداء وقد قدروا في قوله تعالى : ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه بدا البداء
وقال السفاقسي : إن من جعل الفاعل ضمير المصدر قال : المراد وقع التقطيع والتغاير حاصل بهذا الاعتبار ولو سلم فالتقطع المعتبر مرجعا معرف بلام الجنس و تقطع منكر فكيف يقال اتحدا الحكم والمحكوم عليه
ولا يخفى أن القول بالتأويل متعين على هذا التقدير لأنه إذا تقطع التقطع حصل الوصل وهو ضد المقصود وقيل : إن بين هو الفاعل وبقي على حاله منصوبا حملا له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش وقيل : إنه بني لاضافته إلى مبني وقيل غير ذلك
واختار ابو حيان أن الكلام من باب التنازع سلط على ما كنتم ترعمون تقطع وضل عنكم فاعمل الثاني وهو ضل وأضمر في تقطع ضميره والمراد بذلك الأصنام والمعنى لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم كما قال تعالى : 0 وتقطعت بهم الاسباب أي لم يبق اتصال بينكم وبين ما كنتم تزعمون أنهم شركاء فعبدتموهم
(7/225)
وقرأ باقي السبعة بينكم بالرفع على الفاعلية وهو من الأضداد كالقرء يستعمل في الوصل والفصل والمراد به هنا الوصل أي تقطع وصلكم وتفرق جمعكم وطعن ابن عطية في هدا بأنه لم يسمع من العرب أن البين يمعنى الوصل وإنما انتزع من هذه الآية وأجيب بأنه معنى مجازي ولا يتوقف على السماع لأن بين م يستعمل بين الشيئين المتلابسين نحو بيني وبينك رحم وصداقة وشركة فصار لذلك بمعنى الوصلة على أنه لو قيل بأنه حقيقة في ذلك لم يبعد فان أبا عمرو وأبا عبيدة وابن جني والزجاج وغيرهم من أئمة اللغة نقلوه وكفى بهم سندا فيه فكونه منتزعا من هذه الآية غير مسلم وعليه فيكون مصدرا لا ظرفا وقيل إن بين هنا ظرف لكنه أسند إليه الفعل على سبيل الاتساع
وقرأ عبد الله لقد تقطع بينكم وما فيه موصوفة أو موصولة وضل عنكم وضاع وبطل ما كنتم تزعمون
49
- أنها شفعاؤكم أو أنها شركاء لله تعالى فيكم أو أن لا بعث ولا جزاء
إن الله فالق الحب والنوى شروع في تقرير بعض افاعيله تعالى العجيبة الدالة على كمال علمه تعالى وقدرته ولطيف صنعه وحكمته إثر تقرير أدلة التوحيد وفي ذلك تنبيه على أن المقصود من جميع المباحث العقلية والنقلية وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله سبحانه والفالق الموجد والمبدع كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك والحب معلوم والنوى جمع نواة التمر كما في القاموس وغيره يؤنث ويذكر ويجمع على أنواء ونوى بضم النون وكسرها وفسره الامام بالشيء الموجود في داخل الثمرة بالمثلثة أعم من التمر بالمثناة وغيره والمشهور أن النوى إذا إطلق فالمراد منه ما في القاموس وإذا أريد عيره قيد فيقال : نوى الخوخ ونوى الاجاص ونحو ذلك وأصل الفلق الشق وكان إطلاق الفالق على الموجد باعتبار أن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق فمتى أوجد الشيء تخيل الذهن أنه شق ذلك العدم وفلقه وأخرج ذلك المبدع منه وعن الحسن وقتادة والسدي أن المعنى شاق الحبة اليابسة ومخرج النبات منها وشاق النواة ومخرج النخل والشجر منها وعليه أكثر المفسرين ولعله الأولى
وفي ذلك دلالة على كمال القدرة لما فيه من العجائب التي تصدح اطيارها على أفنان الحكم وتطفح أنهارها في رياض الكرم وعن مجاهد وأبي مالك أن المراد بالفلق الشق الذي بالحبوب وبالنوى أي أنه سبحانه خالقهما كذلك كما في قولك : ضيق فم الركية ووسع أسفلها وضعف بأنه لا دلالة له على كمال القدرة كما في سابقه
يخرج الحي من الميت أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينموا من النطفة والحب والنوى والجملة مستأنفة مبينة مبينة لما قبلها على ما عليه الأكثر ولذلك ترك العطف وقيل : خبر ثان ولم يعطف للايذان باستقلاله في الدلالة على عظة الله تعالى ومخرج الميت كالنطفة وأخويها من الحي كالحيوان وأخويه وهذا عند بعض عطف على فالق لا على يخرج الحي الخ لأنه كما علمت بيان لما قبله وهذا لا يصلح للبيان وأن صح عطف الأسم المشتق على الفعل وعكسه
واختار ابن المنير كونه معطوفا على يخرج قال وقد وردا جميعا بصيغة المضارع كثيرا وهو دليل على أنهما توأمان مقترنان وهو يبعد القطع فالوجه والله تعالى أعلم أن يقال : كان الأصل أن يؤتى بصيغة اسم
(7/226)
الفاعل اسوة أمثاله في الآية إلا أنه عدل عن ذلك إلى المضارع في هذا الوصف وحده ارادة لتصور إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع وذلك إنما يتأتى بامضارع دون اسم الفاعل والماضي ألم تر ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة كيف عدل عن الماضي المطابق لانزل لذلك وقوله : بأني قد لقيت الغول يسعى يسهب كالصحيفة صحصحان فآخذه وأضربه فخرت صريعا لليدين وللجران فانه عدل فيه إلى المضارع وإرادة لتصوير شجاعته واستحضاره لذهن السامع إلى ما لا يحصى كثرة وإنما ينتحي فيما تكون العناية فيه أقوى ولا شك ان إخراج الحي من الميت أظهر في القدرة من عكسه وهو أيضا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه ثم القسم الآخر ثان عنه فكان الأول جديرا بالتصوير والتأكيد في النفس ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر حسب ترتبهما في الواقع وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه ان اسم الفاعل في معنى المضارع وكل منهما يقدر بالآخر فلا جناح في عطفه عليه
وقال الامام في وجه ذلك الاختلاف : إن لفظ الفعل يدل على أن الفاعل معتن بالفعل في كل حين وأوان وأما لفظ الاسم فانه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة ويرشد إلى هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر في دلائل الاعجاز من أن قوله سبحانه : هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء قد ذكر فيه الرزق بلفظ الفعل لأنه يفيد أنه تعالى يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة وقوله عز شأنه وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد قد ذكر فيه الاسم ليفيد البقاء على تلك الحالة وإذا ثبت ذلك يقال : لما كان الحي أشرف من الميت وجب أن يكون الاعتناء باخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء باخراج الميت من الحي فلذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل وعن الثاني بصيغة الأسم تنبيها على أن الاعتناء بايجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بايجاد الميت من الحي ثم العطف لاشتمال الكلام به على زيادة لا يضر بكون الجملة بيانا لما تقدم كما لا يضر شمول الحي والميت في الجملة المعطوف عليها للحيوان والنبات فيه
وأيا ما كان فلابد من القول بعموم المجاز أو الجمع بين المجاز والحقيقة على مذهب من يرى صحته إن قلنا إن الحي حقيقة فيمن يكون موصوفا بالحياة وهي صفة توجب صحة الادراك والقدرة والميت حقيقة فيمن فارقته تلك الصفة أو نحو ذلك وأن اطلاقه على نحو النبات والشجر الغض والنوى مجاز وبهذا يشعر كلام الامام فانه جعل ما نقل عن الزجاج أن المعنى يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي من الوجود المجازية كالمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المعنى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ذلكم القادر العظيم الشأن الساطع البرهان هو الله الذات الواجب الوجود المستحق للعبادة وحده فأنى تؤفكون
59
- فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لايقدر على شيء لا سبيل إلى ذلك أصلا وتمسك الصاحب بن عباد بهذا على أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى لأنه سبحانه لو خلق فيه الافك لم يلق به عز شأنه أن يقول : فانى تؤفكون وقد قدمنا الجواب على ذلك على أتم وجه فتذكر فالق الاصباح خبر لمبتدأ محذوف أي هو فالق أو خبير آخر لأن و الاصباح بكسر الهمزة مصدر سمي به الصبح قال امرؤ القيس :
(7/227)
ألا أيها الليل الطويل الا انجلي بصبح وما الاصباح منك بأمثل وقرأ الحسن بالفتح على أنه جمع صبح كقفل وأقفال وأنشد قوله : أفنى رياحا وبني رياح تناسخ الامساء والاصباح بالكسر والفتح مصدرين وجمعي مسى وصبح والفالق الخالق على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة والضحاك وقال غير واحد : الشاق واستشكل بأن الظأهر أن الظلمة هي التي تفلق عن الصبح وأجيب بأن الصبح صبحان صادق وهو المنتشر ضوؤه معترضا بالافق وكاذب وهو ما يبو مستطيلا وأعلاه أضواء من باقيه وتعقبه ظلمة وعلى الأول يراد فلقه عن بياض النهار أو ياقل : في الكلام مضاف مقدر أي فالق ظلمة الاصباح بالاصباح وذلك لأن الأفق من الجانب الغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور إنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحرا مملوءا من الظلمة فشق سبحانه ذلك البحر المظلم بان أجرى جدولا من النور فيه وعلى الثاني فايراد أنه سبحانه فالقه عن ظلمة آخر الليل وشاقه منه وما ذكر من تقسيم الصبح عن صادق وكاذب مما يشهد له العيان ولا يمتري فيه اثنان إلا أن في سبب ذلك كلاما لأهل الهيئة حاصله ان الصبح وكذا الشفق استنارة في كرة البخار لتقارب الشمس من أفق المشرق وتباعدها عن أفق المغرب
وقد تحقق أن كرة البخار عبارة عن هواء متكاثف بما فيه من الأجزاء الأرضية والمائية المتصاعدة من كرتيهما بتسخين الشمس وغيرها أياها وان شكل ذلك الهواء شكل كرة محيطة بالارض على مركزها وسطح مواز لسطحها المتساوي غاية ارتفاعها عن مركز الارض في جميع النواحي المستلزم لكرويتها وانها مختلفة القوام لان ما كن منها أقرب إلى الأرض فهو أكثف مما بعد لان الالطف يتصاعد ويتباعد اكثر من الأكثف ولكن لا يبلغ التكاثف إلى حيث يحجب ما وراءه وان هذه الكرة تنتهي إلى حد لا تتجاوزه وهو من سطح الأرض أحد وخمسون ميلا تقريبا وان للارض ظلا على هيئة مخروط قاعدته دائرة عليها تكاد تكون عظيمة وهي مواجهة للشمس ورأسه في مقابلها وتنقسم الأرض بهذه القاعدة إلى قسمين أحدهما أكبر مستضيء مواجهة للشمس والآخر مظلم مقابل لها ويتحرك الضياء والظلمة على سطح الأرض في يوم بليلته دورة واحدة كعلمين متقابلين أحدهما أبيض والآخر أسود وأن شعاع الشمس محيط بمخروط الظل من جميع جوانبه ومنبث في جميع الافلاك سوى مقدار يسير من فلك القمر وفلك عطارد وقع في مخروط ظل الارض لكن الافلاك لكونها مشعة في الغاية ينفذ فيها الشعاع ولا ينعكس عنها فلذلك لا نراها مظيئة وكذا الهواء الصافي المحيط بكرة البخار لا يقبل ضوءا
وأما كرة البخار فهي مختلفة القوام لان ما قرب منها إلى الأرض أكثف مما بعد والاكثف أقبل للاستضاءة فالكثيف الخشن باختلاط الهيئات الكثيرة من سطح مخروط الظل قابل للضوء وان النهار مدة كون ذلك المخروط تحت الافق والليل مدة كونه فوقه وحيث تحقق كل ذلك يقال : إذا ازداد قرب الشمس من شرقي الافق ازداد ميل المخروط إلى غريبة ولا يزال كذلك حتى يرى الشعاع المحيط به وأول ما يرى هو الاقرب إلى موضع الناظر وهو خط يخرج من بصره في سطح دائرة سمتية تمر بمركز الشمس عمودا على الخط المماس للشمس والأرض وهو الذي في سطح الفصل المشترك بين الشعاع والظل فيرى الضوء أولا مرتفعا عن الافق عند موقع العمود مستطيلا كخط مستقيم وما بينه وبين الافق يرى مظلما لبعده وان كان مستنيرا في الواقع
(7/228)
ولكثافة الهواء عند الافق مدخل في ذلك وهو الصبح الكاذب ثم إذا قربت من الافق الشرقي رؤي الضوء معترضا منبسطا يزداد لحظة فلحظة وينمحي الأول بهذا الضياء القوي كما ينمحي ضياء المشاعل والكواكب في ضوء الشمس فيخيل أن الاول قد عدم وهو الصبح الصادق
وتوضيح ما ذكر على ما في التذكرة وشرح سيد المحققين أنه يتوهم لبيان ذلك سطح يمر بمركز الشمس والأرض وبسهم المخروط ومركز قاعدته فيحدث مثلث حاد الزوايا قاعدته على الافق وضلعاه على سطح المخروط أما حدوث المثلث فلما تقرر أنه إذا مر سطح مستو بسهم المخروط ومركز قاعدته أحدث فيه مثلثا وأما حدة الزوايا فلان رأس المخروط في نصف الليل يكون على دائرة نصف النهار فوق الأرض وحينئذ إا يكون المخروط قائما على سطح الافق وذلك إدا كانت الشمس على سمت القدم أو مائلا إلى الشمال أو الجنوب مع تساوي بعده من جهة المشرق والمغرب وذلك إذا لم تكن الشمس على سمت القدم
وأيا ما كان فذلك السطح المفروض ممتد فيما بين الخافقين اما على التقدير الأول فظاهر وأما على التقدير الثاني فلتساوي بعد رأس المخروط عن جانبي المشرق والمغرب فيكون زاويتا قاعدة المثلث حادتين لوجوب تساويهما وامتناع وقوع قائمتين أو منفرجتين في مثلث وإذا مال رأس المخروط عن نصف النهار المغرب فوق الأرض بسبب انتقال الشمس عنه إلى الجانب المشرق تحت الأرض تضايقت الزاوية الشرقية من ذلك المثلث فتصير أحد مما كانت واتسعت الزاوية الغربية حتى تصير منفرجة لكن المقصود لا يختلف ولا شك أن الأقرب من الضلع الذي يلي الشمس إلى الناظر يكون موقع العمود الخارج من النظر الواقع على ذلك الضلع لا موضع اتصال الضلع بالأفق وذلك أنه إذا خرج من البصر الى الضلع الشرقي عمود فلا يمكن أن يقع على موضع اتصال هذا الضلع بالافق وإلا انطبقت القائمة على بعض الحادة ولا أن يقع تحت الأفق بأن يقطع العمود قاعدة المثلث ويصل إلى الضلع المذ : ور بعد إخراجه تحته وإلا لزم في المثلث الحادث تحت الأفق من القدر المخرج من بعض وبعض العمود القائمة ومنفرجة ولا أن يقع في جهة رأس المثلث على موضع اتصال أحد ضلعيه بالآخر ولا خارجا عنه في تلك الجهة لما ذكرنا بعينه فوجب أن يقع داخل المثلث فيما بين طرفي الضلع الشرقي وقد تبين أن موضعه أقرب إلى الناظر من موضع اتصاله بالأفق ولا شك في أن ما وقع من هذا الضلع فيما كثف من كرة البخار يكون مستنيرا بتمامه حال قرب الشمس من أفق المشرق إلا أن ما كان أقرب منه إلى الناظر يكون أصدق رؤية وهو موقع العمود ومن هنا يتحقق الصادق والكاذب انتهى كلامهم
والامام الرازي أنكر كون الصبح الكاذب من أثر قرص الشمس وإنما هو بتخليق الله تعالى ابتداء قال لأن مركز الشمس إذا وصل الى دائرة نصف الليل فالموضع الذي يكون فلك الدائرة أفقا لهم قد طلعت المشس من مشرقهم وفي ذلك الموضع اضاء نصف كرة الأرض وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدنا وذلك الضوء يكون منتشرا مستطيرا في جميع أجزاء الجو ويجب أن يزداد لحظة فلحظة وحينئذ يمتنع أن يكون الصبح الأول خطا مستطيلا فحيث كان كذلك علم أنه ليس من تأثير قرص الشمس ولا من جنس نوره ويفهم من كلامه أيضا أن الصبح الثاني كالصبح الأول ليس
(7/229)
الا بتخليق الفاعل المختار ويمتنع أن يكون من تأثير قرص الشمس وبين ذلك أن من المقدمات المتفق عليها أن المضيء شمسا كان أو غيره لا يقع ضوؤه إلا على الجرم المقابل له دون غير المقابل والشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلا لجزء من أجزاء وجه الأرض فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير قرص المشس ثم قال فان قالوا : لم يجوز أن يقال الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل لها وذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض فيصير ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سببا لضوء الهواء الواقف فوق الأرض ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء آخر ملاصق له حتى يصل الهواء المحيط بنا
وعلى هذا عول أب علي بن الهيثم في المناظر فالجواب : أن هذا باطل من وجهين الاول أن الهواء شفاف عديم اللون فلا يقبل النور واللون في ذاته وما كان كذلك يمتنع أن ينعكس منه النور الى غيره فيمتنع أن يصير ضووه سببا لضواء هواء آخر مقابل له فان قالوا فلم لا يجوز أن يقال إنه حصل في الأفق أجزاء كثيفة من الأبخرة والأدخنة وهي لكثافتها تقبل النور عن قرص الشمس ثم يفيض على الهواء المقابل له فنقول : لو كان كذلك لكان كلما كانت الأبخرة والادخنة في الافق أكثر وجب أن يكون ضوء الصباح اقوى وليس الأمر كذلك بل بالعكس والثاني أن الذائرة التي هي دائرة الأفق لنا بعينها دائرة نصف النهار لقوم آخرين وإذا كان كذلك فالدائرة التي هي نصف النهار في بلدنا وجب كونها دائرة الافق لاولئك الأقوام وإذا ثبت هذا فنقول إدا وصل مركز الشمس الى دائرة نصف الليل وتجاوز عنها فالشمس قد طلعت على اولئك الاقوام واستنار نصف العالم هناك والربع من الفلك الذي هو ربع شرقي لأهل بلدنا فهو ربع غربي بالنسبة الى تلك البلدة وإذا كان كذلك فالشمس إذا تجاوز مركزها عن دائرة نصف الليل قد صار جرمها محازيا لهواء الربع الذي هو الربع الشرقي لاهل بلدنا فلو كان الهواء يقبل كيفية النور من الشمس لوجب أن يحصل النور في هذا الربع الشرقي من بلدنا بعد نصف الليل وأن يصير هواء هذا الربع في غاية الانارة حينئذ وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الهواء لا يقبل كيفية النور في ذاته وإذا بطل هذا بطل العذر الذي ذكره ابن الهيثم انتهى المراد منه ولا أراه اتي بشيء يتبلج به صبح هذا المطلب كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما قدمناه وذكر أفضل المتأخرين العلامة أحمد بن حجر الهيثمي أن لأهل الهيئة في تحقيق الصبح الكاذب كلاما طويلا مبنيا على الحدس المبني على قاعدة الحكماء الباطلة كمنع الخرق والالتئام على أنه لا يفي ببيان سبب كون أعلاه أضواء مع أنه أبعد من أسفله عن مستمده وهو المشس ولا ببيان سبب انعدامه بالكلية حتى تعقبه ظلمة كما صرح به الأئمة وقدروها بساعة والظاهر أن مرادهم مطلق الزمن لانها تطول تارة وتقصر أخرى وهذا شأن الساعات الزمانية المسماة بالمعوجة ويقابلونهابالساعات المستوية المقدرة كل منها دائما بخمس عشرة درجة وزعم بعض أهل الهيئة عدم انعدامه وإنما يتناقص حتى ينغمر في الصادق وقد تقدم لك ذلك فيما نقلناه لك عنهم ولعله بحسب التقدير لا الحس وفي خبر مسلم لا يعرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير أي ينتشر ذلك العمود في نواحي الافق ويؤخذ من تسميته عارضا للثاني شيئان أحدهما أنه يعرض للشعاع الناشيء عنه الصبح الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في
(7/230)
قولهقوله سبحانه : 0 والصبح إدا تنفس فعند دلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعة أن يكون أوله أكثر من آخره وهذا لكون كلام الصادق قد يدل عليه ولانبائه عن سبب طوله وإضاءة أعلاه واختلاف زمنه وانعدامه بالكلية الموافق للحس أولى مما ذكره أهل الهيئة القاصر عن ذلك
ثانيهما أنه صلى الله عليه و سلم أشار بالعارض إلى أن المقصود بالذات هو الصادق وأن الكاذب إنما قصد بطريق العرضية لينبه الناس لقرب ذلك فينتبهوا ليدركوا فضيلة أول الوقت لاشتغالهم بالنوم الذي لولا هذ العلامة لمنعهم إدراك أول الوقت فالحاصل أنه نور يبرزه الله تعالى من ذلك الشعاع أو يخلقه حينئذ علامة على قرب الصبح ومخالفا له في الشكل ليحصل التميز وتتضح العلامة العارضة من المعلم عليه المقصود فتأمل ذلك فانه غريب مهم وفي حديث عند أحمد ليس الفجر الأبيض المستطيل في الأفق ولكن الفجر الأحمر المعترض وفيه شاهد لما ذكر آخر ومما يؤيد ما أشير اليه من الكوة ما أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن للشمس ثلثمائة كوة تطلع كل يوم من كوة فلا بدع أنها عند قربها من تلك الكوة ينحبس شعاعها ثم يتنفس كما مر وللقرافي المالكي وغيره كالاصبحي من الشافعية فيه كلام يوضحه ويبين صحة ما ذكر من الكوات ويوافق الاستشكال لكونه يظهر ثم يغيب وحاصله وإن كان فيه طول لمس الحاجة اليه أنه بياض يطلع قبل الفجر ثم يذهب عند أكثر الابصار دون الراصد المجد القوي النظر
وذكر ابن بشير المالكي أنه من نور الشمس إدا قربت من الافق فاذا ظهرت أنست به الابصار فيظهر له أنه غاب وليس كذلك ونقل الاصبحي أن بعضهم ذكر أنه يذهب بعد طلوعه ويعود مكانه ليلا وهو كثير من الشافعية وإن أبا جعفر البصري بعد أن عرفه بأنه عند بقاء نحو ساعتين يطلع مستطيلا إلى نحو ربع السماء كأنه عمود وربما لم ير إذا كان الجو نقيا شتاء وأبين ما يكون إذا كان الجو كدرا صيفا أعلاه دقيق وأسفله واسع ولا ينافي هذا ما تقدم من أن أعلاه أضوأ لأن ذلك عند أول الطلوع وهذا عند مزيد قربه من الصادق وتحته سواد ثم بياض يغشى ذلك كله ثم يعترض رده بانه رصده نحو خمسين سنة فلم يره غاب وإنما ينحدر ليلتقي مع المعترض في السواد ويصيران فجرا واحدا وزعم غيبته ثم عوده وهم أوراه يختلف باختلاف الفصول فظنه يذهب وبعض المؤقتين يقول : هو المجرة إذا كان الفجر بالسعود ويلزمه أن لا يوجد إلا نحو شهرين في السمة قال القرافي : وقال آخرون هو شعاع يخرج من طباق بجبل قاف ثم أبطله بأن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما يرده ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم منها أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف ثم أرضا ثم بحرا ثم جبلا وهكذا حتى عد سبعا من كل وأخرج بعض اولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من ذمرد محيط بالدنيا عليه كثفا السماء وعن مجاهد مثله وكما اندفع بذلك قوله : لا وجود له اندفع قوله اثره : ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه لأنه إن أراد بالدليل مطلق الامارة فهذا عليه أدلة أو الامارة العقلية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي ثم نقل عن القرافي عن أهل الهيئة أنه يظهر ثم يخفيدائما ثم استشكله وأطال في جوابه بما لا يتضح
(7/231)
إلاإلا لمنأتقن علمي الهندسة والمناظر فأولى منه أن يختلف باختلاف النظر لاختلافه باختلاف الفصول والكيفيات العارضة لمحله فقد يدق في بعض ذلك حتى لا يرى أصلا وحينئذ فهذا عذر من عبر بأنه يغيب ثم تعقبه ظلمة وهذا ولا يخفى أن القول بحدوث ضوء الصبح بمجرد خلق الله تعالى لا عن سبب عادي كما يشير إليه كلام الامام أهون من القول بأنه من شعاع يخرج من طباق جبل قاف والقول بخروج الشعاع من هذا الطباق أهون من القول بخروج الشمس التي هي على ما بين في الاجرام مائة وستة وستون مثلا للأرض مع كسر تقدم على ما هو المشهور أو ثلاثمائة وستة وعشرون مثلا لها على ما قاله غياث الدين جمشيد الكاشي في رسالته سلم السماء أو ما يقرب من ذلك على ما في بعض الروايات من كوة من جبل محيط بالارض
والخبر في ذلك إن صح وقلنا : إن له حكم المرفوع مما ينبغي تأويله وباب التأويل أوسع من تلك الكوة فان كثير من الناس قد قطعوا دائرة الأرض على مدار السرطان مرارا ولم يجدوا أثرا لهذا الجبل المحيط الشامخ وإثبات سبعة جبال وسبعة أبحر على الوجه السابق مما لا يخفى ما فيه أيضا وكون الله تعالى لا يعجزه شيء مما لا يشك فيه إلا ملحد لكن الكلام في وقوع ما ذكر في الخارج والذي تميل اليه قلوب كثير من الناس في أمر الصبح ما ذكره أهل الهيئة
وقد بين ارسطوخس في الشكل الثاني من كتابه في جرم النيرين أن الكرة إذا اقتبست الضوء من كرة أعظم منها كان المضيء منها اعظم من نصفها وقد بين أيضا في الشكل الأول من ذلك الكتاب أن كل كرتين مختلفتين أمكن أن يحيط بهما مخروط مستدير رأسه يلي أصغرهما ويكون المخرط مماسا لكل منهما على محيط دائرة ولا شك أنه محيط بالشمس والأرض مخروط مؤلف من خطوط شعاعية رأسه يلي الأرض فيكون هذا المخروط مماسا للأرض على دائرة فاصلة بين المضيء والمظلم منها وهي دائرة صغيرة لأن الجزء المضيء من الأرض أصغر
وقد حققوا أن المستنير من الهواء كرة البخارسوى ما دخل في ظل مخروط الأرض وهي مستنيرة أبدا لكثافتها وإحاطة أشعة الشمس بها لكنها لا ترى في الليل لبعدها عن البصر وان سهم المخروط أبدا في مقابلةجرم الشمس كما اليه ففي منتصف الليل يكون على دائرة نصف النهار وبعد ذلك يميل إلى جانب الغروب لحظة فلحظة إلى أن يرى البياض في جانب المشرق على ما تقدم تفصيله وعلى هذا لا يلزم في الصورة التي ذكرها الامام من مجاوزة مركز الشمس دائرة نصف الليل وطلوعها على أولئك الأقوام واستنارة نصف العالم عندهم استنارة الربع الشرقي عندنا لاختلاف الوضع كما لا يخفى على المتأمل والتزام القول بالكروية والمخروط ونحو ذلك مما ذكره أهل الهيئة لا بأس به نعم اعتقاد صحة ما يقولونه مما علم خلافه من الدين بالضرورة أو علم بدليل قطعي كفر أو ضلال فتدبر وقريء فالق بالنصب على المدح
وقرأ النخعي فالق الاصبح وجعل الليل سكنا أي يسكن اليه من يتعب بالنهار ويستأنس به لاسترواحه فيه وكل ما يسكن اليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحا اليه من زوج أو حبيب يقال له : سكن ومنه قيل للنار : سكن لأنه يستأنس بها ولذا سموها مؤنسة
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن المعنى يسكن فيه كل طير ودابة وروي نحوه عن ابن عابس ومجاهد
(7/232)
رضي الله تعالى عنهم فالمراد حينئذ جعل الليل مسكونا فيه أخذأ له من السكون أي الهدوء والاستقرار كما في قوله تعالى : تسكنوا فيه وقرأ سائر السبعة إلا الكوفيين جاعل بالرفع وقريء شاذا بالنصب و الليل فيهما مجرور بالاضافة ونصب سكنا عند كثير بفعل دل عليه هذا الوصف لا به لأنه يشترط في عمل اسم الفاعل كونه بمعنى الحال أو الاستقابل وهو هنا بمعنى الماضي كما يشهد به قراءة جعل
وجوز الكسائي وبعض الكوفيين عمله بمعنى الماضي مطلقا حملا له على الفعل الذي تضمن معناه وبعضهم جوز عمله كذلك إذا دخلت علي أل وآخرون جوزوا عمله في الثاني إذا أضيف إلى الأول لشبهه بالمعرف باللام وعلى هذا والأول لا يحتاج إلى تقدير فعل بل يكون الناصب هو الوصف واختار بعضهم كونه الناصب أيضا لكن باعتبار ان المراد به الجعل المستمر في الأزمنة المختلفة لا الزمان الماضي فقط ولا يجري على هذا مجرى الصفة المشبهة لأن ذلك كما قال المحققين فيما قصد به الاستمرار مشروط باشتهار الوصف بذلك الاستعمال وشيوعه فيه ونصبه في قراءتنا على أنه مفعول ثان لجعل
وجوز أن يكون جعل بمعنى أحدث المتعدي لواحد فيكون نصبا على الحال والشمس والقمر معطوفان على الليل وعلى قراءة من جره يكون نصبها بجعل المقدر الناصب لسكنا أو بآخر مثله وقيل : العطف على محل الليل المجرور فان اضافة الوصف اليه غير حقيقية إذا لم ينظر فيه إلى المضي وقريء بالجر وهو ظاهر وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان حسبانا أي على أدوار مختلفة يحسب فيها الاوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات او محسوبان حسبانا والحسبان بالضم مصدر حسب الفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب وهذا هو الأصل المسموع في نحو ذلك وما سواه وارد على خلاف القياس كما قيل وعن أبي الهيثم أن حسبانا جمع حساب مثل ركبان وركاب وشهبان وشهاب وفي إرادته هنا بعد ذلك إشارة إلى جعلهما كذلك
وقال الطبرسي : إلى ما تقدم من فلق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا والجمهور على الأول وهو الظاهر وما فيه من معنى البعد للايذان بعلو منزلة المشار اليه وبعد منزلته أي ذلك التسيير البديع الشأن تقدير العزيز أي الغالب القاهر الذي لا يتعاصاه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص العليم
69
- المبالغ في العلم بجميع المعلومات التي من جملتها ما في ذلك التسيير من المصالح المعاشية والمعادية
وهو الذي جعل أي أنشأ أو صير لكم أي لأجلكم النجوم قيل : المراد بها ما عدا النيرين لأنها التي بها الاهتداء الآتي ولأن النجم يحص في العرف بما عداهما وجوز أن يدخلا فيها فيكون هذا بيانا لفائدتهما العامة إثر بيان فائدتهما الخاصة والمنجمون يقسمون النجوم إلى ثوبت وسيارات والسيارات سبع باجماع المتقدمين وثمان بزيادة هرشل عند المنجمين اليوم والثوابت لا يعلم عدتها إلا الله تعالى والمرصود منها كما قال عبد الرحمن الصوفي : الف وخمسة وعشرون بادخال الضفيرة ومن أخرجها قال :
(7/233)
هيهي ألف واثنان وعشرون ورتبوا الثوابت على ست أقدار وسموها أقدارا متزائدة سدسا سدسا وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب أعظم وأوسط وأصغر ولهم تقسيمات لها باعتبارات أخر بنوا عليها ما بنوا ولا يكاد يسلم لهم إلا ما لم يلزم منه محذور في الدين
لتهتدوا بها بدل من ضمير لكم باعادة العامل بدل اشتمال كأنه قيل جعل النجوم لاهتدائكم في ظلمات البر والبحر أي في ظلمات الليل في البر والبحر واضافتها اليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة وهذا إفراد لعض منافعها بالذكر حسبما يقتضيه المقام وإلا فهي أجدى من تفاريق العصا وهي في جميع ما يترتب عليها كسائر الأسباب العادية لا تأثير لها بانفسها ولا بأس في تعلم علم النجوم ومعرفة البروج والمنازل والاوضاع ونحو ذلك مما يتوصل به إلى مصلحة دينية
قال العلامة ابن حجر عليه الرحمة : والمنهي عنه من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان كمجيء المطر ووقوع الثلج وهبوب الريح وتغير الأسعار ونحو ذلك يزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب لاقترانها وافتراقها وهذا علم استأثر به الله تعالى به لا يعلمه أحد غيره فمن ادعى علمه بذلك فهو فاسق بل ربما يؤدي به الى الكفر فأما من يقول : إن الاقتران أو الافتراق الذي هو كذا جعله الله تعالى علامة بمقتضى ما أطردت به عادته الالهية على وقوع كذا وقد يتخلف فلا اثم عليه بذلك وكذا الاخبار عما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعلم به الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي من الوقت فانه لا إثم فيه بل هو فرض كفاية وأما ما في حديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلاة الصبح في أثر ماء أي مطر كان من الليل فلما انصرف أقبل علينا فقال : أتدرون ما قال ربكم قالوا : الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أعلم قال : أصبح من عبادي مؤمن وكافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله تعالى فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ومن قال : مطرنا بنوء كذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب فقد قال العلماء : إنه محمول على ما إذا قال ذلك مريدا أن النوء هو المحدث أما لو قال ذلك على معنى أن النوء علامة على نزول المطر ومنزله هو الله تعالى وحده فلا يكفر لكن يكره له قول ذلك لأنه من ألفاظ الكفر انتهى واقول : قد كثرت الأخبار في النهي عن علم النجوم والنظر فيها فقد أخرج ابن أبي شيبة وابو داود وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد وأخرج الخطيب عن ميمون بن مهران قال : قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أوصني قال أوصيك بتقوى الله وإياك وعلم النجوم فانه يدعوا إلى الكهانة واخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : نهاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن النظر في النجوم وعن أبي هريرة وعائشة رضي الله تعالى عنهما نحوه وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن متعلم حروف أبي جادوراء في النجوم ليس له عند الله تعالى خلاق يوم القيامة وأخرج أبو الخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر
(7/234)
ثمثم انتهوا إلى غير ذلك من الاخبار ولعل ما تفيده من النهي عن التعلم من باب سد الذرائع لأن ذلك العلم ربما يجر إلى محظور شرعا كما يشير اليه خبر ابن مهران وكذأ النهي عن النظر فيها محمول على النظر الذي كان تفعله الكهنة الزاعمون تأثير الكواكب بأنفسها والحاكمون بقطعية ما تدل عليه بتثليثها وتربيعها واقترانها ومقابلتها مثلا من الاحكام بحيث لا تتخلف قطعا على أن الوقوف على جميع ما أودع الله تعالى في كل كوكب مما يمتنع الغير علام الغيوب والوقوف على البعض أو الكل في البعض لا يجدي نفعا ولا يفيد إلا ظنا المتمسك به كالمتمسك بحبال القمر والقابض عليه كالقابض على شعاع الشمس نعم إن بعض الحوادث في عالم الكون والفساد قد جرت عادة الله تعالى باحداثه في الغالب عند طلوع كوكب أو غروبه أو مقارنته لكوكب آخر وفيما يشاهد عند غيبوبة الثريا وطلوعها وطلوع سهيل شاهد لما ذكرنا ولا يبعد أن يكون ذلك من الأسباب العادية وهي قد تتخلف مسبباتها عنها سواء قلنا : إن التأثير عندها كما هو المشهور عن الاشاعر أم قلنا : إنها المؤثرة باذن الله تعالى كما هو المنصور عند السلف ويشير اليه كلام حجة الاسلام الغزالي في العلة فمتى أخبر المجرب عن شيء من ذلك على هذا الوجه لم يكن عليه بأس وما أخرجه الخطيب عن عكرمة أنه سأل رجلا عن حساب النجوم وجعل الرجل يتحرج أن يخبره فقال عكرمة : سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول : علم عجز الناس عنه وددت أني علمته
ةنا أخرجه الزبير بن بكار عن عبد الله بن حفص قال : خصت العرب بخصال بالكهانة والقيافة والعياقة والنجوم والحساب فهدم الاسلام الكهانة وثبت الباقي بعد ذلك وقول الحسن بن صالح : سمعت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في النجوم : ذلك علم ضيعه الناس فلعل ذلك إن صح محمول على نحو ما قلنا وبعد هذا كله أقول : هو علم لا ينفع والجهل به لا يضر فما شاء الله تعالى كان ومالم يشأ لم يكن قد فصلنا الآيات أي بينا الآيات المتلوة المذكورة لنعمه سبحانه التي هذه النعمة من جملتها أو الآيات التكوينية الدالة على شؤونه تعالى فصلا فصلا لقوم يعلمون
79
- معني الآيات المذكورة فيعملون بموجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقة الحال وتخصيص التفصيل بهم مع عمومه للكل لأنهم المنتفعون به
وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة 9 أي آدم عليه السلام وهو تذكير لنعمة أخرى فان رجوع الكثرة إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتعاطف وفيه أيضا دلالة على عظيم قدرته سبحانه وتعالى فمستقر ومستودع أي فلكم استقرار في الاصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الارحام أو في القبر أو موضع استقرار واستيداع فيما ذكر وجعل الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فاشبهت الوديعة كأن الرجل أودعها ما كان عنده وجعل وجه الأرض مستقرا وبطنها مستودعا لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني وقيل : التعبير عن كونهم في الاصلاب او فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرهم الطبيعي كما أن التعبير عن كونهم في الارحام او في القبر بالاستيداع لما أن كلا منهما ليس بمقرهم الطبيعي
وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المستقر الرحم والمستودع الأصلاب وجاء في رواية أن حبر تيما كتب اليه يساله رضي الله تعالى عنه عن ذلك فاجابه بما ذكر
(7/235)
ويؤيد تفسير المستقر بالرحم قوله تعالى : ونقر في الأرحام ما نشاء وأما تفسير المستودع بالاصلاب فقال شيخ الاسلام : إنه ليس بواضح وليس كما قال فقد ذكر الامام بعد أن فرق بين المستقر والمستودع بأن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع ومما يدل على قوة هذا القول يعني المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمنا طويلا والجنين يبقى زمانا طويلا ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى ويلزم ذلك أن حمل الاستيداع على المكث في الصلب أولى وأنا أقول : لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم يوم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم وكان ما كان ردهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله تعالى ذلك وقد أظلق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اسم الوديعة على ما في الصلب صريحا فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال : قال لي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أتزوجت قلت : لا وما ذلك في نفسي اليوم قال : ان كان في صلبك وديعة فستخرج وروي تفسير المستودع بالدنيا والمستقر بالقبر عن الحسن وكان : يقول يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وينشد قول لبيد : وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوما أن ترد الودائع وقال سليمان بن زيد العدوي في هذا المعنى : فجع الاحبة بالاحبة قبلنا فاناس مفجوع به ومفجع مستودع أو مستقر مدخلا فالمستقر يزوره المستودع وعن أبي مسلم الاصفهاني أن المستقر الذكر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه والمستودع الأنثى لأن رحمها شبيه بالمستدوع لتلك النطفة فكانه قيل : وهو الذي خلقكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو فمستقر بكسر القاف وهو حينئذ اسم فاعل بمعنى قال ومستودع اسم مفعول والمراد فمنكم مستقر ومنكم مستودع ووجه كون الأول معلوما والثاني مجهولا ان الاستقرار هنا بخلاف الاستيداع والمتعاطفان على القراءة الاولى مصدران أو أسما مكان ولا يجوز أن يكون الاول اسم مفعول لأن استقر لا يتعدى وكذا الثاني ليكون كالاول قد فصلنا الآيات المبينة لتفاصيل خلق البشر ومن جملتها هذ الآية لقوم يفقهون
89
- معني ذلك قيل : ذكر مع ذكر النجوم يعلمون ومع ذكر إنشاء بني آدم يفقهون لأن الانشاء من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوالهم المختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له وهو مبني على أن الفقه أبلغ من العلم وقيل : هما بمعنى إلا أنه لما أريد فصل كل ءاية بفاصلة تنبيها على استقلال كل منهما بالمقصود من الحجة وكره الفصل بفاصلتين متساويتين لفظا للتكرار عدل إلى فاصلة مخالفة تحسينا للنظم وافتنانا في البلاغة
وذكر ابن المنير وجها ءاخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر ءايات الله تعالى ولا يعتبر بمخلوقاته وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الالهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ولا كذلك النظر في انشائهم من نفس
(7/236)
واحدة وتقليبهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة فانه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها فاذا تمهد هذا فجهل الانسان بنفسه وأحواله وعدم النظر والتفكر فيها أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفي بطريق التعريض عن أبشع القبيلتين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ونفي الأدنى أبشع من نفي الاعلى فخص به أسوأ الفريقين حالا و يفقهون ههنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم وليس من فقه بالضم لان تلك درجة عالية ومعناه صار فقيها ثم ذكر أنه إدا قيل : فلا لايفقه شيئا كان أذم في العرف من قولك : فلان لا يعلم شيئا وكان معنى قولك : لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وان فهم واما قولك : لا يعلم شيئا فغايته عدم حصول العلم له وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو تعلم واستدل على أن التارك للتفكر في نفسه اجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره بقوله سبحانه : وفي الأرض ءايات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات وأنكر على من لا يتبصر في نفسه انكارا مستأنفا والله تعالى أعلم بأسرار كلامه
وهو الذي أنزل من السماء ماء تذكير لنعمة أخرى من نعمه سبحانه الجليلة المنبئة عن كمال قدرته عز و جل وسعة رحمته والمراد من الماء المطر ومن السماء السحاب أو الكلام على تقدير مضاف أي من جانب السماء وقيل : الكلام على ظاهره والانزال من السماء حقيقة إلى السحاب ومنه إلى الأرض واختاره الجبائي واحتج على فساد قول من يقول : إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع الى الهواء وينعقد السحاب منها ويتقاطر ماء وذلك هو المطر المنزل بوجوه أحدها أن البرد قد يوجد في وقت الحر بل في حميم الصيف ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد وذلك يبطل ما ذكر ثانيها أن البخارات إدا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم يتولد منها قطرات الماء بل البخار انما يجتمع إذا اتصل بسقف أملس كما في بعض الحمامات أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير فاذا تصاعدت البخارات في الهواء وليس فوقها سطح أملس تتصل به وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء ثالثها أنه لو كان تولد المطر من صعود البخارات فهي دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر وحيثلم يكن كذلك علمنا فساد ذلك القول ثم قال : والقوم إنما احتاجوا الى هذا القول لأنهم اعتقدوا ان الأجسام قديمة فيمتنع دخول الزيادة والنقصان فيها وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث الا اتصاف تلك الذوات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفة أخرى ولهذا السبب احتاجوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد فعند هدا لا حاجة الى استخراج هذه التكلفات وحيث دل ظاهر القرآن على ان الماء انما ينزل من السماء ولا دليل على امتناع هذا الظاهر وجب القول بحمله عليه انتهى ولا يخفى على من راجع كتب القوم أنهم أجابوا عن جميع تلك الوجوه وأن الذي دعاهم إلى القول بذلك ليس مجرد ما ذكر بل القول بامتناع الخرق والالتئام أيضا ووجود ذكر كرة النار تحت السماء وانقطاع عالم العناصر عندها ومشاهدة من على جبل شامخ سحابا يمطر مع مشاهدة ماء نازل من السماء اليه الى غير ذلك وهذا وإن كان بعضه مما قام الدليل الشرعي على بطلانه
(7/237)
وبعضه مما لم يقم الدليل عليه ولم يشهد بصحته الشرع لكن مشاهدة من على الجبل ما ذكر ونحوها يستدعي صحة قولهم في الجملة ولا أرى فيه بأسا وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما من قطرة تنزل الا ومعها ملك وهو عند الكثير محمول على ظاهره والفلاسفة يحملون هذا الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول وقيل : هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر للقطر حافظ إياه ويثبت افلاطون هذا النور المجرد لكل نوع من الافلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها على ماذهب إليه صاحب الاشراق وهو أحد الأقوال في المثل الافلاطونية ويشير إلى نحو ذلك كلام الشيخ صدر الدين القونوي في تفسير الفاتحة ونصب ماء على المفعولية لانزل وتقديم المفعول به غير الصريح عليه لما مر مرارا فأخرجنا به أي بسبب الماء والفاء للتعقيب وتعقيب كل شيء بحسبه و 0 أخرجنا عطف على أنزل والالتفات الى التكلم إظهار لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله وذكر بعضهم نكتة خاصة لهذا الالتفات غير ماذكر وهي أنه سبحانه لما ذكر فيما مضى ما ينبهك على انه الخالق اقتضى ذلك التوجه اليه حتى يخاطب واختيار ضمير العظة دون ضمير المتكلم وحده لاظهار كمال العناية أي فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته نبات كل شيء أي كل صنف من أصناف النبات المختلفة في الكم والكيف والخواص والآثار اختلافا متفاوتا في مراتب الزيادة والنقصان حسبمان يفصح عنه قوله سبحانه : يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل والنبات كالنبت وهو على ما قاله الراغب ما يخرج منالأرض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن له ساق كالنجم لكن اختص في التعارف بما لا ساق له بل قد اختص عند العامة بما تأكله الحيوانات ومتى اعتبرت الحقائق فانه يستعمل في كل نام نباتا كان أو حيوانا أو إنسانا والمراد هنا عند بعض المعنى الأول وجعل قوله تعالى : فأخرجنا منه خضرا شروعا في تفصيل ما أجمل من الاخراج وقد بدأ بتفصيل حال النجم وضمير منه للنبات والخضر بمعنى الأخضر كأعور وعور وأكثر ما يستعمل الخضر فيما تكون خضرته خلقية وأصل الخضرة لون بين البياض والسواد وهو الى السواد أقرب ولذا يسمى الأخضر أسود وبالعكس والمعنى فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة وجوز عود الضمير الى الماء ومن سببية وجعل أبو البقاء هذا الكلام حينئذ بدلا من أخرجنا الأول وذكر بعض المحققين أن في الآية على تقدير عود الضمير إلى الماء معنى بديعا حيث تضمنت الاشارة إلى أنه تعالى أخرج من الماء الحلو الأبيض في رأي العين أصنافا من النبات والثمار مختلفة الطعوم والألوان والى ذلك نظر القائل يصف المطر : يمد على الافاق بيض خيوطه فينسج منها للثرى حوله خضرا وقوله تعالى : نخرج منه صفة لخضر وصيغة المضارع لاستحضار الصورة بما فيها من الغرابة وجوز أن يكون مستأنفا أي نخرج من ذلك الخضر حبا متراكبا أي بعضه فوق بعض كما في السنبل وقريء يخرج منه حب متراكب ومن النخل جمع نخل كما قال الراغب والنخل معروف ويستعمل في
(7/238)
الواحد والجمع وهذا شروع في تفصيل حال الشجر اثر بيان حال النجم عند البعض فالجار والمجرور خبر مقدم وقوله سبحانه : من طلعها بدل منه بدل بعض من كل باعادة العامل
وقوله سبحانه : قنوان مبتدأ وحاصله من طلع النخيل قنوان وجوز أن يكون الخبر محذوفا فالدلالة أخرجنا عليه وهو كون خاص وبه يتعلق الجار والتقدير ومخرجه من طلع النخل قنوان وعلى القراءة السابقة آنفا يكون قنوان معطوفا على حب : وقيل : المعنى واخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان ومن النخل من شيئا من طلعها قنوان وهو جمع قنو بنعنى العذق وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب وتثنيته أيضا قنوان ولا يفرق بين المثنى والجمع إلا الاعراب ولم يأت مفرد يستوي مثناه وجمعه إلا ثلاثة أسماء هذا وصنو وصنوان ورئد ورئدان بمعنى مثل قاله ابن خالويه وحكى سيبويه شقد وشقدان وحش وحشان للبستان نقله الجلال السيوطي في المزهر وقريء بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع لان فعلان ليس من زنات التكسير دانية أي قريبة من المتناول كما قال الزجاج وأقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها وقيل المراد دانية من الأرض بكثرة ثمرها وثقل حملها والد وعلى القولين حقيقية ويحتمل أن يراد به سهولة الوصول إلى ثمارها مجازا
وجنات من أعناب عطف على نبات كل شيء أي واخرجنا به جنات كائنة من أعناب وجعله الواحدي عطفا على خضرا وقال الطيبي : الأظهر أن يكون عطفا على حبا لأن قوله سبحانه : نبات كل شيء مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي والنامي الحب والنوى وشبههما وقوله سبحانه : فاخرجنا منه خضرا الخ تفصيل لذلك النبات وهو بدل من فاخرجنا الأول بدل اشتماله قيل : وهذا مبني على أن المراد بالنبات المعنى العام وحينئذ لا يحسن عطفه عليه لأنه داخل فيه وإن أريد ما لا ساق له تعين عطفه عليه لأنه غير داخل فيه وتعين أن يقدر لقوله سبحانه ومن النخل فعل آخر كما أشير اليه فتدبر
وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود والأعمش ويحيى بن يعمر وأبو بكر عن عاصم وجنات بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو نحو ذلك وجوز الزمخشري أن يكون على العطف على قنوان قال في التقريب : وفيه نظر لأنه ان عطف على ذلك فمن أعناب م حينئذ إا صفة جنات فيفسد المعنى إذ يصير المعنى وحاصله من النخيل جنات حصلت من أعناب وإما خبر لجنات فلا يصح لأنه يكون عطفا لها على مفرد ويكون المبتدأ نكرة فلا يصح وفي الكشف أن الثاني بعيد الفهم من لفظ الزمخشري وإن أمكن الجواب بأن العطف على المخصص مخصص كما قال ابن مالك واستشهد عليه بقوله : عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي فهل باعجب من هذا امرؤ سمعا ةالظاهر الاول لكنه عطف جملة على جملة ويقدر ومخرجه من الخضر أو من الكرم أو حاصله جنات من أعناب دون صلته لأن التقييد لازم كما حقق في عطف المفرد وحده ولا يخفى أن هذا تكلف مستغنى عنه ولعل زيادة الجنات هنا كما قيل من غير اكتفاء بذكر اسم الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما
(7/239)
أن الانتفاع بهذا الجنس لا يتأتى غالبا الا عند اجتماع طائفة من أفراده والزيتون والرمان نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على نبات
وقوله سبحانه : مشتبها وغير متشابه اما حال من الزيتون لسبقه اكتفي به عن حال ما عطف عليه والتقدير والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك وإما حال من الرمان لقربه ويقدر مثله الأول وأيا ما كان ففي الكلام مضاف مقدر وهو بعض أي بعض ذلك مشتبها وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرتة صانعها وحكمة منشيها ومبدعها جل شأنه وإلا كان المعنى جميعه مشتبه وجميعه غير متشابه وهو غير صحيح ومن الناس من جوز كونه حالا منهما مع التزام التأويل وافتعل وتفاعل هنا بمعنى كاستوى وتساوى وقريء متشابها وغير متشابه انظروا نظر اعتبار واستبصار إلى ثمره أي ثمر ذلك أي الزيتون والرمان والمراد شجرتهما وأريد بهما فيما سبق الثمرة ففي الكلام استخدام وعن الفراء أن المراد في الأول شجر الزيتون وشجر الرمان وحينئذ لا استخدام وأيا ما كان فالضمير راجع اليهما بتأويله باسم الاشارة ورجوعه إلى كل واحد منهما على سبيل البدل بعيد لا نظير له في عدم تعيين مرجع الضمير
وجوز رجوع الضمير الى جميع ما تقدم بالتأويل المذكور ليشمل النخل وغيره مما يثمر إذا أثمر أي إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به وقرأ حمزة والكسائي ثمره بضم الثاء وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب أو ثمار ككتاب وكتب وينعه أي وإلى حال نضجه أو نضيجه كيف يعود ضخما ذا نفع عظيم ولذة كاملة وهو في الاصل مصدر ينعت الثمرة إذا أدركت وقيل : جمع يانع كتاجر وتجر وقريء باضم وهي لغة فيه وقرأ ابن محيصن ويانعه ولا يخفى أن في التقييد بقوله تعالى : إدا أثمر على ما أشرنا اليه اشعارا بأن المثمر حينئذ ضعيف غير منتفع به فيقابل حال الينع ويدل كمال التفاوت على كمال القدرة وعن الزمخشري أنه قال فان قلت هلا قيل : إلى غض ثمره وينعه قلت : في هذا الاسلوب فائدة وهي أن الينع وقع فيه معطوفا على الثمر على سنن الاختصاص نحو قوله سبحانه : وجبريل وميكال للدلالة على أن الينع اولى من الغض وله وجه وجيه وإن خفي على بعض الناظرين
إن في ذلكم إشارة إلى ما أمروا بالنءر إليه وما في اسم الاشارة من معنى البعد لما مر غير مرة لآيات عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته لقوم يؤمنون
99
- أي يطلبون الايمان بالله تعالى كما قال القاضي أو مؤمنون بالفعل وتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين انتفعوا بذلك دون غيرهم كما قيل م ووجه دلالة ما ذكر على وجود القادر الحكيم ووحدته أن حدوث هاتيك الاجناس المختلفة والانواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع لابد أن يكون باحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه ضد يعانده أو ند يعارضه ثم أنه سبحانه بعد أن ذكر هذه النعم الجليلة الدالة على توحيده وبخ من أشرك به سبحانه ورد عليه بقوله عز شأنه : وجعلوا في اعتقادهم لله الذي شأنه ما فصل في تضاعيف هذه الآيات شركاء في الالوهية أو الربوبية الجن أي
(7/240)
الملائكة حيث عبدوهم وقالوا : إنهم بنات الله سبحانه وتسميتهم جنا مجازا لاجتنانهم واستتارهم عن الاعين كالجن وفي التعبير عنهم بذلك حط لشأنهم بالنسبة إلى مقام الالهية
وري هذا عن قتادة والسدي ويفهم من كلام بعضهم أن الجن تشمل الملائكة حقيقة وقيل : المراد بهم الشياطين وروي عن الحسن ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله تعالى خالق الناس والدواب والانعام والحيوان وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور فالمراد من الجن إبليس وأتباعه الذين يفعلون الشرور ويلقون الوساوس الخبيثة الى الأرواح البشرية وهؤلاء المجوس القائلون بالنور والظلمة ولهم في هدا الباب أقوال تمجها الاسماع وتشمئز عنها النفوس
وادعى الامام أن هذا أحسن الوجوه المذكورة في اةية ومفعولا جعل قيل : لله وشركاء و الجن إما منصوب بمحذوف وقع جوابا عن سؤال كأنه قيل : من جعلوه شركاءفقيل : الجن أو منصوب على البدلية من شركاء والمبدل منه ليس في حكم الساقط بالكلية وتقديم المفعول الثاني لأنه محز الانكار ولان المفعول الاول منكر يستحق التأخير وقيل : هما شركاء والجن وتقديم ثانيهما على الاول لاستعظام أن يتخذ لله سبحانه شريك ما كائنا ما كان و لله متعلق بشركاء وتقديمه عليه للنكتة المذكورة أيضا على ما اختاره الزمخشري
وقريء الجن بالرفع كأنه قيل : من هم فقيل : الجن وبالجر على الاضافة التي هي للتبيين : وخلقهم حال من فاعل جعلوا بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدة لما في جعلهم ذلك من الشناعة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها أي وقد علموا أن الله تعالى خالقهم خاصة وقيل : الضمير للجن أي والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له ورجح الأول بخلوه عن تشتت الضمائر ورجح الامام الثاني بأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب وبأنه إذا رجع الضمير إلى هذا الأقرب صار اللفظ الواحد دليلا قاطعا تاما كاملا في إبطال المذهب الباطل وقرأ يحيى بن يعمر وخلقهم على صيغة المصدر عطفا على الجن أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للقبائح حيث نسبوها اليه سبحانه وقالوا : الله أمرنا بها وخرقوا له أي افتعلوا وافتروا له سبحانه قال الفراء : يقال : خلق الافك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى ونقل عن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال : كلمة عربية كانت العرب تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم قد خرقها والله وقال الراغب : أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تفكر ولا تدبر ومنه قوله تعالى : أخرقتها لتغرق أهلها وهو ضد الخلق فانه فعل الشيء بتقدير ورفق والخرق بغير تقدير قال تعالى وخرقوا له أي حكموا بذلك على سبيل الخرق وباعتبار القطع وقرأ نافع وخرقوا بتشديد الراء للتكثير وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وحرفوا من التحريف أي وزوروا له بنين وبنات فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى : المسيح ابن الله وقالت العرب الملائكة بنات الله والله سبحانه منزه عما قالوه بغير علم بحقيقته من خطأ أو صواب
(7/241)
ولاولا فكر ولا روية فيه بل قالوه عن عمى وجهالة او بغير علم بمرتبة ماقالوه وأنه من الشناعة بالمحل البعيد
وايا ما كان فالجار والمجرور متعلق بمحذؤف وقع حالا من الواو أو نعت لمصدر مؤكد أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقا كائنا بغير علم والمقصود على الوجهين ذمهم بالجهل وقيل إن ذلك كناية عن نفي ما قالوا فان ما لا أصل بله يكون معلوما ولا يقام عليه دليل ولا حاجة اليه إذ نفيه معلوم من جعله اختلاقا وافتراء ومن قوله عز و جل سبحانه وتعالى عما يصفون
100
- من أن له جل شأنه شريكا أو ولدا وقد تقدم الكلام في سبحان وما يفيده من المبالغة في التنزيه و تعالى عطف على الفعل المضمر الناصب لسبحان
وفرق الامام بين التسبيح والتعالي بان الاول راجع إلى أقوال المسبحين والثاني إلى صفاته تعالى الذاتية التي حصلت لذاته سبحانه لا لغيره والمراد بالبنين فيما تقدم ما فوق الواحد أو أن من يجور الواحد يجوز الجمع
بديع السموات والأرض أي مبدعها وموجدهما بغير آلة ولا مادة ولا زان ولا مكان قاله الراغب وهو كما يطلق على المبدع يطلق على المبدع اسم مفعولومنه قيل بركي بديع وكذلك البدع بكسر الباء يقال لهما
وقيل : هو اضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبه تشبيها لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديع سمواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق أو إلى الظرف كما في قولهم فلان ثبت الغدر أي ثبت في الغدر وهو بغين معجمة ودال وراء مهملتين المكان ذو الحجارة والشقوق ويقولون ذلك إذا كان الرجل ثبتا في قتال أو كلام والمراد من بديع السموات والأرض أنه سبحانه عديم النظير فيهما
ومعنى ذلك على ما قال بعض المحققين أن ابداعه لهما لا نظير له لأنهما أعظم المخلوقات الظاهرة فلا يرد أنه لا يلزم من نفي النظير فيهما نفيه مطلقا ولا حاجة إلى تكلف أنه خارج مخرج الرد على المشركين بحسب زعمهم أنه لا موجود خارج عنهما واختار غير واحد التفسير الأول والمعنى عليه أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة فاعل على الاطلاق منزه عن الانفعال بالكلية والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد
وقريء بديع بالنصب على المدح والجر على أنه بدل من الاسم الجليل أو من الضمير المجرور في سبحانه على رأي من يجوزه وارتفاعه على القراءة المشهورة على ثلاثة أوجه كما قال أبو الباقء الأول أنه خبر مبتدأ محذؤف الثاني أنه فاعل تعالى واظهاره في موضع الاضمار لتعليل الحكم وتوسيط الظرف بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه والثالث أنه مبتدأ خبره قوله سبحانه : أنى يكون له ولد وهو على الأولين جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالة ما نسبوه اليه تعالى وتقرير تنزيهه عنه جل شأنه وقوله تعالى : ولم تكن له صاحبة حال مؤكدة للاستحالة المذكورة ضرورة أن الولد لا يكون بلا والدة أصلا وإن أمكن وجوده بلا والد أي من أين وكيف يكون له ولد والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها وقرأ إبراهيم النخعي لم يكن بتذكير الفعل وجاز ذلك مع أن المرفوع مؤنث للفصل كما في قوله : لقد ولد الاخيطل أم سوء على قمع استها صلب وشام قال ابن جني : تؤنث الأفعال لتأنيث فاعلها لانهما يجريان مجرى كلمة واحدة لعدم استغناء كل
(7/242)
