[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
ونصب ضعيفا على الحال وقيل : على نزع الخافض أي من ضعيف وأريد به الطين أو النطفة وكلاهما كما ترى وقرأ ابن عباس وخلق الإنسان على البناء للفاعل والضمير لله عز و جل
وأخرج البيهقي في الشعب عنه أنه قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت الأولى يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والثانية والله يريد أن يتوب عليكم إلى آخرها والثالثة يريد الله أن يخفف عنكم إلى آخرها والرابعة إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما والخامسة إن الله لا يظلم مثقال ذرة والسادسة ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما والسابعة إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك إلى آخرها والثامنة والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف نؤتيهم أجورهم الآية يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أمولكم بينكم بالباطل بيان لبعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة وفيه إشارة إلى كمال العناية بالحكم المذكور والمراد من الأكل سائر التصرفات وعبر به لأنه معظم المنافع والمعنى لا يأكل بعضكم أموال بعض والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم قاله السدي وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه وعن الحسن هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعواض
وأخرج عنه وعن عكرمة بن جرير أنهما قالا : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية فنسخ ذلك بالآية التي في سورة النور ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم الآية والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلا بالباطل وقد أخرج ابن أبي حلتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية : إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة و بينكم نصب على الظرفية أو الحالية من أموالكم إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم استثناء منقطع ونقل أبو البقاء القول بالإتصال وضعفه و عن متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة و منكم صفة تراض أي إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة عن تراض كائن منكم أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة والنصب قراءة أهل الكوفة وقرأ الباقون بالرفع على أن كان تامة
وحاصل المعنى لا تقصدوا أكل الأموال بالباطل لكن اقصدوا كون أي وقوع تجارة عن تراض أو لا تأكلوا ذلك كذلك فإنه منهي عنه لكن وجود تجارة عن تراض غير منهي عنه وتخصيصها بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا وأوفق لذوي المروءات وقد أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا وأخرج سعيد بن منصور عن نعيم بن عبدالرحمن الأزدي قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تسعة أعشار الرزق في التجارة والعشر في المواشي
وجوز أن يراد بها انتقال المال من الغير بطريق شرعي سواء كان تجارة أو إرثا أو هبة أو غير ذلك من
(5/15)
استعمال الخاص وإرادة العام وقيل : المقصود بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى وبالتجارة صرفه فيما يرضاه وهذا أبعد مما قبله والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الإمام مالك وعند الشافعي حالة الإفتراق عن مجلس العقد وقيل : التراضي التخيير بعد البيع أخرج عبد بن حميد عن أبي زرعة أنه باع فرسا له فقال لصاحبه : إختر فخيره ثلاثا ثم قال له : خيرني فخيره ثلاثا ثم قال : سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : هذا البيع عن تراض
ولا تقتلوا أنفسكم أي لا يقتل بعضكم بعضا وعبر عن البعض المنهي عن قتلهم بالأنفس للمبالغة في الزجر وقد ورد في الحديث المؤمنون كالنفس الواحدة وإلى هذا ذهب الحسن وعطاء والسدي والجبائي وقيل : المعنى لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الآثام كأكل الأموال بالباطل وغيره من المعاصي التي تستحقون بها العقاب وقيل : المراد به النهي عن قتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر وحكي ذلك عن البلخي
وقيل : المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه وروي ذلك عن أبي عبدالله رضي الله تعالى عنه وقيل : المراد لا تتجروا في بلاد العدو فتفردوا بأنفسكم وبه استدل مالك على كراهة التجارة إلى بلاد الحرب وقيل : المعنى لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة وأيد بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص قال : لما بعثني النبي صلى الله عليه و سلم عام ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر ذلك له فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب قلت : نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن غغتسلت أن أهلك وذكرت قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم الآية فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يقل شيئا وقرأ علي كرم الله وجهه ولا تقتلوا بالتشديد للتكثير ولا يخفى ما في الجمع بين التوصية بحفظ المال والوصية بحفظ النفس من الملائمة لما أن المال شقيق النفس من حيث أنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها والملائمة بين النهيين على قول مالك أتم وقدم النهي الأول لكثرة التعرض لما نهي عنه
إن الله كان بكم رحيما
29
- تعليل للنهي والمعنى أنه تعالى لم يزل مبالغا في الرحمة ومن رحمته بكم نهيكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس وقيل : معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة كما كلف بني إسرائيل بذلك ومن يفعل ذلك أي قتل النفس فقط أو هو وما قبله من أكل الأموال بالباطل أو مجموع ما تقدم من المحرمات من قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها أو من أول السورة إلى هنا أقوال : روي الأول منها عن عطاء ولعله الأظهر وما في ذلك من البعد إيذان بفظاعة قتل النفس وبعد منزلته في الفساد وإفراد اسم الإشارة على تقدير تعدد المشار إليه باعتبار تأويله بما سبق
عدوانا أي إفراطا في التجاوز عن الحد وقرئ عدوانا بكسر العين وظلما أي إيتاءا بما لا يستحقه وقيل : هما بمعنى فالعطف للتفسير وقيل : أريد بالعدوان التعدي على الغير وبالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب وأيا ما كان فهما منصوبان على الحالية أو على العلية وقيل : وخرج بهما السهو والغلط والخطأ وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام فسوف نصليه نارا أي ندخله إياها ونحرقه بها والجملة جواب الشرط
(5/16)
وقرئ نصليه بالتشديد و نصليه بفتح النون من صلاة لغة كأصلاة ويصليه بالياء التحتانية والضمير لله عز و جل أو لذلك والإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب
وكان ذلك أي إصلاؤه النار يوم القيامة على الله يسيرا
30
- هينا لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي إن تجتنبوا أي تتركوا جانبا كبائر ما تنهون أي ينهاكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم عنه أي عن ارتكابه مما ذكر ومما لم يذكر وقرئ كبير على إرادة الجنس فيطابق القراءة المشهورة وقيل : يحتمل أن يراد به الشرك نكفر أي نغفر ونمحو واختيار ما يدل على العظمة بطريق الالتفات تفخيم لشأن ذلك الغفران وقرئ يغفر بالياء التحتانية عنكم أيها المجتنبون سيئاتكم أي صغائركم كما قال السدي واختلفوا في حد الكبيرة على أقوال : الأول أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وإليه ذهب بعض الشافعية والثاني أنها كل معصية أوجبت الحد وبه قال البغوي وغيره والثالث أنها ل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد والرابع أنها كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وبه قال الإمام والخامس أنها ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد وبه قال الماوردي في فتاويه والسادس أنها كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه وحكي ذلك بتفصيل مذكور في محله عن الحليمي والسابع أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه بلفظ التحريم وقال الواحدي : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة انتهى
وقال شيخ الإسلام البارزي : التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل معصوما فظهر أنه مستحق لدمه أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته وقال بعضهم : كل ما ذكر من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبطها بحد فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله تعالى من أول هذه السورة إلى هنا وقيل : هي سبع ويستدل له بخبر الصحيحين إجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات وفي رواية لهما الكبائر الإشراك بالله تعالى والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس زاد البخاري
(5/17)
اليمين الغموس ومسلم بدلها وقول الزور والجواب أن ذلك محمول على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ذكره قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر لا لحصره الكبائر فيه وممن صرح بأن الكبائر سبع علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير وقيل : تسع لما أخرجه علي بن الجعد عن ابن عمر أنه قال حين سئل عن الكبائر : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : هن تسع الإشراك بالله تعالى وقذف المحصنة وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياءا وأمواتا ونقل عن ابن مسعود أنها ثلاث وعنه أيضا أنها عشرة وقيل : أربع عشرة وقيل : خمس عشرة وقيل : أربع وروى عبدالرزاق عن ابن عباس أنه قيل له : هل الكبائر سبع فقال : هي إلى السبعين أقرب وروى ابن جبير أنه قال له : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وأنكر جماعة من الأئمة أن في الذنوب صغيرة وقالوا : بل سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ أبو إسحق الأسفرايني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين في الإرشاد وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة واختاره في تفسيره فقال : معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما يقال لبعضها : صغيرة وكبيرة بالإضافة وأول الآية بما ينبو عنه ظاهرها وقالت المعتزلة : الذنوب على ضربين : صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح انتهى وربما ادعى في بعض المواضع اتفاق الأصحاب على ما ذكره واعتمد ذلك التقي السبكي وقال القاضي عبدالوهاب : لا يمكن أن يقال في معصية : إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر عند اجتناب الكبائر ويوافق هذا القول ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال : كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة وفي رواية كل ما عصي الله تعالى فيه فهو كبيرة قاله العلامة ابن حجر وذكر أن جمهور العلماء على الانقسام وأنه لا خلاف بين الفريقين في المعنى وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق لإجماع الكل على أن المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله تعالى وشدة عقابه وإجلالا له عز و جل عن تسمية معصيته صغيرة لأنها إلى باهر عظمته تعالى كبيرة وأي كبيرة ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم بل قسموها إلى قسمين كما يقتضيه صرائح الآيات والأخبار لا سيما هذه الآية وكون المعنى إن تجتنبوا كبائر ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح الحرام وأكل الأموال وغير ذلك مما تقدم نكفر عنكم ما كان من ارتكابها فيما سلف ونظير ذلك من التنزيل قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف بعيد غاية البعد ولذلك قال حجة الإسلام الغزالي : لا يليق إنكار الفرق بين الصغائر والكبائر وقد عرفتا من مدارك الشرع نعم قد يقال لذنب واحد : كبير وصغير باعتبارين لأن الذنوب تتفاوت في ذلك باعتبار الأشخاص والأحوال ومن هنا قال الشاعر : لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة في السهو فيها للوضيع معاذر فكبائر الرجل الصغير صغائر وصغائر الرجل الكبير كبائر قال سيدي ابن الفارض قدس سره : ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي وأشار إلى التفاوت من قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين هذا وقد استشكلت هذه الآية مع ما في
(5/18)
حديث مسلم من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنبت الكبائر ووجهه أن الصلوات إذا كفرت لم يبق ما يكفره غيرها فلم يتحقق مضمون الآية وأجيب عنه بأجوبة أصحها على ما قاله الشهاب إن الآية والحديث بمعنى واحد لأن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيه ما اجتنب إلخ دال على بيان الآية لأنه إذا لم يصل ارتكب كبيرة وأي كبيرة فتدبر وندخلكم مدخلا الجمهور على ضم الميم وقرأ أبو جعفر ونافع بفتحها وهو على الضم إما مصدر ومفعول ندخلكم محذوف أي ندخلكم الجنة إدخالا أو مكان منصوب على الظرف عند سيبويه وعلى أنه مفعول به عند الأخفش وهكذا كل مكان مختص بعد دخل فيه الخلاف وعلى الفتح قيل : منصوب بمقدر أي ندخلكم فتدخلون مدخلا ونصبه كما مر وجوز كونه كقوله تعالى : أنبتكم من الأرض نباتا ورجح حمله على المكان لوصفه بقوله سبحانه وتعالى : كريما
31
- أي حسنا وقد جاء في القرآن العظيم وصف المكان به فقد قال سبحانه ومقام كريم
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض قال القفال : لما نهى الله تعالى عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبه بالنهي عما يؤدي إليه من الطمع في أموالهم وقيل : نهاهم أولا عن التعرض لأموالهم بالجوارح ثم عن التعرض لها بالقلب على سبيل الحسد لتطهر أعمالهم الظاهرة والباطنة فالمعنى ولا تتمنوا ما أعطاه الله تعالى بعضكم وميزه به عليكم من المال والجاه وكل ما يجري فيه التنافس فإن ذلك قسمة صادرة من حكيم خبير وعلى كل من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده لأن ذلك أشبه بالاعتراض على من أتقن كل شئ وأحكمه ودبر العالم بحكمته البالغة ونظمه
وأظلم خلق الله من بات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب وإلى هذا الوجه ذهب ابن عباس وأبو عبدالله رضي الله تعالى عنهم فقد روي عنهما في الآية لا يقل أحدكم ليت ما أعطي فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي فإن ذلك يكون حسدا ولكن ليقل : اللهم أعطني مثله ويفهم من هذا أن التمني المذكور كناية عن الحسد وجعل بعضهم المقتضى للمنع عنه كونه ذريعة للحسد ولكل وجهة وزعم البلخي أن المعنى لا يجوز للرجل أن يتمنى أن لو كان امرأة ولا للمرأة أن لو كانت رجلا لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح فيكون قد تمنى ما ليس بأصلح ونقل شيخ الإسلام أنه لما جعل الله للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء : نحن أحوج لأن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت ثم قال : وهذا هو الأنسب بتعليل النهي بقوله
للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن فإنه صريح في جريان التمني بين فريقي الرجال والنساء ولعل صيغة المذكر في النهي لما عبر عنهن بالبعض والمعنى لكل من الفريقين في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الإستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاه حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجب الإنتهاء عن التمني المذكور انتهى وهذا المعنى الذي ذكره للآية مروي عن ابن
(5/19)
عباس رضي الله تعالى عنهما لكن القيل الذي نقله تبعا للزمخشري في سبب النزول لم نقف له على سند والذي ذكره الواحدي في ذلك ثلاثة أخبار : الأول ما أخرجه عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى الآية والثاني ما أخرجه عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن : وددن أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت والثالث ما أخرجه عن قتادة والسدي قالا : لما نزل قوله تعالى : للذكر مثل حظ الأنثيين قال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن بالميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء وقالت النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا فأنزل الله تعالى ولا تتمنوا إلى آخرها وذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور نحو ذلك ولا يخفى أن القيل الذي نقله ظاهر في حمل التمني المنهي عنه على الحسد والخبر الأول والثاني مما أخرجه الواحدي ليسا كذلك إذ عليهما يجوز حمله على الحسد أو على ما هو ذريعة له وربما يتراءى أن حمله على الثاني نظرا إليهما أظهر وأما الخبر الثالث فيأباه معنى الآية سواء كان التمني كناية عن الحسد أو ذريعة إلا بتكلف بعيد جدا ومعنى الآية على الأولين أن لكل من الرجال والنساء حظا من الثواب على حسب ما كلفه الله تعالى من الطاعات بحسن تدبيره فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير وروي ذلك عن قتادة وفيه استعمال الإكتساب في الخير وقد استعمل في الشر واستعمل الكسب في الخير في قوله تعالى : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وعن مقاتل وأبي جرير أنهما قالا : المراد مما اكتسبوا من الإثم وفيه استعمال اللام مع الشر دون على وهو خلاف ما في الآية وقيل : المراد لكل وعلى كل من الفريقين مقدار من الثواب والعقاب حسبما رتبه الحكيم على أفعاله إلا أنه استغنى باللام عن على وبالاكتساب عن الكسب وهو كما ترى ويرد على هذه المعاني أنه لا يساعدها النظم الكريم المتعلق بالمواريث وفضائل الرجال ولعل من يذهب إليها يجعل الآية معترضة في البين
وذكر بعضهم أن معنى الآية على الوجه الأول المروي عن أبي عبدالله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مقدرا في أزل الآزال من نعيم الدنيا بالتجارات والزراعات وغير ذلك من المكاسب فلا يتمن خلاف ما قسم له واسألوا الله من فضله عطف على النهي بعد تقرير الإنتهاء بالتعليل كأنه قيل : لا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم واسألوا الله تعالى من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر فإن خزائنه مملوءة لا تنفد أبدا والمفعول محذوف إفادة للعموم أي واسألوا ما شئتم فإنه سبحانه يعطيكموه إن شاء أو لكونه معلوما من السياق أي واسألوا مثله ويقال لذلك : غبطة وقيل : من زائدة أي واسألوا الله تعالى فضله وقد ورد في الخبر لا يتمنين أحدكم مال أخيه ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم اعطني مثله وذهب بعض العلماء كما قال البحر إلى المنع عن تمني مثل نعمة الغير ولو بدون تمني زوالها لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة له في دينه ومضرة عليه في دنياه فلا يجوز عنده أن يقول : اللهم اعطني دارا مثل دار فلان ولا زوجا مثل زوجه بل ينبغي أن يقول : اللهم اعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي ولا يتعرض لمن فضله عليه ونسب ذلك للمحققين وهم محجوجون بالخبر اللهم إلا إذا لم يسلموا صحته وقيل : المعنى لا تتمنوا الدنيا بل اسألوا الله تعالى العبادة التي تقربكم إليه وإلى هذا ذهب ابن جبير وابن سيرين وأخرج ابن المنذر عن الثاني أنه إذا سمع الرجل يتمنى الدنيا يقول : قد نهاكم الله تعالى عن هذا
(5/20)
ويتلو الآية والظاهر المموم وعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : سلوا الله تعالى من فضله فإن الله تعالى يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج وقال ابن عيينة : لم يأمر الله سبحانه بالمسألة إلا ليعطي إن الله كان بكل شئ عليما
32
- ولذلك فضل بعض الناس على بعض حسب مراتب استعداداتهم وتفاوت قابلياتهم
ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى لم يزل ولا يزال عليما بكل شئ فيعلم ما تضمرونه من الحسد ويجازيكم عليه ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون لا بد فيه من تقدير مضاف إليه أي لكل إنسان أو لكل قوم أو لكل مال أو تركة وفيه على هذا وجوه ذكرها الشهاب نور الله تعالى مرقده : الأول أنه على التقدير الأول معناه لكل إنسان موروث جعلنا موالي أي وراثا مما ترك وهنا تم الكلام فيكون مما ترك متعلقا بموالي أو بفعل مقدر و موالي مفعولا أولا لجعل بمعنى صير و لكل هو المفعول الثاني له قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجعل ببعض دون بعض وفاعل ترك ضمير كل ويكون الوالدان مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ومن الوارث فقيل : هم الوالدان والأقربون والثاني أن التقدير لكل إنسان موروث جعلنا وراثا مما تركه ذلك الإنسان ثم بين ذلك الإنسان بقوله سبحانه : الوالدان كأنه قيل : ومن هذا الإنسان الموروث فقيل : الوالدان والأقربون وإعرابه كما قبله غير أن الفرق بينهما أن الوالدان والأقربون في الأول وارثون وفي الثاني موروثون وعليهما فالكلام جملتان والثالث أن التقدير ولكل إنسان وارث مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي موروثين فالمولى الموروث والوالدان مرفوع ب ترك و ما بمعنى من والجار والمجرور صفة ما أضيفت إليه كل والكلام جملة واحدة والرابع أنه على التقدير الثاني معناه ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما تركه والدهم وأقربوهم فلكل خبر نصيب المقدر مؤخرا وجعلناهم صفة قوم والعائد الضمير المحذوف الذي هو مفعول جعل وموالي : إما مفعول ثان أو حال و مما ترك صفة المبتدأ المحذوف الباقي صفته كصفة المضاف إليه وحذف العائد منها
ونظيره قولك : لكل من خلقه الله تعالى إنسانا من رزق الله تعالى أي لكل واحد خلقه الله تعالى إنسانا نصيب من رزق الله تعالى والخامس أنه على التقدير الثالث معناه لكل مال أو تركة مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي وراثا يلونه ويحوزونه ويكون لكل متعلقا بجعل و مما ترك صفة كل واعترض على الأول والثاني بأن فيهما تفكيك النظم الكريم مع أن المولى يشبه أن يكون في الأصل اسم مكان لا صفة فكيف تكون من صلة له وأجيب عن هذا بأن ذلك لتضمنه معنى الفعل كما أشير إليه على أن كون المولى ليس صفة مخالف لكلام الراغب فإنه قال : إنه بمعنى الفاعل والمفعول أي الموالي والموالي لكن وزن مفعل في الصفة أنكره قوم وقال ابن الحاجب في شرح المفصل : إنه نادر فإما أن يجعل من النادر أو مما عبر عن الصفة فيه باسم المكان مجازا لتمكنها وقرارها في موصوفها ويمكن أن يجعل من باب المجلس السامي واعترض على الثالث بالبعد وعلى الرابع بأن فيه حذف المبتدأ الموصوف بالجار والمجرور وإقامته مقامه وهو قليل وبأن لكل قوم من الموالي جميع ما ترك الوالدان والأقربون لا نصيب وإنما النصيب لكل فرد وأجيب عن الأول بأنه ثابت مع قلته كقوله تعالى : وما منا إلا وله مقام معلوم ومنا دون ذلك
(5/21)
وعن الثاني بأن ما يستحقه القوم بعض التركة لتقدم التجهيز والدين والوصية إن كانا وأما حمل من على البيان للمحذوف فبعيد جدا وتعقب الشهاب الجواب عن الأول بأن فيه خللا من وجهين : أما أولا فلأن ما ذكر لا شاهد له فيه لما قرره النحاة أن الصفة إذا كانت جملة أو ظرفا تقام مقام موصوفها بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن أو في وإلا لم تقم مقامه إلا في شعر وما ذكر داخل فيه دون الآية وأما ثانيا فلأنه ليس المراد بقيامها مقامه أن تكون مبتدأ حقيقة بل المبتدأ محذوف وهذا بيانه كما أشير إليه في التقرير فلا وجه لاستبعاده نعم ما ذكروه وإن كان مشهورا غير مسلم فإن ابن مالك صرح بخلافه في 3 التوضيح وجوز حذف الموصوف في السعة بدون ذلك الشرط فالحق أنه أغلبي لا كلي واعترض على الخامس بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف نحو بكل رجل مررت تميمي وفي جوازه نظر ورد بأنه جائز كما في قوله تعالى : قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض ففاطر صفة الاسم الجليل وقد فصل بينهما بأتخذ العامل في غير فهذا أولى والجواب بأن العامل لم يتخلل بل المعمول تقدم فجاء التخلل من ذلك فلم يضعف إذ حق المعمول التأخر عن عامله وحينئذ يكون الموصوف مقرونا بصفته تكلف مستغنى عنه واختار جمع من المحققين هذا الخامس والذي قبله وجعلوا الجملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها واعترضوا على الوجه الأول بأن فيه خروج الأولاد لأنهم لا يدخلون في الأقربين عرفا كما لا يدخل الوالدان فيهم وإذا أريد المعنى اللغوي شمل الوالدين ورد بأن هذا مشترك الورود على أنه قد أجيب عنه بأن ترك الأولاد لظهور حالهم من آية المواريث كما ترك ذكر الأزواج لذلك أو بأن ذكر الوالدين لشرفهم والاهتمام بشأنهم فلا محذور من هذه الحيثية تدبر والذين عقدت أيمنكم هو موالي الموالاة
أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال بقوله سبحانه : وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
وروي ذلك من غير ما طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذلك عن غيره ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث أصلا وخبر النسخ المذكور لا يقوم حجة عليه إذ لا دلالة فيما ادعى ناسخا على عدم إرث الحليف لا سيما وهو إنما يرثه عند عدم العصبات وأولي الأرحام والأيمان هنا جمع يمين بمعنى اليد اليمنى وإضافة العقد إليها لوضعهم الأيدي في العقود أو بمعنى القسم وكون العقد هنا عقد النكاح خلاف الظاهر إذ لم يعهد فيه إضافته إلى اليمين وقرأ الكوفيون عقدت بغير ألف والباقون عاقدت بالألف وقرئ بالتشديد أيضا والمفعول في جميع القراءات محذوف أي عهودهم والحذف تدريجي ليكون العائد المحذوف منصوبا كما هو الكثير المطرد وفي الموصول أوجه من الإعراب : الأول أن يكون مبتدأ وجملة قوله تعالى فآتوهم نصيبهم خبره وزيدت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والثاني أنه منصوب على الاشتغال قيل : وينبغي أن يكون مختارا لئلا يقع الطلب خبرا لكنهم لم يختاروه لأن مثله قلما يقع في غير الاختصاص وهو غير مناسب هنا ورد بأن زيدا ضربته إن قدر العامل فيه
(5/22)
مؤخرا أفاد الاختصاص وإن قدر مقدما فلا يفيده ولإخفاء أن الظاهر تقديره مقدما فلا يلزم الاختصاص والثالث أنه معطوف على الوالدان فإن أريد أنهم موروثون عاد الضمير من فآتوهم على موالي وإن أريد أنهم وارثون جاز عوده على موالي وعلى الوالدين وما عطف عليهم قيل : ويضعفه شهرة الوقف على الأقربون دون أيمانكم والرابع أنه منصوب بالعطف على موالي وهو تكلف
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البخاري وأبو داود والنسائي وجماعة أنه قال في الآية : كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه و سلم بينهم فلما نزلت ولكل جعلنا موالي نسخت ثم قال : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له وروي عن مجاهد مثله وظاهر ذلك عدم جواز العطف إذ من عطف أراد فآتوهم نصيبهم من الإرث إن الله كان على كل شئ شهيدا
33
- أي لم يزل سبحانه عالما بجميع الأشياء مطلعا عليها جليها وخفيها فيطلع على الإيتاء والمنع ويجازي كلا من المانع والمؤتي حسب فعله ففي الجملة وعد ووعيد الرجال قومون على النساء أي شأنهم القيام عليهن قيام الولاة على الرعية بالأمر والنهي ونحو ذلك واختيار الجملة الاسمية مع صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم ورسوخهم في الاتصاف بما أسند إليهم وفي الكلام إشارة إلى سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث كما أن فيما تقدم رمزا إلى تفاوت مراتب الاستحقاق وعلل سبحانه الحكم بأمرين : وهبي وكسبي فقال عز شأنه : بما فضل الله بعضهم على بعض فالباء للسببية وهي متعلقة ب قوامون كعلى ولا محذور أصلا وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره والباء للسببية أو للملابسة وما مصدرية وضمير الجمع لكلا الفريقين تغليبا أي قوامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى أياهم عليهن أو مستحقين ذلك بسبب التفضيل أو متلبسين بالتفضيل وعدل عن الضمير فلم يقل سبحانه بما فضلهم الله عليهن للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية وقيل : للإبهام للإشارة إلى أن بعض النساء أفضل من كثير من الرجال وليس بشئ وكذا لم يصرح سبحانه بما به التفضيل رمزا إلى أنه غني عن التفصيل وقد ورد أنهن ناقصات عقل ودين والرجال بعكسهن كما لا يخفى ولذا خصوا بالرسالة بالنبوة على الأشهر وبالإمامة الكبرى والصغرى وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة وتكبيرات التشريق عند إمامنا الأعظم والاستبداد بالفراق وبالنكاح عند الشافعية وبالشهادة في أمهات القضايا وزيادة السهم في الميراث والتعصيب إلى غير ذلك وبما أنفقوا من أموالهم عطف على ما قبله فالباء متعلقة بما تعلقت به الباء الأولى و ما مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف و من تبعيضية أو ابتدائية متعلقة بأنفقوا أو بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف وأريد بالمنفق كما قال مجاهد المهر ويجوز أن يراد بما أنفقوه ما يعمه والنفقة عليهن والآية كما روي عن مقاتل نزلت في سعد بن الربيع ابن عمرو وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : لتقتص من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إرجعوا هذا جبرائيل عليه السلام أتاني وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلى الله عليه و سلم ثم قال : أردنا أمرا وأراد الله تعالى أمرا والذي أراده الله تعالى خير
(5/23)
وقال الكلبي : نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة وذكر القصة وقال بعضهم : نزلت في جميلة بنت عبدالله بن أبي وزوجها ثابت بن قيس بن شماس وذكر قريبا منه واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته إلا في معصية الله تعالى وفي الخبر لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة وهو مذهب مالك والشافعي لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح وعندنا لا فسخ لقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأنه سبحانه جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة وهو الناظر على الشئ الحافظ له فالصلحت أي منهن قنتت شروع في تفصيل أحوالهن وكيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن والمراد فالصالحات منهن مطيعات لله تعالى ولأزواجهن حافظت للغيب أي يحفظن أنفسهن وفروجهن في حالة غيبة أزواجهن قال الثوري وقتادة : أو يحفظن في غيبة أزواجهن ما يجب حفظه في النفس والمال فاللام بمعنى في والغيب بمعنى الغيبة وأل عوض عن المضاف إليه على رأي ويجوز أن يكون المراد حافظات لواجب الغيب أي لما يجب أن عليهن حفظه حال الغيبة فاللام على ظاهرها وقيل : المراد حافظات لأسرار أزواجهن أي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة ومنه المنافسة والمنافرة واللطمة المذكورة في الخبر وحينئذ لا حاجة إلى ما قيل في اللام ولا إلى تفسير الغيب بالغيبة إلا أن ما أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ثم قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرجال قوامون إلى الغيب يبعد هذا القول ومن الناس من زعم أنه أنسب بسبب النزول بما حفظ الله أي بما حفظهن الله تعالى في مهورهن وإلزام أزواجهن النفقة عليهن قاله الزجاج وقيل : بحفظ الله تعالى لهن وعصمته إياهن ولولا أن الله تعالى حفظهن وعصمهن لما حفظن فما إما موصولة أو مصدرية وقرأ أبو جعفر بما حفظ الله بالنصب ولا بد من تقدير مضاف على هذه القراءة كدين الله وحقه لأن ذاته تعالى لا يحفظها أحد و ما موصولة أو موصوفة ومنع غير واحد المصدرية لخلو حفظ حينئذ عن الفاعل لأنه كان يجب أن يقال بما حفظهن الله وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون فاعله ضميرا مفردا عائدا على جمع الإناث لأنه في معنى الجنس كأنه قيل : فمن حفظ الله وجعله ابن جني كقوله : فإن الحوادث أودى بها ولا يخفى ما فيه من التكلف وشذوذ ترك التأنيث ومثله لا يليق بالنظم الكريم كما لا يخفى ثم إن صيغة جمع السلامة هنا للكثرة أما المعرف فظاهر وأما المنكر فلأنه حمل عليه فلا بد من مطابقته له في الكثرة وإلا لم يصدق على جميع أفراده وقد نص على ذلك في الدر المصون
وقرأ ابن مسعود فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن وأخرج ابن جرير عنه زيادة فأصلحوا إليهن والتي تخافون نشوزهن أي ترفعهن عن مطاوعتكم وعصيانهن لكم من النشز بسكون الشين وفتحها وهو المكان المرتفع ويكون بمعنى الارتفاع فعظوهن أي فانصحوهن
(5/24)
وقولوا لهن اتقين الله وارجعن عما أنتن عليه وظاهر الآية ترتب هذا على خوف النشوز وإن لم يقع وإلا لقيل نشزن ولعله غير مراد ولذا فسر في التيسير تخافون بتعلمون وبه قال الفراء كما نقله عنه الطبرسي وجاء الخوف بهذا كما في القاموس وقيل : المراد تخافون دوام نشوزهن أو أقصى مراتبه كالفرار منهم في المراقد
واختار في البحر أن في الكلام مقدرا وأصله واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن فعظوهن وهو خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن واهجروهن في المضاجع أي مواضع الإضطجاع والمراد اتركوهن منفردات في مضاجعهن فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون الكلام كناية عن ترك جماعهن وإلى ذلك ذهب ابن جبير وقيل : المراد اهجروهن في الفراش بأن تولوهن ظهوركم فيه ولا تلتفتوا إليهن وروي ذلك عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ولعله كناية أيضا عن ترك الجماع وقيل : المضاجع المبايت أي اهجروا حجرهن ومحل مبيتهن وقيل : في للسببية أي اهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب تخلفهن عن المضاجعة وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى فالهجران على هذا بالمنطق قال عكرمة : بأن يغلظ لها القول وزعم بعضهم أن المعنى أكرهوهن على الجماع واربطوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار وتعقبه الزمخشري بأنه من تفسير الثقلاء وقال ابن المنير : لعل هذا المفسر يتأيد بقوله تعالى : فإن أطعنكم فإنه يدل على تقدم إكراه في أمر ما وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع فإطلاق الزمخشري لما أطلقه في حق هذا المفسر من الإفراط انتهى وأظن أن هذا لو عرض على الزمخشري لنظم قائله في سلك ذلك المفسر ولعد تركه من التفريط وقرئ في المضطجع والمضجع واضربوهن يعني ضربا غير مبرح كما أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وفسر غير المبرح بأن لا يقطع لحما ولا يكسر عظما
وعن ابن عباس أنه الضرب بالسواك ونحوه والذي يدل عليه السياق والقرينة العقلية أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة فإذا خيف نشوز المرأة تنصح ثم تهجر ثم تضرب إذ لو عكس استغنى بالأشد عن الأضعف وإلا فالواو لا تدل على الترتيب وكذا الفاء في فعظوهن لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع فالقول بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر وفي الكشف الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزئة مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر مدرج فإنما النص هو الدال على الترتيب
هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة والزوج يريدها وترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه وترك الصلاة في رواية والغسل والخروج من البيت إلا لعذر شرعي وقيل : له أن يضربها متى أغضبته فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداع قوي فقد أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق رضي الله تعالى عنه قالت : كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخلى بينهم وبين ضربهن ثو قال : ولن يضرب خياركم وذكر الشعراني قدس سره أن الرجل إذا ضرب زوجته ينبغي أن لا يسرع في جماعها بعد الضرب وكأنه أخذ ذلك مما أخرجه الشيخان وجماعة عن عبدالله بن زمعة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم :
(5/25)
أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم وأخرج عبدالرزاق عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره وللخبر محمل آخر لا يخفى فإن أطعنكم أي وافقنكم وانقدن لما أوجب الله تعالى عليهن من طاعتكم بذلك كما هو الظاهر فلا تبغوا عليهن سبيلا أي فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن أو لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فالبغي إما بمعنى الطلب و سبيلا مفعوله والجار متعلق به أو صفة النكرة قدم عليها وإما بمعنى الظلم و سبيلا منصوب بنزع الخافض وعن سفيان بن عيينة أن المراد فلا تكلفوهن المحبة وحاصل المعنى إذا استقام لكم ظاهرهن فلا تعتلوا عليهن بما في باطنهن إن الله كان عليا كبيرا
34
- فاحذروه فإن قدرته سبحانه عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم منهن أو أنه تعالى على علو شأنه وكمال ذاته يتجاوز هن سيئاتكم ويتوب عليكم إذا تبتم فتجاوزوا أنتم عن سيئات أزواجكم واعفوا عنهن إذا تبن أو أنه تعالى قادر على الإنتقام منكم غير راض بظلم أحد أو أنه سبحانه مع علوه المطلق وكبريائه لم يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن إلا ما يطقن وإن خفتم الخطاب كما قال ابن جبير والضحاك وغيرهما للحكام وهو وارد على بناء الأمر على التقدير المسكوت عنه للإيذان أن ذلك مما ليس ينبغي أن يفرض تحققه أعني عدم الإطاعة وقيل : لأهل الزوجين أو للزوجين أنفسهما وروي ذلك عن السدي والمراد فإن علمتم كما قال ابن عباس أو فإن ظننتم كما قيل شقاق بينهما أي الزوجين وهما وإن لم يجر ذكرهما صريحا فقد جرى ضمنا لدلالة النشوز الذي هو عصيان المرأة زوجها والرجال والنساء عليهما والشقاق الخلاف والعداوة واشتقاقه من الشق وهو الجانب لأن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر و بين من الظرفية المكانية التي يقل تصرفها وإضافة الشقاق إليها إما لإجراء الظرف مجرى المفعول كما في قوله :
يا سارق الليلة أهل الدار
أو الفاعل كقولهم صام نهاره والأصل شقاقا بينهما أي لم يخالف أحدهما الآخر فللملابسة بين الظرف والمظروف نزل منزلة الفاعل أو المفعول وشبه أحدهما ثو عومل معاملته في الإضافة إليه وقيل : الإضافة بمعنى في وقيل : إن بين هنا بمعنى الوصل الكائن بين الزوجين أعني المعاشرة وهو ليس بظرف وإلى ذلك يشير كلام أبي البقاء ولم يرتض ذلك المحققون
فابعثوا أي وجهوا وأرسلوا إلى الزوجين لإصلاح ذات البين حكما أي رجلا عدلا عارفا حسن السياسة والنظر في حصول المصلحة من أهله أي الزوج و من إما متعلق بابعثوا فهو لابتداء الغاية وإما بمحذوف وقع صفة للنكرة فهي للتبعيض وحكما آخر على صفة الأول من أهلها أي الزوجة وخص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كل من حب وبغض وإرادة وصحبة أو فرقة وهذا على وجه الاستحباب وإن نصبا من الأجانب جاز واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك فقيل : لهما وهو المروي عن علي كرم الله وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإحدى الروايتين عن ابن جبير وبه قال الشعبي فقد أخرج الشافعي في الإمام والبيهقي
(5/26)
في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني قال : جاء رجل وامرأة إلى علي كرم الله تعالى وجهه ومع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم علي كرم الله تعالى وجهه أن يبعثوا رجلا حكما من أهله ورجلا حكما من أهلها ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أو تفرقا قالت المرأة : رضيت بكتاب الله تعالى بما علي فيه ولي وقال الرجل : أما الفرقة فلا فقال علي كرم الله تعالى وجهه : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هذه الآية : وإن خفتم إلخ هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسئ فإن كان الرجل هو المسئ حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي وقيل : ليس لهما ذلك وروي ذلك عن الحسن
فقد أخرج عبدالرزاق وغيره عنه أنه قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه وأما الفرقة فليست بأيديهما وإلى ذلك ذهب الزجاج ونسب إلى الإمام الأعظم وأجيب عن فعل علي كرم الله تعالى وجهه بأنه إمام وللإمام أن يفعل ما رأى فيه المصلحة فلعله رأى المصلحة فيما ذكر فوكل الحكمين على ما رأى على أن في كلامه ما يدل على أن تنفيذ الأمر موقوف على الرضا حيث قال : للرجل كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يصلح جوابا عما روي عن ابن عباس ولعل المسألة اجتهادية وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر وذهب الإمامية إلى ما ذهب إليه الحسن وكأن الخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عندهم وعن الشافعي روايتان في المسألة وعن مالك أن لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه ونقل عن بعض علمائنا أن الإساءة إن كانت من الزوج فرقا بينهما وإن كانت منها فرقا على بعض ما أصدقها والظاهر أن من ذهب إلى القول بنفاذ حكمهما جعلهما وكيلين حكما على ذلك
وقال ابن العربي في الأحكام : إنهما قاضيان لا وكيلان في الحكم اسم في الشرع له إن يريدا أي الحكمان إصلاحا أي بين الزوجين وتأليفا يوفق الله بينهما فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما فالضمير أيضا للحكمين وإلى ذلك ذهب ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن جبير والسدي
وجوز أن يكون الضميران للزوجين أي إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الإلفة والوفاق وأن يكون الأول للحكمين والثاني للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى أوقع الله سبحانه بين الزوجين الإلفة والمحبة وألقى في نفوسهما الموافقة والصحبة وأن يكون الأول للزوجين والثاني للحكمين أي إن يرد الزوجان إصلاحا واتفاقا يوفق الله تعالى شأنه بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ويتحرياه إن الله كان عليما خبيرا
35
- بالظواهر والبواطن فيعلم إرادة العباد ومصالحهم وسائر أحوالهم وقد استدل الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه الآية على الخوارج في إنكارهم التحكيم في قصة علي كرم الله تعالى وجهه وهو أحد أمور ثلاثة علقت في أذهانهم فأبطلها كلها رضي الله تعالى عنه فرجه إلى مولاة الأمير كرم الله تعالى وجهه منهم عشرون ألفا وفيها كما قال ابن الفرس
(5/27)
رد على من أنكر من المالكية بعث الحكمين في الزوجين وقال : تخرج المرأة إلى دار أمين أو يسكن معها أمين واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا كلام مبتدأ مسوق للإرشاد إلى خلال مشتملة على معالي الأمور إثر إرشاد كل من الزوجين إلى المعاملة الحسنة وإزالة الخصومة والخشونة إذا وقعت في البين وفيه تأكيد لرعاية حق الزوجية وتعليم المعاملة مع أصناف الناس وقدم الأمر بما يتعلق بحقوق الله تعالى لأنها المدار الأعظم وفي ذلك إيماء أيضا إلى ارتفاع شأن ما نظم في ذلك السلك والعبادة أقصى غاية الخضوع و شيئا إما مفعول به أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء صنما كان أو غيره فالتنوين للتعميم
واختار عصام الدين كونه للتحقير ليكون فيه توبيخ عظيم أي لا تشركوا به شيئا حقيرا مع عدم تناهي كبريائه إذ كل شئ في جنب عظمته سبحانه أحقر حقير ونسب الممكن إلى الواجب أبعد من نسبة المعدوم إلى الموجود إذ المعدوم إمكان الموجود وأين الإمكان من الوجوب ضدان مفترقان أي تفرق وإما مصدر أي لا تشركوا به عز شأنه من الإشراك جليا أو خفيا وعطف النهي عن الإشراك على الأمر بالعبادة مع أن الكف عن الإشراك لازم للعبادة بذلك التفسير إذ لا يتصور غاية الخضوع لمن له شريك ضرورة أن الخضوع لمن لا شريك له فوق الخضوع لمن له شريك للنهي عن الإشراك فيما جعله الشرع علامة نهاية الخضوع أو للتوبيخ بغاية الجهل حيث لا يدركون هذا اللزوم كذا قيل : ولعل الأوضح أن يقال : إن هذا النهي إشارة إلى الأمر بالإخلاص فكأنه قيل : واعبدوا الله مخلصين له ويؤل ذلك كما أومأ إليه الإمام إلى أن سبحانه أمر أولا بما يشمل التوحيد وغيره من أعمال القلب والجوارح ثم أردفه بما يفهم منه التوحيد الذي لا يقبل الله تعالى عملا بدونه فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام وبالوالدين إحسنا أي وأحسنوا بهما إحسانا فالجار متعلق بالفعل المقدر وجوز تعلقه بالمصدر وقدم للاهتمام وأحسن يتعدى بالباء وإلى واللام وقيل : إنما يتعدى بالباء إذا تضمن معنى العطف
والإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما ويسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهما
وبذي القربى أي بصاحب القرابة من أخ وعو وخال وأولاد كل نحو ذلك وأعيد الباء هنا ولم يعد في البقرة قال في البحر : لأن هذا توصية لهذه الأمة فاعتني به وأكد وذلك في بني إسرائيل
واليتمى والمسكين من الأجانب والجار ذي القربى أي الذي قرب جواره والجار الجنب أي البعيد من الجنابة ضد القرابة وهي على هذا مكانية ويحتمل أن يراد بالجار ذي القربى من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين وبالجار الجنب الذي لا قرابة له أو مشركا أخرج أبو نعيم والبزار من حديث جابر بن عبدالله وفيه ضعف قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق واحد : حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب وأخرج البخاري في الأدب عن عبدالله بن عمر أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أن سيورثه
(5/28)
والظاهر أن مبنى الجوار على العرف وعن الحسن كما في الأدب أنه سئل عن الجار فقال : أربعين دارا أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره وروي مثله عن الزهري وقيل : أربعين ذراعا ويبدأ بالأقرب فالأقرب فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت : يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال : إلى أقربهما منك بابا وقرئ والجار ذي القربى بالنصب أي وأخص الجار وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار
وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره وفيما سمعه عبدالله كفاية وأخرجه الشيخان وأحمد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها والصاحب بالجنب وهو الرفيق في السفر أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك وكلا القولين عن ابن عباس وقيل : الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس وغير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم
وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه الصاحب بالجنب المرأة والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الصاحب والعامل فيه الفعل المقدر وابن السبيل وهو المسافر أو الضيف
وما ملكت أيمنكم قال مقاتل : من عبيدكم وإمائكم وكان كثيرا ما يوصي بهم صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال : كان عامة وصية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب حسبما يليق بكل وينبغي إن الله لا يحب من كان مختالا أي ذا خيلاء وكبر يأنف من أقاربه وجيرانه مثلا ولا يلتفت إليهم فخورا
36
- يعد مناقبه عليهم تطاولا وتعاظما والجملة تعليل للأمر السابق
أخرج الطبراني وابن مردويه عن ثابت بن قيس بن شماس قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ هذه الآية إن الله إلخ فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما يبكيك فقال : يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال : فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس والأخبار في هذا الباب كثيرة
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل في أوجه من الإعراب : الأول أن يكون بدلا من من بدل كل من كل الثاني أن يكون صفة لها بناءا على رأي من يجوز وقوع الموصول موصوفا والزجاج يقول به الثالث أن يكون نصبا على الذم الرابع أن يكون رفعا عليه الخامس أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين السادس أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي مبغوضون أو أحقاء بكل ملامة ونحو ذلك مما يؤخذ من السياق وإنما حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب وتقديره بعد تمام الصلة أولى والسابع أن يكون كما قال أبو البقاء : مبتدأ والذين الآتي معطوفا عليه والخبر إن الله لا يظلم على معنى لا يظلمهم وهو بعيد جدا
وفرق الطيبي بين كونه خبرا ومبتدأ بأنه على الأول متصل بما قبله لأن هذا من جنس أوصافهم التي عرفوا بها وعلى الثاني منقطع جئ به لبيان أحوالهم وذكر أن الوجه الاتصال وأطال الكلام عليه وفي البخل أربع لغات : فتح الخاء والباء وبها قرأ حمزة والكسائي وضمهما وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر
(5/29)
وفتح الباء وسكون الخاء وبها قرأ قتاتة وضم الباء وسكون الخاء وبها قرأ الجمهور ويكتمون ما ءاتهم الله من فضله أي من المال والغنى أو من نعوته صلى الله تعالى عليه وسلم
وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا أي أعددنا لهم ذلك ووضع المظهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعم الله تعالى ومن كان كافرا لنعمه فله عذاب يهينه كما أهان النعم بالبخل والإخفاء ويجوز حمل الكفر على ظاهره وذكر ضمير التعظيم للتهويل لأن عذاب العظيم عظيم وغضب الحليم وخيم والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها وسبب نزول الآية ما أخرجه ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان كردم بن زيد حليف كعب الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد التابوت يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدركون ما يكون فأنزل الله تعالى الذين يبخلون إلى قوله سبحانه : وكان الله بهم عليما وقيل : نزلت في الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه و سلم وروي ذلك عن سعيد بن جبير وغيره وأخرج عبد بن حميد وآخرون عن قتادة أنه قال في الآية : هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب بخلوا بحق الله تعالى عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل والبخل على هذه الرواية ظاهر في البخل بالمال وبه صرح ابن جبير في إحدى الروايتين عنه وفي الرواية الأخرى أنه البخل بالعلم وأمرهم الناس أي أتباعهم به ويحتمل أن يكون حقيقة ويحتمل أن يكون مجازا تنزيلا لهم منزلة الآمرين بذلك لعلمهم باتباعهم لهم والذين ينفقون أمولهم رئاء الناس أي للفخار ولما يقال لا لوجه الله العظيم المتعال والموصول عطف على نظيره أو على الكافرين وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي من حيث أنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في الشناعة واستجلاب الذم وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي قرينهم الشيطان كما يدل عليه الكلام الآتي
و رئاء مصدر منصوب على الحال من ضمير ينفقون وإضافته إلى الناس من إضافة المصدر لمفعوله أي مرائين الناس ولا يؤمنون بالله القادر على الثواب والعقاب ولا باليوم الآخر الذي يثاب فيه المطيع ويعاقب العاصي ليقصدوا بالإنفاق ما تورق به أغصانه ويجتنى منه ثمره وهم اليهود وروي ذلك عن مجاهد أو مشركو مكة أو المنافقون كما قيل ومن يكن الشيطن والمراد به إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة من قبيلته والناس التابعين له أو من القوى النفسانية والهوى وصحبة الأشرار أو من النفس والقوى الحيوانية وشياطين الأنس والجن له قرينا أي صاحبا وخليلا في الدنيا فساء فبئس الشيطان أو القرين
قرينا
38
- لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار وساء منقولة إلى باب نعم وبئس فهي ملحقة بالجامدة فلذا قرنت بالفاء ويحتمل أن تكون على بابها بتقدير قد كقوله سبحانه : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار والغرض من هذه الجملة التنبيه على أن الشيطان قرينهم فحملهم على ذلك وزينه لهم وجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان يوم القيامة في النار فيتلاعنان ويتباغضان وتقوم
(5/30)
لهم الحسرة على ساق وماذا عليهم أي ما الذي عليهم أو أي وبال وضرر يحيق بهم
لو ءآمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا على من ذكر من الطوائف ابتغاء وجه الله تعالى كما يشعر به السياق ويفهمه الكلام مما رزقهم الله من الأموال وليس المراد السؤال عن الضرر المترتب على الإيمان والإنفاق في سبيل الله تعالى كما هو الظاهر إذ لا ضرر في ذلك ليسأل عنه بل المراد توبيخهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشئ على خلاف ما هو عليه وتحريضهم على صرف الفكر لتحصيل الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما في ذلك مما هو أجدى من تفاريق العصا وتنبيههم على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطا فكيف إذا تدفقت منه المنافع ! وهذا أسلوب بديع كثيرا ما استعملته العرب في كلامها ومن ذلك قول من قال : 3 ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق وفي الكلام رد على الجبرية إذ لا يقال مثل ذلك لمن لا اختيار له ولا تأثير أصلا في الفعل ألا ترى أن من قال للأعمى : ماذا عليك لو كنت بصيرا وللقصير ماذا عليك لو كنت طويلا نسب إلى ما يكره