عن صاحبه فاذا فصل جاز تذكيره وهو في باب كان أسهل لأنك لو حذفتها استقل ما بعدها وقيل : إن اسم يكن ضميره تعالى والخبر هو الظرف و صاحبة مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ والظرف خبره مقدم و صاحبة مبتدأ والجملة خبر يكون على هذا يجوز أن يكون الاسم ضمير الشأن لصلاحية الجملة حينئذ لأن تكون مفسرة للضمير لا على الأول لأنه كما بين في موضعه لا يفسر إلا بجملة صريحة والاعتراض بأنه إذا كان العمدة في المفسرة مؤنثا فالمقدر ضمير القصة لا الشأن فيعود السؤال ليس بوارد كعدم اللزوم وان توهمه بعضهم وقوله تعالى وخلق كل شيء استئناف لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى مقررة لها أي أن يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه ويفهم من التفسير الكبير أن من زعم أن لله تعالى شأنه ولدا إن أراد أنه سبحانه أحدثه على سبيل الابداع من غير تقدم نطفة مثلا رد بأن خلقه للسموات والأرض كذلك فيلزم كونهما ولدا له تعالى وهو باطل بالاتفاق وإن أراد ما هو المعروف من الولادة في الحيوانات رد أولا بأنه لا صاحبة له وهي امر لازم في المعروف وثانيا بأن تحصيل الولد بذلك الطريق انما يصح في حق من لا يكون قادرا على الخلق والايجاد والتكوين دفعة واحدة اما من كان خالقا لكل الممكنات وكان قادرا على كل المحدثات فاذا أراد شيئا قال له كن فيكون فيمتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة وأن أراد مفهوما ثالثا فهو غير متصور وهو بكل شيء من شأنه أن يعلم كائنا ما كان مخلوقا أو غير مخلوق كما ينبيء عنه ترك الاضمار الى الاظهار عليم
101
- مبالغ في العلم أزلا وأبدا حسبما يعرب عنه العدول الى الجملة الاسمية وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الولد قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان كذلك كان غنيا عن غيره فامتنع كونه ولدا للغير فتعين كونه حادثا ولا شك أنه تعالى عالم بكل شيء فاما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالا أو نفعا أو يعلم أنه ليس كذلك فان كان الأول فلا وقت يفرض إلا والداعي الى الايجاد هذا الولد كان حاصلا قبله وهو يوجب كونه أزليا وهو محال وإن كان الثاني وجب أن لا يحدث البتة في وقت من الاوقات وقرر الامام عليه الرحمة الرد بهذه الجملة بوجه آخر أيضا وبعضهم جعل هذه الجملة مع ما قبلها متضمنة لوجه واحد من أوجه الرد والجملة إما حالية أو مستأنفة واقتصر بعضهم على الثاني فقال : إنها استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم والظاهر من هذا أن ما في الآية أدلة قطعية على بطلان مازعمه المختلقون وكلام الامام حيث قال بعد تقرير الوجوه لو أن الاولين والآخرين اجتمعوا على ان يذكروا في هذه المسألة كلاما يساويه أي ما دلت عليه الآية في القوة والكمال لعجزوا عنه وادعى الشهاب أن ما يفهم من ذلك ادلة اقناعية ولعل الاولى القول بأن البعض قطعي والبعض الآخر اقناعي فتدبر ذلكم اشارة الى المنعوت بما ذكر من جلائل النعوت وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا والخطاب للمشركين المعهودين بطريق الالتفات
وذهب الطبرسي أنه لجميع الناس وهو مبتدأ وقوله سبحانه : الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء اخبارا أربعة مترادفة أي ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة الشأن هو الله المستحق للعبادة خاصة مالك
(7/243)
أمركم لا شريك له أصلا خالق كل شيء مما كان وسيكون والمعتبر في عنوان الموضوع حسبما اقتضته الاشارة إنما هو خالقيته سبحانه لما كان فقط كما ينبيء عنه صيغة الماضي وجوز أن يكون الاسم الحليل بدلا من اسم الاشارة و ربكم صفته وما بعده خبر وان يكون الاسم الجليل هو الخبر وما بعده ابدال منه وان يكون بدلا والبواقي اخبار وان يقدر لكل خبر من الاخبار الثلاثة مبتدأ وأن يجعل الكل بمنزلة اسم واحد وأن يكون خالق كل شيء بدلا من الضمير وجوز غير ذلك وقوله تعالى فاعبدوه مسبب عن مضمون الجملة فان من جمع هذه الصفات كما هو المستحق للعبادة خاصة وادعى بعضهم ان العبادة المأمور بها هي نهاية الخضوع وهي لا تتأتى مع التشريك فلذا استغي ن أن يقال فلا تعبدوا إلا إياه ويفهم منه أن مجرد مفهوم العبادة يفيد الاختصاص ولا يأباه دعوى إفادة تقديم المفعول في إياك نعبد إياه لأن إفادة الحصر بوجهين لامانع منها كما في لله الحمد ونحوه وإنما قال سبحانه هنا ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وفي سورة المؤمن ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون فقدم سبحانه هنا لا إله إلا هو على خالق كل شيء وعكس هناك قال بعض المحققين لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى جعلوا لله شركاء الخ فلما قال جل شأنه ذلكم الله ربكم أتى بعده بما يدفع الشركة فقال : عز قائلا لا إله إلا هو ثم خالق كل شيء وتلك جاءت بعد قوله سبحانه لخلق السموات والأرض اكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون فكان الكلام على تثبيت خلق الناس وتقريره لا على نفي الشريك عنه جل شأنه كما كان في الآية الأولى فكان تقديم خالق كل شيء هناك أولى والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وهو على كل شيء وكيل
201
- عطف على الجملة السابقة أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولي جميع الأمور الدنيوية والاخروية ويلزم من ذلك أن لا يوكل أمر إلى غيره ممن لا يتولى
وجوز أن تكون هذ الجملة في موضع الحال وقيدا للعبادة ويؤول المعنى الى أنه سبحانه مع ما تقدم متولى أموركم فكلوها اليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مأربكم وفسر بعضهم الوكيل بالرقيب أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها واستدل أصحابنا بعموم خالق كل شيء على أنه تعالى الخالق لأعمال العباد
والمعتزلة قالوا عندنا هنا أشياء تخرج أعمال العباد من البين أحدها تعقيب ذلك العموم بقوله سبحانه فاعبدوه فانه لو دخلت أعمال العباد هناك لصار تقدير الآية إنا خلقنا أعمالكم فافعلوها بأعيانها مرة أخرى وفساده ظاهر ثانيها ان خالق كل شيء ذكر في معرض المدح والثناء ولا تمدح بخلق الزنا واللواط والسرقة والكفر مثلا ثالثها أنه تعالى قال بعد قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وهو تصريح بكون العبد مستقلا بالفعل والترك وأنه لا مانع له رابعها أن هذ الآية أتي بها بعد وجعلوا لله شركاء الجن والمراد منه على ما روي عن الحبر الرد على المجوس في إثبات الهين فيجب أن يكون خالق كل شيء محمولا على ابطال ذلك وهو إا يكون إذا قلنا : إنه تعالى هو الخالق لما هذا العالم من السباع والآلام ونحوها وإذا حمل على ذلك لم تدخل أعمال العباد ولا يخفى ما في ذلك من النظر ومثله استدلالهم بالآية على نفي الصفات وكون القرآن مخلوقا فتدبر لا تدركه الأبصار جمع بصر يطلق كما قال الراغب على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها
(7/244)
وعلى البصيرة وهي قوة القلب المدركة وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إلى غايته والاحاطة به وأكثر المتكلمين على حمل البصر هنا على الجارحة من حيث أنها محل القوة وقيل هو إشارة إلى ءلك وإلى الاوهام والافهام كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه التوحيد لا تتوهمه وقال أيضا كل ما أدركته فهو غيره
ونقل الراغب عن بعضهم أنه حمل ذلك على البصيرة وذكر أنه نبه به على ماروي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في قوله يامن غاية معرفته القصور عن معرفته إذا كان معرفته تعالى أن تعرف الأشياء فتعلم أنه ليس بمثل لشيء منها بل هو موجد كل ما أدركته واستدل المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يرى
وتقرير ذلك على ما في المواقف وشرحها أن الادراك المضاف إلى الابصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين أدركته ببصري ورأيته إلا في اللفظ أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع اثبات الآخر فلا يجوز رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الابصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الاوقات لأن قولك فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلابد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذ : ر ولانه تعالى تمدح بكونه لا يرى حيث ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله تعالى عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته سبحانه وإنما قيل : من الصفات احتراز عن الافعال كالعفو والانتقام فان الاول تفضل والثاني عدل وكلاهما كمال انتهى وحاصله أن المراد بالادراك الرؤية المطلقة لا الرؤية على وجه الاحاطة وأن لاتدكه الابصار سالبة كلية دائمة وهذا أقوى أدلتهم النقلية في هذا المطلب كما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني قدس سره والجواب عنه من وجوه الأول أن الادراك ليس هو الرؤية المطلقة وإن اختاره على ما نقله الآمدي أبو الحسن الأشعري وإنما هو الرؤية على نعت الاحاطة بجوانب المرئي كما فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بها في أحد تفسيريه ففي الدر المنثور واخرج ابن جرير عن ابن عباس لاتدركه الابصار لا يحيط بصر أحد بالله تعالى انتهى واليه ذهب الكثير من أئمة اللغة وغيرهم والرؤية المكيفة بكيفية الاحاطة أخص مطلقا من الرؤية المطلقة ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فظهر صحة أن يقال رأيته وما أدركه بصري أي ما أحاط به من جوانبه وان لم يصح عكسه الثاني أن لاتدركه الابصار كما يحتمل أن يلاحظ فيه أولا دخول النفي ثم ورود اللام فتكون سالبة كلية على طرز قوله تعالى وما الله يريد ظلما للعباد فيكون لعموم السلب كذلك يحتمل أن يعتبر فيه العموم اولا ثم ورود النفي عليه فتكون سالبة جزئية نحو ما قام العبيد كلهم ولم آخذ الدارهم كلها فتكون السلب العموم وكلما احتمل سلب العموم لم يكن نصا في عموم السلب وإن كان عموم السلب في مثل هذا هو الاكثر وكلما كان كذلك لم يبق فيه حجة على إتناع الرؤية مطلقا وهو ظاهر وهذا إذا كان أل في الابصار للاستغراق فان كان للجنس كان لاتدركه لابصار يالبة مهملة وهي في قوة الجزئية فيكون المعنى لا تدركه بعض الابصار وهو متفق عليه والثالث انا لو سمنا أن الادرا هو الرؤية المطلقة وأن أل للاستغراق وأن الكلام لعموم السلب لكن لا نسلم عمومه في الاحوال والاوقات أي لا نسلم أنها دائمة لجواز أن يكون المراد نفي الرؤية في الدنيا كما يروى تقييده بذلك عن الحسن وغيره
ويدل عليه ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الاصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : تلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذه الآية ربي أرني أنظر اليك فقال : قال الله تعالى : يا موسى إنه
(7/245)
لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم قولهم بل هي دائمة لأن قولك فلان تدركه الابصار لا يفيد عموم الاوقات فلابد أن يفيده ما يقابله قلنا هذا لا يتم إلا إذا وجب أن يكون التقابل من الله تعالى تدركه الابصار و لا تدركه الابصار تقابل تناقض ولا موجب لذلك لا عقليا ولا لغويا ولا شرعيا : أما الاول فلأنا إدا وجدنا قضية موجبة مطلقة جاز أن يقابلها سالبة دائمة مطلقة وان يقابلها سالبة دائمة ولا تتعين الدائمة الصادقة إلأ إدا كانت المطلقة كاذبة قطعا لكن كذب المطلقة ههنا أول البحث وعين المتنازع فيه فلا يجوز أن ينبى كون لاتدركه الابصار دائنة على كذب هذه المطلقة أعني الله تعالى يدركه الابصار مرادا بها أبصار المؤمنين في الجنةوالموقف لأنه مصادرة على المطلوب المستلزم للدور وأما الثاني فلأن الجملة ثبوتية كانت أو منفية تستعمل بحسب المقامات تارة في الاطلاق وتارة في الدوام وليس يجب في اللغة أنا إدا وجدنا جملة مثبتة استعملت في مقام ما في معنى الاطلاق أن تكون الجملة المقابلة لها مستعملة في معنى الدوام البتة بل يختلف باختلاف المقامات وقصد المستعملين لها وهو ظاهر جدا وأما الثالث فلأن المطلقة المذكورة بالمعنى السابق عين المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة شرعا فنحن نقول إنها صادقة شرعا ونحتج عليها بالعقل والنقل من الكتاب والسنة وكلما كان كذلك لزم أن لا يكون لا تدركه الابصار دائمة دفعا للتناقض فتكون إا مطلقة عامة أو وقتية مطلقة وعلى التقديرين لا تناقض لانتفاء اتحاد الزمان فيصدق الله تعالى تدركه الأبصار أي أبصار المؤمنين يوم القيامة مثلا أو وقت تجليه في نوره الذي لا يذهب بالأبصار الله تعالى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا بالقيد الذي أشير إليه سابقا أو وقت تجليه بنوره الذي يذهب بالأبصار وهو النور الشعشعاني المشار اليه في الحديث الوارد في صحيح مسلم وغيره لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره والى هذا التقييد يشير ثاني تفسيري ابن عباس المتقدم أولهما
فقد روي أنه قال : رأى محمد صلى الله عليه و سلم ربه فقال له عكرمة : أليس الله تعالى يقول لا تدركه الابصار فقال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدكه شيء الحديث وباثبات هذين النورين يجتمع بين جوابيه عليه الصلاة و السلام لأبي ذر حيث سأله هل رأيت ربك فقال في أحد جوابيه نوراني أراه وفي الجواب الآخر رايت نورا فيقال النور الذي نفى رؤيته في الاستفهام الانكاري المدلول عليه بأني هو نوره اعني النور الذي يذهب بالابصار ولا يقوم له بصر والنور الذي أثبت رؤيته هو النور الذي لا يذهب بالابصار
وكذأ يمكن حمل قول عائشة رضي الله تعالى عنها من رعم أن محمد صلى الله عليه و سلم رأى ربه سبحانه فقد أعظم على الله عز و جل الفرية واستشهادها لذلك بهذه الآية على هذا بأن يقال : أرادت من زعم أن محمدا عليه الصلاة ولاسلام رأى ربه سبحانه في نوره الذي هو نوره الذي يذهب بالابصار فقد أعظم على الله عز و جل الفرية ويكون الاستشهاد بالآية على ما روي عن ابن عباس من ثاني تفسيريه وحينئذ لا يتم للمتعزلة دعوى كون لاتدركه الابصار دائمة إلا إذا كانت هذه المطلقة كاذبة شرعا وهو عين المتنازع فيه كما عرفت فلم يبق لهم على دعوى الدوام دليل أصلا
وقد يقال أيضا المراد نفي الرؤية وقت عدم اذن الله تعالى للابصار بالادراك والدليل على صحة إرادة هذا القيد هو أن ارادة الأبصار فعل من أفعال العبيد وكسب من كسبهم وقد ثبت بغير ما دليل أن العباد
(7/246)
لايقدرونلايقدرون على شيء ما من المقدورات إلا باذنه تعالى ومشيئته وتمكينه فلا تدركه الابصار إلا باذنه وهو المطلوب
ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أن لاتدركه الابصار وقع بعد قوله سبحانه : وهو على كل شيء وكيل ووجه التأييد أن الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل أي متول لأموره ومعلوم أن الأبصار من الأشياء وأن ادراكها من أمورها فهو سبحانه وتعالى متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته فيفيض عليها الادراك ويأذن لها إدا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء ويقبض عنها الادراك قبضا كليا أو جزئيا في أي وقت شاء كيف شاء ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح باعزة والقهر والغلبة فان من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إلا باذنه مع كونه يدرك الابصار ولا تخفى عليه خافية كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالبا على أمره
وذهب بعض المحققين أن الآية لم اسق للتمدح وإنما سيقت للتخويف بأنه سبحانه رقيب من حيث لا يرى فليحذر وهو ظاهر على التفسير الثاني للوكيل الرابع من الوجوه يجوز أن يكون المراد لا تدركه الأبصار على الوجه المعتاد في رؤية المحسوسات المشروطة التسعة العادية على ما يشير إليه آخر اةية ومعلوم أن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يلزم على هذا من الآيةنفي الرؤية مطلقا الخامس ما قيل : أنا لو سلمنا للخصم ما أراد نقول إن الآية إنما تدل على أن الأبصار لا تدركه ونحن نقول به وندعي أن ذوي الابصار يدركونه والاعتراض بأنه كما أن الأبصار لا تدركه فكذلك لا يدركه غيرها فلا فائدة للتخصيص مدفوع بانه انما يلزم انتفاء الفائدة أن لو انحصرت في نفي حكم المنطوق على المسكوت وهو غير مسلم ولعله كان بخصوص سؤال سائل عنه دون غيره أو لمعنى آخر
السادس أنا سلمنا أن المراد لا يدركه المبصرون بابصارهم لكنه لا يفيد المطلوب أيضا لجواز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذ الحواس كما يدعيه ضرار بن عمرو الكوفي فقد نقل عنه أنه كان يقول : إن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما بحاسة سادسة يخلقها سبحانه يوم القيامة واحتج عليه بهذه الآية فقال : إنها دلت على تخصيص ففي إدراك الله تعالى بالبصر وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه فوجب أن يكون إدراك الله تعالى بغير البصر جائزا في الجملة ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا يصلح لذلك ثبت أنه تعالى بخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه أه
ومن الناس من استدل بالآية على أن الاطلاع على كنه ذات الله تعالى ممتنع بناء على أن الابصار جمع بصر بمعنى البصيرة وقرره كما قرر المعتزلة استدلالهم على امتناع الرؤية وفيه ما فيه نعم احتمال حمل البصر على البصيرة مما يوهن استدلال المعتزلة كما لا يخفى ولهم في هذا المطلب أدلة أخرى نقلية سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على بعضها وعقلية قد عقلها القوم في معاطن البطلان ولعل النوبة تفضي إلى تسريح بعملات الاقلام في رياض تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى الملك العلام فمنه التوفيق لادراك أبصار الافهام مخفيات الأسرار وفلق صباح الحق بسواطع الأنوار وهو يدرك الأبصار أي يراها على وجه الاحاطة أو يحيط بها علما أو علما ورؤية كما قيل وذكر الآمدي أن البصريين من المعتزلة ذهبوا إلى أن ادراك الله تعالى بمعنى
(7/247)
الرؤية وأن البغداديين منهم ذهبوا إلى أنها بمعنى العلم لا بمعنى الرؤية والمراد بالابصار هنا على ما قرره بعض المحققين النور الذي تدرك به المبصرات فانه لا يركه بخلاف جرم العين فانه يرى ولعل هذا هو السر في الاظهار في مقام الاضمار وجوز أن يقال المراد أن كل عين لا ترى نفسها : وهو اللطيف الخبير
301
- فيدرك سبحانه ما لا يدركه الأبصار فالجملة سيقت لوصفه تعالى بما يتضمن تعليل قوله سبحانه وهوالخ
وجوز غير واحد أن يكون ما ذكر من باب اللف فان اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالفتح والخبير يناسب كونه تعالى مدركا بالكسر واللطيف مستعار من مقابل الكثيف لما لا يدركه بالحاسة من الشيء الخفي
ويفهم من ظاهر كلام البهائي كما قال الشهاب أنه لا استعارة في ذلك حيث قال في شرح أسماء الله تعالى الحسنى : اللطيف الذي يعامل عباده باللطف والطافه جل شأنه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والأخرى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقيل : اللطيف العليم بالغوامض والدقائق من المعاني والحقائق ولذا يقال للحاذق في صنعته لطيف
ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكثافة وهو وإن كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم لأن الجسمية يلزمها الكثافة وإنما لطافتها بالاضافة فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن ادراك البصائر فضلا عن الأبصار ويعز عن شعور الأسرار فضلا عن الافكار ويتعالى عن مشابهة الصور والامثال وينزه عن حلول الألوان والأشكال فان كما اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ووصف الغير بها لا يكون على الاطلاق بل القياس الى ما هو دونه في اللطافة ويوصف اليه بالكثافة انتهى والمرجح أن اطلاق اللطيف بمعنى مقابل الكثيف على ما ينساق الى الذهن على الله تعالى ليس بحقيقة أصلا كما لا يخفى
قد جاءكم بصائر من ربكم استئناف وارد على لسان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فقل مقدرة كما قاله بعض المحققين والبصائر جمع بصيرة وهي للقلب كالبصر للعين والمراد بها الآيات الواردة ههنا أو جميع الآيات ويدخل ما ذكر دخولا أوليا و من لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بجاء أو بمحذوف وقع صفة لبصائر والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضمير المخاطبين لاظهار كمال اللطف بهم أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلغكم الى كمالكم اللائق بكم من الوحي الناطق بالحق والصواب ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جائكم بصائر كائنة من ربكم فمن أبصر أي الحق بتلك البصائر وآن به فلنفسه أي فلنفسه أبصر كما نقل عن الكلبي وتبعه الزمخشري أو فابصاره لنفسه كما اختاره أبو حيان لما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى
والمراد على القولين أن نفع ذلك يعود اليه ومن عمي أي ومن لم يبصر الحق بعدما ظهر له بتلك البصائر ظهورا بينا وضل عنه وإنما عبر عنه بالعمى تنفيرا عنه فعليها عمى أو فعماء عليها أي وبال ذلك عليها وهما قولان لمن تقدم وذكر أبو حيان أن تقدير المصدر أولى لوجهين : أحدهما أن المحذوف يكون مفردا لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة والثاني أنه لو كان المقدر فعلا لم تدخل الفاء سواء كانت من شرطية أو موصولة لامتناعها في الماضي وتعقب بأن تقدير الفعل يترجح لتقدم فعل ملفوظ به وكان أقوى في الدلالة وأيضا أن في تقديره تقديم المعمول المؤذن بالاختصاص وأيضا ما ذكر في الوجه الثاني غير لازم
(7/248)
لأنه لا يقدر الفعل موليا لفاء الجواب بل قدر معمول الفعل الماضي مقدما ولا بد فيه من الفاء فلو قلت : من أكرم زيد فلنفسه أكرمه لم يكن بد من الفاء نعم لم يعهد تعدية عمي بعلي وهو لازم التقدير السابق في الجملة الثانية وكأنه لذلك عدل عنه بعضهم بعد أن وافق في الأول الى قوله : فعليها وباله وما أنا عليكم بحفيظ وإنما أنا منذر والله تعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها : وكذلك أي مثل ذلك التصريف البديع نصرف الآيات الدالة على المعاني الرائقة الكاشفة عن الحقائق الفائقة لا تصريفا أدنى منه
وقيل : المراد كما صرفنا أةيات قبل نصرف هذ الآيات وقد تقدم لك ما هو الحري بالقبول واصل التصريف كما قال علي بن عيسى م اجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال الى حال
وقال الراغب التصريف كالصرف إلا في التكثير وأكثره ما يقال في صرف الشيء من حال الى حال وأمر الى أمر
وليقولوا درست علة لفعل قد حذف تعويلا على دلالة السياق عليه أي وليقولوا درست نفعل ما نفعل من التصريف المذكور وبعضهم قدر الفعل ماضيا والأمر في ذلك سهل واللام لام العاقبة
وجوز أن تكون للتعليل على الحقيقة لأن نزول الآيات لا ضلال الأشقياء وهداية السعداء قال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا والواو اعتراضية وقيل : هي عاطفة على علة محذؤفة واللام متعلقة بنصرف أي مثل ذلك التصريف نصرف الآيات لتلزمهم الحجة وليقولوا الخ وهو أولى من تقدير لينكروا وليقولوا الخ وقيل : اللام لام الأمر وينصره القراءة بسكون اللام كأنه قيل : وكذلك نصرف الآيات وليقولوا هم كما يقولون فانهم لا احتفال بهم ولا اعتداد بقولهم وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث ورده في الدر المصون بأن ما بعده يأباه فان اللام فيه نص في أنها لام كي وأصله على ما قال الأصمعي من قولهم : درس الطعام يدرسه دراسا إذا داسه كأن التالي يدوس الكلام فيخف على لسانه
وقال أبو الهيثم : يقال درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه من قولهم : درست الثوب أدرسه درسا فهو مدروس ودريس أي أخلقته ومنه قيل للثوب الخلق : دريس لأنه قد لان والدرسة الرياضة ومنه درست السورة حتى حفظتها وهذا كما قال الواحدي قريب مما قاله الأصمعي أو هو نفسه لأن المعنى يعود فيه الى التذليل والتليين وقال الراغب : يقال درس الدار أي بقي أثره وبقاء الأثر يقتضي انمحاء في نفسه فلذلك فسر الدروس بالانمحاء وكذا درس الكتاب ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن ادامة القراءة بالدرس وهو بعيد عما تقدم كما لا يخفى وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست بالألف وفتح التاء وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أي دارست يا محمد غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية وذكرته وأراد بذلك نحو ما أرادوه بقولهم إنما يعلمه بشر قال الامام ويقوي هذه القراءة قوله تعالى حكاية عنهم : إن هذا إلا أفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون وقرأ ابن عامر ويعقوب وسهل درست بفتح السين وسكون التاء ورويت عن عبد الله نبن الزبير وأبي وابن مسعود والحسن رضي الله تعالى عنهم
والمعنى قدمت هذه الآيات وعفت وهو كقولهم أساطير الاولين وقريء درست بضم الراء مبالغة في
(7/249)
درست لأن فعل المضموم للطبائع والغرائز أي اشتد دروسها و درست على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت وقد صح مجيء عفا متعديا كمجيئه لازما و دارست بتاء التأنيث أيضا والضمير إما اليهود لاشتهارهم بالدراسة أي دارست اليهود محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وإما للآيات وهو في الحقيقة لاهلها أي دارست أهل الآيات وحملتها محمدا عليه الصلاة و السلام وهم أهل الكتاب و درست على مجهول فاعل ودرست بالبناء للمفعول والاسناد إلى تاء الخطاب مع التشديد ونسبت الى ابن زيد وادارست مشددا معلوما ونسبت الى ابن عباس وفي رواية أخرى عن أبي درس على اسناده الى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو الكتاب بمعنى انمحى ونحوه ودرسن بنون الاناث مخففا ومشددا و دارسات بمعنى قديمات أو ذات درس أو دروس كعيشة راضية وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي دارسات ولنبينه عطف على ليقولوا واللام فيه للتعليل المفسر ببيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل عند الكثير من أهل السنة ولا ريب في أن التبيين مصلحة مرتبة على التصريف والخلاف في أن أفعال الله تعالى هل تعلل بالاغراض مشهور وقد أشرنا اليه فيما تقدم والضمير للآيات باعتبار التأويل بالكتاب أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوما أو لمصدر نصرف كما قيل أو نبين أي ولنفعلن التبيين لقوم يعلمون
501
- فانهم المنتفعون به وهو الوجه في تخصيصهم بالذكر وهم على ماروي عن ابن عباس أولياؤه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد ووصفهم بالعلم للايذان بغاية جهل غيرهم وخلوهم عن العلم بالمرة اتبع ما أوحي اليك من ربك أي دم على ما أنت عليه من التدين بما أوحي اليك من الشرائع والاحكام التي عمدتها التوحيد والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة الى ضميره عليه الصلاة و السلام من اظهار اللطف به صلى الله عليه و سلم مالا يخفى والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا باوحى وأن يكون حالا من ضمير المفعول المرفوع فيه وأن يكون حالا من مرجعه
وقوله سبحانه لا إله إلا هو يحتمل أن يكون اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه أكد به إيجاب الاتباع لا سيما في أمر التوحيد وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا مؤكدة من ربك أي منفردا في الألوهية وأعرض عن المشركين
601
- أي لا تعتد باقاويلهم الباطلة التي من جملتها ما عكي عنهم آنفا ولا تبال بها ولا تلتفت الى أذاهم وعلى هذا فلا نسخ في الآية وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف فيكون الاعراض محمولا على ما يعم الكف عنهم ولو شاء الله عدم اشراكهم ما أشركوا وهذا دليل لأهل السنة على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه مع توجيهه اليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لسوء اختياره الناشيء من سوء استعداده والجملة اعتراض مؤكد للاعراض وكذأ قوله تعالى : وما جعلناك عليهم حفيظا أي رقيبا مهيمنا من قبلنا تحفظ عليهم أعمالهم وكذا قوله سبحانه وما أنت عليهم بوكيل
702
- من جهتهم تقوم بأمرهم وتدبر مصالحهم وقيل : المراد وما جعلناك عليهم حفيظا تصونهم عما يضرهم وما أنت عليهم بوكيل تجلب لهم ما ينفعهم وعليهم في الموضعين متعلق بما بعده قدم عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله أي لا تشتموهم ولا تذكروهم
(7/250)
بالقبيح والمراد من الموصول إما المشركون على معنى لا تسبوهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا تبا لكم ولما تعبدونه مثلا أو آلهتهم فالآية صريحة في النهي عن سبها والعائد حينئذ مقدر أي الذين تدعونهم
والتعبير عنها بالذين مبني على زعمهم أنها من أهل العلم أو على تغليب العقلاء منها كالملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام وقيل : إن سب الآلهة سب لهم كما يقال ضرب الدابة صفع لراكبها فيسبوا الله عدوا تجاوزا عن الحق الى الباطل ونصبه على أنه حال مؤكدة وجوز أبو البقاء أن يكون على أنه مفعول له وأن يكون على المصدرية من غير لفظ الفعل و يسبوا منصوب على جواب النهي وقيل : مجزوم على العطف كقولهم : لاتمددها فتشققها
ومعنى سبهم لله عز و جل افضاء كلامهم اليه كشتمهم له صلى الله عليه و سلم ولمن يأمره وقد فسر بغير علم بذلك أي فيسبوا الله تعالى بغير علم انهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله تعالى وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده سبحانه فكيف يسبونه ويحتمل أن يراد سبهم له عز اسمه صريحا ولا اشكال بناء على أن الغضب والغيظ يحملهم على ذلك ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر
ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام أكثر الرافضة سب الشيخين رضي الله تعالى عنهما عنده فغاظهذلك جدا فسب عليا كرم الله تعالى وجهه فسئل عن ذلك فقال : ما أردت إلا اغاظتهم ولم أر شيئا يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم وقال الراغب : إن سبهم لله تعالى ليس أنهم يسبونه جل شأنه صريحا ولكن يخوضون في ذكره تعالى ويتمادون في ذلك بالمجادلة ويزدادون في وصفه سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه وقد يجعل الاصرار على الكفر والعناد سبا وهو سب فعلي قال الشاعر : وما كان ذنب بني مالك بأن سب منهم غلاما فسب بأبيض ذي شطب قاطع يقد العظام ويبري العصب ونبه به على ما قاله الآخر :
ونشتم بالافعال لا بالتكلم
وقيل : المراد بسب الله تعالى سب الرسول صلى الله عليه و سلم ونظير ذلك من وجه قوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله الآية وقرأ يعقوب عدوا يقال : عدا فلان يعدو عدوا وعدوا وعدوانا أخرج ابن ابي حاتم عن السدي قال : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فانا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان وابو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البحتري إلى أبي طالب فقالوا أنت كبيرنا وسيدنا وان محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعنه والهه فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فقال له أببو صالب : هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ماذا تريدون قالوا نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك والهك فقال أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرأيتكم إن أعطيتكم هذا فهل أنتم معطي كلمة ان تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم قال أبو جهل نعم لنعطينكها وأبيك وعشر وامثالها فما هي قال قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي فان قومك قد فزعوا منها فقال صلى الله عليه و سلم : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضوعوها في يدي ما قلت غيرها فقالوا لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية
(7/251)
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال قالوا يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم وفي رواية عنه أنهم قالوا ذلك عند نزول قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم نزلت ولا تسبوا الخ واستشكل ذلك بأن وصف آلهتهم بأنها حصب جهنم وبأنها لا تضر ولا تنفع سب لها فكيف نهى عنه بما هنا وأجيب بأنهم إذا قصدوا بالتلاوة سبهم وغيظهم يستقيم النهي عنها ولا بدع في ذلك كما ينهى عن التلاوة في المواضع المكروهة
وقال في الكشف : المعنى على هذه الرواية لا يقع السب منكم بناء على ماورد في الآية فيصير سبا لسبهم وقيل ما في الآية لا يعد سبا لأنه ذكر المساويء لمجرد التحقير والاهانة وما فيها إنما ورد الاستدلال على عدم صلوحها للالوهية والمعبودية وفيه تأمل وقريب منه ما قيل إن النهي في الحقيقة إنما هو عن العدول عن الدعوة إلى السب كأنه قيل لا تخرجوا من دعوة الكفارومحاجتهم إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله تعالى فان ذلك ليس من الحجاج في شيء ويجر إلى سب الله عز و جل واستدل بالآية على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فان مايؤدي إلى الشر شر وهذا بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها وكثيرا ما يشتبها ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء وخالفه الحسن قائلا لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا للفرق بينهما
ونقل الشهاب عن المقدسي في الرمز أن الصحيح عند فقهائنا أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي وصلاة جنازة لنائحة فان قدر على المنع منع وإلا صبر وهذا إذا لم يقتد به وإلا لا يقعد لأن فيه شين الدين وما روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه ابتلي به كان قبل صيرورته إاما يقتدى به ونقل عن أبي منصور أنه قال كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر وكذا أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالتبليغ والتلاوة عليهم وان كانوا يكذبونه وانه أجاب بان سب الآلهة مباح غير مفروض وقتالهمفرض وكذا التبليغ وما كان مباحا ينهى عما يتولد منه ويحدث وما كان فرضا لا ينهى عما يتولد منه وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيمن قطع يد قاطع قصاصا فمات منه فانه يضمن الدية لأن استيفاء حقه مباخ فاخذ بالمتولد منه والامام إذا قطع يد السارق فمات لا يضمن لأنه فرض عليه فلم يؤخذ بالمتولد منه أه ومن لا تحمل الطاعة فيما تقدم على إطلاقها كذلك أي مثل ذلك التزيين القوي زينا لكل أمة من الأمم عملهم من الخير والشر باحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا أو تخذيلا وجوز أن يراد بكل أمة أمم الكفر إذ الكلام فيهم وبعملهم شرهم وفسادهم والمشبه به تزيين سب الله تعالى شأنه لهم واستدل بالآية على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر كما زين للمؤمن الايمان
وانكر ذلك المعتزلة وزين لهم الشيطان أعمالهم فتأولوا الآية لما لا يخفى ضعفه ثم إلى ربهم مالك أمرهم مرجعهم أي رجعوهم ومصيرهم بالبعث بعد الموت فينبئهم من غير تأخير بما كانوا يعملون
801
- في الدنيا على الاستمرار من خير أو شر وذلك بالثواب على ألاول والعقاب على القاني فالجملة للوعد والوعيد
(7/252)
وفسر بعضهم ما بالسيئات المزينة لهم وقال : إن هذا وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وأقسموا أي المشركون بالله جهد أيمانهم أي جاهدين فيها فجهد مصدر في موضع الحال
وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض أي أقسموا بجهد أيمانهم أي أوكدها وهو بفتح الجيم وضمها في الأصل بمعنى الطاقة والمشتقة وقيل : بالفتح للمشتقة وبالضم الوسع وقيل : ما يجهد الانسان والمعنى هنا على ما قال الراغب ك أنهم حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم لئن جاءتهم ءاية من مقترحاتهم أو من جنس الآيات ورجحه بعض المحققين بأنه الأنسب بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعدون ما يشاهدونه من المعجزات القاهرة من جنس الآيات فاقترحوا غيرها ليؤمنن بها وما كان مرمى غرضهم إلا التحكم على رسول الله صلى الله عليه و سلم في طلب المعجزة وعدم الاعتداد بما شاهدوا منه عليه الصلاة و السلام من البينات والباء صلة الايمان والمراد من الايمان بها التصديق بالنبي صلى الله عليه و سلم وجعلها للسببية على معنى ليؤمنن بسببها خلاف الظاهر
قل إنما الآيات أي كلها فيدخل ما أقترحواه فيها دخولا أوليا عند الله أي امرها في حكمه وقضائه خاصة يتصرف فيها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته استقلالا ولا اشتراكا بوجه من الوجوه حتى يمكنني أن أتصدى لانزالعا بالاستدعاء وهذا كما ترى سدا لباب الاقتراح
وقيل : إن المعنى إنما الآيات عند الله لا عندي فكيف أجيبكم اليها أو ءاتيكم بها أو المعنى هو القادر عليها لا أنا حتى ءاتيكم بها واعترض ذلك شيخ الاسلام بعد أن اختار ما قدمناه بأنه لا مناسبة له بالمقام كيف لا وليس مقترحهم مجيئها بغير قدرة الله تعالى فتدبر روي أن قريشا اقترحوا بعض ءايات فقال رسول الله صلى الله تعالىعليه وسلم : فان فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني فقالوا : نعم وأقسموا لئن فعلته لنؤمنن جميعا فسأل المسلمون رسول الله صلى الله تعالىعليه وسلم أن ينزلها طمعا في ايمانهم فهم عليه الصلاة و السلام بالدعاء فنزلت وأخرج ابن جرير عن محمد القرظي قال : كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى عليه السلام كان معه عصا يضرب بها الحجر وان عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى وأن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أي شيء تحبون أن آتيكم به قالوا : تحول لنا الصفا ذهبا قال : فان فعلت تصدقوني قالوا نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين فقام رسول الله عليه الصلاة و السلام يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال ان شئت أصبح الصفا ذهبا فان لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم وان شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال صلى الله عليه و سلم اتركهم حتى يتوب تائبهم فانزل الله تعالى هذه الآية إلى تجهلون
وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون
901
- كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان الحكمة فيما أشعر به الجواب السابق من عدم مجيء الآيات خوطب به المؤمنون كما قال الفراء وغيره إا خاصة بطريق التلوين لما كانوا راغبين في نزولها طمعا في اسلامهم وإما معه عليه الصلاة و السلام
(7/253)
بطريق التعميم لما روي مما يدل على رغبته عليه الصلاة و السلام في ذلك أيضا كالهم بالدعاء وفيه بيان لأن أيمانهم فاجرة وإيمانهم في زوايا العدم وأن أجيبوا إلى ماسألوه
وجوز بعضهم دخوله تحت الأمر ولا وجه له إلا أن يقدر قل للكافرين : إنما الآيات عند الله والمؤمنين وما يشعركم الخ وهو تكلف لا داعي اليه وعن مجاهد أن الخطاب للمشركين وهو داخل تحت الأمر وفيه التفات و أنها الخ عنده اخبار ابتدائي كما يدل عليه مارواه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وما استفهامية انكارية على ما قاله غير واحد لا نافية لما يلزم عليه من بقاء الفعل بلا فاعل وجعله ضمير الله تعالى تكلف أو غير مستقيم إلا على بعد واستشكل بأن المشركوين لما اقترحوا ءاية وكان المؤمنون يتمنون نزولها طمعا في اسلامهم كان في ظنهم ايمانهم على تقدير النزول فاذا أريد الانكار عليهم فالمناسب انكار الايمان لا عدمه كأنهم قالوا : ربنا أنزل للمشركين ءاية فانه لو نزلت يؤمنون وحينئذ يقال في الانكار : ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون
ويتضح هذا بمثال وذلك أنه إذا قال لك القائل : أكرم فلانا فانه يكافئك وكنت تعلم منه عدم المكافأة فانك إذا أنكرت على المشير باكرامه قلت : وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني فانكرت عليه إثبات المكافأة وأنت تعلم نفيها فان قال لك : لا تكرمه فان لا يكافئك وأت تعلم منه المكافاة وأردت الانكار على المشير بحرمانه قلت : وما يدريك أنه لا يكافئني فانكرت عليه عدم المكفأة وأت تعلم ثبوتها
والآية كما لا يخفى من قبيل المثال فكان الظاهر حيث ظنوا ايمانهم ورغبوا فيه وعلم الله تعالى عدم وقوعه منهم ولو نزل عليهم الملائكة وكلمهم الموتى أن يقال وما يشعركم أنهم إذا جاءت يؤمنون وأجاب عنه بعضهم بان هذا الاستفهام في معنى النفي وهو اخبار عنهم بعدم العلم لا انكار عليهم والمعنى أن الآيات عند الله تعالى ينزلها بحسب المصلحة وقد علم سبحانه أنهم لا يؤمنون ولا تنجع فيهم الآيات وانتم لا تدرون ما في الواقع وفي علم الله تعالى وهو أنهم لا يؤمنون فلذلك تتوقعون إيمانهم والحاصل أن الاستفهام للانكار وله معنيان لم ولا فان كان بمعنى لم يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم أنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك وان كان بمعنى لا يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون باثبات لا على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون فلذا توقعتم ايمانهم ورغبتم في نزول آية لهم وهذا الثاني هو المراد ويرجع إلى إقامة عذر المؤمين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه وأجاب آخرون بأن لا زائدة كما في قوله تعالى : ما منعك أن لا تسجد وحرام على قرية اهلكناها أنهم لا يرجعون فانه أريد تسجد ويرجعون بدون لا وعن الخليل أن أن بمعنى لعل كما في قولهم أئت السوق انك تشتري لحما وقول امريء القيس : عرجوا على الطل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن خذام وقول الآخر : هل أنتم عائجون بنا لأنا نرى العرصات أو أثر الخيام ويؤيده أن يشعركم ويدريكم بمعنى وكثير ما تأتي لعل بعد فعل الدراية نحو وما يدريك لعله يزكىوأن في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه وما أدراك لعلها والكلام على هذا قد تم قبل أنها والمفعول الثاني ليشعركم محذوف والجملة استئناف لتعليل الانكار وتقديره أي شيء يعلمكم حالهم وما سيكون عند مجيء ذلك لعلها إذا جاءت لا يؤمنون فمالكم تتمنون مجيئها فان تمنيه إنما يليق بما إذا كان إيمانهم بها متحقق الوقوع عند مجيئها لا مرجو العدم ومن الناس من زعم أن أنها الخ جواب قسم محذوف بناء على أن أن في جواب
(7/254)
القسم يجوز فتحها ولا يخفى بعده وقرأ ابن كثير وابو عمرو وأبو بكر بن عاصم ويعقوب أنها بالكسر على الاستئناف حسبما سيق من زيادة تحقيق لعدم ايمانهم قال في الكشف : وهو على جواب سؤال مقدر على ماذ : ره الشيخ ابن الحاجب كأنه قيل لم وبخوا فقيل لأنها جاءت لايؤمنون ولك أن تبنيه على قوله تعالى : وما يشعركم أي بما يكون منهم فانه إبرار في معرض المحتمل كأنه قد سأل عنه سؤال شاك ثم علل بانها إذا جاءت جزما بالطرف المحالف وبيانا لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة وفيه أنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن انكار صدق المشركين في المقسم عليه وهذا نوع من السحر البياني لطيف المسلك أنتهى
وقرأ ابن عامر وحمزة لاتؤمنون بالفوقانية والخطاب حينئذ في الآية للمشركين بلا خلاف وقريء وما يشعركم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون فمرجع الانكار اقدام المشركين على الحلف المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجيء ذلك وبكونها حينئد كما هي الآن وقريء وما يشعركم سبكون خالص واختلاس وضمير بها على سائر القراءات راجع للآية لا للآيات لأن عدم إيمانهم عند مجيء ما اقترحوه أبلغ في الذم كما أن استعمال إدا مع الماضي دون أن مع المستقبل لزيادة التشنيع عليهم وزعم بعضهم أن عودة للآيات أولى لقربه مع ما فيه من زيادة المبالغة في بعدهم عن الايمان وبلوغهم في العناد غاية الامكان ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عطف على لايؤمنون داخل معه في حكم وما يشعركم مقيد بما قيد به أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهمعن إدراك الحق فلا يدركونه وأبصارهم عن إجتلائه فلا يبصرونه وهذا على ما قال الامام تقرير لما في الآية الأولى من أنهم لا يؤمنون وذكر شيخ الاسلام أن هذا التقليب ليس من توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا باصالتهم في الكفر وحسما لتوهم أن عدم ايمانهم ناشيء من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الاجبار وتحقيقه على ما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني أنه سبحانه حيث علم في الأزل سوء استعدادهم المخبوء في ماهياتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة وأوضح المحجة ولله تعالى الحجة البالغة وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا هو الظالمين كما لم يؤمنوا به اي بما جاء من الآيات بالله تعالى وقيل : بالقرآن وقيل : بمحمد صلى الله عليه و سلم وإن لم يجر لذلك ذكر وقيل : بالتقليب وهو كما ترى
أول مرة أي عند ورود الآيات السابقة والكاف في موضع النعت لمصدر منصوب بلا يؤمنون وما مصدرية أي لا يؤمنون بل يكفرون كفرا كائنا ككفرهم أول مرة وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار لأنه من متممات عدم إيمانهم وقال أبو البقاء : أن الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليبا ككفرهم أي عقوبة مساوية لمعصيتهم أول مرة ولا يخفى ما فيه والآية ظاهرة في أن الأيمان والكفر بقضاء الله تعالى وقدره
وأجاب الكعبي عنها بأن المراد من ونقلب الخ أنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم والقاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي ظهرت فلا نجدهم يؤمنون بها آخرا كما لم يؤمنوا بها أولا والجبائي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا والكل كسراب بقيعة
(7/255)
يحسبهيحسبه الظمآن ماء وهكذأ غالب كلام المعتزلة ونذرهم أي ندعهم في طغيانهم أي تجاوزهم الحد في العصيان يعمهون
11
- أي يترددون متحيرين وهذا عطف على لايؤمنون مقيد بما قيد به أيضا مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره والجار متعلق بما عنده وجملة يعمهون في موضع الحال من الضمير المنصوب في نذرهم وقريء يقلب ويذر على الغيبة والضمير لله عز و جل وقرأ الأعمش وتقلب على البناء للمفعول وإسناده الى أفئدتهم
هذا ومن باب الاشارة في الآيات واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم قال الجنيد قدس سره : أي أخلصناهم وآويناهم لحضرتنا ودللناهم للاكتفاء بنا عما سوانا ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي ولو أشركوا بالميل إلى السوي وهو شرك الكاملين كما أشار إليه سيدي عمر بن الفارض قدس سره بقوله : ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي لحبط عنهم ما كانوا يعملون لعظ ما أتوا به إن الشرك لظلم عظيم فان يكفر بها هؤلاء وهو المحجوبون فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين وهم العارفون بالله عز و جل الذين هم خزائن حقائق الايمان
وفي الخبر لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك اولئك الذين هدى الله فبهداهم وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة اقتده أمر له صلى الله عليه و سلم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك على ما قيل في منازل الوسائط ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلا بذاته مستقيما بحاله وأخرجه من حد الارادة الى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة و السلام باسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي مع قوله صلى الله عليه و سلم لو كان موسى حيا ما وسعه إلا إتباعي وقال بعض العارفين ليس في هذا توسيط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم ونظيره أن اتبع ملة إبراهيم حيث لم يقل سبحانه أن اتبع ابراهيم وما قدروا الله حق قدره أي ما عرفوه حق معرفته إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء أي لم يظهر من عمله وكلامه سبحانه على أحد شيئا وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم امكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته الا الانسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد إثنين وهذا كتاب أنزلناه مبارك لما فيه من اسرار القرب والوصال والتشويق الى الحسن والجمال بل منه تجلي الحق لخلقه لو يعلمون
مصدق الذي بين يديه من التوراة والانجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه ولتنذر أم القرى وهي القلب ومن حولها من القوى ومن أظلم ممن أفترى على الله كذبا كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عز و جل وأنه من أهل الارشاد وهو ليس كذلك أو قال أوحي الي ولم يوح اليه شيء كمن سمي مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا وفيضا من الروح القدسي فتنبأ لذلك أو قال سأنزل مثل ما أنزل الله كمن تفرعن وادعى الألوهية ولو ترى إذ الظألمون وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة في غمرات الموت الطبيعي والملائكة باسطوا أيديهم بقبض أرواحهم
(7/256)
257257 - 2 - كالمتقاضي الملظ يقولون أخرجوا أنفسكم تغليظا وتعنيفا عليهم اليوم تجزون عذاب الهون والصغار لوجود صفات نفوسكم وهيآتها المظلمة وتكاثف حجب أنانيتكم وتفرعنكم ولو جئتمونا فرادى أي منفردين مجردين عن كل شيء بالاستغراق في عين جمع الذات كما خلقناكم أول مرة عند أخذ الميثاق
ان الله فالق الحب أي حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف والنوى أي نوى النفس بنور القلب عن الاخلاق والمكارم أو فالق حبة المحبة الأزلية في قلوب المحبين والصديقين ونوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين فتثمر بأعمال الزكية والمقامات الشريفة والحالات الرفيعة يخرج الحي من الميت أي العالم به من الجاهل ومخرج الميت من الحي أي الجاهل من العالم أو يخرج حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى باقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه فالق الاصباح أي مظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته أو شاق ظلمة الاصباح بنور الاصباح وذلك لأن بحر العدم كان مملوءا من الظلمة فشقه بأن أجرى فيه جدولا من نوره حتى بلغ السيل الزبى وقال الامام فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والايجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح الادراك وفالق ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية الى فسحة عالم الافلاك وفالق ظلمة الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات وقال بعض العارفين المعنى فالق ظلمة صفات النفس عن القلب باصباح نو شمس الروح وإشراقه عليها وجاعل الليل أي ليل الحيرة في الذات البحت سكنا تسكن اليه أرواح العاشقين كما قال قائلهم : زدني بفرط الحب فيك تحيرا وارحم حشا بلظى هواك تسعرا أو جاعل ظلمة النفس سكن القلب يسكن اليها أحيانا للارتفاق والاسترواح أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب كما قيل والشمس أي شمس تجلي الصفات والقمر أي قمر تجلي الافعال حسبانا أي على حساب الأحوال حيث يعتبر بهما أو شمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات الباقية الشريفة معتدا بهما أو على حساب الأوقات والاحوال وهو الذي جعل لكم النجوم أي المرشدين أو نجوم الحواس لتهتدوا بها في ظلمات البر وهو علم الآداب والبحر وهو علم الحقائق أو المعنى لتهتدوا بها في ظلمات بر الأجساد إلى مصالح المعاش وبحر العلوم باكتسابها بها وهو الذي أنشأكم أي أظهركم من نفس واحدة وهي النفس الكلية فمستقر في أرض البدن حال الظهور ومستودع في عين جمع الذات وهو الذي أنزل من السماء ماء أي من سماء الروح ماء العلم فأخرجنا به نبات كل شيء أي كل صنف من الأخلاق والفضائل فأخرجنا منه أي النبات خضرا زينة النفس وبهجة لها نخرج منه أي الخضر حبا متراكبا أي أعمالا مترتبة شريفة ونيات صادقة يتقوى القلب بها ومن النخل أي نخل العقل من طلعها أي من ظهور تعلقها قنوان معارف وحقائق دانية قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية وجنات من أعناب وهي أعناب الأحوال والأذواق ومنها تعتصر سلافة المحبة وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم والزيتون أي زيتون التفكر والرمان أي رمان الهمم الشريفة والعزائم النفسية مشتبها كما في أفراد نوع واحد وغير متشابه كنوعين وفردين منهما مثلا انظروا إلى ثمره إذا أثمر أي راعوه بالمراقبة عند السلوك وبدأ الحال وينعه وهو كمال عند الوصول بالحضور وجعلوا لله شركاء الجن أي جن الوهم والخيال حيث أطاعوهم
(7/257)
وانقادوا لهم وخلقهم وخرقوا وافتروا له بنين من العقول وبنات من النفوس يعتقدون أنها لتجردها مؤثرة مثله بغير علم منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به جل شأنه سبحانه وتعالى عنا يصفون من تقيده بما قيدوه به جل شأنه لاتدركه الابصار قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الحادي والعشرين وأربعمائة : يعني من كل عين من أعين الوجوه واعين القلوب فان القلوب ما ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لاترى الا بالبصر فالبصر حيث كان به يقع الادراك فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين والعين في الظاهر محل البصر والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه فكما لا تدركه العيون بابصارها لا تدركه البصائر باعينها وورد في الخبر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى احتجب ن العقول لكما احتجب عن الابصار وأن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم فاشتركنا في الطلب مع الملأ الأعلى واختلفنا في الكيفية فمنا من يطلبه بفكره والملأ الأعلى له العقل وماله الفكر ومنا من يطلبه به وليس في الملأ الأعلى من يطلبه به لأن الكامل منا هو على الصورة الألهية التي خلقه الله تعالى عليها فلهذا يصح ممن هذه صفته أن يطلب الله تعالى به ومن طلبه به وصل اليه فانه لم يصل اليه غيره وأن الكامل منا له نافلة تزيد على فرائضه إذا تقرب العبد بها إلى ربه أحبه فاذا أحبه كان سمعه وبصره فاذا كان الحق بصر مثل هذا العبد رآه وأدركه ببصره لأن بصره الحق فما أدركه إلا به لا بنفسه وما ثم ملك يتقرب إلى الله تعالى بنافلة بل ههم في الفرائض وفرائضهم قد استغرقت أنفاسهم فلا نفل عندهم فليس لهم مقام ينتج أن يكون الحق بصرهم حتى يدركوه به فهم عبيد اضطرار ونحن عبيد اضطرار من فرائضنا وعبيد اختيار من نوافلنا إلى آخر ما قال وهو صريح في أن بعض الأبصار تدركه لكن من حيثية رفع الغيرية وقال في الباب الرابع عشر وأربعمائة بعد أن أنشد : من رأى الحق كفاحا علنا إنما أبصره خلف حجاب وهو لا يعرفه وهو به إن هذا لهو الأمر العجاب كل راء لا يرى غير الذي هو فيه من نعيم وعذاب صورة الرائي تجلت عنده وهو عين الراء بل عين الحجاب فاذا رآه سبحانه الرائي كفاحا فما يراه الا حتى يكون الحق جل جلاله بصره فيكون هو الرائي نفسه ببصره في صورة عبده فاعطته الصورة المكافحة إذا كانت الحاملة للبصر ولجميع القوى الخ وقال في الباب الحادي وأربعمائة بعد أن أنشد : قد استوى الميت والحي في كونهم ما عندهم شي مني فلا نور ولا ظلمة فيهم ولا ظل ولا في رؤيتهم لي معدومة فنشرهم في كونهم طي وفهمهم إن كان معناهم عنه إذا حققته غي إن كل مرئي لا يرى الرائي إذا رآه منه إلا قدر منزلته ورتبته فما رآه وما رأى إلا نفسه ولولا ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا لكن لما كان هو سبحانه مجلي رؤيتهم أنفسهم لذلك وصفوه بأنه جل شأنه يتجلى ولكن شغل الرائي برؤية نفسه في مجلى الحق حجبه عن رؤية الحق فلو لم تبد للرائي سورته أو صورة كون من الأكوان ربما كان يراه فما حجبنا عنه إلا رؤية نفوسنا فيه فلو زلنا عنا ما رأيناه لأنه ما كان يبقى بزوالنا من يراه وان نحن لم نزل فما نرى إلا نفوسنا فيه وصورنا وقدرنا ومنزلتنا فعلى كل حال ما رأيناه وقد نتوسع فنقول : قد رأيناه ونصدق كما أنه
(7/258)
لو قلنا رأينا الانسان صدقنا أن نقول رأينا من مضى من الناس ومن بقي ومن في زماننا من كونهم أنسانا من حيث شخصيته كل انسان ولما كان العالم أجمعه وآحاده على صورة حق ورأينا الحق فقد رأينا وصدقنا وإذا نظرنا في عين التمييز في عين عين لم نصدق إلى ءاخر ما قال وفي ذلك تحقيق نفيس لهذا المطلب ومنه يعلم ما في قول بعضهم لا تركه الأبصار لغاية ظهوره سبحانه وهو اللطيف إذ لا الطف كما قال الشيخ الأكبر قدس سره من هوية تكون عين بصر العبد الخبير أي العليم خبرة أنه بصر العبد والله من ورائهم محيط