واستدل به القائلون بجواز إيمان المقلد أيضا لأنه مشعر بأن الإيمان في غاية السهولة ولو كان الاستدلال واجبا لكان في غاية الصعوبة وأجيب بعد تسليم الإشعار بأن الصعوبة في التفاصيل وليست واجبة وأما الدلائل على سبيل الإجمال فسهلة وهي الواجبة و لو إما على بابها والكلام محمول على المعنى أي لو آمنوا لم يضرهم وإما بمعنى أن المصدرية كما قال أبو البقاء وعلى الوجهين لا استئناف
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وجوابها مقدر أي حصلت لهم السعادة ونحوه وإنما قدم الإيمان ههنا وأخر في الآية المتقدمة لأنه ثمة ذكر لتعليل ما قبله من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلها وهنا للتحريض فينبغي أن يبدأ فيه بالأهم فالأهم ولو قيل : أخر الإيمان وقدم الإنفاق لأن ذلك الإنفاق كان بمعنى الإسراف الذي هو عديل البخل فأخر الإيمان لئلا يكون فاصلا بين العديلين لكان له وجه لا سيما إذا قلنا بالعطف
وكان الله بهم عليما خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم فيجازيهم به وقيل : فيه إشارة إلى إثابته تعالى إياهم لو كانوا آمنوا وأنفقوا ولا بأس بأن يراد كان عليما بهم وبأحوالهم المحققة والمفروضة فيعاقب على الأولى ويثيب على الثانية كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى :
إن الله لا يظلم مثقال ذرة المثقال مفعال من الثقل ويطلق على المقدار الذي لم يختلف كما قيل : جاهلية وإسلاما وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أربعة وعشرون قيراطا وعلى مطلق المقدار وهو المراد هنا ولذا قال السدي : أي وزن ذرة وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى
وروي ذلك عن ابن عباس وابن زيد وعن الأول أنها رأس النملة وعنه أيضا أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة وقريب منه ما قيل : إنها جزء من أجزاء الهباء في الكوة وقيل : هي الخردلة ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق عطاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ مثقال نملة ولم يذكر سبحانه الذرة لقصر الحكم عليها بل لأنها أقل شئ مما يدخل في وهم البشر أو أكثر ما يستعمل عند الوصف بالقلة ولم يعبر سبحانه بالمقدار ونحوه بل عبر بالمثقال للإشارة بما يفهم منه من الثقل الذي يعبر به عن الكثرة والعظم كقوله تعالى : وأما من ثقلت موازينه إلى أنه وإن كان حقيرا
(5/31)
فهو باعتبار جزئه عظيم وانتصابه على أنه صفة مصدر محذوف كالمفعول أي ظلما قدر مثقال ذرة فحذف المصدر وصفته وأقيم المضاف إليه مقامهما أو مفعول ثان ليظلم أي لا يظلم أحدا أو لا يظلمهم مثقال ذرة
قال السمين : وكأنهم ضمنوا يظلم معنى يغصب أو ينقص فعدوه لاثنين
وذكر الراغب أن الظلم عند أهل اللغة وضع الشئ في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة أو بعدول عن وقته أو مكانه وعليه ففي الكلام إشارة إلى أن نقص الثواب وزيادة العقاب لا يقعان منه تعالى أصلا وفي ذلك حث على الإيمان والإنفاق بل إرشاد إلى أن كل ما أمر به مما ينبغي أن يفعل وكل ما نهى عنه مما ينبغي أن يجتنب
واستدل المعتزلة بالآية على أن الظلم ممكن في حد ذاته إلا أنه تعالى لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة لأنه سبحانه مدح نفسه بتركه ولا مدح بترك القبيح ما لم يكن عن قدرة ألا ترى أن العنين لا يمدح بترك الزنا واعترض على ذلك بقوله تعالى : لا تأخذه سنة ولا نوم فإنه ذكر في معرض المدح مع أن النوم غير ممكن عليه سبحانه قال في الكشف : وهو غير وارد لأنه مدح بانتفاء النقص عن ذاته المقدسة وهو كما تقول : الباري عز وعلا ليس بجسم ولا عرض وأما ما نحن فيه فمدح بترك الفعل والترك الممدوح إنما يكون إذا كان بالاختيار نعم للمانع أن لا يسلم أنه تعالى مدح بالترك بل من حيث الدلالة على النقص لأن وجوب الوجود ينافي جواز الاتصاف بالظلم وتحقيقه على مذهبهم أن وضع الشئ في غير موضعه الحقيق به ممكن في نفسه وقدرة الحق جل شأنه تسع جميع الممكنات لكن الحكمة وهي الإتيان بالممكن على وجه الإحكام وعلى ما ينبغي مانعة وعلى هذا قالوا : الحكيم لا يفعل إلا الحسن من بين الممكنات إلا إذا دعته حاجة والمنزه عن الحاجات جمع يتعالى عن فعل القبيح ونحن نقول : إنه عز اسمه لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أيضا بناءا على وعده المحتوم فإن الحلف فيه ممتنع لكونه نقصا منافيا للألوهية وكمال الغنى وبهذا الإعتبار يصح أن يسمى ظلما وإن كان لا يتصور حقيقة الظلم منه تعالى لكونه المالك على الإطلاق فالزيادة والنقص ممكنان لذاتهما والخلف ممتنع لذاته ولا يلزم من كون الخلف ممتنعا لذاته بالنسبة إلى الواجب تعالى وتقدس أن يكون متعلقه كذلك وهذا على نحو ما تقرر في مسألة التكليف بالممتنع أن أخبار الله تعالى عن عدم إيمان المصر ووجوب الصدق اللازم له لا يخرج الفعل عن كونه مقدور المكلف بل يحقق قدرته عليه فليحفظ فإنه مهم
وإن تك حسنة الضمير المستتر في الفعل الناقص عائد إلى المثقال وإنما أنث حملا على المعنى لأنه بمعنى وإن تكن زنة ذرة حسنة وقيل : لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه نحو
كما شرقت صدر القناة من الدم
أو صفة له نحو لا تنفع نفسا إيمانها في قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية ومقدار الشئ صفة له كما أن الإيمان صفة للنفس وقيل : أنث الضمير لتأنيث الخبر واعترض بأن تأنيث الخبر إنما يكون لمطابقة تأنيث المبتدأ فلو كان تأنيث المبتدأ له لزم الدور وأجيب بأن ذلك إذا كان مقصودا وصفيته والحسنة غلبت عليها الاسمية فألحقت بالجوامد التي لا تراعى فيها المطابقة نحو الكلام هو الجملة وقيل : الضمير عائد إلى المضاف إليه وهو مؤنث بلا خفاء وحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيها لها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون وكونها من حروف الزوائد وكان القياس عود الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين بعد حذف النون إلا أنهم خالفوا القياس في ذلك أيضا حرصا على التخفيف فيما
(5/32)
كثر دوره وقد أجاز يونس حذف النون من هذا الفعل أيضا في مثل قوله
فإن لم تك المرآة أبدت وسامة فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم وسيبويه يدعى أن ذلك ضرورة وقرأ ابن كثير حسنة بالرفع على أن تك تامة أي وإن توجد أو تقع حسنة يضعفها أضعافا كثيرة حتى يوصلها كما مر عن أبي هريرة إلى ألفي ألف حسنة وعنى التكثير لا التحديد والمراد يضاعف ثوابها لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مثلا مما لا يعقل وإن ذهب إليه بعض المحققين وما في الحديث من أن تمرة الصدقة يربيها الرحمن حتى تصير مثل الجبل محمول على هذا للقطع بأنها أكلت واحتمال إعادة المعدوم بعيد وكذا كتابة ثوابها مضاعفا وهذه المضاعفة ليست هي المضاعفة في المدة عند الإمام لأنها غير متناهية وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءا أو ثلاثين أو أزيد وقيل : هي المضاعفة بحسب المدة على معنى أنه سبحانه لا يقطع ثواب الحسنة في المدد الغير المتناهية لا أنه يضاعف جل شأنه مدتها ليجئ حديث محالية تضعيف ما لا نهاية وجعل قوله تعالى : ويؤت من لدنه أجرا عظيما على هذا عطفا لبيان الأجر المتفضل به وهو الزيادة في المقدار إثر بيان الأجر المستحق وهو إعطاء مثله واحدا بعد واحد إلى أبد الدهر وتسمية ذلك أجرا من مجاز المجاورة لأنه تابع للأجر مزيد عليه وعلى الأول جعله البعض واردا على طريقة عطف التفسير على معنى يضاعف ثواب تلك الحسنة بإعطاء الزائد عليه من فضله وزعموا أن القول بالأجر المستحق مذهب المعتزلة ولا يتأتى على مذهب الجماعة وليس بشئ لأن الجماعة يقولون بالاستحقاق أيضا لكن بمقتضى الوعد الذي لا يخلف وبه يكون الأجر الموعود به كأنه حق للعبد كما أنه يكون كذلك أيضا بمقتضى الكرم كما قيل : وعد الكريم دين نعم حمل الأجر على ما ذكر لا يخلو عن بعد والداعي إليه عدم التكرار وقال الإمام أيضا : إن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها في الجنة وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية والاستغراق في المحبة والمعرفة
وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية وهذا الأجر إشارة إلى السعادات الروحانية ولا يخلو عن حسن و لدن بمعنى عند وفرق بينهما بعضهم بأن من لدن أقوى في الدلالة على القرب ولذا لا يقال : لدي مال إلا وهو حاضر بخلاف عند وتقول : هذا القول عندي صواب ولا تقول : لدي ولدني كما قال الزجاج ونظر فيه بأنه شاع استعمال لدن في غير المكان كقوله تعالى : من لدنا علما اللهم إلا أن يخرج ما قاله الزجاج مخرج الغالب وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير يضعفها بتضعيف العين وتشديدها والمختار عند أهل اللغة والفارسي أنهما بمعنى وقال أبو عبيدة : ضاعف يقتضي مرارا كثيرة وضعف يقتضي مرتين ورد بأنه عكس اللغة لأن المضاعفة تقتضي زيادة الثواب فإذا شددت دلت البنية على التكثير فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة وقد تقدم من الكلام ما ينفعك فتذكر
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد الفاء فصيحة و كيف محلها إما الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف وإما النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال كما هو رأي سيبويه أو على التشبيه بالظرف
(5/33)
كما هو رأي الأخفش والعامل بالظرف مضمون الجملة من التهويل ةالتفخيم المستفاد من الاستفهام أو الفعل المصدر كما قرره صاحب الدر المصون والجار متعلق بما عنده أي إذا كان كل قليل وكثير يجازي عليه فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم أو كيف يصنعون أو كيف يكون حالهم إذا جئنا يوم القيامة من كل أمة من الأمم وطائفة من الطوائف بشهيد عليهم بما كانوا عليه من فسائد العقائد وقبائح الأعمال وهو نبيهم وجئنا بك يا خاتم الأنبياء على هؤلاء إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر شهيدا
41
- تشهد على صدقهم لعلمك بما أرسلوا واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأصلوا وقيل : إلى المكذبين المستفهم عن حالهم يشهد عليهم بالكفر والعصيان تقوية لشهادة أنبيائهم عليهم السلام أو كما يشهدون على أممهم وقيل : إلى المؤمنين لقوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وتى اقحم المشهود عليه في الكلام وأدخلت على عليه لا يحتاج لتضمين الشهادة معنى التسجيل أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من طرق عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إقرأ علي قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل قال : نعم إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد إلخ فقال : حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم تلك الحالة فماذا لعمري يصنع المشهود عليه ! وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه
يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول استئناف لبيان حالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها وتنوين إذ عوض على الصحيح عن الجملتين السابقتين وقيل : عن الأولى وقيل : عن الأخيرة والظرف متعلق بيود وجعله متعلقا بشهيد وجملة يود صفة والعائد محذوف أي فيه بعيد والمراد بالموصول إما المكذبون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والتعبير عنهم بذلك لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعة والأمر الهائل وإيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة لتشريفه وزيادة تقبيح حال مكذبيه وإما جنس الكفرة ويدخل أولئك في زمرتهم دخولا أوليا والمراد من الرسول الجنس أيضا ويزيد شرفه انتظامه للنبي صلى الله عليه و سلم انتظاما أوليا و عصوا معطوف على كفروا داخل معه في حيز الصلة والمراد عصيانهم بما سوى الكفر فيدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة وقال أبو البقاء : إنه في موضع الحال من ضمير كفروا وقد مرادة وقيل : صلة لموصول آخر أي والذين عصوا فالإخبار عن نوعين : الكفرة والعصاة وهو ظاهر على رأي من يجوز إضمار الموصول كالفراء وفي المسألة خلاف أي يود في ذلك اليوم لمزيد شدته ومضاعف هوله الموصوفون بما ذكر في الدنيا
لو تسوى بهم الأرض إما مفعول يود على أن لو مصدرية أي يودون أن يدفنوا وتسوى الأرض ملتبسة بهم أو تسوى عليهم كالموتى وقيل : يودون أنهم بقوا ترابا على أصلهم من غير خلق وتمنوا أنهم كانوا هم والأرض سواء وقيل : تصير البهائم ترابا فيودون حالها
وعن ابن عباس أن المعنى يودون أن يمشى عليهم أهل الجمع يطأونهم بأقدامهم كما يطأون الأرض وقيل : يودون لو يعدل بهم الأرض أي يؤخذ منهم ما عليها فدية وإما مستأنفة على أن لو على بابها ومفعول يود محذوف
(5/34)
لدلالة الجملة وكذا جواب لو إيذانا بغاية ظهوره أي يودون تسوية الأرض بهم لو تسوى لسروا
وقرأ نافع وابن عامر ويزيد تسوى على أن أصله تتسوى فأدغم التاء في السين لقربها منها وحمزة والكسائي تسوى بحذف التاء الثانية مع الإمالة يقال : سويته فتسوى ولا يكتمون الله حديثا
42
- عطف على يود أي أنهم يومئذ لا يكتمون من الله تعالى حديثا لعدم قدرتهم على الكتمان حيث أن جوارحهم تشهد عليهم بما صنعوا أو أنهم لا يكتمون شيئا من أعمالهم بل يعترفون بها فيدخلون النار باعترافهم وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنهم لا ينفعهم الكتمان وإنما يقولون : والله ربنا ما كنا مشركين في بعض المواطن قاله الحسن وقيل : الواو للحال أي يودون أن يدفنوا في الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم : والله ربنا ما كنا مشركين إذ روى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض وجعلها للعطف وما بعدها معطوف على تسوى على معنى يودون لو تسوى بهم الأرض وأنهم لا يكونون كتموا أمر محمد صلى الله عليه و سلم وبعثه في الدنيا كما روي عن عطاء بعيد جدا وأقرب منه العطف على مفعول يود على معنى يودون تسوية الأرض بهم وانتفاء كتمانهم إذ قالوا والله ربنا ما كنا مشركين
هذا ومن باب الإشارة يريد الله ليبين لكم بأن يكاشفكم بأسراره المودعة فيكم أثناء السير إليه ويديكم سنن الذين من قبلكم أي مقاماتهم وحالاتهم ورياضاتهم وأشار إلى الواصلين إليه قبل المخاطبين ويجوز أن تكون الإشارة بالسنن إلى التفويض والتسليم والرضا بالمقدور فإن ذلك شنشنة الصديقين ونشنشة الواصلين ويتوب عليكم من ذنب وجودكم حين يفنيكم فيه ويحتمل أن يكون التبيين إشارة إلى الإيصال إلى توحيد الأفعال والهداية إلى توحيد الصفات والتوبة إلى توحيد الذات إن الله عليم بمراتب استعدادكم حكيم ومن حكمته أن يفيض عليكم حسب قابلياتكم والله يريد أن يتوب عليكم تكرار لما تقدم إيذانا بمزيد الاعتناء به لأنه غاية المراتب ويريد الذين يتبعون الشهوات أي اللذائذ الفانية الحاجبة عن الوصول إلى الحضرة أن تميلوا إلى السوى ميلا عظيما لتكونوا مثلهم يريد الله أن يخفف عنكم أثقال العبودية في مقام المشاهدة أو أثقال النفس بفتح باب الاستلذاذ بالعبادة بعد الصبر عليها وخلق الإنسان ضعيفا عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة فلا يستطيع حمل ذلك إلا بتأييد إلهي أو ضعيفا لا يطيق الحجاب عن محبوبه لحظة ولا يصبر عن مطلوبه ساعة لكمال شوقه ومزيد غرامه والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم وكان الشبلي قدس سره يقول : إلهي لا معك قرار ولا منك فرار المستغاث بك إليك يا أيها آمنوا الإيمان الحقيقي لا تأكلوا أي تذهبوا أموالكم وهو ما حصل لكم من عالم الغيب بالكسب الاستعدادي بينكم بالباطل بأن تنفقوا على غير وجهه وتودعوه غير أهله إلا أن تكون تجارة أي إلا أن يكون التصرف تصرفا صادرا عن تراض منكم واستحسان ألقي من عالم الإلهام إليكم فإن ذلك مباح لكم ولا تقتلوا أنفسكم بالغفلة عنها فإن من غفل عنها غفل عن ربه ومن غفل عن ربه فقد هلك أو لا تقتلوا أنفسكم أي أرواحكم القدسية بمباشرتكم ما لا يليق فإن مباشرة ما لا يليق يمنع الروح من طيرانها في عالم المشاهدات ويحجب عنها أنوار المكاشفات إن الله كان في أزل الآزال بكم رحيما فلذا أرشدكم إلى ما أرشدكم إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وهي عند العارفين رؤية
(5/35)
العبودية في مشهد الربوبية وطلب الأعواض في الخدمة وميل النفس إلى السوى من العرش إلى الثرى والسكون في مقام الكرامات ودعوى المقامات السامية قبل الوصول إليها
أكبر الكبائر إثبات وجود غير وجود الله تعالى نكفر عنكم سيئاتكم أي نمح عنكم تلوناتكم بظهور نور التوحيد وندخلكم مدخلا كريما وهي حضرة عين الجمع ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض من الكمالات التابعة للاستعدادات فإن حصول كمال شخص لآخر محال إذا لم يكن مستعدا له ولهذا عبر بالتمني للرجال وهو الأفراد الواصلون نصيب مما اكتسبوا بنور استعدادهم وللنساء وهو الناقصون القاصرون نصيب مما اكتسبن حسب استعدادهم واسألوا الله من فضله بأن يفيض عليكم ما تقتضيه قابلياتكم إن الله كان بكل شئ عليما ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاستعداد فيعطيكم ما يليق بكم ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون أي ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب من الاستعداد يرثون به ما تركه والداهم وهما الروح والقلب والأقربون وهم القوى الروحانية والذين عقدت أيمانكم وهم المريدون فآتوهم نصيبهم من الفيض على قدر نصيبهم من الاستعداد إن الله كان على كل شئ شهيدا إذ كل شئ مظهر لاسم من أسمائه الرجال قوامون على النساء أي الكاملون شأنهم القيام بتدبير الناقصين والإنفاق عليهم من فيوضاتهم بما فضل الله بعضهم على بعض بالاستعداد وبما أنفقوا من أموالهم في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه من أموالهم أي قواهم أو معارفهم فالصالحات للسلوك من النساء بالمعنى السابق قانتات مطيعات لله تعالى بالعبادات القاالبية حافظات للغيب أي القلب عن دنس الأخلاق الذميمة ولعله إشارة إلى العبادات القلبية بما حفظ الله لهم من الاستعداد واللاتي تخافون نشوزهن ترفعهن عن الانقياد إلى ما ينفعهن فعظوهن بذكر أحوال الصالحين ومقاماتهم فإن النفس تميل إلى ما يمدح لها غالبا واهجروهن في المضاجع أي امنعوا دخول أنوار فيوضاتكم إلى حجرات قلوبهن ليستوحشن فربما يرجعن عن ذلك الترفع واضربوهن بعصى القهر إن لم ينجع ما تقدم فيهن فإن أطعنكم بعد ذلك ورجعن عن الترفع والأنانية فلا تبغوا عليهن سبيلا بتكليفهن فوق طاقتهن وخلاف مقتضى استعدادهن إن الله كان عليا كبيرا ومع هذا لم يكلف أحدا فوق طاقته وخلاف مقتضى استعداده وإن خفتم أيها المرشدون الكمل شقاق بينهما أي بين الشيخ والمريد فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها فابعثوا متوسطين من المشايخ والسالكين إن يريدا إصلاحا يوفق الله تعالى بينهما وهمة الرجال تقلع الجبال
ويمكن أن يكون الرجال إشارة إلى العقول الكاملة والنساء إشارة إلى النفوس الناقصة ولا شك أن العقل هو القائم بتدبير النفس وإرشادها إلى ما يصلحها ويراد من الحكمين حينئذ ما يتوسط بين العقل والنفس من القوى الروحانية واعبدوا الله بالتوجه إليه والفناء فيه ولا تشركوا به شيئا مما تحسبونه شيئا وليس بشئ إذ لا وجود حقيقة لغيره سبحانه وبالوالدين الروح والنفس اللذين تولد بينهما القلب أحسنوا إحسانا فاستفيضوا من الأول وتوجهوا بالتسليم إليه وزكوا الثاني وطهروا برديه وبذي القربى وهم من يناسبكم بالاستعداد الأصلي والمشاكلة الروحانية واليتامى المستعدين المنقطعين عن نور الأب وهو الروح بالاحتجاب والمساكين العاملين الذين لا حظ لهم من المعارف ولذا سكنوا عن السير وهم الناسكون والجار ذي القربى القريب من مقامك بالسلوك والجار الجنب البعيد عن مقامك والصاحب بالجنب
(5/36)
الذي هو في عين مقامك وابن السبيل أي السالك المتغرب عن مأوى النفس الذي لم يصل إلى مقام بعد وما ملكت أيمانكم من المنتمين إليكم بالمحبة والإرادة وقيل : الوالدين إشارة إلى المشايخ وإحسان المريد إليهم بالطاعة والانقياد إليهم وامتثال أوامرهم فإنهم أطباء القلوب وهم أعرف بالداء والدواء ولا يداوون إلا بما يرضي الله تعالى وإن خفي على المريد وجهه
ومن هنا قال الجنيد قدس سره : أمرني ربي أمرا وأمرني السري أمرا فقدمت أمر السري على أمر ربي وكل ما وجدت فهو من بركاته وأول الجار ذي القربى بالروح الناطقة العارفة العاشقة الملكوتية التي خرجت من العدم بتجلي القدم وانقدحت من نور الأزل وهي أقرب كل شئ وهي جار الله تعالى المصبوغة بنوره والإحسان إليها أن تطلقها من فتنة الطبيعة وتقدس مسكنها من حظوظ البشرية لتطير بجناح المعرفة والشوق إلى عالم المشاهدة والجار الجنب بالصورة الحاملة للروح والإحسان إليها أن تفطم جوارحها من رضع ضرع الشهوات والصاحب بالجنب وهو القلب الذي يصحبك في سفر الغيب والإحسان إليه أن تفرده من الحدثان وتشوقه إلى جمال الرحمن وقيل : هو النفس الأمارة وفي الخبر أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك والإحسان إليها أن تحبسها في سجن العبودية وتحرقها بنيران المحبة وأول ابن السبيل بالولي الكامل فإنه لم يزل يتنقل من نور الأفعال إلى نور الصفات ومن نور الصفات إلى نور الذات والإحسان إليه كتم سره وعدم الخروج عن دائرة أمره وقال بعض العارفين : وإن شئت أولت ذا القربى بما يتصل بالشخص من المجردات واليتامى بالقوى الروحانية والمساكين بالقوى النفسانية من الحواس الظاهرة وغيرها والجار ذي القربى بالعقل والجار الجنب بالوهم والصاحب بالجنب بالشوق والإرادة وابن السبيل بالفكر والمماليك بالملكات المكتسبة التي هي مصادر الأفعال الجميلة وباب التأويل واسع جدا إن الله لا يحب من كان مختالا يسعى بالسلوك في نفسه فخورا بأحواله ومقاماته محتجبا برؤيتها الذين يبخلون على أنفسهم وعلى المستحقين فلا يعملون بعلومهم ولا يعلمونها ويأمرون الناس بالبخل قالا أو حالا ويكتمون ما آتاهم الله من فضله فلا يشكرون نعمة الله أو يكتمون ما ما أوتوا من المعارف في كتم الاستعداد وظلمة القوة حتى كأنها معدومة وأعتدنا للكافرين للحق الساترين أنوار الوحدة بظلمة الكثرة عذابا مهينا يهينهم في ذل وجودهم وشين صفاتهم والذين ينفقون أموالهم أي يبرزون كمالاتهم رئاء الناس مرائين الناس بأنها لهم ولا يؤمنون بالله الإيمان الحقيقي ليعلموا أن لا كمال إلا له ولا باليوم الآخر أي الفناء فيه سبحانه ليبرزوا لله الواحد القهار من يكن الشيطان النفس وقواها له قرينا فساء قرينا لأنه يضله عن الحق كهؤلاء وماذا عليهم ما كان يضرهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر فصدقوا بالتوحيد والفناء فيه وأنفقوا مما رزقهم الله ولم يروا كمالا لأنفسهم وكان الله بهم عليما فيجازيهم بالبقاء بعد الفناء إن الله لا يظلم مثقال ذرة مقدار ما يظهر من الهباء وإن تك حسنة ولا تكون كذلك إلا إذا كانت له فإن كانت له يضاعفها بالتأييد الحقاني ويؤت من لدنه أجرا عظيما وهو الشهود الذاتي أو العلم اللداني فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وهو ما يحضر كل أحد ويظهر له بصورة معتقده فيكشف عن حاله وجئنا بك على هؤلاء وهم المحمديون شهيدا ومن لوازم الإتيان بالحقيقة المحمدية شهيدا للمحمديين معرفتهم لله تعالى عند التحول في جميع الصور فليس شهيدهم في الحقيقة إلا الحق سبحانه يومئذ يود الذين كفروا بالاحتجاب وعصوا الرسول بعدم المتابعة لو تسوى بهم الأرض
(5/37)
لتنطمس نفوسهم أو تصير ساذجة لا نقش فيها من العقائد الفاسدة والرذائل الموبقة ولا يكتمون الله حديثا أي لا يقدرون على كتم حديث من تلك النقوش وهيهات أنى يخفون شيئا منها وقد صارت الجبال كالعهن المنفوش سهم أصاب وراميه بذي سلم من بالعراق لقد أبعدت مرماك والله تعالى يتولى الحق وهو يهدي السبيل
(5/38)
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى حتى تعلموا ما تقولون إرشاد لإخلاص الصلاة التي هي رأس العبادة من شوائب الكدر ليجمعوا بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم وبين الخلق المبينة فيما تقدم وبهذا يحصل الربط ويجوز أن يقال : لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا ههنا عما يؤدي إليه من حيث لا يحتسبون فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : صنع لنا عبدالرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت
وفي رواية ابن جرير وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه إن إمام القوم يومئذ هو عبدالرحمن بن عوف وكانت الصلاة صلاة المغرب وكان ذلك لما كانت الخمر مباحة والخطاب للصحابة وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه اعتناءا بشأن الحكم والمراد بالصلاة عند الكثير الهيئة المخصوصة وبقربها القيام بها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة وبالسكر الحالة المقررة التي تحصل لشارب الخمر ومادته تدل على الإنسداد ومنه سكرت أعينهم أي انسدت والمعنى لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه قبلها إذ بذلك يظهر أنكم ستعلمون ما ستقرءونه فيها وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم نشاوى من الشراب حتى تعلموا ما تقرءونه في صلاتكم ولعل مراده حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقرءونه وإلا فهو يستدعي تقدم الشروع في الصلاة على غاية النهي وإذا أريد ذلك رجع إلى ما تقدم ولكن فيه تطويل بلا طائل على أن إيثار ما تقولون على ما تقرءون حينئذ يكون عاريا عن الداعي وروي عن ابن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد من الصلاة مواضعها فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينة قوله تعالى فيما يأتي : إلا عابري سبيل فإنه يدل عليه بحسب الظاهر فالآية مسوقة عن نهي قربان السكران المسجد تعظيما له وفي الخبر جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ويأباه ظاهر قوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه حمل الصلاة على الهيئة المخصوصة وعلى مواضعها مراعاة للقولين وفي الكلام حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز ونحن لا نقول به وروي عن جعفر رضي الله تعالى عنه والضحاك وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد من السكر سكر النعاس وغلبة النوم وأيد بما أخرجه البخاري عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول وروي مثله عن عائشة رضي الله تعالى عنها وفيه بعد وأبعد منه حمله على سكر الخمر وسكر النوم لما فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو عموم المجاز مع عدم القرينة الواضحة على ذلك وأيا ما كان فليس مرجع النهي هو المقيد مع بقاء القيد مرخصا بحاله بل إنما هو القيد مع بقاء المقيد على حاله لأن القيد مصب النفي والنهي في كلامهم ولأنه مكلف بالصلاة مأمور بها والنهي ينافيه نعم لا مانع عن النهي عنها للسكران مع الأمر المطلق إلا أن مرجعه إلى هذا
(5/0)
والحاصل كما قال الشهاب : إنه مكلف بها في كل حال وزوال عقله بفعله لا يمنع تكليفه ولذا وقع طلاقه ونحوه ولو لم يكن مأمورا بها لم تلزمه الإعادة إذا استغرق السكر وقتها وقد نص عليه الجصاص في الأحكام وفصله انتهى وزعم بعضهم أن النهي عن الصلاة نفسها لكن المراد بها الصلاة جماعة مع النبي صلى الله عليه و سلم تعظيما له عليه الصلاة و السلام وتوقيرا ولا يخفى أنه مما لا يدل عليه نقل ولا عقل ويأباه الظاهر وسبب النزول وقد روي أنهم كانوا بعد ما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون وقرئ سكارى بفتح السين جمع سكران كندمان وندامى
قرأ الأعمش سكرى بضم السين على أنه صفة كحبلى وقع صفة لجماعة أي وأنتم جماعة سكرى والنخعي سكرى بالفتح وهو إما صفة مفردة صفة جماعة كما في الضم وإما جمع تكسير عند سيبويه واسم جمع عند غيره لأنه ليس من أبنية الجمع ورجح الأول ولا جنبا عطف على قوله تعالى : وأنتم سكارى فإنه في حيز النصب كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا قاله غير واحد وقال الشهاب نقلا عن البحر : إن هذا حكم الإعراب وأما المعنى ففرق بين قولنا جاء القوم سكارى وجاءوا وهم سكارى إذا معنى الأول جاءوا كذلك والثاني جاءوا وهو كذلك باستئناف الإثبات ذكره عبالقاهر ويعني بالاستئناف أنه مقرر في نفسه مع قطع النظر عن ذي الحال وهو مع مقارنته له يشعر بتقرره في نفسه ويجوز تقدمه واستمراره ولذا قال السبكي في الأشباه : لو قال : لله تعالى علي أن أعتكف صائما لا بد له من صوم يكون لأجل ذلك النذر من غير سبب آخر فلا يجزئه الإعتكاف بصوم رمضان ولو قال : وأنا صائم أجزأه ولعل وجه الفرق أن الحال إذا كانت جملة دلت على المقارنة وأما اتصافه بمضمونها فقد يكون وقد لا يكون نحو جاء زيد وقد طلعت الشمس والحال المفردة صفة معنى فإذا قال : لله علي أن أعتكف وأنا صائم نذر مقارنته للصوم ولم ينذر صوما فيصح في رمضان ولو قال : صائما نذر صومه فلا يصح فيه وهذه المسألة نقلها الأسنوي في التمهيد ولم يبين وجهها ولم نر لأئمتنا فيها كلاما انتهى كلامه
ولم يبين رحمه الله تعالى السر في مخالفة هذين الحالين على وجه يتضح به ما ذكره في المسألة وبين العلامة الطيبي فائدتها غير أنه لم يتعرض لهذا الفرق فقال : فائدتها والعلم عند الله تعالى الإشعار بأن قربان الصلاة مع السكر مناف لحال المسلمين ومن يناجي الحضرة الصمدانية دل عليه الخطاب بأنتم ولهذا قرنه بقوله سبحانه : حتى تعلموا إلخ والمجنبون لا يعدمون إحضار القلب ومن ثم رخص لهم بالإعذار فتأمل جدا والجنب من أصابته الجنابة يستوي فيه على اللغة الفصيحة المذكر والمؤنث والواحد والتثنية والجمع لجريانه مجرى المصدر وإن لم يكنه كما قاله بعض المحققين ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول جنبان وأجناب وجنوب واشتقاقه كما قال أبو البقاء : من المجانبة وهي المباعدة إلا عابري أي مجتازي سبيل أي طريق والمراد إلا مسافرين وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير لا تقربوا باعتبار تقييده بالحال الثانية دون الأولى والعامل فيه معنى النهي أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أنه في حالة السفر ينتهي حكم النهي لكن لا بطريق شمول النفي لجميع صورها بل بطريق نفي الشمول في الجملة من غير دلالة
(5/39)
على انتفاء خصوصية البعض المنتفى ولا على بقاء خصوصية البعض الباقي ولا ثبوت نقيضه لا كليا ولا جزئيا فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها في المقامات الخطابية لا في إثبات الأحكام الشرعية فإن ملاك الأمر في ذلك إنما هو الدليل وقد ورد عقيبه على طريق البيان قاله المولى شيخ الإسلام وقيل : هو صفة لجنبا على أن إلا بمعنى غير واعترض بأن مثل هذا إنما يصح عند تعذر الاستثناء ولا تعذر هنا لعموم النكرة بالنفي وأجيب بأن هذا الشرط في التوصيف ذكره ابن الحاجب وقد خالفه فيه النحاة ورجح بعضهم الوصفية هنا بناءا على أن الكلام على تقدير الاستثناء يفيد الحصر ولا حصر لورود المريض إشكالا عليه بخلافه على تقدير الوصفية وادعى البعض إفادة الكلام له مطلقا وأن المريض يرد إشكالا إلا أن يؤل كما ستعرفه ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالاجتياز بها وجوز للجنب عبور المسجد وبه قال الشافعي رحمه الله تعالى والمشهور عندنا منع الجنب المسجد مطلقا ورخص علي كرم الله تعالى وجهه كما في خبر الترمذي عن ابي سعيد بناءا على ما فسره ضرار بن صرد حين سأله عن معناه علي بن المنذر وكونه كرم الله تعالى وجهه رخص ثم منع لم يثبت عندي وإن نقله البعض ونقل الجصاص في الأحكام أنه لا يجوز الدخول إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه وعن الليث أن الجنب لا يمر إلا أن يكون بابه في المسجد فقد روي أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا فيه فرخص لهم في ذلك حتى تغتسلوا غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة ولعل تقديم الاستثناء عليه كما قال شيخ الإسلام للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهي في هذه السورة ليس على الإطلاق كما في صورة السكر تشويقا إلى البيان وروما لزيادة تقربه في الأذهان وقيل : لما لم يكن لقوله سبحانه : حتى تغتسلوا مدخل في المقصود إذ المقصود إنما هو صحة الصلاة جنبا أخره وقدم الاستثناء عليه وكان الظاهر عدم ذكره لذلك إلا أنه ذكره تنبيها على أن الجنابة إنما ترتفع بالاغتسال وفي الآية الكريمة رمز إلى أنه ينبغي للمصلي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه وأن يزكي نفسه عما يدنسها لأنه إذا وجب تطهير البدن فتطهير القلب أولى أو لأنه إذا صين موضع الصلاة عمن به حدث فلأن يصان القلب الذي هو عرش الرحمن عن خاطر غير طاهر ظاهر الأولوية وإن كنتم مرضى تفصيل لما أجمل في الاستثناء وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص للإشعار بأن العذر الغالب المبني على الضرورة الذي يدور عليها أمر الرخصة ولهذا قيل : المراد بغير عابري سبيل غير معذورين بعذر شرعي إما بطريق الكناية أو بإيماء النص ودلالته
وبهذا يندفع الإيراد السابق على الحصر وإنما لم يقل : إلا عابري سبيل أو مرضى فاقدي الماء حسا أو حكما لما أن ما في النظم الكريم أبلغ وأوكد منه لما فيه من الإجمال والتفصيل ومعرفة تفاضل العقول الأفهام والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا سواء كان بتعذر الوصول إليه أو بتعذر استعماله وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال : المريض الذي قد أرخص له في التيمم الكسير والجريح فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها وأخرج البيهقي في المعرفة عن ابن عباس يرفعه إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله تعالى أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فليتيمم والذي تقرر في الفروع :
(5/40)
إن المريض الذي يخاف إذا استعمل الماء أن يشتد مرضه يتيمم ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك كالمبطون 3 أو بالاستعمال كمن به حصبة أو جدري ولم يشترط أصحابنا خوف التلف لظاهر النص وهو بإطلاقه يبيح التيمم لكل مريض إلا أن في بعض الآيات ما أخرج من لا يشتد مرضه وتفصيل ذلك في كتب الفقه
أو على سفر عطف على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر ولعل اختيار هذا على نحو مسافرين لأنه أوضح في المقصود منه وفي الهداية : ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر ميل أو أكثر يتيمم والظاهر أن حكم من هو خارج المصر غير مسافر كما يقتضيه العطف معلوم بالقياس لا بالنص وإيراد المسافر صريحا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته فإن الاستثناء كما أشار إليه شيخ الإسلام بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلا عن الدلالة على كيفيته وقيل : ذكر السفر هنا لإلحاق المرض به والتسوية بينه وبينه بإلحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال وهذه الشرطية ظاهرة على رأي من حمل الصلاة على مواضعها وفسر العبور بالاجتياز بها إذ ليس فيها حينئذ ما يتوهم منه شائبة التكرار بل هي عنده بيان حكم آخر لم يذكر قبل وأيد بأن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله سبحانه : حتى تغتسلوا يبتدءون بقوله تعالى : وإن كنتم إلخ بل التعبير بالقرب يومئ إلى حمل الصلاة على ذلك لأن حقيقة القرب والبعد في المكان وكذا التعبير ب عابري سبيل هناك وب على سفر هنا فيه إيماء إلى الفرق بين ما هنا وما هناك إلا أن الكثير على خلافه وإنما قدم المرض على السفر للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره وقيل : لأنه سبب النزول فقد أخرج ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال : نال أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت وإن كنتم مرضى الآية كلها وهذا خلاف ما عليه الجمهور حيث رووا أن نزولها في غزوة المريسيع حين عرس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة فسقطت عن عائشة رضي الله تعالى عنها قلادة لأسماء فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فبعث رجلين في طلبها فنزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر على عائشة رضي الله تعالى عنها وقال حبست رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمين على غير ماء فنزلت فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر وفي رواية يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا وهذا يدل على أن سبب النزول كان فقد الماء في السفر وهو ظاهر أو جاء أحد منكم من الغائط وهو المكان المنخفض وجاء الغيط بفتح الغين وسكون الياء وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وهو في رأي مصدر يغوط وكان القياس غوطا فقلبت الواو ياءا وسكنت وانفتح ما قبلها لخفتها ولعل الأولى ما قيل : إنه تخفيف غيط كهين وهين والغيط الغائط والمجئ منه كناية عن الحدث لأن العادة إن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس
وفي ذكر أحد فيه دون غيره إيماء إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه وقيل : إنما ذكر وأسند المجئ إليه دون المخاطبين تفاديا عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحى منه أو يستهجن التصريح به والفعل عطف على كنتم والجار الأول متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله والثاني متعلق بالفعل أي وإن جاء أحد كائن منكم من الغائط أو لامستم النساء يريد سبحانه أو جامعتم النساء إلا أنه
(5/41)
كنى بالملامسة عن الجماع لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحى منه وإلى ذلك ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فيكون إشارة إلى الحدث الأكبر كما أن الأول إشارة إلى الحدث الأصغر
وعن ابن مسعود والنخعي والشعبي أن المراد بالملامسة ما دون الجماع أي ما سستم بشرتهن ببشرتكم وبه استدل الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن اللمس ينقض الوضوء وبه قال الزهري والأوزاعي وقال مالك والليث بن سعد وأحمد في إحدى الروايات عنه : إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا وذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة قيل : ما لم يحدث الإنتشار واختلف قول الشافعي رضي الله تعالى عنه في لمس المحارم كالأم والبنت والأخت وفي لمس الأجنبية الصغيرة وأصح القولين : إنه لا ينقض كلمس نحو السن والظفر والشعر وينتقض عنده وضوء الملموسة كاللامس في الأظهر لاشتراكهما في مظنة اللذة كالمشتركين في الجماع وإنما لم ينتقض وضوء الملموس فرجه على مذهبه لأنه لم يوجد منه مس لمظنة لذة أصلا بخلافه هنا ودليل القول بعدم نقض وضوء الملموس حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها وضعت يدها على قدميه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ساجد ووجه استدلاله بما في الآية على ما استدل عليه أن الحمل على الحقيقة هو الراجح لا سيما في قراءة حمزة والكسائي أو لمستم إذ لم يشتهر اللمس في الجماع كالملامسة ورجح بعضهم الحمل على الجماع في القراءتين ترجيحا للمجاز والمشهور وعملا بهما إذ لا منافاة وهو الأوفق بمذهبنا وقال بعض المحققين : إن المتجه أن الملامسة حقيقة في تماس البدنين بشئ من أجزائهما من غير تقييد باليد وعلى هذا فالجماع من أفراد مسمى الحقيقة فيتناوله اللفظ حقيقة وإنما يكون مجازا لو اقتصر على إرادته باللفظ وادعى الجلال المحلى أن الملامسة حقيقة في الجس باليد تمثيلا للملامسة بنوع من أنواعها لا تفسيرا لها بذكر كمال معناها الحقيقي كما بينه الكمال ابن أبي شريف فليفهم ثم إن نظم هذين الأمرين في سلك سببي سقوط الطهارة والمصير إلى التيمم مع كونهما سببي وجوبهما ليس باعتبار أنفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله سبحانه : فلم تجدوا ماء بل هو السبب في الحقيقة وإنما ذكرا تمهيدا له وتنبيها على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة بقسميها كأنه قيل : أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعماله من الحدث الأصغر أو الأكبر
قيل : وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر أيضا في صورة المرض والسفر لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره لأن الجنابة معتبرة فيهما قطعا فيعلم من حكمها حكم الحدث الأصغر بدلالة النص لأن تقدير النظم لا تقربوا الصلاة في حالة الجنابة إلا كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك أو كنتم مرضى إلخ وقيل : إن هذا القيد راجع للكل وقيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجئ من الغائط والملامسة معتبر فيه أيضا واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده وفي الكشف عن بعضهم أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا جنبا ولا جائيا أحد منكم من الغائط أو لامسا 3 يعني ولا محدثين ثم قيل : وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف والمعطوف عليه من غير نكتة ثم قال بعد أن نقل ما اعترضه : ولعل الأوجه في تقرير الآية والله تعالى أعلم أن يجعل عدم الوجدان عبارة عن عدم القدرة على استعمال
(5/42)
الماء لفقد الماء أو لمانع ليصح أن يكون قيدا للكل أو يحمل على ظاهره ولا يجعل قيدا للآخرين لأن عموم الإعواز في حق المسافر غالبا والمنع من القدرة على استعمال الماء القائم مقامه في حق المريض مغن عن التقييد لفظا وأن يبقى قوله سبحانه : مرضى أو على سفر على إطلاقه من غير تقييد بكونهم محدثين أو مجنبين لأن المقصود بيان سبب العدول عن الطهارة بالماء إلى التيمم أما المشترك بين الطهارتين فلا يحتاج إلى ذكره قصدا وأن يجعل ذكر المحدثين من غير القبيلين بيانا لسبب العدول وهو فقد القدرة من غير سفر ولا مرض لا لأن الحدث سبب وإن أفاد ذلك ضمنا ولم يقل أو لم تجدوا دون ذكر السببين تنبيها على أن عدم الوجدان مرخص بعد انعقاد سبب الطهارة وأفيد ضمنا أنهما معتبران أيضا في المريض والمسافر إذ لا فرق بين المرض والسفر وبين سائر الأعذار في ذلك انتهى ولا يخفى أن الحمل على الظاهر أظهر وما ذكره على تقدير الحمل عليه ليس بالبعيد عما قدمناه نعم الآية من معضلات القرآن ولعلها تحتاج بعد إلى نظر دقيق والفاء في فلم عاطفة وأما الفاء في قوله سبحانه : فتيمموا صعيدا طيبا فواقعة في جواب الشرط والظاهر أن الضمير راجع إلى جميع ما اشتمل عليه وفيه تغليب الخطاب على الغيبة ومثله في ذلك تجدوا فلا حاجة إلى تقدير فليتيمم جزاءا لقوله سبحانه : جاء أحد منكم والتيمم لغة القصد قال الأعشى : تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن والصعيد وجه الأرض كما روي عن الخليل وثعلب وقال الزجاج : لااعلم خلافا بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض وسمي بذلك لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض أو لصعوده وارتفاعه فوق الأرض والطيب الطاهر وعن سفيان الحلال وقيل : المنبت دون السبخة كما في قوله تعالى : والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والحمل على الأول هو الأنسب بمقام الطهارة والمعنى فتعمدوا واقصدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا وهذا دليل واضح لجواز التيمم بالكحل والآجر والمرداسنج والياقوت والفيروزج والمرجان والزمرد ونحو ذلك وإن لم يكن عليه غبار وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ومحمد في إحدى الروايتين عنه وفي رواية أخرى عنه وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهم أنه لا يجوز التيمم إلا أن يعلق باليد شئ من التراب لتقييد المسح بمنه في المائدة وكلمة من للتبعيض وهو يقتضي التراب والحنفية يحملونها على الابتداء أو الخروج مخرج الأغلب وقيل : الضمير للحدث المفهوم من السياق و من للتعليل وأغرب الإمام مالك فأجاز التيمم بالثلج وقد شنع الشيعة عليه بذلك وقد اعتذرنا عنه في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية ونصب صعيدا على أنه مفعول به وقيل : إنه منصوب بنزع الخافض أي فتيمموا بصعيد فامسحوا بوجوهكم وأيديكم أي وجوهكم وأيديكم على أن الباء صلة والمراد استيعاب هذين العضوين بالمسح حتى إذا ترك شيئا منها لم يجز كما في الوضوء وهو ظاهر الرواية وفي رواية الحسن عن الإمام رضي الله تعالى عنه أن الأكثر يقوم مقام الكل لأن الاستيعاب في الممسوحات ليس بشرط كما في مسح الخف والرأس ووجه الظاهر أن التيمم قائم مقام الوضوء ولهذا قالوا : يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتم المسح والاستيعاب في الوضوء شرط فكذا فيما قام مقامه وأيدي جمع يد وهي مشتركة بين معان من أطراف الأصابع إلى الرسغ وإلى المرفق وإلى الإبط
(5/43)
وهل هي حقيقة في واحد منها مجاز في غيره أو حقيقة فيها جميعا رجح بعضهم الثاني ولذا ذهب إلى كل منها بعض السلف فأخرج ابن جرير عن الزهري أن التيمم إلى الآباط وأخرج عن مكحول أنه قال : التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع وأخرج الحاكم عن ابن عمر في كيفية تيممهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم مسحوا من المرافق إلى الأكف على منابت الشعر من ظاهر وباطن ومن حديث أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه وهذا مذهبنا ومذهب الشافعي والجمهور ويشهد لهم القياس على الوضوء الذي هو أصله وإن كان الحدث والجنابة فيه كيفية سواء وكذا جوازا على الصحيح المروي عن المعظم
ومن الناس من قال : لا يتيمم الجنب والحائض والنفساء وهو المروي عن عمر وابنه وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم قيل : ومنشأ الخلاف فيما بينهم حمل الملامسة فيما سبق على الوقاع أو المس باليد فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الأخير وقالوا : القياس أن لا يكون التيمم طهورا وإنما أباحه الله تعالى للمحدث فلا يباح للجنب لأنه ليس معقول المعنى حتى يصح القياس وليست الجنابة في معنى الحدث لتلحق به بل هي فوقه
وأنت تعلم أن الآية كالصريح في جواز تيمم الجنب وإن لم تحمل الملامسة على الوقاع كما يشير إليه تفسيرها السابق على أن الأحاديث ناطقة بذلك فقد أخرج البخاري عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال : يا فلان ما منعك أن تصلي فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك وروي أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقالوا : إنا قوم نسكن هذه الرمال ولم نجد الماء شهرا أو شهرين وفينا الجنب والحائض والنفساء فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : عليكم بأرضكم إلى غير ذلك وهل يرفع التيمم الحدث أم لا خلاف ولا دلالة في الآية على أحد الأمرين عند من أمعن النظر إن الله كان عفوا غفورا
43
- تعليل لما يفهمه الكلام من الترخيص والتيسير وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا وجوز أن يكون كناية عن ذلك فإنه من روادف العفو وتوابع الغفران وأدمج فيه أن الأصل الطهارة الكاملة وأن غيرها من الرخص من العفو والغفران وقيل : العفو هنا بمعنى التيسير كما في التيسير واستدل على وروده بهذا المعنى بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم عفوت لكم صدقة الخيل والرقيق وذكر المغفرة للدلالة على أنه غفر ذنب المصلين سكارى وما صدر عنهم في القراءة وأنت تعلم أن حمل العفو على التيسير في الحديث غير متعين وكون ذكر المغفرة لما ذكر بعيد
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب استئناف لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم إثر ذكر أنواع التكاليف والأحكام الشرعية والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين وفيه إيذان بكمال شهرة شناعة حالهم وقيل : لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم وخطاب سيد القوم في مقام خطابهم والرؤية بصرية وتعديها بإلى حملا لها على النظر أي ألم تنظر إليهم وجعلها علمية وتعديها بإلى لتضمينها معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك إليهم منحط في مقام التعجيب وتشهير شنائعهم ونظمها في سلك الأمور المشاهدة والمراد من الموصول يهود المدينة وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لويا لسانهما وعاباه وعنه أنها
(5/44)
نزلت في حبرين كانا يأتيان عبدالله بن أبي ورهطه يثبطانهم عن الإسلام
والمراد من الكتاب التوراة وقيل : الجنس وتدخل فيه دخولا أوليا وفيه تطويل للمسافة وقيل : القرآن لأن اليهود علموا أنه كتاب حق أتى به نبي صادق لا شبهة في نبوته وفيه أنه خلاف الظاهر و بالذي أوتوه ما بين لهم فيه من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والتعبير عنه بالنصيب المشعر بأنه حق من حقوقهم التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بركاكة آرائهم في الإهمال والتنوين للتفخيم وهو مؤيد للتشنيع ومثله ما لو حمل على التكثير و من متعلقة بمحذوف وقع صفة لنصيبا مبينة لفخامته الإضافية إثر فخامته الذاتية وقيل : متعلقة بأوتوا وقوله تعالى : يشترون الضلالة استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام مبني على سؤال نشأ منه كأنه قيل : ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل : يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه المنزل منزلة الحصول أو حصوله لهم بالفعل بإنكارهم نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
وقال الزجاج : المعنى يأخذون الرشا ويحرفون التوراة فالضلالة هو هذا التحريف أي اشتروها بمال الرشا وذهب أبو البقاء إلى أن جملة يشترون حال مقدرة من ضمير أوتوا أو حال من الذين وتعقب الوجه الأول بأنه لا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم المذكور في الإيتاء مما لا يليق بالمقام والثاني بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور وما عطف عليه من قوله تعالى : ويريدون أن تضلوا السبيل
44
- فالأوجه الاستئناف والمعطوف شريك للمعطوف عليه فيما سبق له والمعنى أنهم لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من تكذيب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكتم نعوته الناطقة بها التوراة أن تكونوا أنتم أيضا ضالين الطريق المستقيم الموصل إلى الحق والتعبير بصيغة المضارع في الموضعين للإيذان بالاستمرار التجددي فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور وتكرر العمل بموجبه في قوة تجدد نفسه وتكرره وفي ذلك أيضا من التشنيع ما لا يخفى وقرئ أن يضلوا بالياء بفتح الضاد وكسرها والله أعلم منكم أيها المؤمنون بأعدائكم الذين من جملتهم هؤلاء وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون فاحذروهم فالجملة معترضة للتأكيد وبيان التحذير وإلا فأعلمية الله تعالى معلومة وقيل : المعنى أنه تعالى أعلم بحالهم ومآل أمرهم فلا تلتفتوا إليهم ولا تكونوا في فكر منهم وكفى بالله وليا يلي أمركم وينفعكم بما شاء وكفى بالله نصيرا
45
- يدفع عنكم مكرهم وشرهم فاكتفوا بولايته ونصرته ولا تبالوا بهم ولا تكونوا في ضيق مما يمكرون وفي ذلك وعد للمؤمنين ووعيد لأعدائهم والجملة معترضة أيضا والباء مزيدة في فاعل كفى تأكيدا للنسبة بما يفيد الاتصال وهو الباء الإلصاقية وقال الزجاج : إنما دخلت هذه الباء لأن الكلام على معنى اكتفوا بالله و وليا و نصيرا منصوبان على التمييز وقيل : على الحال وتكرير الفعل في الجملتين مع إظهار الاسم الجليل لتأكيد كفايته عز و جل مع الإشعار بالعلية
من الذين هادوا قيل : بيان للذين أوتوا المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الإعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين عنهم والاهتمام بحثهم على
(5/45)
الثقة بالله تعالى والاكتفاء بولايته ونصرته واعترضه أبو حيان بأن الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بالثلاث وأجاب الحلبي بأن الخلاف إذا لم يكن عطف والجملة هنا متعاطفة وبه يصير الشيئان شيئا واحدا وقيل : إنه بيان لأعدائكم وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الاعتراض وقيل : إنه صلة لنصير أي ينصركم من الذين هادوا وفيه تحجير لواسع نصرة الله تعالى مع أنه لا داعي لوضع الموصول موضع ضمير الأعداء وكون ما في حيز الصلة وصصفا ملائما للنصر غير ظاهر وقيل : إنه خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى : يحرفون الكلم عن مواضعه صفة له أي من الذين هادوا قوم يحرفون ويتعين هذا في قراءة عبدالله و من الذين وقد تقرر أن المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه ومن قوله : وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسما موصولا و يحرفون صلته أي من الذين هادوا من يحرفون والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ماا في مصحف حفصة رضي الله تعالى عنها من يحرفون واعترض هذا أيضا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة و الكلم اسم جنس واحده كلمة كلبنة ولبن ونبقة ونبق وقيل : جمع وليس بشئ من المختار ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الاثنين مطلقا وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا وجمعيته باعتبار تعدده معنى وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف وقرئ يحرفون الكلام والمراد به ههنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه ومما سيحكى عنهم من الكلمات الواقعة منهم في أثناء محاورتهم مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والأول هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم ربعة في نعت النبي صلى الله عليه و سلم ووضعهم مكانه طوال وكتحريفهم الرجم ووضع الحد موضعه وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقا وغربا !
وأجيب بأن ذلك كان قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود وقيل : إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأوي والمراد من مواضعه على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره وأصل التحريف إمالة الشئ إلى حرف أي طرف فإذا كان يحرفون بمعنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا الكلم ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة من قوله سبحانه : من بعد مواضعه أن الثاني أدل على ثبوت مقار الكلم واشتهارها مما هنا وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع
(5/46)
وتقرر حرفوه عنه واختار ذلك هنالك لأنن فيه ما يقتضي الإتيان بالأدل الأبلغ ويقولون عطف على يحرفون وأكثر العلماء على أن المراد به القول اللساني بمحضر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واختار البعض حمله على ما يعم ذلك وما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة ولا يقيد حينئذ بزمان أو مكان ولا يخصص بمادة دون مادة ويحتاج إلى ارتكاب عموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والمعنى عليه أنهم مع ذلك التحريف يقولون ويفهمون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو بلسان الحال أو المقال عنادا وتحقيقا للمخالفة سمعنا أي فهمنا وعصينا أي لم نأتمر وبذلك فسره الراغب واسمع غير مسمع عطف على سمعنا داخل معه تحت القول لكن باعتبار أنه لساني وفي أثناء مخاطبته صلى الله عليه و سلم وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر والخير ويسمى في البديع بالتوجيه كما قال غير واحد ومثلوا له بقوله : خاط لي عمرو قباء ليت عينيه سواء واحتماله للشر بأن يحمل على معنى اسمع مدعوا عليك بلا سمعت أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أو اسمع نابي السمع عما تسمعه لكراهيته عليك أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لأن أذنيك تنبو عنه فغير إما حال لا غير وإما مفعول به وصحت الحالية على الاحتمال الأول باعتبار أن الدعاء هو المقصود لهم وأنهم لما قدروا لعنهم الله تعالى إجابته صار كأنه واقع مقرر واحتماله للخير بأن يحمل على معنى اسمع منا غير مسمع مكروها من قولهم : أسمعه فلان إذا سبه وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسيا منسيا وتعورف في ذلك وقد كانوا لعنهم الله تعالى يخاطبون بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم استهزاءا مظهرين له صلى الله عليه و سلم المعنى الأخير وهم يضمرون سواه ورعنا عطف على ما قبله أي ويقولون أيضا في أثناء خطابهم له صلى الله عليه و سلم هذا وهو ذو وجهين كسابقه فاحتماله للخير على معنى أمهلنا وانظر إلينا أو انتظرنا نكلمك واحتماله للشر بحمله على السب ففي التيسير : إن راعنا بعينه مما يتسابون به وهو للوصف بالرعونة وقيل : إنه يشبه كلمة سب عندهم عبرانية أو سريانية وهي راعينا وقيل : بل كانوا يشبعون كسر العين ويعنون لعنهم الله تعالى أنه وحاشاه صلى الله عليه و سلم بمنزلة خدمهم ورعاة غنمهم وقد كانوا يقولون ذلك مظهرين الاحترام والتوقير مضمرين ما يستحقون به جهنم وبئس المصير
وهذا نوع من النفاق ولا ينافيه تصريحهم بالعصيان لما قيل : إن جميع الكفار يخاطبون النبي صلى الله عليه و سلم بالكفر ولا يخاطبونه بالسب والذم والدعاء عليه الصلاة و السلام واعترض بأنه حينئذ لا وجه لإيراد السماع والعصيان مع التحريف وإلقاء الكلام المحتمل احتيالا وأجيب بأنه يمكن أن يقال : المقصود على هذا عد صفاتهم الذميمة لا مجرد التحريف والاحتيال فكأنه قيل : يحرفون كتابهم ويجاهرون بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وقيل : إن قولهم سمعنا وعصينا لم يكن بمحضره عليه الصلاة و السلام بل كان فيما بينهم فلا ينافي نفاقهم في الجملتين بين يديه صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : القول نظرا إلى الجملة الأولى حالي وإلى الجملتين الأخيرتين لساني وقيل : إن الأولى أيضا ذات وجهين كالأخيرتين إذ يحتمل أن يكون مرادهم أطعنا أمرك وعصينا أمر قومنا
(5/47)
ويحتمل أن يكون مرادهم ما تقدم
ومن الناس من جوز أن يراد بتحريف الكلم إمالتها عن مواضعها سواء كانت مواضع وضعها الله تعالى فيها أو جعلها المقام والعرف مواضع لذلك فيكون المعنى هم قوم عادتهم التحريف ويكون قوله سبحانه : ويقولون إلخ تعدادا لبعض تحريفاتهم والمراد إنهم يقولون لك : سمعنا وعند قومهم عصينا ويقولون كذا وكذا فيظهرون لك شيئا ويبطنون خلافه ليا بألسنتهم اللي يكون بمعنى الانحراف والالتفات والانعطاف عن جهة إلى أخرى ويكون بمعنى ضم إحدى نحو طاقات الحبل على الأخرى
والمراد به هنا إما صرف الكلام من جانب الخير إلى جانب الشر وإما ضم أحد الأمرين إلى الآخر وأصله لوي فقلبت الواو ياءا وأدغمت ونصبه على أنه مفعول له ليقولون باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين وقيل : بالأقوال جميعها أو على أنه حال أي لاوين ومثله في ذلك قوله تعالى : وطعنا في الدين أي قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية وكل من الظرفين متعلق بما عنده ولو أنهم عندما سمعوا شيئا من أوامر الله تعالى ونواهيه قالوا بلسان المقال كما هو الظاهر أو به وبلسان الحال كما قيل : سمعنا سماع قبول مكان قولهم : سمعنا المراد به سماع الرد وأطعنا مكان قولهم : عصينا واسمع بدل قولهم : اسمع غير مسمع
وانظرنا بدل قولهم : راعنا لكان قولهم هذا خيرا لهم وأنفع من قولهم ذلك وأقوم أي أعدل في نفسه وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفعل في المفضل عليه بناءا على اعتقادهم أو بطريق التهكم وإما بمعنى اسم الفاعل فلا حاجة إلى تقدير من وفي تقديم حال القول بالنسبة إليهم على حاله في نفسه إيماء إلى أن همم اليهود لعنهم الله تعالى طماحة إلى ما ينفعهم والمنسبك من أن وما بعدها فاعل ثبت المقدر لدلالة أن 3 عليه أي لو ثبت قولهم : سمعنا إلخ وهو مذهب المبرد وقيل : مبتدأ لا خبر له وقيل : خبره مقدر ولكن لعنهم الله بكفرهم أي ولكن لم يقولوا الأنفع والأقوم واستمروا على ذلك فخذلهم الله تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم فلا يؤمنون بعد إلا قليلا
46
- اختار العلامة الثاني كونه استثناء من ضمير المفعول في لعنهم أي ولكن لعنهم الله تعالى إلا فريقا قليلا منهم فإنه سبحانه لم يلعنهم فلهذا آمن من آمن منهم كعبدالله بن سلام وأضرابه وقيل : هو مستثنى من فاعل يؤمنون ويتجه عليه أن الوجه حينئذ الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب مع أن القراء قد اتفقوا على النصب ويبعد منهم الاتفاق على غير المختار مع أنه يقتضي وقوع إيمان من لعنه الله تعالى وخذله إلا أن يحمل لعنهم الله بكفرهم على لعن أكثرهم وهو كما ترى وقيل : إنه صفة مصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا لأنهم وحدوا وكفروا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وشريعته والإيمان بمعنى التصديق لا الإيمان الشرعي وجوز على هذا الوجه أن يراد بالقلة العدم كما في قوله : قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك والمراد أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا معدوما إما على حد لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي إن كان المعدوم إيمانا فهم يحدثون شيئا من الإيمان فهو من التعليق بالمحال أو أن ما أحدثوه منه لما لم يشتمل
(5/48)
على ما لابد منه كان معدوما انعدام الكل بجزئه والوجه هو الأول يا أيها الذين أوتوا الكتب نزلت كما قال السدي : في زيد بن تابوت ومالك بن الصيف
وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبدالله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله تعالى فيهم الآية ولا يخفى أن العبرة لعموم اللفظ وهو شامل لمن حكيت أحوالهم وأقوالهم ولغيرهم وجعل الخطاب للأولين خاصة بطريق الالتفات وأن وصفهم بإيتاء الكتاب تارة وبإيتاء نصيب منه أخرى لتوفية كل من المقامين حظه بعيد جدا ولما كان تفصيل هاتيك الأحوال والأقوال من مظان إقلاع من توجه الخطاب إليهم عما هم عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهدى مشفوعا بالتحذير والتخويف والوعيد الشديد على المخالفة فقال سبحانه : ءامنوا إيمانا شرعيا بما أنزلنا أي بالذي أنزلناه من عندنا على رسولنا محمد صلى الله عليه و سلم من القرآن مصدقا لما معكم من التوراة الغير المبدلة وقد تقدم كيفية تصديق القرآن لذلك وعبر عن التوراة بما ذكر للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها من قبل أن نطمس وجوها متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الامتثال لما فيه من الوعيد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غني عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين وفي تنكير وجوه تهويل للخطب مع لطف وحسن استدعاء وأصل الطمس استئصال أثر الشئ والمراد آمنوا من قبل أن نمحو ما خطه الباري بقلم قدرته في صحائف الوجوه من نون الحاجب وصاد العين وألف الأنف وميم الفم فنجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وقال الفراء والبلخي وحسين المغربي : إن المعنى آمنوا من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة فنردها على أدبارها أي فنجعلها على هيئة أدبارها وإقفائها مطموسة مثلها فإن ما خلف الوجه لا تصوير فيه وهو منبت الشعر أيضا والعطف بالفاء إما على إرادة نريد الطمس أو على جعل العطف من عطف المفصل على المجمل وعن عطية العوفي : أن المراد ننكسها بعد الطمس بجعل العيون التي فيها وما معها في القفا فالعطف بالفاء ظاهر وقيل : المراد بالوجوه الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب وجاهتهم وإقبالهم ونكسوهم صغارا وإدبارا أو نردهم من حيث جاءوا منه وهي أذرعات الشام فالمراد بذلك إجلاء بني النضير وإلى هذا المراد ذهب ابن زيد وضعف بأنه لا يساعده مقام تشديد الوعيد وتعميم التهديد للجميع
وقد اختلف في أن الوعيد هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة فقال جماعة : كان بوقوعه في الدنيا وأيد بما أخرجه ابن جرير عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب فقال : أسلم كعب في زمان عمر رضي الله تعالى عنه أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال : يا كعب أسلم قال : ألستم تقرءون في كتابكم مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا وأنا قد حملت التوراة
(5/49)
فتركه ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلا من أهلها يقرأ هذه الآية فقال : رب آمنت رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها ثم رجع فأتى أهله باليمن ثم جاء بهم مسلمين وروي أن عبدالله بن سلام لما قدم من الشام وقد سمع هذه الآية أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي ثم اختلفوا فقال المبرد : إنه منتظر بعد ولا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل قيام الساعة وأيد بتنكير وجوه والتعبير بضمير الغيبة فيما يأتي واعترضه شيخ الإسلام بأن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجه بعد ما فات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العاملين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة العزيز الحكيم والجواب بأن عادة الله سبحانه قد جرت مع اليهود بأن ينتقم من أخلافهم بما صنعت أسلافهم وإن لم يعلم وجه الحكمة فيه على تقدير تسليمه لا يزيل البعد في هذه الصورة وقال البرسي : إن هذا الوعيد كان متوجها إليهم لو لم يؤمن أحد منهم وقد آمن جماعة من أحبارهم فلم يقع ورفع عن الباقين واعترض أيضا بأن إسلام البعض إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم وقيل : في الجواب إنه إذا جاز أن ينزل سبحانه البلاء على قوم بسبب عصيان بعض منهم كما يشير إليه قوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة فلأن يجوز أن يرفع ذلك عن الكل بسبب طاعة البعض من باب أولى لأنه سبحانه الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه
وقد ورد في الأخبار ما يدل على وقوع ذلك ودعوى الفرق مما لا تكاد تسلم وقيل : كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى : أو نلعنهم كما لعنا أصحب السبت فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الأمر الثاني فإن اليهود ملعونين بكل لسان وفي كل زمان فاللعن بمعناه الظاهر والمراد من التشبيه بلعن أصحاب السبت الإغراق في وصفه واعترض بأن اللعن الواقع عليهم ما تداولته الألسنة وهو بمعزل من صلاحيته أن يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة عن مخالفة للعنيد فاللعن هنا الخزي بالمسخ وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وابن جرير عن الحسن ويؤيده ظاهر التشبيه وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على إرادة ذلك ضرورة أنه تعبير مغاير لما عطف عليه والاستدلال على مغايرة اللعن بالمسخ بقوله تعالى : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عندالله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية وذهب البلخي والجبائي إلى أن الوعيد إنما كان بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع
وأجيب عما روي عن الحبرين الظاهر في أن ذلك في الدنيا بأنه مبني على الاحتياط وغلبة الخوف اللائق بشأنها وقد ورد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يكثر الدخول والخروج في الحجرات ولا يكاد يقر له قرار إذا اشتد الهواء ويقول : أخشى أن تقوم الساعة مع علمه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن قبل قيامها القائم وعيسى عليه السلام والدجال عليه اللعنة والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما قصه صلى الله عليه و سلم علينا وجوز بعضهم على تقدير كون الوعيد بالوقوع في الآخرة أن يراد بالطمس والرد على الأدبار الختم
(5/50)
على العين والفم والطبع عليهما فقد قال الله تعالى : لطمسنا على أعينهم و اليوم نختم على أفواههم وجوز نحو هذا بعض من ادعى أن ذلك في الدنيا فقال : إن المعنى آمنوا من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة
وروي ذلك عن الضحاك وأخرجه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه والحق أن الآية ليست بنص في كون ذلك في الدنيا أو في الآخرة بل المتبادر منها بحسب المقام كونه في الدنيا لأنه أدخل في الزجر وعليه مبنى ما روي عن الحبرين لكن لما كان في وقوع ذلك خفاء واحتمال أنه وقع ولم يبلغنا على ما في التيسير مما لا يلتفت إليه ورجح احتمال كونه في الآخرة وأيا ما كان فلعل السر في تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات كما قال شيخ الإسلام مراعاة المشاكلة بينها وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريف والتغيير والفاعل والراضي سواء والضمير المنصوب في نلعنهم لأصحاب الوجوه أو للذين على طريق الالتفات لأنه بعد تمام النداء يقتضي الظاهر الخطاب وأما قبله فالظاهر الغيبة ويجوز الخطاب لكنه غير فصيح كقوله : يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شئ بعدكم عدم أو للوجوه إن أريد به الوجهاء وكان أمر الله بإيقاع شئ ما من الأشياء فالمراد بالأمر معناه المعروف ويحتمل أن يراد به واحد الأمور ولعله الأظهر أي كان وعيده أو ما حكم به وقضاه مفعولا نافذا واقعا في الحال أو كائنا في المستقبل لا محالة ويدخل في ذلك ما أوعدتم به دخولا أوليا والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق ووضع الاسم الجليل موضع الضمير بطريق الالتفات لما مر غير مرة
إن الله لا يغفر أن يشرك به كلام مستأنف مقرر لما قبله من الوعيد ومؤكد وجوب امتثال الأمر بالإيمان حيث أنه لا مغفرة بدونه كما زعم اليهود وأشار إليه قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وفيه أيضا إزالة خوفهم من سوء الكبائر السابقة إذا آمنوا
والشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله تعالى شأنه شريكا إما في الألوهية أو في الربوبية وبمعنى الكفر مطلقا وهو المراد هنا كما أشار إليه ابن عباس فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة وقضى بخلود أصناف الكفرة كيف كانوا ونزول الآية في حق اليهود على ما روي عن مقاتل لا يقتضي الاختصاص بكفرهم بل يكفي الاندراج فيما يقتضيه عموم اللفظ والمشهور أنها نزلت مطلقة فقد أخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال : لما نزل قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية قام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله فسكت ثم قام إليه فقال : يا رسول الله والشرك بالله تعالى فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به إلخ والمعنى أن الله تعالى لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان لأنه سبحانه بت الحكم على خلود عذابه وحكمه لا يتغير ولأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر ولذا لم يبعث نبي إلا لسده وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه وقيل : لأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره ولا يخفى أن هذا مبنى على أن فعل الله تعالى تابع لاستعداد المحل وإليه ذهب أكثر الصوفية وجميع الفلاسفة فإن يشرك في موضع
(5/51)
النصب على المفعولية وقيل : المفعول محذوف والمعنى لا يغفر من أجل أن يشرك به شيئا من الذنوب فيفيد عدم غفران الشرك من باب أولى والذي عليه المحققون هو الأول
ويغفر ما دون ذلك عطف على خبر إن لا مستأنف وذلك إشارة إلى الشرك وفيه إيذان ببعد درجته في القبح أي يغفر ما دونه من المعاصي وإن عظمت وكانت كرمل عالج ولم يتب عنها تفضلا من لدنه وإحسانا لمن يشاء أن يغفر له ممن اتصف بما ذكر فقط فالجار متعلق بيغفر المثبت والآية ظاهرة في التفرقة بين الشرك وما دونه بأن الله تعالى لا يغفر الأول البتة ويغفر الثاني لمن يشاء والجماعة يقولون بذلك عند عدم التوبة فحملوا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعا ومغفرتهما عندها بلا خلاف من أحد وذهب المعتزلة إلى أنه لا فرق بين الشرك وما دونه من الكبائر في أنهما يغفران بالتوبة ولا يغفران بدونها فحملوا الآية كما قيل : على معنى إن الله لا يغفر الإشراك لمن يشاء أن لا يغفر له وهو غير التائب ويغفر ما دونه لمن يشاء أن يغفر له وهو التائب وجعلوا لمن يشاء متعلقا بالفعلين وقيدوا المنفي بما قيد به المثبت على قاعدة التنازع لكن من يشاء في الأول المصرون بالاتفاق وفي الثاني التائبون قضاء لحق التقابل وليس هذا من استعمال اللفظ الواحد في معنيين متضادين لأن المذكور إنما تعلق بالثاني وقدر في الأول مثله والمعنى واحد لكن يقدر مفعوله المشيئة في الأول عدم الغفران وفي الثاني الغفران بقرينة سبق الذكر ولا يخفى أن كون هذا من التنازع مع اختلاف متعلق المشيئة مما لا يكاد تيفوه به فاضل ولا يرتضيه كامل على أنه لا جهة لتخصيص كل من القيدين بما خصص لأن الشرك أيضا يغفر للتائب وما دونه لا يغفر للمصر عندهم من غير فرق بينهما وسوق الآية ينادي بالتفرقة وتقييد مغفرة ما دون ذلك بالتوبة مما لا دليل عليه إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من آيات الوعد
وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار أنها راجحة على آيات الوعيد بالاعتبار من ثمانية أوجه سردها هناك وزعم أنها لو لم تقيد وقيل : بجواز المغفرة لمن لم يتب لزم إغراء الله تعالى للعبد بالمعصية لسهولتها عليه حينئذ والإغراء بذلك قبيح يستحيل على الله سبحانه ليس بشئ أما أولا فلأنه مبني على القول بالحسن والقبح العقليين وقد أبطل في محله وأما ثانيا فلأن لو سلم يلزم منه تقبيح العفو شاهدا وهو خلاف إجماع العقلاء وأما ثالثا فلأنه منقوض بالتوبة فإنهم قالوا : بوجوب قبولها ولا يخفى أن ذلك مما يسهل على العاصي الإقدام على المعصية أيضا ثقة منه بالتوبة حسب وثوقه بالمغفرة بل أبلغ من حيث إن التوبة مقدورة له بخلاف المغفرة فكان يجب أن لا تقبل توبته لما فيه من الإغراء وهو خلاف الإجماع فلئن قالوا : هو غير واثق بالامهال إلى التوبة قلنا : هو غير واثق بالمغفرة لإبهام الموصول والقول : بأنه لو لم تشترط التوبة لزم المحاباة من الله تعالى في الغفران للبعض دون البعض والمحاباة غير جائزة عليه تعالى ساقط من القول لأن الله تعالى متفضل بالغفران وللمتفضل أن يتفضل على قوم دون قوم وإنسان دون إنسان وهو عادل في تعذيب من يعذبه وليس يمنع العقل والشرع من الفضل والعدل كما لا يخفى ومن المعتزلة من قال : إن المغفرة قد جاءت بمعنى تأخير العقوبة دون إسقاطها كما في قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم فإنه لا يصح هنا حملها على إسقاط العقوبة لأن الآية في الكفار والعقوبة غير ساقطة عنهم إجماعا وقوله تعالى : وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب فإنه صريح في أن المغفرة بمعنى تأخير العقوبة
(5/52)
فلتحمل فيما نحن فيه على ذلك بقرينة إن الله تعالى خاطب الكفار وحذرهم تعجيل العقوبة عن ترك الإيمان ثم قال سبحانه : إن الله لا يغفر أن يشرك به إلخ فيكون المعنى إن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك بل يعجلها ويؤخر عقوبة ما دونه لمن يشاء فلا تنهض الآية دليلا على ما هو محل النزاع على أنه لو سلم أن المغفرة فيها بمعنى إسقاط العقوبة لا يحصل الغرض أيضا لأنه إما أن يراد إسقاط كل واحد واحد من أنواع العقوبة أو إيراد إسقاط جملة العقوبات أو إيراد إسقاط بعض أنواعها لا سبيل إلى الأول لعدم دلالة اللفظ عليه بقي الإحتمالان الآخران وعلى الأول منهما لا يلزم من كونه لا يعاقب بكل أنواع العقوبات أن لا يعاقب ببعضها وعلى الثاني لا يلزم من إسقاط بعض الأنواع إسقاط البعض الآخر
وأجيب بأن حمل المغفرة على إسقاط العقوبة أولى من حملها على التأخير لثلاثة أوجه : الأول أنه المعنى المتبادر من إطلاق اللفظ الثاني أنه لو حمل لفظ المغفرة في الآية على التأخير لزم منه التخصيص في أن الله لا يغفر أن يشرك به لأن عقوبة الشرك مؤخرة في حق كثير من المشركين بل ربما كانوا في أرغد عيش وأطيبه بالنسبة إلى عيش بعض المؤمنين وأن لا يفرق في مثل هذه الصورة بين الشرك وما دونه بخلاف حملها على الإسقاط الثالث أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين لم يزالوا مجمعين على حمل لفظ المغفرة في الآية على سقوط العقوبة وما وقع عليه الإجماع هو الصواب وضده لا يكون صوابا وقولهم : لا يحصل الغرض أيضا لو حملت على ذلك لأنه إما أن يراد إلخ قلنا : بل المراد إسقاط كل واحد واحد وبيانه أن قوله سبحانه : إن الله لا يغفر أن يشرك به سلب للغفران فإذا كان المفهوم من الغفران إسقاط العقوبة فسلب الغفران سلب السلب فيكون إثباتا ومعناه إقامة العقوبة وعند ذلك فإما أن يكون المفهوم إقامة كل أنواع العقوبات أو بعضها لا سبيل إلى الأول لاستحالة الجمع بين العقوبات المتضادة ولأن ذلك غير مشترط في حق الكفار إجماعا فلم يبق إلا الثاني ويلزم من ذلك أن يكون الغفران فيما دون الشرك بإسقاط كل عقوبة وإلا لما تحقق الفرق بين الشرك وما دونه ومنهم من وقع في حيص بيص في هذه الآية حتى زعم أن ويغفر عطف على المنفي والنفي منسحب عليهما والآية للتسوية بين الشرك وما دونه لا للتفرقة ولا يخفى أنه من تحريف كلام الله تعالى ووضعه في غير مواضعه
ومن الجماعة من قال في الرد على المعتزلة : إن التقييد بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ووجوب الصفح بعدها وتعقبه صاحب الكشف بأنه لم يصدر عن ثبت لأن الوجوب بالحكمة يؤكد المشيئة عندهم وأيضا قد أشار الزمخشري في هذا المقام إلى أن المشيئة بمعنى الاستحقاق وهي تقتضي الوجوب وتؤكده فلا يرد ما ذكر رأسا
ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة يرد بها على الخوارج الذين زعموا إن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار وذكر الجلال السيوطي أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين : إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون
وأخرج ابن الضريس وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه و سلم إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية وقال : إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا ورجونا وقد استبشر الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الآية جدا حتى قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عنه الترمذي وحسنه : أحب آية إلي في القرآن إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
من يشرك بالله استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار
(5/53)
لإدخال الروعة وزيادة تقبيح الإشراك وتفظيع حال من يتصف به أي ومن يشرك بالله تعالى الجامع لجميع صفات الكمال من الجمال والجلال أي شرك كان فقد افترى إثما عظيما
48
- أي ارتكب ما يستحقر دونه الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا وأصل الافتراء من الفرى وهو القطع ولكون قطع الشئ مفسدة له غالبا غلب على الإفساد واستعمل في القرآن بمعنى الكذب والشرك والظلم كما قاله الراغب فهو ارتكاب ما لا يصلح أن يكون قولا أو فعلا فيقع على اختلاق الكذب وارتكاب الإثم وهو المراد هنا وهل هو مشترك بين اختلاق الكذب وافتعال ما لا يصلح أم حقيقة في الأول مجاز مرسل أو استعارة في الثاني قولان : أظهرهما عند البعض الثاني ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الشرك أعم من القولي والفعلي لأن المراد معنى عام وهو ارتكاب ما لا يصلح وفي مجمع البيان التفرقة بين فريت وأفريت في أصل المعنى بأنه يقال : فريت الأديم إذا قطعته على وجه الإصلاح وأفريته إذا قطعته على وجه الإفساد ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال الكلبي : نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأطفالهم فقالوا : يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب فقال : لا فقالوا : والذي يحلف به ما نحن فيه إلا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار فهذا الذي زكوا به أنفسهم وأخرج ابن جرير عن الحسن أنها نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من هودا أو نصارى والمعنى انظر إليهم وتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم أو من ادعائهم أن الله تعالى يكفر ذنوبهم الليلية والنهارية مع استحالة أن يغفر لكافر شئ من كفره أو معاصيه وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها لغير غرض صحيح كالتحدث بالنعمة ونحوه بل الله يزكي من يشاء إبطال لتزكية أنفسهم وإثبات لتزكية الله تعالى وكون ذلك للإضراب عن ذمهم بتلك التزكية إلى ذمهم بالبخل والحسد بعيد لفظا ومعنى والجملة عطف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل : هم لا يزكونها في الحقيقة بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستأهل من عباده المؤمنين إذ هو العليم الخبير وأصل التزكية التطهير والتنزيه من القبيح كما هو ظاهر أو فعلا كقوله تعالى قد أفلح من زكاها و خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ولا يظلمون فتيلا
49
- عطف على جملة حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها وإيذانا بأنها غنية عن الذكر أي يعاقبون بتلك الفعلة الشنيعة ولا يظلمون في ذلك العقاب أدنى ظلم وأصغره وهو المراد بالفتيل وهو الخيط الذي في شق النواة وكثيرا ما يضرب به المثل في القلة والحقارة كالنقير للنقرة التي في ظهرها والقطمير وهو قشرتها الرقيقة وقيل : الفتيل ما خرج بين إصبعيك وكفيك من الوسخ وروي ذلك عن ابن عباس وأبي مالك والسدي رضي الله تعالى عنهم وجوز أن تكون جملة ولا يظلمون في موضع الحال والضمير راجع إلى من حملا له على المعنى أي والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم أصلا بل يعطونه يوم القيامة كملا مع ما زكاهم الله تعالى ومدحهم في الدنيا
وقيل : هو استئناف والضمير عائد على الموصولين من زكى نفسه ومن زكاه الله تعالى أي لا ينقص هذا من ثوابه ولا ذاك من عقابه والأول أمس بمقام الوعيد وانتصاب فتيلا على أنه مفعول ثان كقولك : ظلمته حقه قال علي بن عيسى : ويحتمل أن يكون تمييزا كقولك تصببت عرقا
(5/54)
أنظر كيف يفترون على الله الكذب في زعمهم أنهم أزكياء عند الله تعالى المتضمن لزعمهم قبول الله تعالى وارتضاءه إياهم ولشناعة هذا لما فيه من نسبته تعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب الدال عليه الكلام وإلا فهم أيضا مفترون على أنفسهم بادعائهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه و كيف في موضع نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهور بين سيبويه والأخفش والعامل يفترون و به متعلق به
وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الكذب وقيل : هم متعلق به والجملة في موضع النصب بعد نزع الخافض وفعل النظر معلق بذلك والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا للمبالغة في تقبيح حالهم وكفى به أي بافترائهم وقيل : بهذا الكذب الخاص إثما مبينا لا يخفى كونه مأثما من بين آثامهم وهذا عبارة عن كونه عظيما منكرا والجملة كما قال عصام الملة : في موضع الحال بتقدير قد أي كيف يفترون الكذب والحال أن ذلك ينافي مضمونه لأنه إثم مبين والآثم بالإثم المبين غير المتحاشي عنه مع ظهوره لا يكون ابن الله سبحانه وتعالى وحبيبه ولا يكون زكيا عند الله تعالى وانتصاب إثما على التمييز
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يؤمنون بالجبت والطغوت تعجيب من حال أخرى لهم ووصفهم بما في حيز الصلة تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب وقد تقدم نظيره والآية نزلت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من يهود وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة : إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه و سلم صاحب كتاب فلا يؤمن هذا أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل ثم قال كعب : يا أهل مكة ليجئ منكم ثلاثون ومن ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلى الله عليه و سلم ففعلوا ذلك فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أو محمد قال كعب : اعرضوا علي دينكم فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم اللبن ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد صلى الله عليه و سلم فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى في ذلك الآية و الجبت في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل معبود غير الله تعالى وقيل : أصله الجبس وهو كما قال الراغب : الرذيل الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاءا كما في قول عمرو بن يربوع : شرار النات أي الناس وإلى ذلك ذهب قطرب والطاغوت يطلق على كل باطل من معبود وغيره
وأخرج الفريابي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : الجبت الساحر والطاغوت الشيطان
وأخرج ابن جرير من طرق عن مجاهد مثله ومن طريق أبي الليث عنه قال : الجبت كعب بن الأشرف والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان وعن سعيد بن جبير الجبت الساحر بلسان الحبشة والطاغوت الكاهن وأخرج ابن حميد عن عكرمة أن الجبت الشيطان بلغة الحبشة والطاغوت الكاهن وهي رواية
(5/55)
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفي رواية أخرى الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف وفي أخرى الجبت الأصنام والطاغوت الذين يكونون بين يديها يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس ومعنى الإيمان بهما إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل وأما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلا والمتبادر المعنى الأول أي أنهم يصدقون بألوهية هذين الباطلين ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق ويسجدون لهما ويقولون للذين كفروا أي لأجلهم وفي حقهم فاللام ليست صلة القول وإلا لقيل أنتم بدل قوله سبحانه هؤلاء أي الكفار من أهل مكة
أهدى من الذين ءامنوا سبيلا أي أقوم دينا وأرشد طريقة قيل : والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم وإيراد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأشنع القبائح أولئك القائلون المبعدون في الضلالة الذين لعنهم الله أي أبعدهم عن رحمته وطردهم واسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره والجملة مستأنفة لبيان حالهم وإظهار مآلهم ومن يلعن أي يبعده الله من رحمته فلن تجد له نصيرا أي ناصرا يمنع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا بشفاعة أو بغيرها وفيه بيان لحرمانهم ثمرة استنصارهم بمشركي مكة وإيماء إلى وعد المؤمنين بأنهم المنصورون حيث كانوا بضد هؤلاء فهم الذين قربهم الله تعالى ومن يقربه الله تعالى فلن تجد له خاذلا
وفي الإتيان بكلمة لن وتوجيه الخطاب إلى كل واحد يصلح له وتوحيد النصير منكرا والتعبير عن عدمه بعدم الوجدان المؤذن بسبق الطلب مسندا إلى المخاطب العام من الدلالة على حرمانهم الأبدي عن الظفر بما أملوا بالكلية ما لا يخفى وإن اعتبرت المبالغة في نصير متوجهة للنفي كما قيل ذلك في قوله سبحانه : وما ربك بظلام قوي أمر هذه الدلالة أم لهم نصيب من الملك شروع في تفصيل بعض آخر من قبائحهم وأم منقطعة فتقدر ببل والهمزة أي بل آلهم والمراد إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك وجحد لما تدعيه اليهود من أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان
وعن الجبائي أن المراد بالملك ههنا النبوة أي ليس لهم نصيب من النبوة حتى يلزم الناس اتباعهم وإطاعتهم والأول أظهر لقوله تعالى شأنه فإذا لا يؤتون الناس أي أحدا أو الفقراء أو محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نقيرا
53
- أي شيئا قليلا وأصله ما أشرنا إليه آنفا
وأخرج ابن جرير من طريق أبي العالية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : هذا النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم نقرها وحاصل المعنى على ما قيل : إنهم لا نصيب لهم من الملك لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم حرمانه بسبب أنهم لو أوتوا نصيبا منه لما أعطوا الناس أقل قليل منه ومن حق من أوتي الملك الإيتاء وهم ليسوا كذلك فالفاء في فإذا للسببية والجزائية لشرط محذوف هو أن حصل لهم نصيب لا لو كان لهم نصيب كما قدره الزمخشري لأن الفاء لا تقع في جواب لو سيما مع إذا والمضارع ويجوز أن تكون الفاء عاطفة والهمزة لإنكار المجموع من المعطوف والمعطوف عليه بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون هذا الذي
(5/56)
وقع وهو أنهم قد أوتوا نصيبا من الملك حيث كانت لهم أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك ويعقبه منهم البخل بأقل قليل وفائدة إذا زيادة الإنكار والتوبيخ حيث يجعلون ثبوت النصيب الذي هو سبب الإعطاء سببا للمنع والفرق بين الوجهين أن الإنكار في الأول متوجه إلى الجملة الأولى وهو بمعنى إنكار الوقوع وفي الثاني متوجه لمجموع الأمرين وهو بمعنى إنكار الواقع وإذا في الوجهين ملغاة ويجوز إعمالها لأنه قد شرط في إعمالها الصدارة فإذا نظر إلى كونها في صدر جملتها أعملت وإن نظر إلى العطف وكونها تابعة لغيرها أهملت ولذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم فإذا لا يؤتوا الناس بالنصب على الإعمال
أم يحسدون الناس انتقال عن توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد الذي هو أقبح الرذائل المهلكة من اتصف بها دنيا وأخرى وذكره بعده من باب الترقي و أم منقطعة والهمزة المقدرة بعدها لإنكار الواقع والمراد من الناس سيدهم بل سيد الخليقة على الإطلاق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والضحاك وأبو مالك وعطية وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال أهل الكتاب : زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسعة نسوة وليس همه إلا النكاح فأي ملك أفضل من هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية
وذهب قتادة والحسن وابن جريج إلى أن المراد بهم العرب وعن أبي جعفر وأبي عبدالله أنهم النبي وآله عليه وعيهم أفضل الصلاة وأكمل السلام وقيل : المراد بهم جميع الناس الذين إليهم النبي صلى الله عليه و سلم من الأسود والأحمر أي بل أيحسدونهم على ماءاتهم الله من فضله يعني النبوة وإباحة تسع نسوة أو بعثة النبي صلى الله عليه و سلم منهم ونزول القرآن بلسانهم أو جمعهم كمالات تقصر عنها الأماني أو تهيئة سبب رشادهم ببعثة النبي صلى الله عليه و سلم إليهم والحسد على هذا مجاز لأن اليهود لما نازعوه في نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم التي هي إرشاد لجميع الناس فكأنما حسدوهم جمع فقد ءاتينا تعليل للإنكار والاستقباح وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الإلتفات لإظهار كمال العناية بالأمر والفاء كما قيل : فصيحة أي أن يحسدوا الناس على ما أوتوا فقد أخطأوا إذ ليس الإيتاء ببدع منا لأنا قد آتينا من قبل هذا ءال إبراهيم الكتب أي جنسه والمراد به التوراة والإنجيل أو هما والزبور والحكمة أي النبوة أو إتقان العلم والعمل أو الأسرار المودعة في الكتاب أقوال وءاتيناهم مع ذلك ملكا عظيما
54
- لا يقادر قدره وجوز أن يكون المعنى أنهم لا ينتفعون بهذا الحسد فإنا قد آتينا هؤلاء ما آتينا مع كثرة الحساد الجبابرة من نمرود وفرعون وغيرهما فلم ينتفع الحاسد ولم يتضرر المحسود وأن يراد أن حسدهم هذا في غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل أسلاف هذا النبي المحسود صلى الله عليه و سلم وأبناء عمه ما آتيناهم فكيف يستبعدون نبوته عليه الصلاة و السلام ويحسدونه على إيتائها وتكرير الإيتاء لما يقتضيه مقام التفصيل مع الإشعار بما بين الملك وما قبله من المغايرة والمرد من الإيتاء إما الإيتاء بالذات وإما ما هو أعم منه ومن الإيتاء بالواسطة وعلى الأول فالمراد من آل إبراهيم أنبياء ذريته ومن الضمير الراجع إليهم من آتيناهم بعضهم فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام وخصه السدي بما أحل لداود وسليمان من النساء فقد كان للأول تسع وتسعون امرأة ولولده
(5/57)
ثلثمائة امرأة ومثلها سرية وعن محمد بن كعب قال : بلغني أنه كان لسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية وعلى الثاني فالمراد بهم ذريته كلها فإن تشريف البعض بما ذكر تشريف للكل لاغتنامهم بآثار ذلك واقتباسهم من أنوار
ومن الناس من فسر الحكمة بالعلم والملك العظيم بالنبوة ونسب ذلك إلى الحسن ومجاهد ولا يخفى أن إطلاق الملك العظيم على النبوة في غاية البعد والحمل على المتبادر أولى فمنهم أي من جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من ءامن به أي بما أوتي آل إبراهيم ومنهم من صد أي أعرض عنه ولم يؤمن به وهذا في رأي حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقوع المحكي من غير أن يكون له دخل في الإلزام وقيل : له دخل في ذلك ببيان أن الحسد لو لم يكن قبيحا لأجمع عليه أسلافهم فلم يؤمن منهم أحد كما أجمعوهم عليه فلم يؤمن أحد منهم وليس بشئ وقيل : معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك فضمير به و عنه على هذا لإبراهيم وفيه تسلية له عليه الصلاة و السلام ورجوع الضميرين لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وجعل الكلام متفرعا على قوله تعالى : يا أيها الذين أوتوا الكتاب أو على قوله سبحانه : ألم تر إلى الذين إلخ في غاية البعد وكذا جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم وكفى بجهنم سعيرا
55
- أي نارا مسعرة موقدة إيقادا شديدا أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى
(5/58)
إن الذين كفروا بءايتنا سوف نصليهم نارا استئناف وقع كالبيان والتقرير لما قبله والمراد بالموصول إما الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه و سلم وإما ما يعمهم وغيرهم ممن كفر بسائر الأنبياء عليهم السلام ويدخل أولئك دخولا أوليا وعلى الأول فالمراد بالآيات إما القرآن او ما يعم كله أو بعضه أو ما يعم سائر معجزاته عليه الصلاة و السلام وعلى الثاني فالمراد بها ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدعاهم و سوف كما قال سيبويه : كلمة تذكر للتهديد والوعيد وتنوب عنها السين كما في قوله تعالى : سأصليه سقر وقد تذكر للوعد كما في قوله سبحانه : ولسوف يعطيك ربك فترضى وسوف أستغفر لكم ربي وكثيرا ما تفيد هي والسين توكيد الوعيد وتنكير نارا للتفخيم أي يدخلون ولا بد نارا هائلة كلما نضجت جلودهم أي احترقت وتهرت وتلاشت من نضج الثمر واللحم نضجا ونضجا إذا أدرك و كلما ظرف زمان والعامل فيه بدلنهم جلودا غيرها أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كانت مادته الأصلية موجودة بأن يزال عنه الإحراق فلا يرد أن الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب وذلك لأنه هو العاصي باعتبار أصله فإنه لم يبدل إلا صفته وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة له كالسيف الذي قتل به ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح والسيف ليس كذلك وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه لأن ذلك
(5/0)
الحمل غير اختياري فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جلد كانت وكذا يقال في النعيم ويؤيد هذا إن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم وأن سن الجهنمي كجبل أحد وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه السلام ستين ذراعا في عرض سبعة أذرع ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام بل من أنصف رأى أن أجزاء الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة وكون الماهية واحدة لا يفيد لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني يغاير الجلد الأول كمغايرة العرض للجوهر أو الإنسان للحجر بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلا على أنه لو قيل : إن الكافر يعذب أولا ببدن من حديد تحله الروح وثانيا ببدن من غيره كذلك لم يسغ لأحد أن يقول : إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط
ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام أصلا ولا يتوهم من هذا إني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت والنصوص في هذا الباب متعارضة فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين مثل قوله سبحانه : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وما في شرح البخاري للسفيري من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة فتقول الروح للجسد : أنت فعلت وإني كنت ريحا ولولاك لم أستطع أن أعمل شيئا ويقول الجسد للروح : أنت أمرت وأنت سولت ولولاك لكنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يدا ولا رجلا فيبعث الله تعالى ملكا يقضي بينهما فيقول لهما : إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير : إني أرى ههنا ثمارا لكن لا أصل إليها فقال له الضرير : اركبني فتناولها فأيهما المتعدي فيقولان : كلاهما فيقول لهما الملك : فإنكما قد حكمتما على أنفسكما لا أراه صحيحا لظهور الفرق بين المثال والممثل له فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لتحقيق هذا المقام ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة
فقد أخرج ابن مردويه وأبو النعيم في الحلية عن ابن عمر قال : قرئ عند عمر هذه الآية فقال كعب : عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقناك قال : إني قرأتها قبل كلما نضجت جلودهم بدلناها جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة فقال عمر : هكذا سمعته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن قال : بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم : عودوا فعادوا
ليذوقوا العذاب أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز : أعزك الله والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث أنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث أن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن
(5/59)
النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام وقيل : السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن وأنكر بعضهم نضج الجلود بالمعنى المتبادر وتبديلها زاعما أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله سبحانه وتعالى : سرابيلهم من قطران وسميت السرابيل جلودا للمجاورة وفيه أنه ترك للظاهر ويوشك أن يكون خلاف المعلوم ضرورة وأن السرابيل لا توزصف بالنضج وكأنه ما دعاه إلى هذا الزعم سوى استبعاد القول بالظاهر وليس هو بالبعيد عن قدرة الله سبحانه وتعالى إن الله كان عزيزا أي لم يزل منيعا لا يدافع ولا يمانع وقيل : إنه قادر لا يمتنع عليه ما يريده مما تواعد أو وعد به حكيما
56
- في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم مع ما مر مرارا
والذين ءامنوا وعملوا الصلحت عقب بيان سوء حال الكفرة ببيان حسن حال المؤمنين تكميلا للمساءة والمسرة وقدم بيان حال الأولين لأن الكلام فيهم والمراد بالموصول إما المؤمنين بنبينا صلى الله عليه و سلم وإما ما يعمهم وسائر من آمن من أمم الأنبياء عليهم االسلام أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وعملوا الأعمال الحسنة سندخلهم جنت تجري من تحتها الأنهر قرأ عبدالله سيدخلهم بالياء والضمير للاسم الجليل وفي السين تأكيد للوعد وفي اختبارها هنا واختيار سوف في آية الكفر ما لا يخفى
خلدين فيها أبدا إعظاما للمنة وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب في سندخلهم وقوله تعالى : لهم فيها أزوج مطهرة أي من الحيض والنفاس وسائر المعايب والأدناس والأخلاق الدنيئة والطباع الرديئة لا يفعلن ما يوحش أزواجهن ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن في محل النصب على أنه حال من جنات أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو أنه صفة لجنات بعد صفة أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر
والمراد أزواج كثيرة كما تدل عليه الأخبار وندخلهم ظلا ظليلا
57
- أي فينانا لا وجوب فيه ودائما لا تنسخه الشمس وسجسجا لا حر فيه ولا قر رزقنا الله تعالى التفيؤ فيه برحمته إنه أرحم الراحمين والمرد بذلك إما حقيقته ولا يمنع منه عدم الشمس وإما أنه إشارة إلى النعمة التامة الدائمة والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما هو عادتهم في نحو يوم أيوم وليل أليل وقال الإمام المرزوقي : إنه مجرد لفظ تابع لما اشتق منه وليس له معنى وضعي بل هو كبسن في قولك : حسن بسن وقرئ يدخلهم بالياء عطف على سيدخلهم لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ
هذا ومن باب الإشارة في الآيات يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون خطاب لأهل الإيمان العلمي ونهي لهم أن يناجوا ربهم أو يقربوا مقام الحضور والمناجاة مع الله سبحانه وتعالى في حال كونهم سكارى خمر الهوى ومحبة الدنيا أو نوم الغفلة حتى يصحوا ولا يشتغلوا بغير مولاهم والمقصود النهي عن إشغال القلب بسوى الرب وقيل : إنه خطاب لأهل المحبة والعشق الذين أسكرهم
(5/60)
شراب 3 ليلي ومدام مي فبقوا حيارى مبهوتين لا يميزون الحي من اللي ولا يعرفون الأوقات ولا يقدرون على أداء شرائط الصلوات فكأنهم قيل لهم : يا أيها العارفون بي وبصفاتي وأسمائي السكارى من شراب محبتي وسلسبيل أنسي وتسنيم قدمي وزنجبيل قربي ومدام عشقي وعقار مشاهدتي إذا كشفت لكم جمالي وآنستكم في مقام ربوبيتي فلا تكلفوا نفوسكم أداء الرسوم الظاهرة لأنكم في جنان مشاهدتي وليس في الجنان تقييد وإذا سكنتم من سكركم وصرتم صاحين بنعمت التمكين فأدوا ما افترضته عليكم وقوموا لله قانتين وحاصله رفع التكليف عن المجذوبين الغارقين في بحار المشاهدة إلى أن يعقلوا ويصحوا فالإيمان على هذا محمول على الإيمان العيني والمعنى الأول أولى بالإشارة ولا جنبا أي ولا تقربوا الصلاة في حال كونكم بعداء عن الحق لشدة الميل إلى النفس ولذاتها إلا عابري سبيل أي سالكي طريق من طرق تمتعاتها بقدر الضرورة كعبور طريق الإغتذاء بالمأكل والمشرب لسد الرمق او الاكتساء لدفع ضرورة الحر والقر وستر العورة أو المباشرة لحفظ النسل حتى تغتسلوا وتتطهروا بمياه التوبة والاستغفار وحسن التنصل والاعتذار وإن كنتم مرضى بأدواء الرذائل أو على سفر في بيداء الجهالة والحيرة لطلب الشهوات أو جاء أحد منكم من الغائط أي الاشتغال بلوث المال ملوثا بمحبته أو لامستم النساء أي لازمتم النفوس وباشرتموها في قضاء وطرها فلم تجدوا ماء علما يهديكم إلى التخلص عن ذلك فتيمموا صعيدا طيبا أي فاقصدوا صعيد استعدادكم أو ارجعوا إلى المرشدين أرباب الاستعداد فامسحوا بوجوهكم وأيديكم أي امسحوا ذواتكم وصفاتكم بما يتصاعد من أنوار استعدادهم وتخلقوا بأخلاقهم واسلكوا مسالكهم حتى تمحى عنكم تلك الهيئات المهلكة وتبقى أنفسكم صافية إن الله كان عفوا يعفو عما صدر منكم بمقتضى تلك الهيئات غفورا يستر الشين بالزين ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا أي بعضا من الكتاب وهو اعترافهم بالحق مع احتجابهم برؤية الخلق يشترون الضلالة ويتركون التوحيد الحقيقي ويريدون مع ذلك أن تضلوا السبيل الحق وهو التوحيد الصرف وعدم رؤية الأغيار فتكونوا مثلهم والله أعلم بأعدائكم وعنى بهم أولئك الموصوفين بما ذكر وسبب عداوتهم لهم اختلاف الأسماء الظاهرة فيهم ولهذا ودوا تكفيرهم وكفى بالله وليا يلي أموركم بالتوفيق لطريق التوحيد وكفى بالله نصيرا ينصركم على أعدائكم فلا يستطيعون إيذاءكم وردكم عما أنتم عليه من الحق من الذين هادوا رجعوا عن مقتضى الاستعداد من نفي السوي إلى ما سولت لهم أنفسهم واستنتجته أفكارهم وأيدته أنظارهم ودعت إليه علومهم الرسمية يحرفون الكلم عن مواضعه يحتمل أن يراد بالكلم معناها الظاهر أي أنهم يؤولون جميع ما يشعر ظاهره بالوحدة على حسب إرادتهم زاعمين أنه لا يمكن أن يكون غير ذلك مرادا لله تعالى لا قصدا ولا تبعا لا عبارة ولا إشارة ويحتمل أن يراد بها هذه الممكنات فإنها كلم الله تعالى بمعنى الدوال عليه أو كلمة بمعنى آثار كلمة أعني كن المتعددة حسب تعدد تعلقات الإرادة
ومعنى تحريفها عن مواضعها إمالتها عما وضعها الله تعالى فيه من كونها مظاهر أسمائه فيثبتون لها وجودا غير وجود الله تعالى : ويقولون سمعنا ما يشعر بالوحدة أو سمعنا ما يقال في هذه الممكنات وعصينا فلا نقول بما تقولون ولا نعتقد ما تعتقدون ويقولون أيضا في أثناء مخاطبتهم للعارف مستخفين مستهزئين به اسمع ما يعارض ما تدعيه غير مسمع أي لا أسمعك الله وراعنا يعنون رميه بالرعونة وهي الحماقة ليا بألسنتهم وطعنا في الدين الذي عليه العارف بربه يا أيها الذين أوتوا الكتاب أي فهموا عليه الظاهر ولم يفهموا ما أشار إليه
(5/61)