وليس كمثله شيء وهو السميع البصير وعن الجنيد قدس سره للطيف من نور قلبك بالهدى وربي جسمك بالغذاء وجعل لك الولاية بالبلوى ويحرسك وأن في لظى ويدخلك جنة المأوى وقال غيره : اللطيف ان دعوته لباك وان قصدته أواك وأن أحببته أدناك وان أطعته كافاك وان أغضبته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك وان أقبلت اليه هداك وان عصيته داعاك وهو كلام ما ألطفه قد جاءكم بصائر من ربكم وهي صور تجليات صفاته وقال بعض العارفين : انها كلماته التي تجلى منها لذوي الحقائق وبرزت من تحت سرادقاتها أنوار نعوته الأزلية فمن أبصر واهتدى فلنفسه ذلك الابصار أي أن ثمرته تعود اليه ومن عمي واحتجب عن الهدى فعليها عماه واحتجابه وما أنا عليكم بحفيظ بل الله تعالى حفيظ عليكم وسائر شؤونكم به موجودون وكذلك نصرف الآيات لقوم يعلمون قال ابن عطاء أي حقيقة البيان وهو الوقوف معه حيث ما وقف والجري معه حيث ما جرى لا يتقدم بغلبته ولا يتخلف عنه لعجزه وقال آخر : المعنى يعرفون قدري ويفهمون خطابي لا من لا يعرف مكان خطابي ومرادي من كلامي اتبع ما أوحي اليك من ربك قيل : هو إشارة إلى وحي خاص به صلى الله عليه و سلم لا يتحمله غيره أو إشارة إلى الوحي بالتوحيد ولذا وصف سبحانه نفسه بقوله لا إله إلا هو ثم قال جل شأنه وأعرض عن المشركين المحجوبين بالكثرة عن الوحدة ولو شاء الله ما أشركوا بل شاء سبحانه اشراكهم لأنه المعلوم له جل شأنه أزلا دون إيمانهم ولا يشاء إلا ما يعلمه دون ما لا يعلمه من النفي الصرف ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله بل ارشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن فيسبوا الله عدوا بغير علم بأن يسبوكم وأنتم أعظم مظاهره كذلك زينا لكل أمة عملهم إذ هو الذي طلبوه منه بالسنة استعدادهم الأزلي من شأننا أن لا نرد طالبا وأقسموا جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها أي أنهم طلبوا خوارق العادات وأعرضوا عن الحجج البينات لاحتجابهم بالحس والمحسوس قل إنما الآيات عند الله فيأتي بها حسبما تقتضيه الحكمة وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون لسبق الشقاء عليهم ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لاقتضاء استعدادهم ذلك كما لم يؤمنوا به أول مرة حين أعرضوا عن الحجج البينات أو في الأزل ونذرهم في طغيانهم الذي هو لهم بمقتضى استعدادهم يعمهون يترددون متحيرين لا يدرون وجه الرشاد ومن يضلل الله فما له من هاد 8 بسم الله الرحمن الرحيم
(7/259)
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة تصريح بما أشعر به قوله عز و جل : وما يشعركم الخ من الحكمة الداعية إلى ترك الاجابة الى ما اقترحوا وبيان لكذبهم في ايمانهم على أبلغ وجه وآكده أي ولو أنا لم نقتصر على ما اقترحوه ههنا بل نزلنا اليهم الملائكة كما سألوه بقولهم : لولا أنزل علينا الملائكة وقولهم لو ما تأتينا بالملائكة 0 وكلمهم الموتى بأن أحييناهم وشهدوا بحقية الايمان حسبما اقترحوه بقولهم : فأتوا بآبائنا وحشرنا أي جمعنا وسوقنا عليهم كل شيء قبلا أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم كما روي عن ابن عباس وقتادة وهو على هدا مصدر كما قاله غير واحد وإلى ذلك ذهب ابن زيد وعنه : يقال لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا وقبلا وقبيلا كله بمعنى واحد وهو المواجهة ونقل الراغب أنه جمع قابل بمعنى مقابل لحواسهم وقيل : هو جمع قبيل بمعنى كفيل كرغيف ورغف وقضيب وقضب فهو من قولك : قبلت الرجل وتبلت به إذا تكلفت به ومنه القبالة لكتاب العهد والصك وروي ذلك عن الفراء وعن مجاهد تفسيره بالجماعة على أنه جمع قبيلة كما قال الراغب ونقل تفسيره بالكفيل وبالجماعة وكذا بالمعاينة والمقابلة في قوله تعالى : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أي لو أحضرنا لديهم كل شيء تتأتى منهم الكفالة والشهادة بحقية الايمان لا فرادى بل بطريق المعية أو لو حشرنا عليهم كل شيء جماعات في موقف واحد ما كانوا ليؤمنوا أي ما صح ولا استقام لهم الايمان وانتصاب قبلا على هذه الأقوال على أنه حال من كل وساغ ذلك على القول بجمعيته لأن كلا يجوز مراعاة معناه ومراعاة لفظه كما نص عليه النحاة واستشهدوا له بقول عنترة : جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم إد قال تركن دون تركت فلا حاجة الى ما قيل إن ذلك باعتبار لازمة وهو الكل المجموعي : وقرأ نافع وابن عامر قبلا بكسر القاف وفتح الباء وهو مصدر بمعنى مقابلة ومشاهدة ونصبه على الحال كما قال الفراء والزجاج وكثير وعن المبرد أنه بمعنى جهة وناحية فانتصابه على الظرفية كقولهم : لي قبل فلان كذا وقريء قبلا بضم فسكون وماكانوا الخ جواب لووهو إدا كان منفيا لا تدخله اللام خلافا لمن وهم فقدرها
وعلل هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلا في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس الأمر وعلله البعض بسبق القضاء عليهم بالكفر واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليل الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده وعلله ببطلان استعدادهم وتبدل فطرتهم القابلة بسوء اختيارهم وتبعه في ذلك شيخ الاسلام وعلله بتماديهم في العصيان وغلوهم وتمردهم في الطغيان معترضا على ماذكر بانه من الأحكام المترتبة على التمادي المذ : ور حسبما ينبيء عنه قوله تعالى : ونذرهم في طغيانهم يعمهون وتعقب ذلك الشهاب
(8/2)
قائلا : إنه ليس بشيء لأن ما ذكر على مذهب الأشعري القائل بأنه لا تأثير لاختيار العبد وإن قارن الفعل عنده ولا يلزم الجبر كما يتوهم على ما حققه أهل الأصول ولا خفاء في كون القضاء الأزلي سببا لوقوع الحوادث ولا فساد فيه وأما سوء اختيار العبد فسبب للقضاء الأزلي وتحقيقه كما قيل أن سوء الاختيار وإن كان كافيا في عدم وقوع الايمان لكنه لا قطع فيه لجواز أن يحسن الاختيار بصرفه الى الايمان بدل صرفه إلى الكفر فكان سوء اختياره فيما لا يزال سببا للقضاء بكفره في الأزل فبعد القضاء يكون الواقع منه الكفر حتما كما قال سبحانه ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها انتهى وأنا أقول وإن أنكر على أرباب الفضول : إن المعلل بسوء الاستعداد هو السالك مسلم السداد وتحقيق ذلك أنه قد حقق كثير من الراسخين وأهل الكشف الكاملين أن ماهيات الممكنات المعلومة لله تعالى أزلا معدومات متميزة في نفسها تمييزا ذاتيا غير مجعول لما حقق من توقف العلم بها على ذلك التميز وإنما المجعول صورها الوجودية الحادثة وأن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة تختلف اقتضاءآتها فمناه ما يقتضي اختيار الايمان والطاعة ومنها ما يقتضي اختيار الكفر والمعصية والعلم الالهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في انفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فاذأ تعلق العلم الالهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الممكنين اعني الايمان والطاعة أو الكفر والمعصية تعلقت الارادة الالهية بهذا الذي اختاره العبد حال عدمه بمقتضى استعداده تفضلا ورحمة لا وجوبا لغناه الذاتي عن العالمين المصحح لصرف اختيار العبد الى الطرف الآخر الممكن بالذات إن شاء فيصير مراد العباد بعد تعلق الارادة الالهية مراد الله تعالى ومن هذا ظهر أن اختيارهم الأزلي بمقتضى استعدادهم متبوع للعلم المتبوع للارادة مراعاة للحكمة تفضلا وان اختيارهم فيما لا يزال تابع للارادة الأزلية المتعلقة باختيارهم لما اختاروه فهم مجبورون فيما لا يزال في عين اختيارهم أي مساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالاكراه والجبر ومنه يتضح معنى قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه : إن الله تعالى لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك تفويضا ولم يكونوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على العلم السابق على تعلق الارادة والجبر تابع للارادة التابع للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى لأنه سبحانه متفضل بايجاد ما اختاروه لا يجب عليه مراعاة الحكمة ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه لأن ارادته جل شأنه لم تتعلق بما صدر منهم من الأفعال إلا لكونهم اختاروها أزلا بمقتضى استعدادهم فاختار تعالى مراعاة للحكمة تفضلا والعباد كاسبون بالله تعالى إذ لا كسب إلا بقوة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله تعالى خالق أعمالهم بهم لأنه سبحانه أخبر بانه خالق أعمالهم مع نسبة العمل اليهم المتبادر منها صدورها منهم باختيارهم وذلك يقتضي أن المخلوق لله تعالى بالعبد عين مكسوب العبد بالله تعالى ولا منافاة بين كون الأعمال مخلوقة لله تعالى وبين كونها مكسوبة لهم بقدرهم واختيارهم وما شاع عن الاشعري من أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلا وإنما هي مقارنة للفعل وهو بمحض قدرة الله تعالى فمما لا يكاد يقبل عند المحققين المحقين وقدرة العبد عندهم مؤثرة باذن الله تعالى لا استقلالا كما يزعمه المعتزلة ولا غير مؤثرة كما نسب الى الأشعري ولا هي منفية بالكلية كما يقوله الجبرية وهذا بحث مفروغ منه وقد أشرنا اليه في أوائل التفسير وليس
(8/3)
غرضناغرضنا هنا سوى تحقيق أن عدم إيمان الكفار إنما هو لسوء استعدادهم الأزلي الغير المجعول المتبوع للعلم المتبوع للارادة لعلم منه ما في كلام الشهاب وغيره وقد حصل ذلك بتوفيقه تعالى عند من تأمل وأنصف
إلا أن يشاء الله استثناء من أعم الأحوال فان لوحظ أن جميع أحوالهم شاملة لحال تعلق المشيئة بهم فهو متصل وإن لم يلاحظ لأن حال المشيئة ليس من أحوالهم كان منقطعا أي لكن إن شاء الله تعالى آمنوا واستبعده أبو حيان وقيل : هو استثناء من أعم الأزمان وهو خلاف الظأهر والالتفات إلى الأسم الجليل لتربية المهابة وادخال الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد أجتماع ما ذكر من الأمور الموجبة للايمان في حال من الأحوال إلا في حال مشيئته تعالى إيمانهم والمراد بيان استحالة وقوع إيمانهم بناء على إستحالة وقوع المشيئة كما يدل عليه السباق واللحق ولكن أكثرهم يجهلون
111
- استثناء من مضمون الشرطية بعد ورود الاستثناء وضمير الجمع للمسلمين أو للمقسمين والمعنى أن حالهم كما شرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم ايمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لايمانهم حينئذ فيقسمون بالله تعالى جهد ايمانهم على ما لايكاد يوجد أصلا فالجملة على الأول كما قال بعض المحققين مقررة لمضمون قوله تعالى وما يشعركم الخ على القراءة المشهورة وعلى الثاني بيان لمنشأ خطأ المقسمين ومناط اقسامهم على تلك القراءة أيضا وتقرير له على قراءة لاتؤمنون بالفوقانية وكذا على قراءة وما يشعرهم انها إذا جاءت لا يومنون واستدل أهل السنة بالآية على أن الله تعالى يشاء من الكافر كفره وقرر ذلك بأنه سبحانه لما ذكر أنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله تعالى ايمانهم دل على أنه جل شأنه ما شاء ايمانهم بل كفرهم
وأجاب عنه المعتزلة بأن المراد إلا أن يشاء مشيئة قسر وأكراه وعدم ايمانهم يستلزم عدم المشيئة القسرية وهي لا تستلزم عدم المشيئة مطلقا واستدل بها الجبائي على حدوث مشيئته تعالى والا يلزم قدم ما دل الحس على حدوثه وأهل السنة تفصوا عن ذلك بدعوى أن تعلقها باحداث ذلك المحدث في الحال اضافة حادثة فتأمل جميع ذلك : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا كلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم عما يشاهده من عدواة قريش وما بنوا عليها من الأقاويل والافاعيل وذلك إشارة إلى ما يفهم مما تقدم والكاف في موضع نصب على أنه نعت لمصدر مؤكد لما بعده والتقديم للقصر المفيد للمبالغة وعدوا بمعنى أعداء كما في قوله : إذا أنا لم أنفع صديقي بوده فان عدوي لم يضرهم بغضي أي مثل ذلك الجعل في حقك حيث جعلنا لك أعداء أيضا دونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائل ويجهدون في ابطال أمرك جعلنا لكل نبي تقدمك فعلوا معهم نحو ما فعل معك أعداؤك لا جعلا أنقص منه
وجعله الامام علي على هذا الوجه عطفا على معنى ما تقدم من الكلام ولعله ليس المراد منه العطف الاصطلاحي وجوز أن يكون مرتبطا بقوله سبحانه : وكذلك زينا لكل أمة عملهم أي كما فعلنا ذلك جعلنا لكل نبي وفيه بعد
وايا ما كان فالآية ظاهرة فيما ذهب اليه أهل السنة من أنه تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير وحملها على أن المراد بها وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأعدائهم
(8/4)
لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر خلاف الظاهر ومثله قول أبي بكر الأصم أن هذا الجعل بطريق التسبب حيث أرسل سبحانه الانبياء عليهم السلام وخصهم بالمعجزات فحسدهم من حسدهم وصار ذلك سببا للعدواة القوية ونظير ذلك قول المتنبي :
فأنت الذي صيرتهم حسدا
وقيل : المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين كذلك أمرنا من قبلك من الانبياء بمعاداة نحو أولئك أو كما أخبرناك بعداوة المشركين وحكمنا بذلك أخبرنا الأنبياء بعداوة أعدائهم وحكمنا بذلك والكل ليس بشيء وهكذا غالب تأويلات المعتزلة
شياطين الأنس والجن أي مردة النوعين كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد على أن الاضافة بمعنى من البيانية وقيل : هي إضافة الصفة للموصوف والأصل الانس والجن الشياطين وقيل : هي بمعنى اللام أي الشياطين للانس والجن وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده فانه روي عنه أنه قال : إن ابليس عليه اللعنة جعله جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الأنس وفريقا آخر إلى الجن وفي رواية أخرى عنه أن الجن هم الجان وليسوا بشياطين الشياطين ولد أبليس وهم لا يموتون إلا معه والجن يموتون ومنهم المؤمن والكافر وهو نصب على البدلية من عدوا والجعل متعد إلى واحد أو إلى اثنين وهو أول مفعولية قدم عليه الثاني مسارعة إلى بيان العدواة واللام على التقديرين متعلقة بالجعل أو بمحذوف وقع حالا من عدوا قدم عليه لنكارته وجوز أن يكون متعلقا به وقدم عليه للاهتمام وأن يكون نصب شياطين بفعل مقدر
وقوله سبحانه : يوحي بعضهم إلى بعض كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم أو حال من شياطين أو صفة لعدو وجمع الضمير باعتبار المعنى كما في البيت السابق وأصل الوحي كما قال الراغب الاشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وباشارة بعض الجوارح وبالكتابة أيضا والمعنى هنا يلقى ويوسوس شياطين الجن إلى شياطين الانس أو بعض كل من الفريقين إلى الآخر زخرف القول أي المزوق من الكلام الباطل منه وأصل الزخرف الزينة المزوقة ومنه قيل للذهب بزخرف وقال بعضهم : أصل معنى الزخرف الذهب ولكما كان حسنا في الأعين قيل لكل زينة زخرفة وقد يخص بالباطل غرورا مفعول له أي ليغروهم أو مصدر في موقع الحال أي غارين أو مصدر لفعل مقدر هو حال من فاعل يوحي أي يغرون غرورا وفسر الزمخشري الغرور بالخداع وألأخذ على غرة ونسب الراغب أنه قال : يقال غره غرورا كأنما طواه على غرة بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء وهو طيه الأول
ولو شاء ربك ما فعلوه رجوع كما قيل إلى بيان الشؤون الجارية بينه عليه الصلاة و السلام وبين قومه المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم السلام وبين أممهم كما ينبيء عنه الالتفات والتعرض لوصف الربوبية مع الاضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام المعربة عن كمال اللطف في التسلية والضمير المنصوب في فعلوه عائد إلى عدواوتهم له صلى الله عليه و سلم وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل الباطلة المتعلقة بأمره عليه
(8/5)
الصلاةالصلاة والسلام باعتبار انفهام ذلك مما تقدم وأمر الأفراد سهل وقيل : انه عائد إلى ما ذكر من معاداة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإيحاء الزخارف أعم من أن تكون في أمره صلى الله عليه و سلم وأمور أخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفيه أن فوله تعالى : فذرهم وما يفترون
211
- كالصريح في أن المراد بهم الكفرة المعاصرون له عليه الصلاة و السلام وقيل : هو عائد على الايحاء أو الزخرف أو الغرور وفي أخذ ذلك عاما أو خاصا احتمالان لا يخفى الأولى منهما ومفعول المشيئة محذؤف أي عدم ما ذكر ولا اشكال في جعل العدم الخاص متعلق بالمشيئة وقدره بعضهم إيمانهم
واعترض بأن القاعدة المستمرة أن مفعول المشيئة عند وقوعها شرطا يكون مضمون الجزاء كما في علم المعاني وهو هنا ما فعلوه وتعقب بأنه ههنا ذكر المشيئة فيما تقدم متعلقا بشيء وهو الايمان كما أشير اليه ثم ذكر في حيز الشرط بدون متعلق فالظاهر أنه يجوز أن يقدر متعلقة مضمون الجزاء وان يقدر ما علق به فعل المشيئة سابقا ولا بأس بمراعاة كل من الأمرين بحسب ما يقتضيه الحال والمذكور في المعاني إنما هو فيما لم يتكرر فيه فعل المشيئة ولم يكن قرينة غير الجزاء فليعرف ذلك فانه بديع والأولى عندي اعتبار مضمون الجزاء مطلقا وإنما قال سبحانه هنا ولو شاء ربك ما فعلوه وفيما يأتي ولو شاء الله ما فعلوه فغاير بين الأسمين في المحلين لما ذكر بعضهم وهو أن ما قبل هذه الآية من عداوتهم له عليه الصلاة و السلام كسائر الأنبياء عليه الصلاة و السلام التي لو شاء منعهم عنها فلا يصلون إلى المضرة أصلا يقتضي ذكره جل شأنه بهذا العنوان إشارة إلى أنه مربيه صلى الله عليه و سلم في كنف حمايته وإنما لم يفعل سبحانه ذلك لأمر اقتضته حكمته وأما الآية الأخرى فذكر قبلها اشراكهم فناسب ذكره عز أسمه بعنوان الألوهية التي تقتضي عدم الاشتراك فكأنه قيل ههنا : إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئة ربك جل شأنه الذي لم تزل في كنف حمايته وظل تربيته فاتركهم وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكايد ولا تبال به فان لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته سبحانه على الحكم البالغة البتة
ولتصغى إليه أي إلى رخرف القول وقيل : الضمير للوحي أو للغرور أو للعداوة لأنها بمعنى العادي والواو للعطف وما بعدها عطف على غرورا بناء على أنه مفعول له فيكون علة أخرى للايحاء وما في البين اعتراض وإنما لم ينصب لفقد شرط النصب إد الغرور فعل الموحيى وصغو الأفئدة فعل الموحي اليه وهو على الوجهين الأخيرين علة لفعل محذوف يدور عليه المقام أي وليكون ذلك جعلنا ما جعلنا وأصل الصغو كما قال الراغب الميل يقال : صغت الشمس والنجوم صغوا مالت للغروب وصغت الأناء وأصغيته وأصغيت إلى فلان ملت بسمعي نحوه وحكى صغوت اليه أصغو وأصغي صغوا وصغيا وقيل : صغيت أصغي وأصغيت أصغي وفي القاموس صغا يصغو ويصغي صغوا وصغى يصغي صغا وصغيا مال وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء وأويا ويائا فقيل : يصغوا ويصغي ويقال : في مصدره صغيا بالفتح والكسر وزاد الفراء صغيا وصغوا بالياء والواو مشددتين ويقال : أن أصغي مثله
والمراد هنا ولتميل اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة أي على الوجه الواجب وخص عدم إيمانهم بها دون ما عداها من الأمور التي يجب الايمان بها وهم بها كافرون قال مولانا شيخ الاسلام اشعارا
(8/6)
بما هو المادر في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم فان لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره وآلامها مزينة بالشهوات فالذين لايومنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ودون هذ الشهوات آلاما وإنما ينظرون ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها والآية حجة على المعتزلة في وجه وأجاب الكعبي بأن اللام للعاقبة وليست للتعليل بوجه وهو خلاف الظاهر
وقال غيره : إنها لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون وأعترض بأن النون ولام القسم باقية على فتحتها كقوله : لئن تك قد ضاقت علي بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي واسع بفتح لام ليعلم نعم حكي عن بعض العرب كسر لام جواب القسم الداخلة على المضارع كقوله
لتغني عني ذا انائك أجمعا
وهو غير مجمع عليه أيضا فان أناسا أنكروا ذلك وجعلوا اللام في البيت للتعليل والجواب محذوف لتغني عني واستشهد الأخفش بالبيت على إجابة القسم بلام كي
وقال الرضي : لا يجوز عند البصريين في جواب القسم الاكتفاء بلام الجواب عن نون التوكيد إلا في الضرورة وعن الجبائي أن اللام هنا لام الأمر والمراد منه التهديد أو التخلية واستعمال الأمر في ذلك كثير
واعترض بأنها لو كانت لام الأمر لحذف حرف العلة وأجيب بأن حرف العلة قد يثبت في مثله كما خرج عليه قراءة أرسله معنا غدا نرتعي ونلعب وأنه من يتقي ويصبر فليكن هذا كذلك ويؤيد أنها لام الأمر أنه قريء بحذف حرف العلة
وقرأ الحسن بتسكين اللام في هذا وفي الفعلين بعده فدعوى أن ضعف كونها للأمر أظهر من ضعف الوجهين الأولين غير ظاهرة واستدل أصحابنا باسناد الصغو إلى الأفئدة على أن البنية ليست شرطا للحياة فالحي عندهم هو الجزء الذي قامت به الحياة والعالم هو الجزء الذي قام به العلم وقالت المعتزلة : الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء والاسناد مجازي وليرضوه لانفسهم بعدما مالت إليه أفئدتهم وليقترفوا أي ليكتسبوا قال الراغب : أصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجرح وما يؤخذ منه قرف واستعير الاقتراف للاكتساب حسنى أو سواي وفي الاساءة أكثر استعمالا ولهذا يقال الاعتراف يزيل الاقتراف ويقال : قرفت فلانا بكذا إدا عبته به واتهمته وقد حمل على ذلك ما هنا وفيه بعد ومثله ما نقل عن الزجاج أن المعنى فيه وليختلفوا وليكذبوا ما هم مقترفون
311
- أي الذي هم مقترفوه من القبائح التى لا يليق ذكرها وجوز أن تكون ما موصوفة والعائد محذوف أيضا وأن تكون مصدرية فلا حاجة إلى تقدير عائد
أفغير الله ابتغي حكما كلام مستأنف على إرادة القول والهمزة للانكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي قل يا محمد : أأميل إلى زخارف الشياطين أو أعدل عن الطريق المستقيم فاطلب حكما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا عن المبطل وقيل : إن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم :
(8/7)
اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت واسناد الابتغاء المنكر لنفسه الشريفة صلى الله عليه و سلم لا إلى المشركين كما في قوله سبحانه : أفغير دين الله يبغون مع أنهم الباغون لاظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم أجعل بيننا وبينك حكما و غير مفعول ابتغي و حكما حال منه وقيل : تمييز لما في غير من الابهام كقولهم : إن لنا إبلا غيرها وقيل : مفعول له وأولى المفعول همزة الاستفهام دون الفعل لأن الانكار إنما هو في ابتغاء غير الله تعالى حكما لا في مطلق الابتغاء فكان أولى بالتقديم وأهم وقيل : تقديمه للتخصيص وحمل على أن المراد تخصيص الانكار لا إنكار التخصيص وقيل في تقديمه ايماء إلى وجوب تخصيصه تعالى بالابتغاء والرضى بكونه حكما
وجوز أن يكون غير حالا من حكما وحكما مفعول ابتغي والتقديم لكونه مصب الانكار والحكم يقال للواحد والجمع كما قال الراغب وصرح هو وغيره بأنه أبلغ من الحاكم لا مساو له كما نقل الواحدي عن أهل اللغة وعلل بأنه صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها ولذا لا يوصف به إلا العادل أو من تكرر منه الحكم
وهو الذي أنزل اليكم الكتاب جملة حالية مؤكدة للانكار ونسبة الانزال اليهم خاصة مع أن مقتضى المهام إظهار تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتهم نحو المنزل واستنزالهم إلى قبول حكمه بايهام قوة نسبته اليهم وقيل : لأن ذلك أوفق بصدرية الآية بناء على أن المراد بها الانكار عليهم وان عبر بما عبد إظهارا للنصفة ونظير ذلك قوله تعالى : وما لا أعبد الذي فطرني واليه ترجعون
ومعنى الآية عند بعض المحققين أغيره تعالى أبتغي حكما والحال أنه هو الذي أنزل اليكم الكتاب وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تدرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب
مفصلا أي مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الاحكام بحيث لم يبق في أمر الدين شيء من التخليط والابهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم ثم قال : وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله وأما أن يكون لاعجازه دخل في ذلك كما قيل فلا انتهى
ولا يخفى أن ملاحظة الاعجاز أمر مطلوب على تقدير كون الآية مرتبطة معنى بقوله سبحانه وأقسموا بالله الآية وبيان ذلك على ما ذكره الامام أنه سبحانه وتعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أتتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه جل شأنه بأنه لا فائدة في آظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته عليه الصلاة و السلام قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلبا للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه ثم نبه على حصول الدليل من هذ الآية بوجهين الأول أنه تعالى أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فيكون ظهور هذا المعجز دليلا على أنه تعالى قد حكم بنبوته فمعنى الآية قل يا محمد : إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله سبحانه حكما فان كل أحد يقول : إن ذلك غير جائز ثم قل : إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغغ إلى حد الاعجاز الثاني اشتماله التوراة والانجيل على الآيات الدالة على إنه صلى الله عليه و سلم رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهذا هو المراد من الآية بعد انتهى ووجه بعضهم
(8/8)
مدخلية الاعجاز بأنه لا يتم الالزام إلا بالعلم يكون المنزل من عند الله تعالى وهو يتوقف على الاعجاز بحيث يستغنى عن آية أخرى دالة على صدق دعواه عليه الصلاة و السلام أنه من عند الله تعالى لكن قال : إن في دلالة النظم الكريم على ذلك خفاء إلا أن يقال والجملة الأسمية الحاليلا تفيده لما فيها من الدلالة على ثبوته وتقرره في نفسه أو يجعل الكتاب بمعنى المعهود إعجازه وذكر أنهذا من عدم تدبر الآية إذ المعنى لا أبتغي حكما في شأني وشأن غيري إلا الله سبحانه الذي نزل الكتاب لذلك وهو إنما يحكم له صلى الله عليه و سلم بصدق مدعاه بالاعجاز فانهم لما طعنوا في نبوته عليه الصلاة و السلام وأقسموا أن جاءتهم آية آمنوا بين سبحانه أنهم مطبوع على قلوبهم وأمره أن يوبخهم وينكر عليهم بقوله تعالى : أفغير الله الخ أي أأزيغ عن الطريق السوي فأخص غيره غيره بالحكم وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز الذي أفحكم وألزمكم الحجة فكفى به سبحانه حاكما بيني وبينكم بانزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات من التوحيد والنبوة وغيرهما الذي أعجزكم عن آخركم ويؤولهذا إلى أنه صلى الله عليه و سلم أجابهم بالقول بالموجب لأنهم طعنوا في معجزاته فكبتهم على أحسن وجه وضم اليه علم أهل الكتاب وعلى فكونه معجزا مأخوذ من كونه مغنيا عما عداه في شأنه وشأن غيره على ما أشير إليه وهذا له نوع قرب مما ذكره الامام وما أشار اليه من ارتباط الآية معنى بما تقدم من قوله تعالى : وأقسموا بالله الخ لا يخلوا عن حسن إلا أن دعوى خفاء دلالة النظم الكريم على الاعجاز مما لا خفاء في صحتها عندي ولم يظهر مما ذكر ما يزيل ذلك الخفاء وكون سوق الآية دليلا على ملاحظة ذلك غير بعيد عن المأخذ الذي سمعته فتدبر ومن الناس من قال : يحتمل أن يراد بالكتاب التوراة أي أنه تعالى حكم بيني وبينكم بما أنزل فيه مفصلا حيث أخبركم بنبوتي وفصل فيه علاماتي وهو كما ترى والحق ما تقدم
والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته تعالى لتحقيق حقية الكتاب الذي نيط بانزاله أمر الحكمية وتقرير كونه منزلا من عنده عز و جل وليس المراد منه الاستدلال على ثبوت نبوته صلى الله عليه و سلم كما يلوح من كلام الامام والمراد بالكتاب التوراة والانجيل والتعبير عنهما بذلك للايماء إلى مابينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك في الحقية والنزول من عنده تعالى مع مافيه من الايجاز والمراد بالموصول إما علماء اليهود والنصارى وإما الفريقان مطلقا والعلماء داخلون دخولا أوليا والايتاء على الأول التفهيم بالفعل وعلى الثاني أعم منه ومن التفهيم بالقوة وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للايذان بأنهم علموا ما علموا من جهة كتابهم وقيل المراد بالموصول مؤمنوا أهل الكتاب
وعن عطاء أن المراد بالكتاب القرآن وبالموصول كبراء الصحابة وأهل بدر رضي الله تعالى عنهم أجمعين ولا يخفى أنه أبعد من الثريا والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام لتشريفه صلى الله عليه و سلم مع الايذان بأن نزوله من آثار البوبية ومن لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمنزل والباء للملابسة وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في منزل أي متلبسا بالحق وقرأ غالب السبعة منزل بالتخفيف من الانزال والفرق بين أنزل ونزل قد أشرنا اليه فيما مر وأن الأول دفعي والثاني تدريجي وأنه
(8/9)
أكثري والقراءة بهما تدل على قطع النظر عن الفرق وليس إشارة الى المعنيين باعتبار أنزاله الى السماء الدنيا ثم أنزاله الى الأرض لأن انزاله دفعة الى السماء على ما قيل لا يعلمه أهل الكتاب
فلا تكونن من الممترين
411
- أي المترددين في أنهم يعلمون ذلك لما لا يشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة فالفاء لترتيب النهي على الأخبار بعلم أهل الكتاب أو في أنه منزل من ربك بالحق فليس المراد حقيقة النهي له صلى الله عليه و سلم عن الأمتراء في ذلك بل تبهيجه وتحريضه عليه الصلاة و السلام كقوله سبحانه ولا تكونن من المشركين ويحتمل أن يكون الخطاب في الحقيقة للأمة على طريق التعريض وإن كان له عليه الصلاة و السلام صورة وأن يكون لكل أحد ممن يتصور منه الامتراء بناء على ما تقرر أن أصل الخطاب أن يكون مع معين وقد يترك لغيره كما في قوله سبحانه : ولو ترى إذ المجرمون والفاء على هذه الأوجه لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن وتمت كلمة ربك شروع في بيان كما القرآن من حيث ذاته إثر بيان كماله من حيث إضافته اليه عز و جل بكونه منزلا منه سبحانه بالحق وتحقيق ذلك بعلم أهل الكتابين به وتمام الشيء كما قال الراغب أنتهاؤه إلى حد لا يحتاج الى شيء خارج عنه والمراد بالكلمة الكلام وأريد به كما قال قتادة وغيره القرآن واطلاقها عليه إما من باب المجاز المرسل أو الاستعارة وعلاقتها تأبى أن تطلق الكلمة على الجملة غير المفيدة وعلاقته لا لكن لم يوجد في كلامهم ذلك الاطلاق واختير هذا التعبير لما فيه من اللطافة التي لا تخفى على من دقق النظر وقال البعض لما أن الكلمة هي الأصل في الاتصاف بالصدق والعدل وبها تظهر الآثار من الحكم وعن أبي مسلم أن المراد بالكلمة دين الله تعالى كما في قوله سبحانه : وكلمة الله هي العليا
وقيل : المراد بها حجته عز و جل على خلقه والأول هو الظأهر وقرأ بالتوحيد عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وقرأ الباقون كلمات ربك : صدقا وعدلا مصدران نصبا على الحال من ربك أو من كلمة كما ذهب إليه أبو علي الفارسي وجوز أبو البقاء نصبهما على التمييز وعلى العلة والصدق في الأخبار والمواعيد منها في المشهور والعدل في الأقضية والاحكام لا مبدل لكلماته استئناف مبين لفضلها على غيرها إثر بيان فضلها في نفسها وقال بعض المحققين : إنه سبحانه لما أخبر بتمام كلمته وكان التمام يعقبه النقص غالبا كما قيل : إذا تم أمر بدا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم ذكر ذلك احتراسا وبيانا لأن تمامها ليس كتمام غيرها وجوز أن يكون حالا من فاعل تمت على أن الظأهر مغن عن الضمير الرابط قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون حالا من ربك لئلا يفصل بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو صدقا وعدلا إلا أن يجعلا حالين منه أيضا والمعنى لا أحد يبدل شيئا من كلماته بما هو أصدق وأعدل منه ولا بما هو مثله فكيف يتصور ابتغاء حكم غيره تعالى والمراد بالأصدق الأبين والأظهر صدقا فلا يرد أن الصدق لا يقبل الزيادة والنقص لأن النسبة إن طابقت الواقع فصدق والا فكذب
(8/10)
وذكر الكرماني في حديث أصدق الحديث ألخ أنه جعل الحديث كمتكلم فوصف به كما يقال زيد أصدق من غيره والمتكلم يقبل الزيادة والنقص في ذلك وقيل : المعنى لا يقدر أحد أن يحرفها شائعا كما فعل بالتوراة فيكون هذا ضمانا منه سبحانه بالحفظ كقوله جل وعلا : انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون او لا نبي
(8/0)
ولا كتاب بعدها يبدلها وينسخ أحكامها وعيسى عليه السلام يعمل بعد النزول بها لا ينسخ شيئا كما حقق في محله
وقيل : المراد إن أحكام الله تعالى لا تقبل التبدل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول وزعم الامام أن الآية على هذا أحد الأصول القوية في إثبات الجبر لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى عمرو بالشقاوة ثم قال : لا مبدل لكلماته يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقيا والشقي سعيدا فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وأنا أقول لا يخفى أنالشقي في العلم لا يكون سعيدا والسعيد فيه لا يكون شقيا أصلا لأن العلم لا يتعلق إلا بما المعلوم عليه في نفسه وحكمه سبحانه تابع لذلك العلم وكذا إيجاده الأشياء على طبق ذلك العلم ولا يتصور هناك جبر بوجه من الوجوه لأنه عز شأنه لم يفض على القوابل إلا ما طلبته منه جل وعلا بلسان استعدادها كما يشير اليه وقله سبحانه : أعطى كل شيء خلقه نعم يتصور الجبر لو طلبت القوابل شيئا وافاض عليها شأنه ضده سبحانه أجل وأعلى من ذلك وهو السميع لكل ما يتعلق به السميع العليم
511
- بكل ما يمكن أن يعلم فيدخل في ذلك أقوال المتحاكمين وأحوالهم الظأهرة والباطنة دخولا أوليا
ثم أنه تعالى على ما ذكر الامام لما أجاب عن شبهات الكفار وبين الدليل صحة النبوة أرشد إلى أنه بعد زوال الشبهة وظهور الحجة لا ينبغي أن يلتفت العاقل إلى كلمات الجهال فقال سبحانه : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله وقال شيخ الاسلام : إنه لما تحقق اختصاصه تعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجب ذلك من انزال الكتاب الفاصل بين الحق والباطل وتمام صدق كلامه وكمال عدله في احكامه وامتناع وجود من يبدل شيئا منها واستبداده سبحانه بالاحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات عقب ذلك ببيان أن الكفرة متصفون بنقائص تلك الكمالات من النقائص التي هي الضلال والاضلال واتباع الظنون الفاسدة الناشيء من الجهل والكذب على الله تعالى إبانة الكلام مباينة حالهم لما يرمونه وتحذيرا عن الركون اليهم والعمل بآرائهم فقال سبحانه ما قال ويحتمل أن يكون هذا من بابالارشاد إلى اتباع القرآن والتمسك به بعد بيان كماله على أكمل وجه خطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم ولامته
وقيل : خوطب عليه الصلاة و السلام وأريد غيره والمراد بمن في الأرض الناس وبأكثرهم الكفار وقيل : ما يعمهم وغيرهم من الجهال واتباع الهوى وقيل : أهل مكة والارض أرضها واكثر أهلها كانوا حينئذ كفارا
ومن الناس من زعم أن هذا نهي في المعنى عن متابعة غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ هم والكرام قليل أقل الناس عددا وقد قال سبحانه فبهداهم أقتده وهو كما ترى ومثله احتمال أنه نهي عن متابعة غير الله سبحانه لأنه لو أطيع أكثر من في الأرض لأضلوا فضلا عن اطاعة قليل أو واحد منهم والمعنى ان تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرع لك وأودعه كلماته المنزلة من عنده اليك يضلوك عن الحق أو أن تطع الكفار بأن جعلت منهم حكما يضلوك عن الطريق الموصل اليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده إن يتبعون أي ما يتبعون فيما هم عليه من الشرك والضلال إلا الظن وإن الظن فيما يتعلق بالله تعالى لا يغني من الحق شيئا ولا يكفي هناك إلا العلم وأنى لهم به وهذا بخلاف سائر الأحكام وأسبابها مثلا فانه لا يشترط فيها العلم وإلا لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية والفرق بينهما على ما قاله العز بن عبد السلام في
(8/11)
قواعدهقواعده الكبرى أن الظان مجوز لخلاف مظنونه فاذا ظن صفة من صفات الاله عز شأنه فانه يجوز نقيضها وهو نقص ولا يجوز النقص عليه سبحانه بخلاف الأحكام فانه لو ظن الحلال حراما أو الحرام حلالا لم يكن في ذلك تجويز نقص على الرب جل شأنه لأنه سبحانه لو أحل الحرام وحرم الحلال لم يكن ذلك نقصا عليه عز و جل فدار تجويزه بين أمرين كل منهما كمال بخلاف الصفات وقال غير واحد : المراد ما يتبعون إلأ ظنهم أن ءاباءهم كانوا على الحق وجهالتهم وآراءهم الباطلة ويراد من الظن ما يقابل العلم أي الجهل فليس في الآية دليل على عدم جواز العمل بالظن مطلقا فلا متمسك لنفاة القياس بها والامام بعد أن قرر وجه استدلالهم قال : والجواب لم لا يجوز أن ياقل : الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل ظن الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا اليها فلا يسمى ظنا وهو كما ترى وإن هم أي وما هم إلا يخرصون
611
- أي يكذبون وأصل الخرص القول بالظن وهول من لا يستيقن ويتحقق كما قال الأزهري ومنه خرص النخل بفتح الخاء وهي خرص بالكسر أي مخروصة والمراد أن شأن هؤلاء الكذب وهم مستمرون على تجدده منهم مرة بعد مرة مع ماهم عليه من اتباع الظن في شأن خالقهم عز شأنه
وقال الأمام : المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم بل لا يتبعون إلا الظن وهم خراصون كاذبون في إدعاء القطع ولا يخفى بعد تقييد الكذب بادعاء القطع وقال غير واحد : المراد أنهم يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون اليه جل شأنه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان ذريعة اليه سبحانه وتحليل الميتة والبحائر ونظير ذلك ولعل ما ذهبنا اليه أولى وأبلغ في الذم ويحتمل أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار يتبعون في أمور دينهم ظن أسلافهم وان شأنهم أنفسهم الظن أيضا وحاصل ذلك ذمهم بفسادهم وفساد أصولهم إلا أن ذلك بعيد جد
إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
711
- تقرير كما قال بعض المحققين لمضمون الشرطية وما بعدها وتأكيد لما يفيده من التحذير أي هو أعلم بالفريقين فاحذر أن تكون من الاولين
ومن موصولة أو موصوفة في محل النصب على المفعولية بفعل دل عليه أعلم كما ذهب إليه الفارسي أي يعلم لا به فان أفعل لا ينصب الظاهر فيما إذا أريد به التفضيل على الصحيح خلافا لبعض الكوفيين لأن ضعيف لا يعمل عمل فعله وإذا جرد لمعنى اسم الفاعل فمنهم من جوز نصبه كما صرح به في التسهيل وحينئذ يؤتى بمفعوله مجرورا بالباء أو اللام ومن الناس من ادعى أن الباء هنا مقدرة ليتطابق طرفا الآية ولا يجوز أن يكون أفعل مضافا الى من لفساد المعنى
وجوز أن تكون استفهامية مبتدأ والخبر يضل والجملة معلق عنها الفعل المقدر والى هذا ذهب الزجاج
ولا يخفى ما في التعبير في جانب الفريق الأول بما عبر به وفي جانب الفريق الثاني بالمهتدين مع عدم بيان ما اهتدوا اليه من الاعتناء بشأن الآخرين ومزيد التفرقة بينهم وبين الاولين وقريء من يضل بضم الياء على أن من مفعول لما أشير اليه من الفعل المقدر وفاعل يضل ضمير راجع اليه و مفعوله محذؤف أي يعلم من يضل الناس فيكون تأكيدا للتحذير عن طاعة الكفرة وجوز أن تكون مجرورة بالاضافة أي أعلم المضلين
(8/12)
من قوله تعالى : من يضلل الله أو من قولك : أضللته إذا وجدته ضالا كأحمدته إذا وجدته محمودا وان تكون استفهامية معلقا عنها الفعل أيضا وأن يكون فاعل يضل ضمير الله تعالى ومن منصوبة بما ذكر من الفعل المقدر أي يعلم من يضله الله تعالى قيل : وكان الظأهر أن ياقل : بالمهديين وكأن وجه العدول عنه الاشارة الى أن الهداية صفة سابقة ثابتة لهم في أنفسهم كأنها غير محتاجة الى جعل لقوله عليه الصلاة و السلام كل مولود يولد على الفطرة : بخلاف الضلال فانه أمر طار أوجده فيهم فتأمل
والتفضيل في العلم إا بالنظر الى المعلومات فانها غير متناهية أو الى وجوه العلم التي يمكن تعلقه بها واما باعتبار الكيفية وهي لزوم العلم له سبحانه أو كونه بالذات لا بالغير
فكلوا مما ذكر أسم الله عليه أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال فقد ذكر الواحدي أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها فقال عليه الصلاة و السلام : الله تعالى قتلها قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله الله تعالى حرام فانزل الله تعالى هذه الآية وقال عكرمة : إن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا عليه الصلاة و السلام وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله تعالى ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله تعالى فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل سبحانه الآية
ؤاخرج أبو داود والترمذي وحسنه وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : أنأكل مما قتلنا ولا نأكل مما يقتل الله تعالى فأنزل الله تعالى الآية والمعنى على ما ذهب إليه غير واحد كلوا مما ذكر اسم الله تعالى على ذبحه لا مما ذكر عليه أسم غيره خاصة أو مع اسمه عز اسمه أو مات حتف أنفه والحصر كما قيل مستفاد من عدم اتباع المضلين ومن الشرط ولولا ذلك لكان هذا الكلام متعرضا لما لا يحتاج اليه ساكتا عما يحتاج اليه وادعى بعضهم أن لا حصر واستفادة عدم حل ما مات حتف أنفه من صريح النظم أعني قوله تعالى : ولا تأكلوا مما الخ وهو مخالف لما عليه الجمهور إن كنتم بآياته التي من جملتها الآيات الواردة في هذا الشأن مؤمنين
811
- فان الايمان بها يقتضي استباحة ما أحل الله تعالى واجتناب ما حرم وقيل : المعنى ان صرتم عالمين حقائق الأمور التي هذا الأمر من جملتها بسبب ايمانكم وقيل : المراد أن كنتم متصفين بالايمان وعلى يقين منه فان التصديق يختلف ظنا وتقليدا وتحقيقا والجار والمجرور متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ومالكم ألا تأكلوا مما ذكرتم اسم الله عليه أنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر اسم الله تعالى عليه فما للاستفهام الانكاري وليست نافية كما قيل وهي مبتدأ ولكم الخبر وأن تأكلوا بتقدير حرف الجر اي أن تأكلوا والخلاف في محل المنسبك بعد الحذف مشهور
وجوز أن يكون ذلك حالا ورد بأن المصدر المؤول من أن والفعل لا يقع حالا كما صرح به سيبويه لأنه معرفة ولأنه مصدر بعلامة حرف الاستقبال المنافية للحالية إلا أن يؤول بنكرة أو يقدر مضاف أي
(8/13)
ذوى أن لا تأكلوا ومفعول تأكلوا كما قال أبو البقاء : محذوف أي شيئا مما الخ قيل : وظاهر الآية مشعر بأنه يجوز الأكل مما ذكر اسم الله تعالى عليه وغيره معا وليست من التبعيضية لاخراجه بل لاخراج ما لم يؤكل كالروث والدم وهو خارج بالحصر السابق فلا تغفل وسبب نزول الآية على مقاله الامام أبو منصور أن المسلمين كانوا يتحرجون من أكل الطيبات تقشفا وتزهدا فنزلت وقد فصل لكم ما حرم عليكم بقوله تعالى : قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية فبقي ما عدا ذلك على الحل وقيل بقوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم واعترضه الامام بأن سورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة وهذ مكية كما علمت فلا يتأتى ذلك وأما التأخر في التلاوة فلا يوجب التأخر في النزول فلا يضر تأخر قل لا أجد الخ عن هذه الآية في هذ السورة وقيل : التفصيل بوحي غير متلو والجملة حالية مؤكدة للانكار السابق
وقرأ اهل الكوفة غير حفص فصل ما حرم ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول وقرأ أهل المدينة وحفص ويعقوب وسهل فصل وحرم كليهما بالبناء للفاعل وقرأهما الباقون بالبناء للمفعول
إلا ما اضطررتم اليه أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة وظاهر تقرير الرمخشري كما قال العلامة الثاني يقتضي أن ما موصولة فلا يستقيم غير جعل الاستثناء منقطعا أي لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو حرام عليكم حلال لكم حال الضرورة وجوز عليه الرحمة جعله استثناء من ضمير حرم وما مصدرية في معنى المدة أي فصل لكم الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار اليها واعترض بأنه لا يصح جينئذ الاستثناء من الضمير بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر كأنه قيل : حرمت عليكم كل وقت إلا وقت الخ ومن الناس من أورد هنا شيئا لا أظنه مما يضطر اليه حيث قال بعد كلام : والمهم في هذا المقام بيان فائدة إلا ما اضطررتم اليه وكأن الفائدة فيه والله تعالى أعلم للمبالغة في النهي عن الامتناع عن الأكل بأن ما حرم يصير مما لا يؤكل بخلاف ما حل فانه لا يصير مما لا يؤكل فكيف يجتنب عما يؤكل فتأمل وان كثير من الكفار ليضلون الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كعمرو بن لحي واضرابه الذين اتخذؤا البحائر والسوائب واحلوا أكل الميتة وعن الزجاج أن المراد بهذا الكثير الذين ناظروا في الميتة
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ليضلون بفتح الياء بأهوائهم الزائغة وشهواتهم الباطلة بغير علم مقتبس من الشريعة مستند إلى الوحي أو بغير علم أصلا كما قيل وذكر ذلك للايذان بأن ماهم عليه محض هوى وشهوة وجوز أن يكون من قبيل قوله تعالى : ويقتلون الأنبياء بغير حق
إن ربك هو أعلم بالمعتدين
911
- المتجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام فيجازيهم على ذلك ولعل المراد بهم هذا الكثير ووضع الظاهر موضع ضميرهم لوسمهم بصفة الاعتداء وذروا ظاهر الاثم وباطنه أي ما يعلن وما يسر كما قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس أو ما بالجوارح وما بالقلب كما قال الجبائي أو نكاح ما نكح الآباء ونحوه والزنا بالاجنبيات كما روي عن ابن جبير أو الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان كما
(8/14)
روي عن الضحاك والسدي وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن الزنا إذا ظهر كان إثما وإذا استسر به صاحبه فلا اثم فيه
قال الطيبي وهو على هذا الوجه مقصود بالعطف مسبب عن عدم الاتباع وعلى الأول معترض توكيدا لقوله سبحانه : فكلوا أولا ولا تأكلوا ثانيا وهو الوجه ولعل الأمر على الوجه الذي قبله مثله
إن الذين يكسبون الاثم أي يعملون المعاصي التي فيها الاثم ويرتكبون القبائح الظاهرة أو الباطنة سيجزون بما كانوا يقترفون
21
- أي يكسبون الاثم كائنا ما كان فلابد من اجتناب ذلك والجملة تعليل للامر ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أي من الحيوان كما هو المتبادر والآية ظاهرة في تحريم متروك التسمية عمدا كان أو نسيانا واليه ذهب داود
وعن أحمد والحسن وابن سيرين والجبائي مثله وقال الشافعي بخلافه لما لما رواه أبو داود وعبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلا ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر وعن مالك وهي الرواية المعولعليها عند أئمة مذهبه ان متروك التسمية عمدا لا يؤكل سواء كان تهاونا أو غير تهاون ولأشهب قول شاذ بجواز غير المتهاون في ترك التسمية عليه وزعم بعضهم أن مذهب مالك كمذهب الشافعي وآخرون أنه كمذهب داود ومن معه وما ذكر هو الموجود في كتب المالكية وأهل مكة أدري بشعابها ومذهب الامام أبي حنيفة رضي الله عنه التفرقة بين العمد والنسيان كالصحيح من مذهب مالك قال العلامة الثاني : إن الناسي على مذهب الامام الأعظم رضي الله تعالى عنه ليس بتارك للتسمية بل هي في قلبه على ما روي أنه صلى الله عليه و سلم سئل عن متروك التسمية ناسيا فقال عليه الصلاة و السلام : كلوه فان تسميتة الله تعالى في قلب كل مسلم ولم يلحق به العامد إلا لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وإن كان منصوص العلة وإما لأنه ترك التسمية عمدا فكأنه نفى ما في قلبه وأعترض بأن تخصيص العام الذي خص منه البعض جائز بالقياس المنصوص العلة وفاقا وبانا لا نسلم أن التارك عمدا بمنزلة النافي لما في قلبه ربما يكون لوثوقه بذلك وعدم افتقاره لذكره ثم قال : فذهبوا إلى أن الناسي خارج بقوله تعالى : وانه لفسق إذ الضمير عائد إلى المصدر المأخوذ من مضمون لم يذكر اسم الله عليه وهو الترك لكونه الأقرب ومعلوم أن الترك نسيانا ليس بفسق لعدم تكليف الناسي والمؤاخذة عليه فيتعين العمد
وأعترض ما ذكر بأن كون ذلك فسقا لا سيما على وجه التحقيق والتأكيد خلاف الظاهر ولم يذهب اليه أحد ولا يلائم قوله تعالى : أو فسقا أهل لغير الله به مع أن القرآن يفسر بعضه بعضا سيما في حكم واحد وبان مالم يذكر اسم الله عليه يتناول الميتة مع القطع بان ترك التسمية عليها ليس بفسق وبعضهم أرجع الضمير إلى ما بمعنى الذبيحة وجعلها عين الفسق على سبيل المبالغة لكن لابد من ملاحظة كونها متروكة التسمية عمداإذ لافسق في النسيان وحينئذ لا يصح الحمل أيضا ومما تقدم يعلم ما فيه وذكر العلامة للشافعية في دعوى حل متروك التسمية عمدا أو نسيانا وحرمة ما ذبح على النصب أو مات حتف أنفه وجوها الأول ان التسمية على ذكر المؤمن وفي قلبه ما دام مؤمنا فلا يتحقق منه عدم الذكر فلا يحرم من ذبيحته إلا ما أهل به لغير الله تعالى
(8/15)
الثاني أن قوله سبحانه : وإنه لفسق على وجه التحقيق والتأكيد لا يصح في حق أكل كل مالم يذكر اسم الله تعالى عليه عمدا كان أو سهوا إذ لا فسق بفعل ماهو محل الاجتهاد والثالث أن هذه الجملة في موقع الحال إذ لا يحسن عطف الخبر على الانشاء : أهل لغير الله به فيكون النهي عن الاكل مقيدا بكون مالم يذكر اسم الله تعالى عليه قد أهل به لغير الله تعالى فيحل ماليس كذلك إا بطريق مفهوم المخالفة وإما بحكم الأصل وإما بالعمومات الواردة في حل الأطعمة وهذا خلاصة ما ذكره الامام في مجلس تذكير عقده له سلطان خوارزم فيها بمحضر منه ومن جملة الأئمة الحنفية وعليه لا حاجة للشافعية الى دليل خارجي في تخصيص الآية
واعترض بانه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة مع أنه سبب النزول وبأن التأكيد بان واللام ينفي كون الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيما قصد الاعلام بتحققه البتة والرد على منكر تحقيقا أو تقديرا على مابين في علم المعاني والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير كأنه قيل : لاتأكلوا منه إن كان فسقا فلا يحسن وإنه لفسق بل وهو فسق ومن هنا ذهب كثير الى أن الجملة مستأنفة وأجيب عن الأول بانه دخل في قوله تعالى : وانه لفسق ما أهل به لغير الله وبقوله جل شأنه : وان الشياطين الخ الميتة فيتحقق قولهم : ان النهي مخصوص بما أهل به لغير الله تعالى أو مات حتف أنفه وأجاب العلامة عن الثاني بانه لما كان المراد بالفسق ههنا الاهلال لغير الله تعالى كان التأكيد مناسبا كأنه قيل : لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق والمشركون ينكرونه ومنهم من تأول الآية بالميتة لأن الجدال فيها كما ستعلم قريبا ان شاء الله تعالى
واستظهر رجوع الضمير الى الأكل الذي دل عليه ولا تأكلوا والذي يلوح من كلام بعض المحققين أن مالم يذكر اسم الله عليه عام لما أهل به لغير الله تعالى ولمتروك التسمية عمدا أو سهوا ولما مات حتف أنفه لأنه سبب نزول الآية والتحقيق أن العام الظاهر متى ورد على سبب خاص كان نصا في السبب ظاهر باقيا على ظهوره فيما عداه وأنه لابد لمبيح منسي التسمية من مخصص وهو الخبر المشتمل على السؤال والجواب وادعى أن هذا عند التحقيق ليس بتخصيص بل منع لاندراج المنسي في العموم مستند بالحديث المذكور
ويؤيد بأن العام الوارد على سبب خاص وإن قوى تناوله لسبب حتى ينتهض الظاهر فيه نصا إلا أنه ضعيف التناول لما عداه حتى ينحط على أعالي الظاهر فيه ويكتفي من معارضة ما لا يكتفي به منه لولا السبب انتهى
ولا يخفى ما فيه لمن أحاط خبرا بما ذكره العلامة قبل وذكر كثير من أصحابنا أن قول الشافعي عليه الرحمة مخالف للأجماع إذ لاخلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا وإنما الخلاف بينهم في متروكها ناسيا فمذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يحرم ومذهب على كرم الله تعالى وجهه وابن عباى رضي الله تعالى عنهما أنه يحل ولم يختلفوا في حرمة متروك التسمية عامدا ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم الله تعالى : إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد ولو قضى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفا للاجماع وأن ظاهر الآية يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسيانا إلأ أن الشرع جعل الناسي ذاكرا لعذر من جهته وفي ذلك رفع للحرج فان الانسان كثير النسيان
وقول بعض الشافعية عليهم الرحمة : إن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقط بعذر النسيان كالطهارة في
(8/16)
في باب الصلاة مفض الى التسوية بين العمد والنسيان وهي معهودة فيما إذا كان على الناسي هيئة مذكرة كالأكل في الصلاة والجماع في الاحرام لا فيما إذا لم يكن كالأكل في الصيام وهنا إن لم تكن هيئة توجب النسيان وهي ما يحصل للذبائح عند زهوق روح حيوان من تغير الحال فليس هيئة مذكرة بموجودة
والحق عندي أن المسئلة اجتهادية وثبوت الاجماع غير مسلم ولو كان ما كان خرقه الامام الشافعي رحمه الله تعالى واستدلاله على مدعاه على ما سمعت لا يخلو عن متانة وقول الاصفهاني كما في المستصفي أفحش الشافعي حيث خالف سبع آيات من القرآن ثلاث منها في سورة الأنعام الاولى فكلوا مما ذكر اسم الله عليه والثانية ومالكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه والثالثة ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وثلاث في سورة الحج الاولى ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام والثانية ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله والثالثة والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف وآية في المائدة فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه من الفحش في حق هذا الامام القرشي ومثاره عدم الوقوف على فضله وسعة علمه ودقة نظره وبالجملة الكلام في الآية واسع المجال وبها استدل كل من أصحاب هاتيك الاقوال وعن عطاء وطاوس انهما استدلا بظاهرها على أن متروك التسمية حيوانا كان أو غيره حرام وسبب النزول يؤيد خلاف ذلك كما علمت والاحتياط لا يخفى
وإن الشياطين أي إبليس وجنوده ليوحون أي يوسوسون إلى أوليائهم الذين اتبعوهم من المشركين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : المراد بالشياطين مردة المجوس فايحاؤهم إلى أوليائهم ما أنهوا الى قريش حسبما حكيناه عن عكرمة ليجادلوكم أي بالوساوس الشيطانية أو بما نقل من أباطيل المجوس وإن أطعتموهم في استحلال الحرام إنكم لمشركون
121
- ضرورة أن من ترك طاعة الله تعالى الى طاعة غيره واستحل الحرام واتبهة في دينه فقد أشركه به تعالى بل آثره عليه سبحانه
ونقل الامام عن الكعبي أنه قال : الآية حجة على أن الايمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق كما جعل تعالى الشرك اسما لكل ما كان مخالفة لله عز و جل وإن كان في اللغة مختصا بمن يعتقد أن لله تعالى شأنه شريكا بدليل أنه سبحانه سمي طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركا ثم قال : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن لله تعالى شريكا في الحكم والتكليف وبهذا القدر يرجع معنى هذا الشرك الى الاعتقاد فقط انهى والظاهر أن التعبير عن هذه الاطاعة بالشرك من باب التغليظ ونظأئره كثيرة والكلام هنا كما قال أبو حيان وغيره على تقدير القسم وحذف لام التوطئة أي ولئن اطعتموهم والله أنكم لمشركون وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده وجعل ابو البقاء وتبعه بعضهم المذكور جواب الشرط ولا قسم وادعى أن حذف الفاء منه حسن إدا كان الشرط بلفظ الماضي كما هنا واعترض بأن هذا لم يوجد في كتب العربية بل اتفق الكل على وجوب الفاء في الجملة الاسمية ولم يجوزوا تركها إلا في ضرورة الشعر وفيه أن المبرد أجاز ذلك في الاختيار كما ذكره المرادي في شرح التسهيل
(8/17)
أومن كان ميتا فأحييناه تمثيل مسوق لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثر تحذيرهم عنها بالاشارة إلى أنهم مستضيئون بانوار الوحي الالهي والمشركون غارقون في ظلمات الكفر والطغيان فكيف يعقل طاعتهم له فالآية م كما قال الطيبي متصلة بقوله سبحانه وان اطعتموهم والهمزة للانكار والوا م كما قال غير واحد لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذي يدل عليه الكلام أي أنتم مثلهم ومن كان ميتا فاعطيناه الحياة وجعلنا له مع ذلك من الخارج نورا عظيما يمشي به أي بسببه في الناس أي فيما بينهم آمنا من جهتهم والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فماذا يصنع بذلك النور فقيل يمشي الخ أو صفة له ومن أسم موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر متعلق الجار والمجرور في قوله تعالى كمن مثله أي صفته العجيبة ومن فيه أسم موصول أيضا و مثله مبتدأ وقوله سبحانه في الظلمات خبر هو محذوف وقوله سبحانه : ليس بخارج منها في موضع الحال من المستكن في الظرف وهذ الجملة خبر المبتدأ أعني مثله على سبيل الحكاية بمعنى إدا وصف يقال له ذلك وجملة مثله مع خبره صلة الموصول