من علم الباطن آمنوا بما نزلنا على قلوب أوليائي من العلم اللدني مصدقا لما معكم من علم الظاهر إذ كل باطن يخالف 3 الظاهر فهو باطل من قبل أن نطمس وجوها وهي وجوه القلوب بالعمى فنردها على أدبارها ناظرة إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانت في أصل الفطرة متوجهة إلى ما في الميثاق الأول أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت فنمسخ صورهم المعنوية كما مسخنا صور اليهود الحسية ويحتمل أن يكون هذا خطابا لمن أوتي كتاب الاستعداد أمرهم بالإيمان الحقيقي وهددهم بإزالة استعدادهم وردهم إلى أسفل سافلين وإبعادهم بالمسخ إن الله لا يغفر أن يشرك به إلا بالتوبة عنه لشدة غيرته لا أحد أغير من الله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أن يغفر له تاب أو لم يتب وقد ذكروا أن الشرك ثلاث مراتب ولكل مرتبة توبة : فشرك جلي بالأعيان وهو للعوام كعبدة الأصنام والكواكب مثلا وتوبته إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية وشرك خفي بالأوصاف وهو للخواص وفسر بشوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية وتوبته الالتفات عن ذلك الالتفات وشرك أخفى لخواص الخواص وهو الأنانية وتوبته بالوحدة وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية ومن يشرك بالله أي شرك كان من المراتب فقد افترى وارتكب حسب مرتبته إثما عظيما لا يقدر قدره ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم كعلماء السوء من أهل الظاهر الذين لم يحصلوا من علومهم سوى العجب والكبر والحسد والحقد وسائر الصفات الرذيلة بل الله يزكي من يشاء كالعارفين به الذين لا يرون لأنفسهم فعلا ويحتمل أن يكون هذا تعجيبا ممن يزكي نفسه بنفسه ويسلك في مسالك القوم على رأيه غير معتمد على مرب مرشد له من ولي كامل أو أثارة من علم إلهي كبعض المتفلسفين من أهل الرياضات أنظر كيف يفترون على الله الكذب بادعاء تزكية نفوسهم من صفاتها وما تزكت أو بانتحال صفات الله تعالى إلى أنفسهم مع وجودها وكفى به إثما مبينا ظاهرا لا خفاء فيه ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا بعضا من الكتاب الجامع وأشير به إلى علم الظاهر يؤمنون بالجبت أي بجبت النفس والطاغوت أي طاغوت الهوى فيميلون مع أنفسهم وهواهم ويقولون للذين كفروا أي لأجل الذين ستروا الحق هؤلاء أهدى من الذين آمنوا الإيمان الحقيقي سبيلا أولئك الذين لعنهم الله أي أبعدهم عن معرفته وقربه ومن يلعن أي يبعده الله عن ذلك فلن تجد له نصيرا يهديه إلى الحق أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ذم لهم بالبخل الذي هو الوصمة الكبرى عند أهل الله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من المعرفة وإعزازهم بين خلقه وإرشادهم لمن استرشدهم فقد آتينا آل إبراهيم وهم المتبعون له على ملته من أهل المحبة والخلة الكتاب أي علم الظاهر أو الجامع له ولعلم الباطن والحكمة علم الباطن أو باطن الباطن وآتيناهم ملكا عظيما وهو الوصول إلى العين وعدم الوقوف عند الأثر إن الذين كفروا بآياتنا أي حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا أو أنكروا على أوليائنا الذين هم مظاهر الآيات سوف نصليهم نارا عظيمة وهي نار القهر والحجاب أو نار الحسد كلما نضجت جلودهم وتقطهت أما ني نفوسهم الأمارة ومقتضيات هواها بدلناهم جلودا غيرها بتجدد نوع آخر من تجليات القهر أو بتجدد نعم أخرى تظهر على أوليائنا الذين حسدوهم وأنكروا عليهم ليذوقوا العذاب ما داموا منغمسين في أوحال الرذائل إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي الأعمال التي يصلحون بها لقبول التجليات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشف خالدين فيها أبدا لبقاء أرواحهم
(5/62)
المفاضة عليها ما يروحها لهم فيها أزواج من التجليات التي يلتذون بها مطهرة من لوث النقص وندخلهم ظلا ظليلا وهو ظل الوجود والصفات الإلهية وذلك بمحو البشرية عنهم نسأل الله تعالى من فضله فلا فضل إلا فضله ثم إنه سبحانه وتعالى أرشد المؤمنين بأبلغ وجه إلى بعض أمهات الأعمال الصالحة فقال عز من قائل : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانت إلى أهلها أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما فتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة دعا عثمان بن أبي طلحة فلما أتاه قال : أرني المفتاح فأتاه به فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أرني المفتاح يا عثمان فبسط يده يعطيه فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح فقال : هاك بأمانة الله تعالى فقام ففتح الكعبة فوجد فيها تمثال إبراهيم عليه السلام معه قداح يستقسم بها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما للمشركين قاتلهم الله تعالى وما شأن إبراهيم عليه السلام وشأن القداح وأزال ذلك وأخرج مقام إبراهيم عليه السلام وكان في الكعبة ثم قال : أيها الناس هذه القبلة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه جبريل عليه السلام فيما ذكر لنا برد المفتاح فدعا عثمان ابن أبي طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال إن الله يأمركم الآية
وفي رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين أعطي المفتاح : خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم يعني سدانة الكعبة وفي تفسير ابن كثير : أن عثمان دفع المفتاح بعد ذلك إلى أخيه شيبة بن أبي طلحة فهو في يد ولده إلى اليوم وذكر الثعلبي والبغوي والواحدي أن عثمان امتنع عن إعطاء المفتاح للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله تعالى وجهه يده وأخذه منه فدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكعبة وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يجمع له السدانة والسقاية فنزلت فأمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يرد ويعتذر إليه وصار ذلك سببا لإسلامه ونزول الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا وما ذكرناه أولى بالاعتبار
أما أولا فلما قال الأشموني : إن المعروف عند أهل السير أن عثمان بن طلحة أسلم قبل ذلك في هدنة الحديبية مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما ذكره ابن إسحق وغيره وجزم به ابن عبدالبر في الاستيعاب والنووي في تهذيبه والذهبي وغيرهم وأما ثانيا فلما فيه من المخالفة لما ذكره ابن كثير وقد نصوا على أنه هو الصحيح وأما ثالثا فلأن المفتاح على هذا لا يعد أمانة لأن عليا كرم الله تعالى وجهه أخذه منه قهرا وما هذا شأنه هو الغصب لا الأمانة والقول بأن تسمية ذلك أمانة لأن الله تعالى لم يرد نزعه منه أو للإشارة إلى أن الغاصب يجب أن يكون كالمؤتمن في قصد الرد أو إلى أن عليا كرم الله تعالى وجهه لما قصد بأخذه الخير وكان أيضا بأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جعل كالمؤتمن في أنه لا ذنب عليه لا يخلو عن بعد وأيا ما كان فالخطاب يعم كل أحد كما أن الأمانات وهي جمع أمانة مصدر سمي به المفعول نعم الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق الله تعالى وحقوق العباد سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية وعموم الحكم لا ينافي خصوص السبب وقد روي ما يدل على العموم عن ابن عباس وأبي وابن مسعود والبراء بن عازب وأبي جعفر وأبي عبدالله رضي الله تعالى عنهم أجمعين وإليه ذهب الأكثرون وعن زيد بن أسلم واختاره الجبائي وغيره
(5/63)
أن هذا خطاب لولاة الأمر أن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضا وفي تصدير الكلام بأن الدالة على التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه ولهذا ورد من حديث ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا إيمان لمن لا أمانة له
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة
وأخرج عن ميمون بن مهران ثلاث تؤدين إلى البر والفاجر الرحم توصل برة كانت أو فاجرة والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر والعهد يوفى به للبر والفاجر وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان والأخبار في ذلك كثيرة وقرئ الأمانة بالإفراد والمراد الجنس لا المعهود أي يأمركم بأداء أي أمانة كانت
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم فالواو للعطف والظرف متعلق بما بعد أن وهو معطوف على أن تؤدوا والجار متعلق به أو بمقدر وقع حالا من فاعله أي ويأمركم أن تحكموا بالانصاف والسوية أو متلبسين بذلك إذا قضيتم بين الناس ممن ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم وهذا مبني على مذهب من يرى جواز تقدم الظرف المعمول لما في حيز الموصول الحرفي عليه والفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف وفي التسهيل الفصل بين العاطف والمعطوف إذا لم يكن فعلا بالظرف والجار والمجرور جائز وليس ضرورة خلافا لأبي علي ولقيام الخلاف في المسألة ذهب أبو حيان إلى أن الظرف متعلق بمقدر يفسره المذكور أي وأن تحكموا إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا ليسلم مما تقدم ولا يجوز تعلقه بما قبله لعدم استقامة المعنى لأن تأدية الأمانة ليست وقت الحكومة والمراد بالحكم ما كان عن ولاية عامة أو خاصة وأدخلوا في ذلك ما كان عن تحكيم
وفي بعض الآثار أن صبيين ارتفعا إلى الحسن رضي الله تعالى عنه بن علي كرم الله تعالى وجهه في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أي الخطين أجود فبصر به علي كرم الله تعالى وجهه فقال : يا بني انظر كيف تحكم فإن هذا حكم والله تعالى سائلك يوم القيامة إن الله نعما يعظكم به جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال وإظهار الاسم الأعظم لتربية المهابة وهو اسم إن وجملة نعما يعظكم خبرها و ما إما بمعنى الشئ معرفة تامة و يعظكم صفة موصوف محذوف وهو المخصوص بالمدح أي نعم الشئ شئ يعظكم به ويجوز نعم هو أي الشئ شيئا يعظكم به والمخصوص بالمدح محذوف وإما بمعنى الذي وما بعدها صلتها وهو فاعل نعم والمخصوص محذوف أيضا أي نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل قاله أبو البقاء ونظر فيه بأنه قد تقرر أن فاعل نعم إذا كان مظهرا لزم أن
(5/64)
يكون محلى بلام الجنس أو مضافا إليه كما في المفصل وأجيب بأن سيبويه جوز قيام ما إذا كانت معرفة تامة مقامه وابن السراج أيضا جوز قيام الموصولة لأنها في معنى المعرف باللام واعترض القول بوقوع ما تمييزا بأنها مساوية للمضمر في الإبهام فلا تميزه لأن التمييز لبيان جنس المميز وأجيب بمنع كونها مساوية له لأن المراد بها شئ عظيم والضمير لا يدل على ذلك ومن الغريب ما قيل : إن ما كافة فتدبر وقد تقدم الكلام فيما في نعما من القراآت إن الله كان سميعا بجميع المسموعات ومنها أقوالكم بصيرا
58
- بكل شئ ومن ذلك أفعالكم ففي الجملة وعد ووعيد وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه : سو بين الخصمين في لحظك ولفظك يأيها الذين آمنوا بعد ما أمر سبحانه ولاة الأمور بالعموم أو الخصوص بأداء والعدل في الحكومة أمر الناس بإطاعتهم في ضمن إطاعته عز و جل وإطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم حيث قال عز من قائل : أطيعوا الله إي الزموا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه وأطيعوا الرسول المبعوث لتبليغ أحكامه إليكم في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه أيضا وعن الكلبي أن المعنى أطيعوا الله في الفرائض وأطيعوا الرسول في السنن والأول أولى وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناءا بشأنه عليه الصلاة و السلام وقطعا لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن وإيذانا بأن له صلى الله عليه و سلم استقلالا بالطاعة لم يثبت لغيره ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه : وأولي الأمر منكم إيذانا بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه و سلم واختلف في المراد بهم فقيل : أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم وبعده ويندرج فيهم الخلفاء والسلاطين والقضاة وغيرهم وقيل : المراد بهم أمراء السريا وروي ذلك عن أبي هريرة وميمون بن مهران وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي وأخرجه ابن عساكر عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد في سرية وفيها عمار بن ياسر فساروا قبل القوم الذين يريدون فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا وأتاهم وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم فأصبحوا قد هربوا غير رجل أمر أهله فجمعوا متاعهم ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد يسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال : يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن قومي لما سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت فقال عمار : بل هو ينفعك فأقم فأقام فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل فأخذه وأخذ ماله فبلغ عمارا الخبر فأتى خالدا فقال : خل عن الرجل فإنه قد أسلم وهو في أمان مني قال خالد : وفيم أنت تجير فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال خالد : يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يشتمني فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا خالد لا تسب عمارا فإن من سب عمارا سبه الله تعالى ومن أبغض عمارا أبغضه الله تعالى ومن لعن عمارا لعنه الله تعالى فغضب عمار فقام فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي فأنزل الله تعالى هذه الآية ووجه التخصيص على هذا أن في عدم إطاعتهم ولا سلطان ولا حاضرة مفسدة عظيمة وقيل : المراد بهم أهل العلم وروى ذلك غير واحد عن ابن عباس وجابر بن عبدالله ومجاهد والحسن وعطاء وجماعة واستدل عليه أبو العالية بقوله تعالى : ولو ردوه
(5/65)
إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإن العلماء هم المستنبطون المستخرجون للأحكام وحمله الكثير وليس ببعيد على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأن للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز وما لا يجوز واستشكل إرادة العلماء لقوله تعالى : فإن تنازعتم في شئ فإن الخطاب فيه عام للمؤمنين مطلقا والشئ خاص بأمر الدين بدليل ما بعده والمعنى فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وألوا الأمر منكم في أمر من أمور الدين فردوه فراجعوا فيه إلى الله أي إلى كتابه والرسول أي إلى سنته ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء إذ المراد بهم المجتهدون والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم
وجعل بعضهم : الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل وقيل : على إرادة الأعم يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وم الأمراء ثم إن وجوب الطاعة لهم ما داموا على الحق فلا يجب طاعتهم فيما خالف الشرع فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا طاعة لبشر في معصية الله تعالى وأخرج هو وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عنه أيضا كرم الله تعالى وجهه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار فأمرهم عليه الصلاة و السلام أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شئ فقال : اجمعوا لي حطبا فجمعوا له حطبا قال : أوقدوا نارا فأوقدوا نارا قال : ألم يأمركم صلى الله عليه و سلم أن تسمعوا لي وتطيعوا قالوا : بلى قال : فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكروا له ذلك فقال عليه الصلاة و السلام لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف
وهل يشمل المباح أم لا فيه خلاف فقيل إنه لا يجب طاعتهم فيه لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله تعالى ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى وقيل : تجب أيضا كما نص عليه الحصكفي وغيره وقال بعض محققي الشافعية : يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم وقال بعضهم : الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرا فقط بخلاف ما فيه ذلك فإنه يجب باطنا أيضا وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الآمر فإذا أمر بمباح عنده سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرا فقط أو المأمور فيجب باطنا أيضا وبالعكس فينعكس ذلك كل محتمل وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء الثاني لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبا عند الآمر أولا وأيد بما قرروه في باب الاقتداء من أن العبرة باعتقاد المأموم لا الإمام ولم أقف على ما قاله أصحابنا في هذه المسألة فليراجع هذا واستدل بالآية منأنكر القياس وذلك لأن الله تعالى أوجب الرد إلى الكتاب والسنة دون القياس والحق أن الآية دليل على إثبات القياس بل هي متضمنة لجميع الأدلة الشرعية فإن المراد بإطاعة الله العمل بالكتاب وبإطاعة الرسول العمل بالسنة وبالرد إليهما القياس
(5/66)
لأن رد المختلف فيه الغير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وليس القياس شيئا وراء ذلك وقد علم من قوله سبحانه : إن تنازعتم أنه عند عدم النزاع يعمل بما اتفق عليه وهو الإجماع إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر متعلق بالأمر الأخير الوارد في محل النزاع إذ هو المحتاج إلى التحذير عن المخالفة وجاب الشرط محذوف عند جمهور البصريين ثقة بدلالة المذكور عليه والكلام على حد إن كنت ابني فأطعني فإن الإيمان بالله تعالى يوجب امتثال أمره وكذا الإيمان باليوم الآخر لما فيه من العقاب على المخالفة ذلك أي الرد المأمور به العظيم الشأن ولو حمل كما قيل على جميع ما سبق على التفريع لحسن
وقال الطبرسي : إنه إشارة إلى ما تقدم من الأوامر أي طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأولي الأمر ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول عليه الصلاة و السلام خير لكم وأصلح وأحسن أي أحمد في نفسه تأويلا
59
- أي عاقبة قاله قتادة والسدي وابن زيد وأفعل التفضيل في الموضعين للإيذان بالكمال على خلاف الموضوع له ووجه تقديم الأول على الثاني أن الأغلب تعلق أنظار الناس بما ينفعهم وقيل : المراد خير لكم في الدنيا وأحسن عاقبة في الآخرة ووجه التقديم عليه أظهر
وعن الزجاج أن المراد أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم إياه من غير رد إلى أصل من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم فالتأويل إما بمعنى الرجوع إلى المآل والعاقبة وإما بمعنى بيان المراد من اللفظ الغير الظاهر منه وكلاهما حقيقة وإن غلب الثاني في العرف ولذا يقابل التفسير
ألم تر خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتعجيب له عليه الصلاة و السلام أي ألم تنظر أو ألم ينته علمك إلى الذين يزعمون من الزعم وهو كما في القاموس مثلث القول : الحق والباطل زوالكذب ضد وأكثر ما يقال : فيما يشك فيه ومن هنا قيل : إنه قول بلا دليل وقد كثر استعماله بمعنى القول الحق وفي الحديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم زعم جبريل وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه زعم رسولك وقد أكثر سيبويه في الكتام من قوله : زعم الخليل كذا في أشياء يرتضيها وفي شرح مسلم للنووي أن زعم في كل هذا بمعنى القول والمراد به هنا مجرد الإدعاء أي يدعون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك أي القرآن
وما أنزل إلى موسى عليه السلام من قبلك وهو التوراة ووصفوا بهذا الادعاء لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح وقرئ أنزل و أنزل بالبناء للفاعل يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت بيان لمحل التعجيب على قياس نظائره أخرج الثعلبي وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلا من المنافقين يقال له بشر : خاصم يهوديا فدعاه اليهود إلى النبي صلى الله عليه و سلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال : تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب فقال اليهودي لعمر رضي الله تعالى عنه : قضى لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يرض بقضائه فقال للمنافق : أكذلك قال : نعم فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فنزلت وفي بعض الروايات : وقال جبريل عليه السلام إن عمر فرق بين الحق والباطل وسماه النبي صلى الله عليه و سلم الفاروق رضي الله تعالى عنه والطاغوت على هذا كعب
(5/67)
بن الأشرف وإطلاقه عليه حقيقة بناءا على أنه بمعنى كثير الطغيان أو أنه علم لقب له كالفاروق لعمر رضي الله تعالى عنه ولعله في مقابلة الطاغوت وفي معناه كل من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله ويحتمل أن يكون الطاغوت بمعنى الشيطان وإطلاقه على الأخس بن الأشرف إما استعارة أو حقيقة والتجوز في إسناد التحاكم إليه بالنسبة الإيقاعية بين الفعل ومفعوله بالواسطة وقيل : إن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث أنه الحامل عليه فنقله عن الشيطان إليه على سبيل المجاز المرسل وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس أيضا قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الآية
وأخرج ابن جرير عن السدي كان أناس من يهود قريظة والنضير قد أسلموا ونافق بعضهم وكانت بينهم خصومة في قتيل فأبى المنافقون منهم إلا التحاكم إلى أبي برزة فانطلقوا إليه فسألوه فقال : أعظموا اللقمة فقالوا : لك عشرة أوساق فقال : لا بل مائة وسق فأبوا أن يعطوه فوق العشرة فأنزل الله تعالى فيهم ما تسمعون وعلى هذا ففي الآية من الإشارة إلى تفظيع التحاكم نفسه ما لا يخفى وهو أيضا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة ويمكن حمل خبر الطبراني عليه بحمل المسلمين فيه على المنافقين ممن أسلم من قريظة والنضير وقد أمروا أن يكفروا به في موضع الحال من ضمير يريدون وفيه تأكيد للتعجيب كالوصف السابق والضمير المجرور راجع إلى الطاغوت وهو ظاهر على تقدير أن يراد منه الشيطان وإلا فهو عائد إليه باعتبار الوصف لا الذات أي أمروا أن يكفروا بمن هو كثير الطغيان أو شبيه بالشيطان وقيل : الضمير للتحاكم المفهوم من يتحاكموا وفيه بعد وقرأ عباس ابن المفضل بها وقرئ بهن والضمير أيضا للطاغوت لأنه يكون للواحد والجمع وإذا أريد الثاني أنث باعتبار معنى الجماعة وقد تقدم ويريد الشيطان أن يضلهم ضللا بعيدا
60
- عطف على الجملة الحالية داخلة في حكم التعجيب وفيها على بعض الاحتمالات وضع المظهر موضع المضمر على معنى يريدون أن يتحاكموا إلى الشيطان وهو بصدد إرادة إضلالهم ولا يريدون أن يتحاكموا إليك وأنت بصدد إرادة هدايتهم و ضلالا إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد على حد ما قيل في أنبتكم من الأرض نباتا وإما مؤكد لفعله المدلول عليه بالمذكور أي فيضلون ضلالا ووصفه بالبعد الذي هو نعت موصوفه للمبالغة وإذا قيل لهم أي لأولئك الزاعمين تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن من الأحكام وإلى الرسول المبعوث للحكم بذلك رأيت أي أبصرت أو علمت المنفقين وهم الزاعمون والإظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم أي رأيتهم لنفاقهم يصدون أي يعرضون عنك صدودا
61
- أي إعراضا أي إعراض فهو مصدر مؤكد لفعله وتنوينه للتفخيم وقيل : هو اسم للمصدر الذي هو الصد وعزي إلى الخليل والأظهر أنه مصدر لصد اللازم والصد مصدر للمتعدي ودعوى أن يصدون هنا متعد حذف مفعوله أي يصدون المتحاكمين أي يمنعونهم مما لا حاجة إليه وهذه الجملة تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت وقرأ الحسن تعالوا بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطا كما قالوا : ما باليت به بالة وأصلها بالية كعافية وكما قال الكسائي في آية : إن أصلها آيية كفاعلة فصارت اللام كاللام فضمت للواو ومن ذلك قول أهل مكة : تعالي بكسر اللام للمرأة وهو لغة مسموعة أثبتها ابن جني فلا عبرة بمن لحن كابن هشام الحمداني
(5/68)
فيها حيث يقول : أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي ولا حاجة إلى القول بأن تعالي الأولى مفتوحة اللام والثانية مكسورتها للقافية كما لا يخفى وأصل معنى هذا الفعل طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمم فكيف يكون حالهم إذا أصبتهم نالتهم مصيبة نكبة تظهر نفاقهم بما قدمت أيديهم أي بسبب ما عملوا من الجنايات كالتحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك ثم جاءوك للاعتذار وهو عطف على أصابتهم والمراد تهويل ما دهاهم وقيل : على يصدون وما بينهما اعتراض يحلفون حال من فاعل جاءوك أي حالفين لك بالله إن أردنا أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا إحسنا إلى الخصوم وتوفيقا
62 - بينهم ولم نرد بالمرافعة إلى غيرك عدم الرضا بحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم ويعتذرون ولا يغني عنهم الاعتذار وقيل : جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه وقالوا : إن أردنا بالتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه فإذا على هذا لمجرد الظرفية دون الاستقبال
وقيل : المعنى بالآية عبدالله بن أبي والمصيبة ما أصابه وأصحابه من الذل برجوعهم من غزوة بني المصطلق وهي غزوة مريسيع حين نزلت سورةالمنافقين فاضطروا إلى الخشوع والاعتذار على ما سيذكر في محله إن شاء الله تعالى وقالوا : ما أرنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين في تلك الغزوة إلا الخير أو مصيبة الموت لما تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه ليتقي به النار أولءك أي المنافقون المذكورون الذين يعلم الله ما في قلوبهم من فنون الشرور المنافية لما أظهروا لك من بنات غير وجاءوا به من أذني عناق فأعرض حيث كانت حالهم كذلك عنهم أي قبول عذرهم ويلزم ذلك الإعراض عن طلبهم دم القتيل لأنه هدر وقيل : عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم ولا تظهر لهم علمك بما في بواطنهم الخبيثة حتى يبقوا على نيران الوجل وعظهم بلسانك وكفهم عن النفاق وقل لهم في أنفسهم أي قل لهم خاليا لا يكون معهم أحد لأنه أدعى إلى قبول النصيحة ولذا قيل : النصح بين الملأ تقريع أو قل لهم في شأن أنفسهم ومعناها قولا بليغا مؤثرا وأصلا إلى كنه المراد مطابقا لما سيق له من المقصود فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر
وقيل : متعلق ب بليغا وهو ظاهر على مذهب الكوفيين والبصريون لا يجيزون ذلك لأن معمول الصفة عندهم لا يتقدم على الموصوف لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقدم عامله وقيل : إنه إنما يصح إذا كان ظرفا وقواه البعض وقيل : إنه متعلق بمحذوف يفسره المذكور وفيه بعد والمعنى على تقدير التعلق قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا فيها يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف استشعارا وهو التوعد بالقتل والاستئصال والإيذان بأن ما انطوت عليه قلوبهم الخبيثة من الشر والنفاق بمرأى من الله تعالى ومسمع غير خاف عليه سبحانه وإن ذلك مستوجب لما تشيب منه النواصي وإنما هذه المكافة والتأخير لإظهارهم الإيمان وإضمارهم الكفر ولئن أظهروا الشقاق وبرزوا بأشخاصهم من نفق النفاق لتسامرنهم السمر والبيض وليضيقن عليهم رحب الفلا بالبلاء العريض واستدل بالآية الأولى على أنه قد تصيب المصيبة بما يكتسب العبد
(5/69)
من الذنوب ثم اختلف في ذلك فقال الجبائي : لا يكون ذلك إلا عقوبة في التائب وقال أبو هاشم : يكون ذلك لطفا
وقال القاضي عبدالجبار : قد يكون لطفا وقد يكون جزاءا وهو موقوف على الدليل
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله تمهيد لبيان خطئهم باشتغالهم بستر نار جنايتهم بهشيم اعتذارهم الباطل وعدم إطفائها بماء التوبة أي وما أرسلنا رسولا من الرسل لشئ من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى وأمره المرسل إليهم أن يطيعوه لأنه مؤد عنه عز شأنه فطاعته طاعته ومعصيته معصيته أو بتيسيره وتوفيقه سبحانه في طاعته ولا يخفى ما في العدول عن الضمير إلى الاسم الجليل واحتج المعتزلة بالآية على أن الله تعالى لا يريد إلا الخير والشر على خلاف إرادته وأجاب عن ذلك صاحب التيسير بأن المعنى إلا ليطيعه من أذن له في الطاعة وأرادها منه وأما من لم يأذن له فيريد عدم طاعته فلذا لا يطيعه ويكون كافرا أو بأن المراد إلزام الطاعة أي وما أرسلنا رسولا إلا لإلزام طاعته الناس ليثاب من انقاد ويعاقب من سلك طريق العناد فلا تنتهض دعواهم الاحتجاج بها على مدعاهم واحتج بها أيضا من أثبت الغرض في أفعاله تعالى وهو ظاهر ولا يمكن تأويل ذلك بكونه غاية لا غرضا لأن طاعة الجميع لا تترتب على الإرسال إلا أن يقال إن الغاية كونه مطاعا بالإذن لا للكل إذ من لا إذن له لا يطيع وقد تقدم الكلام في هذه المسألة ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم وعرضوها للبوار بالنفاق والتحاكم إلى الطاغوت جاءوك على إثر ظلمهم بلا ريث متوسلين بك تائبين عن جنايتهم غير جامعين حشفا وسوء كيلة باعتذارهم الباطل وأيمانهم الفاجرة فاستغفروا الله لذنوبهم ونزعوا عما هم عليه وندموا على ما فعلوا
واستغفر لهم الرسول وسأل الله تعالى أن يقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم وفي التعبير باستغفر إلخ دون استغفرت تفخيم لشأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث عدل عن خطابه إلى ما هو من عظيم صفاته على طريق حكم الأمير بكذا مكان حكمت وتعظيم لاستغفاره عليه الصلاة و السلام حيث أسنده إلى لفظ منبئ عن علو مرتبته لوجدوا الله توابا رحيما
64
- أي لعلموه قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالتجاوز عما سلف من ذنوبهم ومن فسر الوجدان بالمصادفة كان الوصف الأول حالا والثاني بدلا منه أو حالا من الضمير فيه أو مثله وفي وضع الاسم الجامع موضع الضمير إيذان بفخامة القبول والرحمة فلا وربك أي فوربك و لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفي في جوابه أعني قوله تعالى : يؤمنون لأنها تزاد في الإثبات أيضا كقوله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم وهذا ما اختاره الزمخشري ومتابعوه في لا التي تذكر قبل القسم وقيل : إنها رد لمقدر أي لا يكون الأمر كما زعمتم واختاره الطبرسي وقيل : مزيدة لتأكيد النفي في الجواب ولتأكيد القسم إن لم يكن نفي وقال ابن المنير : الظاهر عندي أنها ههنا لتوطئة النفي المقسم عليه والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك سوى مجيئها لغير هذا المعنى في الاثبات وهو لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة على أنها لم ترد في القرآن إلا مع صريح فعل القسم ومع القسم بغير الله تعالى مثل لا أقسم بهذا البلد لا أقسم بيوم القيامة فلا أقسم بالشفق قصدا إلى تأكيد القسم
(5/70)
وتعظيم المقسم به إذ لا يقسم بالشئ إلا إعظاما له فكأنه يقول إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها كلا إعظام يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك وهو لا يحسن في القسم بالله تعالى إذ لا توهم ليزاح ولم تسمع زيادتها مع القسم بالله إلا إذا كان الجواب منفيا فدل ذلك على أنها معه زائدة موطئة للنفي الواقع في الجواب ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت وإنما كثر دخولها على القسم وجوابه نفي كقوله : فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر وقوله ألا نادت أمامة بارتحال لتحزنني فلا بك ما أبالي وقوله رأى برقا فأوضع فوق بكر فلا بك ما أسال ولا أغاما إلى ما لا يحصى كثرة ومن هذا يعلم الفرق بين المقامين والجواب عن قولهم : إنه لا فرق بينهما فتأمل ذلك فهو حقيق بالتأمل حتى يحكموك أي يجعلوك حكما أو حاكما وقال شيخ الإسلام : يتحاكموا إليك ويترافعوا وإنما جئ بصيغة التحكيم مع أنه صلى الله عليه و سلم حاكم بأمر الله إيذانا بأن اللائق بهم أن يجعلوه عليه الصلاة و السلام حكما فيما بينهم ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكما على الإطلاق فيما شجر بينهم أي فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه وقيل : للمنازعة تشاجر لأن المتنازعين تختلف أقوالهم وتتعارض دعاويهم ويختلط بعضهم ببعض ثم لا يجدوا عطف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتحكم بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم وقلوبهم حرجا أي شكا كما قاله مجاهد أو ضيقا كما قاله الجبائي أو اثما كما روي عن الضحاك واختار بعض المحققين تفسيره بضيق الصدر لشائبة الكراهة والإباء لما أن بعض الكفرة كانوا يستيقنون الآيات بلا شك ولكن يجحدون ظلما وعتوا فلا يكونوا مؤمنين وما روي عن الضحاك يمكن إرجاعه إلى أي الأمرين شئت ونفي وجدان الحرج أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى وهو مفعول به ليجدوا والظرف قيل : حال منه أو متعلق بما عنده وقوله تعالى مما قضيت متعلق بمحذوف وقع صفة لحرجا وجوز أبو البقاء تعلقه به و ما يحتمل أن تكون موصولة ونكرة موصوفة ومصدرية أي من الذي قضيته أي قضيت به أو من شئ قضيت أو من قضائك ويسلموا تسليما
65
- أي ينقادوا لأمرك ويذعنوا له بظاهرهم وباطنهم كما يشعر به التأكيد ولعل حكم هذه الآية باق إلى يوم القيامة وليس مخصوصا بالذين كانوا في عصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإن قضاء شريعته عليه الصلاة و السلام قضاؤه فقد روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه قال : لو أن قوما عبدوا الله تعالى وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجوا البيت ثم قالوا لشئ صنعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ألا صنع خلاف ما صنع أو وجدوا في أنفسهم حرجا لكانوا مشركين ثم تلا هذه الآية وسبب نزولها كما قال الشعبي ومجاهد : ما مر من قصة بشر
(5/71)
واليهودي اللذين قضى بينهما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما قضى
وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي من طريق الزهري أن عروة بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه خاصم رجلا من الأنصار إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في شراج من الحرة كان يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري : سرح الماء يمر فأبى عليه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : إسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعى رسول الله صلى الله عليه و سلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري فلما أحفظ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الأنصاري استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك فلا وربك إلخ
ولو أنا كتبنا عليهم أي فرضنا وأوجبنا أن اقتلوا أنفسكم أي كما أمرنا بني إسرائيل وتفسير ذلك بالتعرض له بالجهاد بعيد أو اخرجوا من دياركم كما أمرنا بني إسرائيل أيضا بالخروج من مصر
والمراد إنما كتبنا عليهم إطاعة الرسول والانقياد لحكمه والرضا به ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار كما كتبنا ذلك على غيرهم ما فعلوه إلا قليل منهم وهم المخلصون من المؤمنين كأبي بكر رضي الله تعالى عنه
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبدالله بن الزبير قال : لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر يا رسول الله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت فقال : صدقت يا أبا بكر وكعبدالله بن رواحة فقد أخرج عن شريح بن عبيد أنها لما نزلت أشار صلى الله عليه و سلم إليه بيده فقال : لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل وكابن أم عبد فقد أخرج عن سفيان أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فيه : لو نزلت كان منهم وأخرج عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال أناس من الصحابة : لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال اللرواسي وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي
وفي بعض الآثار أن الزبير وصاحبه لما خرجا بعد الحكم من رسول الله صلى الله عليه و سلم مرا على المقداد فقال : لمن القضاء فقال الأنصاري : لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال : قاتل الله تعالى هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ويتهمونه في قضاء يقضي بينهم وأيم الله تعالى لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا إلى التوبة منه وقال اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا فقال ثابت بن قيس : أما والله إن الله تعالى ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد صلى الله عليه و سلم أن أقتل نفسي لقتلتها وروي أن قائل ذلك هو وابن مسعود وعمار بن ياسر وأنه بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنهم فقال : والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي وإن الآية نزلت فيهم وفي رواية البغوي
(5/72)
الاقتصار على ثابت بن قيس وعلى هذا الأثر وجه مناسبة ذكر هذه الآية مما لا يخفى وكأنه لذلك قال صاحب الكشاف في معناها : لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا القليل وقال بعضهم : إن المراد إننا قد خففنا عليهم حيث اكتفينا منهم في توبتهم بتحكيمك والتسليم له ولو جعلنا توبتهم كتوبة بني أسرائيل لم يتوبوا والذي يفهم من فحوى الأخبار المعول عليها أن هذه الكتابة لا تعلق لها بالاستتابة ولعل المراد من ذكر ذلك مجرد التنبيه على قصور كثير من الناس ووهن إسلامهم إثر بيان أنه لا يتم إيمانهم إلا بأن يسلموا حق التسليم وظاهر ما ذكره الزمخشري من أن بني إسرائيل أمروا بالخروج حين استتيبوا مما لا يكاد يصح إذا أريد بالديار المصرية لأن الاستتابة من عبادة العجل إنما كانت بعد الخروج منها ومنها انفلاق البحر وهذا مما لا امتراء فيه على أنا لا نسلم أنهم أمروا بالخروج استتابة في وقت من الأوقات وحمل الذلة على الخروج من الديار لأن ذل الغربة مثل مضروب في قوله تعالى : إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة لا يفيد إذ الآية لا تدل على الأمر به والنزاع فيه على أن في كون هذه الآية في التائبين من عبادة العجل نزاعا وقد حقق بعض المحققين أنها في المصريين المستمرين على عبادته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والعجب من صاحب الكشف كيف لم يتعقب كلام صاحب الكشاف بأكثر من أنه ليس منصوصا في القرآن ثم نقل كلامه في الآية
هذا والكلام في لو هنا أشهر من نار على علم وحقها كما قالوا : أن يليها فعل ومن هنا قال الطبرسي : التقدير لو وقع كتبنا عليهم وقال الزجاج : إنها وإن كان حقها ذلك إلا أن إن الشديدة تقع بعدها لأنها تنوب عن الاسم والخبر فنقول ظننت أنك عالم كما تقول : ظننتك عالما أي ظننت علمك ثابتا فهي هنا نائبة عن الفعل والاسم كما أنها هناك نائبة عن الاسم والخبر وضمير الجمع في عليهم وما بعده قيل : للمنافقين ونسب إلى ابن عباس ومجاهد واعترض بأن فعل القليل منهم غير متصور إذ هم المنافقون الذين لا تطيب أنفسهم بما دون القتل بمراتب وكل شئ دون المنية سهل فكيف تطيب بالقتل ويمتثلون الأمر به وأجيب بأن المراد لو كتبنا على المنافقين ذلك ما فعله إلا قليل منهم رياءا وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم فإذ لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم الأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص ونسب ذلك للبلخي
ولا يخفى ن قوله صلى الله عليه و سلم في عبدالله بن رواحة : لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان منهم وكذا من القليل الذين يمتثلون الأمر رياءا وسمعة بل ذلك غاية في الذم لهم وحاشاهم وقيل : للناس مطلقا والقلة إضافية لأن المراد بالقليل المؤمنون وهم وإن كثروا قليلون بالنسبة إلى من عداهم من المنافقين والكفرة والمتمردين وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وحينئذ لا يرد أنه يلزم من الآية كون بني إسرائيل أقوى إيمانا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث امتثلوا أمر الله تعالى لهم بقتل أنفسهم حتى بلغ قتلاهم سبعين ألفا ولا يمتثله لو كان من الصدر الأول إلا قليل ومن الناس من جعل الآية بيانا لكمال اللطف بهذه الأمة حيث أنه لا يقبل القتل منهم إلا القليل لأن الله تعالى يعفو عنهم بقتل قليل ولا يدعهم أن يقتل الكثير كبني إسرائيل لا أنهم لا يفعلون كما فعل بنو إسرائيل لقلة المخلصين فيهم وكثرة المخلصين في بني إسرائيل ليلزم التفضيل
وقيل : يحتمل أن يكون قتل كثير من بني إسرائيل لأنهم لو لم ينقادوا لأهلكهم عذاب الله تعالى وهذه
(5/73)
الأمة مأمونون إلى يوم القيامة فلا يقدمون كما أقدموا لعدم خوف الاستئصال لا لأنهم دون وأن بني أسرائيل أقوى منهم إيمانا وأنت تعلم أن الآية بمراحل على إفادتها كمال اللطف والسباق والسياق لا يشعران به أصلا وأن خوف الاستئصال وعدمه مما لا يكاد يخطر ببال كما لا يخفى على من عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال والضمير المنصوب في فعلوه للمكتوب الشامل للقتل والخروج لدلالة الفعل عليه أو هو عائد على القتل والخروج وللعطف بأو لزم توحيد الضمير لأنه عائد لأحد الأمرين وقول الإمام الرازي : إن الضمير عائد إليهما معا بالتأويل تنبو عنه الصناعة و قليل لكون الكلام غير موجب بدل من الضمير المرفوع في فعلوه وقرأ ابن عامر إلا قليلا بالنصب وجعله غير واحد على أنه صفة لمصدر محذوف والاستثناء مفرغ أي ما فعلوه إلا فعلا قليلا و من في منهم حينئذ للابتداء على نحو ما ضربته إلا ضربا منك مبرحا وقال الطيبي : إنها بيان للضمير في فعلوا كقوله تعالى : ليمسن الذين كفروا منهم على التجريد وليس بشئ وكأن الذي دعاهم إلى هذا والعدول عن القول بنصبه على الاستثناء أن النصب عليه في غير الموجب غير مختار فلا يحمل القرآن عليه كما يشير إليه كلام الزجاج حيث قال : النصب جائز في غير القرآن لكن قال ابن الحاجب : لا بعد في أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى وحققه الحمصي وقيل : بل يكون إجاعهم دليلا على أن ذلك هو القوي لأنهم هم المتفننون الآخذون عن مشكاة النبوة وأن تعليل النحاة غير ملتفت إليه
ورجح بعضهم أيضا النصب على الاستثناء هنا بأن فيه توافق القراءتين معنى وهو مما يهتم به وبأن توجيه الكلام على غيره لا يخلو عن تكلف ودغدغة وقرأ أبو عمرو ويعقوب أن اقتلوا بكسر النون على الأصل في التخلص من الساكنين و أو اخرجوا بضم الواو للاتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو ولا تنسوا الفضل بينكم وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل والباقون بضمهما وهو ظاهر و أن كيفما كانت نونها إما مفسرة لأنا كتبنا في معنى أمرنا ولا يضر تعديه بعلى لأنه لم يخرج عن معناه ولو خرج فتعديه باعتبار معناه الأصلي جائز كما في نطقت الحال بكذا حيث تعدى الفعل بالباء مع أنهم قد يريدون به دل وهو يتعدى بعلى
وإن أبيت هذا ولا أظن قلنا : إنه بمعنى أوحينا وإما مصدرية وهو الظاهر ولا يضر زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري ولو أنهم فعلوا ما وان أبيت هذا ولا أظن قلنا : إنه بمعنى أوحينا وإما المصدرية وهو الظاهر ولايضر زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري ولو أنهم فعلوا مايوعظون به أي مايؤمرون به مقرونا بالوعد والوعيد من متابعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والانقياد الى حكمه ظاهرا وباطنا لكان فعلهم ذلك خيرا لهم عاجلا وآجلا وأشد تثبيتا
66
- لهم الحق على الصواب وأمنع لهم من الضلال وأبعد من الشبهات كما قال سبحانه وتعالى : والذين اهتدوا وازادهم هدى وقيل : معناه أكثر انتفاعا لأن الانتفاع بالحق يدوم ولايبطل لاتصاله بثواب الآخرة والانتفاع بالباطل يبطل ويضمحل ويتصل بعقاب الاخرة
وإذا لأتيناهم لأعطيناهم من لدنا من عندنا أجرا ثوابا عظيما
67
- لايعرف أحد مبداه ولايبلغ منتهاه وانما ذكر من لدنا تأكيدا ومبالغة وهو متعلق بآتيناهم وجوز أن يكون حالا من اجرا والواو للعطف و لآتيناهم معطوف على لكان خيرا لهم لفظا و اذا مقحمة للدلالة على أن هذا الجزاء الأخير بعد ترتيب التالى السابق على المقدم ولإظهار ذلك وتحقيقه قال المحققون : إنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : وماذا يكون
(5/74)
لهم بعد التثبيت فقيل : وإذا لو ثبتوا لآتيناهم وليس مرادهم أنه جواب لسؤال مقدر لفظا ومعنى وإلا لم يكن لاقترانه بالواو وجه وإظهار لو ليس لأنها مقدرة بل لتحقيق أن ذلك جواب للشرط لكن بعد اعتبار جوابه الأول والمراد بالجواب في قولهم جميعا : إن إذا حرف جواب دائما أنها لاتكون في كلام مبتدأ بل هو في كلام مبنى على شىء تقدمه ملفوظ أو مقدر سواء كان شرطا أو كلام سائل أو نحوه كما أنه ليس المراد بالجزاء اللازم لها أوالغالب الا مايكون مجازاة لفعل فاعل سواء السائل وغيره وبهذا تندفع الشبه الموردة في هذا المقام وزعم الطيبى أن ماأشرنا اليه من التقدير تكلف من ثلاثة أوجه وهو توهم منشأه الغفلة عن المراد كالذى زعمه العلامة الثانى فتدبر ولهديناهم صراطا مستقيما
68
- وهو المراتب بعد الايمان التى تفتح أبوابها للعاملين فقد أخرج أبو نعيم فى الحيلة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم مالم يعلم وقال الجبائى : المعنى ولهديناهم فى الآخرة الى طريق الجنة ومن يطع الله بلانقياد لأمره ونهيه والرسول المبلغ مأوحى اليه منه باتباع شريعته والرضا بحكمه والكلام مستأنف فيه فضل ترغيب فى الطاعة ومزيد تشويق اليها ببيان أن نتيجتها أقصى ماتنتهى اليه همم الامم وأرفع ماتمتد اليه أعناق أمانيهم وتشرأب اليه أعين عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقدارا وأرفعهم منارا ومتضمن لتفسير ماأبهم وتفصيل ماأجمل فى جواب الشرطية السابقة ومن شرطية وإفراد ضمير يطع مراعاة للفظ والجمع فى قوله سبحانه : فأولك مراعاة للمعنى أى فالمطيعون الذين علت درجتهم وبعدت منزلتهم شرفا وفضلا
مع الذين أنعم الله عليهم بما تقصر العبارة عن تفصيله وبيانه من النبيين بيان للمنعم عليهم فهو حال إما من الذين أى مقارنيهم حال كونهم من النبيين وإما من ضميره والتعرض لمعية الانبياء دون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة مع أن الكلام في بيان حكم طاعته عليه الصلاة و السلام لجريان ذكرهم فى سبب النزول مع الاشارة الى أن طاعته متضمنة لطاعتهم أخرج الطبرانى وأبو نعيم والضياء المقدسى وحسنه قال : جاء رجل الى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يارسول الله إنك لأحب الى من نفسى وإنك لاحب إلى من ولدى وإنى لأكون فى البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتى فأنظر اليك وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإنى إذا دخلت الجنة خشيب أن لاأراك فلم يرد عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية ومن يطع الله الخ وروى مثله عن ابن عباس
وقال الكلبي : إن ثوبان مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان شديد الحب له عليه الصلاة و السلام قليل الصبر عنه وقد نحل جسمه وتغير لونه خوف عدم رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الموت فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وعن مسروق إن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالوا : ماينبغى أن نفارقك في الدنيا فانك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فنزلت وبدأ بذكر النبيين لعلو درجته وارتفاعهم على من عداهم وقد نقل الشعرانى عن مولانا الشيخ الاكبر قدس سره أنهقال : فتح لى قدر خرم ابرة من مقام النبوة تجليا لادخولا فكدت أحترق ثم عطف عليهم على سبيل التدلى قوله سبحانه : والصدقين والشهداء والصالحين فالمنازل أربعة بعضها دون بعض : الأول منازل الانبياء وهم الذين تمدهم قوة
(5/75)
إلهية وتصحبهم نفس فى أعلى مراتب القدسية ومثلهم كمن يرى الشىء عيانا من قريب ولذلك قال تعالى فى صفة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم : أفتمارونه على مايرى والثانى منازل الصديقين وهم الذين يتأخرون على الأنبياء عليهم السلام فى المعرفة ومثلهم كمن يرى الشىء عيانا من بعيد وإياه عنى على كرم الله وجهه حيث قيل له : هل رأيت الله تعالى فقال : ماكنت لأعبد ربا لم أره ثم قال لم تره العيون بشواهد العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان والثالث منازل الشهداء وهم الذين الشىء بالبراهين ومثلهم كمن يرى الشىء فى المرآة من مكان قريب كحال من قال : كأنى أنظر الى عرش ربى بارزا وإياه قصد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله : اعبد الله كأنك تراه والرابع منازل الصالحين وهم الذين يعلمون الشىء بالتقليد الجازم ومثلهم كمن يرى الشىء من بعيد فى مرآة وإياه قصد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله : فان لم تكن تراه فانه يراك قاله الراغب ونقله الطيبى وغيره ونقل بعض تلامذة مولانا الشيخ خالد النقشبندي قدس سره أنه قرر يوما أن مراتب الكمل أربعة : نبوة وقطب مدارها نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ثم صديقية وقطب مداراها أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه ثم شهادة وقطب مدارها عمر الفاروق رضى الله تعالى عنه ثم ولاية وقطب مدارها على كرم الله تعالى وجهه وأن الصلاح فى الآية إشارة الى الولاية فسأله بعض الحاضرين عن عثمان رضي الله تعالى عنه في أي مرتبة هو من مراتب الثلاثة بعد النبوة فقال : ان رضى الله تعالى عنه قد نال حظا من رتبة الشهادة وحظا من رتبة الولاية وأن معنى كونه ذا النورين هو ذلك عند العارفين انتهى
وأنا مستعينا بالله تعالى ومستمدا من القوم قدس الله تعالى أسرارهم أقول : ان الولاية هى المحيطة العامة والفلك والدائرة الكبرى وأن الولى من كان على بينة من ربه فى حاله فعرف ماله باخبار الحق إياه على الوجه الذي يقع به التصديق عنده ويصدق على أصناف كثيرة إلا أن المذكور منها فى هذه الآية أربعة : الصنف الأول الأنبياء والمراد بهم هنا الرسل أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا أعنى بطريق الوجوب عليهم ولابحث لأهل الله تعالى عن مقاماتهم وأحوالهم إذ لاذوق لهم فيها وكلهم معترفون بذلك غير أنهم يقولون : ان النبوة عامة وخاصة والتي لاذوق لهم فيها هى الخاصة أعنى نبوة التشريع وهى مقام خاص فى الولاية
وأما النبوة العامة فهي مستمرة سارية فى أكابر الرجال غير منقطعة دنيا وأخرى لكن باب الاطلاق قد أنسد وعلى هذا يخرج مارواه البدر التماسكى البغدادى عن الشيخ بشير عن القطب عبد القادر الجيلى قدس سره أنه قال : معاشر الانبياء أوتيتم اللقب وأوتينا مالم تؤتوا فان معنى قوله أوتيتم اللقب أنه حجر علينا اطلاق لفظ النبى وإن كانت النبوة العامة أبدية وقوله : وأوتينا مالم تؤتو على حد قول الخضر لموسى عليه السلام وهو أفضل منه يا موسى أنا على علمنيه الله تعالى لاتعلمه أنت وهذا وجه آخر غير ماأسلفناه من قبل توجيه هذا الكلام
والصنف الثانى الصديقون وهم المؤمنون بالله تعالى ورسله عن قول المخبر لاعن دليل سوى النور الايمانى الذي أعد فى قلوبهم قبل وجود المصدق به المانع لها من تردد أوشك يدخلها فى قول المخبر الرسول ومتعلقه فى الحقيقة الإيمان بالرسول يكون الايمان بالله تعالى على وجهة القربة لا على إثباته إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق جل وعلا ضرورة أو نظرا لكن ثبت ماكونه قربة وليس بين النبوة والصديقية كما قال حجة الاسلام وغيره مقام ومن تخطى رقاب الصديقين وقع فى النبوة وهى باب مغلق وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره مقاما بينهما سماه مقام القربة وهو السر الذي وقر في قلب أبى بكر رضى الله تعالى عنه المشار اليه فى الحديث فليس بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأبى بكر رضي الله تعالى عنه رجل أصلا لاأنه ليس بين الصديقية والنبوة
(5/76)
مقام ولها أجزاء على عدد شعب الايمان وفسرها بعضهم بأنه نور أخضر بين نورين يحصل به شهود عين ماجاء به المخبر من خلف حجاب الغيب بنور الكرم وبين ذلك بما يطول