وإن شئت جعلت من الموضعين نكرة موصوفة ولم يجوز أن يكون في الظلمات خبرا عن مثله لأن الظلمات ليس ظرفا للمثل وظاهر كلام بعضهم كأبي البقاء أن في الطلمات هو الخبر وليس هناك هو مقدرا ولا يلزم كما نص عليه بعض المحققين حديث الظرفية لأن المراد أن مثله هو كونه في الظلمات والمقصود الحكاية نعم ما ذكر أولا أولى لأن خبر مثله لايكون إلا جملة تامة والظرف بغير فاعل ظاهر لايؤدي مؤدى ذلك
وجوز كون جملة ليس بخارج حالا من الهاء في مثله ومنعه أبو البقاء للفصل قيل : ولضعف مجيء الحال من المضاف اليه وقرأ نافع ويعقوب ميتا بالتشديد وهو أصل للمخفف والمحذوف من اليائين الثانية المنقلبة عن الواو أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ولا فرق بينهما عند الجمهور
ثم ان هذا الاخير كما قال شيخ الاسلام مثل ما أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلا كما أن الأول مثل أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الاسلام وهداه بالآيات البينات الى طريق الحق يسلكه كيف شاء لكن لا على أن يدل على كل واحد من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردة في المثلين بواسطة تشبيه بما يناسبه من معانيها فان الفاظ المثل باقية على معانيها الأصلية بل على أنه قد انتزعت من الامور التعددة المعتبرة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة فشبهت بهما الأولتان ونزلتا منزلتهما فاستعمل فيهما ما يدل على الأخيرتين بضرب من التجوز إلى آخر ما قال ونص القطب الرازي على أنهما تمثيلان لا استعارتان ورد كما قال الشهاب بأن الظأهر بأن من كان ميتا ومن مثله في الظلمات من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحا ولا دلالة بحيث ينافي الاستعارة والاستعارة الأولى بجملتها مشبهة والثانية مشبهة به وهذا كما تقول في الاستعارة الافرادية أيكون الأسد كالثعلب اي الشجاع كالجبان وهو من بديع العاني الذي ينبغي أن يتنبه له ويحفظ والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالميت الكافر الضال وبالاحياء الهداية وبالنور القرآن وبالظلمات الكفر والضلالة والآية على ما أخرج أبو الشيخ عنه نرلت في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
(8/18)
وهو المراد بمن أحياه الله تعالى وهداه وأبي جهل بن هشام لعنه الله تعالى وهو المراد بمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وروي عن زيد بن أسلم مثل ذلك
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها في حمزة وأبي جهل وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر وأبي جهل وأيا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل في ذلك كل من انقاد لأمر الله تعالى ومن بقي على ضلاله وعتوه كذلك إشارة إلى التزيين المذكور على طرز ما قرر في أمثاله أو إشارة إلى إيحاء الشياطين إلى أوليائهم أو إلى تزيين الايمان للمؤمنين زين من جهته تعالى خلقا أو من جهة الشياطين وسوسة للكافرين كأبي جهل وأضرابه ما كانوا يعملون
221
- أي ما استمروا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من القبائح : وكذلك قيل أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية من سائر القرى أكابر مجرميها ليمكروا فيها أو كما جعلنا أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية الخ وإلى الاحتمالين ذهب الامام الرازي وجعل غير واحد جعل بمعنى صير المتعدية لمفعولين واختلف في تعيينهما فقيل : في كل قرية مفعول ثان و أكابر مجرميها بالاضافة هو الأول وقيل : أكابر مفعول أول و مجرميها بدل منه وقيل : أكابر مفعول ثان و مجرميها مفعول أول لأنه معرفة فيتعين أنه المبتدأ بحسب الأصل والتقدير جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر فيتعلق الجار والمجرور بالفعل
واعترض أبو حيان كون مجرميها بدلا من أكابر أو مفعولا بأنه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي أن أفعل التفضيل يلزم افراده وتذكيره إدا كان بمن ظاهرة أو مقدرة أو مضافا إلى نكرة سواء كان لمفرد مذكر أو لغيره فان طابق ماهوله تأنيثا وجمعا وتثنية لزمه أحد الأمرين إما الألف واللام أو الاضافة إلى معرفة و أكابر في التخريجين باق على الجمعية وهو غير معرف بأل ولا مضاف لمعرفة وذلك لا يجوز وتعقبه الشهاب فقال : إنه غير وارد لأن أكابر وأصاغر أجري مجرى الاسماء لكونه بمعنى الرؤساء كما نص عليه الراغب وما ذكره انما هو إذا بقي على معناه الأصلي ويؤيده قول ابن عطية : أنه قال أكابرة كما ياقل أحمر وأحامرة كما قال
ان الاحامرة الثلاث تعولت
وان رده أبو حيان بأنه لم يعلم أن أحدا من أهل اللغة والنحو أجاز في جمع أفضل أفاضلة وفيه نظر وأما الجواب بأنه على حذف المضاف المعرفة للعلم به أي أكابر الناس أو أكابر أهل القرية فلا يخفى ضعفه اه وظاهر كلام الزمخشري ان الظرف لغو و أكابر أول المفعولين مضاف لمجرميها و ليمكروا المفعول الثاني
وجوز بعضهم كون جعل متعديا لواحد على أن المراد بالجعل التمكين بمعنى الاقرار في المكان والاسكان فيه ومفعوله أكابر مجرميها بالاضافة ويفهم من كلام البعض أن احتمال الاضافة لا يجري إلا على تفسير جعلناهم بمكناهم ولا يخلوا ذلك عن دغدغة وقال العلامة الثاني بعد سرد عدة من الأقوال : والذي يقتضيه النظر الصائب أن في كل قرية لغو و أكابر مجرميها مفعول أول و ليمكروا هو الثاني ولا يخفى حسنه بيد أنه مبني على جعل الاشارة لأحد الأمرين اللذين أشي فيما سبق اليهما وناقش في ذلك شيخ الاسلام وادعى
(8/19)
أن الأقرب جعل المشار اليه الكفرة المعهودين باعتبار اتصافهم بصفاتهم والافراد باعتبار الفريق أو المذكور ومحل الكاف والنصب على أنه المفعول الثاني لجعلنا قدم عليه لافادة التخصيص كما في قوله سبحانه : كذلك كنتم من قبل والأول أكابر مجرميها والظرف لغو أي ومثل أولئك الكفرة الذين هم صناديد مكة ومجرميها جعلنا في كل قرية أكابرها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزينا لهم أعمالهم مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكر فيها اه ولا يخفى بعده
وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم وقريء أكبر مجرميها وهذا تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وقوله سبحانه : ويمكرون الا بأنفسهم اعتراض على سبيل الوعد له عليه الصلاة و السلام والوعيد للكفرة الماكرين أي وما يحيق غائلة مكرهم إلا بهم وما يشعرون
321
- حال من ضمير يمكرون أي انما يمكرون بانفسهم والحال أنهم ما يشعرون بذلك أصلا بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم واذا جاءتهم ءاية رجوع الى بيان حال مجرمي أهل مكة بعد ما بين بطريق التسلية حال غيرهم فان العظيمة المنقولة انما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي واذا جاءتهم آية بواسطة الرسول عليه الصلاة و السلام
قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله قال شيخ الاسلام : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى يوحى الينا ويأتينا جبريل عليه السلام فيخبرنا أن محمدا عليه الصلاة و السلام صادق كما قالوا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا وعن الحسن البصري مثله وهذأ كما ترى صريح في أن ماعلق بايتاء ما أوتي الرسل عليهم السلام هو إيمانهم برسول الله صلى الله عليه و سلم وبما أنزل اليه إيمانا حقيقيا كما هو المتبادر منه عند الاطلاق خلا أنه يستدعي أن يحمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وأن يصرف الرسالة في وقله سبحانه : الله أعلم حيث يجعل رسالته عن ظأهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه السلام بالوجه المذكور ويراد بجعلها تبليغها الى المرسل اليه لا وضعها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتى كونه جوابا عن اقتراحهم وردا له بأن كون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى الى الرسول عليه الصلاة و السلام حتى يأتينا جبريل بالذات عيانا كما يأتي الرسل فيخبرنا بذلك ومعنى الرد الله أعلم بمن يليق بارسال جبريل عليه السلام اليه لأمر من الأمور ايذانا بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريف وفيه من التمحل ما لا يخفى
وأنت تعلم أنه لا تمحل في حمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي بل في العدول عن قول لن نؤمن حتى نجعل رسلا مثلا الى ما في النظم الكريم نوع تأييد لهذا الحمل نعم صرف الرسالة عن ظاهرها وحمل الجعل على التبليغ لا يخلوا عن بعد ولعل الأمر فيه سهل ويفهم من كلام البعض أن مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وان لم يستدع تلك الرسالة الا أنه قريب من منصبها فيصلح ما ذكر جوابا بدون حاجة الى الصرف والحمل المذكورين وفيه ما فيه وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل حين قال : زاحمنا بني مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى اليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا حتى يأتينا وحي
(8/20)
كما يأتيه وقال الضحاك : سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله سبحانه : بل يريد كل أمريء منهم أن يؤتى صحفا منشرة قال الشيخ : ولا يخفى ان كل واحد من هذين القولين وان كان مناسبا للرد المذكور لكنه يقتضي أن يراد بالايمان المعلق بايتاء مثل ما أوتي الرسل مجرد تصديقهم برسالته صلى الله عليه و سلم في الجملة من غير شمول لكافة الناس وأن يكون كلمة حتى في قول اللعين حتى يأتينا وحي كما يأتيه الخ غاية لعدم الرضى لا لعدم الاتباع فانه مقرر على تقديري اتيان الوحي وعدمه فالمعنى لن نؤمن رسالته أصلا حتى نؤتى نحن النبوة مثل ما أوتي رسل الله أوإيتاء مثل إيتاء رسل الله ولا يخفى أنه يجوز أن تكون في كلام اللعين غاية أيضا على أن المراد به مجرد الموافقة وفعل مثل ما يفعله صلى الله عليه و سلم من توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام لاقفو الاثر بالائتمار على أن اللعين انما طلب اتيان وحي كما يأتي النبي صلى الله عليه و سلم وليس ذلك نصا في طلب الاستقلال المنافي للاتباع
ولعل مراده عليه اللعنة المشاركة في الشرف بحيث لا ينحط عنه عليه الصلاة و السلام بالكلية ويمكن أن يدعي أيضا أن هؤلاء الكفرة لكون كل منهم أبا جهل بما يقتضيه منصب الرسالة لا يأبون كون الرسولين يجوز أن يبعث أحدهما الى الآخر ويلزم احدهما امتثال أمر الآخر واتباعه وان كان مشاركا له في أصل الرسالة فليفهم وقيل : ان الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لاني أكبر منك سنا وأكثر مالا وولدا فنزلت هذه الآية وتعقبه الشيخ قدس سره انه لا تعلق له بكلامهم المردود الا أن يراد بالايمان المعلق بما ذكر مجرد الايمان بكون الآية النازلة وحيا صادقا لا الايمان بكونها نالة اليه عليه الصلاة و السلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا : لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نرولها الينا لا إليه لانا نحن المستحقون دونه فان ملخص معنى قوله : لو كانت النبوة حقا الخ لو كان ماتدعيه من النبوة حقا لكنت أنا النبي لا أنت وأدا لم يكن الأمر كذلك فليست بحق ومآله تعليق الايمان بحقية النبوة بكون نفسه نبيا
وأنت تعلم أن اطلاق النبوة وقولهم رسل الله ليس بينهما كمال الملاءمة بحسب الظاهر كما لا يخفى فالحق سقوط هذا القول عن درجة الاعتبار وإن روي مثله عن ابني جريج لما في تطبيقه على ما في الآية من مزيد العناية
و مثل ما أوتي نصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتى نؤتاهاإيتاء مثل إيتاء رسل الله وإضافة الايتاء اليهم منكرون لايتائه عليه الصلاة و السلام وحيث مفعول لفعل مقدر أي يعلم وقد خرجت عن الظرفية بناء على القول بتصرفها ولا عبرة بمن أنكره والجملة بعدها كما نص عليه أبو علي في كتاب الشعر صفة لها واضافتها إلى ما بعدها حيث استعملت ظرفا وقال الرضي : الأولى أن حيث مضافة ولا مانع من اضافتها وهي اسم إلى الجملة وبحث فيه ولا يجوز فيها هنا عند الكثير أن تكون مجرورة بالاضافة لأن أفعل بعض ما يضاف اليه ولا منصوبة بأفعل نصب الظرف لأن علمه تعالى غير مقيد بالظرف وممن نص على ذلك ابن الصائغ وجوز بعضهم الثاني ورد ما علل به المنع منه بان يجوز جعل تقييد علمه تعالى بالظرف مجازيا باعتبار ما تعلق به بل ذلك أولى من أخراج حيث عن الظرفية فانه إما نادر أو ممتنع
وجملة الله أعلم الخ استئناف بياني والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله تعالى بمحض الكرم والجود على من
(8/21)
كمل استعداده ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الايجاب الذي يقوله الفلاسفة لأنه سبحانه إن شاء أعطى ذلك وان شاء أمسك وان استعد المحل وما في المواقف من أنه لا يشترط في الارسال الاستعداد الذاتي بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء محمول على الاستعداد الذاتي الموجب فقد جرت عادة الله تعالى ان يبعث من كل قوم أشرفهم وأطهرهم جبلة وتمام البحث في موضعه
وقرأ اكثر السبعة رسالاته بالجمع وعن بعضهم أنه يسن الوقف على رسل الله وأنه يستجاب الدعاء بين اةيتين ولم أر في ذلك ما يعول عليه سيصيب الذين أجرموا استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أملوه والسين للتأكيد ووضع الموصول موضع الضمير لمزيد التشنيع وقيل : إشعارا بعلية مضمون الصلة أي يصيبهم البتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عز النبوة وشرف الرسالة صغار أي ذل عظيم وهو أن بعد كبرهم عند الله يوم القيامة
وقيل : من عند الله وعلين أكثر المفسرين كما قال الفراء واعترضه بانه لا يجوز في العربية أن تقول جئت عند زيد وأنت تريد من عند زيد وقيل : المراد أن ذلك في ضمانه سبحانه أو ذخيرة لهم عنده وهو جار مجرى التهكم كما لا يخفى وعذاب شديد في الآخرة أو في الدنيا بما كانوا يمكرون
421
- أي بسبب مكرهم المستمر أو بمقابلته وحيث كان هذا من أعظم مواد إجرامهم صرح بسببه فمن يرد الله أن يهديه أي يعرفه طريق الحق ويوفقه للايمان وقالت المعتزلة المراد بهديه إلى الثواب أو الى الجنة أو يثيبه على الهدى أو يزيده ذلك يشرح صدره للاسلام فيتسع له وينفسح وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه كما أشار اليه صلى الله عليه و سلم حين قيل له : كيف الشرح يا رسول الله فقال : نور يقذف في الصدر فينشرح له وينفسح فقيل : هل لذلك من آية يعرف بها يا رسول الله فقال عليه الصلاة و السلام الانابة إلى ادر الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت
ومن يرد أن يضله 9 أي يخلق فيه الضلالة لسوء اختياره وقيل : المراد يضله عن الثواب أو عن الجنة أو عن زيادة الايمان أو يخذله ويخلي بينه وبين ما يريده يجعل صدره ضيقا حرجا بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد يكون فيه للخير منفذ وقرأ ابن كثير ضيقا بالتخفيف ونافع وأبو بكر عن عاصم حرجا بكسر الراء أي شديد الضيق والباقون بفتحها وصفا بالمصدر للمبالغة وأصل معنى الحرج كما قال الراغب مجتمع الشيء ومنه قيل للضيق حرج وقال بعض المحققين : أصل معناه شدة الضيق فان الحرجة غيضة أشجارها ملتفة بحيث يصعب دخولها
وأخرج ابن حميد وابن جرير وغيرهما عن أبي الصلت الثقفي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ حرجا بفتح الراء وقرأ بعض ما عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حرجا بكسرها فقال عمر : أبغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا وليكن مدلجيا فاتوه به فقال له عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الاشجار التي لا تصل اليها راعية ولا وحشية ولا شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل اليه شيء من الخير كأنما يصعد في السماء استئناف أو حال من ضمير الوصف أو وصف آخر والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه فان صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة
(8/22)
الاستطاعة وفيه تنبيه على أن الايمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود والامتناع في ذلك عادي وعن الزجاج معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه وأصل يصعد يتصعد وقد قريء به فادغمت التاء في الصاد
وقرأ ابن كثير يصعد وأبو بكر عن عاصم يصاعد وأصله أيضا يه ما تقدم
كذلك إشارة إلى الجعل المذكور بعده على ما مر تحقيقه أو إشارة إلى الجعل السابق أي مثل ذلك الجعل أي جعل الصدر حرجا على الوجه المذكور يجعل الله الرجس أي العذاب أو الخذلان
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال : الرجس ما لا خير فيه وقال الراغب : الرجس الشيء القذر وقال الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة وأصله على ما قيل من الارتجاس وهو الاضطراب على الذين لا يؤمنون
521
- أي عليهم ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل وهذا أي ماء به القرآن كما روي عن ابن مسعود أو الاسلام كما روي عن ابن عباس أو ما سبق من التوفيق والخذلان كما قيل صراط ربك أي طريقة الذي ارتضاه او عادته وطريقته التي اقتضتها حكمته ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضمير المخاطب من اللطف مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ أو عادلا مطردا وهو إا حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل هذا أبوك عطوفا أو مؤسسة والعامل فيها معنى الاشارة أو ها التي للتنبيه قد فصلنا الآيات بيناها مفصلة لقوم يذكرون
621
- أي يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كل الحوادث بقضائه سبحانه وقدره وأنه جل شأنه حكيم عادل في جميع أفعاله وتخصيص هؤلاء القوم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك التفصيل لهم أي لهؤلاء القوم دار السلام أي الجنة كما قال قتادة والسلام هو الله تعالى كما قال الحسن وابن زيد والسدي واضافة الدار إليه سبحانه للتشريف وقال الزجاج والجبائي : السلام بمعنى السلامة أي دار السلامة من الآفات والبلايا وسائر المكاره التي يتلقاها أهل النار وقيل هو بمعنى التسليم أي دار تحيتهم فيها سلام عند ربهم أي في ضمانه وتكفله التفضيلي أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنه ذلك غيره والجملة مستأنفة وقيل صفة لقوم وهو وليهم أي محبهم أو ناصرهم بما كانوا يعملون
721
- أي بسبب أعمالهم الصالحة أو متوليهم بجزائها بان يتولى ايصال الثواب اليهم
هذا ومن باب الاشارة في الآيات وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا لتفاوت مراتب أرواحهم في الصفاء والكدورة والنور والظلمة والقرب والبعد ومن هنا قيل والجاهلون لاهل العلم أعداء وكلما اشتد التفاوت اشتدت العداوة وزاد الايذاء الناشيء منها ولهذا ورد في بعض الآثار ما أوذي نبي مثل ما أوذيت وتسبب هذه العداوة مزيد التوجه إلى الحق جل شأنه والاعراض عن الملاذ والحرص على الفضيلة التي لا يقهر بها العدو والاحتراز عما يوشك أن يكون سببا للطعن إلى غير ذلك ولتصغى أي تميل اليه أفئدة الذين لايؤمنون وهم المحجوبون لوجود المناسبة وليرضوه بمحبتهم إياه وليقترفوا ما هم مقترفون من اسم التعاضد والتظاهر أفغير الله
(8/23)
ابتغيابتغي حكما بيني وبينكم وهو الذي أنزل اليكم الكتاب المعجز الجامع مفصلا فيه الحق والباطل بحيث لا يبقى معه مقال لقائل فطلب ما سواه مما لا يليق بعاقل ولا يميل اليه الا جاهل وتمت كلمة ربك أي تم قضاؤه في الأزل بما قضى وقدر صدقا مطابقا لما يقع وعدلا مناسبا للاستعداد قيل : صدقا فيما وعد وعدلا فيما أوعد لامبدل لكلماته لأنها على طرز ما ثبت في علمه والانقلاب محال وإن تطع أكثر من في الأرض أي من الجهة السفلية بالركون إلى الدنيا وعالم النفس والطبيعة يضلوك عن سبيل الله لانهم لا يدعون الا للشهوات المبعدة عن الله تعالى إن يتبعون أي ما يتبعون لكونهم محجوبين في مقام النفس بالاوهام والخيالات إلا الظن وإن هم إلا يخرصون بقياس الغائب على الشاهد وذروا ظاهر الاثم من الأقوال والافعال الظاهرة على الجوارح وباطنه من العقائد الفاسدة والعزائم الباطلة
وقال سهل ظاهر الاثم المعاصي كيف كانت وباطنه حبها وقال الشبلي ظاهر الاثم الغفلة وباطنه نسيان مطالعة السوابق وقال بعضهم ظاهر الاثم طلب الدنيا وباطنه طلب الجنة لأن الأمرين يشغلان عن الحق وكل ما يشغل عنه سبحانه فهو اثم وقيل : ظاهر الاثم حظوظ النفس وباطنه حظوظ القلب وقيل : ظاهر الاثم حب الدنيا وباطنه حب الجاه وقيل : ظاهر الاثم رؤية الأعمال وباطنه سكون القلب إلى الأحوال
وإن الشايطين وهم المحجوبون بالظاهر عن الباطن ليوحون إلى أوليائهم أي من يواليهم من المنكرين ليجادلوكم بما يتلقونه من الشبه وإن أطعتموهم وتركتم ما أنتم عليه من التوحيد إنكم لمشركون مثلهم أومن كان ميتا بالجهل وهوى النفس أو الاحتجاب بصفاتها فأحييناه بالعلم ومحبة الحق أو كشف حجب صفاته وجعلنا له نورا من هدايتنا وعلمنا أو نورا من صفاتنا أو من كان ميتابالمجاهدات فأحييناه بروح المشاهدات أو ميتا بشهوات النفس فأحييناه بصفاء القلب أو ميتا برؤية الثواب فأحييناه برؤية المآب إلى الوهاب وجعلنا له نور الفراسة أو الارشاد وقال جعفر الصادق : المعنى أو من كان ميتا عنا فأحييناه بنا وجعلناه اماما يهدي بنور الاجابة ويرجع اليه الضلال وقال ابن عطاء : أومن كان ميتا بحياة نفسه وموت قلبه فأحييناه باماتة نفسه وحياة قلبه وسهلنا عليه سبل التوفيق وكحلناه بانوار القرب فلا يرى غيرنا ولا يلتفت إلى سوانا كمن مثله في الظلمات أي ظلمات نفسه وصفاته وأفعاله ليس بخارج منها لسوء استعداده كذلك زين للكافرين المحجوبين ما كانوا يعملون فاحتجبوا به وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ويكون ذلك سببا لمزيد كمال العارفين حسبما تقدم في جعل الاعداء للانبياء عليه السلام ويمكن أن يكون اشارة إلى ما في الانفس أي وكذلك جعلنا في كل قرية وجود الانسان التي هي البدن أكابر مجرميها من قوى النفس الامارة ليمكروا فيها باضلال القلب وما يمكرون إلا بأنفسهم لأن عاقبة مكرهم راجع اليهم ءفاقا وأنفسا وإذا جاءتهم على يد الرسول عليه الصلاة و السلام آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله من الرسالة إليهم الله أعلم حيث يجعل رسالته وذلك حيث خزينة الاستعداد عامرة والنفس قدسية سيصيب الذين أجرموا باحتجاب عن الحق صغار عند الله أي ذل بذهاب قدرهم حين خراب ابدانهم وعذاب شديد بحرمانهم الملائم ووصول النافي اليهم في المعاد الجسماني فمن يرد الله أن يهديه اليه ويعرفه به يشرح صدره للاسلام بأن يقذف فيه نورا من أنواره فيعرفه بذلك ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا
(8/24)
حرجا لايدخلحرجا لايدخل فيه شيء من أنوار شمس العرفان كأنما يصعد في السماء نبوا وهربا عن قبول ذلك لأنه خلاف استعداده وقيل : المعنى فمن يرد الله أن يهديه للتوحيد يشرح صدره لقبول نور الحق واسلام الوجود إلى الله سبحانه بكشف حجب صفات نفسه عن وجه قلبه الذي يلي النفس فينفسخ لقبول نور الحق ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا باستيلاء النفس عليه وضغطها له كما يصعد في سماء روحه مع تلك الهيآت البدنية المظلمة وذلك أمر محال وقيل غير ذلك كذلك يجعل الله الرجس أي رجس التلوث بنتن الطبيعة على الذين لا يؤمنون وهم المحجوبون عن الحق و هذا أي طريق التوحيد أو الجعل صراط ربك أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته التي اقتضتها حكمته قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون المعارف والحقائق المركوزة في استعدادهم لهم دار السلام عند ربهم هي ساحة جلاله وحضائر قدس صفاته ومساقط صفاته وقوع أنوار جماله المنزهة عن خطر الحجاب وعلة المتاعب وطريان العذاب وهو وليهم بنعت رعايتهم وكشف جماله لهم أو وليهم يحفظهم عن رؤية الغير في البين ويجوز أن يكون المعنى لهم دار السلامة من كل خوف وآفة حيث يكون العبد فيها في ظل الذات والصفات وريف البقاء بعد الفناء والكثير على أن السلام من اسمائه تعالى فما ظنك بدار تنسب اليه جل شانه : إذا نزلت سلمى بواد فماؤه زلال وسلسال وأشجاره ورد نسال الله تعالى أن يدخلنا هاتيك الدار بحرمة نبيه المختار صلى الله عليه و سلم ويوم يحشرهم جميعا نصب على الظرفية والعامل فيه مقدر أي اذكر أو تقول أو كان ما لا يذكر لفظاعته وجوز أن يكون مفعولا به لمقدر أيضا أي اذكر ذلك اليوم والضمير المنصوب لمن يحشر من الثقلين وقيل : للكفار وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب يحشر بالياء والباقون بنون العظة على الالتفات لتهويل الأمر
وقوله سبحانهيا معشر الجن على إضمار القول والمعشر الجماعة أمرهم واحد وقال الطبرسي : الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنها تمام العقد والمراد بالجن أو بمعشرهم على ما قيل الشياطين وذكر بعض الفضلاء أن الجن يقال على وجهين أحدهما للروحانيين المستترين عن الحواس كلها فيدخل فيهم الملائكة والشياطين وثانيهما للروحانيين مما عدا الملائكة وقال آخرون : إن الروحانيين ثلاثة أخبار وهم الملائكة وأشرارهم وهم الشياطين وأوساط فيهم أخبار وأشرار وأياما كان فالمقصود بالنداء الاشرار الذين يغوون الناس فانهم أهل الخطاب بقوله سبحانه : قد استكثرتم من الانس أي أكثرتم من اغوائهم وإضلالهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والزجاج فالكلام على حذف مضاف أو منهم بان جعلتموهم أتباعهم فحشروا معكم كما يقال : استكثر الامير من الجنود وهذا بطريق التوبيخ والتقريع
قيل : وإنما ذكر المعشر في جانب الجن دون جانب الأنس لما أن الاغواء كثيرا ما يقتضي التظاهر والتعاون وفي المعشر نوع إيماء اليه ولا كذلك الغوى وقال أولياؤهم أي الذين أطاعوهم واتبعوهم من الانس أي الذين هم من الانس أو كائنين منهم فمن إا لبيان الجنس أو متعلقة بمحذوف وقع حالا من أولياء ربنا استمتع بعضنا ببعض أي انتفع الانس بالجن حيث دلوهم على الشهوات وما يتوصل به اليها
(8/25)
والجن بالانس حيث اتخذوهم قادة ورؤساء واتبعوا أمرهم فادخلوا عليهم السرور بذلك
وعن الحسن وابن جريج والزجاج وغيرهم أن استمتاع الانس بهم أنهم كانوا إذا سافر أحدهم وخاف الجن قال : أعوذ بسيد هدا الوادي واستمتاعهم بالانس اعترافهم بأنهم قادرون على إعاذتهم واجارتهم
وعن محمد بن كعب أن المراد باستمتاع بعضهم ببعض طاعة بعضهم بعضا وموافقته لهم وقال البلخي يحتمل أن يكون الاستمتاع مقصورا على الانس فيكون الانس قد استمتع بعضهم ببعض الجن دون الجن
وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وهو يوم القيامة على ماقاله غير واحد وعن الحسن والسدي وابن جريج أنه الموت والأول أولى وإنما قال الاولياء ما قالوا اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين وابتاع الهوى وتكذيب البعث واظهارا للندامة عليها وتحسرا على حالهم وستسلاما لربهم وإلا ففائدة الخبر ولازمها مما لا تحقق له
قيل : ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للايذان بأن المضلين قد افحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا
وقريء آجالنا بالجمع و الذي بالتذكير والافراد قال ابو علي : هو جنس أو وقع الذي موقع التي
قال استئناف بياني كأنه قيل : فماذأ قال الله تعالى حينئذ فقيل قال : النار مثواكم أي منزلكم ومحل إقامتكم أو ذات ثوائكم على أن المثوى اسم مكان أو مصدر خالدين فيها حال من ضمير الجمع والعامل فيها مثوى إن كان مصدرا وقدروا عاملا أي يبوون خالدين إن كان مثوى اسم مكان لأنه حينئذ لا يصلح للعمل وقال أبو البقاء : إن العامل في الحال على هذا التقدير معنى الاضافة وردوه بأن النسبة الاضافية لا تعمل ولا يصح أن تنصب الحال إلا ما شاء الله نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه و سلم وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي وأن ما بمعنى من ولا يخفى أن استعمال ما للعقلاء قليل فيبعد ذلك كما يبعد شكول ما تقدم للمستثنى وقيل : إن ما مصدرية وقتية على ما هو الظاهر والمراد إلا الوقت الذين ينقلون فيه إلى الزمهرير فقد روي أنهم يدخلون واديا من الرمهرير ما يميز بين أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ورد بأن فيه صرف النار من معناها العلمي وهو دار العذاب إلى اللغوي وأجيب عنه بأنه لا بأس به إذا دعت اليه ضرورة وقيل عليه : إن المعترض لا يسلم الضرورة غير هذا التأويل مع أن قوله سبحانه : مثواكم يقتضي ما ذهب اليه المعترض بحسب الظاهر وقيل : إن لهم وقتا يخرجون فيه من دار العذاب وذلك أنه روي أنهم يفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم وإليه الاشارة بقوله تعالى : فاليوم الذين آنوا من الكفار يضحكون
وأنت تعلم أن ظواهر الآيات صادحة بعدم تخفيف العذاب عن الكفار بعد دخولهم النار وفي إخراجهم هذا تخفيف أي تخفيف وإن كان بعده ما يشيب منه النواصي ولعل الخبر في ذلك غير صحيح والمشهور أن المرائين يدنون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأو ما أعد الله تعالى لعباده فيها نودوا ان اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها الخبر بتمامه وقد قدمناه ويكون ذلك قبل إدخالهم النار كما لا يخفى على من راجع الحديث
وقيل : المستثنى زمان امهالهم قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم ورده أبو حيان بأنه
(8/26)
في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج والمخرج منه فإذا قلت قام القوم إلا زيدا فان معناه إلا زيدا ما قام ولا يصح أن يكون المعنى الا زيدا ما يقوم في المستقبل وكذلك ساضرب القوم الا زيدا معناه الا زيدا فاني لا أضربه في المستقبل ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا فاني ما ضربته وأجيب بأن هذا إذا لم يكن الاستثناء منقطعا أما إذا كان منقطعا فانه يسوغ كقوله تعالى : لايذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي لكن الموتة الاولى فانهم ذاقوها فلعل القائل بان المستثنى زمان أمهالهم يلتزم انقطاع الاستثناء كما في هذه الآية ولا محذور فيه مع ورود مثله في القرآن وفيه نظر ظاهر وذهب الزجاج الى وجه لطيف إنما يظهر بالبسيط فقال : المراد والله تعالى أعلم إلا ما شاء الله من زيادة العذاب ولم يبين وجه استقامة الاستثناء والمستثنى على هذا التأويل قال ابن المنير : ونحن نبينه فنقول : العذاب والعياذ بالله عز و جل على درجات متفاوتة فكأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة تعد خارجة عنه ليست من جنس العذاب والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما عبروا عن كثرة الفعل برب وقد وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة وذلك أمر يعتاد في لغة العرب وقد حام أبو الطيب حوله فقال : ولجدت حتى كدت تبخل حائلا لمنتهى ومن السرور بكاء فكان هؤلاء إدا نقلوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج عن اسم العذاب المطلق حتى تسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلأ بعد هذا البسط وفي تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يؤيده انتهى ونقل عن بعضهم أن هذا الاستثناء معذوق بمشيئة الله تعالى رفع العذاب أي يخلدون إلى أن يشاء الله تعالى لو شاء وفائدته إظهار القدرة والاذعان بان خلودهم إنما كان لأن الله تعالى شأنه قد شاءه وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم ولو عذبهم لا يخلدهم وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز و جل وفي الآية على هذا دفع في صدور المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة وأنه لا يجوز في العقل مقتضى ذلك ولعل هذا هو الحق الذي لا محيص عنه وفي معناه ما قيل : المراد المبالغة في الخلود بمعنى أنه لا ينتفي الا وقت مشيئتة الله تعالى وهو مما لا يكون مع ايراده في صورة الخروج واطماعهم في ذلك تهكما وتشديدا للامر عليهم ومن أفاضل العصريين الاكابر من ادعى ذلك الوجه له وانه قد خلت عنه الدفاتر وهو مذكور في غير ما موضع فان كان لا يدري فتلك مصيبة وان كان يدري فالمصيبة أعظم وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في ذلك عند قوله سبحانه : الا ما شاء ربك
إن ربك حكيم في التعذيب والاثابة أو في كل أفعاله عليم
821
- بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من الجزاء أو بكل شيء ويدخل ما ذكر دخولا أوليا وكذلك أي مثل ما سبق من تمكين الجن من اغواء الانس واضلالهم أو مثل ما سبق نولي بعض الظالمين من الانس بعضا آخر منهم أي نجعلهم بحيث يتولونهم ويتصرفون فيهم في الدنيا بالاغواء والاضلال وغير ذلك واستدل به على أن الرعية إذا كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم وفي الحديث كما تكونوا يولى عليكم أو المعنى نجعل بعضهم قرناء
(8/27)
بعض في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقتراف ما يؤدي اليه من القبائح كما قيل وروي مثله عن قتادة بما كانوا يكسبون
921
- اي بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي يا معشر الجن والانس شروع في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين وتقريعهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسهم ألم يأتكم في الدنيا رسل من عند الله عز و جل كائنة منكم أي من جملتكم لكن لا على أن يأتي كل رسول كل واحد من الامم ولا على أن أولئك الرسل عليهم السلام من جنس الفريقين مع بل على أن يأتي كل أمة رسول خاص بها وعلى أن تكون من الانس خاصة إذ المشهور أنه ليس من الجن رسل وأنبياء ونظيره في هدا قوله تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فانهما إنما يخرجان من الملح فقط كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى
والفراء قدر هنا مضافا لذلك أي من احدكم وقال غير واحد : المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل وقد ثبت أن الجن استمعوا للقرآن وأنذروا به قومهم فقد قال سبحانه : وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله عز و جل : ولوا إلى قومهم منذرين وعن الضحاك وغيره أن الله تعالى أرسل للجن رسلا منهم وصرح بعضهم أن رسولا منهم يسمى يوسف وظاهر الآية يقتضي إرسال الرسل إلى كل من المعشرين من جنسهم وادعى بعض قيام الاجماع على أنه لم يرسل إلى الجن رسول منهم وإنما أرسل اليهم من الانس وهل كان ذلك قبل بعثةنبينا عليه الصلاة و السلام أم لا الذي نص عليه الكلبي الثاني قال : كان الرسل يرسلون إلى الأنس حتى بعث محمد صلى الله عليه و سلم إلى الانس والجن يقصون عليكم آياتي التي أوحيتها اليهم والجملة صفة أخرى لرسل محققة لما هو المراد من ارسالهم من التبليغ والانذأر وقد حصل ذلك بالنسبة الى الثقلين وينذرونكم أي يخوفونكم بما في تضاعيفها من القوارع لقاء يومكم هذا أي يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه ما عاينوا قالوا استئناف بياني والمقصود منه حكاية قولهم : كيف يقولون وكيف يعترفون شهدنا على أنفسنا أي بايتاء الرسل وقصهم وانذارهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب وقوله سبحانه : وغرتهم الحياة الدنيا مع ما عطف عليه اعتراض لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكاب القبائح التي ارتكبوها وألجاهم في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذاب وذم لهم بذلك وتسفيه لرأيهم فلا تكرار في الشهادتين أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئة واللذات الخسيسة الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل عليه السلام واجترأوا على ارتكاب ما يجرهم إلى العذاب المؤبد الذي انذروهم إياه وشهدوا في اةخرة على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا كافرين
31
- بالآيات والنذر واضطروا إلى الاستسلام لأشد العذاب وفي ذلك من تحسرهم وتحذير السامعين عن مثل صنيعهم ما مزيد عليه
ذلك اشارة إلى إتيان الرسل أو السؤال المفهوم من ألم يأتكم أو ما قص من أمرهم أعني شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب وهو إا مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره مقدر أو خبره قوله سبحانه : أن لم يكن ربك مهلك القرى بحذف اللام على أن أن مصدرية أو مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها وإا منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذو فعلنا ونحو ذلك وجوز أن
(8/28)
يكون ان لم الخ بدلا من اسم الاشارة وقوله تعالى : بظلم متعلق إما بمهلك أي بسبب ظلم أو بمحذوف وقع حالا من القرى أو متلبسة بظلم أو حالا من ربك أو من ضميره في مهلك والمراد مهلك أهل القرى إلا أنه تجوز في النسبة أو حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه ولا يأباه قوله تعالى : وأهلها غافلون
131
- لأن أصله وهم غافلون فلما حذف المضاف أقيم مقام ضميره
واعترض شيخ الاسلام على جعل بظلم حال من ربك أو من ضميره بأنه يأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بالجملة بعد وأورد عليه أنه قد يتصور الظلم مع عدم الغفلة بان يكون حال التيقظ ومقارنة الانقايد وان كان المراد ههنا هو الاهلاك حال الغفلة ففائدة التقييد تعيين المراد ولا يخفى حسنه ولا يخفى ما فيه واختار قدس سره من احتمالات المشار اليه وأوجه اعراب اسم الاشارة الثالث من كل قال : والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك او لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسل و كتاب وان قضي به بداهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أي لولا انتفاء كونه تعالى معذبا لهم قبل ارسال الرسل وانزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم اتيان الرسل اليهم كما في قوله سبحانه : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا لولا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى وانما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو اهلاك القرى قبل الانذأر مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا على ما اختاره أهل السنة في معناه لبيان كما نزاهته سبحانه على كلا التعذيبين من غير انذار على أبلغ وجه وآكده
ولا يخفى أن لما اختاره وجها وجيها خلا أن قوله فيما بعد : إن جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهم السلام وانذارهم وخبر المبتدأ محذوفا كما أطبق عليه الجمهور بمعزل عن مقتضى المقام ممنوع وعلى سائر الاحتمالات الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم بطريق تلوين الخطاب والظاهر أن انتفاء الاهلاك قبل الانذار لا يختص بالانس بل الجن أيضا لا يهلكون قبل انذارهم وان لم يشع اطلاق أهل القرى عليهم وهذا مبني على محض فضل الله تعالى عندنا والمعتزلة يقولون : يجب على الله تعالى أن لا يعذب قبل الانذار وقيام الحجة وبنوه على قاعدة الحسن والقبح العقليين وائمتنا يثبتون ذلك لكنهم لا يجعلونه مناط الحكم كما زعم المعتزلة ولكل من المكلفين جنا كانوا أو انسا درجات أي مراتب فيتناول الركات حقيقة أو تغليبا مما عملوا أي من اعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم أو من جزائها فمن إما ابتدائية أو تعليلية أو بيانية بتقدير مضاف وما ربك بغافل عما يعملون
231
- فلا يخفى عليه سبحانه عمل عامل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب
وقرأ ابن عامر تعملون بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ولو أريد شمول يعملون بالتحتية للمخاطب بان يراد جميع الخلق فلا مانع من اعتبار تغليب الغائب على المخاطب سوى أن ذلك لم يعهد مثله
(8/29)
في كلامهم وربك الغني اي لا غني عن كل شيء كائنا ما كان إلا هو سبحانه فلا احتياج له عز شأنه إلى العباد ولا إلى عبادتهم ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية من الاظهار في مقام الاضمار والاضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام من اللطف الجزيل والكلام مبتدأ وخبر وقوله سبحانه : ذو الرحمة خبر ءاخر وجوز أن يكون هو الخبر و الغني صفة أي الموصوف بالرحمة العامة فيترحم على العباد بالتكلف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي إلى ما شاء وفي ذلك تنبيه على أن ماتقدم ذكره من الارسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتوطئة لقوله سبحانه : إن يشأ يذهبكم أي ما به حاجة إليكم أصلا إن يشأ يذهبكم أيها العصاة أو أيها الناس بالاهلاك وفي تلوين الخطاب من تشديد الوعيد ما لا يخفى ويستخلف من بعدكم أي وينشيء من بعد إذهابكم ما يشاء من الخلق وإيثار ما على من لاظهار كمال الكبرياء واسقاطهم عن رتبة العقلاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين
331
- أي من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام لكنه سبحانه أبقاكم ترحما عليكم وما في كما مصدرية ومحل الكاف النصب على المصدرية أو الوصفية لمصدر الفعل السابق أي وينشيء إنشاء كأنشائكم او يستخلف استخلافا كائنا كانشائكم و من لابتداء الغاية وقيل : هي بمعنى البدل والشرطية استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة إن ما توعدون أي ان الذي توعدونه من القيامة والحساب والعقاب والثواب وتفاوت الدرجات والدركات وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي و ما اسم ان ولا يجوز أن تكون الكافة لأن قوله سبحانه : لات يمنع من ذلك كما قال أبو البقاء هو خبر ان والمراد أن ذلك لواقع لا محالة وإيثار آت على واقع لبيان كمال سرعة وقوعه بتصويره بصورة طالب حثيث لا يفوته هارب حسبما يعرب عنه قوله تعالى : وما أنتم بمعجزين
431
- أي جاعلي من طلبكم عاجزا عنكم غير قادر على إدراككم
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى وما أنتم بسابقين وإيثار صيغة الفاعل على المستقبل للايذان بقرب الاتيان والدوام الذي يفيده العدول عن الفعلية إلى الاسمية متوجه إلى النفي فالمراد دوام انتفاء الاعجاز لا بيان دوام انتفائه وله نظائر في الكتاب الكريم
قل يا قوم أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم أن يواجه الكفار بتشديد التهديد وتكرير الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه من غاية التصلب في الدين ونهاية الوثوق بامره وعدم المبالاة بهم أصلا اثر ما بين لهم حالهم ومآلهم أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار اعملوا على مكانتكم أي على غاية تمكنكم واستطاعتكم على أن المكانة مصدرمكن إذا تمكن أبلغ التمكن وجوز أن يكون ظرفا بمعنى المكان كالمقام والمقامة ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه ابن المنذر عنه بالناحية وتجوز به عن ذلك من فسره بالحالة أي اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها
وقرأ أبو بكر عن عاصم مكانتكم على الجمع في كل القرآن وزعم الواحدي أن الوجه الافراد وفيه نظر والمعنى اثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي إني عامل على مكانتي أي ثابت على الاسلام وعلى مصابرتكم
(8/30)
والأمر بالتهديد وإيراده بصيغة الأمر كما قال غير واحد مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عازما عليه فيحمله بالأمر على ما يؤدي اليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتفصى عنه وجعل العلامة الثاني ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية تشبيها لذلك المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لابد أن يكون ممن ضربت عليه الشقوة فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار أي أنكم لتعلمون ذلك لا محالة فسوف لتأكيد مضمون الجملة والعلم عرفاني فيتعدى إلى واحد ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها ومجموعهما ساد مسد مفعول العلم
والمراد بالدار الدنيا لا دار السلام كما قيل وبالعاقبة العاقبة الحسنى أي عاقبة الخير لأنها الأصل فانه تعالى جعل الدنيا مزرعة اةخرة وقنطرة المجاز اليها وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن الخاتمة
وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها ويجوز أن تكون ما موصولة فمحلها النصب على أنها مفعول تعلمون أي فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار وفيه مع الانذار المستفاد من التهديد انصاف المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره وقرأ حمزة والكسائي يكون بالتحتية لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي إنه أي الشأن لا يفلح الظالمون
531
- أي لا يظفروا بمطلوبهم وإنما وضع الظلم موضع الكفر لأنه أعم منه وهو أكثر فائدة لأنه إذا لم يفلح الظالم فكيف الكافر المتصف بأعظم أفراد الظلم وجعلوا أي مشركو العرب ولله مما ذرأ أي خلق قال الراغب : الذرء إظهار الله تعالى ما أبدعه يقال : ذرأ الله تعالى الخلق أي أوجد أشخاصهم وقال الطبرسي : الذرء الخلق على وجه الاختراع وأصله الظهور ومنه ملح ذراني لظهور بياضه ومن متعلقة بجعل وما موصولة وجملة ذرأ صلته والعائد محذوف وقوله سبحانه : من الحرث والأنعام متعلق بذرأ
وجوز أبو البقاء أن يكون مما متعلقا بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى نصيبا وأن يكون من الحرث حالا أيضا من ما أو من العائد المحذوف و نصيبا على كل تقدير مفعول جعل وهو متعد لواحد وجوز أن يكون متعديا لاثنين أولهما مما ذرأ على أن تبعيضية وثانيهما نصيبا وقيل : الأمر بالعكس
واعترض بأنه لا يساعد سداد المعنى وأيا ما كان فهذا شروع في تقبيح أحوالهم الفظيعة بحكاية أقوالهم وأفعالهم الشنيعة أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : إنهم كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله تعالى منه جزءا وجزءا للوثن فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه فان سقط شيء مما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا مما جعلوه لله تعالى جعلوه للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله تعالى فسقى ما سموه للوثن تركوه للوثن وكانوا يحرمون من أنعامهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمون لله سبحانه وروي أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث ونتاج لله تعالى فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين وأشياء منهما لآلهتهم فينفقون منها لسدنتها
(8/31)
ويذبحون عندها فاذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكيا ناميايزيد في نفسه خيرا رجعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن الله تعالى غني وما ذأك إلا لفرط جهلهم حيث أشركوا الخالق القادر جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه سبحانه بأن جعلوا الزاكي له وأختار هذ الرواية الزجاج وغيره
وأصل النظم الكريم وجعلوا لله ألخ ولشركائهم فطوي ذكر الشركاء لأنه على ما قيل أمر محقق عندهم وأشير الى تقديره بالتصريح به في قوله تعالى فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا أي الأوثان وسموهم شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فهم شركاؤهم فيها ويحتمل أن الاضافة لأدنى ملابسة حيث أنهم زعموا كونهم شركاء لله تعالى وقرأ الكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش بزعمهم بضم الزاي وهو لغة فيه وجاء الكسر أيضا فهو مثلث كالود وقد تقدم معناه وإنما قيد به الأول للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس يجعل لله سبحانه غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله تعالى وقيل : لليذان بأن ذلك مما أخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به ورد بأن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني
وجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على أن معنى قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا يعلمون بمقتضاه الذي هو اختصاصه به تعالى فقوله سبحانه : فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم بيان وتفصيل له أي فماعينوه لشركائهم لا يصرف الى الوجوه التي يصرف اليها ما عينوه لله تعالى وما عينوه لله تعالى يصرف إلى الوجوه التي يصرف اليها ما عينوه لآلهتهم ساء ما يحكمون
631
- فيما فعلوا من إيثار مخلوق عاجز عن كل شيء على خالق قادر على كل شيء وعملهم بما لم يشرع لهم و ساء يجري مجرى بئس فما سواء كانت موصولة أو موصوفة فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم هذا وقيل : إن ساء هنا غير الجارية مجرى بئس فلا تحتاج إلى مخصوص بالذم بل إلى فاعل فقط فان فاعل الجارية يجب أن يكون معرفا باللام أو مضافا في الأشهر واختاره بعض المحققين
وكذلك أي ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربات من الحرث والانعام بين الله تعالى وبين شركائهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهود من الشياطين زين لكثير من المشركين أي مشركي العرب قتل أولادهم فكانوا يئدون البنات الصغار بأن يدفنوهن أحياء وكانوا في ذلك على ما قيل فريقين أحدهما يقول : إن الملائكة بنات الله سبحانه فالحقوا البنات بالله تعالى فهو أحق بها والآخر يقتلهن خشية الانفاق وقيل : خشية ذلك والعار وهو المروي عن الحسن وجماعة وقيل : السبب في قتل البنات أن النعمان بن المنذر أغار على قوم فسبى نساءهم وكانت فيهن بنت قيس بن عاصم ثم اصطلحوا فارادت كل أمرأة منهن عشيرتها غير ابنة قيس فانها أرادت من سباها فحلف قيس لا تولد له بنت إلأ وأدها فصار ذلك سنة فيما بينهم وقيل : إنهم كانوا ينذر أحدهم إذا بلغ بنوه عشرة نحر واحد منهم كما فعله عبد المطلب في قصته المشهورة واليها أشار صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله : أنا ابن الذبيحين وقتل مفعول زين مضاف إلى أولادهم من اضافة المصدر إلى مفعوله
وقوله سبحانه : شركاؤهم فاعل له والمراد بالشركاء إما الجن أو السدنة ووسموا بذلك لأنهم شركاء
(8/32)
في أموالهم كما مر آنفا أو لاطاعتهم له كما يطاع الشريك لله عز اسمه ومعنى تزيينهم لهم ذلك تحسينه لهم وحثهم عليه وقرأ ابن عامر زين بالبناء للمفعول الذي هو القتل ونصب الاولاد وجر الشركاء باضافة القتل إليه مفصولا بينهما بمفعوله وعقب ذلك الزمخشري بأنه شيء لو كان في مكان الضروريات وهو الشعر لكان سمجا مردودا كما سمج
ورد زج القلوص أبي مزادة
فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في الكلام المعجز ثم قال : والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوبا بالياء ولو قرأ بجر الاولاد والشركاء لأن الاولاد شركاؤهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب اه
وقد ركب في هذا الكلام عمياء وتاه في تيهاء فقد تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا وسماعا كما ذهب اليه بعض الجهلة فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه وأخذ يبين منشأ غلطه وهذا غلط صريح يخشى منه الكفر والعياذ بالله تعالى فان القراءات السبعة متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه و سلم فتغليط شيء منها في معنى تغليط رسول الله صلى الله عليه و سلم بل تغليط لله عز و جل نعمذ بالله سبحانه من ذلك وقال أبو حيان : عجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة نظيرها في كلام العرب في غير ما بيت وأعجب بسوء هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذ الأمة لنقل كتاب الله تعالى شرقا وغربا وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم اه وقد شنع عليه أيضا غير واحد من الأئمة ولعل عذره في ذلك جهله بعلمي القراءة والأصول
وقد يقال : إنه لا يفرق بين المضاف الذي يعمل وبين غيره ومحققوا النحاة قد فرقوا بينها بأن الثاني يفصل فيه بالظرف والأول إذا كان مصدرا أو نحوه يفصل بمعموله مطلقا لأن اضافته في نية الانفصال ومعموله مؤخر رتبة ففصله كلا فصل فلذا ساغ ذلك فيه ولم يخص بالشعر كغيره وممن صرح بذلك ابن مالك وخطأ الزمخشري بعدم التفرقة وقال في كافيته : وظرف أو شبيهه قد يفصل جزئي اضافة وقد يستعمل فصلان في اضطرار بعض الشعرا وفي اختيار قد أضافوا المصدرا لفاعل من بعد مفعول حجز كقول بعض القائلين للرجز بفرك حب السنبل الكنافج بالقاع فرك القطن المحالج وعمدتي قراءة ابن عامر وكم لها من عاضد وناصر انتهى وبعد هذا كله لو سلمنا أن قراءة ابن عامر منافية لقياس العربية لوجب قبولها أيضا بعد أن تحقق صحة نقلها كما قبلت أشياء نافت القياس مع أن صحة نقلها دون صحة القراءة المذكورة بكثير وما ألطف قول الامام على ما حكاه عنه الجلال السيوطي وكثير ما أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن فاذا استشهد في تقريره ببيت مجهول فرحوا به وأنا شديد التعجب منهم لأنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى ومما ذكرنا يعلم ما في قول السكاكي : لايجوز الفصل بين المضاف والمضاف اليه بغير الظرف ونحو قوله :
بين ذراعي وجبهة الأسد
محمول على حذف المضاف اليه من الأول ونحو قراءة من قرأ قتل
(8/33)
اولادهماولادهم شركائهم لاستنادها إلى الثقات وكثرة نظائرها ومن أرادها فعليه بخصائص ابن جني محمولة عندي على حذف المضاف اليه من الأول واضمار المضاف في الثاني كما في قراءة من قرأ والله يريد الآخرة بالجر أي عرض الآخرة وما ذ : رت وإن كان فيه نوع بعد إلا أن تخطئة الثقات والفصحاء أبعد اه وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ببناء زين للمفعول ورفع قتل وجر اولادهم ورفع شركائهم باضمار فعل دل عليه زين كما في قوله : لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح كأنه لما قيل : زين لهم قتل أولادهم من زينه فقيل : زينه شركاؤهم ليردوهم أي ليهلكوهم بالاغواء وليلبسوا عليهم دينهم أي ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين اسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك أو دينهم الذي وجب ان يكونوا عليه وقيل : المعنى ليوقعوهم في دين ملتبس واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين لأن مقصودهم من اغوائهم ليس إلا ذلك وللعاقبة إن كان من السدنة إذ ليس محط نظرهم ذلك لكنه عاقبة ولو شاء الله أي عدم فعلهم ذلك ما فعلوه أي ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل أو ما فعل الشركاء من التزيين أو الارداء واللبس أو ما فعل الفريقان جميع ذلك على إجراء الضمير المفرد مجرى اسم الاشارة فذرهم وما يفترون
731
- الفاء فصيحة أي إذا كان ما كان بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءهم أو ما يفترونه من الكذب ولا تبال بهم فان في ما يشاء الله تعالى حكما بالغة وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى وقالوا حكاية لنوع آخر من أنواع كفر اولئك الكفار وقيل : تتمة لما تقدم هذه أي ما جعلوه لآلهتهم والتأنيث للخبر أنعام وحرث أي زرع حجر أي ممنوع منها وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفة لانعام وحرث
وقرأ الحسن وقتادة حجر بضم الحاء وقرأ أيضا بفتح الحاء وسكون الجيم وبضم الحاء والجيم معا ويحتمل في هذا أن يكون مصدرا كالحلم أوان يكون جمعا كسقف ورهن وعن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما حرج بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم أي ضيق وأصله حرج بفتح الحاء وكسر الراء وقيل : هو مقلوب من حجر كعميق ومعيق لايطعمها أي يأكلها إلا من نشاء يعنون كما روي عن ابن زيد الرجال دون النساء وقيل : يعنون ذلك وخدم الأوثان والجملة صفة أخرى للانعام وحرث وقوله سبحانه بزعمهم متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل قالوا أي قالوا ذلك متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة وانعام خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله سبحانه : هذه أنعام أي قالوا مشيرين إلى طائفة من أنعامهم وهذه أنعام وقيل : إن الاشارة أولا إلى ما جعل لآلهتهم السابق وما بينهما كالاعتراض وهذا عطف على أنعام المتقدم ادخاله فيما تقدم لأن المراد به السوائب ونحوها وهي بزعمهم تعتق وتفعى لأجل اةلهة حرمت أي منعت ظهورها فلا تركب ولا يحمل عليها
(8/34)
وأنعام أي وهذه أنعام على ما مر
وقوله سبحانه : لايذكرون اسم الله عليها صفة لانعام مسوق من قبله تعالى تعيينا للموصوف وتمييزا له عن غيره كما في قوله تعالى : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله في رأي لا أنه واقع في كلامهم المحكي كنظائره كأنه قيل : وأنعام ذبحت على الأصنام فانها التي لا يذكر اسم الله تعالى عليها وإنما يذكر عليها اسم الأصنام وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي وائل أن المعنى لا يحجون عليها ولا يلبون
وعن مجاهد كانت لهم طائفة من أنعامهم لا يذكرون اسم الله تعالى عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا أن حلبوا ولا ولا إفتراء عليه أي على الله سبحانه وتعالى ونصب افتراء على المصدر إا على أن قولهم المحكي بمعنى الافتراء وإا على تقدير عامل من لفظه أي افتروا افتراء أو على الحال من فاعل قالوا أي مفترين أو على العلة أي للافتراء وهو بعيد معنى و عليه قيل : متعلق بقالوا أو بافتراء المقدر على الاحتمالين الأولين وبافتراء على الاحتمالين الأخيرين ولا يخفى بعد تعلقه بقالوا والذي دعاهم اليه ومنعهم من تعلقه بالمصدر على ما قيل أن المصدر إذا وقع مفعولا مطلقا لا يعمل لعدم تقديره بأن والفعل وفيه نظر لأن تأويله بذلك ليس بلازم لتعلق الجار به فانه مما يكفيه رائحة الفعل
وجوز أبو البقاء أن يكون الجار متعلقا بمحذؤف وقع صفة لافتراء أي افتراء كائنا عليه سيجزيهم لابد بما كانوا يفترون
831
- أي بسببه أو بدله وأبهم الجزاء للتهويل وقالوا حكاية لفن آخر من فنون كفرهم ما في بطون هذ الأنعام يعنون به أجنة البحائر والسوائب كما وري عن مجاهد والسدي وروى ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يعنون به الألبان و ما مبتدأ خبره قوله سبحانه : خالصة لذكورنا أي حلال لهم خاصة لا يشركهم فيه أحد من الأناث والتاء للنقل إلى الأسمية أو للمبالغة كراوية الشعر أي كثير الرواية له أو لأن الخالصة مصدر كما قال الفراء كالعافية وقع موقع الخالص مبالغة أو بتقدير ذو وهذا مستفيض في كلام العرب تقول : فلان خالصتي أي ذو خلوصي قال الشاعر : كنت أميني وكنت خالصتي وليس كل أمريء بمؤتمن نعم قيل : مجيء المصدر بوزن فاعل وفاعله قليل وقيل : إن التاء للتأنيث بناء على أن ما عبارة عن الأجنة
والتذكير في قوله تعالى : ومحرم على أزواجنا أي على جنس أزواجنا وهن الاناث باعتبار اللفظ واستبعد ذلك بأن فيه رعاية المعنى أولا واللفظ ثانيا وهو خلاف المعهود في الكتاب الكريم من العكس وادعى بعض أن له نظائر فيه منها قوله تعالى : كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها إذ أنث فيه ضمير كل اولا مراعاة للمعنى ثم ذكر حملا على اللفظ وقيل : إن ما هنا جار على المعهود من رعاية اللفظ أولا لأن صلة ما جار ومجرور تقدير متعلقة استقر لا استقرت ولا وجه لذلك لأن المتعلق والضمير المستتر فيه لا يعلم تذكيره وتأنيثه حتى يكون مراعاة لأحد الجانبين والذي يقتضيه الانصاف أن الحمل على اللفظ بعد المعنى قليل وغيره أولى ما وجد اليه سبيل وذكر بعضهم أن ارتكاب خلاف المعهود ههنا لا يخلوا عن لطف معنوي ولفظي أما الأول فموافقة
(8/35)
القول للفعل حيث أن المعهود من ذوي المروءة جبر قلوب الاناث لضعفهن ولذا يندب للرجل إذا أعطى شيئا لولده أن يبدأ باناثهم وأما الثاني فمراعاة ما يشبه الطباق بوجه بين خالصة وذكورنا وبين محرم وأزواجنا وهو كما ترى
وإن يكن ميتة عطف على ما يفهم من الكلام أي ذلك حلال للذكور محرم على الاناث ان ولد حيا وإن ولدت ميتة فهم أي الذكور والاناث فيه أي فيما في بطون الانعام وقيل : الضمير للميتة إلا أنه لما كان المراد بها ما يعم الذكر والانثى علب الذكر فذكر الضمير كما فعل فيما قبله شركاء يأكلون منها جميعا وهذا الذي ذكر في هذه الشرطية إنما يظهر على القول الأول في تفسير الموصول وأما على القول الثاني فيه فلا ولعل الذي يقول به يقرأ الآية باحدى الاوجه الآتية أو يتأول الضمير وقرأ الأعرج وقتادة خالصة بالنصب وخرج ذلك على أنه مصدر مؤكد وخبر المبتدأ لذكورنا وقال القطب الرازي : يجوز أن يكون حالا من الضمير في الظرف الواقع صلة أي في حال خلوصه من البطون أي خروجه حيا والتزم جعلها حالا مقدرة ولعله ليس باللازم ومنع غير واحد جعله حالا من الضمير فيما بعده أو من ذكورنا نفسه لأن الحال لا تتقدم على العامل المعنوي كالجار والمجرور واسم الاشارة وها التنبيه العاملة بما تضمنته من معنى الفعل ولا على صاحبها المجرور كما تقرر في محله وقرأ ابن جبير خالصا بدون تاء مع النصب أيضا والكلام فيه نظير ما مر وقرأ ابن عباس وابن مسعود والاعمش خالصة بالرفع والاضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأ ثان وقرأ ابن عامر وابو جعفر وإن تكن بالتاء ميتة بالرفع وابن كثير يكن بالياء وميتة بالرفع وأبو بكر عن عاصم تكن بالتاء كابن عامر ميتة بالنصب
قال الامام : وجه قراءة ابن عامر أنه الحق الفعل علامة التأنيث لما كان مؤنثا في اللفظ ووجه قراءة ابن كثير أن ميتة اسم يكن وخبره مضمر أي إن يكن لهم أو هناك ميتة وذكر لأن الميتة في معنى الميت
وقال أبو علي : لم يلحق الفعل علامة التأنيث لأن تأنيث الفاعل المسند اليه غير حقيقي ولا تحتاج كان إلى خبر لأنها بمعنى وقع وحدث ووجه القراءة الأخيرة أن المعنى وإن تكن الأجنة أو الانعام ميتة سيجزيهم ولا بد وصفهم الكذب على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم من قوله تعالى : وتصف السنتهم الكذب وهو كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه فانهم يقولون : وصف كلامه الكذب إذا كذب وعينه نصف السحر أي ساحر وقده يصف الرشاقة بمعنى رشيق مبالغة حتى كان من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له قال المعري : سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الملالا ونصب وصفهم على ما ذهب اليه الزجاج لوقوعه موقع مصدر يجزيهم فالكلام على تقدير المضاف أي جزاء وصفهم وقيل : التقدير سيجزيهم العقاب بوصفهم أي بسببه فلما سقط الباء نصب وصفهم
انه حكيم عليم
931
- تعليل للوعد بالجزاء فان الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة واستدل بالآية على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون الاناث وأن ذلك الوقف يفسخ ولو بعد موت الواقف لأن ذلك من فعل الجاهلية واستدل بذلك بعض المالكية على مثل ذلك
(8/36)
في الهبة واخرج البخاري في التأريخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : يعمد أحدكم إلى المال فيجعله للذكور من ولده إن هذا الا كما قال الله تعالى : خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا قد خسر الذين قتلوا أولادهم وهم العرب الذين كانوا يقتلون أولادهم على ما مر وأخرج ابن المنذر عن عكرمة أنها نزلت فيمن كان يئد البنات من ربيعة ومضر أي هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك العقاب أو ذهب دينهم
وقرأ ابن كثير وابن عامر قتلوا بالتشديد لمعنى التكثير أي فعلوا ذلك كثيرا سفها بغير علم أي لخفة عقلهم وجهلهم بصفات ربهم سبحانه ونصب سفها على أنه علة لقتلوا أو على أنه حال من فاعله ويؤيده أنه قريء سفهاء أو على المصدرية لفعل محذوف دل عليه الكلام والجار والمجرور أما صفة أو حال
وحرموا ما رزقهم الله من البحائر والسوائب ونحوها افتراء على الله نصب على أحد الأوجه المذكورة وإظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار لاظهار كمال عتوهم وطغيانهم قد ضلوا عن الطريق السوي وما كانوا مهتدين
41
- اليه وإن هدوا بفنون الهدايات أو ما كانوا مهتدين من الاصل والمراد المبالغة في نفي الهداية عنهم لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال بعد أن لم يكن فأردف ذلك بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال وأن ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض وصرح بعض المحققين بأن الجملة عطف على ضلوا على الأول واعتراض على الثاني وقرأ ابن رزين قد ضلوا قبل ذلك وما كانوا مهتدين
وهو الذي أنشأ جنات معروشات تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الانعام وقال الامام : إنه عود إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد أي وهو الذي خلق وأظهر تلك الجنات من غير شركة لأحد في ذلك بوجه من الوجوه والمعروشات من الكرم ما يحمل على العريش وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ويوضع الكرم عليها وغير معروشات وهي الملقيات على وجه الأرض من الكرم أيضا وهذا قول من قال : إن المعروشات وغيرها كلاهما للكرم وعن أبي مسلم أن المعروش ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه من الكرم وما يجري مجراه وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقه عن التعريش وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعروش ما يحصل في البساتين والعمرانات مما يغرسه الناس وغير المعروش ما نبت في البراري والجبال وقيل : المعروش العنب الذي يجعل له عريش وغير المعروش كل ما ينبت منبسطا على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ وقال عصام الدين : ولا يبعد أن يراد بالمعروش المعروش بالطبع كالاشجار التي ترتفع وبغير المعروش ما ينبسط على وجه الأرض كالكرم ويكون قوله سبحانه : والنخل والزرع تخصيصا بعد التعميم وهو عطف على جنات أي أنشأهما مختلفا في الهيئة والكيفية أكله أي ثمره الذي يؤكل منه وقرأ ابن كثير ونافع أكله بسكون الكاف وهو لغة فيه على ما يشير اليه كلام الراغب والضمير اما أن يرجع إلى أحد المتعاطفين على التعيين ويعلم حكم الآخر بالمقايسة اليه أو إلى كل واحد على البدل أو إلى الجميع والضمير بمعنى اسم الاشارة وعن أبي حيان أن الضمير لا يجوز افراده مع العطف بالواو فالظاهر عوده على أقرب مذكور وهو الزرع ويكون قد حذف حال النخل للالة هذه الحال عليها والتقدير
(8/37)
والنخلوالنخل مختلفا أكله والزرع مختلفا أكله وجوز وجها آخر وهو أن في الكلام مضافا مقدرا والضمير راجع اليه أي ثمر جنات والحال المشار اليها على كل حال مقدرة إذ لا اختلاف وقت الانشاء
وزعم أبو البقاء أنها كذلك إن لم يقدر مضاف أي ثمر النخل وحب الزرع وحال مقارنة ان قدر
والزيتون والرمان أي أنشأهما متشابها وغير متشابه أي يتشابه بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة ولا يتشابه في بعضها وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج أنه قال : متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم والنصب على الحالية كلوا أمر إباحة كما نص عليه غير واحد من ثمره الكلام في مرجع الضمير على طرز ما تقدم آنفا إذا أثمر وإن لم ينضج وينيع بعد ففائدة التقييد إباحة الاكل قبل الادراك وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل اداء حق الله تعالى وهو اختيار الجبائي وغيره
وءاتوا حقه للذي أوجبه الله تعالى فيه يوم حصاده وهو على ما في رواية عطاء عن ابن عباس العشر ونصف العشر واليه ذهب الحسن وسعيد بن المسيب وقتادة وطاوس وغيرهم والظرف قيد لما دل عليه الأمر بهيئته من الوجوب لا لما دل عليه بمادته من الحدث إذ ليس الاداء وقت الحصاد والحب في سنبله كما يفهم من الظأهر بل بعد التنقية والتصفية وادعى علي بن عيسى أن الظرف متعلق بالحق فلا يحتاج إلى ما ذكر من التأويل
وفي رواية أخرى عن الحبر انه ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار ثم نسخ بالزكاة وإلى ذلك ذهب سعيد بن جبير والربيع بن أنس وغيرهما وقيل : ولا يمكن أن يراد به الزكاة المفروضة لانها فرضت بالمدينة والسورة مكية وأجاب الامام عن ذلك بانا لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة وكون آياتها مدنية لا يدل على ذلك على أنه قد قيل : إن هذه الآية مدنية أيضا وعن الشعبي أن هذا حق في المال سوى الزكاة وأخرج ابن منصور وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد أنه قال في الآية إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل فاذا دسته فحضرك المساكين فاطرح لهم فذا ذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي حصاده بكسر الحاء وهي لغة فيه وعدل عن حصده وهو المصدر المشهور لحصد اليه لدلالته على حصد خاص وهو حصد الزرع إذا انتهى وجاء زمانه كما صرح به سيبويه واشار اليه الراغب ولا تسرفوا أي لا تتجاوزوا الحد فتبسطوا أيديكم كل البسط في الاعطاء
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذ نخلا فقال : لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته فاطعم حتى أمسى وليست له ثمرة فانزل الله تعالى ذلك وروي مثله عن أبي العالية
وعن أبي مسلم أن المراد ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء وأخرج عبد الرزاق عن ابن المسيب أن المعنى لا تمنعوا الصدقة فتعصوا وقال الزهري : المعنى لا تنفقوا في معصية الله تعالى ويروى نحوه عن مجاهد
فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : لو كان أبو قيس ذهبا فانفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا وقال مقاتل : المراد لا تشركوا الأصنام في الحرث والانعام
والخطاب على جميع هذه الأقوال لأرباب الاموال وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن الخطاب
(8/38)
للولاة أي لا تأخذوا ما ليس لكم بحق وتضروا أرباب الأموال واختار الطبرسي أنه خطاب للجميع من أرباب الأموال والولاة أي لا يسرف رب المال في الاعطاء ولا الامام في الأخد والدفع إنه لا يحب المسرفين
141
- بل يبغضهم من حيث إسرافهم ويعذبهم عليه إن شاء جل شأنه ومن الأنعام حمولة وفرشا شورع في تفصيل حال الانعام وإبطال ما تقولوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل وهو عطف على جنات والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بهما والجار والمجرور متعلق بانشاء والحمولة ما يحمل عليه لا واحد له كالركوبة
والمراد به ما يحمل الاثقال من الانعام وبالفرش ما يفرش للذبح أو ما يفرش المنسوج من صوفه وشعره ووبره وإلى الأول ذهب أبو مسلم وروي عن الربيع بن أنس وإلى الثاني ذهب الجبائي وقيل : الحمولة للكبار الصالحة للحمل والفرش الصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها ولاوي ذلك عن ابن مسعود لكنه رضي الله تعالى عنه خص ذلك بكبار الابل وصغارها وهو أحدى روايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفي رواية أخرى الحمولة الابل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه والفرش الغنم كلوا مما رزقكم الله أي كلوا بعض ما رزقكم الله تعالى وهو الحلال فمن تبعيضية
والرزق شامل للحلال والحرام والمعتزلة خصوه بالحلال كما تقدم أوائل الكتاب وادعوا أن هذ الآية أحد أدلتهم على ذلك وركبوا شكلا منطقيا أجزاؤه سهلة الحصول تقديره الحرام ليس بمأكول شرعا وهو طاهر والرزق ما يؤكل شرعا لقوله تعالى كلوا مما رزقكم الله فالحرام ليس برزق
وأنت تعلم أن هذا إنما يفيد لو صدق كل رزق مأكول شرعا والآية لا تدل عليه أما إذا كانت تبعيضية فظاهر وأما ان كانت ابتدائية فلأنه ليس فيها ما يدل على تناول الجميع وقيل معنى الآية استحلوا الأكل مما أعطاكم الله تعالى ولا تتبعوا في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسهم المفترين على الله سبحانه خطوات الشيطان أي طرقه فان ذلك منهم باغوائه واستتباعه اياهم إنه لكم عدو مبين
241
- أي ظأهر العداوة فقد أخرج آدم عليه السلام من الجنة وقال : لأحتنكن ذريته الا قليلا أعاذنا الله تعالى والمسلمين من شره انه الرحمن الرحيم
هذا 0 ومن باب الاشارة في الآيات ويوم يحشرهم جميعا في عين الجمع المطلق قائلا يا معشر الجن اي القوى النفسانية قد استكثرتم من الانس أي من الحواس والأعضاء الظاهرة أو من الصور الانسانية بأن جعلتموهم اتباعكم باغوائكم إياهم وتزيين اللذائذ الجسمانية لهم وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وانتفع كل منا في صورة الجمعية الانسانية بالآخر وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا بالموت أو المعاد على أقبح الهيآت وأسوأ الأحوال قال النار أي نار الحرمان ووجدان الآلام مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ولا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم سبحانه الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه إن ربك حكيم لا يعذبكم إلا بهيئات نفوسكم على ما تقتضيه الحكمة عليم بهاتيك الهيئات فيعذب على حسبها وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا أي نجعل بعضهم ولي بعض أو اليه وقرينه في العذاب بما كانوا يكسبون من المعاصي حسب استعدادهم
يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم وهي عند كثير من أرباب الاشارة العقول وهي رسل
(8/39)
خاصة ذاتية إلى ذويها مصححة لارسال الرسل الآخر وهي رسل خارجية
وبعض المعتزلة حمل الرسول في قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا على العقل أيضا وهذه الاسئلة عند بعض المؤولين والأجوبة والشهادات كلها بلسان الحال واظهار الأوصاف ذلك إن لم يكن ربك ملهك القرى أي الأبدان أو القلوب بظلم واهلها غافلون بل ينبهم بالعقل وإرشاده إقامة الحجة ولله تعالى الحجة البالغة ولكل درجات مراتب في القرب والبعد وربك الغني لذاته عن كل ما سواه ذو الرحمة العامة الشاملة فخلق العباد ليربحوا عليه لا ليربح عليهم والغني عند الكثير مشير إلى نعت الجلال وذو الرحمة إلى صفة الجمال إن يشأ يذهبكم لغناه الذاتي عنكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء من أهل طاعته برحمته قل اعملوا على مكانتكم اي جهتكم من الاستعداد إني عامل على مكانتي من ذلك وهو الذي أنشا في قلوب عباده جنات معروشات ككرم العشق والمحبة وغير معروشات وهي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء والوفاء والعفة والحلم والشجاعة والنخل أي نخل الايمان والزرع أي زرع إرادات الأعمال الصالحة والزيتون أي زيتون الاخلاص والرمان أي رمان شجر الالهام وقيل : في كل غير ذلك وباب التأويل واسع كلوا من ثمره وهو المشاهدات والمكاشفات إذا أثمر وآتوا المريدين حقه وهو الارشاد والموعظة الحسنة يوم حصاده أو أن وصولكم فيه إلى مقام التمكين والاستقامة ولا تسرفوا بالكتمان عن المستحقين أو بالشروع في الكلام في غير وقته والدعوة قبل قبل أوانها إنه لا يجب المسرفين لا يرتضي فعلهم ومن الأنعام اي قوى الانسان حمولة ما هو مستعد لحمل الامانة وتكاليف الشرع وفرشا ما هو مستعد لاصلاح القلب وقيام البشرية كلوا مما رزقكم الله وهو مختلف فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الاكوان ورزق السر هو شهود العرفان بلحظ العيان ولا تتبعوا خطوات الشيطان بالميل الى الشهوات الفانية والاحتجاب السوى إنه لكم عدو مبين يريد أن يحجبكم عن مولاكم والله تعالى الموفق لسلوك الرشاد
ثمانية أزواج الزوج يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والانثى في الحيوانات المتزاوجة ويطلق على مجموعهما والمراد به هنا الأول وإلا كانت أربعة وايرادها بهذا العنوان وهذا العدد أوفق لما سيق له الكلام وثمانية عل ما قاله الفراء واختاره غير واحد من المحققين بدل من حمولة وفرشا منصوب بما نصبهما وهو ظأهر على تفسير الحمولة والفرش بما يشمل الأزواج الثمانية أما لو خص ذلك بالابل ففيه خفاء
وجوز أن يكون التقدير وأنشأ ثمانية وأنه معطوف على جنات وحذف الفعل وحرف العطف وضعفه أبو البقاء ووجهه لا يخفى وأن يكون مفعولا لكلوا الذي قبله والتقدير كلوا لحم ثمانية أزواج ولا تتبعوا جملة معترضة وان يكون حالا من ما مرادا بها الانعام ويؤول بنحو مختلفة أو متعددة ليكون بيانا للهيئة وهو عند من يشترط في الحال أن يكون مشتقا أو مؤولا به ظاهر وتعقب ذلك شيخ الاسلام بأنه يأباه جزالة النظم الكريم لظهور أنه مسوق لتوضيح حال الانعام بتفصيلها أولا إلى حمولة وفرش ثم تفصيلها إلى ثمانية أزواج حاصلة من تفصيل الأول إلى الابل والبقر وتفصيل الثاني إلى الضأن والمعز ثم
(8/40)
تفصيل كل الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كل ذلك لتحرير المواد التي تقولوا فيها عليه سبحانه بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم باظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة من تلك المواد بتوجيه الانكار اليها مفصلة انتهى وفيه منع ظاهر وقوله سبحانه من الضأن اثنين على معنى زوجين اثنين الكبش والنعجة وصب اثنين قيل : على أنه بدل من ثمانية أزواج بدل بعض من كل أو كل من كل ان لوحظ العطف عليه منصوب بناصبه والجار متعلق به
وقال العلامة الثاني : الظاهر أن من الضأن بدل من الأنعام واثنين من حمولة وفرشا أو من ثمانية أزواج أن جوزنا أن يكون للبدل بدل وجوز أن يكون البدل اثنين حال من النكرة قدمت عليها
وقريء اثنان على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور والجملة بيانية لا محل لها من الاعراب والضأن اسم جنس كالابل جمع ضئين كأمير وكعبيد أو جمع ضائن كتاجر وتجر وقريء بفتح الهمزة وهو لغة فيه ومن المعز زوجين اثنين التيس والعنز وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر بفتح العين وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس وقرأ أبي ومن المعزى وهو اسم جمع معز وهذه الأزواج الأربعة على ما اختاره شيخ الاسلام تفصيل للفرش قال : ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الاجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى : كلوا مما رزقكم الله من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها ومن الناس من علل التقديم بأشرفية الغنم ولهذا رعاها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى قل تبكيتا لهم وإظهارا لعجزهم عن الجواب ءالذكرين ذكر الضأن وذكر المعز حرم الله تعالى أم الأنثيين أي أنثي ذينك الصنفين ونصب الذكرين الانثيين بحرم أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أي أم الذي حملته اناث النوعين ذكرا كان أو أنثى نبئوني بعلم أي أخبروني بأمر معلوم من جهته تعالى جاءت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدل على أنه تعالى حرم شيئا مما ذكر أو نبئوني ببينة متلبسة بعلم صادرة عنه إن كنتم صادقين
341
- في دعوى التحريم عليه سبحانه وتعالى والأمر تأكيد للتبكيت وإظهار الانقطاع ومن الابل زوجين اثنين الجمل والناقة وهذا عطف على قوله سبحانه : من الضان اثنين والابل كما قال الراغب يقع في البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه ويجمع كما في القاموس على آبال والتصغير أبيلة
ومن البقر اثنين هما الثور وأنثاه قل افحاما لهم في أمر هذين النوعين أيضا ءالذكرين حرم الله تعالى منهما أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من ذينك النوعين والمعنى كما قال كثير من أجلة العلماء انكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة واظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والاناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بايراد الانكار على كل مادة من
(8/41)
مواد افترائهم فانهم كانوا يحرمون ذكور الانعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله لله سبحانه وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة والجاري في الاستعمال ان ما نكر وليها لأن ما النظم الكريم أبلغ
وبيانه ما قاله الكسائي أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فاذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محل كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة وإنما يورد سبحانه الأمر عقيب الانواع الأربعة بأن يقال : قل آلذكور حرم أم الاناث أما شتملت عليه أرحام الاناث لما في التكرير من المبالغة أيضا في الألزام والتبكيت
ونقل الامام عن المفسرين أنهم قالوا : إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضان والمعز والابل والبقر ذكرا وأنثى فان كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما وإن كان حرم جل شأنه الانثى وجب أن يكون كل اناثها حراما وإن كان حرم الله تعالى شأنه ما اشتملت عليه أرحام الاناث وجب تحريم الاولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكر والاناث
وتعقبه بأنه بعيد جدا لأن القائل أن يقول : هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والاناث إلأ أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والانوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات كما إذا قلنا : إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فاذا قيل : إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان انثى ولما لم يكن هذا الكلام لازما عليه فكذا هو الوجه الذي ذكره المفسرون ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غني عن نقلهما
ومن الناس من زعم أن المراد من الاثنين في الضأن والمعز والبقر الاهلي والوحشي وفي الابل العربي والبختي وهو مما لا ينبغي أن يلتفت اليه وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه وقول الطبرسي : إنه المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه كذب لا أصل له وهو شنشنة أعرفها من أخزم وقوله سبحانه : أم كنتم شهداء تكرير للافحام والتبكيت وأم منقطعة والمراد بل أكنتم حاضرين مشاهدين إذ وصاكم الله أي أمركم والزمكم بهذا التحريم إذ العلم بذلك إا بأن يبعث سبحانه رسولا يخبركم به وإما بان تشاهدوا الله تعالى وتسمعوا كلامه جل شأنه فيه والاول مناف لما أنتم عليه لأنكم لا تؤمنون برسول فيتعين المشاهدة والسماع بالنسبة اليكم وذلك محال ففي هذا ما لا يخفى من التهكم بهم
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا فنسب اليه سبحانه تحريم مالم يحرم والمراد به على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عمرو بن لحي بن قمئة الذي بحر البحائر وسيب السوائب وتعمد الكذب على الله تعالى وقيل : كبراؤهم المقررون لذلك وقيل : الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى والمراد فأي فريق أظلم ممن الخ واعترض بأن قيد التعمد معتبر في معنى الافتراء ومن تابع عمرا من الكبراء يحتمل أنه أخطا في تقليده فلا يكون متعمدا للكذب فلا ينبغي تفسير الموصول به والفاء لترتيب
(8/42)
ماما بعد على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم ونصب كذبا قيل على المفعولية وقيل : على المصدرية من غير لفظ الفعل وجعله حالا أي كذبا جوزه بعض كمل المتأخرين وهو بعيد لا خطأ خلافا لمن زعمه
ليضل الناس متعلق بالافتراء بغير علم متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير افترى أي افترى عليه سبحانه جاهلا بصدور التحريم عنه جل شأنه وانما وصف بعدم العلم مع أن المفتري عالم بعدم الصدور ايذانا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات فان من افترى عليه سبحانه بغير علم بصدور ذلك عنه جل جلاله مع احتمال صدوره إذا كان في تلك الغاية من الظلم فما الظن بمن افترى وهو يعلم عدم الصدور
وجوز كونه حالا من فاعل يضل على معنى كتلبسا بغير علم بما يؤدي به اليه من العذاب العظيم وقيل : معنى الآية عليه أنه عمل عمل القاصد اضلال الناس من أجل دعائهم الي ما فيه الضلال وإن لم يقصد الاضلال وكان جاهلا بذلك غير عالم به وهو ظاهر في أن اللام للعاقبة وله وجه وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من الناس وما تقدم أظهر وأبلغ في الذم واستدل القاضي بالآية على أن الاضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله تعالى لأنه سبحانه ذإا ذم الاضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أظ منه أولى بالذم وفيه أنه ليس كل ما كان مذموما من الخلق كان مذوما من الخالق
إن الله لا يهدي القوم الظالمين
441
- إلى طريق الحق وقيل : إلى دار الثواب لا ستحقاقهم العقاب واختاره الطبرسي وإلى نحوه ذهب القاضي بناء على مذهبه وليس بالبعيد على أصولنا أيضا وقيل : إلى ما فيه صلاحهم عاجلا وآجلا وهو أتم فائدة وأنسب بحذف المعمول ونفي الهداية عن الظالم يستدعي نفيها عن الأظلم من باب أولى قل أمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم بعد الزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرم عليهم
وقوله سبحانه لا أجد في ما أوحي إلي محرما الخ كناية عن عدم الوجود وفيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى وتنبيه كما قيل على أن الأصل في الأشياء الحل و محرما صفة لمحذوف دل عليه ما بعد وقد قام مقامه بعد حذفه فهو مفعول أول لأجد ومفعوله الثاني فيما أوحي قدم للاهتمام لا لأن المفعول الأول نكرة لأنه نكرة عامة بالنفي فلا يجب تقديم المسند بالظرف وليس المفعول الأول محذوفا أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي قرآنا وغيره على ما يشعر به العدول عن أنزل إلي أوحي أو ما أوحي إلي من القرءان طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها على طاعم أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ردا على قولهم : محرم على أزواجنا وقوله تعالى : يطعمه في موضع الصفة لطاعم جيء به كما في وقله سبحانه : طائر يطير قطعا للمجاز وقريء يطعمه بالتشديد وكسر العين والأصل يطتعمه فابدلت التاء طاء وأدغمت فيها فيها الأولى والمراد بالطعم تناول الغذاء وقد يستعمل طعم في الشراب أيضا كما تقدم في الكلام عليه والمتبادر هنا الأول وقد يراد به مطلق النفع ومنه ما في هذيث بدر ما قتلنا أحدا به طعم ما قتلنا الاعجاز صلعا أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به وإرادة هذا المعنى هنا بعيد جدا ولم أر من قال به نعم قيل : المراد سائر أنواع التناولات
(8/43)
من الأكل والشرب وغير ذلك ولعل إرادة غير الأكل فيه بطريق القياس وكذأ حمل الطاعم على الوجد من قولهم : رجل طاعم أي حسن الحال مرزوق وإبقاء يطعمه على ظاهره أي على واجد يأكله فلا يكون الوصف حينئذ لزيادة التقرير على ما أشرنا إليه
إلا أن يكون ذلك الطعام أو الشيء المحرم ميتة المراد بها مالم يذبح ذبحا شرعيا فيتناول المنخنقة ونحوها وقرأ ابن كثير وحمزة تكون بالتاء لتأنيث الخبر وقرأ ابن عامر وأبو جعفر يكون ميتة بالياء ورفع ميتة وأبو جعفر يشدد أيضا على أن كان هي التامة أو دما عطف على ميتة أو على ما في حيزه وقوله سبحانه : مسفوحا أي مصبوبا سائلا كالدم في العروق صفة له خرج به الدم الجامد كالكبد والطحال وفي الحديث احلت لنا ميتتان السمك والجراد ودمان الكبد والطحال وقد رخص في دم العروق بعد الذبح وإلى ذلك ذهب كثير من الفقهاء وعن عكرمة أنه قال : لولا هذا القيد لاتبع المسلمون من العروق ما أتبع اليهود
أو لحم خنزير فانه أي اللحم كما قيل لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرا وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الاولى وقيل وهو خلاف الظاهر : الضمير لكل من الميتة والدم ولحم الخنزير على معنى فان المذكور رجس أي قذر أو خبيث مخبث أو فسقا عطف على لحم خنزير على ما اختاره كثير من المعربين وما بينهما اعتراض مقرر للحرمة أهل لغير الله به صفة له موضحة وأصل الاهلال رفع الصوت والمراد الذبح على أسم الأصنام وإنما سمي ذلك فسقا لتوغله في الفسق وجوز أن يكون فسقا مفعولا له لأهل وهو عطف على يكون و به قائم مقام الفاعل والضمير راجع إلى ما رجع اليه المستكن في يكون
قال أبو حيان : وهذا إعراب متكلف جدا والنظم عليه خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ إلا أن يكون ميتة بالرفع لأن ضمير به ليس له ما يعود عليه ولا يجوز أن يتكلف له موصوف محذوف يعود عليه الضمير أي شيء اهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعراء اه وعني بذلك كما قال الحلبي أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام من التبعيضية نحو منا أقام ومنا ظعن أي فريق أقام وفريق ظعن فان لم يكن فيه من كان ضرورة كقوله :
(8/44)
ترمي بكفي كان من أرمى البشر
أراد بكفي رجل كان الخ وهذا كما حقق في موضعه رأي بعض وأما غيره فيقول : متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقا فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة كما قال السفاقسي فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك نعم الاعراب الأول أولى كما لا يخفى فمن اضطر أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك غير باغ أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين
وقال الحسن : أي غير متناول للذة وقال مجاهد : غير باغ على امام ولا عاد أي متجاوز قدر
(8/0)
الضرورة فان ربك غفور رحيم
541
- مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ولا حاجة إليه
ونصب غير على أنه حال وكذا ما عطف عليه وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فان من أخذ لحم ميتة مثلا من مضطر آخر فأكله فان حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فان التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث أنه لحم الميتة
وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل وأستشكلت هذ الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والفسق الذي أهل لغير الله تعالى به ولا شك أنها أكثر من ذلك وأجيب بأن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة وهذا لا دلالة فيه على الحصر والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له
فان قلت : المستثنى ليس ميتة بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد قال القطب : نعم كذلك إلا أن المقصود اخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرما إلا الميتة فلولا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلا وورد الاشكال وضعف ذلك الجواب باوجه منها أنه تعالى قال في سورة البقرة وفي سورة النحل : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وإنما تفيد الحصر وقال سبحانه في سورة المائدة : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عز و جل إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وأما المنخنقة والموقوذة وغيرها فهي أقسام الميتة وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا لأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد
وأجيب عن الاشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة و السلام لم يجد فيما أوحي اليه إلى تلك الغاية محرما غير ما نص عليه فيها وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء ءاخر قيل : وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا بمعنى لا أجد شيئا من المطاعم محرما في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة فاني أجد حينئذ محرما فاملصدر المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة واعترض الامام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى ءاخرها ليس إلا حصر
(8/45)
المحرماتالمحرمات في هذه الأشياء وبأنه لما ثبت بمقتضى ذلك حصر المحرمات في الأربعة كان هذا إعترافا بحل ما سواها والقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان النسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لايمكن التسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال : إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال وما قيل في الاستثناء يرد عليه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية ولا يقع حالا لأنه معرفة وبعضهم قال لاتصال الاستثناء : أن التقدير إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من محرما وفيه تكلف ظاهر وقيل التقدير على قراءة الرفع إلا وجود ميتة والاضافة فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة
وأجيب أيضا عن الاشكال بأن الآية وإن دلت على الحصر إلا أنا نخصصها بالاخبار وتعقبه الامام أيضا بأن هذا ليس من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأنها لما كان معناها أن لا محرم سوى الأربعة فاثبات محرم ءاخر قول بأن الأمر ليس كذلك وهو رفع للحصر ونسخ القرءان بخبر الواحد غير جائز وأجاب ذلك عن القطب الرازي بأنه لا معنى للحصر ههنا إلا أن الأربعة محرمة وما عداها ليس بمحرم وهذا عام فاثبات محرم ءاخر تخصيص لهذا العام وتخصيص العام بخبر الواحد جائز وقد احتج بظاهر الآية كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها فمن ذلك الحمر الأهلية أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن أبى ذلك البحر يعني ابن عباس وقرأ قل لا أجد فيما أوحي إلي الآية
وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قال قل لا أجد الخ وأخرج عن ابن عباس قال ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه قل لا أجد الآية وقوى الامام الرازي القول بالظاهر فانه قال بعد كلام فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس ثم قال ومن السؤلات الصعبة أن كثيرا من الفقهاء خصوا عموم هذ الآية بما نقل أنه صلى الله عليه و سلم قال : ما استخبثته العرب فهو حرام وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط فسيد العرب بل سيد العالمين عليه الصلاة و السلام لما رآهم يأكلون الضب قال : يعافه طبعي ولم يكن سببا لتحريمه وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئا وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الاشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم انتهى ولا يخفى ما فيه
واستدل النبي صلى الله عليه و سلم بقوله سبحانه على طاعم يطعمه على أنه إنما حرم من الميتة أكلها وأن جلدها يطهر بالدبغ أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت فقال عليه الصلاة و السلام : إنما قال الله تعالى قل لا أجد
(8/46)
فيمافيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة وإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه تنتفعوا به
واستدل الشافعية بقوله سبحانه : فانه رجس على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير لأنه أقرب مذكور وعلى الذين هادوا أي اليهود خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين حرما كل ذي ظفر أي ليس منفرج الاصابع كالابل والنعام والأوز والبط قاله ابن عباس وابن جرير وقتادة ومجاهد والسدي وعن ابن زيد أنه الأبل فقط وقال الجبائي : يدخل فيه كل السباع والكلاب والسنانير وما يصطاد بظفره وعن القتبي والبلخي أنه ذو المخلب من الطير وذو الحافر من الدواب وسمي الحافر ظفرا مجازا واستبعد ذلك الامام ولعل المسبب عن الظلم هو تعميم التحريم لأن البعض كان حراما قبله
ويحتمل أن يراد كل ذي ظفر حلال بقرينة حرما وهذا كما قيل تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بابطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فانهم كانوا يقولون : لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محمرة على نوح وابراهيم ومن بعدها عليهم السلام حتى انتهى التحريم وقال بعض المحققين : إن ذلك تتميم لما قبله لأن فيه رفع أنه تعالى حرم على اليهود جميع هذه الأمور فكذلك حرم البحيرة والسائبة ونحوهما بأن ذلك كان على اليهود خاصة غضبا عليهم : وقرأ الحسن ظفر بكسر الظاء وسكون الفاء وقرأ أبو السماك بكسرهما وقريء كما قال أبو البقاء ظفر بضم الظأء وسكون الفاء
ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما لا لحومهما فانها باقية على الحل والمراد بالشحوم ما يكون على الامعاء والكرش من الشحم الرقيق وشحوم الكلي وقيل : هو عام استثني منه ما سيأتي و من البقر متعلق بحرمنا بعده وكان يكفي حينئذ أن يقال : الشحوم لكنه أضيف لزيادة الربط والتأكيد كما يقال : أخذت من زيد ماله وهو متعارف في كلامهم وجوز أبو البقاء وظأهر صنيعه اختياره مع أنه خلاف الظأهر أن من البقر عطف على كل ذي ظفر على معنى وبعض البقر وجعل حرمنا عليهم شحومهما تبيينا للمحرم من ذلك وحينئذ الاضافة للربط المحتاج اليه
إلا ما حملت ظهورهما أي ما علق بظهورهما والاستثناء منقطع أو متصل من الشحوم وإلى الانقطاع ذهب الاما الأعظ رضي الله تعالى عنه فقد نقل عنه لو حلف لا يأكل شحما سحنث بشحم البطن فقط وخالفه في ذلك صاحباه فقالا يحنث بشحم الظهر أيضا لأنه شحم وفيه خاصية الذوب بالنار وأيد ذلك بهذأ الاستثناء بناء على أن الأصل فيه الاتصال وللامام رضي الله تعالىعنه أنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم ويستعمل كاللحم في اتخاذ الطعام والقلايا ويؤكل كاللحم ولا يفعل ذلك بالشحم ولهذا يحنث بأكله لو حلف لا يأكل لحما وبائعه يسمى لحاما لا شحاما والاتصال وإن كان أصلا في الاستثناء إلا أن هنا ما يدل على الانقطاع وهو قوله تعالى أو الحوايا فانه عطف على المستثنى وليس بشحم بل هو بمعنى المباعر كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أو المرابض وهي نبات اللبن كما روي عن ابن زيد أو المصارين والامعاء كما قال غير واحد من أهل اللغة وللقائل بالاتصال أن يقول العطف على تقدير مضاف أي شحوم الحوايا أو يؤول ذلك بما حمله الحوايا من شحم على أنه يجوز أن يفسر الحوايا بما اشتملت عليه الامعاء لأنه من حواء بمعنى اشتمل عليه فيطلق على الشحم الملتف
(8/47)
علىعلى الأمعاء وجوز غير واحد أن يكون العطف على ظهورهما وأن يكون على شحومهما وحينئذ يكون ما ذكر محرما وإليه ذهب بعض السلف وهو يعطف قوله تعالى : أو ما أختلط بعظم وهي شحم الالية لاتصالها بالعصعص وقيل هو المخ ولا يقول أحد أنه شحم عليه ويقول بتحريمه أيضا و الحوايا قيل جمع حاوية كزاوية وزوايا ووزنه فواعل وأصله حواوى فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها ثاني حرفي لين اكتنفا مدة مفاعل ثم قلبت الهمزة المكسورة ياء ثم فتحت لثقل الكسرة على الياء فقلبت الياء الأخيرة ألفا لتحركها بعد فتحة فصارت حوايا أو قلبت الواو همزة مفتوحة ثم الياء الأخيرة الفا ثم الهمزة ياء لوقوعها بين الفين كما فعل بخطايا وقيل : جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع ووزنه فواعل أيضا وإعلاله كما علمت وقيل : جمع حوية كظريفة وظرائف ووزنه فعائل وأصله حوائي فقلبت الهمزة ياء مفتوحة والياء التي هي لام الفا فصار حوايا
وجوز الفارسي أن يكون جمعا لكل واحد من هذه الثلاثة وقد سمع في مفرده أيضا و أو بمعنى الواو
وقال أبو البقاء لتفصيل مذاهبهم نظيرها في قوله تعالى وقالوا كونوا هودا أو نصارى وقال الزجاج : هي فيما إذا كان العطف على الشحوم للاباحة كما في قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا أي كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا و أو بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا فجائزأن تكون نهبت عن طاعتها معا فان أطيع زيد على حدته لم يكن معصية فاذأ قلت لا تطع زيدا أو عمرا أو خالدا كان المعنى هؤلاء كلهم أهل أن لايطاع فلا تطع واحدا منهم ولا تطع الجماعة ومنه جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي فليس المعنى الامر بمجالسة واحد منهم بل المعنى كلهم أهل أن يجالس فان جالست واحدا منهم فأنت مصيب وأن جالست الجماعة فأنت مصيب واختاره العلامة الثاني وقال الوجه أن يقال إن كلمة أو في العطف على المستثنى من قبيل جالس الحسن أو ابن سيرين كما في العطف على المستثنى منه يعني انها لافادة التساوي في الكل فيحرم الكل وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل لا تأكلوا أحد الثلاثة وهو معنى العموم وهذا مراد الزمخشري فيما نقل عنه من أن الجملة في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنها بليغة بهذا المعنى ثم قال وبهذا يتبين فساد ما يتوهم انه يريد أنه على تقدير العطف على المستثنى منه يكون المعنى حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أيها كان وأكل الأخرين وادعى أن الظاهر أن مثل هذا وإن كان جائزا فليس من الشرع أن يحرم أو يحلل واحد مبهم من أمور معينة وإنما ذلك في الواجب فقط وهذه الدعوى من العجب فان الحرام المخير والمباح المخير مما صرح به الفقهاء وأهل الأصول قاطبة ويحتاج إلى إمعان نظر فليمعن وذكر الطيبي في حاصل كلام بعض المحققين في أو هنا أنك إذا عطفت على الشحوم دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما استثني منه وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم و أو على الوجه الأول للاباحة وعلى الثاني للتنويع ذلك إشارة الى الجزاء أو التحريم : فهو على الأول نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده وعلى الثاني على أنه مفعول ثان له أي ذلك التحريم جزيناهم وجزى يتعدى بالباء وبنفسه كما ذ : ره الراغب وغيره وما نقل عن ابن مالك أن اسم الاشارة لا ينتصب مشارا به إلى المصدر إلا ويتبع بالمصدر نحو قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذلك ورده أبو حيان والجلبي وصححا ورود اسم الاشارة مشارا به إلى المصدر غير متبوع به
(8/48)
وجوز كون ذلك خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره ما بعده والعائد محذوف أي جزيناهم إياه ببغيهم أي بسبب ظلمهم وهو قتلهم الانبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم وقيل : المراد ببغيهم على فقرائهم بناء على ما نقل علي بن ابراهيم في تفسيره أن ملوك بني اسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله تعالى عليهم ذلك بسبب هذا المنع وهو تابع للمصلحة أيضا ولا بعد في أن يكون المنع نت الانتفاع لمزيد استحقاق الثواب وأن يكون لجرم متقدم وانا لصادقون
641
- في جميع أخبارنا التي من جملتها الأخبار بالتحريم وبالبغي وعد منها واقتصر عليه بعضهم م الوعد والوعيد
وقوى الامام بهذه الآية ما ذهب اليه الامام مالك وكثير من السلف وهو القول بما يقتضيه ظاهر الآية السابقة من حل ما عدا الاربعة المذكورة فيها وذلك أنه أوجب حمل الظفر على المخلب لبعد حمله على الحافر لوجهين الاول ان الحافر لا يكاد يسمى ظفرا والثاني أن الامر لو كان كذلك لوجب أن ياقل إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وهو باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم مع حصول الحافر لهم وإدا وجب حمله على المخلب والآية تفيد تخصيص هذه الحرمة باليهود كما أشرنا اليه من وجهين الأول افادة التركيب الحصر لغة والثاني انها لو كانت ثابتة في حق الكل لم يبق للاقتصار على ذكرهم فائدة ووجب أن لا تكون السباع وذوات المخلب من الطير محرمة على المسلمين بل يكون تحريمها مختصا باليهود وحينئذ فما روي أنه صلى الله عليه و سلم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فلا يكون مقبولا فيتقرر قول الجماعة السابق وفيه نظر لا يخفى فتدبر فان كذبوك أي اليهود كما قال مجاهد والسدي وغيرهما وهو الذي يقتضيه الظأهر لأنهم أقرب ذكرا ولذكر المشركين بعد بعنوان الاشراك وقيل : الضمير للمشركين فالمعنى على الأول إن كذبك اليهود في الحكم المذ : ور وأصروا على ما كانوا عليه من إدعاء قدم التحريم فقل لهم ربكم ذو رحمة عظيمة واسعة لايؤاخذكم بكل ما تأتونه من المعاصي ويمهلكم على بعضها ولا يرد بأسه أي لا يدفع عذابه بالكلية عن القوم المجرمين
741
- فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريم بعض الطيبات عليكم عقوبة وتشديدا وعلى الثاني فان كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعالجكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فانه امهال لا أهمال
وقيل : يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى ذو رحمة واسعة فهو يرحمني بتوفيق كثير لتصديقي فلا يضرني تكذيبكم ويضركم لأنه لا يرد بأسه عن المجرمين المكذبين أو سيرحمني بالانتقام منكم ولا يرد بأسه عنكم وفيه بعد وقيل : المراد ذو رحمة للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فاقيم مقامه قوله تعالى ولا يرد الخ لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة أنه لا حق بهم البتة من غير صارف يصرفه عنهم أصلا
سيقول الذين أشركوا حكاية لفن آخر من أباطيلهم والاخبار قبل وقوعه ثم وقوعه حسبما أخبركما يحكيه قوله تعالى عند وقوعه : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء صريح في أنه من
(8/49)
عند الله تعالى وقد نص غير واحد على أن وقوع ما أخبر الله تعالى به من المغيبات من وجوه الاعجاز لكلامه وإن لم يكن الاعجاز به فقط كما في قول مضعف لو شاء الله عدم اشراكنا وعدم تحريمنا شيئا ما أشركنا ولا ءاباؤنا ولا حرمنا من شيء لم يريدوا بهدا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم وهي أفعى لهم بل هم كما نطقت به الآيات يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى وأن التحريم إنما كان من الله عز و جل فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى بناء على أن المشيئة والارادة تساوق الأمر وتستلزم الرضا كما زعمت المعتزلة فيكون حاصل كلامهم إن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله تعالى وإرادته وكل ما تعلق به مشيئته سبحانه وإرادته فهو مشروع ومرضي عنده عز و جل فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضي عند الله تعالى وبعد أن حكى سبحانه ذلك عنهم رد عليهم بقوله عز من قائل كذلك أي مثل ما كذب هؤلاء كذب الذين من قبلهم وهم أسلافهم المشركون وحاصله أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم السلام وقد دلت المعجزة على صدقهم ولا يخفى أن المقدمة الأولى لا تكذيب فيها نفسها بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل كائن بمشيئة الله تعالى وامتناع أن يجري في ملكه خلاف ما يشاء فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية لأن الرسل عليهم السلام يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم : إن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء فيكون قولهم : إن ما نرتكبه مشروع ومرضي عنده تعالى تكذيب لهذا القول وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين انها ليست بصادقة وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والارادة بمشروع ومرضي عنده سبحانه بناء على أن الارادة لا تساوق الأمر والرضا على ما هو مذهب أهل السنة إذ المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو قبيحا وعلى هذا فلا حجة في الآية للمعتزلة بل قد انقلب الأمر فصارت الآية حجة لنا عليهم لأنهم لم يفرقوا بين المأمور والمراد واعتقدوا كالمشركين بأن كل مراد مأمور ومرضي ويجوز أيضا أن يقال مقصود : المشركين من قولهم ذلك رد دعوة الأنبياء عليهم السلام ورفع البعثة والتكليف وهو المذ : ور في كثير من الكتب الكلامية وحاصله حينئذ ان ما شاء الله تعالى يجب ومالم يسا يمتنع وكل ما هذا شأنه فلا يكلف به لكونه مشروطا بالاستطاعة فينتج إن ما نرتكبه من الشرك وغيره لم نكلف بتركه ولم يبعث له نبي فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية ولكون ذلك صدقا أريد به باطل ذمهم الله تعالى بالتكذيب ووجوب وقوع متعلق بالمشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف لأنهما لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة وسيأتي توجيه آخر إن شاء الله تعالى قريبا للآية
وعطف آباؤنا على الضمير المرفوع في أشركنا وساغ ذلك عند البصريين وإن لم يؤكد الضمير لأنه يكفي عندهم أي فاصل كان وقد فصل بلا ههنا والكوفيون لا يشترطون في ذلك شيئا ويستدلون بما هنا ولا يعتبرون هذا الفصل لأنه ينبغي أن يتقدم حرف العطف ليدفع الهجنة ولا يكفي عندهم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه وتوقف أبو علي في كفاية الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه وان لم يفصل
(8/50)
حرف العطف وادعى الامام أن في الكلام تقديرا لأن النفي لا يصرف إلى ذوات الآباء بل يجب صرفه إلى فعل صدر منهم وذلك هو الاشراك فيكون التقدير ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا وحينئذ فلا اشكال
حتى ذاقوا بأسنا أي نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم وفيه على ما قيل إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى لأن الذوق أول إدراك الشيء
قل هل عندكم من علم أي من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على زعمكم فتخرجوه أي فتظهروه لنا على أتم وجه وأوضح بيان وقيل : المراد هل لكم من اعتقاد ثابت مطابق فيما ادعيتم أن الاشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان وجعل امام الحرمين في الأرشاد هذا وما بعده دليلا على أن المشركين إنما استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك لأنهم كانوا يهزؤن بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام حيث قرع مسامعهم من شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور اليه سبحانه فحين طالبوهم بالاسلام والتزام الأحكام احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم عليهم الصلاة والسلام ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم كيف لا والايمان بصفات الله تعالى فرع الايمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العيوق
إن تتبعون أي ما تتبعون في ذلك إلا الظن الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا أو المراد إن عادتكم وجل أمركم أنكم لا تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون
841
- تكذبون على الله تعالى وقد تقدم الكلام في حكم اتباع الظن على التفصيل فتذكر قل فلله خاصة الحجة البالغة أي البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الاثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه كعيشة راضية والمراد بها في المشهور الكتاب والرسول والبيان وقال شيخ مشايخنا الكوراني : الحجة البالغة إشارة إلى أن العلم تابع للمعلوم وان إرادة الله تعالى متعلقة باظهار ما اقتضاه استعداد المعلوم في نفسه مراعاة للحكمة حودا ورحمة لا وجوبا وهي من الحج بمعنى القصد كأنها يقصد بها إثبات الحكم وتطلبه أو بمعنى الغلبة وهو المشهور والفاء جواب شرط محذوف أي إذا ظهر أن لا حجة لكم قل فلله الحجة فلو شاء هدايتكم جميعا لهداكم أجمعين
941
- بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك
وقال الكوراني : المراد لكنه لم يشأ إذ لم يعلم ان لكم هداية يقتضيها استعدادكم بل المعلوم له عدم هدايتكم وهو مقتضى استعدادكم الأزلي الغير المجعول وهذا تحقيق للحق ولا ينافي ما في صدر الآية لما علمت من مرادهم به وفائدة ارسال الرسل على القول بالاستعداد تحريك الدواعي للفعل والترك باختيار المكلف الناشيء من ذلك الاستعداد وقطع اعتذار الظالمين وقد أشرنا الى ذلك من قبل فتذكر وذكر ابن المنير وجها آخر في توجيه ما في الآية وهو أن الرد عليهم انما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم وأن اشراكهم انما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام بذلك فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختبار لأنفسهم وشبهتهم بمن اغتر قبلهم بهذا
(8/51)
الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله عز و جل واعتمد على أنه انما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى ورام افحام الرسل بهذه الشبهة ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك وان الحجة البالغة له جل وعلا لا لهم ثم أوضح سبحانه ان كل واقع واقع بمشيئته وأنه لم يشأ منهم الا ما صدر عنهم وانه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون
والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد وينصرف الرد الى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم وان أقامتهم الحجة بذلك خاصة وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا بصدور الجبرية وعجزها معجزا للمعتزلة إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الالهية وبذلك تقوم الحجة البالغة لأهل السنة على المعتزلة والحمد لله رب العالمين
ووجه القطب الآية بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام على معنى أن الله تعالى شاء شركنا وأراده منا وأنتم تخالفون إرادته حيث تدعونا إلى الايمان فوبخهم سبحانه بوجوه عد منها قوله سبحانه : فلله الحجة البالغة فانه بتقدير الشرط أي إذا كان الأمر كما زعمتم فلله الحجة
وقوله سبحانه : فلو شاء الخ بدل منه على سبيل البيان أي لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه فلو كان الأمر كما تزعمون لكان الاسلام أيضا بالمشيئة فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الاسلام كما وجب بزعمكم أن لا يمنعكم الأنبياء عن الشرك فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة بل موافقة وموالاة ثم قال : وربما يوجه هذا الاحتجاج بأن ما خالف مذهبكم من النحل يجب أن يكون عندكم حقا لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة وفيه منع لأن الصحة إنما تكون بالجريان على منهج الشرع ولا يلزم من تعليق مشيئته تعالى بشيء جريان ذلك عليه ولا يخفى أن التوجيه الأول كهذا التوجيه لا يخلوا عن دغدغة فتدبر قل هلم شهداءكم أي احضروهم للشهادة وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز وفعل يؤنث ويثنى ويجمع عند بني تميم وهو مبني على ما اشتهر من أن ما ذكر من خصائص الأفعال