والصنف الثالث الشهداء تولاهم الله تعالى بالشهادة وجعلهم من المقربين وهم من أهل الحضور مع الله تعالى على بساط العلم به فقد قال سبحانه : شهد الله أنه لاإاله إلا هو والملائكة وألو العلم فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة فهم موحدون عن حضور إلهى وعناية أزلية فان بعث الله تعالى رسولا وآمنو به فهم المؤمنون العلماء ولهم الأجر التام يوم القيامة وإلا فليس هم الشهداء المنعم عليهم وإيمانهم بعد العلم بما قاله الله سبحانه : ان ذلك قربة اليه من حيث قاله الله سبحانه أو قاله الرسول الذي جاء من عنده فقدم الصديق على الشهيد وجعل بإزاء النبى فانه لاواسطة بينهما لاتصال نور الايمان بنور الرسالة والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث هو شاهد الله تعالى بتوحيده لا من حيث هو رسول فلا يصح ان يكون بعده مع المساوقة لئلا تبطل ولا أن يكون معه لكونه رسولا والشاهد ليس به فلا بد أن يتأخر فلم يبق إلا أن يكون فى الرتبة التى تلى الصديقية فان الصديق أتم نورا منه فى الصديقية لانه صديق من وجهين : وجه التوحيد ووجه القربة والشهيد من وجه القربة خاصة لأن توحيده عن علم لا عن إيمان فنزل عن الصديق فى مرتبة الايمان وهو فوقه فى مرتبة العلم المتأخر برتبة الايمان والتصديق فانه لايصح من العالم أن يكون صديقا وقد تقدم العلم مرتبة الخبر فهو يعلم أنه صادق في توحيد الله تعالى إذا بلغ رسالة الله تعالى والصديق لم يعلم ذلك إلا بنور الايمان المعد في قلبه فعندما جاء الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر والصنف الرابع الصالحون تولاهم الله بالصلاح وهم الذين لايدخل في علمهم بالله تعالى ولاإيمانهم به وبما جاء من عتده سبحانه خلل فاذا دخله بطل كونه صالحا وكل من لم يدخله خلل في صديقته فهو صالح ولافى شهادته فهو صالح ولافى توبته فهو صالح ولكل أحد أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه فى مقامه لأن الأمر اختصاص الهى وليس بذاتى فيجوز دخول الخلل فيه ويجوز رفعه فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين أي الذين لايدخل صلاحهم خلل فى زمان ما وقد ذكر انه مامن نبى الا وذكر أنه صالح أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا ومن هنا قيل : ان مرتبة الصلاح خصوص فى النبوة وقد تحصل لمن ليس بنبى ولاصديق ولا شهيد
هذا ماوقفت عليه من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم ولم أظفر بالتفصيل الذي ذكره مولانا الشيخ قدس سره فتدبر وقد ذكر اصحابنا الرسميون أن الصديق صيغة مبالغة كالسكير بمعنى المتقدم في التصديق المبالغ في الصدق والاخلاص في الأقوال والأفعال ويطلق على كل من افاضل أصحاب الانبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم كأبى بكر رضي الله تعالى عنه وأن الشهداء جمع شهيد والمراد الذين بذلوا أرواحهم فى طاعة الله تعالى واعلاء كلمته وهم المقتولون بسيف الكفار من المسلمين وقيل المرادبهم ههنا ماهو أعم من ذلك فعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه : قال يارسول الله من قتل في سبيل الله تعالى فقال : إن شهداء أمتى إذا لقليل من قتل فى سبيل الله تعالى فهو شهيد ومن مات في الطاعون فهو شهيد ومن مات مبطونا فهو شهيد وعد بعضهم الشهداء اكثر من ذلك بكثير وقيل الشهيد هو الذي يشهد لدين الله تعالى تارة بالحجة والبيان وأخرى
(5/77)
بالسيف والسنان وزعم النيسابوري أنه لايبعد أن يدخل كل هذه الامة في الشهداء لقوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس وليس بشىء كما لايخفى وأن المراد بالصالحين الصارفين أعمارهم فى طاعة الله تعالى وأموالهم في مرضاته سبحانه ويقال الصالح هو الذي صلحت حاله واستقامت طريقته
والمصلح هو الفاعل لما فيه الصلاح قال الطبرسى : ولذا يجوز أن يقال : مصلح في حق الله تعالى دون صالح وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة ولامطلق الاشتراك فى دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعدت المسافة بينهما وذكر غير واحد أنه لامانع أن يرفع الأدنى الى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له ثم يعود ولايرى أنه أرغد منه عيشا ولاأكمل لذة لئلا يكون حسرة فى قلبه وكذا لامانع أن ينحدر الأعلى الى منزلة الأدنى ثم يعود من غير أن يرى ذلك نقصا في ملكه أو حطا من قدره
وقد ثبت في غير ما حديث أن أهل الجنة يتزاورون وادعى بعضهم أن لاتزاور مع رؤية كل واحد الآخر وذلك لأن عالم الانوار لاتمانع فيها ولاتدافع فينعكس بعضها على بعض كالمرايا المجلوة المتقابلة والى ذلك الاشارة الى قوله تعالى : اخوانا على سرر متقابلين وزعم أنه التحقيق وهو بعيد عنه وأبعد من ذلك بمراحل ماقيل : يحتمل أن يكون المراد أن معن ى كون المطيع مع هولاء أنه معهم فى سلوك طريق الآخرة فيكون مأمونا من قطاع الطريق محفوظ الطاعة عن النهب وحسن أولئك ذلك رفيقا أي صاحبا وهو مشتق من الرفق وهو لين الجانب واللطافة فى المعاشرة قولا وفعلا والاشارة يحتمل أن تكون الى النبيين ومن بعدهم ومافيها من معنى البعد لما مر مرارا ورفيقا حينئذ اما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفو بالحسن من جهة كونهم رفقاء للمطيعين أو حال كونهم رفقاء لهم ولم يجمع لأن فعيلا يستوى فيه الواحد وغيره أو أكتفاءا بالواحد عن الجمع فى باب التمييز لفهم المعنى وحسنه وقوعه في الفاصلة أو لانه بتأويل حسن كل واحد منهم أو لأنه قصد بيان الجنس مع قطع النظر عن الأنواع ويحتمل أن تكون الى من يطع والجمع على المعنى ف رفيقا حينئذ تمييز على معنى أنهم وصفوا بحسن الرفيق من الفرق الأربع لابنفس الحسن فلا يجوز دخول من عليه كما يجوز في الوجه الأول
واالجملة على الاحتمالين تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق وفى الكشاف فيه معنى التعجب كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجيب قرىء وحسن بسكون السين يقول المتعجب : حسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى وفي الصحاح يقال : حسن الشىء وان شئت خففت الضمة فقلت : حسن الشىء ولايجوز أن تنقل الضمة الى الحاء لأنه خبر وانما يجوز النقل اذا كان بمعنى المدح أو الذم لأنه يشبه فى جواز النقل بنعم وبئس وذلك أن الاصل فيهما نعم وبئس فسكن ثانيهما ونقلت حركته الى ماقبله وكذلك كل ماكان فى معناهما قال الشاعر : لم يمنع الناس منى ماأردت وما أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا أراد حسن ذا أدبا فخفف ونقل وأراد أنه لما نقل الى الإنشاء حسن أن يغير تنبيها على ماكان النقل وفي الارتشاف : ان فعل المحول ذهب الفارسى وأكثر النحويين الى الحاقة بباب نعم وبئس فقط وإجراء
(5/78)
أحكامه عليه وذهب الأخفش والمبرد الى الحاقة بباب التعجب وحكىالاخفش الاستعمالين عن العرب ويجوز فيه ضم العين وتسكينها ونقل حركتها الى الفاء وظاهره تغاير المذهبين وفي التسهيل انه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب وهو يقتضي أن لاتغاير بينهما واليه يميل كلام الشيخين فافهم والحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب إما عقلا أو هوى أو حسا وأكثر مايقال في متعارف العامة في المستحسن بالبصر وقد جاء في القرآن له وللمستحسن من جهة البصيرة ذلك اشارة الى ماثبت للمطيعين من جميع ماتقدم أو الى مافضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم وهو مبتدأ وقوله سبحانه : الفضل صفة وقوله تعالى : من الله خبره أى ذلك الفضل العظيم كائن من الله تعالى لا من غيره وجوز أبو البقاء أن يكون الفضل هو الخبر و من الله متعلق بمحذوف وقع حالا منه والعامل فيه معنى الاشارة ويجوز ان يكون خبرا ثانيا أي ذلك الذي ذكر الفضل كائنا أو كائن من الله تعالى لاأن أعمال العباد توجبه وكفى بالله عليما
70
- بثواب من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله بمقتضى الوعد فثقوا بما أخبركم به ولاينئك مثل خبير
وقيل : وكفى به سبحانه عليما بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لايصلح ياايها الذين امنوا خذوا حذركم أي عدتكم من السلاح قاله مقاتل وهو المروى عن أبي جعفر رضر الله تعالى عنه وقيل : الحذر مصدر كالحذر وهو الاحتراز عما يخاف فهناك الكناية والتخييل بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية وليس الأخذ مجازا ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في قوله سبحانه : وليأخذو حذرهم وأسلحتهم اذ التجوز في الايقاع وقد صرح المحققون بجواز الجمع فيه والمعنى استعدوا فيه لاعدائكم أو تيقظوا واحترزوا منهم ولاتمكنوهم من أنفسكم فانفروا بكسر الفاء وقرىء بضمها أى اخرجوا الى قتال عدوكم والجهاد معه عند خروجكم وأصل معنى النفر الفزع كالنفرة ثم استعمل فيما ذكر ثبات جمع ثبة وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة وقيل : فوق الاثنين وقد تطلق على غير الرجال ومنه قول عمرو بن كلثوم : فأما يوم خشيتنا عليهم فتصبح خيلنا عصبا ثباتا ووزنها في الاصل فعلة كحطمة حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث وهل هي واو من ثبا يثبوا كعدى يعدو أي اجتمع أو ياء من ثبيت على فلان بمعنى أثنيت عليه بذكر محاسنه وجمعها قولان وثبة الحوض وسطه واوية وهي من ثاب يثوب اذا رجع وقد جمع جمع المؤنث وأعرب اعرابه على اللغة الفصيحة وفي لغة ينصب بالفتح وقد جمع أيضا جمع المذكر السالم فيقال : ثبون وقد اطرد ذلك فيما حذف آخره ان لم يستوف الشروط جبرا له وفي ثائه حينئذ لغتان : الضم والكسر والجمع هنا موضع الحال أي انفروا جماعات متفرقة جماعة بعد جماعة أو أنفروا جميعا
71
- أي مجتمعين جماعة واحدة ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة وللقطعة النتخبة المقتطعة منه سرية وعن بعضهم أنها التي تخرج ليلا وتعود اليه وهي مائة الى خمسمائة أو من خمسة أنفس الى ثلثمائة وأربعمائة ومازاد على السرية منسر كمجلس ومنبر الى الثمانمائة فان زاد يقال له : جيش الى اربعة آلاف فان زاد يسمى جحفلا ويسمى الجيش العظيم خميسا وماافترق من السرية بعثا وقد تطلق السرية على مطلق الجماعة والآية وان نزلت في الحرب لكن فيها اشارة الى الحث
(5/79)
على المبادرة الى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل فوات وان منكم ليبطئن أي ليتثاقلن وليتأخرن عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم إذا أبطأ والخطاب لعسكر رسول الله مؤمنيهم ومنافقيهم والمبطئون هم المنافقون منهم وجوز أن يكون منقولا لفظا ومعنى من بطؤ نحو ثقل من ثقل فيراد ليبطئن غيره وليثبطنه عن الجهاد كما ثبط ابن أبي ناسا يو أحد والانسب بمابعده واللام الاولى لام التأكيد التي تدخل على خبر ان أو اسمها إذا تأخر والثانية جواب قسم وقيل : زائدة وجملة القسم وجوابه صلة الموصول وهما كشىء واحد فلا يرد أنه لارابطة في جملة القسم كما لايراد أنها إنشائية فلاتقع صلة لأن المقصود الجواب وهو خبرى فيه عائد ولايحتاج الى تقدير أقسم على صيغة الماضي ليعود ضميره الى المبطىء بل هو خلاف الظاهر
وجوز في من أن تكون موصوفة والكلام في الصفة كالكلام في الصلة وهذه الجملة قيل : عطف على خذوا حذركم عطف القصة على القصة وقيل انها معترضة الى قوله سبحانه : فليقاتل وهو عطف على خذوا وقرىء ليبطئن بالتخفيف فان أصابتكم مصيبة من العدو كقتل وهزيمة قال أي المبطىء فرحا بما فعل وحامدا لرأيه قد أنعم الله على بالقعود اذ لم أكن معهم شهيدا
72
- حاضرا معهم في المعركة فيصيبنى مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة وقيل يحتمل أن يكون المعنى اذ لم أكن مع شهدائهم شهيدا أو لم أكن معهم في معرض الشهادة فالانعام هو النجاة عن القتل وخوفه عبر عنه بالشهادة تهكما ولايخفي بعده والفاء في الشرطية لترتيب مضمونها على ماقبلها فان ذكر التبطئة مستتبع لذكر مايترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشىء ينتظر المبطىء وقوعه ولئن أصابكم فضل كفتح وغنيمة من الله متعلق بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل وفي نسبة أضافة الفضل الى جانب الله تعالى دون اصابة المصيبة تعليم لحسن الادب مع الله تعالى وان كانت المصيبة فضلا في الحقيقة وتقديم الشرطية الاولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق وأثر نفاقهم فيها أظهر ليقولن ندامة على تثبطه وتهالكا على حطام الدنيا وحسرة على فواته وفي تأكيد القول دلالة على فرط التحسر المفهوم من الكلام ولم يؤكد القول الاول وأتى بعه ماضيا اما لأنه لتحققه غير محتاج الى التأكيد او لأن العدول عن المضارع للماضي تأكيد وقرأ الحسن ليقولن : بضم اللام مراعاة لمعنى من وذلك شائع سائغ وقوله تعالى : كأن لم تكن بينكم وبينه مودة من كلامه تعالى اعتراض بين القول ومقوله الذي هو
ياليتني كنت معهم فافوز فوزا عظيما
73
- لئلا يتوهم من مطلع كلامه أن تمنيه المعية للنصرة والمظاهرة حسبما يقتضيه مافي البين من المودة بل هو للحرص على حطام الدنيا كما ينطق به آخره فان الفوز العظيم الذي عناه هو ذلك وليس اثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم وقيل : الجملة التشبيهية حال من ضميره يقولن أى ليقولن : مشبها بمن لامودة بينكم وبينه حيث لم يتمن نصرتكم ومظاهرتكم وقيل : هي من كلام المبطىء داخلة كجملة التمني في القول أى ليقولن المبطىء لمن يثبطه من المنافقين وضعفة من المؤمنين كأن لم تكن بينك وبين محمد مودة حيث لم يستصحبكم معه في الغزو حتى تفوزوا به المستصحبون ياليتني كنت معهم الخ وغرضه القاء العداوة
(5/80)
بينهم وبين رسول الله وتأكيدها والى ذلك ذهب الجبائي وذهب أبو علي الفارسي والزجاج وتبعه الماتريدي الى أنها متصلة بالجملة الاولى أعنى قال : قد أنعم الخ أي قال : ذلك كأن لم يكن الخ ورده الراغب والأصفهاني بأنها كانت متصلة بالجملة الاولى فكيف يفصل بها بين أبعاض الجملة الثانية ومثله مستقبح واعتذر بأن مرادهم أنها معترضة بين أجزاء هذه الجملة ومعناها صريحا متعلق بالاولى وضمنا بهذه و كأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف : انها لاتعمل اذا خففت
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب تكن بالتاء لتأنيث لفظ المودة والباقون يكن بالياء للفصل ولأنها بمعنى الود والمنادي في ياليتنى عند الجمهور محذوف أي ياقومي وأبوعلي يقول في نحو هذا : ليس في الكلام منادى محذوف بل تدخل يا خاصة على الفعل والحرف لمجرد التنبيه ونصب أفوز على جواب التمني وعن يزيد النحوي والحسن فأفوز بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت أو العطف على خبر ليت فيكون داخلا في التمني فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة الموصول فاعل الفعل وقدم المفعول الغير الصريح عليه للاهتمام به و يشرون مضارع شرى ويكون بمعنى باع واشترى من الأضداد فان كان بمعنى يشترون فالمراد من الموصول المنافقون أمروا بترك النفاق والمجاهدة مع المؤمنين والفاء للتعقيب أي ينبغي بعد ماصدر منهم من التثبيط والنفاق تركه وتدارك مافات من الجهاد بعد وان كان بمعنى يبيعون فالمراد منه المؤمنون الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة امروا بالثبات على القتال وعدم الالتفات الى تثبيط المبطئين والفاء جواب شرط مقدر أي ان صدهم المنافقون فليقاتلوا ولايبالوا
ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلفب فسوف نؤتيه ولابد وفي الالتفات مزيد التفات اجرا عظيما
74
- لايكاد يعلم كمية وكيفية وفي تعقيب القتال بما ذكر تنبيه على أن المجاهد ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين إما إكرام نفسه بالقتل والشهادة أو اعزاز الدين واعلاء كلمة الله تعالى بالنصر ولايحدث نفسه بالهرب بوجه ولذا لم يقل : فيغلب أو يغلب وتقديم القتل للايذان بتقدمه في استتباع الأجر وفي الآية تكذيب للمبطىء بقوله : قد أنعم الله الخ ومالكم خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في الحث والتحريض عليه وهو المقصود من الاستفهام و ما مبتدأ و لكم خبره وقوله تعالى : لاتقاتلون في سبيل الله في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار أو الظرف لتضمنه معنى الفعل أى أى شىء لم غبر مقاتلين والمراد لاعذر لكم في ترك المقاتلة والمستضعفين اما عطف على الاسم الجليل أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن الاسر وصونهم عن العدو وهو المروى عن ابن شهاب واستبعد بأن تخليصهم سبيل الله تعالى لاسبيلهم وفيه أنه وان كان سبيل الله عز اسمه له نوع اختصاص بهم فلامانع من اضافته اليهم : واحتمال ان يراد بالمقاتلة في سبيلهم المقاتلة في فتح طريق مكة الى المدينة ودفع سد المشركين اياه ليتهيأ خروج المستضعفين مستضعف جدا وإما عطف على سبيل بحذف مضاف واليه ذهب المبرد أي وفي خلاص المستضعفين ويجوزنصبه بتقدير أعنى أو أخص فان سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير وتخليص المستضعفين من أيدي المشركين من أعظمها وأخصها ومعنلى المستضعفين الذين طلب المشركون ضعفهم وذلهم أو الضعفاء منهم والسين للمبالغة من الرجال والنساء والولدان بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين
(5/81)
بقوا بمكة لمنع المشركين لهم من الخروج أو ضعفهم عن الهجرة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كنت وأنا وأمي من المستضعفين وقد ذكر منهم سلمة بن هشام والوليد بن الوليد وأبا جندل بن سهيل وانما ذكر الولدان تكميلا للاستعطاف والتنبيه على تناهي ظلم المشركين والايذان باجابة الدعاء الآتي واقتراب زمان الخلاص وفي ذلك مبالغة في الحث على القتال
ومن ها يعلم ان الآية لاتصلح هنا دليلا على صحة اسلام الصبي بناءا على انه لولا ذلك لما وجب تخليصهم على ان في انحصار وجوب التخليص في المسلم نظرا لان صبي المسلم يتوقع اسلامه فلا يبعد وجوب تخليصه لينال مرتبة السعداء وقيل : المراد بالوالدان العبيد والاماء وهو على الأول جم وليد ووليدة بمعنى صبي وصبية وقيل : انه جمع ولد كورل وورلال وعلى الثاني كذلك أيضا إلا ان الوليد والوليدة بمعنى العبد والجارية
وفي الصحاح : الوليد الصبي والعبد والجمع ولدان والوليدة الصبية والامة والجمع ولائد فالتعبير فالتعبير بالولدان على طريق التغليب ليشمل الذكور والاناث الذين في محل جر على أنه صفة للمستضعفين أو لما في حيز البيان وجوز أن نصبا بأضمار فعل أى أعنى أو أخص الذين
يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها بالشرك الذي هو ظلم عظيم وبأذية المؤمنين ومنعهم عن الهجرة والوصف صفة قرية وتذكيره لتذكير ماأسند اليه فان اسم الفاعل والمفعول إذا أجرى على غير من هو له فتذكيره وتأنيثه على حسب الاسم الظاهر الذي عمل فيه ولم ينسب الظلم اليها مجازا كما في قوله تعالى : وكأين من قرية بطرت معيشتها وقوله سبحانه ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة الى قوله عز و جل : فكفرت بأنعم الله لأن المراد بها مكة كما قال ابن عباس والحسن والسدى وغيرهم فوقرت عن نسبة الظلم اليها تشريفا لها شرفها الله تعالى واجعل لنا من لدنك وليا يلي أمرنا حتى يخلصنا من أيدي الظلمة وكلا الجارين متعلق باجعل لاختلاف معنيهما وتقديمهما على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وابراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله وتقديم اللام على من للمسارعة الى إبراز كون المسئول نافعا لهم مرغوبا فيه لديهم وجوز أن يكون من لدنك متعلقا بمحذوف وقع حالا من وليا وكذا الكلام في قوله تعالى : واجعل لنا من لدنك نصيرا
75
- أي حجة ثابتة قاله عكرمة ومجاهد وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : المراد ول علينا واليا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا ولقد استجاب الله تعالى شأنه دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج الى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير ولى وأعز ناصر ففتح مكة على يدي نبيه فتولاهم أي تول ونصرهم أي نصرة ثم استعمل عليهم عتاب ابن أسيد وكان ابن ثماني عشرة سنة فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها وقيل المراد اجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أي كن أنت ولينا وناصرنا وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة في التضرع والابتهال هذا
ومن باب الاشارة في الآيات إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الى أهلها أمر للعارفين أن يظهروا ما كشفوا به من الأسرار الآلهية لأمثالهم ويكتموا ذلك عن الجاهلين أو أن يؤدوا حق كل ذي حق اليه فيعطوا الاستعداد حقه وألقوا حقها وآخر الامانات أداء أمانة الوجود فليؤده العبد الى سيده سبحانه وليفن فيه عز و جل وإذا حكمتم بين الناس بالارشاد ولايكون الابعد الفناء والرجوع الى البقاء فاحكموا بالعدل وهو الاضافة حسب الاستعداد ياأيها الذين أمنوا أطيوا الله بتطهير كعبة تجليه وهو القلب
(5/82)
عن أصنام السوى وأطيعوا الرسول بالمجاههدة واتعاب البدن بأداء رسوم العبادة التي شرعها لكم وأولى الامر منكم وهم المشايخ المرشدون بامتثال أمرهم فيما يرونه صلاحا لكم وتهذيبا لأ خلاقكم
وربما : يقال انه سبحانه جعل الطاعة على ثلاث مراتب وهي في الاصل ترجع الى واحدة : فمن كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة كالقائل أخذتم علمكم ميتا عن ميت ونحن أخذناه من الحي الذي لايموت فليطلع الله تعالى بمراده وليتمثل مافهمه منه ومن لم يبلغ هذه الدرجة فليرجع الى بيان الواسطة العظمى وهو الرسول إن فهم بيانه أو استطاع الأخذ منه كبعض أهل الله تعالى تعالى وليطعه فيما أمر ونهى ومن لم يبلغ الى هذه الدرجة فليرجع الى أكابر علماء الامة وليتقيد بمذهب من المذاهب وليقف عنده في الاوامر والنواهي فان تنازعتم في شىء أنتم والمشايخ وذلك في مبادى السلوك حيث النفس قوية فردوه الى الله تعالى والرسول فارجعوا الى الكتاب والسنة فان فيهما مايزيل النزاع عبارة أو إشارة أو إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابهة وظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا الى خطاب الله تعالى ورسوله فان فيه بحار علوم الحقائق فكل خاطر لايوافق خطاب الله تعالى ورسوله فهو مردود ألم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك من علم التوحيد وما أنزل من قبلك من علم المبدأ والمعاد يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وهو النفس الأمارة الحاكمة بما تؤدي اليه أفكارها الغير المستندة إلى الكتاب والسنة وقد أمروا أن يكفروا به ويخالفوه إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربى ويريد الشيطان وهو الطاغوت أن يضلهم ضلالا بعيدا وهو الانحراف عن الحق فكيف إذا أصابتهم مصيبة وهي مصيبة التحير وفقد الطريق الموصل بما قدمت أيديهم من تقديم أفكارهم الفاسدة وعدم رجوعهم اليك ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا بأنفسنا لتمرنها عل التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عبارتك واشارتك وتوفيقا أي جمعا بين العقل والنقل أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم ولم نرد مخالفتك أولئك الذين يعلم الله مافي قلوبهم من رين الشكوك فيجازيهم على ذلك يوم القيامة فأعرض عنهم ولاتقبل عذرهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا مؤثرا ليرتدعوا أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم باشتغالهم بحظوظها جاءوك فاستغفروا الله طلبوا منه ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الافعال واستغفر لهم الرسول بإمداده اياهم بأنوار صفاته لو وجدوا الله توابا رحميا مطهرا لنفوسهم مفيضا عليها الكمال اللائق بها
وقال ابن عطاء في هذه الآية : أي لوجعلوك الوسيلة لدى لوصلوا الى فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قال بعضهم : أظهر الله في هذه الآية على حبيبه خلعة من خاع الربوبية فجعل الرضا بحكمه ساء أم ستر سببا لأيمان المؤمنين كما جعل الرضا بقضائه سببا لايقان الموقنين فأسقط عنهم أسم الواسطة لأنه متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه ألا ترى كيف قال حسان : وشق له من اسمه ليجعله فذو العرش محمود وهذا محمد وقال آخرون : سد سبحانه الطريق الى نفسه على الكافة الا بعد الايمان بحبيبه فمن لم يمش تحت قبابه فليس من الله تعالى في شىء ثم جعل جل شأنه من شرط الايمان زوال المعارضة
(5/83)
بالكلية فلابد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راضى ووجه ضاحك ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم بسيف المجاهدة لتحي حياة طيبة أو اخرجوا من دياركم وهي الملاذ التي ركنتم اليها وخيمتم فيها وعكفتم عليها أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكل مثلا مافعلوه إلا قليلا منهم وهم أهل التوفيق والهمم العالية وأيد الاحتمال الثاني بما حكى عن بعض العارفين أنه سئل ابراهيم بن أدهم عن حاله فقال ابراهيم : أدور في الصحارى وأطوف في البراري حيث لاماء ولاشجر ولاروض ولامطر فهل يصح حالي في التوكل فقال له : اذا أفنيت عمرك في عمران بطنك فأين الفناء في التوحيد ولو أنهم فعلوا مايوعظون به لكان خيرا لهم لما فيه من الحياة الطيبة وأشد تثبيتا بالاستقامة بالدين واذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما وهو كشف الجمال ولهديناهم صراطا مستقيما وهو التوحيد ومن يطع الله والرسول قأولئك مع الذين أنعم الله عليهم بما لايدخل في حيطة الفكر من النبيين أرباب التشريع الذين ارتفعوا قدرا فلا يدرك شأواهم والصديقين الذين قادهم نورهم الى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك فصدقوا بما جاء به الرسول من غير دليل ولاتوقف والشهداء أهل الحضور والصالحين أهل الاستقامة في الدين يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم من أنفسكم فانها أعدى أعدائكم فانفروا ثبات اسلكوا في سبيل الله جماعات كل فرقة على طريق شيخ كامل أو انفروا جميعا في طريق التوحيد والاسلام واتبعوا أفعال رسول اله وتخلقوا بأخلاقه وان منكم لمن يبطئن أ ي ليبطئن المجاهدين المرتاضين فان أصابتك مصيبة شدة في السير قال قد أنعم الله على حيث لم أفعل كما فعلوا ولئن أصابكم فضل من الله مواهب غيبية وعلوم لدنية ومراتب سنية وقبول عند الخواص والعوام ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة أي حسدا لكم ياليتني كنت معهم فأفوز دونهم فوزا عظيما وأنال ذلك وحدي ومن يقاتل نفسه في سبيل الله فيقتل بسيف الصدق أو يغلب عليها بالظفر لتسلم على يده فسوف نؤتيه أجرا عظيما وهو الوصول الينا ومالكم لاتقاتلون في سبيل الله وخلاص المستضعفين من الرجال العقول والنساء الارواح والولدان القوى الروحانية الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية وهي قرية البدن الظالم أهلها وهي النفس الامارة واجعل لنا من لدنك نصيرا ينصرنا على من ظلمنا وهو الفيض الأقدس نسأل الله تهالى ذلك بمنه وكرمه
الذين امنوا يقاتلون في سبيل الله كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله تعالى الموصل اليهم عز و جل وفي أعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لامحالة
والذين كفروا يقتلون في سبيل الطاغوت فيما يبلغ الى الشيطان وهو الكفر فلا ناصر لهم سواه فقاتلوا ياأولياء الله تعالى إذا كان الامر كذلك
أولياء الشيطان
جميع الكفار فانكم تغلوبنهم فانكم
ان كيد الشيطان كان ضعيفا
في حد ذاته فكيف بالقياس الى قدرة الله تعالى الذين يقاتلون في سبيله وهو سبحانه وليكم ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى ايذانا بظهورها وفائدة كان التأكيد ببيان أن كيده مذ كان ضعيف وقيل : هي بمعنى صار أي صار ضعيفا بالاسلام وقيل : انها زائدة وليس بشىء
(5/84)
ألم ترى الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم نزلت كما قال الكلبى في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد ابن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحى وسعد بن أبى وقاص كان يلقون من المشركين أذى شديدا وهم بمكة قبل الهجرة فيشكون الى رسول الله ويقولون : ائذن لنا يارسول الله في قتال هؤلاء فانهم قد آذونا والنبي يقول : كفوا أيديكم وامسكوا عن القتال فاني لم أومر بذلك وفي رواية : اني امرت بالعفو
وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة
واشتغلوا بما أمرتم به ولعل أمرهم باقامة الصلاة وايتاء الزكاة تنيها على أن الجهاد مع النفس مقدم ومالم يتمكن المسلم في الانقياد لامر الله تعالى بالجود بالمال لايكاد يتأتى منه الجود بالنفس والجود بالنفس أقصى غاية الجود وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار اليه في صدر الكلام انما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجو الى النهي عنه وانما ذكر في حين الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض وقيل : للايذان بكون ذلك بأمر الله تعالى فلما كتب عليهم القتال وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول الله الى المدينة اذا فريق منهم يخشون الناس أى الكفار أن يقتلوهم وذلك ركز في طباع البشر من خوف الهلاك كخشية الله أي كما يخشون الله تعالى أن ينزل عليهم بأسه والفاء عاطفة وما بعدها عطف على قيل لهم كفوا أيديكم باعتبار معناه الكنائي اذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولى المعطوفين وعليه يدور أمر التعجب كأنه قيل : ألم ترى الى الذين كانواحراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه بمقتضى البشرية جماعة منهم وتوجيه التعجيب الى الكل من أن تلك الكراهة انما كانت من البعض للايذان بأنه ماكان ينبغي أن يصدر من أحدهم ماينافي حالته الأولى و اذا للمفاجأة وهي ظرف مكان وقيل : زمان وليس بشىء وفيها تأكيد لأمر التعجيب و فريق مبتدأ و منهم صفته و يخشون خبره وجوز أن يكون صفة أيضا أو حالا والخبر اذا و كخشية الله في موقع المصدر أي خشية كخشية الله وجوز أن يكون حالا من فاعل يخشون ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية الله تعالى أي مشبهين بأهل خشيته سبحانه وقيل وفيه بعد انه حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية الله أوأشد خشية عطف عليه ان جعلته حالا أي أنهم أشد خشية من أهل خشية الله بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم ولايعطف عليه على تقدير المصدرية على ماقيل بناءا على أن خشية منصوب على التمييز وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلا للموصوف بأفعل التفضيل فيصير المعنى إن خشيتهم أشد من خشية غيرهم ويؤل الى أن خشية خشيتهم أشد وهو غير مستقيم اللهم إلا على طريقة جد جده على ماذهب عليه أبو علي وابن جني ويكون كقولك : زيد جد جدا بنصب جدا على التمييز لكنه بعيد بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه والمعنى يخشون الناس خشية كخشية الله أو خشية كخشية أشد خشية منه تعالى ولكن على سبيل الفرض اذ لاأشد خشية عند المؤمنين من الله تعالى ويؤل هذا الى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات اذا فصلت واحدة واحدة وذكر ابن الحاجب أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل أي يخشون الناس كخشية
(5/85)
الناس أو يخشون أشد خشية على أن الاول مصدر والثاني حال وقيل عليه : ان حذف المضاف أهون من حذف الجملة وأوفى بمقتضى المقابلة وحسن المطابقة وجوز أن يكون خشية منصوبا على المصدرية و أشد صفة لما قدمت عليه فانتصب على الحالية وذكر بعضهم أن التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ماانتصب عنه نحو الله خير حافظا فان الحافظ هو الله تعالى كما لوقلت : الله خير حافظ بالجر وحينئذ لامانع من أن تكون الخشية نفس الموصوف ولايلزم أن يكون للخشية خشية بمنزلة أن يقال : أشد خشية بالجر والقول بأن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم واللفظ محل نظر محل نظر إذ اتحاد اللفظ مع حذف الأول ليس فيه كبير محذوف
وهذا ايراد قوي على ماقيل وقد نقل ابن المنير عن الكتاب مايعضده فتأمل و أو قيل للتنويع وقيل للابهام على السامع وقيل : للتخبير وقيل : بمعنى الواو وقيل بمعنى بل وقالوا عطف على جواب لما أى فلما كتب عليهم القتال فاجأ بعضهم بألسنتهم أو بقلوبهم وحكاه الله تعالى عنهم على سبيل تمني التخفيف لا الاعتراض على حكمه تعالى والانكار لايجابه ولذا لم يوبخوا عليه ربنا لم كتبت علينا القتال في هذا الوقت لو أخرتنا الى أجل قريب وهو الأجل المقدر ووصف بالقريب للاستعطاف أى أنه قليل لايمنع من مثله والجملة كالبيان لما قبلها ولذا لم تعطف عليه وقيل : إنما لم تعطف عليه للإيذان بانهما مقولان مستقلان لهم فتارة قالوا الجملة الاولى وتارة الجملة الثانية ولو عطفت لتبادر أنهم قالوا مجموع الكلامين بعطف الثانية على الاولى قل أي تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود عن القتال والتأخير الى الأجل المقدر من المتاع الفاني وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي متاع الدنيا أي جميع مايستمتع به وينتفع في الدنيا قليل في نفسه سريع الزوال وهو أقل قليل بالنسبة الى مافي الآخرة والآخرة أي ثوابها المنوط بالاعمال التي من جملتها القتال خير لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات وفي اختلاف الأسلوب مالايخفى وانما قال سبحانه : لمن اتقى حثا لهم وترغيبا على الاتقاء والاخلال بموجب التكليف وقيل : المراد أن نفس الآخرة خير ولكن للمتقين لأن الكافر والعاصي هنالك نيرانا وأهوالا ولذا قيل الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ولايخفى أن الاول أنسب بالسياق ولاتظلمون فتيلا عطف على مقدر أى تجزون فيها ولاتبخسون هذا المقدار اليسير ضلا عما زاد من ثواب أعمالكم فلا ترغبوا عن القتال الذي هو من غرورها وقرأ ابن كثير وكثير ولايظلمون بالياء اعادة للضمير الى ظاهره من
أينما تكونوا يدرككم الموت يحتمل ان يكون ابتداء كلام مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن سيد المخاطبين من ذكر أولا اعتناءا بالزامهم اثر بيان حقارة الدنيا وفخامة الآخرة بواسطته فلا محل للجملة من الاعراب ويحتمل ان تكون داخلا في حين القول المأمور به فمحل الجملة النصب وجعل غير واحد ماتقدم جوابا للجملة الاولى من قولهم وهذا جوابا للثانية منه فكأنه لما قالوا : لم كتبت علينا القتال أجيبوا ببيان الحكمة بأنه كتب عليكم ليكثر تمتعكم ويعظم نفعكم لأنه يوجب تمتع الآخرة ولما قالوا : لولا أخرتنا الخ أجيبوا بأنه أينما تكونوا في السفر أو في الحضر يدرككم الموت لأن لآجل مقدر
(5/86)
فلا يمنع عنه الخروج الى القتال وفي التعبير بالادراك إشعار بأن القوم لشدة تباعدهم عن أسباب الموت وقرب وقت حلوله اليهم بممر الانفاس والآنات كأنهم في الهرب منه وهو مجد في طلبهم لايفتر نفسا واحدا في التوجه اليهم وقرأ طلحة بن سليمان يدرككم بالرفع واختلف في تخريجه فقيل : إنه على حذف الفاء كما في قوله على ما أنشده سيبويه : من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان وظاهر كلام الكشاف الاكتفاء بتقدير الفاء وقدر بعضهم مبتدأ معها أى فأنتم يدرككم وقيل : هو مؤخر من تقديم وجواب الشرط محذوف أى يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم واعترض بأن هذا انما يحسن فيما إذا كان ماقبله طالبا له كما في قوله : يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع أو فيما إذا لم تكن الأداة اسم شرط وأجيب بأن الشرط الاول وإن نقل عن سيبويه إلا أنه نقل عنه أيضا الاطلاق والشرط الثاني لم يعول عليه المحققون وقيل : إن الرفع على توهم كون الشرط ماضيا فانه حينئذ لايجب ظهور الجزم في الجواب لأن الاداة لما لم يظهر أثرها في القريب لم يجب ظهوره في البعيد وماقيل عليه من أن الشرط ماضيا والجزاء مضارعا انما يحسن في كلمة ان لقلبها الماضي الى معنى الاستقبال فلا يحسن أينما كنتم يدرككم الموت الا على حكاية الماضي وقصد الاستحضار فيه نظر نعم يرد عليه أن فيه تعسفا اذا لتوهم كما قال ابن المنير أن يكون مايتوهم هو الأصل أو مما كثر في الاستعمال حتى صار كالأصل وما توهم هنا ليس كذلك وقيل : إن يدرككم كلام مبتدأ و أينما تكونوا متصل ب لاتظلمون واعترض كما قال الشهاب : بأنه ليس بمستقيم معنى وصناعة أما الأول فلأنه لايناسب اتصاله بما قبله لأن لاتظلمون فتيلا المراد منه في الآخرة فلا يناسبه التعميم وأما الثاني فلأنه يلزم عليه عمل ماقبل اسم الشرط فيه وهو غير صحيح لصدارته وأجيب عن الاول بأنه لامانع من تعميم ولاتظلمون للدنيا والآخرة أو يكون المعنى لاينقصون شيئا من مدة الأجل المعلوم لامن الأجود وبه ينتظم الكلام وعن الثاني بأن المراد من الاتصال بما قبله كما قال الحلبي والسفاقسي اتصاله به معنى لاعملا على أن أينما تكنوا شرط جوابه محذوف تقديره لاتظلمون وماقبله دليل الجواب وأنت تعلم أن هذا التخريج وإن التزم الذب عنه بما ترى خلاف الظاهر المنساق الى الذهن وأولى التخريجات أنه على حذف الفاء وهو الذي اختاره المبرد والقول بأن الحذف ضرورة في حيز المنع ولو كنتم في بروج أي قصور قاله مجاهد وقتادة وابن جريج وعن السدى والربيع رضي الله تعالى عنهم أنها قصور في السماء الدنيا وقيل : المراد بها بروج السماء المعلومة وعن أبي على الجبائى انها البيوت التي فوق القصور وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : انها الحصون والقلاع وهي جمع ج وأصله من التبرج وهو الاظهار ومنه تبرجت المرأة اذا أظهرت حسنها مشيدة أي مطلية بالشيد وهو الجص قاله عكرمة أو مطولة بارتفاع قاله الزجاج فهو من شيد البناء اذا رفعه وقرأ مجاهد مشيدة بفتح الميم وتخفيف الياء كما في قوله تعالى : وقصر مشيد وقرأ أبو نعيم بن ميسرة مشيدة بكسر الياء على التجوز ك عيشة راضية وقصيدة شاعرة والجملة المعطوفة
(5/87)
على أخرى مثلها أى لو لم تكونوا في بروج ولو كنتم الخ وقد اطرد الحذف في مثل ذلك لوضوح الدلالة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك نزلت على ماروى عن الحسن وابن زيد في اليهود وذلك انهم كانوا قد بسط عليهم الرزق فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة فدعاهم الى الايمان فكفروا أمسك عنهم بعض الامساك فقالوا : مازلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل فالمعنى إن تصبهم نعمة أو رخاء نسبوها الى الله تعالى وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها اليك متشائمين كما حكي عن أسلافهم بقوله تعالى وان تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه والى هذا ذهب الزجاج والفراء والبلخي والجبائي وقيل نزلت في المنافقين ابن أبى وأصحابه الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد وقالوا للذين قتلوا لو كانوا عندنا ماماتوا وما قتلوا فالمعنى ان تصبهم غنيمة قالوا : هي من عند الله تعالى وان تصبهم هزيمة قالوا : هي من سوء تدبيرك وهو المروى عن ابن عباس وقتادة وقيل : نزلت فيمن تقدم وليس بالصحيح وصحح غير واحد أنها نزلت في اليهود والمنافقين جميعا لما تشاءموا من رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة وقحطوا وعلى هذا فالمتبادر من الحسنة والسيئة هنا النعمة والبلية وقد شاع استعمالها في الطاعة والمعصية والى هذا ذهب كثير من المحققين وأيد باسناد الاصابة اليهما بل جعله صاحب الكشف دليلا بينا عليه وبأنه أنسب بالمقام لذكر الموت والسلامة قبل وقوله تعالى قل كل من عند الله أمر له صلى الله عليه و سلم بأن يرد زعمهم الباطل واعتقادهم الفاسد ويرشدهم إلى الحق ببيان إسناد الكل اليه تعالى على الإجمال أي كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقا وايجادا من غير ان يكون لي مدخل في قوع شىء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة كما سيأتي بيانه
وهذا الجواب المجمل في معنى ماقيل : ردا على أسلاف اليهود من قوله تعالى : إنما طائرهم عند الله أي إنما سبب خيرهم وشرهم عند الله تعالى لاعند غيره حتى يستند ذلك اليه ويطيروا به قاله شيخ الاسلام ومنه يعلم اندفاع ماقيل : ان القوم لم يعتقدوا أن النبي صلى الله عليه و سلم فاعل السيئة كما اعتقدوا أن الله تعالى فاعل الحسنة بل تشاءموا به وحاشاه عليه الصلاة و السلام فكيف يكون هذا ردا عليهم ولاحاجة الى ماأجاب به العلامة الثاني من أن الجواب ليس مجرد قوله تعالى : قل كل من عند الله بل هو الى قوله سبحانه : وما أصابك من سيئة الخ وقوله تعالى فمال هؤلاء القوم أي اليهود والمنافقين والمحتقرين لايكادون يفقهون أي يفهمون حديثا
78
- أي كلام يوعظون به وهو القرآن أو كلاما ما أو كل شىء حدث وقرب عهده كلام من قبله تعالى معترض بين المبين وبيانه مسوق لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم والفاء لترتيب ما بعدها على ماقبلها والجملة المنفية حالية والعامل فيها مافي الظرف من الاستقرار أو الظلرف نفسه والمعنى حيث كان الأمر كذلك فأي شىء حصل لهؤلاء حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا نصوص القرآن الناطقة بأن الكل فائض من عند الله تعالى أو بمعزل من أن يفهموا حديثا مطلقا عدوا كالبهائم التي لا أفهام لها أو بمعزل أن يعقلوا صروف الدهر وتغيره حتى يعلموا أنه لها فاعلا حقيقيا بيده جميع الامور ولامدخل
(5/88)
لأحد معه ويجوز أن تكون الجملة استئنافا مبنيا على سؤال نشأ من الاستفهام وهو ظاهر وعلى التقديرين فالكلام مخرج مخرج المبالغة في عدم فهمهم فلا ينافى اعتقادهم أن الحسنة من عند الله تعالى ويفهم من كلام بعضهم أن المراد من الحديث هو ماتفوهوا به آنفا حيث أنه الزم منه تعدد الخالق المستلزم للشرك المؤدي الى فساد العالم وان ما في حيز الامر رد لهذا اللازم وقدم لكونه أهم ثم استأنف بما هو حقيقة الجواب أعني قوله سبحانه : ماأصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وعلى ماذكرنا ولعله الاولى يكون هذا بيانا للجواب المجمل المأمور به والخطاب فيه كما قال الجبائي وروى عن قتادة : عام لكل من يقف عليه لا للنبى صلى الله عليه و سلم كقوله : إذ أنت أكرمت الكريم ملكته وإن اكرمت اللئيم تمردا ويدخل فيه المذكورون دخولا أولياء وفي اجراء الجواب أولا على لسان النبي صلى الله عليه و سلم وسوق البيان من جهته تعالى ثانيا بطريق تلوين الخطاب والالتفات إيذان بمزيد الاعتناء به والاهتمام برد اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد والإشعار بأن مضمونه مبني على حكمة دقيقة حرية بأن يتولى بيانها علام الغيوب عز و جل والعدول عن خطاب الجميع كما في قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية بعضهم لعقوبة الآخرين و ما كما قال ابو البقاء : شرطية و أصاب بمعنى يصيب والمراد بالحسنة والسيئة هنا ما أريد بهما من قبل أي ما أصابك أيها الانسان من نعمة من النعم فهي من الله تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وكل مايفعله العبد من الطاعات التي يرجى كونها ذريعة الى اصابة نعمة ما فهي بحيث لاتكاد تكافىء نعمة الوجود أو نعمة الإقدار على أدائها مثلا فضلا عن أن تستوجب نعمة أخرى ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة : لن يدخل أحدا عمله الجنة قيل : ولا أنت يارسول الله قال : ولاأنا إلا أن يتغمدنى الله تعالى بفضل رحمته وما أصابك من بلية من البلايا فهي بسبب اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها وإن كانت من حيث الايجاد منتسبة اليه تعالى نازلة من عنده عقوبة وهذا كقوله تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وأخرج الترمذي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لايصيب عبدا نكبة فما فوقها أو مادونها إلا بذنب وما يعفوا الله تعالى عنه أكثر
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : ماكان من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك وعن أبي صالح مثله وقال الزجاج : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم والمقصود من الأمة وقيل : له عيه الصلاة والسلام لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير ولعل العدول عن خطابهم لاظهار كمال السخط والغضب عليهم والاشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لاسيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة ثم أعلم انه لاحجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين لأن إحداهما بظاهرها لنا والأخرى لهم فلابد من التأويل وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية والخلاف الثاني ولاتعارض بينهما أيضا لظهور اختلاف جهتي النفي والاثبات وقد أطنب الامام الرازي في هذا المقام كل الاطناب بتعديد الأقوال والتراجيح واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات وقال بعضهم : يمكن أن يقال : لما جاء قوله تعالى
(5/89)
وإن تصيهم حسنة بعد قوله سبحانه : أينما تكونوا يدرككم الموت ناسب أن تحمل الحسنة الاولى على النعمة والسيئة على البلية ولما أردف قوله عز و جل : وما أصابك من حسنة بما سيأتي ناسب أن يحملا على مايتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة كما روى ذلك عن أبي العالية ولهذا غير الأسلوب فعبر بالماضي بعد أن عبر بالمضارع ثم نقل عن الراغب أنه فرق بين قولك : هذا من عند الله تعالى وقولك : هذا من الله تعالى : بأن من عند الله أعم من حيث أنه يقال فيما كان برضاه سبحانه وبسخطه وفيما يحصل وقد أمر به ونهي عنه ولايقال : من الله الا فيم كان برضاه وبأمره وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه : إن أصبت فمن الله وان أخطأت فمن الشيطان فتدبر
ونقل أبو حيان عن طائفة من العلماء أن ما أصابك الخ على تقرير القول أى فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثا يقولون ما أصابك من حسنة الخ والداعى لهم على هذا التمحل توهم التعارض وقد دعا آخرين الى جعل الجملة بدلا من حديثا على معنى أنهم لايفقهون هذا الحديث أعني ما أصابك الخ فيقولونه غير متحاشين عما يلزمه من تعدد الخالق وآخرين الى تقدير استفهام إنكاري أى فمن نفسك وزعموا أنه قرىء به وقد علمت أن لاتعارض أصلا من غير احتياج الى ارتكاب مالايكاد يسوغه الذوق السليم وكذا لاحجة للمعتزلة في قوله سبحانه حديثا على كون القرآن محدثا لما علمت من أنه ليس نصا في القرآن وعلى فرض تسليم أنه نص لايدل على حدوث الكلام النفسى والنزاع فيه ثم وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها على ماقيل : انه سبحانه بعد أن حكى عن المسلمين ماحكى ورد عليهم بما رد نقل عن الكفار مارده عليهم أيضا وبين المكيين مناسبة من حيث اشتمالها على اسناد مايكره الى بعض الأمور وكون الكراهة بسبب ذلك وهو كما ترى
وفى الكشف أن جملة وإن تصبهم الخ معطوفة على جملة قوله تعالى : فان أصابتكم مصيبة ولئن أصابكم فضل دلالة على تحقيق التبطئة والتثبيط أما دلالة الاولتين فلا خفاء بهما وأما الثانية فلأنهم اذا اعتقدوا فى الداعى الى الجهاد صلى الله عليه و سلم ذلك الاعتقاد الفاسد قطعوا أن في اتباعه لاسيما فيما يجر الى ماعدوه سيئة الخبال والفساد ولهذا قلب الله عليهم في قوله سبحانه فمن نفسك ليصير ذلك كافا لهم عن التثبيط الى التنشيط وأردفه ذكر ماهم فيه من التعكيس في شأن من هو رحمة مرسلة للناس كافة وأكد أمر اتباعه بأن جعل طاعته صلى الله عليه و سلم طاعة الله تعالى مع ما أمده من التهديد البالغ المضمن في قوله سبحانه فمن تولى ثم قال ولايخفى أن ماوقع بين المعطوفين ليس باجنبى وأن فليقاتل شديد التعلق بسصابقه ولما لزم من هذا النسق تقسيم المرسل اليهم الى كافر مبطىء ومؤمن قوى وضعيف استنأف تقسيمهم مرة أخرى في قوله سبحانه الآتى : ويقولون أى الناس المرسل اليهم الى مبيت هو الأول ومذيع هو الثالث ومن يرجع اليه هو الثانى فهذا وجه النظم والارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة انتهى ولايخلو عن حسن وليس بمتعين كما لايخفى
هذا ووقف أبو عمرو والكسائى بخلاف عنه على ما من قوله تعالى : فما هؤلاء وجماعة على لام الجر وتعقب ذلك السمين بأنه ينبغي أن لايجوز كلا الوقفين اذ الأول وقف على المبتدأ دون خبره والثانى على الجار دون مجروره وقرأ أبى وابن مسعود وابن عباس وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك وأرسلناك للناس رسولا بيان لجلالة منصبه صلى الله عليه و سلم ومكانته عند ربه سبحانه بعد الذب عنه بأتم وجه وفيه رد أيضا لمن زعم اختصاص رسالته عليه الصلاة و السلام بالعرب فتعريف للناس
(5/90)
للاستغراق والجار متعلق ب رسولا قدم عليه للاختصاص الناظر الى قيد العموم أى مرسلا لكل الناس لالبعضهم فقط كما زعموا و رسولا حال مؤكدة لعملها وجوز أن يتعلق الجار بما عنده وأن يتعلق بمحذوف وقع حالا من رسولا وجوز أن يكون رسولا مفعولا مطلقا اما على أنه مصدر كما في قوله : لقد كذب الوشوان مافهمت عندهم بشىء ولا أرسلتهم برسول واما على أن الصفة قد تستعمل بمعنى المصدر مفعولا مطلقا كما استعمل الشاعر خارجا بمعنى خروجا في قوله : على حلفة لاأشتم الدهر مسلما ولا خارجا من زور كلام حيث أراد كما قال سيبويه : ولايخرج خروجا وكفى بالله شهيدا
79
- على رسالتك أو على صدقك في جميع ماتدعيه حيث نصب المعجزات وأنزل الآيات البينات وقيل : المعنى كفى الله تعالى شهيدا على عباده بما يعملون من خير أو شر والالتفات لتربية المهابة من يطع الرسول فقد أطاع الله بيان لأحكام رسالته صلى الله عليه و سلم إثر بيان تحققها وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو الحق سبحانه والرسول انما هو مبلغ للأمر والنهي فليست الطاعة له بالذات انما هي لمن بلغ عنه
وفي بعض الآثار عن مقاتل أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول : من أحبني فقد أحب الله تعالى ومن أطاعني فقد أطاع الله تعالى فقال المنافقون : ألا تسمعون الى مايقول هذا الرجل لقد قارف الشرك وهو نهي أن يعبد غير الله تعالى مايريد الا ان نتخذه كما اتخذت النصارى عيسى عليه السلام فنزلت فالمراد بالرسول نبينا صلى الله عليه و سلم والتعبير عنه بذلك ووضعه موضع المضمر للاشعار بالعلية وقيل : المراد به الجنس ويدخل فيه نبينا صلى الله عليه و سلم دخولا أوليا ويأباه تخصيص الخطاب في قوله تعالى : ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا
80
- وجعله من باب الخطاب لغير معين خلاف الظاهر ومن شرطية وجواب الشرط محذوف والمذكور تعليل له قائم مقامه أى ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه لأنا إنما أرسلناك رسولا مبلغا لاحفيظا مهيمنا تحفظ أعمالهم عليهم وتحاسبهم عليها ونفى كما قيل كونه حفيظا أى مبالغا في الحفظ دون كونه حافظا لأن الرسالة لاتنفك عن الحقظ لأن تبليغ الأحكام نوع حفظ عن المعاصي والآثام وانتصاب الوصف على الحالية من الكاف وجعله مفعولا ثانيا لأرسلناك لتضمينه معنى جعلنا مما لاحاجة اليه وعليهم متعلق به وقدم رعاية للفاصلة وفى افراد ضمير الرفع وجمع ضمير الجر مراعاة للفظ من ومعناها وفي العدول عن ومن تولى فقد عصاه الظاهر في المقابلة الى ماذكر مالايخفى من المبالغة ويقولون الضمير للمنافقين كما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والحسن والسدى وقيل : للمسلمين الذين حكى عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله أى ويقولون اذا أمرتهم بشىء طاعة أى أمرنا وشأننا طاعة على أنه خبر مبتدأ محذوف وجوبا وتقدير طاعتك طاعة على أنه خبر مبتدأ محذوف وجوبا وتقدير طاعتك طاعة خلاف الظاهر أو عندنا أو منا طاعة على أنه مبتدأ وخبره محذوف وكان أصله النصب كما يقول المحب : سمعا وطاعة ولكنه يجوز في مثله الرفع كما صرح به سيبويه للدلالة على أنه ثابت لهم قبل الجواب فاذا برزوا من عندك أى خرجوا من مجلسك وفارقوك بيت طائفة أى جماعة منهم وهم رؤساؤهم والتثبييت اما من البيتوتة لأنه تديبر الفعل
(5/91)
ليلا والعزم عليه ومنه تبييت نية الصيام ويقال : هذا أمر تبييت بليل وإما من بيت الشعر لأن الشاعر يدبره ويسويه وإما من البيت المبنى لأنه يسوى ويدبر وفى هذا بعد وإن أثبته الراغب لغة والمراد زورت وسوت غير الذي تقول أى خلاف ماقلت لها أو ماقالت لك من القبول وضمان الطاعة والعدول عن الماضى لقصد الاستمرار واسناد الفعل الى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات والباقون أتباع لهم في ذلك لا لأنهم ثابتون على الطاعة وتذكيره أولا لأن تأنيث الفاعل غير حقيقي وقرأ أبو عمرو وحمزة بيت طائفة بالادغام لقربهما في المخرج وذكر بعض المحققين أن الادغام هنا على خلاف الأصل والقياس ولم تدغم تاء متحركة غير هذه والله يكتب مايبيتون أى يثبته فى صحائفهم ليجازيهم عليه أو فيما يوحيه اليك فيطلعك على أسرارهم ويفضحهم كما قال الزجاج والقصد على الاول لتهديدهم وعلى الثانى لتحذيرهم فأعرض عنهم أى تجاف عنهم ولاتتصد للانتقام منهم أو قلل المبالاة بهم والفاء لسببية ماقبلها لما بعدها وتوكل على الله أى فوض أمرك اليه وثق به في جميع أمورك لاسيما في شأنهم واظهار الاسم الجليل للاشعار بعلة الحكم وكفى بالله وكيلا