وعن أبي علي الفارسي أن الضمائر قد تتصل بالكلمة وهي حرف كليس أو اسم فعل كهات لمناسبتها للافعال وعلى هذا تكون هلم اسم فعل مطلقا كما في شرح التسهيل وعليه الرضى حيث قال : وبنو تميم يصرفونه فيذكرونه ويؤنثونه ويجمعونه نظرا إلى أصله وأصله عند البصريين هالم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام لأن أصله المم وعند الكوفيين هل أم فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام وحذفت كما هو القياس واستبعد بأن هل لا تدخل الأمر ودفع بما نقله الرضى عنهم من أن أصل هل أم هلا أم وهلا كلمة استعجال بمعنى اسرع فغير إلى هل لتخفيف التركيب ثم فعل به ما فعل ويكون متعديا بمعنى أحضر وائت ولازمابمعنى أقبل كما في قوله تعالى : هلم إلينا الذين يشهدون أن الله حرم هذا وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم والمقصود من احضارهم تفضيحهم والزامهم واظهار أن لا متمسك لهم كمقلديهم ولذلك قيد الشهداء بالاضافة ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معرفون بالشهادة لهم وبنصر مذهبهم وهذا إشارة إلى ما حرموه من الانعام على ما حكته الآيات السابقة
(8/52)
وقال مجاهد : إشارة إلى البحائر والسوائب فان شهدوا أي أولئك الشهداء المعرفون بالباطل بعد ما حضروا بان الله حرم هذا فلا تشهدوا معهم أي فلا تصدقهم فانه كذب بحت وبين لهم فساده لأن تسليمه منهم موافقة لهم في الشهادة الباطلة والسكوت قد يشعر بالدضا وإرادة هذا المعنى من لاتشهد إما على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل من ذكر اللازم وارادة الملزوم لأن الشهادة من لوازم التسليم أو الكناية أو هو من باب المشاكلة ومن الناس من زعم أن ضمير شهدوا للمشركين أي فان لم يجدوا شاهدا يشهد بذلك فشهدوا بأنفسهم لأنفسهم فلا تشهد وهو في غاية البعد وأبعد منه بل هو للفساد أقرب قول من زعم أن المراد هلم شهداءكم من غيركم فان لم يجدوا ذلك لأن غير العرب لا يحرمون ما ذكر وشهدوا بأنفسهم فلا تصدقهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا من وضع المظهر موضع المضمر للايماء إلى أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وان متبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها والخطاب قيل لكل من يصلح له وقيل : لسيد المخاطبين والمراد أمته
والذين لا يؤمنون بالآخرة كعبدة الاوثان عطف على الموصول الأول بطريق عطف الصفة على الصفة مع اتحاد الموصوف فان من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس وزعم بعضهم أن المراد بالموصول الأول المكذبون مع الاقرار بالآخرة كأهل الكتابين وبالموصول الثاني المكذبون مع انكار الآخرة ولا يخفى ما فيه وهم بربهم يعدلون
51
- أي يجعلون له عديلا أي شريكا فهو كقوله تعالى : هم به مشركون وقيل : يعدلون بأفعاله عنه سبحانه وينسبونها إلى غيره عز و جل لكن على أن مدار النهي الجمع المذكور بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بها وقيل : الجملة في موضع الحال من ضمير لايؤمنون قل تعالوا أمر له صلى الله عليه و سلم بعد ما ظهر بطلان ما ادعوا أن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت فيما تقدم وتعال أمر من التعالي والأصل فيه أن يقول من هو في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم واستعمل استعمال المقيد في المطلق مجازا ويحتمل هنا كما قيل أن يكون على الأصل تعريضا لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم ترقوا إلى ذروة العلم وقنة العز
وقوله سبحانه : أتل جواب الأمر أي ان تأتوني أتل وما في قوله تعالى : ما حرم ربكم إما موصولة والعائد محذوف أي أقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أي تحريمه والمراد الآية الدالة عليه وهي في الاحتمالين في موضع نصب على المفعولية لأتل وجوز أن تكون استفهامية فهي في موضع نصب على المفعولية لحرم والجملة مفعول أتل لأن التلاوة من باب القول فيصح أن تعمل في الجملة بناء على المذهب الكوفي من أنه تحكى الجملة بكل ما تضمن معنى القول وغيرهم يقدر في ذلك قائلا ونحوه
والمعنى هنا على الاستفهام تعالوا أقل لكم وأبين جواب أي شيء حرم ربكم وقوله تعالى عليكم متعلق على
(8/53)
كلكل حال بحرم وجوز ان يتعلق بأتل ورجح الأول بانه أنسب بمقام الاعتناء بايجاب الانتهاء عن المحرمات المذ : ورة وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضميرهم ولا يضر في ذلك كون المتلو محرما على الكل كما لا يخفى ألا تشركوا به شيئا أي من الاشراك أو شيئا من الأشياء فشيئا يحتمل المصدرية والمعولية وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إعراب أن لا وبدأ سبحانه بأمر الشرك لأنه أعظم المحرمات وأكبر الكبائر وبالوالدين أي أحسنوا بهما إحسانا كاملا لا إساءة معه وعن ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر اليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللا لهما وثنى الله تعالى بهذا التكليف لأن نعمة الوالدين أعظم النعم على العبد بعد نعمة الله تعالى لأن المؤثر الحقيقي في وجود الانسان هو الله عز و جل والمؤثر في الظاهر وهو الأبوان
وعقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالاولاد لكمال المناسبة فقال سبحانه ولا تقتلوا أولادكم بالوأد من إملاق من أجل فقر أو من خشيته كما قوله سبحانه خشية املاق وقيل : الخطاب في كل آية لصنف وليس خطابا واحدا فالمخاطب بقوله سبحانه : من املاق من ابتلى بالفقر وبقوله تعالى : خشية إملاق من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل ولهذا قدم رزقهم ههنا في قوله عز و جل نحن نرزقكم وإياهم وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل : نحن نرزقهم وإياكم وهو كلام حسن
وأيا ما كان فجملة نحن الخ استئناف مسوق لتعليل النهي وابطال سببية ما اتخذوه سببا لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لارزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تقدموا على ما نهيتم عنه لذلك
ولا تقربوا الفواحش أي الزنا والجمع إما للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر عنه أو للقصد إلى النهي عن الأنواع ولذا أبدل منها قوله سبحانه : ما ظهر منها وما بطن أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة اشرافهم وروي ذلك عن ابن عباس والضحاك والسدي وقيل : المراد بها المعاصي كلها
وفي المراد بما ظهر منها وما بطن على هذا أقوال تقدمت الاشارة اليها واختار ذلك الامام وجماعة ورجح بعض المحققين الأول بأنه الأوفق بنظم المتعاطفات ووجه توسيط هذا النهي بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن القتل مطلقا عليه باعتبار أن الفواحش بهذا المعنى مع كونها في نفسها جناية عظيمة في حكم قتل الأولاد فان أولاد الزنا في حكم الأموات وقد روي عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال في حق العزل : ذاك وأد خفي وعلى القول الآخر لا يظهر وجه توسيط هذا العام بين أفراده ويكون توسيطه بين النهيين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه وتعليق النهي بقربانها إا للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي اليها وإا لأن قربانها داع إلى مباشرتها
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله أي حرم قتلها بان عصمها بالاسلام أو بالعهد فيخرج الحربي ويدخل الذمي فما روي عن ابن جبير من كون المراد بالنفس المذكورة النفس المؤمنة ليس في محله إلا بالحق استثناء
(8/54)
مفرغ من اعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الاحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها وذلك كما روي في الخبر بالكفر بعد الايمان والزنا بعد الاحصان وقتل النفس المعصومة أو من أعم الاسباب أي لا تقتلوها بسبب من الاسباب إلا بسبب الحق وهو مما في الخبر أو من أعم المصادر أي لا تقتلوها قتلا إلا قتلا كائنا بالحق وهو القتل بأحد المذكورات ذلكم أي ما ذكر من التكاليف الخمسة الجليلة الشأن من بين التكاليف الشرعية وصاكم به أي طلبه منكم طلبا مؤكدا والجملة الاسمية استئناف جيء به تجديدا للعهد وتأكيدا لايجاب المحافظة على ما كلفوه وقال الامام : جيء بها لتقريب القبول الى القلب لما فيها من اللطف والرحمة لعلكم تعقلون
151
- أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المحرمة
ولا تقربوا مال اليتيم أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إلا بالتي هي أحسن أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره وقيل : المراد لا تقربوا ماله إلا وأنتم متصفون بالخصلة التي هي أحسن الخصال في مصلحته فمن لم يجد نفسه على أحسن الخصال ينبغي أن لا يقربه وفيه بعد والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى : حتى يبلغ أشده فانه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل : احفظوه حتى يبلغ فاذأ بلغ فسلموه اليه كما في قوله سبحانه : فان آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم أموالهم والأشد على ما قاله الفراء جمع لا واحد له وقال بعض البصريين : هو مفرد كأنك ولم يأت في المفردات على هذا الوزن غيرهما وقيل : هو جمع شدة كنعمة وأنعم وقدر فيه زيادة الهاء لكثرة جمع فعل على أفعل كقدح وأقدح
وقال ابن الانباري : إنه جمع شد بضم الشين كود وأود وقيل جمع شد بفتحها وأياما كان فهو من الشدة أي القوة او الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع ومنه قول عنترة : عهدي به شد النهار كأنما خضب ورأسه بالعظلم والمراد ببلوغ الأشد عند الشعبي وجماعة بلوغ الحلم وقيل : أن يبلغ ثماني عشرة سنة وقال السدي : أن يبلغ ثلاثين إلا أن الآية منسوخة بقوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح وقيل : غير ذلك وقد تقدم الخلاف في زمن دفع مال اليتيم اليه وأشبعنا الكلام في تحقيق الحق في ذلك فتذكر وأوفوا أي اتموا الكيل أي المكيل فهو مصدر بمعنى اسم المفعول والميزان كذلك كما قال أبو البقاء وجوز أن يكون هناك مضاف محذوف أي مكيل الكيل وموزون الميزان بالقسط أي بالعدل وهو في موضع الحال من ضمير أوفوا أي مقسطين وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حالا من المفعول أي تاما ولعل الاتيان بهذه الحال للتأكيد
وفي التفسير الكبير فان قيل : إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة من التكرير قلنا : أمر الله تعالى المعطي بايفاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة فتدبر
لانكلف نفسا إلا وسعها إلا ما يسعها ولا يعسر عليها والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بايفاء الكيل والميزان بالعدل للترخيص فيما خرج عن الطاقة لما أن في مراعاة ذلك كما هو حرجا مع كثرة
(8/55)
وقوعه فكأنه قيل : عليكم بما في وسعكم في هذا الأمر وما وراءه معفو عنكم وجوز أن يكون جيء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات ليقبلوا عليها كأنه قيل : جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف ما لا يطاق وإذا قلتم قولا في حكومة أو شهادة أو نحوهما فاعدلوا فيه وقولوا الحق ولو كان المقول له أو عليه ذا قربى أي صاحب قرابة منكم وبهد الله أوفوا أي ما عهد اليكم من الامور المعدودة أو أي عهد كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا او ما عاهدتم الله تعالى عليه من أيمانكم ونذوركم والجار والمجرور متعلق بما بعده وتقديمه للاعتناء بشأنه ذلكم أي ما فصل من التكاليف الجليلة وصاكم به أمركم به أمرا مؤكذا لعلكم تذكرون
251
- مافي تضاعيفه وتعملون بمقتضاه وقرأ حمرة والكسائي وحفص عن عاصم تذكرون بتخفيف الذال والباقون بالتشديد في كل القرآن وهما بمعنى واحد
وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه : لعلكم تعقلون وهذ بقوله تعالى : لعلكم تذكرون لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الاولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وايفاء الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان قاله القطب الرازي : ثم قال فان قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضا فكيف ذكر من الأول قلت : أعظم النعم على الانسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهي بعده عن الكفران في نعمة الابوين تنبيها على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر
وقال الأمام : السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لابد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر انتهى ويمكن أن يقال : إن أكثر التكليفات الأول أدى بصيغة النهي وهو في معنى المنع والمرء حريص على ما منع فناسب أن يعلل الايصاء بذلك بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس وهذأ بخلاف التكليفات الا خرفان أكثرها قد أدى بصيغة الامر وليس المنع فيه ظاهرا كما في النهي فيكون تأكيد الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي فليتدبر
وأن هذا صراطي إشارة إلى شرعه عليه الصلاة و السلام على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويلائمه النهي الآتي وعن مقاتل أنه إشارة إلى ما في الآيتين من الامر والنهي وقيل : إلى ما ذكر في السورة فان أكثرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة
وقرأ حمزة والكسائي إن بالكسر وابن عامر ويعقوب بالفتح والتخفيف والباقون به مشدد
وقرأ ابن عامر صراطي بفتح الياء وقريء وهذا صراط ربكم وهذا صراط ربك واضافة الصراط إلى الرب سبحانه من حيث الوضع واليه عليه الصلاة و السلام من حيث السلوك والدعوة
(8/56)
أي هذا الصراط الذي أسلكه وأدعوا اليه مستقيما لا أعوجاج فيه ونصبه على الحال فاتبعوه أي اقتفوا أثره واعملوا به ولا تتبعوا السبل أي الضلالات كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وفي رواية عنه أنها الأديان المختلفة كاليهودية والنصرانية وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهما عن مجاهد أنها البدع والشهبات فتفرق بكم نصب في جواب النهي والاصل تتفرق فحذفت أحدى التائين والباء للتعدية أي فتفركم حسب تفرقها أيادي سبأ فهو كما ترى أبلغ من تفرقكم كما قيل من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه عن سبيله أي سبيل الله تعالى الذي لا اعوجاج فيه ولا حرج لما هو دين الاسلام وقيل : هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان وفيه تنبيه على أن صراطه عليه السلام عين سبيل الله تعالى وقد أخرج أحمد وجماعة عن ابن مسعود قال : خط رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا بيده ثم قال : هذا سبيل الله تعالى مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو اليه ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الخ وإنما أضيف اليه صلى الله عليه و سلم أولا لأن ذلك ادعى للاتباع إذ به يتضح كونه صراط الله عز و جل ذلكم إشارة إلى إتباع السبل وصاكم به لعلكم تتقون
351
- عقاب الله تعالى بالمثابرة على فعل ما أمر به والاستمرار على الكف عما نهى عنه قال أبو حيان : ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية وكرر سبحانه الوصية لمزيد التأكيد ويالها من وصية ما أعظم شأنها وأوضح برهانها
وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والبيهقي في الشعب وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد عليه الصلاة و السلام بخاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات قل تعالوا إلى تتقون واخرج ابن حميد وابو الشيخ والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ثم تلاهن إلى آخرهن ثم قال فمن وفى بهن فأجره على الله تعالى ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله تعالى في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله تعالى إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه
وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي قال : سمع كعب رجلا يقرأ قل تعالوا أتل الخ فقال : والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر الآيات وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار
هذا و أن في قوله سبحانه أن لا تشركوا يحتمل أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية قال العلامة الثاني : وفي الاحتمالين اشكال فأنها إن جعلت مصدرية كانت بيانا للمحرم بدلا من ما أو عائده المحذوف وظاهر أن المحرم هو الاشراك لا نفيه وأن الأوامر بعد معطوفة على لا تشركوا وفيه عطف الطلبي على الخبري وجعل الواجب المأمور به محرما فاحتيج إلى
(8/57)
أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب وأما جعل لا ناهية واقعة موقع الصلة لأن المصدرية كما جوز سيبويه إذ عمل الجازم في الفعل والناصب في لا معه فما سبيل اليه هنا لأن زيادة لا الناهية مما لم يقل به أحد ولم يرد في كلام وإن جعلت أن مفسرة و لا ناهية النواهي بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان أحدهما عطف أن هذا صراطي مستقيما على أن لا تشركوا مع أنه لا معنى لعطفه على أن المفسرة مع الفعل وثانيهما عطف الأوامر المذكورة فانها لا صلح بيانا لتلاوة المحرمات بل الواجبات واختار الزمخشري كونها مفسرة وعطف الأوامر لأنها معنى نواه ولا سبيل حينئذ لجعلها مصدرية موصولة بالنهي لما علمت
وأجاب عن الاشكال الأول بأن قوله سبحانه وأن هذا صراطي ليس عطفا على أن لا تشركوا بل هو تعليل للاتباع متعلق باتبعوه على حذف اللام وجاز عود ضمير اتبعوه إلى الصراط لتقدمه في اللفظ
فان قيل : فعلى هذا يكون اتبعوه عطفا على لاتشركوا ويكون التقدير فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم وفيه جمع بين حرفي عطف الواو والفاء وليس بمستقيم وإن جعلت الواو استئنافية اعتراضية قلنا : ورود الواو مع الفاء عند تقديم المعمول فصلا بينهما شائع في الكلام مثل وربك فكبر وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا فان أبيت الجمع البتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقا بمحذوف والمذكور بالفاء عطفا عليه مثل عظم فكبر وادعوا الله فلا تدعوا مع الله وآثروه فاتبعوه
وعن الاشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد أن المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرما دل على أن التحريم راجع إلى أضدادها بمعنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي النهي عن الاضداد حتى كأنه قيل : اتلوا ما حرم أن لا تسيؤا إلى الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا تتركوا العدل ولا تنكثوا العهد ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل لكن ربما يجوز بطريق العطف وأما جعل الوقف على قوله تعالى ربكم وانتصاب أن لاتشركوا بعليكم يعني الزموا ترك فياباه عطف الأوامر إلا أن تجعل لا ناهية وأن المصدرية موصولة بالأوامر والنواهي وقال أبو حيان : لايتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا فانه لا يصح عطف وبالوالدين احسانا على تعالوا ويكون ما بعده عطف عليه
واعترض على القول بأن التحريم راجع إلى اضداد الأوامر بأنه بعيدا جدا والغاز في المعاني ولا ضرورة تدعوا إلى ذلك ثم قال : وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين احدهما أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز أن التفسيرية بل هي معطوفة على قوله سبحانه : أتل ما حرم أمرهم أولا بأمر ترتب عليه ذكر مناه ثم أمرهم ثانيا بأوامر وهذا معنى واضح والثاني ان تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت حكم التفسيرية ويصح هذا على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه لأن معنى ما حرم ربكم عليكم ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى قل تعالوا أتل ما نهاكم عنه ربكم وما أمركم به وإذا كان التقدير هذا صح أن تكون تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول : أمرتك أن لا تكرم جاهلا وأكرم عالما ويجوز عطف الأمر على النهي
(8/58)
والنهي على الأمر لقول أمريء القيس :
لا تهلك أسى وتجمل
ولا نعلم في هذا خلافا بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والانشاء فان في جواز العطف فيها خلافا مشورا اه وأنت تعلم أن العطف على تعالوا في غاية البعد ولا ينبغي الالتفات اليه وما ذكره من الحذف وجعل التفسير للمحذوف والمنطوق لا يخلوا عن حسن ونقل الطبرسي جواز كون أن لا تشركوا بتقدير اللام على معنى أبين لكم الحرام لأن لا تشركوا لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله تعالى في القبول منه بمنزلة الله سبحانه وصاروا بذلك مشركين ولا ينبغي تخريج كلام الله تعالى على مثل ذلك كما لا يخفى ثم ءاتينا موسى الكتاب كلام مسوق من جهته تعالى تقريرا للوصية وتحقيقا لها وتمهيدا لما تعقبه من ذكر انزال القرآن المجيد كما ينبيء عنه تغيير الاسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله سبحانه : ذلكم وصاكم به بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه فعلنا ذلك ثم آتينا الخ وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام قدس الله سره وقيل : عطف على ذلكم وصاكم به وعن الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة كأنه قيل : قل تعالوا أتل عليكم ما حرم ربكم عليكم ثم أتل عليهم ما آتاه الله تعالى موسى عليه السلام وقيل : عطف على قل وفيه حذف أي قل تعالوا ثم قل آتينا موسى الكتاب
وعن أبي مسلم واستحسنه المغربي أنه متصل بقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام : ووهبنا له اسحق ويعقوب وذلك أنه سبحانه عد نعمته عليه بما جعل في ذريته من الانبياء عليهم السلام ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما آتى موسى عليه السلام من الكتاب والنبوة وهو أيضا من ذريته والكل كما ترى وان اختلف مراتبه في الوهن وثم كما قال الفراء للترتيب الاخباري كما في نحو بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت اليوم أعجب وتعقبه ابن عصفور بأنه ليس بشيء لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الاول بمهلة ولا مهلة في الاخبارين فلابد من الرجوع إلى أنها انسلخ عنها معنى الترتيب أو أنه ترتيب رتبي كما يشير اليه قوله أعجب في المثال وهو هنا ظاهر لأن إيتاء التوراة المشتملة على الاحكام والمنافع الجمة أعظم من هذه الوصية المشهورة على الالسنة وبعضهم وجه الترتيب الاخباري المستدعي لتأخر الثاني عن الاول بأن الالفاظ المنقضية تنزل منزلة البعيد وقيل : إنه باعتبار توسط جملة لعلكم تتقون بين المتعاطفين
وقال بعضهم : إن ثم هنا بمعنى الواو وقد جاء ذلك كثيرا في الكتاب تماما للكرامة والنعمة وهو في موقع المفعول له وجاز حذف اللام لكونه في معنى اتماما وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرا لقوله آتينا من معناه لأن ايتاء الكتاب اتمام للنعمة كأنه قيل : أتممنا النعمة اتماما فهو كنباتا في قوله تعالى والله أنبتكم من الأرض نباتا وأن يكون حالا من الكتاب أي تاما على الذي أحسن أي من أحسن القيام به كائنا من كان فالذي للجنس ويؤيده قراءة عبد الله على الذين أحسنوا وقراءة الحسن على المحسنين وعن الفراء ان الذي هنا مثلها في قوله : ان الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد وكلام مجاهد محتمل للوجهين أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه السلام أو تماما على
(8/59)
ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائع أي زيادة على عمله على وجه التتميم وعن ابن زيد أن المراد تماما على احسان الله تعالى على انبيائه عليهم السلام وظاهره أن الذي موصول حرفي وقد قيل به في قوله تعالى : وخضتم كالذي خاضوا وضمير أحسن حينئذ لله تعالى ومثله في ذلك ما نقل عن الجبائي من أن المراد على الذي أحسن الله تعالى به على موسى عليه السلام من النبوة وغيرها وكلاهما خلاف ظاهر وعن ابي مسلم أن المراد بالموصول ابراهيم عليه السلام وهو مبني على مازعمه من اتصال الآية بقصة ابراهيم عليه السلام
وقرأ يحيى بن يعمر أحسن بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف و الذي وصف للدين أو للوجه يكون عليه الكتب أي تماما على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه أو ءاتينا موسى الكتاب تاما كاملا على الوجه الذي هو احسن ما يكون عليه الكتب والاحسنية بالنسبة الى غير دين الاسلام وغير ما عليه القرءان
وتفصيلا لكل شيء أي بيانا مفصلا لكل ما يحتاج اليه في الدين ولا دلالة فيه على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه السلام خلافا لمن رعم ذلك فقد ورد مثله في صفة القرءان كقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام : وتفصيل كل شيء بالمكلفين والكلام في هذه المعطوفات كالكلام في المعطوف عليه من احتمال العلية والمصدرية والحالية والظاهر اشتمال الكتاب على التفصيل حسبما أخبر الله تعالى إلى أن حرفه أهله
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لما ألقى موسى عليه السلام الألواح بقي الهدى والرحمة وذهب التفصيل لعلهم أي بني اسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى عليه السلام وايتاء الكتاب ولا يجوز عود الضمير على الذي بناء على الجنسية أو على ما قال الفراء لأنه لا يناسب قوله سبحانه : بلقاء ربهم يؤمنون
401
- بل كان المناسب حينئذ أن يقال : لعلهم يرحمون مثلا والجار والمجرور متعلق بما بعده قدم لرعاية الفواصل والمراد من اللقاء قيل الجزاء وقيل : الرجوع إلى ملك الرب سبحانه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئا وعن ابن عباس المعنى كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب
وهذا الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه أي القرآن كتاب عظيم الشأن لا يقادر قدره أنزلناه بواسطة الروح الأمين مشتملا على فوائد الفنون الدينية والدنيوية التي فصلت عليكم طائفة منها والجملة صفة كتاب وقوله سبحانه : مبارك أي كثير الخير دينا ودنيا صفة أخرى وإنما قدمت الأولى عليها مع أنها غير صحيحة لأن الكلام مع منكري الانزال وجوز أن يكون هذا وما قبله خبرين عن اسم الاشارة أيضا والفاء في قوله تعالى : فاتبعوه لترتيب ما بعدها على ما قبلها فان عظم شأن الكتاب في نفسه وصفته موجب لاتباعه أي فاعملوا بما فيه أو امتثلوا أوامره واتقوا مخالفته أو نواهيه لعلكم ترحمون
551
- أي لترحموا جزاء ذلك وقيل : المراد اتقوا على رجاء الرحمة أو أتقوا ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله تعالى
أن تقولوا علة لمقدر دل عليه أنزلنا المذكور وهو العامل فيه لا المذكور خلافا للكسائي لئلا يلزم
(8/60)
الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي وهو بتقدير لا عند الكوفيين أي لأن لا تقولوا وعلى حذف المضاف عند البصريين أي كراهة أن تقولوا وقيل : يحتمل أن يكون مفعولا اتقوا وعليه الفراء وأن تجعل اللام المقدرة للعاقبة أي ترتب على انزالنا أحد القولين ترتب الغاية على الفعل فيكون توبيخا لهم على بعدهم عن السعادة والمتبادر ما ذكر أولا أي ان تقولوا يوم القيامة لو لم ننزله إنما أنزل الكتاب الناطق بألاحكام القاطع للحجة على طائفتين جماعتين كائنتين من قبلنا وهما كما قال ابن عباس : وغيره اليهود والنصارى وتخصيص الانزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا فيما بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام
وإن كنا إن هي المخففة من ان واللام الآتية فارقة بينها وبين النافية وهي مهملة لما حققه النحاة من أن ان المخففة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها ووليها الناسخ فهي مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر لا ثابت ولا محذوف أي وأنه كنا عن دراستهم أي قراءتهم لغافلين
651
- غير ملتفتين لا ندري ما هي لأنها ليست بلغتنا فلم يمكنا أن نتلقي منها ما فيه نجاتنا ولعلهم عنوا بذلك التوحيد وقيل : تلك الاحكام المذكورة في قوله تعالى : قل تعالوا الخ لأنها عامة لجميع بني آدم لا تختلف في عصر من الاعصار وعلى هذا حمل الآية شيخ الاسلام ثم قال : وبهذا تبين أن معذرتهم هذه مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالها على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الامم كما أن قطع تلك المذرة بانزال القرآن لاشتماله أيضا عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط
أو تقولوا عطف على تقولوا وقريء كلاهما بالياء على الالتفات على خطاب فاتبعوه واتقوا ويكون الخطاب الآتي بعد التفاتا أيضا ولا يخفى موقعه قال القطب : إنه تعالى خاطبهم أولا بما خاطبهم ثم لما وصل إلى حكاية أقوالهم الرديئة أعرض عنهم وجرى على الغيبة كأنهم غائبون ثم لما أراد سبحانه توبيخهم بعد خاطبهم فهو التفات في غاية الحسن لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم إلى الحق الذي هو المقصد الأقصى أو إلى ما فيه من الأحكام والشرائع لأنا أجود أذهانا وأثقب فهما فقد جاءكم متعلق بمحذوف ينبيء عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أو شرط له أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم الخ أو ان صدقتم فيما تعدون من أنفسكم على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم بينة حجة جليلة الشأن واضحة تعرفونها لظهورها وكونها بلسانكم كائنة من ربكم على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة بينة ويصح تعلقه بجاءكم
وأيا ما كان ففيه دلالة على فضلها الاضافي مع الاشارة إلى شرفها الذاتي وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من مزيد التأكيد لايجاب الاتباع وهدى ورحمة عطف على بينة وتنوينهما كتنوينهما للتفخيم والمراد بجميع ذلك القرآن وعبر عنه بالبينة أولا إيذانا بكمال تمكنهم من دراسته وبالهدى والرحمة ثانيا تنبيها على أنه مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة من هداية الناس ورحمتهم بل هو عين الهداية والرحمة وفي التفسير الكبير فان قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير قلنا : القرآن بينة فيما يعلم سمعا وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا فلما اختلفت الفائدة صح هذه العطف ولا يخفى ما فيه
(8/61)
فمن أظلم ممن كذب بآيات الله الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فان مجيء القرآن الموصوف بما تقدم موجب لغاية أظلمية من يكذبه والمراد من الموصول اولئك المخاطبون ووضع موضع ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصا على اتصافهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم واسقاطا لهم عن رتبة الخطاب وعبر عما جاءهم بآيات الله تعالى تهويلا للأمر وقريء كذب بالتخفيف والجار الأول متعلق بما عنده والثاني يحتمل ذلك وهو الظاهر
ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا والمعنى كذب ومعه آيات الله تعالى وصدف عنها أي أعرض غير مفكر فيها كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أو صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والاضلال والفعل على الأول لازم وعلى الثاني متعد وهو الأكثر استعمالا سنجزي الذين يصدفون عن ءاياتنا وعيد لهم ببيان جزاء اعراضهم أو صدهم بحيث يفهم منه جزاء تكذيبهم ووضع الموصول موضع الضمير لتحقيق مناط الجزاء سوء العذاب أي العذاب الشيء الشديد بما كانوا يصدفون
751
- أي بسبب ما كانوا يفعلون الصدف على التجدد والاستمرار وهذأ تصريح بما أشعر به إجراء الحكم على الموصول من علية ما في حيز الصلة له هل ينظرون استئناف مسوق لبيان أنه لا يتأتى منهم الايمان بانزال ما ذكر من البينات والهدى والايذان بأن من الآيات ما لا فائدة للايمان عنده مبالغة في التبليغ والانذار وإزاحة العلل والاعذار وهل للاستفهام الانكاري وأنكر الرضى مجيئها لذلك وقال : إنها للتقرير في الاثابت والجمهور على الأول والضمير لكفار أهل مكة
وزعم الجبائي أنه للنبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أي ما ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم أو يأتي ربك يوم القيامة في ظلل من الغمام حسبما أخبر وبالمعنى الذي أراد وإلى هذا التفسير ذهب أبن مسعود : وقتادة ومقاتل وقيل : اتيان الملائكة لانزال العذاب والخسف بهم وعن الحسن اتيان الرب على معنى اتيان أمره بالعذاب وعن ابن عباس المراد يأتي أمر ربك فيهم بالقتل وقيل : المراد يأتي كل آياته يعني ءايات القيامة والهلاك الكلي لقوله سبحانه : أو يأتي بعض ءايات ربك وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مضاف ونحوه بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر ومنهم من يبقيه على الظأهر إلا أنه يدعي أن الاتيان الذي ينسب اليه تعالى ليس الاتيان الذي يتصف به الحادث وحاصل ذلك أنه يقول بالظواهر وينفي اللوازم ويدعي أنها لوازم في الشاهد وأين التراب من رب الأرباب
وجوز بعض المحققين حمل الكلام على الظاهر المتعارف عند الناس والمقصود منه حكاية مذهب الكفار واعتقادهم وعلى ذلك اعتمد الامام وهو بعيد أو باطل والمراد بالآيات عند بعض أشراط الساعة وهي على ما يستفاد من الأخبار كثيرة وصح من طرق حذيفة بن أسيد قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم من علية ونحن نتذاكر فقال : ما تذاكرون قلنا : نتذاكر الساعة قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر ءايات : الدخان والدجال وعيسى بن مريم وياجوج وماجوج والدابة وطلوع الشمس من مغربها وثلاثة خسوف :
(8/62)
خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وءاخر ذلك نار تخرج من قعر عدن أو اليمن تطرد الناس إلى المحشر تنزل معهم إذا نزلوا وتقيل معهم إذا قالوا وببعضها على ما قيل : الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وهو المراد بالبعض أيضا في قوله سبحانه : يوم تأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل وروى مسلم وأحمد والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعا ما هو صريح في ذلك واستشكل ذلك بأن خروج عيسى عليه السلام بعد الدجال عليه اللعنة وهو عليه السلام يدعو الناس إلى الايمان ويقبله منهم وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي وأجيب عنه بما يخلو عن النظر والحق أن المراد بهذا البعض الذي لا ينفع الايمان عنده طلوع الشمس من مغربها
فقد روى الشيخان لاتقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فاذا طلعت ورآها الناس ءامنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ثم قرأ الآية بل قد روي هذا التعيين عنه صلى الله عليه و سلم في غير ما خبر صحيح وإلى ذلك ذهب جلة المفسرين وما يروى من الأخبار التي ظاهرها المنافاة لذلك غير مناف له عند التحقيق كما لا يخفى على المتأمل وسبب عدم نفع الايمان عند ذلك أنه إذا شوهد تغير العالم العلوي يحصل العلم الضروري ويرتفع الايمان بالغيب وهو الملكلف به فيكون الايمان حينئذ كالايمان عند الغرغرة ومقتضى الاخبار في هذا المطلب أنه لا يقبل الايمان بعد ذلك أبدا لكن الظاهر على ما في الزواجر قبول ما وقع بعد ذلك من غير تقصير كمن جن وأفاق بعد أو أسلم بتبعية أبويه
وعن البلقيني أنه إذا تراخى الحال بعد طلوع الشمس من المغرب وطال العهد حتى نسى قبل الايمان لزوال الآية الملجئة وله وجه وجيه وقول العراقي إن الظاهر أنه لا يطول العهد حتى ينسى غير متجه لما رواه القرطبي في تذكرته عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم ونقله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن الناس يبقون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة والكلام عن كيفية طلوعها من المغرب مفصل في كتب الحديث وفي سوق العروس لابن الجوزي أن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها : ارجعي من مطلعك والمشهور أنها تطلع يوما واحدا من المغرب فتسير إلى خط نصف النهار ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعادتها قبل وخبر عبد الله بن أبي أوفى صريح في ذلك والكل أمر ممكن والله سبحانه على كل شيء قدير
وروى البخاري في تأريخه وأبو الشيخ وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قال : إذا أراد الله تعالى أن يطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها وأهل الهيئة ومن وافقهم يزعمون أن طلوع الشمس من المغرب محال ويقولون : إن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها جهة وحركة وغير ذلك ولا يتطرق اليها تغيير عما هي عليه وقد بنوا ذلك على مثل شفا جرف هار وقال الكرماني : إنه على تقدير تسليم قواعدهم لا امتناع في ذلك أيضا لقولهم بجواز انطباق منطقة فلك البروج المسمى بفلك الثوابت على المعدل وهي منطقة الفلك الأعظم المسمى بفلك الاطلس بحيث يصير المشرق مغربا والمغرب مشرقا انتهى وفيه نظر يعلم بعد بيان كيفية الانطابق وما يتبعه ويلزم منه على ما في كتب محققيهم فاقول : قال في التذكرة وشرحها للسيد السند : الميل الكلي وهو غاية التباعد بين منطقتي
(8/63)
المعدل وفلك البروج الموجود بالارصاد القديمة والحديثة ليس شيئا واحدا بل كان ما وجده القدماء أكثر مما وجده المحدثون وقد يظن أن ما وجده من هو أحدث زمانا كان أقل مما وجده من هو أقدم زمانا مع أن أكثر ما وجدوه لم يبلغ أربعة وعشرين جزءا وأقله لم ينقص عن ثلاثة وعشرين جزءا ونصف جزء
ثم الظاهر أن هذا الاختلاف إنما هو بسبب اختلال الآلات في استدارتها أو قسمتها أو نصبها في حقيقة نصف النهار لا بسبب تحرك أحدى المنطقتين إلى الأخرى والا لوجب أن يكون الاختلاف على نظام واحد ولم يوجد كذلك كما بين في محله لكنه يجوز أن يكون أصل الاختلاف بسبب التحرك وعدم الانتظام بسبب الاختلال ولما امتنع أن يكون هذا التقارب بحركة المعدل نحو منطقة البروج إذ يلزم منه أن تختلف عروض البلدان عما هي عليه وأن يكون خط الاستواء في كل زمان مكانا آخر ذهب بعضهم إلى أن منطقة البروج تتحرك في العرض فتقرب من معدل النهار فان كان هذا حقا يجب أن يثبت فلكا آخر يحرك فلك البروج هذ الحركة ثم أن المنطقة ان تحركت في العرض أمكن أن تتم الدورة وأمكن أن لا تتمها بل تتحرك إلى غاية ما ثم تعود وتلك الغاية يمكن أن تكون بعد انطباقها على منطقة المعدل مرتين أو حال انطباقها الثاني أو فيما بين الانطابقين وذلك إا بعد قطع نصف دورتها أو حال قطع النصف أو قبله وإن لم تصل إلى ما بين الانطابقين فاما أن تعود حال انطباقها الاول أو قبل ذلك وثمانية احتمالات عقلية لا مزيد عليها وعلى التقديرات الخمس الأول يتبادل نصفا سطح فلك البروج الشمالي والجنوبي فيصير نصف سطح فلك البروج الذي هو شمالي عن المعدل جنوبا عنه وبالعكس مع ما يتبع النصفين من الاحكام فتثبت احكام النصف الشمالي للنصف الجنوبي بعد صيرورته شماليا واحكام الجنوبي للشمالي بعد صيرورته جنوبيا وفي الثلاثة الأولى منها ينطبق كل واحد منها نصفي منطقة البروج على كل واحد من نصفي منطقة المعدل وعلى التقديرات الباقية بعد الخمسة الاولى لا يتبادل غير البعض من السطح المذكور وعلى التقديرات السبعة الأولى ينطبق النصف من منطقة فلك البروج على النصف المجاور له من منطقة المعدل وعند كل انطباق يتساوى الليل والنهار في جميع البقاع لأن مدار الشمس هو المعدل المنصف بالآفاق القاطعة له وتبطل فصول السنة لأن بعد الشمس عن سمت الرأس يكون شيئا واحدا هو مقدار عرض البلد ويستمر الحال على هذا إلى أن تفترق المنطقتان بمقدار يحس به ولا يكون ذلك إلا في مدة طويلة وعلى التقدير الثاني لا يكون شيء من الانطباق وتساوي الملوين وبطلان الفصول إلا أن الارتفاعات ومقادير الائام والليالي لاجزاء بعينها من فلك البروج تزيد وتنقص في بقعة بعينها انتهى ملخصا
ولا يخفى أنه من لوازم ما ذكروه من التبادل الناشيء عن الانطباق مرتين انطباق قطب البروج الجنوبي على قطب العالم الشمالي وعكسه وصيرورة بروج الخريف بروج الربيع وعكسه وبروج الصيف بروج الشتاء وعكسه وانعكاس توالي البروج إلى خلافه فيطلع الحوت ثم الدلو ثم الجدي وهكذا إلى الحمل وتوافق حركة ما حركته من المغرب إلى المشرق لحركة الفلك الاعظم إلى غير ذلك وليس صيرورة المشرق مغربا والمغرب مشرقا من لوازم الانطباق المذكور بل لا يتصور أصلا نعم لو كان المدعى انطباق منطقة المعدل على منطقة فلك البروج بحيث تكون الحركة للمعدل نحو المنطقة لتصور ما ذكر لكنه ممتنع على ما صرح به السيد السند فيما مر وقد فرض عدم الامتناع فتدبر والانتظار في الآية محمول على التمثيل المبني على تشبيه حال
(8/64)
هؤلاء الكفار في الاصرار على الكفر والتمادي على العناد إلى أن تأتيهم تلك الأمور الهائلة التي لابد لهم من الايمان عند مشاهدتها البتة بحال منتظرين لها وهذا هو الذي يقتضيه التفسير المأثور ولا ينبغي العدول عن التفسير بعد أن صحت نسبة بعضه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم والبعض الآخر إلى بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم وليس في النظم الكريم ما يأباه ولا أن المقام إنما يساعد على ما سواه وقيل : المراد باتيان الملائكة واتيان الرب سبحانه ما اقترحوه بقولهم : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا وبقوله أو تأتي بالله والملائكة قبيلا وباتيان بعض الآيات غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ونحو ذلك من عظائم الآيات التي علقوا بها إيمانهم وجوز حمل بعض الآيات في قوله سبحانه : يوم يأتي بعض آيات ربك على ما يعم مقترحاتهم وغيرها من الدواهي العظام السالبة للاختيار الذي يدور عليه فلك التكليف وهو كلام في نفسه ليس بالدون ولكن إذا صح الحديث فهو مذهبي والتعبير بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إظافة الآيات إلى اسم الرب المنبيء عن المالكية الكلية لذلك وإظافته إلى ضميره عليه الصلاة و السلام للتشريف وتنكير نفسا للتعميم وجملة لم تكن آمنت في موضع النصب صفة لنفسا فصل بينهما بالفاعل لاشتمالها على ضمير الموصوف ولا ضير فيه لأنه غير أجنبي منه لاشتراكهما في العامل وجوز كونها استئنافية و يوم منصوب بلا ينفع وامتناع عمل ما بعد لا فيما قبلها إنما هو عند وقوعها جواب القسم
وقرأ حمزة والكسائي يأتيهم بالياء لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي وقريء يوم بالرفع على الابتداء والخبر هو الجملة والعائد محذؤف أي لا ينفع فيه وقرأ أبو العالية وابن سيرين لا تنفع بالتاء الفوقانية وخرجها ابن جني على أنها من باب قطعت بعض أصابعه فالمضاف فيه قد اكتسب التأنيث من المضاف اليه لكونه شبيها بما يستغنى عنه وقال أبو حيان : إن التأنيث لتأويل الايمان بالعقيدة والمعرفة مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة
وقوله سبحانه : أو كسبت في إيمانها خيرا عطف على آمنت والكلام محمول على نفي الترديد المستلزم للعموم المفيد بمنطوقه لاشتراط عدم النفع بعدم الامرين معا الايمان المقدم والخير المكسوب فيه وبمفهومه لاشتراط النفع بتحقق أحدهما بطريق منع الخلو دون الانفصال الحقيقي والمعنى أنه لا ينفع الايمان حينئذ نفسا لم يصدر عنها من قبل الايمان المجرد أو الخير المكسوب فيه فيتحقق الخير بأيهما كان حسبما تنطق به النصوص الكريمة من الآيات والأحاديث الصحيحة والمعتزلة يقولون : أن الترديد بين النفيين المراد نفي العموم لا عموم النفي والمعنى أنه لاينفع الايمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة فيه خيرا وهذا صريح فيما ذهبوا اليه من أن الايمان المجرد عن العمل لا يعتبر ولا ينفع صاحبه ولم يحملوا ذلك على عموم النفي كما قرروه في قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا لأن ذلك حيث لم تقم قرينة حالية أو مقالية على خلافه وهنا قد قامت قرينة على خلافه فانه لو اعتبر عموم النفي لغي ذكر اشتراط عدم النفع بالخلو عن كسب الخير في الايمان ضرورة أنه إذا انتفى الايمان قبل ذلك اليوم انتفى كسب الخير فيه قطعا على أن الموجب للخلود في النار هو عدم الايمان من غير أن يكون لعدم
(8/65)
كسبكسب الخير دخل ما في ذلك أصلا فيكون ذكره بصدد بيان ما يوجب الخلود لغوا من الكلام أيضا
وأجاب شيخ الاسلام عن ذلك بأنه مبني على توهم أن المقصود بوصف النفس بالعدمين المذ : ورين مجرد بيان ايجابهما للخلود فيها وعدم نفع الايمان الحادث في انجائها عنه وليس كذلك والا لكفى في البيان أن يقال : لا ينفع نفسا إيمانها الحادث بل المقصود الأصلي من وصفها بذينك العدمين في أثناء عدم نفع الايمان الحادث تحقيق أن موجب النفع أحدى ملكيتهما أعني الايمان السابق والخير المكسوب فيه لما ذكر من الطريقة والترغيب في تحصيلهما في ضمن التحذير من تركهما ولا سبيل الى أن يقال : كما أن عدم الاول مستقل في إيجاب الخلود في النار فيلغو ذكر عدم الثاني كذلك وجود مستقل في إيجاب الخلاص عنها فيكون ذكر الثاني لغوا لما أنه قياس مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمر لا يتصور فيه تعدد العلل وأما الخلاص منها مع دخول الجنة فله مراتب بعضها مترتب على نفس الايمان وبعضها على فروعه المتفاوتة كما وكيفا
ولم يقتصر اتيان ما يوجب أصل النفع وهو الايمان السابق مع أنه المقابل بما لا يوجبه أصلا وهو الايمان الحادث بل قرن به ما يوجب النفع الزائد أيضا ارشادا الى تحري الأعلى وتنبيها على كفاية الادنى واقناطا للكفرة عما علقوا به اطماعهم الفارغة من أعمال البر التي عملوها في الكفر مما هو من باب المكارم وان الايمان الحادث كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالهم السابقة واللاحقة ثم قال : ولك أن تقول : المقصود بوصف النفس بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة في تمردهم وتفريطهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطا بالآخر كما في قوله سبحانه : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى تسجيلا عليهم بكمال طغاينهم وإيذانا بتضاعف عقابهم لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة كما ينبيء عنه قوله تعالى : : ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة انتهى
وقيل في دفع اللغوية غير ذلك وأجاب بعضهم عن متمسك المعتزلة بأن الآية مشتملة على ما سمي في علم البلاغة باللف التقديري كأنه قيل : لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها في إيمانها خيرا لم تكن آمنت من قبل أو لم تكن كسبت خيرا فاقتصرت للعلم به وفيه خفاء لا يخفى ومثله ما تفطن له بعض المحققين وان تم الكلام به من غير لف ولا اعتبار اقتصار وهو أن معنى الآية أنه لا ينفع الايمان باعتبار ذاته إذا لم يحصل قبل ولا باعتبار العمل إذا لم يعمل قبل ونفع الايمان باعتبار العمل أن يصير سببا لقبول العمل فان العبارة لا تحتمله ولا يفهم منها من غير اعتبار تقدير في نظم الكلام وقال مولانا ابن الكمال : إن المراد بالايمان في الآية المعرفة كما يرشد اليه قراءة لا تنفع بالتاء ويكسب الخير الاذعان ونحن معاشر أهل السنة والجماعة نقول بما هو موجب النص من أن الايمان النافع مجموع الأمرين ولا حجة فيه للمخالف لأن مبناها حمل الايمان على المعنى الاصطلاحي المخترع بعد نزول القرآن وتخصيص الخير بما يكون بالجوارح وكل منهما خلاف الأصل والظاهر ولو سلم فنقول : الايمان النافع لا بد فيه من أمرين الاعتقاد بالقلب والاقرار باللسان وقد عبر عن الاول بقوله سبحانه : آمنت وعن الثاني بقوله تعالى : أو كسبت فالكسب يكون بالآلات البدنية ومنها اللسان فمنطوق الآية على مذهبنا انتهى
ولا يخفى عليك أن الالفاظ المستعملة في كلام الشارع حقائق شرعية يتبادر منها ما علم بلا قرينة والايمان وإن صح أنه لم ينقل عن معناه اللغوي الذي هو تصديق القلب مطلقا وان استعمل في التصديق الخاص إلا
(8/66)
أن المتبادر منه هذا التصديق وحينئذ فكلام هذا العلامة لا يخلو عن نظر وأجاب القاضي البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله بأن لمن اعتبر الايمان المجرد عن العمل وقال بأنه ينفع صاحبه حيث يخلصه عن الخلود في النار تخصيص هذا الحكم بذلك أي ان هذا الحكم أعني عدم نفع الايمان المجرد لصاحبه مخصوص بذلك اليوم بمعنى أنه لا ينفعه فيه ولا يلزم منه أنه لا ينفعه في الآخرة في شيء من الأوقات وليس المراد أن المحكوم عليه بعدم النفع هو ما حدث في ذلك اليوم من الايمان والعمل ولا يلزم من عدم نفع ما حدث فيه عدم نفع الايمان السابق عليه وان كان مجردا عن العمل كما قيل لأن هذا ليس من تخصيص الحكم في شيء بل هو تخصيص المحكوم عليه قد يرجع حاصله إلى اشتمال الآية على اللف التقديري كما أشرنا اليه ويرد عليه أنه يلزم منه تخصيص الحكم بعدم نفع الايمان الحادث في ذلك اليوم به أيضا ولا قائل به إذ هو لا ينفع صاحبه في شيء من الأوقات بالاتفاق ويمكن دفعه بأن التخصيص في حكم عدم النفع إنما يلاحظ بالنظر إلى الايمان المجرد وباعتباره فقط على أن يكون معنى الآية يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع الايمان الغير السابق اليه صاحبه فيه ولا الايمان الغير المكتسب فيه الخير وإن نفع هو بالآخرة إلا أن في هذا تخصيصا في الحكم والمحكوم به فتأمل وبأن له أيضا صرف قوله سبحانه : كسبت عن أن يكون معطوفا على آمنت إلى عطفه إلى لم تكن لكن بعد جعل أو بمعنى الواو وحمل الايمان في لا ينفع نفسا ايمانها على الايمان الحادث في ذلك اليوم وإذا لم ينفع ذلك مع كسب الخير فيه يفهم منه عدم نفعه بدونه بالطريق الأولى وأنت تعلم أن مثل هذا الاحتمال يضر بالاستدلال ونحن بصدد الطعن بالاستدلالهم فلا يضرنا أن فيه نوع بعد ومن عجيب ما وقفت عليه لبعض فضلاء الروم في الجواب أن أو بمعنى إلا وبعدها مضارع مقدر مثلها في قول الحريري في المقامة التاسعة : فوالله ما تمضمضت مقلتي بنومها ولا تمخضت ليلتي عن يومها أو الفيت أبا زيد السروجي والأصل أو يكون كسب أي إلا أن يكون والمراد من هذا الاستثناء المبالغة في نفي النفي بتعليقه بالمحال كما في قوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف
وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف في رأي وقول الشاعر : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وحاصل املعنى فيما نحن فيه إذا جاء ذلك اليهم لاينفع الايمان نفسا لم تكن آنت من قبل ذلك اليوم إلا أن تكون تلك النفس التي لم تكن آنت من قبل كسبت في الايمان خيرا قبل ذلك اليوم وكسب الخير في الايمان قبل ذلك اليوم للنفس التي لم تكن آمنت قبل ممتنع فالنفع المطلوب أولى بأن يكون ممتنعا وقد أجيب عن الاستدلال بوجوه أخر وحاصل جميع ذلك أن الآية لما فيها من الاحتمالات لا تكون معارضة للنصوص القطعية المتون القوية التي لا يشوبها مثل ذلك الصادحة بكفاية الايمان المجرد عن العمل في الانجاء من العذاب الخالد ولو بعد اللتيا والتى وبعد ذلك كله يرد على المعتزلة أن الخير نكرة في سياق النفي فيعم ويلزم أن يكون نفع الايمان بمجرد الخير ولو واحدا وليس ذلك مذهبهم فان جميع الاعمال الصالحة داخلة في الخير عندهم
قل لهم بعد بيان حقيقة الحال على وجه التهديد انتظروا ما تنتظرونه من اتيان أحد هذه الأمور إنا منتظرون
851
- لذلك وحينئذ نفوز وتهلكون قيل : في هذا تأييد لكون المراد بما ينتظرونه اتيان ملائكة العذاب أو اتيان أمره تعالى به وعدة ضمنية لرسول الله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين بمعينتهم بما يحيق
(8/67)
بالكفرةبالك من العقاب ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر
إن الذين فرقوا دينهم استئناف لبيان أحوال أهل الكتابين إثر بيان حال المشركين بناء على ما روي عن ابن عباس وقتادة أن الآية نزلت في اليهود والنصارى أي بددوا دينهم وبعضوه فتمسك بكل بعض منه فرقة منهم وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وحمزة والكسائي فارقوا بالألف أي باينوا فان ترك بعضه وإن كان يأخذ بعض آخر منه ترك الكل أو مفارقة له وكانوا شيعا أي فرقا تشيع كل فرقة إماما وتتبعه أو تقويه وتظهر أمره أخرج أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة وابن حبان وصححه الحاكم عن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة واستثناء الواحدة من فرق كل من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وان اختلفت أسباب دخولهم ومن غريب ما وقع أن بعض متعصبي الشيعة الأمامية من أهل زماننا واسمه حمد روى بدل إلا واحدة في هذا الخبر إلا فرقة وقال : إن فيه إشارة إلى نجاة الشيعة فان عدد لفظ فرقة بالجمل وعدد لفظ شيعة سواء فكأنه قال عليه الصلاة و السلام : إلا الشيعة والمشهور بهذا العنوان هم الشيعة الامامية فقلت له بعد عدة تزييفات لكلامه : يلزم هذا النوع من الاشارة أن تكون كلبا لأن عدد كلب وعدد حمد سواء فالقم الكلب حجرا
لست منهم في شيء أي من السؤال عنهم والبحث عن تفرقهم أو من عقابهم أو أنت بريء منهم وقيل : يحتمل أن يكون هذا وعدا لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالعصمة عنهم أي لست منهم في شيء من الضرر وعن السدي أنه نهي عن التعرض لقتالهم ثم نسخ بما في سورة براءة و منهم في موضع الحال لأنه صفة نكرة قدمت عليها إنما أمرهم إلى الله تعليل للنفي المذكور أي هو يتولى وحده أمرا أولاهم وءاخرتهم ويدبره حسبما تقتضيه الحكمة وقيل : المفرقون أهل البدع من هذه الأمة فقد أخرج الحكيم الترمذي وان جرير والطبراني والشيرازي في الالقاب وابن مردويه عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله سبحانه : إن الذي فرقوا الخ هم أهل البدع والاهواء من هذ الأمة
وأخرج الترمذي وابن ابي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها يا عائش أن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذ الأمة ليس لهم توبة وأنا منهم بريء وهم مني برآء فيكون الكلام استئنافا لبيان حال المبتدعين إثر بيان حال المشركين اشارة إلى أنهم ليسوا منهم ببعيد ولعل جملة إنما أمرهم الخ على هذا ليست للتعليل وإنما هي للوعيد على ما فعلوا أي أن رجوعهم اليه سبحانه ثم ينبئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون
951
- في الدنيا على الاستمرار بالعقاب عليه من جاء بالحسنة استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان
(8/68)
أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم أي من جاء من المؤمنين بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة أي خصلة كانت وقيل : التوحيد ونسب إلى الحسن وليس بالحسن فله عشر حسنات أمثالها فضلا من الله تعالى
وقرأ يعقوب عشر بالتنوين أمثالها بالرفع على الوصف وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل : المراد بالعشر الكثرة لا الحصر في العدد الخاص
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة وابو الشيخ عن ابن عباس وعبد بن حميد وغيره عن ابن عمر أن الآية نزلت في الأعراب خاصة وأما المهاجرون فالحسنة مضاعفة لهم سبعمائة ضعف والظاهر العموم
وتجريد عشر من التاء لكون المعدود مؤنثا كما أشرنا إليه لكنه حذف وأقيمت صفته مقامه وقيل : إنه المذكور إلا أنه اكتسب التأنيث من المضاف اليه من جاء بالسيئة كائنا من كان من العالمين فلا يجزى إلا مثلها بحكم الوعد واحدة بواحدة وإيجاب كفر ساعة عقاب الابد لأن الكافر على عزم أنه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد أبدا وهم لا يظلمون
61
- بنقص الثواب وزيادة العقاب فان ذلك منه تعالى لا يعد ظلما إذ له سبحانه أن يعذب المطيع ويثيب العاصي وقيل : المعنى لاينقصون في الحسنات من عشر أمثالها وفي السيئة من مصثلها في مقام الجزاء
ومن المعتزلة من استدل بهذه الآية على اثبات الحسن والقبح العقليين واختلف في تقريره فقيل : إنهم لما رأوا أن أحد أدلة الأشاعرة على النفي أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله كما بين في محله فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثواب والعقاب عليه قالوا : إن قوله سبحانه : من جاء بالحسنة الخ صريح في أن العبد مستبد مختار في فعله الحسن والقبيح وإذا ثبت ذلك يثبت الحسن والقبح العقليان وأجيب عنه بأن الآية لا تدل على استبداد العبد غاية ما فيها أنها تدل على المباشرة وهم لا ينكرونها وقيل : إن الآية دلت على أن لله تعالى فعلا حسنا ولو كان حسن الأفعال لكونها مأمورة أو مأذونا فيها لما كان فعل الله تعالى حسنا إذ هو غير مأمور ولا مأذون وأيضا لو توقف معرفة الحسن والقبح على ورود الشرع لما كانت أفعاله تعالى حسنة قبل الورود وهو خروج عن الدين
وأجيب أما عن الأول فبأنا لا ندعي أنه لأحسن إلا ما أمر به أو أذن في فعله حتى يقال : يلزم أن تكون أفعال الله تعالى غير حسنة إذ يستحيل أن يكون مأمورا بها أو مأذؤنا فيها بل ما أمر الشارع بفعله أو أذن فيه فهو حسن ولا ينعكس كنفسه بل قد يكون الفعل حسنا باعتبار موافقة الغرض أو باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله وبهذا الاعتبار كان فعل الله تعالى حسنا سواء وافق الغرض أو خالف وأما عن الثاني فبأن الحسن والقبح وإن فسرا بورود الشرع بالمنع والاطلاق لكن لا نسلم أنه لا حسن ولا قبح إلا بالشرع حتى يلزمنا ذلك بل الحسن والقبح أعم مما ذر كما عرف في موضعه ولا يلزم من تحقق معنى الحسن والقبح بغير ورود الشرع بالمنع والاطلاق أن يكون ذاتيا للافعال ولا يخفى على المطلع أن قولهم : لو كان حسن الأفعال الخ وقولهم : لو توقف معرفة الحسن والقبح الخ شبهتان مستقلتان من شبه عشرة الزامية ذكرها الآمدي في ابكار الأفكار
(8/69)
وأنوأن كلام من التقريرين السابقين لا يخلوا بعد عن نظر فتدبر
قل إنني هداني ربي أمر له صلى الله عليه و سلم بأن يبين ما هو عليه من الدين الحق الذي يدعي المفرقون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية وتصدير الجملة بحرف التحقيق لاظهار كمال العناية بمضمونها والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام لما مر غير مرة أي قل يا محمد لهؤلاء المفرقين أو للناس كافة : ارشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات إلى صراط مستقيم موصل إلى الحق
وقوله سبحانه : دينا بدل من محل إلى صراط إد المعنى فهداني صراطا نظير قوله تعالى : ويهديك صراطا مستقيما أو مفعول فعل مضمر دل عليه المذكور أي هداني أو أعطاني أو عرفني دينا وجوز أن يكون مفعولا ثانيا للمذكور وقوله سبحانه : قيما مصدرا كالصغر والكبر نعت به مبالغة وجوز أن يكون التقدير ذا قيم والقياس قوما كعوض وحول فاعل تبعا لاعلال فعله أعني قام كالقيام وقرأ كثير قيما وهو فيعل من قام أيضا كسيد من ساد وهو على ما قيل أبلغ من المستقيم باعتبار الهيئة والمستقيم أبلغ منه باعتبار مجموع المادة والهيئة وقيل : أبلغية المستقيم لأن السين للطلب فتفيد طلب القيام واقتضاءه ولا فرق بين القيم والمستقيم في أصل المعنى عند الكثير وفسروا القيم بالثابت المقوم لأمر المعاش والمعاد وجعلوا المستقيم من استقام الأمر بمعنى ثبت وإلا لا يتأتى ما ذكر وقيل : المستقيم مقابل المعوج والقيم الثابت الذي لا ينسخ ملة إبراهيم نصب بتقدير أعني أو عطف بيان لدينا بناء على جواز تخالف البيان والمبين تعريفا وتنكيرا حنيفا أي مائلا عن الأديان الباطلة أو مخلصا لله تعالى في العبادة وهو حال من ابراهيم وقد أطبقوا على جواز مجيء الحال من المضاف اليه إذا كان المضاف جزءا منه أو بمنزلة الجزء حيث يصح قيامه مقامه والعامل في هذ الحال هو العامل في المضاف وقيل : معنى الاضافة لما فيه من معنى الفعل المشعر به حرف الجر وقد تقوى هذا المعنى هنا بما بين المتضايفين من الجزئية أو شبهها
وجوز أن يكون مفعولا لفعل مقدر أي أعني حنيفا وما كان من المشركين
161
- اعتراض مقرر لنزاهته عليه الصلاة و السلام عما عليه المبطلون وقيل : عطف على ما تقدم وفيه رد على الذين يدعون أنهم على ملته عليه الصلاة و السلام من أهل مكة القائلين : الملائكة بنات الله واليهود القائلين : عزير ابن الله والنصارى القائلين : عيسى ابن الله قل إن صلاتي أي جنسها لتشمل المفروضة وغيرها وأعيد الأمر لمزيد الاعتناء وقيل : لأن المأمور به متعلق بفروع الشارائع وما سبق باصولها ونسكي 9 أي عبادتي كلها كما قال ألزجاج والجبائي وهو من عطف العام على الخاص وعن سعيد بن جبير ومجاهد والسدي أن المراد به الذبيحة للحج والعمرة وعن قتادة الاضحية وجمع بينه وبين الصلاة كما في وقله تعالى : فصل لربك وانحر على المشهور وقيل : المراد به الحج أي إن صلاتي وحجي ومحياي ومماتي أي ما يقارن حياتي وموتي من الايمان والعمل الصالح
وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالمحيا والممات ظاهرهما والأول هو المناسب لقوله تعالى : لله رب العالمين
261
(8/70)
إذ المراد به الخلوص بحسب الظاهر وقيل المراد به نظرا لهذا الاحتمال أن ذلك له تعالى ملكا وقدرة لا شريك له أي في عبادتي أو فيها وفي الاحياء والاماتة وقرأ نافع محياي باسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف وفي رواية أنه كسر الياء وعلى الرواية الاولى انما جاز التقاء الساكنين لنية الوقف وفيه يجوز ذلك فطعن بعضهم في ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين وهو لا يجوز ليس في محله وقد روى هذه القراءة عن نافع جماعة وما قيل : إنه رجع عنها وأنه لا يحل لأحد نقلها عنه ليس بشيء
ةبذلك أي القول أو الاخلاص أمرت لا بشيء غيره وأنا أول المسلمين
361
- اي المناقدين الى امتثال ما أمر الله تعالى به وقيل : المستسلمين لقضاء الله تعالى وقدره والمراد مسلمي أمته كما قيل وهذا شأن كل نبي بالنسبة الى أمته وقيل : المستسلمين لقضاء الله تعالى وقدره والمراد مسلمي أمته كما قيل وهذا شأن كل نبي بالنسبة الى أمته وقيل : هذا اشارة الى قوله عليه الصلاة و السلام أول ما خلق الله تعالى نوري قل أغير الله أبغي ربا انكار لبغية غيره تعالى ربا لا لبغية الرب ولهذا قدم المفعول وليس التقديم للاختصاص إذ المقصود أغير الله أطلب ربا وأجعله شريكا له وعلى تقدير الاختصاص لا يكون اشراكا للغير بل توحيد وقال بعض المحققين : لا يبعد أن ياقل التقديم للاختصاص وذكر في رد دعوته الى الغير رد الاختصاص تنبيها على أن اشراك الغير بغية غير الله تعالى إد لا بغية له سبحانه الا بتوحيده عز و جل وما في النظم الكريم أبلغ من أغير الله أعبد ونحوه كما لا يخفى وهو سبحانه رب كل شيء جملة حالية مؤكذة للانكار أي والحال أن كل ما سواه مربوب فكيف يتصور أن يكون شريكا له ولا تكسب كل نفس الا عليها يروى أنهم كانوا يقولون للمسلمين : اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم فرد عليهم بم ذكر اي ان ما كسبته كل نفس من الخطايا محمول عليها لا على غيرها حتى يصح قولكم وعلى هذا يكون قوله سبحانه : ولا تزر وازرة أي نفس آثمة وزر أخرى تأكيدا لما قبله وقيل : إن قولهم ذلك يحتمل معنيين الاول اتبعوا سبيلنا وليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم والثاني اتبعوا لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا
وقوله تعالى : ولا تكسب الخ رد له بالمعنى الأول وقوله سبحانه : ولاتزر الخ رد له بالمعنى الثاني وقيل : إن جواب قولهم هو الثاني وان الأول من جملة الجواب عن دعواهم إلى عبادة آلهتهم يعني لو أجبتكم إلى مادعوتموني اليه لم أكن معذورا بأنكم سبقتموني اليه وقد فعلته متابعة لكم ومطاوعة فلا يفيدني ذلك شيئا ولا ينجيني من الله تعالى لأن كسب كل أحد وعمله عليه ورجحه بعضهم على الأول بأن التأسيس خير من التأكيد ثم إلى ربكم مرجعكم تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكل لتأكيد الوعد وتشديد الوعيد أي إلى مالك أمركم رجوعكم يوم القيامة فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون
461
- ببيان الرشد من الغي وتمييز الحي من اللي
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض أي يخلف بعضكم بعضا كلما مضى قرن جاء قرن حتى تقوم الساعة ولا يكون ذلك إلا من عالم مدبر وإلى هذا ذهب الحسن أو جعلكم خلفاء الله تعالى في أرضه تتصرفون
(8/71)
فيها كما قيل والخطاب عليهما عام وقيل : الخطاب لهذه الأمة وروي ذلك عن السدي أي جعلكم خلفاء الأمم السالفة ورفع بعضكم فوق بعض في الفضل والغنى كما روي عن مقاتل درجات كثيرة متفاوتة ليبلوكم فيما ءاتاكم أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر ماذا تعملون مما يرضيه وما لا يرضيه إن ربك تجريد الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم مع إضافة اسم الرب اليه عليه الصلاة و السلام لابراز مزيد اللطف به صلى الله عليه و سلم سريع العقاب أي عقابه سبحانه الأخروي سريع الاتيان لمن لم يراع حقوق ما ءاتاه لأن كل آت قريب أو سريع التمام عند ادارته لتعاليه سبحانه عن استعمال المباديء والآلات
وجوز أن يراد بالعقاب عقاب الدنيا كالذي يعقب التقصير من البعد عن الفطرة وقساوة القلب وغشاوة الأبصار وصم الاسماع ونحو ذلك وإنه لغفور رحيم
561
- لمن راعى حقوق ما ءاتاه الله تعالى كما ينبغي
وفي جعل خبر هذه الجملة هذين الوصفين الواردين على بناء المبالغة مع التأكيد باللام مع جعل خبر الاولى صفة جارية على غير من هي له ما لا يخفى من التنبيه على أنه سبحانه غفور رحيم بالذات لا تتوقف مغفرته ورحمته على شيء كما يشير اليه قووله سبحانه في الحديث القدسي سبقت رحمتي غضبي مبالغ في ذلك فاعل للعقوبة بالعرض وبعد صدور ذنب من العبد يستحق به ذلك وما ألطف افتتاح هذ السورة بالحمد وختمها بالمغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفر منهما إنه ولي الانعام وله الحمد في كل ابتداء وختام
ومن باب الاشارة في الآيات سيقول الذين أشركوا بالله تعالى وأثبتوا وجودا غير وجوده لو شاء الله تعالى ما أشركنا به سبحانه شيئا ولا أشرك آباؤنا من قبلنا ولا حرمنا من شيء قالوا ذلك تكذيبا للرسل عليهم السلام كذلك كذب الذين من قبلهم وقالوا مثل قولهم حتى ذاقوا بأسنا الذي حل بهم لتكذيبهم وهو الحجاب قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا بالبيان إن تتبعون إلا الظن لأنكم محجوبون في مقام النفس قل فلله الحجة البالغة أي إن كان الأمر كما قلتم فليس لكم حجة بل لله تعالى الحجة عليكم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلمه في الأزل ولا يعلم الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه فلو لم تكونوا في أنفسكم مشركين سيئي الاستعداد لما شاء الله تعالى ذلك منكم فلو شاء لهداكم أجمعين لكنه لم يشأ إد ليس في استعدادكم الأزلي ذلك
وتحتمل الآية وجوها أخر لعلها غير خفية قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا فان اثبات موجود غير الله تعالى ظلم عظيم وبالوالدين أي الروح والقلب أحسنوا إحسانا برعاية حقوقهما ولا تقتلوا أي تهلكوا اولادكم قواكم باستعمالها في غير ما هي له من إملاق أي من أجل فقركم من الفيض الأقدس نحن نرزقهكم وإياهم بأن نفيض عليكم وعليهم ما تتغذون به من المعارف بمقدار إذا توجهتم الينا ولا تقربوا الفواحش الأعمال الشنيعة ما ظهر منها كأفعال الجوارح وما بطن كأفعال القلب ولا تقتلوا النفس التي حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق أي إلا بسببه بأن تريدوا توجهها اليه أو إلا قتلا متلبسا به وهو قتلها إذا مالت إلى السوي ولا تقربوا مال اليتيم أي ما أعد ليتيم القلب المنقطع عن علائق الدنيا والآخرة من المعارف التي هي وراء طور العقل إلا بالتي هي احسن وهي التصديق بذلك أجمالا وعدم
(8/72)
انكاره حتى يبلغ أشده فيقوى على قبول أنواع التجليات وحينئذ يصح لكم أن تقربوا ما أعد الله تعالى له من هاتيك المعارف لقوة قلوبكم وتقدس أرواحكم
ومن الناس من جعل اليتيم إشارة إلى حضرة الرسالة عليه الصلاة و السلام وهو كما ترى وأوفوا الكيل أي كيل الشرع بمراعاة الحقوق الظأهرة والميزان أي ميزان الحقيقة بمراعاة الحقوق الباطنة بالقسط بالعدل وإدا قلتم فاعدلوا أي لا تقولوا إلا الحق وبعهد الله أوفوا وهو التوحيد وأن هذا صراطي مستقيما غير مائل إلى اليمين والشمال فاتبعوه لتصلوا إلى الله تعالى ولا تتبعوا السبل التي وصفها أهل الاحتجاب فتفرق بكم عن سبيله فتضلوا ولا تصلوا اليه سبحانه هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لتوفي أرواحهم أو يأتي ربك بالتجلي الصوري يوم القيامة كما صح في ذلك الحديث أو يأتي بعض ءايت ربك وهو الكشف عن ساق يوم يأتي بعض ءايت ربك وهو الكشف المذ : ور لاينفع نفسا إيمانها حينئذ لانقطاع التكليف
إن الذين فرقوا دينهم أهواء متفرقة كالذين غلبت عليهم صفات النفس وكانوا شيعا فرقا مختلفة بحسب غلبة تلك الأهواء لست منهم في شيء إد هم أهل التفرقة والاحتجاب بالكثرة فلا تجتمع هممهم ولا تتحد مقاصدهم إنما أمرهم إلى الله في جزاء تفرقهم ثم ينبئهم عند ظهور هيئات أهوائهم المختلفة المتفرقة بما كانوا يفعلون من السيئات واتباع الهوى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وذلك لأن السيئة من مقام النفس وهي مرتبة الآحاد والحسنة أول مقاماتها مقام القلب وهي مرتبة العشرات وأقل مراتبها عشرة وقد يضاعف الحسنة بأكثر من ذلك إذا كانت من مقام الروح أو مقام السر وهذا هو السر في تفاوت جزاء الحسنات التي تشير اليه النصوص قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم هو طريق التوحيد الذاتي دينا قيما ثابتا لا تنسخه الملل والنحل ملة إبراهيم التي أعرض بها عن السوي حنيفا مائلا عن كل دين فيه شرك قل إن صلاتي حضوري وشهودي بالروح ونسكي تقربي بالقلب ومحياي بالحق ومماتي بالنفس لله رب العالمين لا نصيب لأحد مني في ذلك لاشريك له في شيء أصلا إذ لا وجود سواه وبذلك الاخلاص وعدم رؤية الغير أمرت وأنا أول المسلمين المنقادين للفناء فيه سبحانه قل أغير الله أبغي ربا فاطلب مستحيلا وهو رب كل شيء أي وما سواه باعتبار تفاصيل صفاته سبحانه مربوب ولا تكسب كل نفس إلا عليها إد كسب النفس شرك في أفعاله تعالى وكل من أشرك فوباله عليه ولا تزر وازرة وزر أخرى لعدم تجاوز الملائكة إلى غير صاحبها وهو الذي جعلكم خلائف الأرض بأن جعلكم له مظهر أسمائه ورفع بعضكم فوق بعض درجات في تلك المظهرية لأنها حسب الاستعداد وهو متفاوت ليبلوكم فيما آتاكم ويظهر علمه بمن يقوم برعاية ما آتاه وبمن لا يقوم إن ربك سريع العقاب لم لم يراع وانه لغفور رحيم لمن يراعي ذلك نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه
(8/73)
سورة الاعراف
بسم الله الرحمن الرحيم أخرج أبو الشيخ وابن حبان عن قتادة قال : هي مكية إلا آية وأسألهم عن القرية وقال غيره : إن هذه إلا وإذ أخذ ربك مدني : وأخرج غير واحد عن ابن عباس وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا وهي مائتان وخمس آيات في البصري والشامي وست في المدني والكوفي فالمص وبدأكم تعودون كوفي ومخلصين له الدين بصري وشامي وضعفا في النار والحسنى على بني إسرائيل مدني وكلها محكم وقيل : إلا موضعين الأول وأملي لهم فانه نسخ بآية السيف والثاني خذ العفو فانه نسخ بها أيضا عند ابن زيد وادعى أيضا أن وأعرض عن الجاهلين كذلك وفيما ذكر نظر وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى
ومناسبتها لما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها هو الذي خلقكم من طين وقال سبحانه في بيان القرون كم أهلكنا من قبلهم من قرن وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الأجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة وقال سبحانه في قصة عاد : جعلناكم خلفاء من بعد قوم نوح وفي قصة ثمود جعلناكم خلفاء من بعد عاد وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم : كتب على نفسه الرحمة وهو كلام موجز وبسط سبحانه هنا بقوله تعالى : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون الخ وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه هذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوهوأفتتح هذا الامر باتباع الكتاب وأيضا لما تقدم ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون قال جل شأنه في مفتتح هذه : فلنسألن الذين أرسل اليهمالخ وذلك في شرح التنبئة المذ : ورة وأيضا لما قال سبحانه من جاء بالحسنة اةية وذلك لا يظهر إلا في الميران افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل : والوزن يومئذ الحق ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيآته ثم من خفت وهو على العكس ثم ذكر سبحانه بعد أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيآتهم
بسم الله الرحمن الرحيم
المص
1
- سبق الكلام في مثله وبيان ما فيه فلا حاجة إلى الاعادة خلا أنه قيل هنا : ان معنى ذلك المصور وروي ذلك عن السدي واخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس أن المعنى أنا الله أعلم وأفصل واختاره الزجاج وروي عن ابن جبير وفي رواية أخرى عن الحبر أنه وكذا نظائره قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه وعن الضحاك أن معناه أنا الله الصادق وعن محمد بن كعب القرظي أن الألف واللام من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد وقيل : المراد به الم نشرح لك صدرك
وذكر بعضهم أنه ما من سورة افتتحت بالم إلا وهي مشتملة على ثلاث أمور بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والوسط الذي هو المعاش واليها الاشارة بالاشتمال على المخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين وزيد في هذه السورة على ذلك الصاد لما فيها من ذكر شرح القصص وهو كما ترى والله تعالى أعلم بمراده
(8/74)
وقوله سبحانه : كتاب على بعض الاحتمالات خبر لمبتدأ محذوف أي هو أو ذلك كتاب وقوله سبحانه : أنزل إليك أي من عنده تعالى صفة له مشرفة لقدره وقدر من أنزل اليه صلى الله عليه و سلم وبني الفعل للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن الصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر في ترك ذكر مبدأ الانزال والتوصيف بالماضي إن كان الكتاب عبارة عن القرآن عن القدر المشترك بين الكل والجزء ظاهر وإن كان المجموع فلتحققه جعل كالماضي واختار الزمخشري ومن وافقه أن المراد بالكتاب هنا السورة وفيه من المبالغة مالا يخفى إن قلنا : إنه لم يطلق على البعض وإذا قلنا باطلاقه على ذلك كما في قولهم : ثبت هذا الحكم بالكتاب فالأمر واضح ومن الناس من جوز جعل كتاب مبتدأ والجملة بعده خبر على معنى كتاب أي كتاب أنزل اليك ولا يخفى أن الأول أولى لأن هذا خلاف الأصل وحذف المبتدأ أكثر من أن يحصى فلا يكن في صدرك حرج منه اي شك كما قال ابن عباس وغيره وأصله الضيق واستعماله في ذلك مجاز كما في الأساس علاقته اللزوم فان الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه والقرينة المانعة هو امتناع حقيقة الحرج والضيق من الكتاب وإن جوزتها فهي كناية وعلى التقديرين هو قد صار حقيقة عرفية في ذلك كما قاله بعض المحققين
وجوز أن يكون باقيا على حقيقته لكن في الكلام مضاف مقدر كخوف عدم القبول والتكذيب فانه صلى الله عليه و سلم كان يخاف قومه وتكذيبهم واعراضهم عنه وأذاهم له ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك الآية وللاول قوله تعالى : فلا تكونن من الممترين وقد يقال : إنه كناية عن الخوف والخوف كما يقع على المكروه يقع على سببه
وتوجيه النهي إلى الحرج بمعنى الشرك مع أن المراد نهيه عليه الصلاة و السلام عن ذلك قيل إا للمبالغة في تنزيه ساحة الرسول صلى الله عليه و سلم عن الشك فان النهي عن الشيء مما يوهم امكان صدور المنهى عنه المنهي وإما للمبالغة في النهي فان وقوع الشك في صدره عليه الصلاة و السلام سبب لاتصافه وحاشاه به والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفي له بالمرة كما في قوله سبحانه ولا يجرمنكم شنآن قوم وليس هذا من قبيل لا أرينك ههنا فان النهي هناك وارد على المسبب مرادا به النهي عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة و السلام عن تعاطي ما يورث الحرج فتأمل انتهى
والذي ذهب إليه بعض المحققين أن المراد نهي المخاطب عن التعرض للحرج بطريق الكناية وانه من قبيل لا أرينك ههنا في ذلك لما أن عدم كون الحرج في صدره من اوازم عدم كونه متعرضا للحرج كما أن عدم الرؤية من لوازم عدم الكون ههنا فالنافي لكونه من قبيل ذلك ان أراد الفرق بينهما باعتبار أن المراد في أحدهما النهي عن السبب والمراد المسبب وفي الآخر بالعكس فلا ضير فيه ولهذا عبر البعض باللزوم دون السببية وان أراد أنه ليس من الكناية أصلا فباطل نعم جوز أن يكون من المجاز والمشهور أن الداعي لهذا التأويل أن الظاهر يستدعي نهي الحرج عن الكون في الصدر والحرج مما لا ينهى وله وجه وجيه فليفهم
والجملة على تقدير كون الحرج حقيقة كما يفهمه كلام الكشاف كناية عن عدم المبالاة بالاعداء وأيا ما كان فالتنوين في حرج للتحقير ومن متعلقه بما عندها أو بمحذوف وقع صفة له أي حرج كائن منه والفاء
(8/75)
تحتمل العطف إما على مقدر أي بلغة فلا يكن في صدرك الخ وإما على ما قبله بتأويل الخبر بالانشاء أو عكسه أي تحقق أنزاله من الله تعالى اليك أولا ينبغي لك الحرج وتحتمل الجواب كأنه قيل : إذا أنزل اليك فلا يكن الخ
وقال الفراء انها اعتراضية وقال بعض المشايخ هي لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملة إن كان المراد لا يكن في صدرك شك ما في حقيته فانه مما يوجب انتفاء الشك فيما ذكر بالكلية وحصول اليقين به قطعا ولترتيب ما ذكر على الأخبار بذلك لا على نفسه إن كان المراد لا يكن فيه شك في كونه كتابا منزلا اليك وللترتيب على مضمون الجملة أو على الأخبار به إذا كان المراد لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك أو أن تقصر في القيام بحقه فان كلا منهما موجب للاقدام على التبليغ وزوال الخوف قطعا وان كان إيجاب الثاني بواسطة الأول ولا يخفى ما في أوسط هذه الشقوق من النظر فتدبر
لتنذر به أي بالكتاب المنزل والفعل قيل اما منزل منزلة اللازم أو أنه حذف مفعوله لافادة العموم وقد يقال : إنه حذف المفعول لدلالة ما سيأتي عليه واللام متعلقة بأنزل عند الفراء وجملة النهي معترضة بين العلة ومعلولها وهو المعنى بما نقل عنه أنه على التقديم والتأخير قيل : وهذا مما ينبغي التنبيه له فان المتقدمين يجعلون الاعتراض على التقديم والتأخير لتخلله بين اجزاء كلام واحد وليس مرادهم أن في الكلام قلبا ووجه التوسيط اما أن الترتيب على نفس الانزال لا على الانزال للانذار وإما رعاية الاهتمام مع ما في ذلك على ما قيل من الاشارة إلى كفاية كل من الانزال والانذار في نفي الحرج أما كفاية الثاني فظاهرة لأن المخوف لا ينبغي أن يخاف من يخوفه ليتمكن من الانذار على ما يجب وأما كفاية الأول فلأن كون الكتاب البالغ غاية الكمال منزلا عليه عليه الصلاة و السلام خاصة بين سائر إخوانه الانبياء عليه السلام يقتضي كونه رحيب الصدر غير مبال بالباطل وأهله وعن ابن الانباري أن اللام متعلقة بمتعلق الخبر أي لا يكن الحرج مستقرا في صدرك لأجل الانذار وقيل : إنها متعلقة بفعل النهي وهو الكون بناء على جواز تعلق الجار بكان الناقصة لدلالتها على الحدث الصحيح وقيل : يجوز أن يتعلق بحرج على معنى أن الحرج للانذار والضيق له لا ينبغي أن يكون وقال العلامة الثاني : إنه معمول للطلب أو المطلوب أعني إنتفاء الحرج وهذا أظهر لا للمنهي أي الفعل الداخل عليه النهي كما قيل لفساد المعنى وأطلق الزمخشري تعلقه بالنهي واعترض بأنه لا يتأتى على التفسير الأول للحرج لأن تعليل النهي عن الشك بما ذكر من الانذأر والتذكير مع إيهامه لامكان صدوره عنه صلى الله عليه و سلم مشعر بان المنهي عنه ليس بمحذؤر لذاته بل لافضائه إلى فوات الانذار والتذكير لا أقل من الايذان بأن ذلك معظم غائلته ولا ريب في فساده وأما على التفسير الثاني فانما يتأتى التعليل بالانذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبة خوف حتى يجعل غاية لانتفائه وأنت خبير بان كون النهي عنه محذورا لذاته ظاهر ظهور نار القرى ليلا على علم فلا يكاد يتوهم نقيضه والقول بانه لا أقل من الايذان بأن ذلك معظم غائلته لا فساد فيه بناء على ما يقتضيه المقام وإن كان بعض غوائله في نفس الأمر أعظم من ذلك وأن الآية ليست نصا في تعليل النهي بالانذار والتذكير كما سيتضح لك قريبا إن شاء الله تعالى حتى يتأتى الاعتراض نظارا للتفسير الثاني سلمنا أنها نص لكنا نقول : لم يجوز أن يكون ذلك من قبيل قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك الآية وذكرى للمؤمنين
2
(8/76)
نصب باضمار فعله عطفا على تنذر أي وتذكر المؤمنين تذكيرا ومنع الزمخشري فيما نقل عنه العطف بالنصب على محل لتنذر معللا بأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل المعلل واحدا حتى يجوز حذف اللام منه
ويمكن كما في الكشف أن يقال لا منع من أن يكون التذكير فعل المنزل الحق تعالى إلا أنه يفوت التقابل بين الانذار والتذكير نعم يحتمل الجر بالعطف على المحل أي للانذار والتذكير ويحتمل الرفع على أنه معطوف على كتاب أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ذكرى والفرق بين الوجهين على ما في الكشف أن الاول معناه أن هذا جامع بين الأمرين كونه كتابا كاملا في شأنه بالغا حد الأعجاز في حسن بيانه وكونه ذكرى للمؤمنين يذكرهم المبدأ والمعاد والثاني يفيد أن هذا المقيد بكونه كتابا من شأنه كيت وكيت هو ذكرى للمؤمنين ويكون من عطف الجملة على الجملة فيفيد استقلاله بكل من الأمرين وهذا أولى لفظا ومعنى وتخصيص التذكير بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به أو للايذان باختصاص الانذار بالكافرين
وتديم الانذأر لأنه أهم بحسب المقام اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم خطاب لكافة المكلفين والمراد بالموصول الكتاب المنزل اليه صلى الله تعالى عليه وسلم كما روي عن قتادة إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر وجعل منزلا اليهم لتأكيد وجوب الاتباع وقيل : المراد به ما يعم الكتاب والسنة فليس من وضع المظهر موضع المضمر وإيثاره لفائدة التعميم وتشميم من أسلوب قول الانمارية هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها وتتميم لشرح الصدر فانه لما شجع أمر الجميع باتباع جميع ما يرسمه ليكون أدعى لانشراح صدره عليه الصلاة و السلام ورحب ذراعه
ولا يخفى أن هذا الحمل بعيد نعم يعم السنة بأقسامها الحكم بطريق الدلالة لا بطريق العبارة و من متعلقة بأنزل على أنها لابتداء الغاية مجازا أو بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضمير المخاطبين مزيد لطف بهم وترغيب لهم في الامتثال بما أمروا به وتأكيد لوجوبه إثر تأكيد ولا تتبعوا من دون أولياء الضمير المجرور عائد إلى ربكم والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل فعل النهي أي لا تتبعوا متجاوزين ربكم الذي أنزل اليكم ما يهديكم إلى الحق أولياء من الشياطين والكهان بأن تقبلوا منهم ما يلقونه اليكم من الأباطيل ليضلوكم عن الحق بعد إذ جاءكم ويحملوكم على البدع والأهواء الزائغة
ويجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من أولياء قدم عليه لكونه نكرة أي أولياء كائنة غيره تعالى وأن يكون متعلقا بالفعل قبله أي تعدلوا عنه سبحانه إلى غيره ولما كان اتباع ما أنزله سبحانه جل وعلا اتباعا له عز شأنه عقب الأمر السابق بهذا النهي وقيل : الضمير لما أنزل على حذف مضاف في أولياء أي لا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء وكأنه قيل : ولا تتبعوا من دون دين ربكم دين أولياء وذلك التقدير لأنه لا يحسن وصف المنزل بكونه دونهم وجوز كون الضمير للمصدر أي لا تتبعوا أولياء اتباعا من دون اتباعكم ما أنزل اليكم وفيه بعد
وقرأ مجاهد تبتغوا بالغين المعجمة من الابتغاء قليلا ما تذكرون
3
- أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون لا كثيرا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون الحق وتتبعون غيره فقليلا
(8/77)
نعت مصدر أو زمان محذوف أقيم مقامه ونصبه بالفعل بعده وقدم عليه للقصر و مامزيد لتأكيد القلة لأنها تفيدها في نحو أكلت أكلا ما فهي ههنا قلة على قلة والظأهر من القلة معناها وجوز أن يراد بها العدم كما في قوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون وأجيز أن يكون قليلا نعت مصدر لتتبعوا أي إتباعا قليلا قيل : ويضعفه أنه لا معنى حينئذ لقوله سبحانه : تذكرون وأما النهي عن الاتباع القليل فلا يضر لأنه يفهم منه غيره بالطريق البرهاني وأن يكون حالا من فاعل لاتتبعوا وما مصدرية أو موصولة فاعل له كما قيل ذلك في قوله تعالى : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون والنهي متوجه إلى القيد والمقيد جميعا واعترض بأنه لاطائل تحت معناه وان وجه وأن يكون ما مصدرية أو موصولة مبتدأ و قليلا على معنى زمانا قليلا خبره وقيل : إن ما نافية و قليلا معمول لما بعده والكفويون يجوزون عمل ما بعد ما النافية فيما قبلها والمعنى ما تذكرون قليلا فكيف تذكرون كثيرا وليس بشيء
وقرأ حمزة والكسائي وحفص تذكرون بحذف أحدى التاءين وذال مخففة وقرأ ابن عامر يتذكرون بياء تحتية ومثناة فوقية وذال مخففة وفي طريق شاذة عنه بتاءين فوقيتين وقرأ الباقون بتاء فوقية وذال مشددة على إدغام التاء المهموسة في الذل المجهورة والجملة على ما قاله غير واحد اعتراض تذييلي مسوق لتقبيح حال المخاطبين والالتفات على القراءة المشهورة عن ابن عامر للايذان باقتضاء سوء حالهم في عدم الامتثال بالأمر والنهي صرف الخطاب عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم بطريق المباتة ولا حجة في الآية لنفاة القياس كما لا يخفى وكم من قرية أهلكناها شروع في تذكيرهم وانذارهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب بسبب اعراضهم عن دين الله تعالى واصرارهم على أباطيل أولياءهم وكم خبرية للتكثير في محل رفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها و من سيف خطيب و قرية تمييز
ويجوز أن يكون محل كم نصبا على الاشتغال وضمير أهلكناها راجع إلى معنى كم فان المعنى قرى كثيرة أهلكناها والمراد بأهلاكها ارادة أهلاكها مجازا كما في قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة اةية فلا إشكال في التعقيب الذي تفهمه الفاء في قوله سبحانه : فجاءها بأسنا أي عذابنا واعترض هذا الجواب بعض المدققين بأن فيه اشكالا أصوليا وهو أن الارادة إن كانت باعتبار تعلقها التنجيزي فمجيء البأس مقارن لها لا متعقب لها وبعدها وإن لم يرد ذلك فهي قديمة فان كان البأس يعقبها لزم قدم العالم وإن تأخر عنها لزم العطف بثم
وأجيب بأن المراد التعلق التنجيزي قبل الوقوع أي قصدنا اهلاكها فتدبر وقيل : إن المراد بالاهلاك الخذلان وعدم التوفيق فهو استعارة أو من اطلاق المسبب على السبب وإلى هذا يشير كلام ابن عطية وتعقب بأنه اعتزالي وأن الصواب أن يقال : معناه خلقنا في أهلها الفسق والمخالفة فجاءها بأسنا وقيل : المراد حكمنا باهلاكها فجاءها وقيل : الفاء تفسيرية نحو توضأ فغسل وجهه الخ وقيل : إن الفاء للترتيب الذكرى وقال ابن عصفور : إن المراد أهلكناها هلاكا من غير استئصال فجاءها هلاك الاستئصال وقال الفراء : الفاء بمعنى الواو أو المراد فظهر مجيء بأسنا واشتهر وقيل : الكلام على القلب وفيه تقديم وتأخير اي أهلكناها بياتا أو هم قائلون
4
- فجاءها بأسنا فالاهلاك في الدنيا ومجيء البأس
(8/78)
في الآخرة فيشمل الكلام عذاب الدارين ويأباه ما بعد إباء ظاهرا فانه يدل على أن العذاب في الدنيا وقدر غير واحد في النظم الكريم مضافا أي فجاء أهلها
وجوز بعضهم الحمل على الاستخدام لأن القرية تطلق على أهلها مجازا ومن الناس من قدر في الأول المضاف أيضا مع أن القرية تتصف بالهلاك وهو الخراب والبيات في الأصل مصدر بات يبيت بيتا وبيتة وبياتا وبيتوتة وذكر الراغب : أن البيات وكذا التبييت قصد العدو ليلا وقال الليث : البيتوتة الدخول في الليل ونصبه على الحال بتأويله ببائتين
وجوز أن يكون على الظرفية وهو خلاف الظاهر واحتمال النصب على المفعولية له كما زعم أبو البقاء مما لا يلتفت اليه و أو للتنويع وما بعدها عطف على الحال وهو في موضع الحال أيضا وأضمرت فيه الواو كما قال ابن الأنباري لوضوح المعنى ومن أجل أن أو حرف عطف والواو كذلك فاستثقلوا الجمع بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني ونقل ذلك عن الفراء أيضا وتعقب بأن واو الحال مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كواو القسم بدليل أنها تقع حيث لا يمكن أن يكون ما قبلها حالا وكونها للعطف يقتضي أن لا تقع إلا حيث يكون ما قبلها حالا حتى تعطف حالا على حال وقال ابن المنير : إن هذه الواو لابد أن تمتاز عن واو العطف بمزية ألا تراها تصحب الجملة الأسمية بعد الفعلية ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين أو لكان الأفصح خلافه وحيث رأيناها تتوسط والكلام هو الأفصح أو المتعين علمنا امتيازها عن واو العطف وإذا ثبت ذلك فلا غرو في اجتماعهما وإن كان فيها معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية فاما أن تسلبه حينئذ لغناء العاطفة عنها أو تستمر عليه وتجامع أو كما تجامع الواو ولكن في الفصيح لما فيها من زيادة معنى الاستدراك وعلى هذا فالاجتماع ممكن بلا كراهية فلو قلت : سبح الله تعالى وأنت راكع أو وأنت ساجد لكان فصيحا لاخبث فيه ولا كراهة خلافا لأبي حيان مدعيا أن النحويين نصوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها للمشابهة اللفظية فالمثال على هذا غير صحيح وظاهر كلام الزمخشري أن هذه الواو واو العطف في الأصل ثم استعيرت للحال لما فيها من الربط فقد خرجت عن العطف واستعملت لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امتناع مجامعتها لعاطف آخر وعلى هذا يجب أن يحمل كلام ذينك الامامين وهذا مذهب لهما ولمن اتبعهما
وقال بعض النحاة : إن الضمير هنا مغن عن اضمار الواو والاكتفاء به غير شاذ كما قيل بل هو أكثر من رمل يبرين ومها فلسطين وقد نقل عن الزمخشري الرجوع الى هذا اقول والمألة خلافية وفيها تفصيل ففي البديع الاسمية الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية فان كانت من سببه لزمها العائد والواو تقول : جاء زيد وأبوه منطلق وخرج عمرو ويده على رأسه إلا ما شذ من قولهم : كلمته فوه إلى في وإن كانت أجنبية لزمتها الواو ونابت عن العائد وقد يجمع بينهما نحو قدم عمرو وبشر قام اليه وقد جاءت بلا واو ولا ضمير كما في قوله : ثم انتصينا جبال الصفد معرضة عن اليسار وعن إيماننا جدد فان جبال الصفد معرضة حال بلا واو ولا ضمير : وعن الشيخ عبد القاهر جعل ذلك على قسمين ما يعزمه الواو مطلقا وهو ما إذا صدر بضمير ذي الحال نحو جاء زيد وهو يسرع لأن اعادة ضميره تقتضي أن
(8/79)
الجملة مستأنفة لئلا تلغو الاعادة فاذا لم يقصد الاستئناف فلابد من الواو وما عداه تلزمه الواو في الفصيح إلا على طريق التشبيه بالمفرد والتأويل فانه حينئذ قد تترك الواو جوازا وقيل ولم يسلم : إن الضابط في ذلك أنه إذا كان المبتدأ ضمير ذي الحال تجب الواو وإلا فان كان الضمير فيما صدر به الجملة سواء كان مبتدأ نحو فوه إلى في وبعضكم لبعض عدو أو خبر نحو وجدته حاضراه الجود والكرم فلا يحكم بضعفه لكونه الرابط في أول الجملة وإلا فضعيف قليل
وقال ابن مالك وتبعه ابن هشام ونقل عن السكاكي : إنه إذا كانت الجملة الاسمية مؤكدة لزم الضمير وترك الواو نحو هو الحق لا شبهة فيه و ذلك الكتاب لا ريب فيه وأختار ابن المنير أن المصحح لوقوع هذه الجملة هنا حالا من غير واو هو العاطف إذ يقتضي مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحالية فيستغنى عن واو الحال كما أنك تعطف على المقسم به فتدخله في حكم القسم من واو نحو والليل إدا يغشى والنهار إدا تجلى وقوله سبحانه : فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس ويستغنى عن تكرار حرف القسم بنيابة العاطف منابه فليفهم أياما كان فحاصل المعنى أتاهم عذابنا تارة ليلا كقوم لوط عليه السلام وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب عليه السلام والقيلولة من قال يقيل فهو قائل ويقال قيلا وقائلة ومقالا ومقيلا وهي كما في القاموس نصف النهار أو هي الراحة والدعة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم كما في النهاية واستدل له بقوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا إذ الجنة لانوم فيها
وقال الليث : هي نومة نصف النهار ودفع الاستدلال بأن ذلك مجاز وإنما خص انزال العذاب عليهم في هذين الوقتين لما أن نزول المكروه عند الغفلة والدعة أفظع وحكايته للسامعين أزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة وفي التعبير في الحال الأولى بالمصدر وجعلها عين البيات وفي الحال الثانية بالجملة الاسمية المفيدة في المشهور للثبوت مع تقديم المسند اليه المفيد للتقوى ما لا يخفى من المبالغة وكذا في وصف الكل بوصف البيات والقيلولة مع أن بعض المهلكين بمعزل منهما إيذان بكمال الأمن والغفلة وفي هذا ذم لهم بالغفلة عما هم بصدده وإنما خولف بين العبارتين على ما قيل وبنيت الحال الثانية على تقوى الحكم والدلالة على قوة أمرهم فيما أسند اليهم لأن القيلولة أظهر في إرادة الدعة وخفض العيش فانها من دأب المترفين والمتنعمين دون من اعتاد الكدح والتعب وفيه إشارة إلى أنهم أرباب أشر وبطر
فما كان دعواهم أي دعاؤهم واستغاثتهم كما في قوله تعالى : وآخر دعواهم وقول بعض العرب : فيما حكاه الخليل وسيبويه اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أو أدعاءهم كما هو المشهور في معنى الدعوى إذ جاءهم بأسنا عذابنا وشاهدوا أماراته إلا أن قالوا جميعا إنا كنا ظالمين
5
- أي إلا إعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتهم ببطلانه تحسرا أو ندامة وطمعا في الخلاص وهيهات ولا حين نجاة وفي جعل هذا الاعتراف عين ذلك مبالغة على حد قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
و دعواهم يجوز فيه كما قال أبو البقاء أن يكون أسم كان والخبر إلا أن قالوا وأن يكون هو الخبر و إلا أن قالوا الاسم ورجح الثاني بان جعل الأعرف اسما هو المعروف في كلامهم والمصدر هنا يشبه المضمر لأنه لايوصف وهو أعرف من المضاف واورد عليه أن الاسم والخبر إذا كانا معرفتين وإعرابهما غير
(8/80)
ظاهر لايجوز تقديم أحدهما على الآخر فتعين الاول وأجيب عنه بأن ذلك عند عدم القرينة والقرينة هنا كون الثاني أعرف وترك التأنيث وأيضا ذاك إذا لم يكن حصر فان كان يلاحظ ما يقتضيه ورجح في الكشف الثاني بأنه الوجه المطابق لنظائره في القرآن
والمعنى عليه أشد ملاءمة لأن الفرض أن قولا آخر لم يقع هذا الموقع فالمقصود الحكم على القول المخصوص بأنه هو الدعاء وزيد تأكيدا بادخال أداة القصر وليس من التقديم في شيء لأن حق المقصور عليه التأخير أبدا فتأمل وتذكر فلنسئلن الذين أرسل اليهم بيان كما قاله الطبرسي لعذابهم الأخروي إثر بيان عذابهم الدنيوي خلا أنه تعرض كما قيل لبيان مباديء أحوال المكلفين جميعا لكونه أدخل في التهويل والفاء عند البعض لترتيب الاحوال الأخروية على الدنيوية ذكرا حسب ترتبها عليها وجودا وذكر العلامة الطيبي أن الفاء فصيحة على معنى فما كان دعواهم في الدنيا إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا فقطعنا دابرهم ثم لنحشرنهم فلنسألنهم ووضع على هذا الظاهر موضع الضمير لمزيد التقرير
وقال في الكشف : لعل الأوجه أن يجعل هذا متعلقا بقوله تعالى : اتبعوا ولا تتبعوا ويجعل قوله سبحانه : وكم من قرية الخ معترضا حثا على الاعتبار بحال السابقين ليتشمروا في الاتباع اه والأمر عند من جعل الكلام السابق على التقديم والتأخير وادعى أن مجيء البأس في الآخرة سهل كما لا يخفى أي لنسألن الأمم قاطبة أو هؤلاء قائلين ماذا أجبتم المرسلين ولنئلن المرسلين
6
- ماذا أجيبوا والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم والمنفي في قوله تعالى : يوم لا يسئل عن ذنبه انس ولا جان سؤال الاستعلام فلا منافاة بين الآيتين وجمع آخرون بينهما بان للمثبت موقفا وللمنفي آخر وقال الامام : إنهم لا يسئلون عن الأعمال أي ما فعلتم ولكن يسئلون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال والصوارف التي صرفتهم عنها أي لم كان كذا وقيل : معنى لايسئل عن ذنبه أنس ولا جان لا يعاقب بذنبه غيره وقيل : المراد من الذين أرسل اليهم الأنبياء ومن المرسلين الملائكة الذين بلغوهم رسالات ربهم
وروي ذلك عن فرقد وهو كما ترى وقيل : لا حاجة إلى التوفيق فان المنفي هو السؤال عن الذنب لا مطلق السؤال ورد بان عدم قبول دعوة الرسل عليهم السلام بما ذكرنا هو الذي يشهد به الأخبار وتدل عليه الآثار وفي القرآن ما يؤيد ذلك فقد قال سبحانه : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم وتخصيص سؤال الذين أرسل اليهم بما تقدم هو الذي جرى عليه جماعة من المفسرين
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه يقال للذين أرسل اليهم : هل بلغكم الرسل ويقال : للمرسلين ما ردوا عليكم وأخرج أيضا عن القاسم أبي عبد الرحمن أنه تلا هذه الآية فقال : يسئل العبد يوم القيامة عن أربع خصال يقول ربك ألم أجعل لك جسدا ففيم أبليته ألم أجعل لك علما ففيم عملت بما علمت ألم أجعل لك مالا ففيم أنفقته في طاعتي أم في معصيتي ألم أجعل لك عمرا ففيم أفنيته وأخرج هو وغيره عن طاوس أنه قرأ ذلك فقال الامام : يسئل عن الناس والرجل يسئل عن أهله والمرأة تسئل عن بيت زوجها
(8/81)
والعبدوالعبد يسئل عن مال سيده ولعل الظاهر أن سؤال كل من المرسل اليهم والمرسلين هنا عن أمر يتعلق بصاحبه ولا يأبى هذا أن المكلفين يسئلون عن أمور أخر والمواقف يوم القيامة شتى ويسأل السيد ذو الجلال عباده فيها عن مقاصد عديدة فطوبى لمن أخذ بعضده السعد فأجاب بما ينجيه
فلنقصن عليهم قيل أي على الرسل حين يكلون الأمر إلى علمه تعالى ويقولون لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب أو عليهم وعلى المرسل اليهم جميعا جميع أحوالهم وعن ابن عباس أنه ينطق عليهم كتاب أعمالهم بعلم أي عالمين بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم والباء على الأول للملابسة والجار والمجرور حال من فاعل نقص وعلى الثاني الباء متعلق بنقص وما كنا غائبين
7
- عنهم في حال من الأحوال والمراد الاحاطة التامة بأحوالهم وأفعالهم بحيث لا يشذ منها عن علمه سبحانه والجملة إا حال أو استئناف لتأكيد ما قبله
والوزن أي وزن الأعمال والتمييز بين الراجح منها والخفيف والجيد والرديء وهو مبتدأ وقوله تعالى : يومئذ متعلق بمحذوف خبره وقوله تعالى : الحق صفته أي والوزن الحق الثابت يوم إذ يكون السؤال والقص واختار هذا بعض من المعربين وقيل : الظأهر أن الحق خبر و يومئذ ظرف للوزن لئلا يقع الفصل بين الصفة والموصوف
ولعل وجه عدم اختيار هذا أن فيه أعمال المصدر المعرف وهو قليل وفي الكشف ليس المعنى هلى أن الوزن هو الحق بل أن الوزن الحق يكون يومئذ ألا يرى إلى قوله سبحانه : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة وذكر الأصفهاني في شرح اللمع لابن جني أن الحق بدل من الضمير المستتر في الظرف وهو وجه حسن إلا أن الأول رجح جانب المعنى ولم يبال بالفصل بالخبر لاتحاده من وجه بالمبتدأ لاسيما والظرف يتوسع فيه وجوز أبو البقاء أن يكون الحق 9 خبر مبتدأ محذؤف كأنه قيل : ما ذلك الوزن فقيل : هو الحق أي العدل السوي وأن يكون الوزن خبر مبتدأ محذوف أيضا أي هذا الوزن وهو كما ترى وقريء القسط والوزن كما قال الراغب معرفة قدر الشيء يقال وزنته وزنا وزنة والمتعارف فيه عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان واختلف في كيفيته يوم القيامة والجمهور كما قال القاضي على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان لينظر اليه الخلائق اظاراللمعدلة وقطعا للمذرة كما يسألون عن أعمالهم فتعترف بها السنتهم وجوارحهم ولا تعرض لهم لماهية هاتيك الصحائف والله تعالى أعلم بحقيقتها
ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وان ماجة والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقول سبحانه : أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون فيقول : لا يارب فيقول سبحانه أفلك عذرا أو حسنة فيهاب الرجل فيقول لا يا رب فيقول جل شأنه : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول : يا رب ما هذ البطاقة مع هذ السجلات فيقال : إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة
(8/82)
والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء وهذه الشهادة على ما قاله القرطبي نقلا عن الحكيم الترمذي ليست شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في إحدى كفتيه شيء وفي الأخرى ضده فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة ومن المستحيل أن يؤتى لعبد واحد بكفر وإيمان معا فيستحيل أن توضع شهادة التوحيد في الميزان أما بعد الايمان فان النطق بهذه الكلمة الطيبة حسنة فتوضع في الميزان كسائر الحسنات وأيد ذلك بقوله جل وعلا في الحديث إن لك عندنا حسنة دون أن يقو سبحانه إيمانا وجوز أن يكون المراد هذ الكلمة إذا كانت آخر كلامه في الدنيا وجوز غيره أن تكون كلمة التوحيد ومنع لزوم وضع الضد في الكفة الأخرى ليلزم المحال فتدبر وجاء في خبر آخر أخرجه ابن أبي الدنيا والنميري في كتاب الاعلام عن عبد الله أيضا قال إن لادم عليه السلام من الله عز جل موقفا في فسح من العرش عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى الجنة ومن ينطلق به إلى النار فبينا آدم على ذلك إذ ينظر إلى رجل من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ينطلق به إلى النار فينادي آدم عليه السلام يا أحمد يا أحمد فيقول عليه الصلاة و السلام لبيك يا أبا البشر فيقول هذا رجل من أمتك ينطلق به إلى النار قال صلى الله عليه و سلم فأشد المئزر وأسرع في أثر الملائكة فأقول : يا رسل ربي قفوا فيقولون نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصي الله تعالى ما امرنا ونفعل ما نؤمر فإذا أيس النبي صلى الله عليه و سلم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه فيقول يا رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي فيأتي النداء من قبل العرش أطيعوا محمدا وردوا هذا العبد إلى المقام فيخرج صلى الله عليه و سلم بطاقة بيضاء كلانملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى وهو يقول بسم الله فترجح الحسنات على السيئات فينادي المنادي سعد وسعد جده وثقلت موازينه انطلقوا به إلى الجنة فيقول يا رسل ربي قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه فيقول بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك من أنت فقد أقلتني عثرتي ورحمت عبرتي فيقول عليه الصلاة و السلام أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي وفيتكها أحوج ما تكون اليها انتهى
ولعل فعل مثل هذا إد صح الخبر مبالغة في اظهار كرامة النبي صلى الله عليه و سلم على ربه عز و جل بين الأولين والاخرين
وقيل توزن الاشخاص واحتجوا له بما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إنه ليؤتى العظيم السمين يوم القيامة لايزن عند الله تعالى جناح بعوضة ولا أدري على هذا ما يوضع في الكفة الأخرى في الميزان إذا وضع المذنب في أحدهما ووضع شخص في مقابلة شخص لا أراه إلا كما ترى والخبر ليس نصا في الدعوى كما لا يخفى وقيل : ان هذه الاعمال الظاهرة في هذه النشأة بصورة عرضية تظهر في النشأة الآخرة بصورة جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وصححه غير واحد وقال : ان عليه الاعتقاد وفي الآثار ما يؤيده فقد أخرج ابن عبد البر عن ابراهيم النخعي قال يجاء بعمل الرجل فيوضع بكفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه فيرجحه فيقال له أتدري ما هذا فيقول : لا فيقال له هذا فضل العلم الذي كنت تعلمه الناس وأخرج ابن المبارك عن حماد بن أبي سليمان بمعناه
وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل واستعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق المناية وبه قال مجاهد والاعمش والضحاك واليه ذهب المعتزلة إلا أن منهم من جوز
(8/83)
الوزن بالمعنى المتعارف عليه عقلا وإن لم يقض بثبوته كالعلاف وبشر بن المعتمر ومنهم من أحاله لأن الأعمال اعراض وهي مما لا تبقى ومما لا يمكن اعادتها لكنها اعراض والاعراض يمتنع وزنها إذ لا توصف بثقل ولا خفة سلمنا إمكان وزنها لكن لا فائدة في ذلك إذ المقصود إنما هو العلم بتفاوت الأعمال والله تعالى عالم بذلك ومالا فائدة فيه ففعله قبيح والرب تعالى منزه عن فعل القبيح وجوابه يعلم مما قدمنا
وفسر هؤلاء الميزان بالعدل والانصاف واعترض الآمدي على ذلك بان الميزان موصوف بالثقل والخفة والعدل والانصاف لايوصفان بذلك وفي الاخبار ما هو صريح في أن الميزان جسماني فقد أخرج الحاكم وصححه عن سلمان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يوضع الميزان يوم القيامة فو وزن فيه السموات والأرض لوسع فتقول الملائكة يا رب من يزن هذا فيقول الله تعالى : من شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك وفي رواية ابن المبارك واللالكائي عنه قال : يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في أحداهما السموات والأرض ومن فيهن لوسعه فتقول الملائكة من يزن هذا الحديث
وأخرج ابن مردويه عن عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : خلق الله تعالى كفتي الميزان مثل السموات والأرض فقالت الملائكة يا ربنا من تزن بهذا فقال أزن به من شئت وفي بعض الآثار أن الله تعالى كشف عن بصر داود عليه السلام فرأى من الميزان ماهاله حتى أغمى عليه فلما أفاق قال : يا رب من يملأ كفة هذا حسنات فقال جل شأنه ياداود إدا رضيت عن عبد ملأتها بشق تمرة تصدق بها إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة فالأولى كما قال الزجاج اتباع ما جاء في الأحاديث ولا مقتضى للعدول عن ذلك فان قيل إن المكلف يوم القيامة إا مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الاعمال وكمياتها واما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال بل يسنده إلى اظار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدة في الوزن أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح وغير ذلك وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها وان كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ولا يخطر بباله خلاف ذلك قاله بعض المحققين والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
فمن ثقلت موازينه تفصيل للاحكام المترتبة على الوزن والموازين إما جمع ميزان وجمعه مع أن المشهور الصحيح أن الميزان مطلقا واحد باعتبار تعدد الأوزان أو الموزونات وكذا إذا قلنا بان ميزان كل شخص واحد في الكلام مضاف مقدر أي كفة موازينه وإما جمع موزون واضافته للعهد لترتب الفلاح على ذلك فالمراد الحسنات والجمع على هذا ظاهر وكذا لو قلنا أن لكل عمل ميزانا فأولئك اشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة والجمعية باعتبار معناه كما أن افراد ضمير موازينه العائد اليه باعتبار لفظه وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة وهو مبتدأ و هم إما ضمير فضل يفصل به بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند اليه و المفلحون
8
- أي الفائزون بالنجاة والثواب
(8/84)
خبر واما مبتدأ ثان و المفلحون خبره والجملة خبر المبتدأ الأول وتعريف المفلحين للدلالة على أنهم الناس الذين بلغك انهم مفلحون فيالآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم
ومن خفت موازينه فاؤلئك الذين خسروا أنفسهم بتضييع فطرة الاسلام التي ما من مولود إلا يولد عليها أو فطرة الخير الذي هو أصل الجبلة
وقوله تعالى : بما كانوا بآياتنا يظلمون
9
- متعلق بخسروا وما مصدرية و بآياتنا متعلق بيظلمون وقدم عليه للفاصلة وعدي الظلم بالباء لتضمنه معنى التكذيب أو الجحود والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار الظلم في الدنيا وظاهر النظم الكريم أن الوزن ليس مختصا بالمسلمين بل الكفار أيضا توزن أعمالهم التي لا توقف لها على الاسلام والى ذلك ذهب البعض وادعى القرطبي أن الصحيح أنه يخفف بها عذابهم وإن لم تكن راجحة كما ورد في حق أبي طالب وذهب الكثير الى أن الوزن مختص بالمسلمين وأما الكفار فتحبط أعمالهم كيفما كانت وهو أحد الوجهين في قوله تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ولا يخفف بها عنهم من العذاب شيء وما ورد من التخفيف عن ابي طالب فقد قال السخاوي ان المعتمد أنه مخصوص به وعلى هذا فلابد من ارتكاب خلاف الظأهر في الآية وهي على كلا التقديرين ساكتة عن بيان حال من تساوت حسناته وسيئاته وهم أهل الاعراف على قول ومن هنا استدل بها بعضهم على عدم وجود هذا القسم ورد بأنه قد يدرج في القسم الأول لقوله سبحانه خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم وعسى من الله تعالى تحقيق كما صرحوا به وفيه نظر ولقد مكناكم في الأرض ترغيب في قبول دعوة النبي عليه الصلاة و السلام بتذكير النعم إثر ترغيب
وذكر الطيبي ان هذا نوع آخر من الانذار فانه جملة قسمية معطوفة على قوله سبحانه اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم على تقدير قل اتبعوا وقل والله لقد مكناكم والمعنى جعلنا لكم في الأرض مكانا وقرارا
وقيل : أقدرناكم على التصرف فيها فهو حينئذ كناية ورجحت هنا الحقيقة وجعلنا لكم فيها معايش أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب ونحوها أو ما تتوصلون به إلى ذلك وهو في الأصل مصدر عاش يعيش وعيشة ومعاشا ومعيشة بوزن مفعلة والجمهور على التصريح بالياء فيها وروي عن نافع معائش بالهمزة وغلطه النحويون ومنهم سيبويه في ذلك لأنه لا يهمز عندهم بعد الف الجمع الا الياء الزائدة كصحيفة وصحائف وأما معايش فياؤه أصلية هي عين الكلمة لأنها من العيش وبالغ أبو عثمان فقال إن نافعا لم يكن يدري بالعربية وتعقب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة مأخوذة من الفصحاء الثقات والعرب قد تشبه الأصلي بالزائد لكونه على صورته وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضا
وقال سيبويه انها غلط يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس وكثيرا ما يستعمل الغلط في كتابة بهذا المعنى والجعل بمعنى الانشاء وابداع وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إد لو تأخر لكان صفة له وتقديمها على المفعول مع ان حقهما التأخير عنه كما قال بعض المحققين للاعتناء بشأن المقدم والتشويق الى المؤخر فان النفس عند تأخير ما حقه التقديم لاسيما عند كون المقدم
(8/85)
منبئامنبئا عن منفعة السامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن واما تقديم اللام على فلما أنه المنبيء عما ذكر من المنفعة والاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم وقيل : إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول والظرف إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذؤف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر واعترض بانه لا فائدة بعتد بها في الاخبار بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة في الأرض قليلا ما تشكرون
1
- تلك النعمة الجسيمة وهو تذييل مسوق لبيان سوء المخاطبين وتحذيرهم قال الطيبي : والتذييل بذلك لأن الشكر مناسب لتمكينهم في البلاد والتصرف فيها كما أن التذكر في الجملة السابقة موافق للتمييز بين اتباع دين الحق ودين الباطل وبقية الكلام في هذه الجلة على طرز ما مر في نظيرها فتذكر
ولقد خلقناكم ثم صورناكم تذكير لنعمة أخرى وتأخيره عن تذكير ما وقع بعده من نعمة التمكن في الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذ الواسطة وإما للايذان بان كلا منهما نعمة مستقلة والمراد خلق آدم عليه السلام وتصويره كما يقتضيه ظاهر العطف الآتي لكن لما كان مبدأ للمخاطبين جعل خلقه خلقا لهم ونزل منزلته فالتجوز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم عليه السلام كجميع الخلق لتفرعهم عنه أو في الاسناد إد أسند ما لآدم الذي هو الأصل والسبب إلى ما تفرع عنه وتسبب
وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف وذهب الامام إلى أنه كناية عن خلق آدم عليه السلام والمعنى خلقنا أباكم آدم عليه السلام طينا غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار ذلك أيكم وجوز أن يكون التجوز في الفعل والمراد ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بان خلقنا ءآدم ثم صورناه ويعود هذا إلى ابتداء خلق الجنس وابتداء خلق كل جنس بايجاد أول أفراده فهو نظير قوله تعالى : خلق الانسان من طين وعلى هذين الوجهين يظهر وجه العطف بثم في قوله تعالى : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم وزعم الأخفش أن ثم هنا بمعنى الواو وتعقبه الزجاج بأنه خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه ولا من يوثق بعلمه لأن ثم للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غيره وإنما المعنى إنا ابتدأنا خلق آدم عليه السلام من تراب ثم صورناه أي هذا أصل خلقكم ثم بعد الفراغ من أصلكم قلنا الخ وقيل : إن ثم لترتيب الأخبار لا للترتيب الزماني حتى يحتاج إلى توجيه والمعنى خلقناكم يا بني آدم مضغا غير مصورة ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الأعضاء كما روي عن يمان أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء كما روي عن عكرمة ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة الخ والى هذا ذهب جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي وغيرهما وقال الطيبي : يمكن أن تحمل ثم على التراخي في الرتبة لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال : إن كون أبيهم مسجودا للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم وفيه تلويح إلى شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به ابوهم من تلك الفضيلة ومن ثم عقب ي البقرة الأمر بالسجود مسئلة التحدي بالعلم