81
- قائما بما فوض اليه من التدبير فيكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم والاظهار لما سبق وللإيذان باستقلال الجملة واستغنائها عما عداها من كل وجه أفلا يتدبرون القرآن لعله جواب سؤال نشأ من جعل الله تعالى شهيدا كأنه قيل : شهادة الله تعالى لاشبهة فيها ولكن من أين يعلم أن ماذكرته شهادة الله تعالى محكية عنه فأجاب سبحانه بقوله : أفلا يتدبرون وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشىء وأجزائه أو سوابقه وأسبابه أو لواحقه و أعقابه والفاء للعطف على مقدو أى أيشكون في أن ماذكر شهادة الله تعالى فلا يتدبرون القرآن الذي جاء به هذا النبي صلى الله عليه و سلم المشهود له ليعلموا كونه من عند الله فيكون حجة وأى حجة على المقصود وقيل : المعنى أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة مافيه من الشواهد التى من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكى على ماهو عليه ولو كان أى القرآن
من عند غير الله كما يزعمون لو وجدوا فيه اختلافا كثيرا
82
- بأن يكون بعض اخباراته الغيبية كالإخبار عما يسره المنافقون غير مطابق للواقع لأن الغيب لايعلمه الا الله تعالى فحيث أطرد الصدق فيه ولم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى ومن عنده وإلى هذا يشير كلام الاصم والزجاج وفي رواية عن ابن عباس أن المراد لوجدوا فيه تناقضا كثيرا وذلك لأن كلام البشر اذا طال لم يخل بحكم العادة من التناقض ومايظن من الاختلاف كما في كثير من الآيات ومنه ماسبق آنفا ليس من الاختلاف عند المتدبرين وقيل وهو مما لابأس به خلافا لزاعمه المراد لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته فكان بعضه بالغا حد الإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعانى وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق أخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على مالا يقدر عليه غيره عالم بما يعلمه سواه انتهى
(5/92)
وهو مبني على كون وجه الاعجاز عند علماء العربية كون القرآن في مرتبة الأعلى من البلاغة وكون المقصود من الآية اثبات القرآن كله وبعضه من الله تعالى وحينئذ لايمكن وصف الاختلاف بالكثرة لأنه لايكون الاختلاف حينئذ الا بأن يكون البعض منه معجزا والبعض غير معجز وهو اختلاف واحد فلذا جعل وجدوا متعديا الى مفعولين أولهما كثيرا وثانيهما اختلافا بمعنى مختلفا واليه يشير قوله : لكان الكثير منه مختلفا وإنما جعل اللازم على تقدير كونه من عند غير الله تعالى كون الكثير مختلفا مع أنه يلزم أن يكون الكل مختلفا اقتصارا على الأقل كما في قوله تعالى : يصبكم بعض الذي يعدكم وهو من الكلام المنصف وبهذا يندفع مأورد من أن الكثرة صفة الاختلاف والاختلاف صفة للكل في النظم وقد جعل صفة الكثرة والكثرة صفة الكثير لأنا لانسلم أن الكثرة صفة الاختلاف بل هما مفعولا وجدوا وكذا ماأورد من أنه يفهم من قوله : لكان بعضه بالغا حد الاعجاز ثبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز وهو باطل لانا لانسلم ذلك فان المقصود أن القرآن كلا وبعضا من الله تعالى أى البعض الذي وقع به التحدى وهو مقدار أقص سورة منه ولو كان بعض من أبعاضه من غيره تعالى لوجدوا فيه الاختلاف المذكور وهو أن لايكون بعضه بالغا حد الاعجاز قاله بعض المحققين وقال بعضهم : لامحيص عن الايراد الأخير سوى أن يحمل الكلام على الفرض والتقدير أى لوكان فيه مرتبة الاعجاز ففى البعض خاصة على أن يكون ذلك القدر مأخوذا من كلام الله تعالى كما في الاقتباس ونحوه إلا أنه لايخفى بعده والى تفسير الاختلاف بالتفاوت بلاغة وعدم بلاغة ذهب أبو على الجبائى الى هذا ونقل عن الزمخشرى أن فى الآية فوائد : وجوب النظر في الحجج والدلالات وبطلان التقليد وبطلان قول من يقول : إن المعارف الدينية ضرورية والدلالة على صحة القياس والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى لوجود التناقض فيها انتهى
ولايخفى أن دلالتها على وجوب النظر في الجملة وبطلان التقليد للكل وقول من يقول : ان المعارف الدينية كلها ضرورية اما على صحة القياس على المصطلح الأصولي فلا وإما تقرير الأخير على مافى الكشف فلأن اللازم كل مختلف من عند غير الله تعالى على قولهم : أن لو عكس لولا ولو كان أفعال العباد من خلقه لكانت من عنده بالضرورة وكذبت القضية أو بعض المختلف من عند غير الله تعالى على ماحققه الشيخ ابن الحاجب والمشهور عند أهل الاستدلال فيكون بعض أفعال العباد غير مخلوقة له تعالى ويكفى ذلك فى الاستدلال اذ لاقائل بالفرق بين بعض وبعض اذا كان اختياريا وأجاب فيه بأن اللازم كل مختلف هو قرآن من عند الله تعالى على الأول وحينئذ لايتم الاستدلال وذكر أن معنى ولو كان من عند غير الله تعالى عند الجماعة ولو كان قائما بغيره تعالى ولامدخل للخلق في هذه الملازمة وأنت تعلم أنه غير ظاهر الارادة هنا وكذا استدل بالآية على فساد قول من زعم : إن القرآن لايفهم معناه الا بتفسير الرسول صلى الله عليه و سلم أو الامام المعصوم كما قال بعض الشيعة واذا جاءهم أى المنافقين كما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والضحاك وأبى معاذ أو ضعفاء المسلمين كما روى عن الحسن وذهب اليه غالب المفسرين أو الطائفتين كما نقله ابن عطية أمر من الأمن أو الخوف أى مما يوجب الأمن والخوف اذاعوا به أى أفشوه والباء مزيدة وفي الكشاف يقال : أذاع الشر وأذاع به ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاغة وهو
(5/93)
أبلغ من أذاعوه لدلالته على أنه يفعل نفس الحقيقة كما في نحو فلان يعطى ويمنع ولما فيه من الابهام والتفسير وقيل : الباء لتضمن الاذاعة معنى التحديث وجعلها بمعنى مع والضمير للمجىء مما لاينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه
والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين أو لبيان جناية الضعفاء إثر بيان جناية المنافقين وذلك أنه اذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها فقالوا : أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم هو الذى يخبرهم به ولايكاد يخلوا ذلك عن مفسدة وقيل : كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه و سلم وأولى الامر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود الأذاعة مفسدة وقيل : الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين وفيه إنكار على من يحدث بالشىء قبل تحقيقه وقد أخرج مسلم عن أبى هريرة مرفوعا وكفى بالمرء أثما أن يحدث بكل ماسمع والجملة عند صاحب الكشف معطوفة على قوله تعالى : ويقولون طاعة وقوله سبحانه : أفلا يتدبرون اعتراض تحذيرا لهم عن الاضمار لما يخالف الظاهر فان فى تدبر القرآن جارا الى طاعة المنزل عليه أى جار وقيل : الكلام مسوق لدفع ماعسى أن يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناءا على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لالتخلف مدلوله عنه وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لاخبرة لهم بالأحوال كانوا اذا أخبرهم النبى صلى الله عليه و سلم بما أوحى اليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولاضبط لفحواه على حسب ماكانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالاذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف ولايخلو عن حسن غير أن روايات السلف على خلافه وأياما كان فقد نعى الله تعالى ذلك عليهم وقال سبحانه : ولو ردوه أى ذلك الأمر الذى جاءهم الى الرسول صلى الله عليه و سلم وإلى أولى الأمر منهم وهم كبائر الصحابة رضى الله عنهم البصراء فى الأمور وهو الذى ذهب اليه الحسن وقتادة وحلق كثير
وقال السدى وابن زيد وأبو على الجبائى : المراد بهم أمراء السرايا والولاة وعلى الأول المعول لعلمه أى لعلم تدبير ذلك الأمر الذي أخبروا به الذين يستنبطونه منهم أى يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايده أو لو ردوه الى الرسول صلى الله عليه و سلم ومن ذكر وفوضوه اليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذي يستنبطون تدبيره كبف يدبرونه وما يأتون ومايذرون أو لو ردوه الى الرسول صلى الله عليه و سلم والى كبار أصحابه رضى الله تعالى عنهم وقالوا نكست حتى نسمعه منهم ونعلمه هل مما يذاع أو لايذاع لعلم صحته وهل مما يذاع أولا هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولى الأمر أى يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم أو لو عرضوه على رأيه عليه الصلاة و السلام مستكشفين لمعناه وما ينبغى له من التدبير والى أجلة صحبه رضى الله تعالى عنهم لعلم الرادون معناه وتدبيره وهم الذين يستنبطونه ويستخرجون علمه وتدبيره من جهة الرسول عليه الصلاة و السلام ومن تشرف بالعطف عليه والتعبير بالرسالة لما أنها من موجبات الرد
وكلمة من إما ابتدائية والظرف لغو متعلق يستنبطونه وإما تبعيضية أو بيانية تجريدية والظرف حال ووضع
(5/94)
الموصول موضع الضمير في الاحتمالين الأخيرين للإيذان بأنه ينبغى أن يكون القصد بالرد استكشاف المعنى واستيضاح الفحوى والاستنباط في الأصل استخراج الشىء من مأخذه كالماء من البئر والجوهر من المعدن ويقال للمستخرج : نبط بالتحريك ثم تجوز به فأطلق على كل أخذ وتلق ولولا فضل الله عليكم ورحمته خطاب للطائفة المذكورة آنفا بناءا على أنهم ضعفة المؤمنين على طريقة الالتفات والمراد من الفضل والرحمة شىء واحد أى لولا فضله سبحانه عليكم ورحمته بإرشادكم الى سبيل الرشاد هو الرد الى الرسول صلى الله عليه و سلم والى أولى الأمر لأتبعتم الشيطان وعملتم بآرائكم الضعيفة أو أخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وتذرون ولم تهتوا الى صوب الصواب الا قليلا وهم أولوا الأمر المستنيرة عقولهم بأنوار الايمان الراسخ الواقفون على الأسرار الراسخون فى معرفة الاحكام بواسطة الاقتباس من مشكاة النبوة فالاستثناء منقطع أو الخطاب للناس أى ولو لا فضل الله تعالى بالنبى صلى الله عليه و سلم ورحمته بإنزال القرآن كما فسرهما السدى والضحاك وهو اختيار الجبائى ولايبعد العكس لاتبعتم كلكم الشيطان وبقيتم على الكفر والضلالة الا قليلا منكم قد تفضل عليه بعقل راجح فاهتدى به الى الطريق الحق وسلم من مهاوى الضلالة وعصم من متابعة الشيطان من غير إرسال الرسول عليه الصلاة و السلام وإنزل الكتاب كقس بن ساعدة الأيادى وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وأضرابهم فالاستثناء متصل والى ذلك ذهب الأنبارى
وقال أبو مسلم : المراد بفضل الله ورحمته النصرة والمعونة مرة بعد أخرى والمعنى لولا حصول النصرة والظفر لكم على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان فيما يلقى اليكم من الوساوس والخواطر المؤدية الى الجبن والفشل والركون الى الضلال وترك الدين إلاقليلا وهم من أهل البصائر النافذة والعزائم المتمكنة والنيات الخالصة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس شرط كون الدين حقا حصول الدولة في الدنيا أو باطلا حصول الانكسار والانهزام بل مدار الأمر فى كونه حقا وباطلا على الدليل ولايرد أنه يلزم من جعل الاستثناء من الجملة التى وليها جواز أن ينتقل الانسان من الكفر الى الايمان ومن اتباع الشيطان الى ععصيانه وخزيه وليس لله تعالى عليه في ذلك فضل ومعاذ الله تعالى أن يعتقد هذا مسلم موحد سنيا كان أو معتزليا وذلك لأن لولا حرف امتناع لوجود وقد أنبأت أن امتناع اتباع المؤمنين للشيطان فى الكفر وغيره إنما كان بفضل الله تعالى عليهم فالفضل هو السبب المانع من اتباع الشيطان فاذا حعل الاستثناء مماذكر فقد سلبت تأثير فضل الله تعالى فى امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة وجعلهم مستبدين بالايمان وعصيان الشيطان الداعى الى الكفر بأنفسهم لابفضل الله تعالى ألا تراك اذا قلت لمن تذكره بحقك عليه : لولا مساعدتى لك لسلبت أموالك إلا قليلا كيف تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب وانما مننت عليه فى تأثير مساعدتك في أكثر من ماله لا فى كله لأنا نقول هذا إذا عم اتلفضل لا إذا خص كما أشرنا اليه لأن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لاينافى أن يكون بفضل آخر نعم ظاهر عبارة الكشاف فى هذا المقام مشكل حيث جعل الاستثناء من الجملة الاخيرة وزاد التوفيق فى البيان ويمكن أن يقال أيضا : أراد به توفيقا خاصا نشأ مما قبله وهذا أولى من الاطلاق ودفع الاشكال بان عدم الفضل والرحمة على الجميع لايلزم منه العدم على
(5/95)
البعض لما فيه من التكلف وذهب بعضهم للتخلص من الايراد الى الاستثتاء من قوله تعالى : أذاعوا به وروى عن ذلك ابن عباس وهو اختيار المبرد والكسائى والفراء والبلخى والطبرى واتخذ القاضى أبو بكر الآية دليلا في الرد على من جزم بعود الاستثناء عند تعدد الجمل الى الأخيرة
وعن بعض أهل اللغة أن الاستثناء من قوله سبحانه : لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وعن أكثرهم أنه من قوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه واعترضه الفراء والمبرد بأن مايعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله وصرف الاستثناء الى ماذكروه يقتضى ضد ذلك وتعقب ذلك الزجاج بانه غلط لأنه لايراد بهذا الاستنباط مايستخرج بنظر دقيق وفكر غامض انما هو استنباط خبر وإذا كان ذلك فالأكثرون يعرفونه ولايجهله الا البالغ في البلادة وفيه نظر وبعضهم الى جعل الاستثناء مفرغا من المصدر فما بعد إلا منصوب على أنه مفعول مطلق أى لاتبعتموه كل اتباع إلا اتباعا قليلا بأن تبقوا على إجراء الكفر وآثاره إلا البقاء القليل النادر بالنسبة إلى البعض وذلك قد يكون بمجرد الطبع والعادة وأحسن الوجوه وأقربها الى التحقيق عند الإمام ماذكره أبو مسلم وأيد التخصيص فيما ذهب اليه الانبارى بأن قوله تعالى : ومن يطع الرسول الخ وقوله سبحانه : أفلا يتدبرون القرآن يشهدان له وفى الذى بعده بأن قوله عز و جل : وإذا جاءهم أمر من الأمن أوالخوف الخ وقوله جلا وعلا فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك يشهد له وأنت تعلم أن قرينة التخصيص بهما غير ظاهرة والفاء في هذه الآية واقعة في جواب شرط محذوف ينساق اليه نظم الكريم أى اذا كان الأمر كما حكى من عدم طاعة المنافقين وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الاسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا
ونقل الطبرسى فى اتصال الآية قولين : أحدهما أنها متصلة بقوله تعالى : ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما والمعنى فأن أردت الأجر العظيم فقاتل ونقل عن الزجاج وثانيهما أنها متصلة بقوله عز و جل : ومالكم لاتقاتلون في سبيل الله والمعنى إن لم يقاتلوا فى سبيل الله فقاتل أنت وحدك وقيل هى متصلة بقوله تعالى : فقاتلوا أولياء الشيطان ومعنى لاتكلف إلا نفسك لاتكلف إلا فعلها اذ لاتكليف بالذوات وهو استثناء مقرر لما قبله فان اختصاص تكليفه عليه الصلاة و السلام بفعل نفسه من موجبات مباشرته صلى الله عليه و سلم للقتال وحده وفيه دلالة على أن مافعلوه من التثبيط والتقاعد لايضره صلى الله عليه و سلم ولايؤاخذ به وذهب بعض المحققين إلى ان الكلام مجاز أو كناية عن ذلك فلا يرد أنه مأمور بتكليف الناس فكيف هذا ولاحاجة الى ماقيل بل فى ثبوته فقال : انه عليه الصلاة و السلام كان مأمورا بأن يقاتل وحده أولا ولهذا قال الصديق لرضى الله تعالى عنه فى أهل الردة : أقاتلهم وحدى ولو خالفتنى يمينى لقاتلتها بشمالي وجعل أبو البقاء هذه الجملة فى موضع الحال من فاعل أى فقاتل غيلر مكلف إلا نفسك وقرىء لاتكلف بالجزم على أن لاناهية والفعل مجزوم بها أى لاتكلف أحد الخروج الا نفسك وقيل : هو مجزوم فى جواب الأمر وهو بعيد ولانكلف بالنون على بناء الفاعل فنفسك مفعول ثان بتقدير مضاف وليس فى موقع المفعول الأول أى لانكلفك إلا فعل نفسك لا أنا لانكلف أحدا الانفسك وقيل : لامانع من ذلك على معنى لانكلف أحدا هذا التكليف إلا نفسك والمراد من هذا التكليف مقاتله وحده وحرض المؤمنين أى حثهم على القتال ورغبهم فيه وعظهم
(5/96)
لما أنهم آثمون بالتخلف لفرضه عليهم قبل هذا بسنين وأصل التحريض ازالة الحرض وهو مالا خير فيه ولايعتد به فالتفعيل للسلب والازالة كقذيته وجلدته ولم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره
عسى الله أن يكف بأس نكاية الذين كفروا ومنهم قريش و عسى من الله تعالى كما قال الحسن وغيره تحقيق وقد فعل سبحانه ما وعد به فعن ابن عباس رضى الله تهالى عنهما واعد صلى الله عليه و سلم أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى فى ذى القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس الى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم مع جماعة من أصحابه رضى الله تعالى عنهم حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله سبحانه بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان وألقى الله الرعب في قلبه ولم يكن قتال يومئذ وانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم بمن معه سالمين والله أشد بأسا من الذين كفروا وأشد تنكيلا
84
- أى تعذيبا وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد فعمم والمقصود من الجملة التهديد والتشجيع وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة وتذكير الخبر لتأكيد التشديد وقوله تعالى : من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب أى حظ وافر منها أى من ثوابها جملة مستأنفة سيقت لبيان أن عليه الصلاة و السلام فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا من الثواب وبه ترتبط الآية بما قبلها كما قال القاضى
وقال على بن عيسى : إنه سبحانه لما قال : لاتكلف إلا نفسك مشيرا به الى أنه عليه الصلاة و السلام غير مؤاخذ بفعل غيره كان مظنة لتوهم أنه كما لايؤاخذ بفعل غيره لايزيد عمله بعمل غيره أيضا فدفع ماعسى أن يتوهم بذلك وليس بشىء كما لايخفى و الشفاعة هى التوسط بالقول فى وصول الشخص ولو كان أعلى قدرا من الشفيع إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الآخروية أو خلاصه عن مضرة ما كذلك من الشفع ضد الوتر كأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا ومنه الشفيع فى الملك لأنه يضم ملك غيره الى نفسه أويضم نفسه الى من يشتريه ويطلبه منه و الحسنة منها ماكانت فى أمر مشروع روعى بها حق مسلم ابتغاءا لوجه الله تعالى ومنها الدعاء للمسلمين فانه شفاعة معنى عند الله تعالى روى مسلم وغيره عن النبى صلى الله عليه و سلم من دعا لاخيه المسلم بهر الغيب استجيب له وقال الملك : ولك مثل ذلك وفيه بيان لمقدار النصيب الموعود لاأرى حسنا اطلاق الشفاعة على الدعاء للنبى صلى الله عليه و سلم بل لاأكاد أسوغه وإن كانت فيه منفعة له صلى الله عليه و سلم كما أن فيه منفعة لنا على الصحيح
وتفسيرها بالدعاء كما نقل عن الجبائى أوبالصلح بين اثنين كما روى الكلبى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لعله من باب التمثيل لا التخصيص وكون التحريض الذى فعله صلى الله عليه و سلم من باب الشفاعة ظاهر فان المؤمنين تخلصوا بذلك من مضرة التثبط وتعيير العدو واحتمال الذل وفازوا بالأجر الجزيل المخبوء لهم يوم القيامة وربحوا أموالا جسيمة بسبب ذلك فقد روى أنه عليه الصلاة و السلام لما وافى بجيشه بدرا ولم ير بها أحدا من العدو أقام ثمانى ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا ومن الناس من فسر الشفاعة هنا بان يصير الانسان شفع صاحبه في طاعة أو معصية والحسنة منها ماكان فى طاعة فالجملة مسوقة للترغيب فى الجهاد والترهيب عن التخلف والتقاعد وأمر الارتباط عليه ظاهر ولابأس به غير أن الجمهور على خلافه
(5/97)
ومن يشفع شفاعة سيئة وهى ماكانت بخلاف الحسنة ومنها الشفاعة في حد من حدود الله تعالى ففى الخبر من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله فى ملكه ومن أعان على خصومة بغير علم كان فى سخط الله تعالى حتى ينزع واستثنى من الحدود القصاص فالشفاعة فى إسقاطه الى الدية غير محرمة يكن له كفل منها أى نصيب من وزرها وبذلك فسره السدى والربيع وابن زيد وكثير من أهل اللغة فالتعبير بالنصيب فى الشفاعة الحسنة وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة والكفل هو المثل المساوى فاختيار النصيب أولا لأن جزاء الحسنة يضاعف والكفل ثانيا لأن من جاء بالسيئة لايجزى إلا مثلها ففى الآية اشارة الى لطف الله تعالى بعباده وقال بعضهم : ان الكفل وإن كان بمعنى النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر فى غيره كقوله تعالى : يؤتكم كفلين من رحمته فلذا خص بالسيئة تطرية وهربا من التكرار وكان الله على كل شىء مقيتا
85
- أى مقتدرا كما قاله ابن عباس حين سأله عنه نافع بن الأزرق واستشهد عليه بقول أحيحة الأنصاري : وذى ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا وروى ذلك عن جماعة من التابعين وفى رواية أخرى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه لحفيظ واشتقاقه من القوت فانه يقى البدن ويحفظه وعن الجبائى انه المجازى أى يجازى على كل شىء من الحسنات والسيئات وأصله مقوت فأ عل كمقيم والجملة تذييل مقرر لما قبلها على سائر التفاسير وإذا حييتم بتحية ترغيب كما قال شيخ الاسلام : فى فرد شائع من الشفاعة الحسنة إثر مارغب فيها على الاطلاق وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة فان تحية الاسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه عند الله عز و جل وهذا أولى فى الارتباط مما قاله الطبرسى : انه لما كان المراد بالسلام المسالمة التى هى ضد الحرب وقد تقدم ذكر القتال عقبه به للإشارة الى الكف عمن ألقى الى المؤمنين السلم وحياهم بتحية الاسلام والتحية مصدر حى أصلها تحيية كتتمية وتزكية وأصل الأصل تحيي بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها هاء التأنيث ونقلت حركة الياء الأولى الى ماقبلها ثم أدغمت وهي في الأصل كما قال الراغب : الدعاء بالحياة وطولها ثم استعملت فى كل دعاء وكانت العرب إذا لقى بعضهم بعضا تقول : حياك الله تعالى ثم استعملها الشرع في السلام وهو تحية الإسلام قال الله تعالى : تحيتهم يوم يلقونه سلام وقال سبحانه : فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله وفيه على ماقالوا : مزية على قولهم : حياك الله تعالى لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات وربما تستلزم طول الحياة وليس فى ذلك سوى الدعاء بطول الحياة أوبه وبالملك ورب حياة الموت خير منها
ألاموت يباع فأشتريه فهذا العيش مالاخير فيه ألارحم المهيمن نفس حر تصدق بالممات على أخيه وقال آخر ليس من مات فاستراح بميت انما الميت ميت الاحياء إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء ولان السلام من أسمائه تعالى والبداءة بذكره مما لاريب فى فضله ومزيته أى إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين
(5/98)
كما قال الحسن وعطاء أو مطلقا كما أخرج ابن أبى شيبة والبخارى فى الادب وغيرهما عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فحيوا بأحسن منها أى بتحية أحسن من التحية التى حييتم بها بأن تقولوا او عليكم السلام ورحمة الله تعالى إن اقتصر المسلم على الأول وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعهما المسلم وهى النهاية فقد أخرج البيهقى عن عروة بن الزبير أن رجلا سلم عليه فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقال عروة ماترك لنا فضلا ان السلام قد انتهى الى وبركاته وفى معناه ماأخرجه الامام أحمد والطبرانى عن سلمان الفارسى مرفوعا وذلك لانتظام تلك التحية لجميع فنون المطالب التي هي السلامة عن المضار ونيل المنافع ودوامها ونمائها وقبل : يزيد المحيى إذا حمع المحيى الثلاثة له فقد أخرج البخارى فى الادب المفرد عن سالم مولى عبد الله بن عمر قال : كان ابن عمر إذا سلم عليه فرد زاد فأتيته فقلت : السلام عليم فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى ثم أتيته مرة أخرى فقلت : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيب صلواته ولايتعين ماذكر للزيادة فقد ورد خبر رواه أبو داؤد والبيهقى عن معاذ زيادة : ومغفرته فما فى الدر من أن المراد لايزيد على وبركاته غير مجمع عليه أوردوها أى حيوا بمثلها و أو للتخيير بين الزيادة وتركها والظاهر أن الأول هو الافضل فى الجواب بل لو زاد المسلم على السلام عليكم كان أفضل فقد أخرج البيهقى عن سهل ابن حنيف قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قال : السلام عليكم كتب الله تعالى له عشر حسنات فان قال السلام عليكم ورحمة الله تعالى كتب الله تعالى له عشرين حسنة فان السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب الله تعالى له ثلاثين حسنة وورد فى معناه غير ماخبر
وقد نصوا على أن جواب السلام المسنون واجب ووجوبه على الكفاية ولايؤثر فى اسقاط المسلم لأن الحق لله تعالى ودليل الوجوب الكفائى خبر أبى داود وفى معناه ماأخرجه البيهقى عن زيد بن أسلم ولم يضعفه يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزى عن الجلوس أن يرد أحدهم فبه يسقط الوجوب عن الباقين ويختص بالثواب فلو ردوا كلهم ولو مرتبا أثيبوا ثواب الواجب وفى المبتغى يسقط عن الباقين برد صبى يعقل لأنه من أهل إقامة الفرض في الجملة بدليل حل ذبيحته وقيل : لا وظاهر النهاية ترجيحه وعليه الشافعية قالوا : ولو رد صبى أو لم يسمع منهم لم يسقط بخلاف نظيره فى الجنازة لأن القصد ثم الدعاء وهو منه أقرب للاجابة وهنا الأمن وهو ليس من أهله وقضيته أنه يجزىء تشميت الصبى عن جمع لأن القصد التبرك والدعاء كصلاة الجنازة وسقط برد العجوز
وفى رد الشابة قولان : عندنا وعند الشافعية لو ردت امرأة عن رجل أجزأ إن شرع السلام عليها وعليه فلا يختص بالعجوز بل المحرم وأمة الرجل وزوجته كذلك وفى تحفتهم ويدخل فى المسنون سلام امرأة على امرأة أو نحو محرم أو سيد أو زوج وكذا على أجنبى وهى عجوز لاتشتهى ويلزمها فى هذه الصورة رد سلام الرجل أما مشتهاة ليس معها امرأة أخرى فيحرم عليها رد سلام أجنبى ونثله ابتداؤه ويكره له رد سلامها ومثله ابتداؤه أيضا والفرق أن ردها وابتداءها يطعمه فيها أكثر بخلاف ابتدائه ورده والخنثى مع رجل كامرأة ومع امرأة كرجل فى النظر فكذا هنا ولوسلم على جمع نسوة وجب رد إحداهن إذ لايخشى فتنة حينئذ ومن ثم حلت الخلوة بامرأتين والظاهر أن الأمر هنا كالرجل ابتداء وردا وفى الدر المختار لوقال :
(5/99)
السلام عليك يازيد لم يسقط برد غيره ولو قال : يافلان أو أشار لمعين سقط ولو سلم جمع مترتبون على واحد فرد مرة قاصدا جميعهم وكذا لو أطلق على الأوجه أجزأه مالم يحصل فصل ضار ولابد في الابتداء والرد من رفع الصوت بقدر مايحصل به السماع بالفعل ولو فى ثقيل السمع نعم إن مر عليه سريعا بحيث لم يبلغه صوته فالذي يظهر أنه يلزمه الرفع وسعه ولايجهر بالرد الجهر الكثير والمروى عن الإمام رضى الله تعالى عنه لعله مقيد بغير هذه الصورة دون العدو خلفه واستظهر أنه لابد من سماع جميع الصيغة ابتداءا وردا والفرق بينه وبين اجابة أذان سمع بعضه ظاهر ولو سلم يهودى أو نصرانى أو مجوسى فلا بأس بالرد ولكن لايزيد فى الجواب على قوله وعليك كما فى الخانية وروى ذلك مرفوعا بالصحيح ولايسلم ابتداءا على كافر لقوله عليه الصلاة و السلام : لاتبدءوا اليهود والنصارى بالسلام فاذا لقيتم أحدهم فى طريق فاضطروه إلى أضيقه رواه البخارى وأوجب بعض الشافعية رد سلام الذمى بعليك فقط وهو الذى يقتضيه كلام الروضة لكن قال البلقينى والاذرعى والزركشى : إنه يسن ولايجب وعن الحسن يجوز أن يقال للكافر : وعليك السلام ولايقل رحمة الله تعالى فانها استغفار وعن الشعبى أنه قال لنصرانى سلم عليه ذلك فقيل له فيه فقال : أليس في رحمة الله يعيش
وأخرج ابن المنذر من طريق يونس بن عبيد عن الحسن أنه قال في الآية : إن حيوا بأحسن منها للمسلمين أو ردوها لأهل الكتاب وورد مثله عن قتادة ورخص بعض العلماء ابتداءهم به اذا دعت اليه داعية ويؤدى حينئذ بالسلام فعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه كان يقول للذمى والظاهر عند الحاجة السلام عليك ويريد كما قال الله تعالى عليك أى هو عدوك ولامانع عندى إن لم يقصد ذلك من أن يقصد الدعاء له بالسلامة بمعنى البقاء حيا ليسلم أو يعطى الجزية ذليلا وفى الأشباه النص على ذلك فى الدعاء له بطول البقاء بقى الخلاف فى الاتيان بالواو عند الرد له وعامة المحدثين كما قال الخطابى باثباتها فى الخبر غير سفيان ابن عيينة فانه يرويه بغير واو واستصوب لأن الواو تقتضى الاشتراك معه والدخول فيما قال وهو قد يقول السام عليكم كما يدل عليه خبر عمر رضى الله تعالى عنه ووجه العلامة الطيبى إثباتها بأن مدخولها قد يقطع عما عطف عليه لإفادة العموم بحسب اقتضاء المقام فيقدر هنا عليكم اللعنة أو الغضب وعليكم ماقلتم ولايخفى خفاء ذلك وإن أيده بما ظنه شيئا فالأولى مافى الكشف من أن رواية الجمهور هو الصواب وهما مشتركان في أنهما على سبيل الدعاء ولكن يستجاب دعاء المسلم على الكافر ولايستجاب دعاؤه عليه فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم لما قالت عائشة فى رهط اليهود القائلين له عليه الصلاة و السلام : السام عليك بل عليكم السام واللعنة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لاتكونى فاحشة قالت : أو لم تسمع ماقالوا ! قال : رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولايستجاب لهم فى ويجب فى الرد على الأصم الجمع بين اللفظ والاشارة ليعلم بل العلم هو المدار ولايلزمه الرد إلا إن جمع له المسلم عليه بينهما وتكفى إشارة الأخرس ابتداءا وردا ويجب رد جواب كتاب التحية كرد السلام
وعند الشافعية يكفى جوابه كتابة ويجب فيها إن لم يرد لفظا الفور فيما يظهر ويحتمل خلافه ولو قال لآخر : أقرىء فلانا السلام يجب عليه أن يبلغه وعللوه بأن ذلك أمانة ويجب أداؤها ويؤخذ منه أن محله ماإذا رضى بتحمل تلك الامانة أما لو ردها فلا وكذا إن سكت أخذ من قولهم : لا ينسب لساكت قول
(5/100)
ويحتمل التفصيل بين أن تظهر منه قرينة تدل على الرضا وعدمه وإذا قلنا بالوجوب فالظاهر عند بعض أنه لايلزمه قصد الموصى له بل إذا اجتمع به وذكر بلغه وقال بعض المحققين الذى يتجه أنه يلزمه قصد محله حيث لامشقة شديدة عرفا عليه لان أداء الامانة ماأمكن واجب وفرق بعضهم بين أن يقول المرسل : قل له فلان يقول السلام عليك وبين ما لو قال له سلم لى والظاهر عدم الفرق وفاقا لما نقل عن النووى فيجب فيهما الرد ويسن الرد على المبلغ والبداءة فيقول : وعليك وعليه السلام للخبر المشهور فيه
وأجبوا رد سلام الصبى أو مجنون مميز وكذا سكران مميز لم يعص بسكره وقول المجموع : لايجب رد سلام مجنون وسكران يحمل على غير المميز وزعم أن الجنون والسكر ينافيان التمييز غفلة عما صرحوا به من عدم التنافى ولايجب رد سلام فاسق أو مبتدع زجرا له أو لغيره وإن شرع سلامه وكذا لايجب رد سلام السائل لأنه ليس للتحية بل لأجل أن يعطى ولارد سلام المتحلل من الصلاة إذا نوى الحاضر عنده على الأوجه لأن المهم له التحلل وقصد الحاضر به لتعود عليه بركته وذلك حاصل وإن لم يرد وإنما حنث به الحاف على ترك الكلام والسلام لأن المدار فيهما على صدق الاسم لاغير وقد نص على ذلك علماء الشافعية ولم أر لأصحابنا سوى التصريح بالحنث فمن حلف لايكلم زيدا فسلم على جماعة هو فيهم وأما التصريح بهذه المسألة فلم أره وصرح فى الضياء بعدم وجوب الرد لوقال المسلم : السلام عليكم بجزم الميم وكأنه على مافى تحفتنا لمخالفة السنة وعليه لو رفع الميم بلا تنوين ولاتعريف كان كجزم الميم فى عدم وجوب الرد لمخالفته السنة أيضا
وجزم غير واحد من الشافعية أن صيغة السلام ابتداءا وجوابا عليك السلام وعكسه وأنه يجوز تنكير لفظه وإن حذف التنوين وأنه يجزىء سلاما عليكم وكذا سلام الله تعالى بل وسلامى عليك وعكسه واستظهر أجزاء سلمت عليك وأنا مسلم عليك ونحو ذلك أخذا مما ذكروه أنه يجزىء فى التشهد صلى الله تعالى على محمد والصلاة على محمد صلى الله عليه و سلم ونحوهما ولابأس فيما قالوه عندى ولعل تفسير تحية فى الآية لتشمل كل هذه الصيغ وقال بعض الجماعة : السلام معرفة تحية الأحياء ونكرة تحية الموتى وروو فى ذلك خبرا والشيعة ينكرون مطلقا وينكرون
وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأنس أن السلام فى السلام اسم من أسماء الله تعالى وهذا يقتضي أولوية التعريف أيضا فافهم والأفضل فى الرد واو قبله ويجزىء بدونه على الصحيح ويضر فى الابتداء كالاقتصار فى أحدهما على أحد جزئى الجملة وان نوى إضمار الآخر وفى الكشف مايؤيده والخبر الذي فيه الاكتفاء بو عليك فى الجواب لايراد منه الاكتفاء على هذه اللفظة بل المراد منه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أجاب بمثل ماسلم به عليه ولم يزد كما يشعر به آخره وذكر الطحاوى أن المستحب الرد على طهارة أو تيمم فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى الجهم قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم من الغائط فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه ثم رد على الرجل السلام والظاهر عدم الفرق بين الرد والابتداء في ذلك ويسن السلام عينا للواحد وكفاية للجماعة كما أشرنا اليه إبتداءا عند إقباله وانصرافه للخبر الصحيح الحسن إن إولى الناس بالله تعالى من بدأهم بالسلام وفارق الرد بأن الإيحاش والاخافة فى ترك الرد أعظم منهما فى ترك الابتداء وأفتى غير واحد بأن الابتداء أفضل كابراء المعسر أفضل من إنظاره ويؤخذ من قولهم : ابتداءا أنه لو أتى به بعد تكلم لم
(5/101)
يعتد به نعم يحتمل فى تكلم سهوا أو جهلا وعذر به أنه لايفوت الابتداء فيجب جوابه ومثل ذلك بل أولى لمشروعيته الكلام للاستئذان فقد صرحوا بأنه اذا أتى دار انسان يجب أن يستأذن قبل السلام ويسن إظهار البشر عنده فقد أخرج البيهقى عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ان من الصدفة أن تسلم على الناس وأنت منطلق الوجه وعن عمر إذا التقى المؤمنان فسلم كل واحد منهما على الآخر وتصافحا كان أحبهما الى الله تعالى أحسنهما بشرا لصاحبه ويسن عليكم فى الواحد وان جاء فى بعض الآثار بالافراد نظرا لمن معه من الملائكة ويقصدهم ليردوا عليه فينال بركة دعائهم ولو دخل بيتا ولم ير أحدا يقول السلام علينا وعلى عباد الله تعالى الصالحين فان السكنة ترد عليه وفى الآكام ان فى كل بيت سكنة من الجن ويسن عند التلاقى سلام صغير على كبير وماشى على واقف أو مضطجع وراكب عليهم وراكب فرس على راكب حمار وقليلن على كثيرين لأن نحو الماشى يخاف من نحو الراكب ولزيادة مرتبة الكبير على نحو الصغير وخرج بالتلاقى الجالس والواقف والمضطجع فكل من ورد على أحدهم يسلم عليه مطلقا ولو سلم كل على الآخر فان ترتبا كان الثانى جوابا أى مالم يقصد به الابتداء وحده كما قيل والإلزام كلا الرد وكره أصحابنا السلام فى مواضع وفى النهر عن صدر الدين الغزى : سلامك مكروه على من ستسمع ومن بعد ماأبدى يسن ويشرع مصل وتال ذاكر ومحدث خطيب ومن يصغى اليهم ويسمع مكرر فقه جالس لقضائه ومن بحثوا فى الفقه دعهم لينفعوا مؤذن أيضا مع مقيم مدرس كذا الاجنبيات الفتيات أمنع ولعاب شطرنج وشبه بخلقهم ومن هو مع أهل له يتمتع ودع كافر أيضا ومكشوف عورة ومن هو فى حال التغوط أشنع ودع آكلا إلا إذا كنت جائعا وتعلم منه أنه ليس يمنع كذلك أستاذ مغن مطير فهذا ختام والزيادة تنفع فلو سلم على هؤلاء لايستحق الرد عند بعضهم وأوجب بعض الرد في بعضها وذكر الشافعية أن مستمع الخطيب يجب عليه الرد وعندنا يحرم كاسائر الكلام بلا فرق بين قريب وبعيد على الاصح وكرهوه لقاضى الحاجة ونحوه كالمجامع وسنوه للآكل كسن السلام عليه بعد البلع وقبل وضع اللقمة بالفم ويلزمه الرد حينئذ ولمن بالحمام ونحوهما باللفظ
ورجحوا أنه يسلم على من بمسلخه ولايمنع كونه مأوى الشياطين فالسوق كذلك والسلام على من فيه مشروع وان اشتغل بمساومة ومعاملة ومصل ومؤذن بالاشارة والا فبعد الفراغ إن قرب الفصل وحرموا الرد على من سلم عليه نحو مرتدو حربى وندبى بعضهم على القارىء وإن اشتغل بالتدبر وأوجب الرد عليه ومحله فى متدبر لم يستغرق التدبر قلبه والا لم يسن ابتداءا ولاجواب كاالداعى المستغرق لأنه الآن بمنزلة غير المميز بل ينبغى فيمن استغرقه الهم كذلك أن يكون حكمه ذلك وصرحوا أيضا بعدم السلام على فاسق بل يسن تركه على مجاهر بفسقه ومرتكب ذنب عظيم لم يتب عنه ومبتدع إلا لعذر أو خوف مفسدة وعلى ملب وساجد وناعس ومتخاصمين بين يدى قاضى وأفتى بععضهم بكراهة حنى الظهر
(5/102)
وقال كثيرون حرانم للحديث الحسن أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنه وعن التزام الغير وتقبيله وأمر بمصافحته مالم يكن ذميا وإلا فيكره للمسلم مصافحته بل يكفر ان قصد التبجيل كما يكفر بالسلام عليه كذلك
وأفتى البعض أيضا بكراهة الانحناء بالرأس وتقبيل نحو الرأس أو يد أو رجل لاسيما لنحو غنى لحديث من تواضع لغنى ذهب ثالثا دينه وندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف لأن أبا عبيدة قبل يد عمر رضى الله تعالى عنهما ولايعد نحو صحبك الله تعالى بالخير أو قواك الله تعالى تحية ولايستحق مبتدأ به جوابا والدعاء له بنظيره حسن الا أن يقصد باهماله له تأديبه لتركه سنة السلام ونحو مرحبا مثل ذلك في ذلك وذكر أنه لوقال المسلم السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته فقال الراد : عليك السلام فقط أجزأه لكنه خلاف الأولى وظاهرألآية خلافه إذ الإمر فيها دائر بين الجواب بالأحسن والجواب بالمثل وليس ماذكر شيئا منهما وحمل التحية على السلام هو ماذهب اليه الأكثرون من المحققين وأئمة الدين وقيل : المراد بها الهدية والعطية وأوجب القائل العوض او الرد على المتهب وهو قول قديم للشافعى ونسب أيضا لأمامنا الأعظم رضى الله تعالى عنه وعلل ذلك بعضهم بأن السلام قد وقع فلا يرد بعينه فلذا حمل على الهدية وقد جاء اطلاقها عليها وأجيب بأنه مجاز كقول المتنبى : قفى تغرم الأولى من اللحظ مقلتى بثانية والمتلف الشىء غارمه وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن عيينة أنه قال فى الآية : أترون هذا السلام وحده هذا في كل شىء من أحسن اليك فأحسن اليه وكافه فان لم تجد فادع له واثن عليه عند إخوانه ولعل مراده رحمه الله تعالى قياس غير السلام من أنواع الاحسان عليه لأن المراد من التحية مايعم السلام وغيره لخفاء ذلك ولعل من أراد الأعم فسرها بما يسدى الى الشخص مما تطيب به حياته ان الله كان على كل شىء حسيبا
86
- فيحاسبكم على كل شىء من أعمالكم ويدخل في ذلك ماأمروا به من التحية دخولا أوليا
هذا ومن باب الاشارة فى هذه الايات الذين آمنوا يقاتلون أنفسهم في سبيل الله فيهلكونها بسيوف المجاهدة ليصلوا اليه تعالى شأنه والذين كفروا يقاتلون عقولهم وينازعونها فى سبيل طاغوت أنقسهم ليحصلوا اللذات ويغنموا في هذه الدار الفانية أمتعة الشهوات فقاتلوا أولياء الشيطان وهى القوى النفسانية أو النفس وقواها إن كيد الشيطان كان ضعيفا فوليه ضعيف عاذ بقرملة الم تر الى الذين قيل لهم أى قال لهم المرصدون كفوا أيديكم عن خاربة الأنفس الآن قبل أداء رسوم العبادات وأقيموا الصلاة والمراد بها إتعاب البدن بأداء العبادة البدنية وآتوا الزكاة والمراد بها اتعاب القلب بأداء العبادة المالية فاذا تم لكم ذلك فتوجهوا الى محاربة النفس فان محاربتها قبل ذلك بغير سلاح فان هذه العبادات الرسمية سلاح السالكين فلايتم لأحد تهذيب الباطن قبل اصلاح الظاهر فلما كتب عليهم القتال حين أداء ماأمروا بأدائه إذا فريق منهم لضعف استعدادهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية فلا يستطيعون هجرجهم وارتكاب مافيه ذل نفوسهم خشية اعتراضهم عليهم أو إعراضهم عنهم وقالوا بلسان الحال : ربنا لما كتبت علينا القتال الآن لولا أخرتنا الى أجل قريب وهو الموت الاضطراري فالمنية ولا الدنية وها حال كثير من الناسكين برغبون عن السلوك وتحمل مشاقه مما فيه إذلال نفوسهم وامتهانها خوفا من الملامة واعتراض الناس عليهم فيبقون فى حجاب أعمالهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ماكانوا يصنعون قل متاع الدنيا قليل
(5/103)
فلا ينبغي أن يلاحظوا الناس فى تركه وعدم الالتفات اليه والآخرة خير لمن اتقى فينبغى أن يتحملوا الملامة فى تحصيلها ولا تظلمون فتيلا مما كتب لكم فينبغى عدم خشية سوى الله تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت وتفارقون ولابد من تخشون فراقه إن سلكتم ففارقوهم بالسلوك وهو الموت الاختيارى قبل أن تفارقوهم بالهلاك وهو الموت الاضطرارى ولو كنتم فى بروج مشيدة أى أجساد قوية : فمن يك ذا عظم صليب رجاجه ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره وإن تصبهم أى المحجوبين حسنة أى شىء يلائم طباعهم يقولوا هذه من عند الله فيضيفونها الى الله تعالى من فرح النفس ولذة الشهوة لاتبعت المعرفة والمحبة وإن تصبهم سيئة أى شىء تنفر عنه طباعهم وإن كان على خلاف ذلك فى نفس الأمر يقولوا لضيق أنفسهم هذه من عندك فيضيفونها إلى غيره تعالى ويرجعون إلى الأسباب لعدم رسوخ الايمان الحقيقى فى قلوبهم قل كل مكن عند الله وها دعاء لهم الى توحيد الافعال ونفى التأثير عن الاغيار والاقرار بكونه سبحانه خالق الخير والشر فما لهؤلاء القوم المحجوبين لايكادون يفقهون حديثا لاحتجاجهم بصفات النفوس وارتياج آذان قلوبهم التى هى أوعية السماع والوعى ثم زاد سبحانه فى البيان بقوله عز و جل : ما أصابك من حسنة صغرت أو عظمت فمن الله تعالى أفاضها حسب الاستعداد الأصلى وما أصابك من سيئة حقرت أو أوجلت فمن نفسك أى من قبلها بسبب الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والافعال الحاجبة للقلب المكدرة لجوهره حتى احتاج الى الصقل بالزايا والمصائب والبلايا والنوائب لامن قبل الرسول صلى الله عليه و سلم أو غيره وأرسلناك للناس رسولا فأنت الرحمة لهم فلا يكون من عندك شر عليهم وكفى بالله شهيدا على ذلك من يطع الرسول فقد أطاع الله لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه الخلق وقال بعض العارفين : إن باطن الآية إشارة الى عين الجمع أفلا يتدبرون القرآن ليرشدهم إلى أنك رسول الله تعالى وأن إطاعتك إطاعته سبحانه حيث أنه مشتمل على الفرق والجمع وقيل : ألا يتدبرونه فيتعظون بكريم مواعظه ويتبعون محاسن أوامره أو أفلا يتدبرونه ليعلموا أن الله جل شأنه تجلى لهم فيه ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا أى لوجدوا الكثير منه مختلفا بلاغة وعدمها فيكون مثل كلام المخلوقين فيكون لهم مساغ إلى تكذيبه وعدم قبول شهادته أو القول بأنه لايصلح أن يكون مجلى لله تعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إخبار عمن في مبادى السلوك أى اذا ورد عليهم شىء من آثار الجمال أو الجلال أفشوه وأشاعوه ولو ردوه أى عرضوه الى الرسول الى ماعلم من أحواله وماكان عليه وإلى أولى الامر منهم وهم المرشدون الكاملون الذين نالوا مقام الوراثة المحمدية لعلمه أى لعلم مآله وأنه مما يذاع أو أنه لايذاع الذين يستنبوطنه ويتلقونه منهم أى من جهتهم وواسطة فيوضاتهم والمراد بالموصول الرادون أنفسهم وحاصل ذلك أنه لاينبغى للمريد إذا عرض له فى أثناء سيره وسلوكه شىء من آثار الجمال أو الجلال أن يفشيه لاحد قبل أن يعرضه على شيخه فيوقفه على حقيقة الحال فان فى افشائه قبل ذلك ضررا كثيرا ولولا فضل الله عليكم أيها الناس بالواسطة العظمى رسول الله صلى الله عليه و سلم ورحمته بالمرشدين الوارثين لاتبعتم الشيطان والنفس أعظم جنوده إن لم تكنه إلا قليلا وهم السالكون بواسطة نور إلهى أفيض عليهم فاستغنوا به كبعض أهل الفترة قيل : وهم على قدم الخليل عليه الصلاة و السلام فقاتل فى سبيل الله لاتكلف إلانفسك أى قاتل من وبين ربهم عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا أى ستروا أوصاف الربوبية والله أشد منهم بأسا أى نكاية وأشد منهم تنكيلا أى تعذيبا من يشفع شفاعة حسنة أى من يرافق نفسه على الطاعات يكن له نصيب منها أى حظ وافر من ثوابها ومن يشفع شفاعة سيئة أى من يرافق نفسه على معصية يكن له كفل منها أى مثل مساو من عقابها وكان الله على كل شىء مقيتا فيوصل الثواب والعقاب الى مستحقيهما وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها تعليم لنوع من مكارم الاخلاق ومحاسن الاعمال وقيل : المعنى إذا منى الله تعالى عليكم بعطية فابذلوا الأحسن من عطاياه أو تصدقوا بما أعطاكم وردوه الى الله تعالى على يد المستحقين والله تعالى خير الموفقين
الله لاإله إلا هو مبتدأ وخبر وقوله سبحانه : ليجمعنكم الى يوم القيامة جواب قسم محذوف أى والله ليجمعنكم والجملة مستأنفة لامحل لها من الاعراب أو خبر ثان أو هى الخبر و لاإله إلا هو اعتراض واحتمال أن تكون خبرا بعد خبر لكان وجملة الله لا إله إلاهو معترضة مؤكدة لتهديد قصد بما قبلها ومابعدها بعيد ثم الخبر وان كان هو القسم وجوابه لكنه فى الحقيقة الجواب فلا يرد وقوع الإنشاء خبرا ولا أن جواب القسم من الجمل التى لامحل لها من الاعراب فكيف يكون خبرا مع أنه لاامتناع من اعتبار المحل وعدمه باعتبارين والجمع بمعنى الحشر ولهذا عدى بإلى كما عدى الحشر بها فى قوله تعالى : لإلى الله تحشرون وقد يقال : إنما عدى بها لتضمينه معنى الافضاء المتعدى بها أى ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة أو مضفين اليه وقيل : إلى بمعنى فى كما أثبته أهل العربية أى ليجمعنكم فى ذلك اليوم لاريب فيه أى في يوم القيامة أو فى الجمع فالجملة إما حال من اليوم أوصفة مصدر محذوف أى جمعا لاريب فيه والقيامة معنى القيام ودخلت التاء فيه للمبالغة كعلامة ونسابة وسمى ذلك اليوم بذلك لقيام الناس فيه للحساب مع شدة مايقع فيه من الهول ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة وهى أنه تعالى لما ذكر إن الله تعالى كان على كل شىء حسيبا تلاه بالاعلام بوحدانيته سبحانه والحشر والبعث من القبور للحساب بين يديه وقال الطبرسى : وجه النظم أنه سبحانه لما أمر ونهى فيما قبل بين بعد أنه لايستحق العبادة سواه ليعلموا على حسب ما أوجبه عليهم واشار الى أن لهذا العمل جزاءا ببيان وقته وهو يوم القيامة ليجدوا فيه ويرغبوا ويرهبوا ومن أصدق من الله حديثا الاستفهام إنكارى والتفضيل بأعتبار الكمية فى الأخبار الصادقة لا الكيفية اذ لايتصور فيها تفاوت لما أن الصدق المطابقة للواقع وهى لاتزيد فلايقال الحديث معين : إنه أصدق من آخر إلا بتأويل وتجوز والمعنى للا أحد أكثر صدقا منه تعالى فى وعده وسائر أخباره نفى المساواة أيضا كما فى قولهم : ليس فى البلد أعلم من زيد وإنما كان كذلك الاستحالة نسبة الكذب اليه سبحانه بوجه من الوجوه ولايعرف خلاف بين المعترفين بأن الله تعالى متكلم بكلام فى تلك الاستحالة وان اختلف مأخذهم فى الاستدلال
وقد استدل المعتزلة على استحالة الكذب فى كلام الرب تعالى بأن الكلام من فعله تعالى والكذب قبيح لذاته والله تعالى لايفعل القبيح وهو مبنى على قولهم : بالحسن والقبح الذاتيين وايجابهم رعاية الصلاح والاصلح وأما الأشاعرة فلهم كما قال الآمدى فى بيان استحالتة الكذب فى كلامه تعالى القديم النفساني مسلكان :
(5/104)
عقلى وسمعى أما المسلك الأول : فهو أن الصدق والكذب فى الخبر من الكلام النفسانى القديم ليس لذاته ونفسه بل بالنظر الى مايتعق به من المخبر عنه فان كان قد تعلق به على ماهو عليه كان الخبر صدقا وإن كان على خلافه كان كذبا وعند ذلك فلو تعلق من الرب سبحانه كلامه القائم على خلاف ماهو عليه لم يحل إما أن يكون ذلك مع العلم به أولا لا جائز أن يكون الثاني والا لزم الجهل الممتنع عليه سبحانه من أوجه عديدة وإن كان الاول فمن كان عالما بالشىء يستحيل أن لايقوم به الاخبار عنه على ماهو به وهو معلوم بالضرورة وعند ذلك فلو قام بنفسه الاخبار عنه على خلاف ماهو عليه حال كونه عالما به مخبرا عنه على ماهو عليه لقام بالنفس الخبر الصادق والكاذب بالنظر الى شىء واحد من جهة واحدة وبطلانه معلوم بالضرورة
واعترض بأنا نعلم ضرورة من أنفسنا إنا حال مانكون عالمين بالشىء يمكننا أن نخبر بالخبر الكاذب ونعلم كوننا كاذبين ولولا إنا عالمون بالشىء المخبر عنه لما تصور علمنا بكوننا كاذبين وأجيب بأن الخبر الذي نعلم من أنفسنا كوننا كاذبين فيه إنما هو الخبر اللسانى وأما النفسانى فلا نسلم صحة علمنا بكذبه حال الحكم به وأما المسلك الثانى : فهو أنه قد ثبت صدق الرسول صلى الله عليه و سلم بدلالة المعجزة القاطعة فيما هو رسول فيه على مابين فى محله
وقد نقل عنه بالخبر المتواتر أن كلام الله تعالى صدق وأن الكذب عليه سبحانه محال ونظر فيه الآمدى بأن لقائل أن يقول : صحة السمع متوقفة على صدق الرسول صلى الله عليه و سلم وصدقه متوقف على استحالة الكذب على الله تعالى من حيث أن ظهور المعجزة على وفق تحديه بالرسالة نازل منزلة التصديق من الله سبحانه له فى دعواه فلو جاز الكذب عليه جل شأنه لأمكن أن يكون كاذبا في تصديقه له ولايكون الرسول صادقا وإذا توقف كل منهما على صاحبه كان دورا لايقال إثبات الرسالة لايتوقف على استحالة الكذب على اللع تعالى ليكون دورا فانه لايتوقف إثبات الرسالة على الاخبار بكونه رسولا حتى يدخله الصدق والكذب بل على إظهار المعجزة على وفق تحديه وهو منزل منزلة الانشاء وإثبات الرسالة وجعله رسولا فى الحال كقول القائل : وكلتك فى أشغالى واستنبتك فى أمورى وذلك لايستدعى تصديقا ولا تكذيبا اذ يقال حينئذ : فلو ظهرت المعجزة على يد شخص لم يسبق منه التحدى بناءا على جواره على أصول الجماعة لم تكن المعجزة دالة على ثبوت رسالته إجماعا ولو كان ظهور المعجزة على يده منزل منزلة الإنشاء لرسالته لوجب أن يكون رسولا متبعا بعد ظهورها وليس كذلك وكون الانشاء مشروطا بالتحدى بعيد بالنظر الى حكم الانشاءات وبتقدير أن يكون كذلك غايته ثبوت الرسالة بطريق الانشاء ولايلزم منه أن يكون الرسول صادقا في كل مايخبر به دون دليل عقلى يدل على صدقه فيما يخبر به أو تصديق الله تعالى له فى ذلك ولادليل عقلى يدل على ذلك وتصديق الله تعالى له توقف على صدق خبره عاد ماسبق فينبغى أن يكون هذا المسلك السمعى فى بيان استحالتة الكلام اللساني وهو صحيح فيه والسؤال الوارد ثم منقطع هنا فأن صدق الكلام اللساني وإن توقف على صدق الرسول لكن صدق الرسول غير متوقف على صدق الكلام اللساني بل على الكلام اللساني نفسه فامتنع الدو الممتنع وفى المواقف : الاستدلال على امتناع الكذب عليه تعالى عند أهل السنة بثلاثة أوجه : الأول أنه نقص والنقص ممنوع إجماعا وأيضا فيلزم أن يكون نحن أكمل منه سبحانه فى بعض الأوقات أعنى وقت صدقنا فى كلامنا والثاني أنه لو اتصف بالكذب سبحانه لكان كذبا قديما اذ لايقوم الحادث
(5/106)
بذاته تعالى فليزم أن يمتنع عليه الصدق فان ماثبت قدمه استحال عدمه واللازم باطل فانا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه على ماهو عليه وهذان الوجهان انما يدلان على أن الكلام النفسى الذى هو صفة قائمة بذاته تعالى يكون صادقا ثم أتى بالوجه الثالث دليلا على استحالة الكذب فى الكلام اللفظي والنفسى على طرز مافى المسلك الثانى وقد علمت ماللآ مدى فيه فتدبر جميع ذلك ليظهر لك الحق