وعن ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة والسدي أن المعنى خلقنا آدم عليه السلام ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا الخ وقد تقدم الكلام في المراد بالملائكة المأمورين بالسجود وكذا الكلام في المراد بالسجود
(8/86)
وذكر بعض المحققين أن الظأهر أن يقال : ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم إلا أنه عدل عن ذلك لأن الأمر بالسجود كان قبل خلق ادم عليه السلام على ما نطق به قوله تعالى : فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين والواقع بعد تصويره إنما هو قوله سبحانه : اسجدوا لآدم وذلك لتعيين وقت السجدة المامور بها قبل والحاصل أنه سبحانه أمرهم أولا أمر معلقا ثم أمرهم ثانيا أمرا منجزا مطابقا للأمر السابق فلذا جعله حكاية له وفي ذلك مالا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام فسجدوا أي الملائكة عليهم السلام بعد القول من غير تلعثم كلهم أجمعون إلا إبليس استثناء متصل سواء قلنا إن إبليس من الملائكة حقيقة أم لا أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأنه لما كان جنيا مفردا مغمورا بالوف من الملائكة متصفا بغالب صفاتهم غلبوا عليه في فسجدوا ثم استثنى استثناء واحد منهم وقيل : منقطع بناء على أنه من الجن وأنهم ليسوا من جنس الملائكة ولا تغليب والأول هو المختار
وذكر قوله تعالى لم يكن من الساجدين
11
- أي ممن سجد لآدم عليه السلام مع أنه علم من الاستثناء عدم السجود لأن المعلوم من الاستثناء عدم العموم لا عموم العدم والمراد الثاني أي أنه لم يصدر منه السحود مطلقا لا معهم ولا منفردا وهذا إنما يفيده التنصيص كذا قيل ونظر فيه بان التنصيص المذكور لايفيد عموم الاحوال والأوقات فلا يتم ما ذكر وتحقيق هذا المقام على ماذكره المولى سرى الدين أن يقال : إن القوم اختلفوا في أن الاستثناء من النفي إثبات أم لا فقال الشافعي : نعم فيكون نقيض الحكم ثابتا للمستثنى بطريق العبارة ويوافقه ظاهر عبارة الهداية
وذهب طائفة من الحنفية إلى أنه بطريق الاشارة وذهب آخرون إلى أن المستثنى في حكم المسكوت عنه وإنما يستفاد الحكم بطريق مفهوم المخالفة واختار صاحب البحر أنه منطوق إشارة تارة وعبارة أخرى
وإذا تقرر هذا فيمكن أن يقال في الجواب : إن المقام لما كان مقام التسجيل على إبليس بعدم السجود والتشهير والتوبيخ بتلك القبيحة الهائلة كان خليقا بالتصريح جديرا بالاحتياط لضعف التعويل على القرينة لائقا بكمال الايضاح والتقرير فعدل عن طريق الحذف وإن كان الكلام دالا على المحذوف إلى منهج الذكر والتصريح به وهذا على رأي الشافعي ومن وافقه ظاهر واليه أشار السراج الهندي في مباحث الاستثناء من شرح المغني وأما على باقي المذاهب فالأمر أظهر لأن الحكم على المستثنى بنقيض حكم المستثنى منه إما بطريق الاشارة أو مفهوم المخالفة وعلى كل فالمقام يأبى الاكتفاء بمثل ذلك ويقتضي التصريح بذكر الحكم
وادعى مولانا ابن الكمال أن هذه الجملة إنما جيء بها لانقطاع الاستثناء وأنه لو كان الاستثناء متصلا يكون الاتيان بها ضائعا لأن عدم كون ابليس من الساجدين يفهم من الاستثناء على تقدير اتصاله ولا يخفى ما فيه على من احاط علما بما ذكرنا واعترضه البعض أيضا بانه على تقدير الانقطاع يكون ذلك ضائعا أيضا بناء على ما ظنه فان ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى غير مختص بالمتصل ولذا لا نراهم يذكرون مع المستثنى المنقطع أيضا نقيض حكم المستثنى منه إلا قليلا ولو تم ماذكره لوجب ذكر الخبر مع كل منقطع فليفهم
قال استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى
(8/87)
حينئذ وبه كما قيل يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة وفيه فائدة أخرى هي الاشعار بعدم تعلق المحكي بالمخاطبين كما في حكاية الخلق والتصوير أي قال الله تعالى لابليس حين لم يكن من الساجدين ما منعك ألا تسجد المشهور أن لا مزيدة بدليل قوله سبحانه في آية أخرى ما منعك أن تسجد وقد جاءت كذلك في قوله سبحانه : لئلا يعلم أهل الكتاب أي ليعلم وهي في ذلك كما قال غير واحد لتأكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه
واستشكل بانها كيف تؤكد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه قال الشهاب : والذي يظهر لي أنها لا تؤكده مطلقا بل إذا صحب نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح كما في غير المغضوب عليهم ولا الضالين وكما هنا فانها تؤكد تعلق المنع به ومن هنا قالوا : إنها منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود وقيل : إنها غير زائدة بان يكون المنع مجازا عن الالجاء والاضطرار فالمعنى ما اضطرك إلى أن لا تسجد وجعله السكاكي مجازا على الحمل ولا قرينة للمجاز أي ما حملك ودعاك الى أن لاتسجد وليس بين الجعلين كثير فرق
وجوز أن يكون ذلك من باب التضمين وقال الراغب المنع يقال في ضد العطية كرجل مانع ومناع أي بخيل ويقال في الحماية ومنه مكان منيع وقد منع وفلان ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه والمنع في الآية من الثاني اي ما حماك عن عدم السجود إذ أمرتك بالسجود و إذ ظرف لتسجد وهذ الآية أحد أدلة القائلين بأن الأمر للفور لأنه ذم على ترك المبادرة ولولا أن الأمر للفور لم يتوجه الذم عليه وكان له إن يجيب بانك ما أمرتني بالبدار وسوف اسجد وأجيب بأن الفور إنما هو من قوله تعالى : فقعوا له ساجدين وليس من صيغة الأمر إلا أن بعضهم منع دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ وقال آخرون إن الاستدلال إنما هو بترتب اللوم على مخالفة الأمر المطلق حيث قال سبحانه إذ أمرتك ولم يقل جل شأنه إذ قلت فقعوا له ساجدين فتدبر وفي حكاية التوبيخ ههنا بهذه العبارة وفي سورة الحجر بقوله تعالى يا ابليس مالك أن لاتكون مع الساجدين وفي سورة ص بقوله سبحانه مامنعك أن تسجد لما خلقت بيدي إشارة إلى أن اللعين أدمج في معصية واحدة غير واحدة من هاتيك المعاصي كافية في التوبيخ وبطلان ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة وسورة بني اسرائيل وسورة الكهف وسورة طه والله تعالى أعلم بحكمة كل
قال استئناف كما تقدم مبني على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل فماذا قال اللعين عند ذلك فقيل : قال أنا خير منه هو من الأسلوب الأحمق فان الجواب المطابق للسؤال منعني كذا وهذا جواب عن أيكما خير وفيه دعوى شيء بين الاستلزام للمقصود بزعمه ومشعر بأن من هذا شأنه لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به فاللعين أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول بالحسن والقبح العليين
وقوله تعالى حكاية عنه : خلقتني من نار وخلقته من طين
21
- تعليل لما ادعاه عليه اللعنة من فضله عليه عليه السلام وحاصله اني مخلوق من عنصر أشرف من عنصره لأن عنصري علوي نير قوي التأثير مناسب لمادة
(8/88)
الحياة وعنصره بضد ذلكك والمخلوق من الأشرف أشرف لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع فانا كذلك والاشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه وقد أخطأ اللعين فان كون النار أشرف من التراب ممنوع فان كل عنصر من العناصر الاربع يختص بفوائد ليست لغيره وكل منها ضروري في هذه النشأة ولكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على بعض تطويل بلا طائل على من نظر إلى أن الأرض أكثر منافع للخلق لأنها مستقرهم وفيها معايشهم وأنها متصفة بالرزانة التي هي من مقتضيات الحلم والوقار إلى أن النار دونها في المنافع وأنها متصفة بالخفة التي هي من مقتضيات الطيش والاستكبار والرفع علم ما في كلام اللعين وأيضا شرف الأصل لايوجب شرف الفرع إنما الورد من الشوك ولا ينبت النرجس إلا من بصل ويكفي في ذلك أنه قد يخرج الكافر من المؤمن وأيضا قد خص الشرف بما هو من جهة المادة والعنصر مع أن الشيء كما يشرف بمادته وعنصره يشرف بفاعله وغايته وصورته وهذا الشرف في آدم عليه السلام دونه فان الله تعالى خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض كما قص سبحانه لما اودعه فيه وأيضا أي قبح في خدمة الفاضل للمفضول تواضعا وإسقاطا لحظ النفس على أن الخدمة في الحقيقة إنما كانت لله تعالى وإلى هذا أشار ظافر الاسكندري بقوله : أنت المراد بنظم كل قصيدة بنيت على الافهام في تبجيله كسجود أملاك السماء لآدم وسجودهم لله في تأويله ثم الظاهر ان هذا الجواب من اللعين كان مع تسليم أنه مأمور بالسجود وحينئذ فخطؤه أظهر من نار على علم إذ يعود ذلك إلى الاعتراض على المالك الحكيم وقال بعضهم : إنه لم يسلم أنه كان مأمورا بل أخرج نفسه من العموم بالقياس واستدل أهل هذا القول بهذأ التوبيخ على أنه لايجوز تخصيص النص بالقياس
وأجيب بأن هذا ليس من التخصيص بل هو ابطال للنص ورفع له بالكلية وفيه تأمل
وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أول من قاس أمر الدين برأيه ابليس قال الله تعالى له : اسجد لآدم فقال : أنا خير منهالخ قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى بيوم القيامة بابليس لأنه اتبعه بالقياس واستدل بهذا ونحوه من منع القياس مطلقا
وأجيب عن ذلك بأن المذموم هو القياس والرأي في مقابلة النص أو الذي يعدم فيه شرط من الشروط المعتبرة وتحقيق ذلك في محله وفي الآية دليل على الكون والفساد لدلالتها على خلق آدم عليه السلام وابليس عليه اللعنة وإيجادهما وعلى استحالة الطين والنار عما كانا عليه من الطينية والنار لما تركب منهما ما تركب وعلى أن ابليس ونحوه أجسام حادثة لا أرواح قديمة قيل : لعل اضافة خلق آدم عليه السلام إلى الطين وخلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب وإلا فقد تقرر أن الأجسام من العناصر الأربعة وبعض الناس من وراء المنع
قال استئناف كما سلف والفاء في قوله تعالى : فاهبط منها لترتيب الأمر على ما ظهر منه من
(8/89)
الباطل وضمير منها قيل للجنة وكونه من سكانها مشهور والمراد بها عند بعض الجنة التي يسكنها المؤمنون يوم القيامة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها روضة بعدن وفيها خلق آدم عليه السلام وكانت على نشز من الأرض في قول وأصل الهبوط الانحدار على سبيل القهر كما في هبوط الحجر وإذا استعمل في الانسان ونحوه فعلى سبيل الاستخفاف كما قاله الراغب
ولم يشترط بعضهم فيه سوى الانتقال من شريف إلى مادونه لقوله تعالى : اهبطوا مصر والأمر عليه واضح وإن لم نقل : إن تلك الجنة كانت على نشز وقيل : الضمير لزمرة الملائكة أي اخرج من زمرة الملائكة المعززين فان الخروج من زمرتهم هبوط وأي هبوط وفي سورة الحجر فاخرج منها وقيل : الضمير للمساء واليه ذهب جماعة ورد بأن وسوته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد فلابد أن يحمل على أحد الوجهين السابقين قطعا ويكون وسوسته على الوجه الأول بطريق النداء من باب الجنة كما روي عن الحسن البصري وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المراد من ذلك الجنة أو زمرة الملائكة أيضا بناء على أن الأولى ومعضم الثانية في السماء أو يقال : إن القصة وقعت في الأرض وكانت الجنة فيها وبعد العصيان حجب اللعين من السماء التي هي مقره ومعبده ومعنى أمره بالخروج منها أمره بقطع علائقه عنها واتخاذها مأوى له بعد وهذا كما تقول لمن غصب دارك مثلا عند نحو القاضي : أخرج من داري مع أنه إذ ذاك ليس فيها تريد لا تدخلها واقطع علائقك عنها وقيل : الضمير للأرض
فقد روي أنه أخرج منها إلى الجزائر وأم أن لا يدخلها إلا خفية ويبعده أنه لا يظهر للتخصيص في قوله تعالى : فما يكون لك أي فما يصح ولا يستقيم ولا يليق بشأنك أن تتكبر فيها على هذا وجه الا على بعد
وأما على الأوجه السابقة فالوجه ظاهر وهو مزيد شرافة المخرج منه وعلو شأنه وتقدس ساحته ومن هنا يعلم أنه لادلالة في الآية على جواز التكبر في غير ذلك عند القائلين بالمفهوم والجملة تعليل للأمر بالهبوط ولا يخفى لطافة التعبير به دون الخروج في مقابلة قوله أنا خير منه خلقتني من نار المشير إلى ارتفاع عنصره وعلو محله والتكبر على ما قيل كالكبر وهو الحالة التي يختص بها الشخص من اعجابه بنفسه وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره وأعظم والمراد بالتكبر ههنا إما التكبر على الله تعالى وهو أعظ التكبر ويكون بالامتناع من قبول الخق والاذعان له بالعبادة
وفسره بعضهم بالمعصية وإا التكبر على آدم عليه السلام بزعمه أنه خير منه وأكبر قدرا وقيل المراد ما هو أعم منه ومن التكبر على الملائكة حيث زعم أن له خصوصية ميزته عليهم وأخرجته من عمومهم وفيه تأمل وزعم البعض أن في الآية تنبيها على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة فكما يمنع من القرار فيها يمنع من دخولها بعد ذلك وأنه تعالى إنما طرده لتكبره لا لمجرد عصيانه وهو ظأهر على أحد الاحتمالات كما لا يخفى والظرف إا متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا وقوله تعالى : فاخرج تأكيد للأمر بالهبوط متفرع عليه وقوله سبحانه : إنك من الصاغرين
31
- تعليل للأمر بالخروج مشعر بأنه لتكبره أي إنك من أهل الصغار والهوان على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك
أخرج البيهقي في شعب الايمان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
(8/90)
من تواضع لله رفعه الله تعالى ومن تكبر وضعه الله عز و جل ومن حديثه رضي الله تعالى عنه من تواضع لله تعالى رفع الله تعالى حكمته وقال : انتعش نعشك الله ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله تعالى إلى الأرض وقيل : المراد من الأذلاء في الدنيا بالذم واللعن وفي الآخرة بالعذاب بسبب ما أرتكبه من المعصية والتكبر وإذلال الله تعالى المتكبرين يوم القيامة مما نطقت به الأخبار
وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى السجن في جهنم يقال له : بولس يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار وفسر بعضهم الصاغار بالراضي بالذل كما هو المشهور فيه والمراد وصفه بأنه خسيس الطبع دنيء وأنه رأي نفسه أكبر من غيره وليس بالكبير ولقد أبدع أبو نواس بقوله خطابا له : سوأة بالعين أنت اختلست الناس غيظا عليهم أجمعينا تهت لما أمرت في سالف الدهر وفارقت زمرة الساجدينا عندما قلت لا أطيق سجودا لمثال خلقته رب طينا حسدا إذا قلت من مارج الن ار لمن كان مبتدأ العالمينا ثم صيرت في القيادة تسعى يا مجير الزناة واللائطينا وله أيضا من أبيات فيه تاه على آدم في سجدة وصار قوادا لذريته قال استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : فماذا قال اللعين بعد ما سمع ما سمع فقيل : قال أنظرني أي امهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون
41
- أي آدم عليه السلام وذريته وهو وقت النفخة الثانية وأراد بذلك أن يجد فسحة في الاغواء وأخذ الثأر ونجاة من الموت إذ لاموت بعد البعث قال استئناف كما مر إنك من المنظرين
51
- ظاهره إلى يوم يبعثون حيث وقع في مقابلة كلامه لكن في سورة الحجر وص التقييد بيوم الوقت المعلوم واختلف في المراد منه فالمشهور انه يوم النفخة الاولى دون يوم البعث لأنه ليس بيوم موت وجوز بعضهم ان يكون المراد منه يوم البعث ولا يلزم أن لايموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلق في تضاعيفه : وفي كتاب العرائس عن كعب الأحبار أن ابليس إنما يذوق طعم الموت يوم الحشر وذكر في كيفية موته وقبض عزرائيل روحه ما يقضي منه العجب ولم يرتض ذلك الفاضل السفاريني وقال في كتابه البحور الزاخرة أخرج نعيم بن حماد في الفتن والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال لا يلبثون يعني الناس بعد ياجوج وماجوج حتى تطلع الشمس من مغربها فتجف الأقلام وتطوى الصحف فلا يقبل من احد توبة ويخر ابليس ساجدا ينادي الهي مرني أن أسجد لمن شئت وتجتمع اليه الشياطين فتقول يا سيدنا إلى من تفزع فيقول : إنما سألت ربي أن ينظرني إلى يوم البعث فانرني إلى يوم الوقت المعلوم وقد طلعت الشمس من مغربها وهذا يوم الوقت المعلوم وتصير الشياطين ظاهرة في الأرض حتى يقول الرجل هذا
(8/91)
هذا قريني الذي كان فالحمد لله الذي أخزاه ولا يزال ابليس ساجدا باكيا حتى تخرج الدابة فتقتله وهو ساجد انتهى
ومنه يعلم أن المراد باليوم المعلوم ما صرح به اللعين وهو قبل يوم النفخة الأولى بكثير وهذا قول لم نر أحد من المفسرين ذكره وهو الذي ارتضاه هذا الفاضل وقال : إن الخبر في حكم المرفوع لأنه لايقال من قبل الرأي وليس ابن مسعود ككعب الأحبار ممن يلتقي من كتب أهل الكتاب
وأنت تعلم أنه ان صحت نسبة هذا الخبر إلى ابن مسعود ينبغي أن لايعدل إلى القول بما يخالفه ولكن في صحة نسبته اليه رضي الله تعالى عنه عندي تردد وقيل : المراد به وقت يعلم الله تعالى انتهاء اجله فيه وقد أخفى عنا وكذا عن اللعين وأوجب على هذا أن يكون قبل النفخة الثانية واستدل له بعضهم بأن اللعين كان مكلفا والمكلف لايجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فتقبل توبته وهذا كالاغراء على المعاصي فيكون قبيحا وأجيب بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء عليهم السلام أو على الكفرة والمعاصي كابليس وأشياعه فان اعلامه بوقت أجله لايكون اغراء على المعصية لأنه لايتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والاعلام وظاهر النظم الكريم عند غير واحد أن هذه إجابة لدعائه كلا أو بعضا وفي ذلك دليل لمن قال : إن دعاء الكافر قد يستجاب وهو الذي ذهب اليه الدبوسي وغيره من الفقهاء خلافا لما نقله في البزازية عن البعض من أنه لايجوز أن ياقل : إن دعاء الكافر مستجاب لأنه لايعرف الله تعالى ليدعوه والفتوى على الأول للظاهر ولقوله صلى الله عليه و سلم : دعوة المظلوم مستجابة وان كان كافرا
وجمل الكفر على كفران النعمة لا كفران الدين خلاف الظاهر ولا يلزم من الاستجابة المحبة والاكرام فانها قد تكون للاستدراج وقال بعض المحققين : الجملة اخبار عن كونه من المنظرين في قضاء الله تعالى من غير ترتب على دعائه وادعي أن ورودها اسمية مع التعرض لشمول ما سأله اللعين الآخرين على وجه يشعر بان السائل تبع لهم في ذلك صريح في أن ذلك اخبار بان الانظار المذ : ور لهم أزلا لا انشاء لانظار خاص به اجابة لدعائه ويعلم من ذلك أيضا أن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ولا يخلوا عن حسن والحكمة في انظاره ذلك الزمن الطويل مع ماهو عليه عليه اللعنة من الافساد مما ينبغي أن يفوض علمها إلى خالق العباد
وقد ذكر الشهرستاني عن شارح الاناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين ابليس بعد هذه الحادثة وقد ذكرت في التوراة وهي أن اللعين قال للملائكة : اني أسلم ان لي الها هو خالقي وهو جدي وهو خالق الخلق لكن لي على حكمه أسئلة الأول ما الحكمة في الخلق لاسيما وقد كان عالما ان الكافر لايستوجب عند خلقه إلا النار الثاني ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود اليه منه نفع ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف الثالث هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم الرابع لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر الخامس أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من اغوائهم واضلالهم السادس لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ومعلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا قال شارح الأناجيل : فأوحى الله تعالى اليه من سرادق العظة والكبرياء يا ابليس أن ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت انه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فاني أن الله لا إله إلا أنا لا أسئل عما أفعل انتهى
(8/92)
وفي السؤال السادس مايؤيد القول الأول في الجملة ولا يخفى أن هذه الشبهات يصعب على القائلين بالحسن والقبح العقليين الجواب عنها بل قال الامام : إنه لو اجتمع الاولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا وكان الكل لازما ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال : قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا ان كان أبا فراس وكان أبو فراس جالسا فقيل له : ماهو فقال قولي : لك جسمي تعله فدمي لم تطله فابتدر ابو فراس قائلا : قال ان كنت مالكا فلي الأمر كله وعلل الزمخشري إجابته إلى استنظاره بأن في ذلك ابتلاء العباد وفي مخالفته أعظ الثواب وحكمه حكم ما خلق الله تعالى في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاهي والملاذ وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده وتعقبه العلامة الثاني كغيره بانه مبني على تعليل أفعاله تعالى بالأغراض وعدم اسناد خلق القبائح والشرور اليه سبحانه مع أنه ليس بشيء لأن حقيقة الابتلاء في حقه تعالى محال ومجازه لايدفع السؤال ولأن ما في متابعته من أليم العقاب اضعاف ما في مخالفته من عظيم الثواب بل لو لم يكن له الانظار والتمكين لم يكن من العباد إلا الطاعات وترك المعاصي فلم يكن إلا الثواب كالملائكة ولا يخفى ما فيه إلا أن قوله بعد : والاولى أن لا يخوض العبد في أمثال هذه الأسرار ويفوض حقيقتها إلى الحكيم المختار مم نقول به لأن معرفة ذلك ذلم في غاية الصعوبة على أرباب القال واهل الجدال هذا وإنما ترك التوقيت في هذه الآية ثقة بما وقع في سورة الحجر وص كما ترك ذكر النداء والفاء في الاستنظار والانظار تعويلا على ما ذكر فيهما
فان قلت : لاريب في أن الكلام المحكي له عند صدوره عن المتكلم حالة مخصوصة تقتضي وروده على وجه خاص من وجوه النظم بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلام عن رتبة البلاغة البتة فالكلام الواحد المحكي على وجوه شتى إن اقتضى الحال وروده على وجه معين من تلك الوجوه الواردة عند تلك الحكاية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة دون ماعداه من الوجوه ونقول حينئذ : لايخفى أن استنظار اللعين إنما صدر عنه مرة واحدة لا غير فمقامه أن اقتضى إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطرد على نهج استدعاء الجبر في مقابلة الكسر كما هو المتبادر من قوله : رب انظرني حسبما حكي عنه في السورتين فما حكي عنه ههنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلا عن العروج إلى معارج الاعجاز
قلت : أجاب مولانا شيخ الاسلام عن هذا السؤال بعد أن ساقه بان مقام استنظاره مقتض لما ذكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحرمان المدلول عليه بالطرد والرجم وكذا مقام الانظار مقتض لترتيب الاخبار بالانظار على الاستنظار وقد طبق الكلام عليه في تينك السورتين ووفي كل من مقامي الحكاية والمحكي جميعا حظه وأما ههنا فحيث اقتضى مقام الحكاية مجرد الاخبار بالاستنظار والانظار سيقت الحكاية على نهج الايجاز والاختصار من غير تعرض لكيفية كل منهما عند المخاطبة والجواب ولا يلزم أن لا يكون ذلك نقلا للكلام على ما هو عليه ولا مطابقا لمقتضى المقام فالذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله وأما كيفية الافادة فقد تراعي وقد لا تراعي حسب الاقتضاء ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها
(8/93)
بل تراعى عند نقله كيفيات لم يراعها المتكلم أصلا بل قد لايقدر على مراعاتها وجميع المقالات المحكية في الآيات من ذلك القبيل والا لما كان الكثير منها معجزا وملاك الأمر في المطابقة مقام الحكاية وأما مقام المحكي فان كان مقتضاه موافقا لذلك وفي كل منهما حقه كما في السورتين وإلا لا كما فيما هنا فليفهم
قال استئناف كنظائره فبما أغويتني الفاء لترتيب مضمون الجملة التي بعد على الانظار والباء أما للقسم أو للسببية وما على التقديرين مصدرية والجار والمجرور متعلق باقسم وقيل : إنه على تقدير السببية متعلق بما بعد اللام وفيه أن لها الصدر على الصحيح فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها وجوز بعضهم كون ما استفهامية لم يحذف الفها وأن الجار متعلق باغويتني ولا يخفى ضعفه والاغواء خلق الغي وأصل الغي الفساد ومنه غوي الفصيل وغوى إذا بشم وفستد معدته وجاء بمعنى الجهل من اعتقاد فاسد كما في قوله سبحانه : ما ضل صاحبكم وما غوى وبمعنى الخيبة كما في قوله : فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ومنه قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى واستعمل بمعنى العذاب مجازا بعلاقة السببية ومنه قوله تعالى : فسوف يلقون غيا ولا مانع عند أهل السنة أن يراد بالاغواء هنا خلق الغي بمعنى الضلال أي بما أضللتني وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ونسبة الاغواء بهذا المعنى إلى الله عز و جل مما يقتضيه عموم قوله سبحانه : خالق كل شيء والمعتزلة يأبون نسبة مثل ذلك اليه سبحانه وقالوا في هذا تارة : إنه قول شيطاني فليس بحجة وأواه أخرى بأن الاغواء النسبة إلى الغي كاكفره إذا نسبه إلى الكفر أو إنه بمعنى إحداث سبب الغي وإيقاعه وهو الأمر بالسجود
وقال بعضهم : إن الغي هنا بمعنى الخيبة أي بما خيبته من رحمتك أو الهلاك أي بما أهلكته بلعنك اياه وطردك له والذي دعاهم الى هذا كله عدم قولهم بان الله تعالى خالق كل شيء وانه سبحانه لا خالق غيره ولم يكفهم ذلك حتى طعنوا باهل السنة القائلين بذلك وماالظن بطائفة ترضى لنفسها من خفايا الشرك بما لم يسبق ابليس عليه اللعنة نعوذ بالله سبحانه وتعالى التعرض لسخطه نعم الاغواء بمعنى الترغيب بما فيه الغواية والامر به كما هو مراد اللعين من قوله : لاغوينهم مما لايجوز من الله تعالى شأنه كما لا يخفى ثم إن كانت الباء للقسم يكون المقسم به صفة من صفات الافعال وهو مما يقسم به في العرف وإن لم تجر الفقهاء به أحكام اليمين
ولعل القسم وقع من اللعين بهما جميعا فكى تارة قسمه باحدهما وأخرى بالآخر وان كانت سببية فالقسم بالعزة أي بسبب اغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لاقعدن لهم أي لآدم عليه السلام وذريته ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة صراطك المستقيم
61
- الموصل إلى الجنة وهو الحق الذي فيه رضاك
أخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي في شعب الايمان عن سبة بن الفاكه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الشيطان قعد لابن آدم في طرقة فقعد له بطريق الاسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك فعصاه فاسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسمائك وإنما مثل المهاجر كالفرس في طوله فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال هو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم
(8/94)
المال فعصاه فجاهد ثم قال صلى الله عليه و سلم فمن فعل ذلك منهم فمات أو قصته دابته فمات كان حقا على الله تعالى أن يدخل الجنة ولعل الاقتصار منه صلى الله عليه و سلم على هذه المذكورات للاعتناء بشأنها والتنبيه على عظم قدرها لما ان المقام قد اقتضى ذلك لا للحصر ونظير ذلك ما روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من تفسير الصراط المستقيم بطريق مكة والكلام من باب الكناية أو التمثيل ونصب الصراط اما على أنه مفعول به بتضمين أقعدن معنى الزمن أو على نزع الخافض أي على صراطك كقولك ضرب زيد الظهر والبطن او على الظرفية وجاء نصب ظرف المكان المختص عليها قليلا ومن ذلك في المشهور قوله : لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها والمراد لأسولن لهم ولأضلنهم بقدر الامكان إلا أنه شبه حال تسويله ووسوته لهم كذلك بحال اتيان العدو لمن يعاديه من أي جهة امكنته ولذا لن يذكر الفوق والتحت إذ لا إتيان منهما فالكلام من باب الاستعارة التمثيلية و لاقعدن لهم على ما قيل ترشيح لها وبعضهم لم يخرج الكلام على التمثيل واعتذر عن ترك جهة الفوق بأن الرحمة تنزل منها وعن ترك جهة التحت بأن الاتيان منها يوحش والاعتذار عن الاول بما ذكر أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروي أيضا عن عكرمة والشعبي والاعتذار عن الثاني نسبه الطبرسي إلى الحبر أيضا ولا يبعد على ذلك أن يكون الكلام تمثيلا أيضا ويكون الفرق بين التوجيهين بأن ترك هاتين الجهتين على الأول لعدمهما في الممثل به وعلى الثاني لعدمهما في الممثل
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وابو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من بين أيديهم من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية وما هو كذلك كأنه بين الأيدي ومن خلفهم من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة مخلفة وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيآتهم وتفسير الايمان بالحسنات والشمائل بالسيآت لأنهم يجعلون المحبوب في جهة اليمين وغيره في جهة الشمال كما قال : بثين أفي يمنى يديك جعلتني فافرح أم صيرتني في شمائلك وقال الأصمعي : يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال على عكس ذلك والكلام على هذا يجوز أن يكون فيه مجازات أو استعارات أو كنايات ونظير هذا ما قيل : من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه ومن خلفهم من حيث لا يعلمون و عن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك وقال بعض حكماء الاسلام : إن في الدن قوى أربعا القوة الخالية التي تجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ واليها الاشارة بقوله : من بين أيديهم والقوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالاحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ واليها الاشارة بقوله : ومن خلفهم والقوة الشهوانية ومحلها الكبد وهو عن يمين الانسان واليها الاشارة بقوله : وعن أيمانهم والقوة الغضبية ومحلها القلب الذي هو في الشق الأيسر واليها الاشارة بقوله : وعن شمائلهم والشيطان مالم يستعن بشيء من هذه القوى لا يقدر على القاء الوسوسة وهذا عندي نوع من الاشارة كما لا يخفى وقيل : غير ذلك وإنما عدي الفعل إلى
(8/95)
الاولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه اليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فان الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم ونظيره قولهم : جلست عن يمينه وذكر القطب في بيان وجه ذلك ما بناه على ماقاله بعض حكماء الاسلام وهو أن من للاتصال وعن للانفصال وأثر الشيطان في قوتي الدماغ حصول العقائد الباطلة كالشرك والتشبيه والتعطيل وهي مرتسمة في النفس الانسانية متصلة بها وفي الشهوة والغضب حصول الاعمال السيئة الشهوانية والغضبية وهي تنفصل عن النفس وتنعدم فلهذا أورد في الجهتين الاوليين من الاتصالية وفي الاخريين عن الانفصالية وقيل : خص اليمين والشمال بعن لأن ثمة ملكين يقتضيان التجاوز عن ذلك وفيه نظر لا يخفى وادعى بعضهم أن الآية كالدليل على أن اللعين لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه إد لو أمكنه ذلك لذكره في باب المبالغة وحديث إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من باب التمثيل اقتضى عدم الذكر فتدبر ولا تجد أكثرهم شاكرين
71
- أي مطيعين وانما قال ذلك ظنا كما روي عن الحسن وأبي مسلم لقوله تعالى ولقد صدق عليهم ابليس ظنه لما رأى أن للنفس تسع عشرة قوة للحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع النباتية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وانها بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وأن ليس هناك ما يدعو الى عالم الارواح الا قوة واحدة وهي العقل وما يصنع واحد مع متعدد : أرى ألف بان لا يقوم بهادم فكيف ببان خلفه ألف هادم وعن الجبائي أنه سمع ذلك من الملائكة فقاله على سبيل القطع وقيل : إنه رآه قبل اللوح المخفوظ
ووجد اما بمعنى صادف فينصب مفعولا واحدا وهو أكثرهم وشاكرين حال وإما بمعنى علم فينصب مفعولين ثانيهما شاكرين والجملة اما معطوفة على المقسم عليه وإما مستأنفة وإنما لم يفرعها على ما تقدم لأن مضمونها بمقتضى الجبلة أيضا لا بمجرد اغوائه ووجه التعبير بالاكثر ظاهر قال استئناف كما مر غير مرة : اخرج منها أي من الجنة أو زمرة الملائكة أو من السماء الخلاف السابق مذءوما أي مذموما كما روي عن ابن زيد أو مهانا لعينا كما روي عن ابن عباس وقتادة وفعله ذأم وقرأ الزهري مذموما بذال مضمومة وواو ساكنة وفيه احتمالان الأول أن يكون مخففا من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع وكان قياسه على هذا مذيم كمبيع إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم مكول من مكيل مع أنه من الكيل ونصبه على الحال وكذا قوله تعالى : مدحورا وهو من الدحر بمعنى الطرد والابعاد وجوز في هذا أن يكون صفة واللام في قوله سبحانه لمن تبعك منهم على ما في الدر المصون موطئة للقسم و من شرطية في محل رفع مبتدأ وقوله عز اسمه لأملأن جهنم منكم أجمعين
81
- جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط والخلاف في خبر المبتدأ في مثل ذلك مشهور وجوز أن تكون اللام لام الابتداء ومن موصولة مبتدأ صلتها تبعك والجملة القسمية خبر وقرأ عصمة عن عاصم لمن بكسر اللام فقيل إنها متعلقة بالذأم والدحر على التنازع واعمال الثاني أي اخرج بهاتين الصفتين لاجل اتباعك وقيل : إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف
(8/96)
يقدر مؤخرا أي لمن اتبعك هذا الوعيد ودل عليه قوله سبحانه : لاملان الخ ولعل ذلك مراد الزمخشري بقوله أن لاملان في محل المبتدأ ولمن تبعك خبره كما يرشد اليه بيان المعنى ومنكم بمعنى منك ومنهم فغلب في المخاطب كما في قوله سبحانه : أتم قوم تجهلون ثم أن الظاهر أن هذه المخاطبات لابليس عليه اللعنة كانت منه عز و جل من غير واسطة وليس المقصود منها الاكرام والتشريف بل التعذيب والتعنيف وذهب الجبائي إلى أنها كانت بواسطة بعض الملائكة لأن الله تعالى لا يكلم الكافر وفيه نظر
هذا ومن باب الاشارة في الآيات المص الألف إشارة الى الذات الاحدية واللام الى الذات مع صفة العلم والميم الى معنى محمد وهي حقيقته والصاد الى صورته والسلام وقد يقال : الالف اشارة الى التوحيد والميم الى الملك واللام بينهما واسطة لتكون بينهما رابطة والصاد لكونه حرفا كري الشكل قابلا لجميع الاشكال كما قال الشيخ الأكبر قدس سره : فيه اشارة الى أن الأمر وان ظهر بالاشكال المختلفة والصور المتعددة أوله وآخره سواه ولا يخفى لطف افتتاح هذه السورة بهذه الأحرف بناء على ماذكره الشيخ قدس سره في فتوحاته من أن لكل منها ما عدا الألف الاعراف وأما الألف فقد ذكر نفعنا الله تعالى ببركات علومه أنه ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق لكن قد سمته العامة حرفا فاذا قال المحقق ذلك فانما هو على سبيل التجوز في العبادة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال كتاب أنزل اليك فلا يكن في صدرك حرج منه أي ضيق من حمله فلا تسعه لعظمه فتتلاشى بالفناء والوحدة والاستغراق في عين الجمع لتنذر به وذكرى للمؤمنين أي ليمكنك الانذار والتذكير إد بالاستغراق لا ترى إلا الحق فلا يتأتى منك ذلك وكم من قرية من قرى القلوب أهلكناها أفسدنا استعدادها فجاءها بأسنا بياتا أي بائتين على فراش الغفلة في ليل الشباب أو هم قائلون تحت ظلال الأمل في نهار المشيب والوزن يومئذ الحق هو عند كثير من الصوفية اعتبار الاعمال وذكروا أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس والكفة الاخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والاخلاق الفاضلة والأعمال الخيرية المقرونة بالنية الصادقة ثقلت أي كانت ذا قدر وأفلح هو أي فاز بالنعيم الدائم ومن كانت مقتنايته من المحسوسات الفانية واللذات والشهوات الفاسدة والاخلاق الرديئة خفت ولم يعتن بها وخسر هو نفسه لحرمانه النعيم وهلاكه ولقد مكناكم في الأرض إد جعلناكم خلفاء فيها وجعلنا لكم فيها معايش متعددة دون غيركم فان له معيشة واحدة وذلك لأن الانسان فيه ملكية وحيوانية وشيطانية فمعيشة روحه معيشة الملك ومعيشة بدنه معيشة الحيوان ومعيشة نفسه الأمارة معيشة الشيطان وله معايش غير ذلك وهي معيشة القلب بالشهود ومعيشة السر بالكشوف ومعيشة سر السر بالوصال قليلا ما تشكرون ولو شكرتم ما رضيتم بالدون
ولقد خلقناكم ثم صورناكم أي ابتدأنا ذلك بخلق آدم عليه السلام وتصويره ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فانه المظهر الأعظم وفي الخبر خلق الله آدم على صورته وفي رواية على صورة الرحمن فسجدوا وانقادوا للحق إلا ابليس لم يكن من الساجدين لنقصان بصيرته قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين أراد اللعين أنه من الحضرة الروحانية وأن آدم عليه السلام ليس كذلك قال فاهبط منها أي من تلك الحضرة فما يكون لك أن تتكبر فيها لأن الكبر ينافيها فاخرج إنك من الصاغرين الاذلاء بالميل الى مقتضيات النفس
(8/97)
قال فبما أغويتني قسم بما هو من صفات الافعال ولم يكن محجوبا عنها بل كان محجوبا عن الذات الأحدية لاقعدن لهم صراطك المستقيم وهو طريق التوحيد ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم أي لاجتهدن في إضلالهم وقد تقدم ما قاله حكماء الاسلام في ذلك وفي تأويلات النيسابوري كلام كثير فيه وما قاله البعض أحسنه في هذا الباب وذكر بعضهم لعدم التعرض لجهتي الفوق والتحت وجها وهو أن الاتيان من الجهة الأولى غير ممكن له لأن الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الالهامات الحقة والالقاءات الملكية ونحو ذلك والجهة السفلية يحصل منها الاحكام الحسية والتدابير الجزئية في باب المصالح الدنيوية وذلك غير موجب للضلالة بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وفيه نظر
ولا تجد أكثرهم شاكرين مستعملين ما خلق لهم لما خلق له قال اخرج منها مذؤوما حقيرا مدحورا مطرودا لمن تبعك منهم بالانانية ورؤية غير الله تعالى وارتكاب المعاصي لاملأن جهنم منكم أجمعين فتبقون محبوسين في سجين الطبيعة معذبين بنار الحرمان عن المراد وهو أشد العذاب وكل شيء دون فراق المحبوب سهل وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل
ويا ءادم اسكن أي وقلنا كما وقع في سورة البقرة فهذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها وهو قوله سبحانه : قلنا للملائكة اسجدوا على ماذهب اليه غير واحد من المحققين وإنما لم يعطفوه على ما بعد قال أي قال يا ابليس اخرج ويا آدم اسكن لأن ذلك في مقام الاستئناف والجزاء لما حلف عليه اللعين وهذا من تتمة الامتنان على بني آدم والكرامة لأبيهم ولا على ما بعد فلنا لأنه يؤول الى قلنا للملائكة يا آدم
وادعى بعضهم أن الذي يقتضيه الترتيب العطف على ما بعد قال وبينه بماله وجه إلا أنه خلاف الظاهر وتصدير الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به وتخصيص الخطاب بدم عليه السلام للايذان باصالته بالتلقي وتعاطي المأمور به و اسكن من السكنى وهو الليث والاقامة والاستقرار دون السكون الذي هو ضد الحركة وقد تقدم الكلام في ذلك وفي قوله سبحانه : أنت وزوجك الجنة وتوجه الخطاب اليهما في قوله تعالى : فكلا من حيث شئتما لتعميم التشريف والايذأن بتساويهما في مباشرة المأمور به فان حواء أسوة له عليه السلام في حق الأكل بخلاف السكنى فانها تابعة له فيها ولعليق النهي الآتي بهما صريحا والمعنى فكلا منها حيث شئتما كما في البقرة ولم يذكر رغدا هنا ثقة بما ذكر هناك
وقوله سبحانه : ولا تقربا هذه الشجرة مبالغة في النهي عن الأكل منها وقريء هذي وهو الأصل إلا أنه حذفت الياء وعوض عنها الهاء فهي هاء عوض لا هاء سكت قال ابن جني : ويدل على أن الأصل هو الياء قولهم في المذكر : ذا والألف بدل من الياء إذ الأصل ذي بالتشديد بدليل تصغيره على ذيا وإنما يصغر الثلاثي دون الثنائي كما ومن فحذفت أحدى اليائين تخفيفا ثم ابدلت الأخرى الفا كراهة أن يشبه آخره آخر كي
فتكونا أي فتصيرا من الظألمين
91
- أي الذين ظلموا أنفسهم و تكونا يحتمل الجزم على العطف على تقربا والنصب على أنه جواب النهي فوسوس لهما الشيطان اي فعل الوسوسة لأجلهما أو ألقى اليهما
(8/98)
الوسوسة وهي في الأصل الصوت الخفي المكرر ومنه قيل لصوت الحلي وسوسة وقد كثرت فعللة في الأصوات كهينمة وهمهمة وخشخشة وتطلق على حديث النفس أيضا وفعلها وسوس وهو لازم ويقال : رجل موسوس بكسر الواو على الحذف والايصال والكلام في كيفية وسوسة اللعين قد تقدمت الاشارة اليه في سورة البقرة
ليبدي لهما أي ليظهر لهما واللام إما للعاقبة لأن الشيطان لم يقصد بوسوسته ذلك ولم يخطر له ببال وإنما مال الأمر اليه واما للتعليل على ما هو الأصل فيها ولا يبعد أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة ويكون هذا مبنيا على الحدس أو العلم بالسماع من الملائكة او الاطلاع على اللوح قيل : وفي ذلك دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع
ماوري عنهما من سوءاتهما أي ما غطي وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وكانت مستورة بالنور على ما أخرجه الحكيم الترمذي وغيره عن وهب بن منبه أو بلباس كالظفر على ما أخرجه ابن ابي حاتم عن السدي وجمع السوآت على حد صغت قلوبكما واعتبار الاجزاء بعيد والمتبادر من هذا الكلام حقيقته : وقيل هو كناية عن إرالة الحرمة واسقاط الجاه و ووري بواوين ماضي وارى كضارب وضورب أبدلت ألفه واوا فالواو الأولى فاء الكلمة والثانية زائدة
وقرأ عبد الله أوري بالهمزة لأن القاعدة إذا اجتمع واوان في أول كلمة فان تحركت الثانية كان لها نظير متحرك وجب ابدال الأولى همزة تخفيفا مثال الأول أو يصل واواصل في تصغير واصل وتصغيره ومثال الثاني أولى أصله وولى فابدلت الأولى لما تحركت الثانية في الجمع وهو أول فان بلم يتحرك بالفعل أو القوة جاز الابدال وعدمه كما هنا قاله الشهاب نقلا عن النحاة وقريء سوأتهما بالافراد والهمزة على الأصل و سوتهما بابدال الهمزة واوا وادغام الواو في الواو وقريء سواتهما بالجمع وطرح حركة الهمزة على ما قبلها وحذفها و سواتهما بالطرح وقلب الهمزة واوا والادغام وقال عطف على وسوس بطريق البيان ما نهاكما ربكم عن هذ الشجرة أي الأكل منها إلا أن تكونا ملكين استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفي ليكون علة أي كراهية أن تكونا أو لئلا تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
2
- أي الذين لا يموتون أصلا أو الذين يخلدون في الجنة
وقرأ ابن عباس ويحيى بن كثير ملكين بكسر اللام قال الزجاج : ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى حكاية عن اللعين هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى واستدل بالآية على أفضلية الملائكة حيث أن اللعين قال ذلك ولم ينكر عليه وارتكب آدم عليه السلام المنهي عنه طمعا فيما أشار اليه الشيطان من الصيرورة ملكا فلولا أنه أفضل لم يرتكبه وأجيب بأن رغبتهما إنما كانت في أن يحصل لهما أوصاف الملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الاطعمة والأشربة ونحو ذلك ونحن لا نمنع أفضلية الملائكة من هذه الأوجه وإنما نمنع أفضليتهم من كل الوجوه والآية لا تدل عليه وأيضا قد يقال : ان رغبتهما كانت في الخلود فقط وفي اية طه ما يشير اليه حيث عقب فيها الترغيب في الخلود بالاكل واعترض بأن رغبتهما في الخلود تستلزم الكفر
(8/99)
لمالما يلزم ذلك من انكار البعث والقيامة ومن ثم قال الحسن لعمرو بن عبيد لما قال له : إن آدم وحواء صدقا قول الشيطان : معاذ الله تعالى لو صدقا لكانا من الكافرين وأجيب بأن المراد من الخلود طول المكث والتصديق به ليس بكفر ولو سلم ان المراد الدوام الابدي فلا نسلم ان اعتقاد ذلك إذ ذاك كفر لان العلم بالموت والبعث بعده يتوقف على الدليل السمعي ولعله لم يصل اليهما وقتئذ
وادعى بعضهم ان المراد بالخلود الخلود العارض بعد الموت بدخول الجنة وحينئذ لا اشكال إلا أنه خلاف الظاهر وعن السيد المرتضى في معنى الآية أنه قال : إن اللعين أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة والخالدون خاصة دونهما كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا يريد أن المنهي هو فلان دونك وهو كما ترى وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين
12
- أقسم لهما وإنما عبر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحدا في فعل يجد فيه فاستعمل في لازمه وقيل : المفاعلة على بابها والقسم وقع من الجانبين لكنه اختلف متعلقة فهو أقسم لهما على النصح وهما أقسما له على القبول
وتعقب بأن هذا إنما يتم لوجود المقاسمة عن ذكر المقسم عليه وهو النصيحة أما حيث ذكر فلا يتم إلا أن يقال : سمي قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة كما قيل في قوله تعالى : وواعدنا موسى أنه سمى التزام موسى عليه السلام الوفاء والحضور للميعاد ميعادا فاسند التعبير بالمفاعلة وقيل : قالا له أتقسم بالله تعالى إنك لمن الناصحين وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة وعلى هذا فيكون كما قال ابن المنير في الكلام لف لأن آدم وحواء عليهما السلام لا يقسمان باللفظ التكلم بل بلفظ الخطاب وقيل : إنه إلى التغليب أقرب وقيل : إنه لا حاجة اليه بأن يكون المعنى حلفا عليه بأن يقول لهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما أي حطهما على درجتهما وأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية فهو من دلى الدلو في البئر كما قاله أبو عبيدة وغيره وعن الأزهري أن معناه أطمعهما وأصله من تدلية العطشان شيئا في البئر فلا يجد ما يشفي غليله وقيل هو من الدالة وهي الجرأة في فجرأهما كما قال أظن الحلم دل على قومي وقد يستجهل الرجل الحليم فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء بغرور أي بما عرهما به من القسم أو متلبسين به فالباء للمصاحبة أو الملابسة والجار والمجرور حال من الفاعل أو المفعول وجعل بعضهم الغرور مجازا عن القسم لأنه سبب له ولا حاجة اليه وسبب غرورهما على ما قاله غير واحد أنهما ظنا أن أحدا لا يقسم بالله تعالى كاذبا ورووا في ذلك خبرا وظاهر هذا أنهما صدقا ما قاله فاقدما على ما نهيا عنه
وذهب كثير من المحققين أن التصديق لم يوجد منهما لا قطعا ولا ظنا وإنما أقدما على المنهي عنه لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال ولعل كلام اللعين على هذا من قبيل المقدمات الشعرية أثار الشهوة حتى غلبت ونسي معها النهي فوقع الاقدام من غير روية وقال القطب : يمكن أن ياقل إن اللعين لما وسوس لهما بقوله مانهاكما الخ فلم يقبلا منه عدل إلا اليمينعلى ما قاله سبحانه وقاسمهما فلم يصدقاه أيضا فعدل بعد ذلك إلى شيء آخر وكأنه أشار اليه سبحانه بقوله تعالى : فدلاهما بغرور وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات حتى صارا مستغرقين بها فنسي النهي كما يشير اليه قوله
(8/100)
تعالى فنسي ولم نجد له عزما وجعل العتاب الآتي على ترك التحفظ فتدبر فلما ذاقا الشجرة أي أكلا منها أكلا يسيرا بدت لهما سوءتهما قال الكلبي : تهافت عنهما لباسهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه فاستحيا وطفقا أخذا وجعلا فهو من أفعال الشروع وكسر الفاء فيه أفصح من فتحها وبه قرأ أبو السمال يخصفان أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة وأصل معنى الخص الخرز في طاقات النعال ونحوها بالصاق بعضها ببعض وقيل أصله الضم والجمع عليهما أي على سوآتهما أو على بدنهما ففي الكلام مضاف مقدر وقيل : الضمير عائد على سوءاتهما
من ورق الجنة وكان ذلك بعض ورق التين على ماروي عن قتادة وقيل : الموز وقرأ الزهري يخصفان من أخصف وأصله خصف إلا أنه كما قال الجاربردي نقل إلى أخصف للتعدية وضمن الفعل لذلك معنى التصيير فصار الفاعل في المعنى مفعولا للتصيير علا لأصل الفعل فيكون التقدير يخصفان أنفسهما أي يجعلا أنفسهما خاصفين عليهما من ورق الجنة فحذف مفعول التصيير وجوز بعضهم كون خصف وأخصف بمعنى وقرأ الحسن يخصفان بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد من الافتعال وأصله يختصفان سكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين وقرأ يعقوب بفتحها وقريء يخصفان من خصف المشدد بفتح الخاء وقد ضمت اتباعا للياء وهي قراءة عسرة النطق وناداهما ربهما بطريق العتاب والتوبيخ الم أنهكما تفسير للنداء فلا محل له من الاعراب أو معمول لقول محذوف أي وقال أو قائلا : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة إشارة إلى الشجرة التي نهيا عن قربانها والتثنية لتثنية المخاطب
وأقل لكما عطف على أنهكما أي ألم أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين
22
- أي ظاهر العداوة وهذا على ما قيل : عتاب وتوبيخ على الاغترار بقول العدو كما أن الأول عتاب على مخالفة النهي ولم يحك هذا القول ههنا وقد حكي في سورة طه بقوله سبحانه : ان هذا عدو لك ولزوجك الآية و لكما متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذؤف وقع حالا منه
واستدل بعضهم بالآية على أن مطلق النهي للتحريم لما فيها من اللوم الشديد مع الندم والاستغفار المفهوم مما يأتي والأكثرون على أن النهي هنا للتنزيه وندمهما واستغفارهما على ترك الأولى وهو في نظرهما عظيم وقد يلام عليه أشد اللوم إذا كان فاعله من المقربين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا أي ضررنا بالمعصية وقيل : نقصناها حظها بالتعرض للاخراج من الجنة وحذفا حرف النداء مبالغة في التعظيم لما أن فيه طرفا من معنى الأمر
وإن لم تغفر لنا ذلك بعدم العقاب عليه وترحمنا بالرضا علينا وقيل : المراد وإن لم تستر علينا بالحفظ عما يتسبب نقصان الحظ وترحمنا بالتفضل علينا بما يكون عوضا عما فاتنا لنكونن من الخاسرين
32
- جواب قسم مقدر دل على جواب الشرط السابق على ما قيل واستدل بالآية على أن الصغائر يعاقب عليها مع اجتناب الكبائر ان لم يغفر الله تعالى وذهب المعتزلة إلى أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها وجعلوا لذلك ما ذكر هنا جاريا على عادة الأولياء والصالحين في تعظيمهم الصغير من
(8/101)
السيآت وتصغيرهم العظيم من الحسنات فلا ينافي كونهما مغفورا لهما والكثير من أهل السنة جعلوه من باب هضم النفس بناء على ما وقع كان عن نسيان ولا كبيرة ولا صغيرة معه وادعى الامام أن ذلك الاقدام كان صغيرة وكان قبل نبوة ءادم عليه السلام إد لا يجوز على الانبياء عليهم السلام بعد النبوة كبيرة ولا صغيرة والكلام في هذه المسألة مشهور قال استئناف كما مر مرارا اهبطوا المأثور عن كثير من السلف أنه خطاب لآدم وحواء عليهما السلام وابليس عليه اللعنة وكرر الأمر له تبعا لهما اشارة إلى عدم انفكاكه عن جنسهما في الدنيا أو أن الأمر وقع مفرقا وهذا نقل له بالمعنى وإجمال له كما في قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات وقيل : إن الامر بالنسبة إلى اللعين غير ما تقدم فانه أمر له بالهبوط من حيث وسوس
واختار الفراء كونه خطابا لهما ولذريتهما وفيه خطاب المعدوم وقيل : إنه لهما فقط لقوله سبحانه قال اهبطا منها جميعا والقصة واحدة وضمير الجمع لكونهما أصل البشر فكأنهم هم ومن الناس من قال ان مختار الفراء هو هذا وقيل : إنه لهما ولابليس والحية واعترض وأجيب بما مر في سورة البقرة والظاهر من النظم الكريم أن آدم عليه السلام عاجله ربه سبحانه بالعتاب والتوبيخ على فعله ولم يتخلل هناك شيء ونقل الاجهوري عن حجة الاسلام الغزالي أنه عليه السلام لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الفضلة ولم يكن ذلك مجعولا في الجنة في شيء من أطعمتها إلا في تلك الشجرة فلذلك نهي عن أكلها فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكا يخاطبه فقال له : أي شيء تريد يا آدم قال : أريد أن أضع ما في بطني من الأذى فقال له في أي مكان تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم في الانهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى ههنا مكانا يصلح لذلك ثم أمره بالهبوط وأنا لا أرى لهذا الخبر صحة ومثله ماروي عن محمد بن قيس قال : إنه عليه السلام لما أكل من الشجرة ناداه ربخ يا آدم لما أكلت منها وقد نهيتك قال أطعمتني حواء فقال سبحانه يا خواء لم أطعمتيه قالت أمرتني الحية فقال للحية لم أمرتها قالت أمرني ابليس فقال الله تعالى أما أنت يا حواء فلادمينك كل شهر كما أدميت الشجرة وأما أنت يا حية فأقطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ وجهك كل من لقيك وأما أنت يا ابليس فملعون
بعضكم لبعض عدو في موضع الحال من فاعل اهبطوا وهي حال مقارنة أو مقدرة واختار بعض المعربين كون الجملة استئنافية كأنهم لما أمروا بالهبوط سألوا كيف يكون حالنا فأجيبوا بأن بعضكم لبعض عدو وأمر العداوة على تقدير دخول الشيطان في الخطاب ظاهر وأما على تقدير التخصيص بآدم وحواء عليهما السلام فقد قيل إنه باعتبار أن يراد بهما ذريتهما إما بالتجوز كاطلاق تميم على أولاده كلهم أو يكتفي بذكرهما عنهم واختار بعضهم كون العداوة هنا بمعنى الظلم أي يظلم بعضكم بعضا بسبب تضليل الشيطان فليفهم
ولكم في الأرض مستقر أي استقرار أو موضع استقرار فهو اما مصدر ميمي أو اسم مكان وجوز أن يكون اسم مفعول بمعنى استقر ملككم عليه وجاز تصرفكم فيه ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ومحتاج إلى الحذف والايصال واللفظ في نفسه يحتمل أن يكون اسم زمان إلا أنه غير محتمل هنا لأنه يتكرر مع قوله سبحانه ومتاع أي بلغة إلى حين
42
- يريد به وقت الموت وقيل القيامة وتجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض أو يقال معنى لكم لجنسكم ولمجموعكم والظرف قيل متعلق بمتاع أو به وبمستقر على التنازع إن كان
(8/102)
مصدرا وقيل : إنه متعلق بمحذوف وقع صفة لمتاع
قال أعيد للاستئناف إما للايذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله وإما لاظار العناية بما بعده وهو قوله سبحانه : فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون
52
- عند البعث يوم القيامة وقرأ أهل الكوفة غير عاصم تخرجون بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل يا بني آدم خطاب للناس كافة واستدل به على دخول أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد ولا يخفى سر هذا العنوان في هذا المقام
قد أنزلنا عليكم لباسا أي خلقنا لكم ذلك بأسباب نازلة من السماء كالمطر الذي ينبت به القطن الذي يجعل لباسا قاله الحسن وعن أبي مسلم أن المعنى اعطيناكم ذلك ووهبناه لكم وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل بل هو جار مجرى التعظيم كما تقول : رفعت حاجتي إلى فلان وقصتي إلى الأمير وليس هناك نقل من سفل الى علو وقيل المراد قضينا لكم وقسمناه وقضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ وعلى كل فالكلام لا يخلو عن مجاز ويحتمل أن يكون في المسند وهو الظاهر ويحتمل أن يكون في اللباس أو الاسناد
وقوله سبحانه : يواري أي يستر ترشيح على بعض الاحتمالات وعن الجبائي أن الكلام على حقيقته مدعيا نزول ذلك مع آدم وحواء من الجنة حين أمرا بالهبوط إلى الأرض ولم نقف في ذلك على خبر كسته الصحة لباسا نعم أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أهبط آدم وحواء عليهما السلام عريانين جميعا عليهما ورق الجنة فأصاب آدم الحر حتى قعد يبكي ويقل لها : يا حواء قد آذاني الحر فجاءه جبريل عليه السلام بقطن وأمرها أن تغزله وعلمها وعلم آدم وأمره بالحياكة وعلمه
وجاء في خبر آخر أنه عليه السلام أهبط ومعه البذور فوضع ابليس عليها يده فما أصاب يده ذهب منفعته
وفي آخر رواه ابن المنذر عن ابن جريج أنه عليه السلام اهبط معه ثمانية أزواج من الأبل والبقر والضأن والمعز وباسنة والعلاة والكلبتان وغريسة عنب وريحان وكل ذلك على ما فيه لا يدل على المدعي وإن صلح بعض ما فيه لأن يكون مبدأ لما يواري سوءاتكم أي التي قصد ابليس عليه اللعنه إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك روى غير واحد أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون لانطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت هذه الآية وقيل : إنهم كانوا يطوفون كذلك تفاؤلا بالتعري عن الذنوب والآثام ولعل ذكر قصة ءادم عليه السلام حينئذ للايذان بأن انكشاف العورة اول سوء أصاب الانسان من قبل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما فعل بابويهم
وفي الكشاف أن هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدء السوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارا بان التستر باب عظيم من أبواب التقوى وريشا أي زينة أخذا من ريش الطير لأنه زينة له وعطفه على هذا من عطف الصفات فيكون اللباس موصوفا بشيئين مواراة السوأة والزينة ويحتمل أن يكون من عطف الشيء على غيره أنزلنا لباسين لباس مواراة ولباس زينة فيكون مما حذف فيه الموصوف أي لباسا ريشا أي ذا ريش
(8/103)