فما لكم مبتدأ وخبر والاستفهام للانكار والنفى والخطاب لجميع المؤمنين ومافيه من معنى التوبيخ لبعضهم وقوله سبحانه : فى المنافقين يحتمل كما قال السمين أن يكون متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى : فئتين أى فمالكم تفترقون فى المنافقين وان يكون حالا من فئتين أى فئتين متفرقتين فى المنافقين فلما قدم نصب على الحال وان يكون متعلقا بما تعلق به الخبر أى شىء كائن لكم فى أمرهم وشأنهم فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه وفى انتصاب فئتين وجهان كما فى الدر المصون أحدهما أنه حال من ضمير لكم المجرور والعامل فيه الاستقرار أو الظرف لنيابته عنه وهذه الحال لازمة لايتم الكلام بدونها وهذا مذهب البصريين فى هذا التركيب وماشابهه وثانيهما وهو مذهب الكوفيين أنه خبر كان مقدرة أى مالكم فى شأنهم كنتم فئتين ورد بالتزام تنكيره فى كلامهم نحو مالهم عن التذكرة معرضين وأما ماقيل على الأول : من أن أكون الحال بعضا من عامله غريب لايكاد يصح عند الأكثرين فلا يكون معمولا له ولايجوز اختلاف العامل فى الحال وصاحبها فمن فلسفة النحو كما قال الشهاب والمراد إنكار أن يكون للمخاطبين شىء مصحح لاختلافهم فى أمر المنافقين وبيان وجوب قطع القوم بكفرهم واجرائهم مجرى المجاهرين فى جميع الاحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق
أخرج عبد بن حميد عم مجاهد قال : هم قوم خرجوا من مكة حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرين ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا النبي صلى الله عليه و سلم الى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فاختلف فيهم المسلمون فقائل يقول هم منافقون وقائل يقول : هم مؤمنون فيبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم
وأخرج بن جرير عن الضحاك قال : هم ناس تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقاموا بمكة وأعلنوا الايمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يهاجروا فسماهم الله تعالى منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لايتولهم حتى يهاجروا وأخرج الشيخان والترمذى والنسائى وأحمد وغيرهم عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج الى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم فئتين فرقة تقول : نقتلهم وفرقة تقول : لا فأنزل الله تعالى فما لكم فى المنافقين الآية كلها ويشكل على هذا ما سيأتى قريبا إن شاء الله تعالى من جعل هجرتهم غاية للنهى عن توليتهم الا أن يصرف عن الظاهر كما ستعلمه وقيل : هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وأخذوا يسارا راعى رسول الله صلى الله عليه و سلم ومثلوا به فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك فى لسانه وعينيه حتى مات ويرده كما قال شيخ الاسلام ما سيأتى ان شاء الله تعالى من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم فى السلم والحرب وهؤلاء قد أخذوا وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل أمرهم اختلاف المسلمين وقيل غير ذلك
(5/107)
والله اركسم بما كسبوا حال من المنافقين مفيد لتأكيد الانكار السابق وقيل : من ضمير المخاطبين والربط الواو وقيل : مستأنفة والباء سببية وما إما مصدرية وإما موصولة وأركس وركس بمعنى واختلف فى معنى الركس : الرد كما قيل في قول أمية بن أبي الصلت : فأركسوا في جحيم النار أنهم كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والمعنى حينئذ والله تعالى ردهم الى الكفر بعد الايمان بسبب ماكسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين أو نحو ذلك أو بسبب كسبهم وقيل : هو قريب من النكس وحاصله أنه تعالى رماهم منكسين فهو أبلغ من التنكيس لأن من يرمى منكسا فى هوة قلما يخلص منها والمعنى أنه سبحانه بكسبهم الكفر أو بماكسبوه منه قلب حالهم ورماهم فى حفر النيران وأخرج ابن جرير عن السدى أنه فسر أركسهم بأضلهم وقد جاء الاركاس بمعنى الاضلال ومنه وأركستني عن طريق الهدى وصيرتنى مثلا للعدا وأخرج الطستى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال : المعنى حبسهم فى جهنم والبخارى عنه أن المعنى ببدهم أى فرقهم شملهم وابن المنذر عن قتادة أهلكهم ولعلها معان ترجع الى أصل واحد وروى عن عبد الله وأبى أنهما قرآ ركسوا بغير ألف ركستهم مشددا
أتريدون أن تهدوا من أضل الله توبيخ للفئة القائلة بإيمان أولئك المنافقين على زعمهم ذلك وإشعار بأن يؤدى الى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم مع أنهم بمعزل من ذلك سعى فى هدايتهم وإرادة لها فالمراد بالموصول المنافقون إلا أن وضع موضع ضميرهم لتشديد الانكار وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر فى حين الصلة وحمله على العموم والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا كما زعمه أبوحيان ليس بشىء وتوجيه الإنكار إلى الارادة دون متعلقها للمبالغة فى إنكاره ببيان أن إرادته مما لايمكن فضلا عن إمكان نفسه والآية ظاهرة فى مذهب الجماعة وحمل الهداية والاضلال على الحكم بها خلاف الظاهر ويبعده قوله تعالى ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
88
- فان المتبادر منه الخلق أى من يخلق فيه الضلال كائنا من كان ويدخل هنا من تقدم دخولا أوليا فلن تجد له سبيلا من السبل فضلا عن أن تهديه اليه والخطاب فى تجد لغير معين أو لكل أحد من المخاطبين للاشعار بعدم الوجدان للكل على سبيل التفصيل ونفى وجدان السبيل أبلغ من نفى الهادى وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء وجعل السبيل بمعنى الحجة وأن المعنى من يجعله الله تعالى فى حكمه ضالا فلن تجد له فى ضلالته حجة كما قال جعفر بن حرب ليس بشىء كما لايخفى والجملة إما اعتراض تذييلى مقرر للانكار السابق مؤكد لاستحالة الهداية أو حال من فاعل تريدون أو تهدوا والرابط الواو
ودوا لو تكفرون بيان لغلوهم وتماديهم فى الكفر وتصديهم لاضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالتهم فى أنفسهم و لو مصدرية لاجواب لها أى تمنوا أن تكفروا وقوله تعالى كما كفروا نعت لمصدر محذوف وما ما مصدرية أى كفر مثل كفرهم أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأى سيبويه ولا دلالة
(5/108)
فى نسبة الكفر اليهم على أنه مخلوق لهم استقلالا لادخل لله تعالى فيه لتكون هذه الآية دليلا على صرف ماتقدم عن ظاهره كما زعمه ابن خرب لأن أفعال العباد لها نسبة الى الله تعالى باعتبار الخلق ونسبة الى العباد باعتبار الكسب بالمعنى الذي حققناه فيما تقدم وقوله تعالى : فتكونون سواء عطف على لةوتكفرون داخل معه في حكم التمني أى ودوا لو تكفرون فتكونون مستوين فى الكفر والضلال وجوز أن تكون كلمة لو على بابها وجوابها محذوف كمفعول ود أى ودوا كفركم تكفرون كما كفروا فتكونون سواء لسروا بذلك فلا تتخذوا منهم أولياء الفاء فصيحة وجمع أولياء مراعاة لجمع المخاطبين فان المراد نهى كل من المخاطبين عن اتخاذ كل من المنافقين وليا أى إذا كان حالهم ماذكر من الودادة فلا توالوهم
حتى يهاجروا في سبيل الله أى حتى يؤمنوا وتحققوا إيمانهم بهجرة هى لله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم لالغرض من أغراض الدنيا وأصل السبيل الطريق واستعمل كثيرا فى الطريق الموصلة اليه تعالى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهى والآية ظاهرة فى وجوب الهجرة
وقد نص في التيسير على أنها كانت فرضا فى صدر الاسلام وللهجرة ثلاث استعمالات : أحدها الخروج من دار الكفر إلى دار الاسلام وهو الاستعمال المشهور وثانيها ترك المنهيات وثالثها الخروج الى القتال وعليه حمل الهجرة من قال : ان الآية نزلت فيمن رجع يوم أحد على ماحكاه خبر الشيخين وجزم به فى الخازن فإن تولوا أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله تعالى كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فخذوهم إذا قدرتم عليه وأقتلوهم حيث وجدتموهم من الحل والحرم فان حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا وقيل : المراد القتل لاغير إلا أن الامر بالأخذ على القتل عادة
ولاتتخذوا منهم وليا ولانصيرا أى جانبوهم مجانبة كلية ولاتقبلوا منهم ولاية ولانصرة أبدا كما يشعر بذلك المضارع الدال على الاستمرار أو التكرير المفيد للتأكيد الا الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم ميثاق استثناء من الضمير فى قوله سبحانه : فخذوهم واقتلوهم أى الا الذين يصلون وينتهون الى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم بن مدلج
أخرج ابن أبى شيبة وغيره عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجى حدثهم قال : لما ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغنى أنه عليه الصلاة و السلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد الى قومى من بنى مدلج فأتيته فقلت : أنشدك النعمة فقالوا : مه فقال : دعوه ماتريد قلت : بلغني أنك تريد أن تبعث الى قومى وأنا أريد أن تواعدهم فان أسلموا قومك أسلموا ودخلوا فى الاسلام وإن لم يسلموا لم تخشى بقلوب قومك عليهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيد خالد فقال : اذهب معه فافعل مايريد فصالحهم خالد على أن لايعينوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وان أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل اليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم فأنزل الله تعالى ودوا حتى بلغ إلا الذين يصلون فكان من وصل اليهم كانوا معهم على عهدهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الآية نزلت فى هلال بن عويمر الألسلمي وسراقة بن مالك المدلجى وفى بنى جذيمة بن عامر
(5/109)
ولايجوز أن يكون استثناء من الضمير فى لاتتخذوا وان كان أقرب لأن اتخاذ الولى منهم حرام مطلقا
أو جاءوكم عطف على الصلة أى والذين جاءوكم كافين من قتالكم وقتال قومهم فقد استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان : من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين ومن أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين أو عطف على صفة القوم كأنه قيل : إلا لالذين يصلون إلى قوم معاهدين أو الى قوم كافين عن القتال لكم وعليكم والأول أرجح رواية ودراية إذ عليه يكون لنع القتال سببان : الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين وعلى الثاني يكون السببان الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين لكن قوله تعالى الآتى فان اعتزلوكم الخ يقرر أن أحد السببين هو الكف عن القتال لأن الجزاء مسبب عن الشرط فيكون مقتضيا للعطف على الصلة إذ لو عطف على الصفة كان أحد السببين الاتصال بالكافين لاالكف عن القتال فان قيل : لو عطف على الصفة تحققت المناسبة أيضا لأن سبب منع التعرض حينئذ الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين والاتصال بهؤلاء وهؤلاء سبب للدخول فى حكمهم وقوله سبحانه : فان اعتزلوكم يبين حكم الكافين لسبق حكم المتصلين بهم أجيب : بأن ذلك جائز إلا أن الأول أظهر وأجرى على أسلوب كلام العرب لأنهم اذا استثنوا بينوا حكم المستثنى تقريرا وتوكيدا وقال الامام : جعل الكف عن القتال سببا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن يكف عن القتال سببا لترك التعرض لأنه سبب بعيد على أن المتصلين بالمعاهدين ليسوا معاهدين لكن لهم حكمهم بخلاف المتصلين بالكافين فإنهم إن كفوا فهم هم وإلا فلا أثر له وقرأ أبى جاءوكم بغير أو على أنه استئناف وقع جوابا لسؤال كأنه قيل : كيف كان الميثاق بينكم وبينهم فقيل : جاءوكم الخ يقدر السؤال كيف وصلوا إلى المعاهدين ومن أين علم ذلك وليس بشىء أو على أنه صفة بعد صفة لقوم أوبيان ليصلون أو بدل منه وضعف أبو حيان البيان بأنه لايكون فى الأفعال والبدل بأنه ليس إياه ولابعضه ولامشتملا عليه وأجيب بأن الانتهاء إلى المعاهدين والاتصال بهم حاصله الكف عن القتال فصح جعل مجيئهم الى المسلمين بهذه الصفة وعلى هذه العزيمة بيانا لاتصالهم بالمعاهدين أو بدلا منه كلا أو بعضا أو اشتمالا وكون ذلك لايجرى فى الأفعال لايقول به أهل المعاني وقيل : هو معطوف على حذف العاطف وقوله تعالى حصرت صدورهم حال باضمار قد ويؤيده قراءة الحسن حصرة صدورهم وكذا قراءة حصرات وحاصرات واحتمال الوصفية السببية لقوم لاستواء النصب والجر بعيد
وقيل : هو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل جاءوا أى جاءوكم قوما حصرت صدورهم ولاحاجة حينئذ الى تقدير قد وماقيل : إن المقصود بالحالية هو الوصف لأنها حال موطئة فلا بد من قد سيما عند حذف الموصوف فما ذكر التزام لزيادة الاضمار من غير ضرورة غير مسلم وقيل : بيان لجاءوكم وذلك كما الطيبى لأن مجيئهم غير مقاتلين و حصرت صدورهم أن يقاتلوكم بمعنى واحد وقال العلامة الثانى : من جهة أن المراد بالمجىء الاتصال وترك المعاندة والمقاتلة لاحقيقة المجىء أو من جهة أنه بيان لكيفية المجىء وقيل : يدل اشتمال من جاءوكم لأن امجىء مشتمل على الحصر وغيره وقيل : إنها جملة دعائية ورد بأنه لامعنى للدعاء على الكفار بأن لايقاتلوا قومهم بل بأن يقع بينهم اختلاف وقتل والحصر بفتحتين الضيق والانقباض أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم أى عن أن يقاتلوكم أو لأن أو كراهة أن ولو شاء الله لسلطهم عليكم
(5/110)
بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم فلقاتلوكم عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم واللام جوابية لعطفه على الجواب ولاحاجة لتقدير لو وسماها مكى وأبو البقاء لام المجازاة والازدواج وهى تسمية غريبة وفى الاعادة إشارة الى أنه جواب مستقل والمقصود من ذلك الامتنان على المؤمنين وقرىء فلقتلوكم بالتخفيف والتشديد فان أعتزلوكم ولم يعترضوا لكم فلم يقاتلوكم مع ماعلمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله تعالى وألقوا السلم اليكم السلم أى الصلح فانقادوا واستسلموا وكان إلقاء السلم استعارة لأن من سلم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلم له وقرىء بسكون اللام مع فتح السين وكسرها فما جعل الله لكم عليهم سبيلا فما أذن لكم فى أخذهم وقتلهم وفى نفى جعل السبيل مبالغة فى عدم التعرض لهم لأن من لايمر بشىء كيف يتعرض له
وهذه الآيات منسوخة الحكم بآية براءة فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقد روى ذلك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وغيره ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم هم أناس كانوا يأتون النبى صلى الله عليه و سلم فيسلمون رياء ثم يرجعون الى قريش فيرتكسون فى الاوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا نبى الله تعالى صلى الله عليه و سلم ويأمنوا قومهم فأبى الله تعالى ذلك عليهم قاله ابن عباس ومجاهد وقيل : الآية فى حق المنافقين كل ماردوا الى الفتنة أى دعوا إلى الشرك كما روى عن السدى وقيل : الى قتال المسلمين أركسوا فيها أى قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه يروى عن ابن عباس أنه كان الرجل يقول له قومه : بماذا آمنت بهذا القرد والعقرب والخنفساء فان لم يعتزلوكم بالكف عن التعرض لكم بوجه ما ويلقوا إليكم السلم أى ولم يلقوا اليكم الصلح والمهادنة ويكفوا أيديهم أى ولم يكفوا أنفسهم عن قتالكم
فخذوهم وأقتلوهم حيث ثقفتموهم أى وجدتموهم وأصبتموهم أو حيث تمكنتم منمه وعن بعض المحققين إن هذه الآية مقابلة للآية الاولى وبينهما تقابل إما بالايجاب والسلب وإما بالعدم والملكة لأن إحداهما عدمية والاخرى وجودية وليس بينهما نقابل التضاد ولاتقابل التضايف لأنهما على ما قرروا لايوجدان إلا بين أمرين وجوديين فقوله سبحانه : فان لم يعتزلوكم مقابل لقوله تعالى : فان اعتزلوكم وقوله جل وعلا : ويلقوا مقابل لقوله عز شأنه : وألقوا وقوله جل جلاله : ويكفوا مقابل لقوله عز من قائل : فلم يقاتلوكم والواو لاتقتضي الترتيب فالمقدم مركب من ثلاثة أجزاء فى الآيتين وهى فى الآية الاولى الاعتزال وعدم القتال وإلقاء السلم فبهذه الأجزاء تم الشرط وجزاؤه عدم التعرض لهم بالأخذ والقتل كما يشير اليه قوله تعالى : فما جعل الله لكم عليهم سبيلا وفى الآية الثانية عدم الاعتزال وعدم القاء السلم وعد الكف عن القتال فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط وجزاؤه الأخذ والقتل المصرح به بقوله سبحانه : فخذوهم واقتلوهم
ومن ذها يعلم أن ويكفوا بمعنى لم يكفوا عطف على المنفى لا على النفى بقرينة سقوط النون الذى هو علامة الجزم وعطفه على النفى والجزم بأن الشرطية لايصح لأنه يستلزم التناقض لأن معنى فان لم يعتزلوكم إن لم
(5/111)
يكفوا وإذا عطف ويكفوا على النفى يلزم اجتماع عدم الكف والكف وكلام الله تعالى منزه عنه وكذا لايصح كون قوله سبحانه : ويكفوا جملة حالية أو استئنافية بيانية أو نحوية لاستلزام كل منهما التناقض مع أنه يقتضى ثبوت النون فى يكفوا على ماهو المعهود فى مثله وأبو حيان جعل الجزاء فى الأول مرتبا على شيئين وفى الثانية على ثلاثة والسر فى الإشارة الى مزيد خباثة هؤلاء الآخرين وكلام العلامة البيضاوى بيض الله تعالى غرة أحواله فى هذا المقام لايخلوا عن تعقيد وربما لايوجد له محمل صحيح إلا بعد عناية وتكلف فتأمل جدا وأولئكم الموصوفون بما ذكر من الصفات الشنيعة
جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا
91
- أى حجة واضحة فيما أمرناكم به فى حقهم لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وخباثتهم أو تسلطا لاخفاء فيه حيث أذنا لكم فى أخذهم وقتلهم وما كان لمؤمن شروع فى بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين والمنافقين وقيل : لما رغب سبحانه فى قتال الكفار ذكر اثره مايتعلق بالمحاربة فى الجملة أى ماصح له من شأنه أن يقتل بغير حق مؤمنا فان الايمان زاجر عن ذلك إلا خطئا فانه مما لايكاد يحترز عنه بالكلية وقلما يخلوا المقاتل عنه وانتصابه إما على أنه حال أى ماكان له أن يقتل مؤمنا فى حال من الاحوال إلا فى حال الخطأ أو على أنه مفعول له أى ماكان له أن يقتله لعلة من العلل الا للخطأ أو على أنه صفة للمصدر أى الا قتلا خطأ فالاستثناء فى جميع ذلك مفرغ وهو استثناء متصل على مايفهمه كلام بعض المحققين ولايلزم جواز القتل خطأ شرعا حيث كان المعنى ان من شأن المؤمن أن لايقتل إلا خطأ
وقال بعضهم : الاستثناء فى الآية منقطع أى لكن إن قتله خطأ فجزاؤه مايذكر وقيل : إلا بمعنى ولا والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولاخطأ وقيل : الاستثناء من مؤمن أى إلا خاطئا والمختار مع الفصل الكثير فى مثل ذلك النصب والخطأ مالا يقارنه القصد الى الفعل أو الشخص أو لايقصد به زهوق الروح غالبا أو لايقصد به محظور كرمى مسلم فى صف الكفار مع الجهل باسلامه وقرىء خطأ بالمد وخطا بوزن عمى بتخفيف الهمزة أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدى أن عياش بن أبى ربيعة المخزومى وكان أخا أبى جهل والحرث بن هشام لأمهما أسلم وهاجر الى النبى صلى الله عليه و سلم وكان أحب ولد أمه اليها فشق ذلك عليها فحلفت أن لايظلها سقف بيت حتى تراه فأقبل أبو جهل والحرث حتى قدما المدينة فأخبرا عياشا بما لقيت أمه وسألاه أن يرجع معهما فتنظر اليه ولايمنعاه أن يرجع وأعطياه موثقا أن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا اليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة وأعانهما على ذلك رجل من بنى كنانة فحلف عياش ليقتلن الكنانى إن قدر عليه فقدما به مكة فلم يزل محيوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة فخرج عياش فلقى الكنانى وقد أسلم وعياش لايعلم باسلامه فضربه حتى قتله فأخبر بعد ذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره الخبر فنزلت وروى مثل ذلك عن مجاهد وعكرمة
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنها نزلت فى رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل أبو الدرداء الى شعب يريد حاجة له فوجد رجلا من القوم فى غنم له فحمل عليه بالسيف فقال : لاإله إلا الله فبدر فضربه
(5/112)
ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد فى نفسه شيئا قأتى الى النبى صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا شققت عن قلبه وقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه ! فقال : كيف بي يارسول الله فقال عليه الصلاة و السلام : فكيف بلا إله إلا الله ! وتكررذلك قال أبو الدرداء فتمنيت أن ذلك اليوم مبتدأ اسلامى ثم نزل القرآن ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة أى فعليه أى فواجبه تحرير رقبة والتحرير والاعتاق وأصل معناه جعله حرا أى كريما لأنه يقال لكل مكرم حر ومنه حر الوجه للخد وأحرار الطير وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضا والمراد بالرقبة النسمة تعبيرا عن الكل بالجزء قال الراغب : انها فى المتعارف للمماليك كما يعبر بالرأس والظهر عن المركوب فيقال : فلان يربط كذا رأسا وكذا ظهرا مؤمنة محكوم بإيمانها وان كانت صغيرة وإلى ذلك ذهب عطاء وعن ابن عباس والشعبى وإبراهيم والحسن لايجزىء فى كفارة القتل الطفل ولاالكافر وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال فى حرف أبى : فتحرير رقبة مؤمنة لايجزىء فيها صبى وفى الآية رد على من زعم جواز عتق كتابى صغير أو مجوسى كبير أو صغير واستدل بها على عدم إجزاء نصف رقبة ونصف أخرى ودية مسلمة إلى أهله أى مؤداة الى ورثة القتيل يقتسمونها بينهم على حسب الميراث فقد أخرج أصحاب السنن الأربعة عن الضحاك بن سفيان الكلابى قال : كتب الى رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرتى أن أورث امرأة أشيم الضبابى من عقل زوجها ويقضى منها الدين وتنفذ الوصية ولافرق بينها وبين سائر التلركة وعن شريك لايقضى من الدية دين ولاتنفذ وصية
وعن ربيعة الغرة لأم الجنين وحدها وذلك خلاف قول الجماعة وتجب الرقبة فى مال القاتل والدية تتحملها عنه العاقلة فان لم تكن فهى فى بيت المال فان لم يكن ففى ماله إلا أن يصدقوا أى يتصدق أهله عليه وسمى العفو عنها حثا عليه وقد أخرج الشيخان عن النبي صلى الله عليه و سلم كل معلروف صدقة وهو متعلق بعليه المقدر قبل أو بمسلمة أى فعليه الدية أو يسلمها فى جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بها فحينئذ تسقط ولايلزم تسليمها وليس فيه كما قيل دلالة على سقوط التحرير حتى يلزم تقدير عليه آخر قبل قوله : ودية مسلمة فالمنسبك فى محل نصب على الاستثناء وقال الزمخشرى : إن المنسبك فى محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف وتعقبه أبو حيان بأن كلا التخريجين خطأ لأن أن والفعل لايجوز وقوعهما حالا ولامنصوبا على الظرفية كما نص عليه النحاة وذكر أن بعضهم اشتشهد على وقوع أن وصلتها موقع ظرف الزمان بقوله : فقلت لها لاتنكحيه فانه لأول سهم أن يلاقى مجمعا أى لأول سهم زمان ملاقاته وابن مالك كما قال السفاقسى يقدر فى الآية والبيت حرف الجر أي بأن يصدقوا وبأن يلاقى وقرأ أبى إلا أن يتصدقوا فان كان أى المقتول خطأ من قولهم عدو لكم أى كفار يناصبوكم الحرب وهو مؤمن ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أتاهم بعد أن أسلم لمهم أو بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم والآية نزلت كما قال ابن جبير فى مرداس بن عمرو لما قتله خطأ أسامة بن زيد فتحرير رقبة مؤمنة أى فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ لاورثة بينه وبين أهله وإن كان
(5/113)
أى المقتول المؤمن كما روى عن جابر بن زيد من قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق أى عهد مؤقت أو مؤبد فدية أى فعلى قاتله مسلمة إلى أهله من أهل الإسلام إن وجدوا ولاتدفع الى ذوى قرابته من الكفار وإن كانوا معاهدين إذ لايرث الكافر المسلم ولعل تقديم هذا الحكم كما قيل مع تأخير نظيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق وتحرير رقبة مؤمنة كما هو حكم سائر المسلمين ولعل إفراده بالذكر كما قيل أيضا مع اندراجه فى حكم ماسبق فى قوله سبحانه : ومن قتل مؤمنا خطأ الخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لايمنع وجوب الدية كما منعه كونه بين المحاربين
وقيل : المراد بالمقتول هنا أحد أولئك القوم المعاهدين فيلزم قاتله تحرير الرقبة وأداء الدية الى أهله المشركين للعهد الذي بيننا وبينهم وروى ذلك عن ابن عباس والشعبى وأبى مالك واستدل بها على أن دية المسلم والذمى سواء لأنه تعالى ذكر فى كل الكفارة والدية فيجب أن تكون ديتهما سواءا كما أن الكفارة عنهما سواء
وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن شهاب قال : بلغنا أن دية المعاهد كانت كدية المسلم ثم نقصت بعد فى آخر الزمان فجعلت مثل نصف دية المسلم وأخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن دية أهل الكتاب كانت على عهد النبي صلى الله عليه و سلم النصف من دية المسلمين وبذلك أخذ مالك
وعن الشافعى رضى الله تعالى عنه دية اليهودى والنصرانى نصف دية المسلم ودية المجوسى ثلثا عشرها وزعم بعضهم وجوب الدية أيضا فيما إذا كان المقتول من قوم عدو لنا وهو مؤمن لعموم الآيه الأولى وأن السكوت عن الدية فى آيته لاينفيها وإنما سكت عنها لأنه لايجب فيه دية تسلم الى أهله لأنهم كفار بل تكون لبيت المال فأراد أن يبين بالسكوت أن أهله لايستحقون شيئا وقال آحرون إن الدية تجب فى المؤمن إذا كان من قوم معاهدين وتدفع إلى أهله الكفار وهم أحق بديته لعهدهم ولعل هؤلاء لايعدون ذلك إرثا إذ لايرث الكافر ولو معاهدا المسلم كما برهن عليه فمن لم يجد رقبة يحررها بأن لم يملكها ولامايتوصل به اليها من الثمن فصيام أى فعليه صيام شهرين متتابعين قال مجاهد : لافطر فيهما ولايقطع صيامهما فان فعل من غير مرض ولاعذر استقبل صيامهما جميعا فان عرض له مرض أو عذر صام مابقى منهما فان مات ولم يصم أطعم عنه ستين مسكينا لكل مسكين مد رواه ابن أبى حاتم
وأخرج عنه أيضا أنه قال : فمن لم يجد دية أو عتاقة فعليه الصوم وبه أخذ من قال : إن الصوم لفاقد الدية والرقبة يجزيه عنهما والاقتصار على تقدير الرقبة مفعولا هو المروى عن الجمهور وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنه قال : الصيام لمن لم يجد رقبة وأما الدية فواجبة لايبطلها شىء ثم قال وهو الصواب لأن الدية فى الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل فلا يجزىء صوم صائم عما لزم غيره فى ماله واستدل بلآية من قال : إنه لاإطعام فى هذه الكفارة ومن قال : ينتقل اليه عند العجز عن الصوم قاسه على الظهار وهو أحد قولين للشافعى رحمه الله تعالى وبذكر الكفارة فى الخطأ دون العمد من قال : أن لاكفارة فى العمد والشافعى يقول : هو أولى بها من الخطأ توبة نصب على أنه مفعول له أى شرع لكم ذلك توبة أى قبولا لها من تاب الله تعالى عليه إذا قبل توبته وفيه اشارة الى التقصير بترك الاحتياط
(5/114)
وقيل : التوبة بمعنى التخفيف أى شرع لكم هذا تخفيفا عليكم وقيل : إنه منصوب على الحالية من الضمير المجرور فى عليه بحذف المضاف أى فعليه صيام شهرين حال كونه ذا توبة وقيل : على المصدرية أى تاب عليكم توبة وقوله سبحانه : من الله متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة أى توبة كائنة من الله تعالى
وكان الله عليما بجميع الاشياء التي من جملتها حال هذا القاتل حكيما
92
- فى كل ماشرع وقضى من الأحكام التى من جملتها ماشرع وقضى فى شأنه ومن يقتل مؤمنا متعمدا بأن يقصد قتله بما يفرق الأجزاء أو بما لايطيقه البتة عالما بايمانه وهو نصب على الحال من فاعل يقتل
وروى عن السكائى أنه سكن التاء وكأنه فر من توالى الحركات فجزاوه الذي يستحقه بجنايته جهنم خالدا فيها أى ماكثا الى الأبد أو مكثا طويلا إلى حيث شاء الله تعالى وهو حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل : فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا
وقال أبو البقاء : هو حال من الضمير المرفوع أو المنصوب فى يجزاها المقدر وقيل : هو من المنصوب لاغير ويقدر جازاه وأيد بأنه أنسب بعطف مابعده عليه لموافقته له صيغة ومنع جعله حالا من الضمير المجرور فى فجزاؤه لوجهين : أحدهما أنه حال من المضاف اليه وثانيهما أنه فصل بين الحال وذيها بخبر المبتدأ وقول سبحانه : وغضب الله عليه عطف على مقدر تدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه : بطريق الاستئناف تقريرا لمضمونها حكم الله تعالى بأن جزاءه ذلك وغضب عليه أى انتقم منه على ماعليه الأشاعرة ولعنه أى أبعده عن رحمته بجعل جزائه ماذكر وقيل هو وما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن وحمل الماضى على معنى المستقبل أى فجزاؤه جهنم وأن يغضب الله تعالى عليه الخ وأعد له عذابا عظيما
93
- لايقادر قدره
والآية كما أخرج ابن أبى حاتم عن ابن جبير نزلت فى مقيس بن ضبابة الكنانى أنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه هشاما ذات يوم قتيلا فى الأنصار فى بنى النجار فانطلق إلى النبى صلى الله عليه و سلم فأخبره بذلك فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من قريش من بنى فهر ومعه مقيس الى بنى النجار ومنازلهم يومئذ بقباء أن ادفعوا الى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك وإلا فادفعوا اليه الدية فلما جاءهم الرسول قالوا : السمع والطاعة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه و سلم والله تعالى مانعلم له قاتلا ولكن نؤدى الدية فدفعوا الى مقيس مائة من الأبل دية أخيه فلما انصرف مقيس والفهرى راجعين من قباء الى المدينة وبينهما ساعة عمد مقيس الى الفهرى رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتله وارتد عن الاسلام وفى رواية أنه ضرب به الأرض وفضخ رأسه بين حجرين وركب جملا من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة وهو يقول فى شعر له : قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بنى النجار أرباب قارع وأدركت ثارى واضجعت موسدا وكنتت الى الاوثان أول راجع فنزلت هذه الآية مشتملة على إبراق وإرعاد وتهديد شديد وإبعاد وقد تأديت بغير ماخبر ورد عن سيد البشر صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أخرج أحمد والنسائى عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : كل ذنب عسى الله تعالى أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا وأخرج ابن المنذر
(5/115)
عن أبى الدرداء مثله وأخرج ابن عدى والبيهقى عن ابن عمر قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أعان على دم أمرىء مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله وأخرجا عن البراء بن عازب أن النبى صلى الله عليه و سلم قال لزوال الدنيا ومافيها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا فى دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار وفى رواية الأصبهانى عن أبن عمر أنه عليه الصلاة و السلام قال : لو أن الثقلين أجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله تعالى على مناخرهم فى النار وأن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر واستدل بذلك ونحوه من القوارع المعتزلة على خلود من قتل مؤمنا متعمدا فى النار وأجاب بعض المحققين بأن ذلك خارج مخرج التغليظ فى الزجر لاسيما الآية لاقتضاء النظم له فيها كقوله تعالى : ومن كفر فى آية الحج وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم للمقداد ابن الاسود كما فى الصحيحين حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده فى الحرب لاتقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التى قال وعلى ذلك يحمل ماأخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نازلت ربى في قاتل المؤمن أن يجعل له توبة فأبى على وما أخرجه عن سعيد بن عينا أنه قال : كنت جالسا بجنب أبى هريرة رضى الله تعالى عنه إذ أتاه رجل فسأله عن قاتل المؤمن هل له من توبة فقال : لا والذى لا إله إلا هو لايدخل الحنة حتى يلج الجمل سم الخياط
وشاع القول بنفى التوبة عن ابن عباس وأخرجه غير واحد عنه وهو محمول على ماذكرنا ويؤيد ذلك ماأخرجه ابن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول : لمن قتل مؤمنا توبة فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمنا توبة قال : لا إلا النار فلما قام الرجل قال له جلساؤه : ماكنت هكذا تفتينا كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة فما شأن هذا اليوم قال : إنى أظنه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا فبعثوا فى أثره فوجدوه كذلك وكان هذا أيضا شأن غيره من الأكابر فقد قال سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لاتوبة له فاذا ابتلى رجل قالوا له تب وأجاب آخرون بأن المراد من الخلود فى الآية المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لايدوم عذابهم وأخرج ابن النذر عن عون بن عبد الله أنه قال : فجزاؤه جهنم إن هو جازاه وروى مثله بسند ضعيف عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه مرفوعا الى النبى صلى الله عليه و سلم قيل وهذا كما يقول الانسان لمن يزجره عن أمر : إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ثم ان لم يجازه لم يكن ذلك منه كذبا ولأصل فى هذا على ماقال الواحدى : إن الله عز و جل يجوز أن يخلف الوعيد وإن امتنع أن يحبف الوعد وبهذا وردت السنة ففى حديث أنس رضى الله تعالى عنه أن النبى صلى الله عليه و سلم قال : من وعده الله تعالى على عمله ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار ومن أدعية الأئمة الصادقين رضى الله تعالى عنهم : يامن اذا وعد وفا واذا توعد عفا وقد افتخرت العرب بحلف الوعيد ولم تعده نقصا كما يدل عيه قوله : وأنى إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادى ومنجز موعدى واعترض بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر وإذا جاز الخلف فيه وهو كذب لإظهار الكرم فلم لايجوز فى القصص والاخبار لغرض من الأغراض وفتح ذلك الباب يفضى الى الطعن فى الشرائع كلها
(5/116)
والقائلون بالعفو عن بعض المتوعدين منهم من زعم أن آيات الوعيد انشاء ومنهم من قال : إنها اخبار إلا أن هناك شرطا محذوفا للترهيب فلا خلف بالعفو فيها وقال شيخ الاسلام : والتحقيق أنه لاضرورة الى تفريع مانحن فيه على الاصل لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لابأنه يجزيه كيف لا وقد قال عز و جل : وجزاء سسيئة سيئة مثلها ولو كان هذا إخبارا بأنه سبحانه يجزى كل سيئة بمثلها لعارضة قوله جل شأنه ويعفو عن كثير وهذا مأخوذ من كلام أبى صالح وبكر بن عبد الله واعترضه أبو على الجبائى بأن ما لايفعل لايسمى جزاءا ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة فالدراه التى عند مستأجره لاتسمى جزاءا مالم تعط له وتصل اليه !
وتعقبه الطبرسى بأن هذا لايصح لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل أم لم يفعل ولهذا يقال : جزاء المحسن الاحسان وجزاء المسىء الأساءة وإن لم يتعين المحسن والمسىء حتى يقال : فعل ذلك معهما أو لم يفعل ويقال لمن قتل غيره : جزاء هذا أن يقتل وهو كلام صادق وإن لم يفعل القتل وإنما لايقال للدراهم : انها جزاء الأجير لأن الأجير إنما يستحق الأجرة فى الذمة لافى الدراهم المعينة فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها
واعترض بأنا سلمنا أنه لايلزم فى الجزاء أن يفعل إلا أن كثيرا من الآيات كقوله تعالى : من يعمل سوءا يجز به ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره يدل على أنه تعالى يوصل الجزاء الى المستحقين البتة وفى الآية مايشير اليه ولايخفى مافيه لأن الآيات التى فيها أنه تعالى يوصل الجزاء الى مستحقه كلها فى حكم آيات الوعيد والعفو فيه جائز فلا معنى للقول بالبت ومن هنا قيل : إن الآية لاتصلح دليلا للمعتزلة مع قوله تعالى : ويغفر مادون ذلك لمن يشاء
وقد أخرج البيهقى عن قريش بن أنس قال كنت عند عمرو بن عبيد فى بيته فأنشأ يقول : يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدى الله تعالى فيقول لى : لم قلت : إن القاتل فى النار فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية ومن يقتل مؤمنا الخ فقلت له : ومافى البيت أصغر منى أرأيت إن قال لك فانى قد قلت : إن الله لايففر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء فمن أين علمت أنى لاأشاء أن أغفر لهذا قال : فما استطاع أن يرد على شيئا ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المنذر عن اسمعيل بن ثوبان قال : جالست الناس قبل الداء الأعظم فى المسجد الأكبر فسمعتهم يقولون لما نزلت ومن يقتل مؤمنا الآية : قال المهاجرون والانصار وجبت لمن فعل هذا النار ختى نزلت إن الله لايغفر أن يشرك به الخ فقال المهاجرون والانصار يصنع الله تعالى ماشاء وبآية المغفرة رد ابن سيرين على من تمسك بآية الخلود وغضب عليه وأخرجه من عنده وكون آية الخلود بعد تلك الآية نزولا بستة أشهر أو بأربعة أشهر كما روى عن زيد بن ثابت لايفيد شيئا ودعوى النسخ فى مثل ذلك مما لايكاد يصح كما لايخفى وأجاب بعض الناس بأن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل وكفره مما لاشك فيه فليس ذلك محلا للنزاع ويدل عليه أنها نزلت فى الكنانى حسبما مرت حكايته وقد روى عن عكرمة وابن جريج وجماعة أنهم فسروا متعمدا بمستحلا واعترض بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وبأن تفسير المتعمد بالمستحل مما لايكاد يقبل إذ ليس هو معناه لغة ولاشرعا فان التزم المجاز فلا دليل عليه وسبب النزول لايصلح أن يكون دليلا لما علمت الآن على أنه يفوت التقابل بين هذا القتل المذكور فى هذه الآية والقتل المذكور فى الآية السابقة وهو الخطأ الصرف وقيل إن الاستحلال يفهم من تعليق القتل بالمؤمن لأنه مسشتق وتعليق الحكم بالمشتق
(5/117)
يفيد علية مبدأ الاشتقاق فكأنه قيل ومن يقتل مؤمنا لأجل ايمانه ولاشك أن من يقتله لذلك لايكون إلا مستحلا فلا يكون إلا كافرا فيخرج هذا القاتل عن محل النزاع وإن لم يعتبر سبب نزول واعترض بأن المؤمن وإن كان مشتقا فى الأصل إلا أنه عومل معاملة الجوامد الا ترى أن قولك كلمت مؤمنا مثلا لايفهم منه أنك كلمته لأجل ايمانه ولو أفاد تعليق الحكم بالمؤمن العلية لكان ضرب المؤمن وترك السلام عليه والقيام له كقتله كفرا ولاقائل به واعتبار الاشتقاق تارة وعدم اعتباره أخرى خارج عن حيز الاعتبار فليفهم ثم أنه سبحانه ذكر هنا حكم القتل العمد الأخروى ولم يذكر حكمه الدنيوى اكتفاءا بما تقدم فى آية البقرة يا أيها الذين آمنوا شروع فى التحذير عما يوجب الندم من قتل من لاينبغى قتله
اذا ضربتم في سبيل الله أى سافرتم للغزو على مايدل عليه السباق والسياق فتبينوا أى فاطلبوا بيان الأمر فى كل ما تأتون وتذرون ولاتعملوا فيه من غير تدبر وروية وقرأ حمزة وعلى وخلف فتبينوا أى فاطلبوا ثبات الأمر ولاتعجلوا فيه والمعنيان متقاربان وصيغة التفعيل بمعنى الاستقبال ودخلت الفاء لما فى إذا من معنى الشرط كأنه قيل : إن غزوتم فتبينوا ولاتقولوا لم ألقى إليكم السلام أى حياكم بتحية الاسلام ومقابلها تحية الجاهلية كأنعم صباحا وحياك الله تعالى وقرأ حمزة وخلف وأهل الشام السلم بغير ألف وفى بعض الروايات عن عاصم أنه قرأ السلم بكسر السين وفتح اللام ومعناه فى القرائتين الاستسلام والانقياد وبه فسر بعضهم السلام أيضا فى القراءة المشهورة واللام على ماقال السمين : للتبليغ والماضى بمعنى المضارع ومن موصولة أو موصوفة والمراد النهى عما هو نتيجة لترك المأمور به وتعيين مادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبين والتثبيت وتقييد ذلك بالسفر لأن عدم التبين كان فيه لا لأنه لايجب الا فيه والمعنى لاتقولوا لمن أظهر لكم مايدل على إسلامه : لست مؤمنا وإنما فعلت ذلك خوف القتل بل اقبلوا منه ماأظهر وعاملوه بموجبه
وروى عن على كرم الله تعالى وجهه ومحمد بن على الباقر رضى الله تعالى عنهما وأبي جعفر القارى أنهم قرءوا مؤمنا بفتح الميم الثانية أى مبذولا لك الأمان تبتغون عرض الحياة الدنيا أى تطلبون ماله الذى هو حطام سريع الزوال وشيك الانتقال والجملة فى موضع الحال من فاعل تقولوا مشعرا بماهو الحامل على العجلة والنهى راجع الى القيد والمقيد وقوله تعالى : فعند الله مغانم كثيرة تعليل للنهى عن القيد بما فيه من الوعد الضمنى كأنه قيل : لاتبتغوا ذلك العرض القليل الزائل فان عنده سبحانه وفى مقدوره مغانم كثيرة يغنمكموها فيغنيكم عن ذلك وقوله سبحانه كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم تعليل للنهى عن المقيد باعتبار أن المراد منه رد إيمان الملقى لظنهم أن الايمان العاصم ماظهرت على صاحبه دلائل تواطىء الباطن والظاهر ولم تظهر فيه واسم الإشارة إشارة الى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة والفاء فى فمن للعطف على كنتم وقدم خبرها للقصرالمفيد لتأكيد المشابهة كأنه قيل : لاتردوا إيمان من حياكم بتحية الإسلام وتقولوا إنه ليس بإيمان عاصم ولايعد المتصف به مؤمنا معصوما لظنكم اشتراط التواطؤ فى العصمة ومجرد التحية لايدل عليه فانكم كنتم أنتم فى مبادىء إسلامكم مثل هذا الملقى فى عدم ظهور شىء للناس منكم غير ماظهر منه لكم من التحية ونحوها ولم يظهر منكم ماتظنونه شرطا مما يدل على التواطؤ
(5/118)
ومجرد أن الدخول فى الاسلام لم يكن تحت ظلال السيوف لايدل على ذلك فمن الله تعالى عليكم بأن قبل ذلك منكم ولم يأمر بالفحص عن تواطؤ ألسنتكنم وقلوبكم وعصم ذلك دمائكم وأموالكم فاذا كان الأمر كذلك فتبينوا هذا الامر ولاتعجلوا وتدبروا ليظهر لكم أن ظاهر الحال كاف فى الايمان العاصم حيث كفى فيكم من قبل وأخر هذا التعليل على ماقيل : لما فيه من نوع تفصيل ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع مافيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ماعلل به أو لأن فى تقديم الأول اشارة الى ميل القوم نحو ذلك العرض وأن سرورهم به أقوى ففى تقديمه تعجيل لمسرتهم وفيه نوع حط عليهم رفع الله تعالى قدرهم ورضى المولى عز شأنه عنهم أو لأنه أوضح فى التعليل الأخير وأسبق للذهن منه ولعله لم يعطف أحد التعليلين على الآخر لئلا يتوهم أنهما تعليلا شىء واحد أو أن مجموعهما علة وقيل : موافقه لما علل بهما من القيد والمقيد حيث لم يتمايز بالعطف وقيل : إنما لم يعطف لأن الأول تعليل للنهى الثانى بالوعد بأمر أخروى لأن المعنى لاتبتغوا عرض الحياة الدنيا لأن عنده سبحانه ثوابا كثيرا فى الآخرة أعده لمن لم يبتغ ذلك وعبر عن الثواب بالمغانم مناسبة للمقام والتعليل الثاني للنهى الأول ليس كذلك وذكر الزمخشرى وغيره فى الآية مارده شيخ الاسلام بما يلوح عليه مخايل التحقيق وقال بعض الناس فيها : إن المعنى كما كان هذا الذي قتلتموه مستخفيا بدينه فى قومه خوفا على نفسه منهم كنتم أنتم مستخفين بدينكم حذرا من قومكم على أنفسكم فمن الله تعالى عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله حتى أظهرتم الاسلام بعدما كنتم تكتمونه من أهل الشرك فتبينوا نعمة الله عليكم أو تبينوا أمر من تقتلونه ولايخفى أن هذا وإن كان بعضه مرويا عن ابن جبير غير واف بالمقصود على أن القول : بأن المخاطبين كانوا مستخفين بدينهم حذرا من قومهم فى حيز المنع اللهم إلا إن يقال : ان كون البعض كان مستخفيا كاف فى الخطاب وقيل إن قوله سبحانه : فمن الله عليكم منقطع عما قبله وذلك أنه تعالى لما نهى القوم عن قتل من ذكر أخبرهم بعد بأنه من عليهم بأن قبل توبتهم عن ذلك الفعل المنكر ثم أعاد الأمر بالتبين مبالغة فى التحذير أو أمر بتبيين نعمته سبحانه شكرا لما من عليهم به وهو كما ترى
واختلف فى سبب الآية فأخرج أحمد والترمذى وحسنه وابن حميد وصححه عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : مر رجل من بنى سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا : ماسلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبى صلى الله عليه و سلم فنزلت
وأخرج ابن جرير عن السدى قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية عليها أسامة بن زيد الى بنى ضمرة فلقوا رجلا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر فآوى إلى كهف جبل واتبعه اسامة فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل عليهم فقال : السلام عليكم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته وكان النبى صلى الله عليه و سلم إذا بعث اسامة أحب أن يثنى عليه خيرا ويسأل عن أصحابه فلما رجعوا لم يسألهم عنه فجعل القوم يحدثون النبى صلى الله عليه و سلم ويقولون يارسول الله لو رأيت أسامة وقد لقيه رجل فقال الرجل : لا إله إلا الله محمد رسول الله فشد عليه فقتله وهو معرض عنهم فلما أكثروا عليه رفع رأسه الى أسامة فقال : كيف أنت ولا إله إلا الله فقال يارسول الله إنما قالها متعوذا يتعوذ بها فقال عليه الصلاة و السلام : هلا شققت عن قلبه فنظرت اليه ! ثم نزلت الآية
(5/119)
وأخرج عن ابن زيد أنها نزلت فى رجل قتله أبو الدرداء وذكر من قصته مثل ماذكر من قصة أسامة والاقتصار على ذكر تحية الاسلام على هذا مع أنها كانت مقرونة بكلمة الشهادة للمبالغة فى النهى والزجر والتنبيه على كمال ظهور خطئهم ببيان أن التحية كانت فى المكافة والانجزار عن التعرض لصاحبها فكيف وهى مقرونة بتلك الكلمة الطيبة واستدل بلآية وسياقها على صحة إيمان المكره وإن المجتهد قد يخطىء وإن خطأه مغتفر وجه الدلالة على الأول أنه مع ظن القاتلين أن إسلام من ذكر لخوف القتل وهو إكراه معنى أنكر عليهم قتله فلولا صحة إسلامه لم ينكر ووجه الدلالة على الثانى أنه أمر فيها بالتبيين المشعر بأن العجلة خطأ
ووجه الدلالة على الثالث مأخوذ من السياق وعدم الوعيد على ترك التبيين وذهب بعضهم الى أنه لاعذر فى ترك التثبت فى مثل هذه الأمور وأن المخطىء آثم واحتج على ذلك بما أخرجه ابن أبى حاتم والبيهقى عن الحسن أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ذهبوا يتطرقون فلقوا ناسا من العدو فحملوا عليهم فهزموهم فشد رجل منهم فتبعه رجل يريد متاعه فلما غشيه بالسنان قال : انى مسلم إنى مسلم فأوجره بالسنان فقتله وأخذ متيعه فرفع ذلك الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عليه الصلاة و السلام للقاتل : أقتلته بعد ماقال : إنى مسلم ! قال : يارسول الله إنما قالها متعوذا قال : أفلا شققت عن قلبه ! قال : لم يارسول الله قال لتعلم أصادق هو أم كاذب قال : كنت عالم ذلك يارسول الله قال عليه الصلاة و السلام : إنما كان يبين عنه لسانه إنما كان يعبر عنه لسانه قال : فما لبث القاتل أن مات فحفر له أصحابه فأصبح وقد وضعته الأرض ثم عادوا فحفروا له فأصبح وقد وضعته الأرض الى جنب قبره قال الحسن فلا أدرى كم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : دفناه مرتين أو ثلاثا كل ذلك لاتقبله الأرض فلما رأينا الأرض لاتقبله أخذنا برجله فألقيناه فى بعض تلك الشعاب فأنزل الله تعالى قوله سبحانه : ياأيها الذين آمنوا الآية وفى رواية عبد الرزاق عن قتادة أن النبى صلى الله عليه و سلم قال : ان الأرض أبت أن تقبله فالقوه فى غار من الغيران ووجه الدلالة فى هذا على الإثم ظاهر وأجيب بأن هذا القاتل لعله لم يفعل ذلك لكون المقتول غير مقبول فى الاسلام عنده بل لأمر آخر واعتذر بما اعتذر كاذبا بين يدى رسول الله صلى الله عليه و سلم ويؤيد ذلك ماأخرجه أحمد وابن المنذر والطبرانى وجماعة عن عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم الى إضم فخرجت فى نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحرث بن ربعى ومحلم بن جثامة بن قيس اللبثى فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعى على قعود معه متيع له ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا بتحية الاسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشىء كان بينه وبينه فقتله وأخذ متيعه فلما قدمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن ياأيها الذين آمنوا الخ والظاهر أن الرجل المبهم فى خبر الحسن هو هذا الرجل المصرح به فى هذا الخبر وهو يدل على أن القتل كان لشىء كان فى القلب من ضغائن قديمة وإنما قلنا : إن هذا هو الظاهر لما فى خبر ابن عمر أن محلما بن جثامة لما رجع جاء النبى صلى الله عليه و سلم فى بردين فجلس بين يديه عليه الصلاة و السلام ليستغفر له فقال : لاغفر الله تعالى لك فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فجاءوا النبى صلى الله عليه و سلم فذكروا ذلك له فقال : ان الارض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله تعالى أراد أن يعظكم ثم طرحوه بين صدفى جبل وألقوا عليه الحجارة فان الذى يميل القلب اليه اتحاد القصة واعترض على القبول بعدم الوعيد ب أن قوله تعالى : إن الله كان بما تعملون خبيرا
(5/120)
يستفاد منه الوعيد أى أنه سبحانه لم يزل ولايزال بكل ماتعلمونه من الاعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها ويدخل فى ذلك التثبيت وتركه دخولا أوليا مطاع أتم اطلاع فيجازيكم بحسب ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر والجملة تعليل بطريق الاستئناف وقرىء بفتح أن على أنه معمول لتبينوا أو على حذف لام التعليل
لايستوى القاعدون شروع فى الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه وليرغبوا عما يوجب خللا فيه والمراد بالقاعدين الذين أذن لهم بالقعود عن الجهاد اكتفاءا بغيرهم وروى البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما هم القاعدون عن بدر وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ماقيل وقال أبو حمزة : إنهم المتخلفون عن تبوك وروى أن الآية نزلت فى كعب بن مالك من بنى سلمة ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بنى واقف حين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فى تلك الغزوة من المؤمنين حال من القاعدين وجوز أن يكون من الضمير المستتر فيه وفائدة ذلك الإيذان من أول الأمر بأن القعود عن الجهاد لايقعد بهم عن الايمان والاشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتى من الحسنى أى لايعتدل المتخلفون عن الجهاد حال كونهم كائنين من المؤمنين غير أولى الضرر بالرفع على أنه صفة للقاعدون وهو إن كان معرفة و غير لاتتعرف فى مثل هذا الموضع لكنه غير مقصود منه قاعدون بعينهم بل الجنس فأشبه الجنس فصح وصفه بها وزعم عصام الدين إن غير هنا معرفة غير أولى الضرر بمعنى من لاضرر له : ونقل عن الرضى وبه ضعف ماتقدم أن المعرف باللام المبهم وإن كان فى حكم النكرة لكنه لايوصف بما توصف به النكرة بل يتعين أن تكون صفته جملة فعلية فعلها مضارع كما فى قوله : ولقد أمر على اللئيم أن يسبنى فأصد ثم أقول مايعنينى واستحسن بعضهم جعله بدلا من القاعدون لأن أل فيه موصولة والمعروف إرادة الجنس فى المعرف بالألف وبينهما فرق وجوز الزجاج الرفع على الاستثناء وتبعه الواحدى فيه وقرأ نافع وابن عامر والكسائى بالنصب على أنه حال وهو نكرة لامعرفة أو على الاستثناء ظهر إعراب مابعده عليه وقرىء بالجر على أنه صفة للمؤمنين أو بدل منه وكون النكرة لاتبدل من المعرفة إلا موصوفة أكثرى لاكلى و الضرر المرض والعلل التى لاسبيل معها الى الجهاد وفى معناها أو هو داخل فيها العجز عن الأهبة وقد نزلت الآية وليس فيها غير أولى الضرر ثم نزل بعد فقد روى مالك عن الزهرى عن خارجة بن زيد قال : قال زيد بن ثالت : كنت أكتب بين يدى النبى صلى الله عليه و سلم فى كتف لايستوى القاعدون من المؤمنون والمجاهدون وابن أم مكتوم عند النبى صلى الله عليه و سلم فقال : يارسول الله قد أنزل الله تعالى فى فضل الجهاد مأنزل وأنا رجل ضرير فهل لى رخصة فقال النبى صلى الله عليه و سلم لاأدرى قال زيد : وقلمى رطب ماجف حتى غشى النبى صلى الله عليه و سلم الوحى ووقع فخذه على فخذى حتى كادت تدق من ثقل الوحى ثم جلى عنه فقال لى : أكتب يازيد غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله فى منهاج دينه بأموالهم إنفاقا فيما يوهن كيد الاعداء وأنفسهم حملا لها على الكفاح عند اللقاء وكلا الجارين متعلق بالمجاهدون وأوردوا بهذا العنوان دون عنوان الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه وقيده بما قيده مدحا لهم وإشعارا بعلة استحقاقهم لعلوا المرتبة مع مافيه من حسن موقع السبيل فى مقابلة القعود كما قيل وقيل : إنما أوردوا بعنوان الجهاد
(5/121)
إشعارا بأن القعود كان عنه ولكن ترك التصريح به هناك رعاية لهم فى الجملة وقدم القاعدون على المجاهدين ولم يؤخر عنهم ليتصل التصريح بتفضيلهم بهم وقيل : للايذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهة القاعدين لامن جهة مقابليهم فان مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر وعيه قوله تعالى : هل يستوى الاعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور الى غير ذلك وأما قوله تعالى : هل يستوى الذين يعلمون والذين لايعلمون فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة الموصول
وأنت تعلم أنه لاتزاحم فى النكات وأنه قد يكون فى شىء واحد جهة تقديم وجهة تأخير فتعتبر هذه تارة وتلك أخرى وإنما قدم سبحانه وتعالى هنا ذكر الأموال على الأنفس وعكس فى قوله عز شأنه : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم لأن انفس أشرف من المال فقدم مشترى النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد وأخر البائع تنبيها على أن المماسكة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا فى فائدة وعلى ذلك النمط جاء أيضا قوله تعالى : فضل الله المجاهدين فى سبيله بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من المؤمنين غير أولى الضرر درجة لايقادر قدرها ولايبلغ كنهها وهذا تصريح بم أفهمه نفى المساواة فانه يستلزم التفضيل الى أنه لم يكتف بما فهم اعتناءا به وليتمكن أشد تمكن ولكون الجملة مبنية وموضحة لما تقدم لم تعطف عليه وجوز أن تكون جواب سؤال ينساق اليه المقال كأنه قيل : كيف وقع ذلك التفضيل فقيل : فضل الله الخ واللام كما أشرنا اليه فى الجمعين للعهد ولايأباه كون مدخولها وصفا كما قيل إذ كثيرا ماترد أل فيه للتعريف كما صرح به النحاة ودرجة منصوب على المصدر لتضمنها التفضيل لأنها المنزلة والمرتبة وهى تكون فى الترقى والفضل فوقعت موقع المصدر كأنه قيل : فضلهم تفضيلة وذلك مثل قولهم : ضربته سوطا أى ضربة وقيل : على الحال أى ذوى درجة وقيل : على التمييز وقيل : على تقدير حذف الجار أى بدرجة وقيل : هو واقع موقع الظرف أى فى درجة ومنزلة وقوله تعالى : وكلا مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لافادة القصر تأكيدا للوعد وتنويه عوض عن المضاف اليه أى كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين وعد الله المثوبة الحسنى وهى الجنة كما قال قتادة وغيره لاأحدهما فقط وقرأ الحسن وكل بالرفع على الابتداء فالمفعول الأول وهو العائد فى جملة الخبر محذوف أى وعده وكأن التزام النصب فى المتواترة لأن قبله جملة فعلية وبذلك خالف مافى الحديد و الحسنى على القراءتين هو المفعول الثانى والجملة اعتراض جىء به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول وقوله سبحانه : وفضل الله المجاهدين على القاعدين عطف على ماقبله وأغنت أل عن ذكر ماترك على سبيل التدرج من القيود وإنما لم يعتبر التدرج فى ترك ماذكر مع القاعدين أولا بأن يترك من المؤمنين فقط ويذكر غير أولى الضرر فى الآية الأولى ويتركهما معا فى الآية الثانية بل تركهما دفعة واحدة عند أول قصد التدريج قيل : لأن قيد غير أولى الضرر كان بعد السؤال كما يشير اليه سبب النزول
وفى بعض أخباره أن ابن أم مكتوم لما نزلت الآية جعل يقول : أى رب أين عذرى أى رب أين عذرى فنزل ذلك فانسدت باب الحاجة اليه وقنع السائل بذكره مرة فأسقط مع مامعه الساقط لذلك القصد دفعة ولا كذلك
(5/122)
ما ذكر مع المجاهدين فان الإتيان به كان عن محض الفضل والامتنان من غير سابقة سؤال فلما فتحت باب الإسقاط اعتبر فيه التدريج فرقا بين المقامين وقوله تعالى : أجرا عظيما
95
- مصدر مؤكد لفضل وهو إن كان بمعنى أعطى الفضل وهو أعم من الأجر لأنه مايكون فى مقابلة أمر لكن أريد به هنا الأخص لأنه فى مقابلة الجهاد ويجوز أن يبقى على معناه و أجرا مفعول به ولتضمنه معنى الإعطاء نصب المفعول أى أعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما وقيل : هو منصوب بنزع الخافض أى فضلهم بأجر
وجعله صفة لقوله تعالى : درجات قدم عليها فانتصب على الحال ولكونه مصدرا فى الأصل يتوى فيه الواحد وغيره جاز نعت الجمع به بعيد وجوز فى درجات أن يكون بدلا من أجرا بدل الكل مبنيا لكمية التفضيل وأن يكون حالا أى ذوى درجات وأن يكون واقعا موقع الظرف أى فى درجات وقوله سبحانه : منه متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات دالة على فخامتها وعلو شأنها أخرج عبد بن حميد عن ابن محيرز أنه قال : هى سبعون درجة مابين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة وأخرج مسلم وأبو داود والنسائى عن ابى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من رضى بالله تعالى ربا وبالاسلام دينا وبمحمد عليه الصلاة و السلام رسولا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها على يارسول الله فأعادها عليه ثم قال صلى تعالى عليه وسلم : وأخرى يرفع الله تعالى بها العبد مائة درجة فى الجنة مابين كل درجتين كما بين السماء والارض قال : وماهى يارسول الله قال : الجهاد فى سبيل تعالى وعن السدى أنها سبعمائة وجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما فى قولك : ضربته أسواطا أى ضربات كأنه قيل : فضلهم تفضيلات وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة وقيل : إنه على بابه
والمراد بالدرجات ماذكر فى آية براءة ماكان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولايرعبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لايصيبهم ظمأ ولانصب ولا مخمصة فى سبيل الله ولايطأون موطئا يغيظ الكفار ولاينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح الى قوله سبحانه : ليجزيهم الله أحسن ماكانوا يعملون ونسب الى عبد الله بن زيد وقوله عن شأنه : ومغفرة عطف على درجات الواقع بدلا من أجرا بدل الكل إلا أن هذا بدل البعض منه لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة أى ومغفرة عظيمة لما يفرط منهم من الذنوب التى لايكفرها سائر الحسنات التى يأتى بها القاعدون فحينئذ تعد من خصائصهم وقوله تعالى : ورحمة عطف عليه أيضا وهو بدل الكل من أجرا وجوز أن يكون انتصابهما بفعل مقدر أى غفر لهم مغفرة ورحمهم
هذا ولعل تكرير التفضل بطريق العطف المنبىء عن المغايرة وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يستدعيه الظاهر إما لتنزيل الاختلاف العنوانى بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتى تمهيدا لسلوك طريق الابهام ثم التفسير وما لمزيد التحقيق والتقرير المؤذن بأن فضل المجاهدين بمحل لاتستطيع طير الأفكار الخضر ان تصل اليه ولما كان هذا ممالايكاد أن يتوهم منه حرمان القاعدين اعتنى سبحانه بدفع ذلك بقوله عز قائلا : وكلا وعد الله الحسنى ثم أراد جل شأنه تفسير ما أفاده التنكير بطريق الابهام بحيث يقطع إحتمال كونه للوحدة ن فقال ماقال وسد باب الاحتمال
(5/123)
ولا يخفى مافى الابهام والتفسير من العطف وأما ماقيل من إفراد الدرجة أولا لأن المراد هناك تفضيل كل مجاهد والجمع ثانيا لأن المراد فيه تفضيل الجمع ففى الدرجات مقابلة الجمع بالجمع فلكل مجاهد درجة ومآل العبارتين واحد والاختلاف تفنن فمن الكلام الملفوظ لامن اللوح المحفوظ واما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات وفى هذا رغب الراغب واستطيبه الطبى على أن المراد بالتفضيل الأول ماخولهم الله تعالى عاجلا فى الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيقى بكونه درجة واحدة وبالتفضيل الثانى ماادخره سبحانه لهم ما الدرجات العاية والمنازل الرفيعة المتعالية عن الحصر كما ينبىء عنه تقديم الأول وتأخير الثانى وتوسيط الوعد بالجنة بينهما كأنه قيل : فضلهم فى الدنيا درجة واحدة وفى الأخرى درجات لاتحصى وقد وسط بينهما فى الذكر ماهو متوسط بينهما فى الوجود أعنى الوعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة الى تسلية المضول كذا قرره الفاضل مولانا شيخ الاسلام وقيل : المراد من التفضيل الأول رضوان الله تعالى ونعيمه الروحانى ومن التفضيل الثانى نعيم الجنة المحسوس وفيه أن عطف المغفرة والرحمة يبعد هذا التخصيص وقيل : المراد من المجاهدين الأولين من جاهد الكفار ومن المجاهدين الآخرين من جاهد نفسه وزيد لهم فى الأجر لمزيد فضلهم كما يدل عليه قوله عليه الصلاة و السلام : رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر وفيه أن السياق وسبب النزول يأبيان ذلك والحديث الذى ذكره لاأصل له كما قال المحدثون
وقيل المراد من القاعدين فى الأول الأضراء وفى الثاني غيرهم كما قال ابن جريج وأخرجه عنه ابن جرير وفيه من تفكيك النظم ما لايخفى
بقى أن الآية لاتدل نصا على حكم أولى الضرر بناءا على التفسير المقبول عندنا نعم فى بعض الأحاديث مايؤذن بمساواتهم للمجاهدين فقد صح من حديث أنس رضى الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال : إن فى المدينة لأقواما ماسرتم من سير ولاقطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا : يارسول الله وهم بالمدينة قال : نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر وعليه دلالة مفهوم الصفة والاستثناء فى غير أولى الضرر وعن الزجاج أنه قال : الا أولوا الضرر فانهم يساوون المجاهدين وعن بعضهم إن هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى غير الضرر قد ذكرت فى قوله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى الى قوله سبحانه : إذا نصحوا لله ورسوله والذي يشهد له النقل والعقل أن الأضراء أفضل من غيرهم درجة كما أنهم دون االمجاهدين فى الدرجة الدنيوية وأما انهم مساوون لهم فى الدرجة الأخروية فلا قطع به والآية على ماقاله ابن جريج تدل على أنهم دونهم فى ذلك أيضا
وقد أخرج ابن المنذر من طريق ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى أن ابن أم مكتوم كان بعد نزول الآية يغزو ويقول : ادفعوا الى اللواء وأقيمونى بين الصفين فانى لن أفر وأخرج ابن منصور عن أنس بن مالك أنه قال : لقد رأيت ابن أم مكتوم بعد ذلك فى بعض مشاهد المسلمين ومعه اللواء ويعلم من نفى المساواة فى صدر الآية المستلزم للتفضيل المصرح به بعد بين المجاهد بالمال والنفس والقاعد نفيها بين المجاهد بأحدهما والقاعد واحتمال أن يراد من الآية نفى المساواة بين القاعد عن الجهاد بالمال بالنفس والمجاهد بها بأن يكون المراد بالمجاهدين فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم المجاهدين فيه بأموالهم والمجاهدين
(5/124)
فيه بأنفسهم وبالقاعدين أيضا قسمى القاعد ويكون المراد نفى المساواة بين كل قسم من القاعد ومقابله بعيد جدا واحتج بها كماقال ابن الغرس : من فضل الغنى على الفقر بناءا على أنه سبحانه فضل المجاهد بماله على المجاهد بغير ماله ولاشك أن الدرجة الزائدة من الفضل للمجاهد بماله إنما هى من جهة المال واستدلوا بها أيضا على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديوان ونحوه وكان الله غفورا رحميا تذييل مقرر لما وعد سبحانه من قبل إن الذين توفاهم الملائكة بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان القاعدين عن الجهاد أو بيان الحال القاعين عن نصرة رسول الله صلى الله عليه و سلم والجهاد معه من المنافقين عقب بيان حال القاعدين من المؤمنين و توفاهم يحتمل أن يكون ماضيا وتركت علامة التأنيث للفصل ولأن الفاعل غير الؤنث حقيقى ويحتمل أن يكون مضارعا وأصله تتوفاهم فحذفت إحدى التاءين تخفيفا وهو لحكاية الحال الماضية ويؤيد الاول قراءة من قراءة من قرأ توفتهم والثانى قراءة إبراهيم توفاهم بضم التاء على أنه مضارع وفيت بمعنى أن الله تعالى يوفى الملائكة أنفسهم فيتوفونها أى يمكنهم من استيفائها فيستوفنها وإلى ذلك أشار ابن جنى والمراد من التوفى قبض الروح وهو الظاهر الذي ذهب اليه ابن عباس رضى الله تعالى عنه
وعن الحسن أن المراد به الحشر إلى النار والمراد من الملائكة ملك الموت وأعوانه وهم كما فى البحر ستة : ثلاثة لأرواح المؤمنين وثلاثة لأرواح الكافرين وعن الجمهور أن المراد بهم ملك الموت فقط وهو من إطلاق الجمع مرادا به الواحد تفخيما له وتعظيما لشأنه ولايخفى أن اطلاق الجمع على الواحد لايخلو عن بعد والتحقيق أنه لامانع من نسبة التوفى إلى الله تعالى وإلى ملك الموت وإلى أعوانه والوجه فى ذلك أن الله تعالى هو الآمر هو الفاعل الحقيقى والاعوان هم المزاولون لإخراج الروح من نحو العروق والشرايين والعصب والقاطعون لتعلقها بذلك والملك هو القابض المباشر لأخذها بعد تهيئتها وفى القرآن الله يتوفى الأنفس ويتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم وتوفته رسلنا ومثله توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفار الموجبة للاخلال بأمور الدين أو بنفاقهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه و سلم واعانتهم الكفرة فقد أخرج الطبرانى عن ابن عباس أنه كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وأخرج ابن جرير عن الضحاك إن هؤلاء أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة وخرجوا مع مشركى قريش إلى بدر فأصيبوا فيمن أصيب فأنزل الله فيهم هذه الآية وروى عن عكرمة أن الآية نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحرث بن زمعة بن الأسود وقيس بن لوليدة بن المغيرة وأبى العاص بن منبه الحجاج وعلى بن أمية بن خلف كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر مع المشركين من قريش فقتلوا هناك كفارا ورواه أبو الجارود عن أبى جعفر رضى الله تعالى عنه و ظالمى منصوب على الحالية من ضمير المفعول فى توفاهم واضافته لفظية فلا تفيده تعريفا والأصل ظالمين أنفسهم قالوا أى الملائكة عليم السلام للمتوفين توبيخا لهم بتقصيرهم فى إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه وشعائره أو قالوا تقريعا لهم وتوبيخا بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وتكثير سوادهم وانتظامهم فى عسكرهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيم كنتم أى فى أي شىء كنتم من أمور دينكم وحذفت ألف ما الاستفهامية المجرورة وفاءا بالقاعدة وتكتب متصلة تنزيلا لها مع ماقبلها منزلة الكلمة الواحدة ولهذا تكتب إلى وعلى وحتى
(5/125)
فى إلام وعلام وحتى م بالألف مالم يوقف على م بالهاء ولكن السؤال كما علمت طابقه الجواب بقوله تعالى قالوا كنا مستضعفين فى الأرض وإلا فالظاهر فى الجواب كنا فى كذا أو لم نكن فى شىء والجملة استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل : فماذا قال أولئك المتوفون فى الجواب فقيل : قالوا فى جوابهم : كنا مستضعفين فى أرض مكة بين ظهرانى المشركين الاقرباء
والمراد أنهم اعتذروا عن تقصيرهم فى إظهار الإسلام وإدخلهم الخلل فيه بالاستضعاف والعجز عن القيام بمواجب الدين بين أهل مكة فلذا قعدوا وناموا أو تعللوا عن الخروج معهم والانتظام فى ذلك الجمع المكسر بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم وأنهم فعلوا ذلك كارهين وعلى التقديرين لم تقبل الملائكة ذلك منهم كما يشير اليه قوله سبحانه : قالوا أى الملائكة ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها أى إن عذركم عن ذلك التقصير بحلوكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير إذ يمكنكم حل عقدة هذا الامر الذي أحل بدينكم بالرحيل الى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله تعالى لما يغيظ رسوله صلى الله عليه و سلم بأنكم مقهورون بين اولئك الاقوام غير مقبول لأنكم بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنون من المهاجرة عن مجاورتهم والخروج من تحت أيديهم فأولئك الذين شرحت حالهم الفظيعة مأواهم أى مسكنهم فى الآخرة جهنم لتركهم الفريضة المحتومة فقد كانت الهجرة واجبة فى صدر الاسلام وعن السدى كان يقول : من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر والأصح الاول أو لنفاقهم وكفرهم ونصرتهم أعداء الله تعالى على سيد أحبائه عليه الصلاة و السلام وعدم التقيد بالتأييد ليس نصا فى العصيان بما دون الكفر وإنما النص التقيد بعدمه واسم الاشارة مبتدأ أول و مأواهم مبتدأ ثان و جهنم خبر الثانى وهما خبر الأول والرابط الضمير المجرور وامجموع خبر إن والفاء لتضمنها اسمها معنى الشرط وقوله سبحانه : قالوا فيم كنتم فى موضع الحال من الملائكة وقد معه مقدرة فى المشهور وجعله حالا من الضمير المفعول بتقدير قد أولا ولهم آخرا بعيد أو هو الخبر والعائد فيه محذوف أى لهم والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما فى خبره ولايصح جعل شىء من قالوا الثانى والثالث خبرا لأنه جواب ومراجعة فمن قال : لوجعل قالوا : الثانى خبرا لم يحتج الى تقدير عائد فقد وهم وقيل : الخبر محذوف تقديره هلكوا ونحوه و تهاجروا منصوب فى جواب الاستفهام وقوله تعالى : وساءت من باب بئس مصيرا والمخصوص بالذم مقدر أى مصيرهم أوجهنم
واستدل بعضهم بالآية على وجوب الهجرة من موضع لايتمكن فيه من إقامة دينه وهو مذهب الإمام مالك ونقل ابن العربى وجوب الهجرة من البلاد الوبيئة أيضا وفى كتاب الناسخ والمنسوخ أنها كانت فرضا فى صدر الاسلام فنسخت وبقى ندبها وأخرج الثعلبى من حديث الحسن مرسلا من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق أبيه ابراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه و سلم وقد قدمنا لك ماينفعك هنا فتذكر إلا المستضعفين استثناء منقطع لأن الموصول وضمائره والإشارة
(5/126)
اليه بأولئك لمن توفته الملائكة ظالما لنفسه فبنم يتدرج فيهم المستضعفون المذكورون وقيل إنه متصل والمستثنى منه أولئك مأواهم جهنم وليس بشىء أى إلا الذين عجزوا عن الهجرة وضعفوا من الرجال كعياش بن أبى ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد والنساء كأم الفضل لبابة بنت الحرث أم عبد الله بن عباس وغيرها والولدان كعبد الله المذكور وغيرهم رضي اله تعالى عنهم والجار حال من المستضعفين أو من الضمير المستتر فيه أى كائنين من هؤلاء وذكر الولدان للقصد إلى المبالغة فى وجوب الهجرة والأمر بها حتى كأنها مما كلف بها الصغار أو يقال : إن تكليفهم عبارة عن تكليف أولياءهم باخراجهم من ديار الكفر وأن المراد بهم المراهقون أو من قرب عهده بالصغر مجازا كما فى اليتامى أو أن المراد التسوية بين هؤلاء فى عدم الإثم والتكليف أو أن العجز ينبغى أن يكون كعجز الولدان أو المراد بهم العبيد والاماء
لايستطيعون حيلة أى لايجدون أسباب الهجرة ومباديها ولايهتدون سبيلا
98
- أى ولايعرفون طريق الموضع المهاجر اليه بأنفسهم أو بدليل والجملة صفة لما بعد من أو للمستضعفين لأن المراد به الجنس سواء كانت أل موصولة أو حرف تعريف وهو فى المعنى كالنكرة أو حال منه أو من الضمير المستتر فيه وجوز أن تكون مستأنفة مبنية لمعنى الاستضعاف المراد هنا فأولئك أى المستضعفون عسى الله أن يعفوا عنهم فيه إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر الذى تحقق عدم وجوبها عليه ينبغى أن يعد تركها ذنبا ولايأمن ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها
وكان الله عفوا غفورا تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغما كثيرا ترغيب فى المهاجرة وتأنيس لها والمراد من المراغم المتحول والمهاجر كما روى ذلك عن ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم فهو اسم مكان وعبر عنه بذلك تأكيدا للترغيب لما فيه من الاشعار بكون ذلك المتحول الذى يجده يصل فيه المهاجر إلى مايكون سببا لرغم أنف قومه الذين هاجرهم وعن مجاهد : إن المعنى يجد فيها متزحزحا عما يكره وقيل : متسعا مما كان فيه من ضيق المشركين وقيل : طريقا يراغم بسلوك قومه أى يفارقهم على رغم أنوفهم والرغم الذل والهوان وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب وقرىء مرغما وسعة أى من الرزق وعليه الجمهور وعن مالك سعة من البلاد ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت أى يحل به قبل أن يصل إلى المقصد ويحط ترحال التسيار بل وإن كان ذلك خارج بابه كما يشعر به إيثار الخروج من بيته على المهاجرة وثم لاتأبى ذلك كما ستعرفه قريبا إن شاء الله وهو معطوف على فعل الشرط وقرىء يدركه بالرفع وخرجه ابن جنى كما قال السمين على أنه فعل مضارع مرفوع للتجرد من الناصب والجازم والموت فاعله والجملة خبر لمبتدأ محذوف أى ثم وهو يدركه الموت وتكون الجملة الإسمية معطوفة على الفعلية الشرطية وعلى ذلك حمل يونس قول الاعشى :
(5/127)
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا أو تنزلون فأن معشر نزل أى أو تنزلون وتكون الاسمية حينئذ كما قال بعض المحققين : فى محل جزم وإن لم يصح وقوعها شرطا لانهم يتسامحون فى التابع وإنما قدروا المبتدأ ليصح رفعه مع العطف على الشرط المضارع وقال عصام الملة : ينبغى أن يعلم أنه على تقدير المبتدأ يجب جعل من موصولة لأن الشرط لايكون جملة اسمية ويكون يخرج أيضا مرفوعا ويرد عليه حينئذ أنه لاحاجة الى تقدير المبتدأ فالأولى أن الرفع بناءا على توهم رفع يخرج لأن المقام من مظان الموصول ولايخفى أنه خبط وغفلة عما ذكروا وقيل : إن ضم الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها ثم نقل حركاتها الى الكاف كقوله : عجبت والدهر كثير عجبه من عنزى يسبنى لم أضربه وهو كما فى الكشف ضعيف جدا لإجراء الوصل مجرى الوقف والنقل أيضا ثم تحريك الهاء بعد النقل بالضم وإجراء الضمير المتصل مجرى الجزء من الكلمة والبيت فيه إلا النقل وإجراء الضمير مجرى الجزء من الكلمة وقرأ الحسن يدركه بالنصب وخرجه غير واحد على أنه باضمار إن نظير ماأنشده سيبويه من قوله : سأترك منزلى لبنى تميم وألحق بالحجاز فأستريحا ووجهه فيه أن سأترك مستقبل مطلوب فجرى مجرى الأمر ونحوه والآية لكون المقصود منها الحث على الخروج وتقدم الشرط الذى هو شديد الشبه بغير الموجب كانت أقوى من البيت وذكر بعض المحققين أن النصب فى الآية جوزه الكوفيون لما أن الفعل الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم عندهم إذا وقع بعد الواو والفاء كقوله : ومن لايقدم رجله مطمئنة فيثبتها فى مستوى القاع يزلق وقاسوا عليهما ثم فليس ماذكر فى البيت نظير الآية وقيل : من عطف المصدر المتوهم على المصدر المتوهم مثل أكرمنى وأكرمك أى ليكن منك اكرام ومنى والمعنى من يكون منه خروج من بيته وإدراك الموت له فقد وقع أجره على الله أى وجب بمقتضى وعده وفضله وهو جواب الشرط وفى مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أن المهاجر له إحدى الحسنيين اما أن يرغم أنف أعداء الله ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصالهم بالخير والسعة وإما أن يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم وفى الآية ما لايخفى من المبالغة فى الترغيب فقد قيل : كان مقتضى الظاهر ومن يهاجر الى الله ورسوله ويمت يثبه إلا أنه اختير ومن يخرج مهاجرا من بيته على ومن يهاجر لما أشرنا اليه آنفا ووضع يدركه الموت موضع يمت إشعارا بمزيد الرضا من الله تعالى وأن الموت كالهدية منه سبحانه له لأنه سبب للوصول الى النعيم المقيم الذى لاينال إلا بالموت وجىء بثم بدل الواو تتميما لهذه الدقيقة وأن مرتبة الخروج دون هذه المرتبة وأقيم فقد وقع أجره على الله مقام يثبه لما أنه مؤذن باللزوم والثبوت وأن الأجر عظيم لايقادر قدره ولايكتنه كنهه لأنه على الذات الأقدس المسمى بذلك الاسم الجامع وعن الزمخشرى : إن فائدة ثم يدركه بيان أن الأجر إما يستقر إذا لم يحبط العمل الموت واختلف فيمن نزلت فأخرج ابن جرير عن ابن جبير أنها نزلت فى جندب بن ضمرة وكان بلغه قوله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مسلميها فقال لبنيه : احملونى فانى لست
(5/128)
من المستضعفين وإنى لأهتدى الطريق وانى لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها الى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ويقول : اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه و سلم أبايعك على ماأبايع عليه رسولك ولما بلغ خبر موته الصحابة رضى الله تعالى عنهم قالوا ليته مات بالمدينة فنزلت وروى الشعبى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنها نزلت فى اكتم بن صيفى لما أسلم ومات وهو مهاجر وأخرج ابن أبى حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه الزبير أنها نزلت فى خالد بن حزام وقد كان هاجر إلى الحبشة فنهشته حية فى الطريق فمات وروى غير ذلك وعلى العلات فالمراد عموم اللفظ لا خصوص السبب وقد ذكر غير أيضا واحد ان من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال وزيارة صديق وصالح ومات قبل الوصول الى المقصد فحكمه كذلك وقد أخرج أبو يعلى والبيهقى عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ومن خرج غازيا فى سبيل الله تعالى فمات كتب له أجر الغازى إذا مات فى الطريق وجب سهمه فى الغنيمة والصحيح ثبوت الأجر الأخروى فقط وكان الله غفورا مبالغا فى المغفرة فيغفر مافرط منه فى الذنوب التى من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج رحيما
100
- مبالغا فى الرحمة فيرحمه سبحانه بإكمال ثواب هجرته ونيته
ومن باب الاشارة فى بعض ماتقدم من الآيات وماكان لمؤمن أى وماينبغى لمؤمن من الروح أن يقتل مؤمنا وهو مؤمن القلب إلا أن يكون قتلا خطأ وذلك إنما يكون إذا خلصت الروح من حجب الصفات البشرية فاذا أرادت أن تتوجه الى النفس أنوارها لتميتها وقع تجليها على القلب فخر صعقا من ذلك التجلى ودك جبل النفس دكا فكان قتله خطأ لأنه لم يكن مقصودا ومن قتل قلبا مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة وهى رقبة السر الوحانى وتحريرها إخراجها عن رق المخلوقات ودية مسلمة إلى أهله تسلمها العاقلة وهى الألطاف الآلهية الى القوى الروحانية فيكون لكل منهما من حظ الأخلاق الربانية إلا أن يصدقوا وذلك وقت غنائهم بالفناء بالله تعالى فان كان المقتول بالتجلى من قوم عدو لكم بأن كان من قوى النفس الأمارة وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وهى رقبة القلب فيطلقه من وثاق رق حب الدنيا والميل اليها ولادية فى هذه الصورة لأهل القتيل وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق بأن كان من قوى النفس القابلة للاحكام الشرعية ظاهرا والمهادنة للقلب فدية مسلمة واجبة على عاقلة الرحمة إلى أهله أى أهل تلك النفس من الصفات الأخر وتحرير رقبة مؤمنة وهى رقبة الروح وتحريرها إفناؤها وإطلاقها عن سائر القيود فمن لم يجد رقبة كذلك بأن كانت روحه محررة قبل فصيام شهرين متتابعين أى فعليه الإمساك عن العاديات وترك المألوفات ستين يوما وهى مقدار مدة الميقات الموسوى ونصفها رجاء أن يحصل له البقاء بعد الفناء ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم إشارة إلى أن النفس إذا قتلت القلب واستولت عليه بقيت معذبة بنيران الطبيعة مبعدة عن الرحمة مظهرا لغضب الله تعال ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله لارشاد عباده فتبينوا حال المريد فى الرد والقبول ولاتقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست
(5/129)
مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا أى لاتنفروا من استسلم لكم وأسلم نفسه بأيدكم لترشدوه فتقولوا له لست مؤمنا صادقا لتعلق قلبك بالدنيا فسلم ماعندك من حطامها ليخلوا قلبك لربك وتصلح لسلوك الطريق فعند الله مغانم كثيرة للسالكين اليه فاذا حظى بها السالك ترك لها مافى يده من الدنيا وأعرض قلبه عن ذلك كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا أى مثل هذا المريد كنتم أنتم فى مبادى طلبكم وتسليم أنفسكم للمشايخ حيث كان لكم تعلق بالدنيا فمن الله عليكم بعد السلوك بتلك المغانم الكثيرة التى عنده فأنساكم جميع مافى أيديكم وفطم قلوبكم عن الدنيا بأسرها فقيسوا حال من يسلم نفسه اليكم بحالكم لتعلموا أن الله سبحانه بمقتضى ماعود المتوجهين اليه الطالبين له سيمن على هؤلاء بما من به عليكم ويخرج حب الدنيا من قلوبهم بأحسن وجه كما أخرجه من قلوبكم
والحاصل أنه لاينبغى أن يقال لمن أراد التوجه إلى الحق جل وعلا من أرباب الدنيا فى مبادى الأمر : اترك دنياك واسلك لأن ذلك مما ينفره ويسد باب التوجه عليه لشدة ترك المحبوب دفعة واحدة ولكن يؤمر بالسلوك ويكلف من الأعمال مايخرج ذلك عن قلبه لكن على سبيل التدريج إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم يمنعها عن حقوقها التى اقتضتها استعداداتهم من الكلمات المودعة فيها قالوا فيم كنتم حيث قعدتم عن السعى وفرطتم فى جنب الله تعالى وقصرتم عن بلوغ الكمال الذى ندبتم اليه قالوا مستضعفين فى الأرض أى أرض الاستعداد باستيلاء قوى النفس الأمارة وغلبة سلطان الهوى وشيطان الوهم : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها أى لم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من مبدأ فطرتكم إلى نهاية كمالكم وذلك مجال واسع فلو تحركتم وسرتم بنور فطرتكم خطوات يسيرة بحيث ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر القوى وتخلصتم عن قيود الهوى وخرجتم عن القرية الظالم أهلها التى هى مكة النفس الأمارة إلى البلدة الطيبة التى هى مدينة القلب وإنما نسب سبحانه وتعالى هنا التوفى إلى الملائكة لأن التوفى وهو استيفاء الروح من البدن بقبضها عنه على ثلاثة أوجه : توفى الملائكة وتوفى ملك الموت وتوفى الله تعالى فأما توفى الملائكة فهو لأرباب النفوس وهم اما سعداء وإما أشقياء وأما توفى ملك الموت فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب وأما توفى الله تعالى فهو للموحدين الذين عرج بهم عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم وبين ربهم حجاب فهو سبحانه يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه عز و جل ولما لم يكن الظالمين من أحد الصنفين الأ خيرين نسب سبحانه توفيهم الى الملائكة وقيد ذلك بحال ظلمهم أنفسهم فأولئك مأواهم جهنم الطبيعة وساءت مصيرا لما أن نار البعد والحجاب بها موقدة إلا من المستضعفين من الرجال وهم كما قال بعض العارفين : أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها فى سلوك طريق الحق ولم يذعنوا لقواهم الوهبية والخيالية قيبطل استعدادهم بالعقائد الفاسدة فى أسر قواهم البدنية مع تنور استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود والنساء أى القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمى وسلوك طريق التحقيق الضعفاء القوى قيل : وهم البله المذكورون فى خبر أكثر أهل الجنة البله والولدان أى القاصرين عن بلوغ درجة الكمال لفترة تلحقهم من قبل صفات النفس لايستطعيون حيلة لعدم قدرتهم وعجزهم عن كسر النفس وقمع الهوى ولايهتدون سبيلا لعدم علمهم بكيفية السلوك فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم بمحو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم وكان الله عفوا عن
(5/130)
الذنوب مالم تتغير الفطرة غفورا يستر بنور صغاته صفات النفوس القابلة لذلك ومن يهاجر فى سبيل الله عن مقار النفس المألوفة يجد فى الأرض أى أرض استعداده مراغنا كثيرا أى منازلا كثيرة يرغم فيها أنوف قوى نفسه وسعة أى انشراحا فى الصدر لسبب الخلاص من مضايق صفات النفس وأسر الهوى ومن يخرج من بيته أى مقامه الذى هو فيه مهاجرا إلى الله بالتوجه إلى توحيد الذات ورسوله بالتوجه إلى طلب الاستقامة فى توحيد الصفات ثم يدركه الموت أى الانقطاع فقد أوقع أجره على الله حسبما توجه اليه وكان الله غفورا رحيما فيستر بصفاته صفات من توجه اليه ويرحم من انقطع دون الوصول بما هو أهله واالله تعالى الهادى إلى سواء السبيل ثم إنه سبحانه بعد أن أمر الجهاد ورغب فى الهجرة أردف ذلك بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من تخفيف المؤنة مايؤكد العزيمة على ذلك فقال سبحانه وتعالى : وإذا ضربتم فى الأرض أى سافرتم أى سفر كان ولذا لم يقيد بما به المهاجرة والشافعى رضى الله تعالى عنه يخص السفر بالمباح كسفر التجارة والطاعة كسفر الحج ويخرج سفر المعصية كقطع الطريق والإباق فلا يثبت فيه الحكم الآتى لأنه رخصة وهى إنما تثبت تخفيفا وما كان ذلك لايتعلق بما يوجب التغليظ لأن إضافة الحكم إلى وصف يقتضى خلافه فساد فى الوضع ولنا إطلاق النصوص مع وجود قرينة فى بعضها تشعر بارادة المطلق وزيادة قيد عدم المعصية نسخ على ماعرف فى موضعه ولأن نفس السفر ليس بمعصية إذ هو عبارة عن خروج مديد وليس فى هذا شىء من المعصية وإنما المعصية مايكون بعده كما فى السرقة أو مجاوره كما فى الإباق فيصلح من حيث ذاته متعلق الرخصة لامكان الانفكاك عما يجاوره كما اذا غضب خفا ولبسه فانه يجوز له أن يمسح عليه لأن الموجب ستر قدمه ولامحظور فيه وإنما هو فى مجاوره وهو صفة كونه مغضوبا وتمامه فى الأصول
والمراد من الأرض مايشمل البر والبحر والمقصود التعميم أى إذا سافرتم فى أى مكان يسافر فيه من بر أو بحر فليس عليكم جناح أى حرج وإثم أن تقصروا أى فى أن تقصروا والقصر خلاف المد يقال : قصرت الشىء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه فمتعلق اقصر إنما هو ذلك الشىء لابعضه فانه متعلق الحذف دون القصر فقوله تعالى : من الصلواة ينبغى على هذا أن يكون مفعولا لتقصروا و من زائدة حسبما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها فى الاثبات وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا والجار والمجرور فى مةوضع الصفة على مانقله الفاضل المذكور عن سيبويه أى شيئا من الصلاة فينبغى أن يصار إلى وصف الجزء بوصف الكل أو يراد بالقصر الحبس كمافى قوله تعالى : حور مقصورات فى الخيام أو يراد بالصلاة الجنس ليكون المقصود بعضا منها وهى الرباعية أى فليس عليكم جناح فى أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها وقرىء تقصروا من أقصر ومصدره الاقصار
وقرأ الزهرى تقصروا بالتشديد ومصدره التقصير والكل بمعنى وأدنى مدة السفر الذي يتعلق به القصر فى المشهور عن الامام أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الابل ومشى الاقدام بالاقتصاد فى البر وجرى السفينة والريح معتدلة فى البحر ويعتبر فى الجبل كون هذه المسافة من طريق الجبل بالسير الوسط أيضا وفى رواية عنه رضى الله تعالى عنه التقدير بالمراحل وهو قريب من المشهور
(5/131)
وقدر أبو يوسف بيومين وأكثر الثالث والشافعى رحمه الله تعالى فى قول : بيوم وليلة وقدر عامة المشايخ ذلك بالفراسخ ثم اختلفوا فقال بعضهم : أحد وعشرون فرسخا
وقال آخرون ثمانية عشر وآخرون خمسة عشر والصحيح عدم تقدير ذلك ولعل كل من قدر بقدر مماذكر اعتقد أنه ثلاثة أيام وليليها والدليل على هذه المدة ماصح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم عمم الرخصة الجنس ومن ضرورته عموم التقدير والقول بكون ثلاثة أيام ظرفا للمسافر لاليمسح يأباه أن السوق ليس إلا لبيان كمية مسح المسافر لالا طلاقه وعلى تقدير كونه ظرفا للمسافر يكون يمسح مطلقا وليس بمقصود وأيضا يبطل كونه ظرفا لذلك أن المقيم يمسح يوما وليلة إذ يلزم عليه اتحاد حكم السفر والاقامة فى بعض الصور وهى صورة مسافر يوم وليلة لأنه إنما يمسح يوما وليلة وهو معلوم البطلان للعلم بفرق الشرع بين المسافر والمقيم على أن ظرفية ثلاثه للمسافر تستدعى ظرفية اليوم للمقيم ليتفق طرفا الحديث وحينئذ يكون لايكاد ينسب إلى أفصح من نطق بالضاد صلى الله تعالى عليه وسلم وربما يستدل للقصر فى أقل من ثلاثة بما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال : ياأهل مكة لاتقصروا فى أدنى من أربعة برد من مكة الى عسفان فانه يفيد القصر فى الاربعة برد وهى تقطع فى أقل من ثلاثة وأجيب بأن راوى الحديث عبد الوهاب بن مجاهد وهو ضعيف عند التقلة جدا حتى كان سفيان يزريه بالكذب فليفهم واحتج الامام الشافعى رضى الله تعالى عنه بظاهر الآية الكريمة على عدم وجوب القصر وأفضلية الاتمام وأيد ذلك بما أخرجه ابن أبى شيبة والبزار والدار قطنى عن عائشة رضى الله تعال عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقصر فى السفر ويتم وا أخرجه النسائى والدار قطنى وحسنه البيهقى وصححه أن عائشة رضى الله تعالى عنها لما اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالت : يارسول الله قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال أحسنت ياعائشة وبما روى عن عثمان رضى الله تعالى عنه أنه كان يتم ويقصر وعندنا يجب القصر لامحالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة وبعضهم رخصة إسقاط بخيث لامساغ للاتمام لارخصة توفية إذ لامعنى للتخيير بين الأخف والأثقل وهو قول عمر وعلى وابن عباس وابن جابر وجميع أهل البيت رضوان الله تعالى عنهم أجمعين وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وأخرج النسائى وابن ماجه عن عمر رضى الله تعالى عنه أنه قال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه الصلاة و السلام وروى الشيخان عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت : أول مافرض الله تعالى الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت فى السفر وزيدت فى الحضر وأما ماروى عنها من الاتمام فقد اعتذرت عنه وقالت : أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهى دارى كما اعتذر عثمان رضى الله تعالى عنه عن اتمامه بأنه تأهل أهل بمكة وأزمع الاقامة بها كما روى عن الزهرى فلا يرد أنها رضى الله تعالى عنها خالف رأيها روايتها وإذا خالف الراوى روايته فى أمر لايعمل بروايته فيه والقول : أن حديثها غير مرفوع لأنها لم تشهد فرض الصلاة غير مسلم لجواز أنها سمعته من النبى صلى الله عليه و سلم نعم ذكر بعض الشافعية أن الخبر مؤل بأن الفرض فى قولها : فرضت ركعتين بمعنى البيان وقد ورد بهذا المعنى ك فرض الله لكم تحلة أيمانكم
وقال الطبرى : معناه فرضت لمن اختار ذلك من المسافرين وهذا كما قيل فى الحاج : إنه مخير فى النفر
(5/132)
فى اليوم الثانى والثالث وأيا فعل فقد قام بالفرض وكان صوابا وقال النووى : المعنى فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد فى الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الإتمام وحيث ثبتت دلائل الاتمام وجب المصير إلى ذلك جمعا بين الادلة وقال ابن حجر عليه الرحمة : والذى يظهر لى فى جمع الأدلة أن الصلاة فرضت ليلة الاسراء ركعتين ركعتين الا المغرب ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة وابن حبان والبيهقى عن عائشة وفيه : وتركت الفجر لطول القراءة والمغرب لأنها وتر النهار ثم بعدما استقر فرض الرباعية خفف منها فى السفر عند نزول الآية ويؤيده قول ابن الاثير : إن القصر كان فى السنة الرابعة من الهجرة وهو مأخوذ من قول غيره : إن نزول آية الخوف فيها وقيل : القصر كان فى ربيع الآخر من السنة الثانية كما ذكره الدولابى وقال السهلبى : إنه بعد الهجرة بعام أو نحوه وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوما فعلى ذها قول عائشة رضى الله تعالى عنها فأقرت صلاة السفر أى باعتبار مآل اليه الأمر من التخفيف لاأناه استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة انتهى
واستبعد هذا الجمع بأنها لو كانت قبل الهجرة ركعتين لاشتهر ذلك وقال آخرون منهم : إن الآية صريحة فى عدم وجوب الاتمام وماذكر خبر واحد فلا يعارض النص الصريح على أنه مخصوص بغير الصبح والمغرب وحجية العام المخصوص مختلف فيها وذكر أصحابنا أن كثرة الأخبار وعمل الجم الغفير من الصحابة والتابعين وجميع العترة رضى الله تعالى عنهم أجمعين بها يقوى القول بالوجوب ووروده بنفى الجناح لأنهم ألفوا الاتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا فى القصر فصرح بنفى الجناح عليهم لتطيب به نفوسهم وتطمئن اليه كما فى قوله تعالى : فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما مع أن ذلك الطواف واجب عندنا ركن عند الشافعى رحمه الله تعالى وعن أبى جعفر رضى الله تعالى عنه أنه تلا هذه الآية لمن استبعد الوجوب بنفى الجناح إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا جوابه محذوف لدلالة ماقبل عليه أى إن خفتم أن يعترضوا لكم بما تكرهونه من القتال أو غيره فليس عليكم جناح الخ وقد أخذ بعضهم بظاهر هذا الشرط فقصر القصر على الخوف وأخرج ابن جرير عن عائشة رضى الله تعالى عنها والذي عليه الأئمة أن القصر مشروع فى الأمن أيضا وقد تظاهرت الأخبار على ذلك فقد أحرج النسائى والترمذى وصححه عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لانخاف شيئا ركعتين وأخرج الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن عن حارثة بن وهب الخزاعى أنه قال : صليت مع النبى صلى الله عليه و سلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين الى غير ذلك ولايتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فان وجد له دليل ثبت عنده أيضا وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه
وناهيك ماسمعت من الأدلة الواضحة وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفى الحكم عند عدم الشرط إذا لم يكن فيه فائدة أخرى وقد خرج الشرط ههنا مخرج الأغلب كما قيل فى قوله تعالى : فان خفتم أن لايقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به بل يقال ان الآية الكريمة مجملة
(5/133)
فى حق مقدار النصر وكيفيته وفى حق مايتعلق به من الصلوات وفى مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر فكلما ورد منه صلى الله تعالى عليه وسلم من القصر فى حال الأمن وتخصيصه بالرباعيات على وجه التصنيف وبالضرب فى المدة المعينة بيان لاجمال الكتاب كما قاله شيخ الاسلام وقال بعضهم : إن القصر فى الآية محمول على قصر الأحوال من الايماء وتخفيف التسبيح والتوجه الى أى وجه وحينئذ يبقى الشرط على ظاهر مقتضاه المتبادر الى الأذهان ونسب ذلك الى طاوس والضحاك
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال فى الآية : قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت أن تكبر الله تعالى وتخفض رأسك إيماءا راكبا كنت أو ماشيا وقيل : إن قوله تعالى : إن خفتم الخ بكا بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله
فقد أخرج ابن جرير عن على كرم الله تعالى وجهه قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يارسول الله إنا نضرب فى الأرض فكيف نصلى فأنزل الله تعالى وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ثم انقطع الوحى فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبى صلى الله عليه و سلم فصلى الظهر فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها فى إثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين إن خفتم إن يفتنكم الذين كفروا الى قوله سبحانه وتعالى إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا فنزلت صلاة الخوف ولعل جواب الشرط على هذا محذوف أيضا على طرز ماتقدم ونقل الطبرسى عن بعضهم أن القصر فى الآية بمعنى الجمع بين الصلاتين وليس بشىء أصلا وقرأ أبى كما قال ابن النذر : فأقصروا من الصلاة أن يفتنكم والمشهور أنه كعبد الله أسقط ان خفتم فقط وأياما كان فان أن يفتنكم فى موضع المفعول له لما دل عليه الكلام بتقدير مضاف كأنه قيل : شرع لكم ذلك كراهة أن يفتنكم الخ فان استمرار الاشتغال بالصلاة مظنة لاقتدار الكافرين على ايقاع الفتنة وقوله تعالى إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا
101
- إما تعليل ذلك باعتبار تعلله بما ذكر أو تعليل لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فان كمال العدواة من موجبات التعرض بالسوء و عدوا كما قال أبو البقاء : فى موضع أعداء وقيل : هو مصدر على فعول مثل الولوع والقبول و لكم حال منه أو متعلق ب كان
وإذا كنت فيهم بيان لما قبله من النص المجمل فى مشروعية القصر بطريق التفريع وتصوير لكيفيته عند الضرورة التامة والخطاب للنبى صلى الله عليه و سلم بطريق التجريد وتعلق بظاهره من خص صلاة الخوف بحضرته عليه الصلاة و السلام كالحسن بن زيد ونسب ذلك أيضا لأبى يوسف ونقله عن الجصاص فى كتاب الأحكام والنووى فى المهذب وعامة الفقهاء على خلافه فان الأئمة بعده صلى الله تعالى عليه وسلم نوابه وقوام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد عليه الصلاة و السلام كما فى قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة وقد أخرج أبو داود والنسائى وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم قال : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال : أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الخوف فقال حذيفة : أنا ثم وصف له ذلك فصلوا كما وصف ولم يقضوا وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضى الله تعالى عنهم ولم ينكره أحد منهم وهم الذين لاتأخذهم فى الله تعالى لومة لائم وهذا يحل محل الاجماع ويرد مازعمه المزنى من دعوى النسخ أيضا فأقمت لهم الصلاة أى أردت أن تقيم بهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الاخرى تجاه العدو للحراسة
(5/134)
ولظهور ذلك ترك وليأخذوا أى الطائفة المذكورة القائمة معك أسلحتهم مما لايشغل عن الصلاة كالسيف والخنجر وعن ابن عباس أن الآخذة هى الطائفة الحارسة فلا يحتاج حينئذ الى التقييد إلا أنه خلاف الظاهر والمراد من الأخذ عدم الوضع وإنما عبر بذلك عنه للايذان بالاعتناء باستصحاب الأسلحة حتى كأنهم يأخذونها ابتداءا فاذا سجدوا أى القائمون معك أى إذا فرغوا من السجود وأتموا الركعة كما روى عن ابن عباس رضى تاعلى عنهما فليكونوا من ورائكم أى فلينصرفوا للحراسة من العدو
ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا بعد وهى التى كانت تحرس ونكرها لأنها لم تذكر من قبل فليصلوا معك الركعة الباقية من صلاتك والتأنيث والتذكير مراعاة للفظ والمعنى ولم يبين فى الآية الكريمة حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين وقد بين ذلك بالسنة فقد أخرج الشيخان وأبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه وغيرهم عن سلم عن أبيه فى قوله سبحانه : قأقمت لهم الصلاة هى صلاة الخوف صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ثم انصرفت التى وصلت مع النبي صلى الله عليه و سلم فقاموا مقام أولئك مقبلين على العدو وأقبلت الطائفة الأخرى التى كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ركعة أخرى ثم سلم بهم ثم قامت كل طائفة فصلوا ركعة ركعة فتم لرسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتان ولكل من الطائفتين ركعتان ركعة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وركعة بعد سلامه
وعن ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه و سلم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما فى الآية فجاءت الطائفة الأولى وذهبت هذه إلى مقابلة العدو حتى قضت الاولى الركعة الاخرى بلا قراءة وسلموا ثم جاءت الطائفة الاخرى وقضوا الركعة الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان وهذا ماذهب اليه الامام أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه وإنما سقطت القراءة عن الطائفة الأولى فى صلاتهم الركعة الثانية بعد سلام رسول الله صلى الله عليه و سلم لانهم وإن كانوا فى ثانيته عليه الصلاة و السلام فى مقابلة العدو إلا أنهم فى الصلاة وفى حكم المتابعة فكانت قراءة الامام قائمة مقام قراءتهم كما هو حكم الاقتداء ولاكذلك الطائفة الاخرى لانهم اقتدوا بلامام فى الركعة الثانية وأتم الأمام صلاته فلابد لهم من القراءة فى ركعتهم الثانية إذ لم يكونوا مقتدين بالامام حينئذ وذهب بعضهم الى أن صلاة الخوف هى مافى الآية ركعة واحدة ونسب ذلك الى ابن عباس وغيره فقد أخرج ابن جرير وابن أبى شيبة والنحاس عنه رضى الله تعالى عنه أنه قال : فرض الله تعالى على لسام نبيكم صلى الله عليه و سلم فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين وفى الخوف ركعة وأخرج الاولان وابن أبى حاتم عن يزيد الفقير قال سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين فى السفر أقصر هما فقال : الركعتان فى السفر تمام إنما القصر واحدة عند القتال بينا نحن مع روسل الله صلى الله عليه و سلم فى قتال إذ أقيمت الصلاة فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فصفت طائفة وطائفة وجوهها قبل العدو فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم انطلقوا إلى أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس فسلم وسلم الذين خلفه وسلم الاولون فكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتان وللقوم ركعة ركعة ثم قرأ الآية وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه إلى أن كيفية صلاة الخوف أن يصلى الامام بطائفة ركعة فاذا قام للثانية فارقته وأتمت وذهبت إلى وجه العدو وجاء الواقفون فى وجهه والامام ينتظرهم فاقتدوا به وصلى بهم الركعة الثانية فذا جلس للتشهد قاموا فأتموا ثانيتهم ولحقوه وسلم بهم
(5/135)
وهذه كما روى الشيخان صلاة النبى صلى الله عليه و سلم بذات الرقاع ن وهى أحدى الانواع التى اختارها الشافعى رضى الله تعالى عنه واستشكل من ستة عشر نوعا ويمكن حمل الآية عليها ويكون المراد من السجود الصلاة والمعنى فاذا فرعغوا من الصلاة فليكونوا الخ وأيد ذلك بأنه لاقصور فى البيان عليه وبأن ظاهر قوله سبحانه : فليصلوا معك أن الطائفة الأخيرة تتم الصلاة مع الإمام وليس فيه إشعار بحراستها مرة ثانية وهى فى الصلاة البتة وتحتمل الآية بل قيل : انها ظاهرة فى ذلك أن الامام يصلى مرتين كل مرة بفرقة وهى صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما رواه الشيخان أيضا ببطن نخل واحتمالها للكيفية التى فعلها رسول الله صلى الله عليه و سلم بعسفان بعيد جدا وذلك أنه عليه الصلاة و السلام كما قال ابن عباس ورواه عنه أحمد وأبو داود وغيرهما صف الناس خلفه صفين ثم ركع فركعوا جميعا ثم سجد بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا فى مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وهؤلاء الى مصاف هؤلاء ثم ركع عليه الصلاة و السلام فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا ثم سجد هو والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم عليهم ثم انصرف صلى الله تعالى عليه وسلم وتمام الكلام يطلب من محله
وليأخذوا أى الطائفة الأحرى حذرهم أى احترازهم وشبهه بما يتحصن به من الآلات ولذا أثبت له الأخذ تحييلا وإلا فهو أمر معنوى لايتصف بالأخذ ولايضر عطف قوله سبحانه : واسلحتهم عليه للجمع بين الحقيقة والمجاز لأن التجوز فى التخييل فى الاثبات والنسبة لافى الطرف على الصحيح ومثله لابأس فيه بالجمع كما فى قوله تعالى : تبوءوا الدار والايمان وقال بعض المحققين : إن هذا وأمثاله من المشاكلة لما يلزم على الكنابة التصريح بطرفيها وإن دفع بأن المشبه به أعم من المذكور وإن فسر الحذر بما يدفع به فلا كلام ولعل زيادة الأمر بالحذر كما قال شيخ الاسلام فى هذه المرة لكونها مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبى صلى الله عليه و سلم فى شغل شاغل وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحراب ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة بيان لما لأجله أمروا بأخذ السلاح والخطاب للفريقين بطريق الالتفات أى تمنوا أن ينالوا منكم غرة فى صلاتكم فيحملون عليمك جملة واحدة والمراد بالأمتعة مايتمتع به فى الحرب لا مطلقا وقرىء أمتعاتكم والأنر للوجوب لقوله تعالى : ولاجناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم حيث رخص لهم فى وضعها إذا ثقل عليهم حملها واستصحابها بسبب مطر أو مرض وأمروا بعد ذلك بالتيقظ والاحتياط فقال سبحانه : وخذوا حذركم ألى بعد إلقاء السلاح للعذر لئلا يهجم عليكم العدو غيلة واختار بعض أئمة الشافعية أن الأمر للندب قيدوه بما إذا لم يخف ضررا يبيح التيمم بترك الحمل أما لوخاف وجب الحمل على الاوجه ولو كان السلاح نجسا ومانعا للسجود وفى شرح المنهاج للعلامة ابن حجر ولو انتفى خوف الضرر وتأذى غيره بحمله كره إن خف الضرر بأن احتمل عادة ة وإلا حرم وبه بجمع بين اطلاق كراهته واطلاق حرمته والآية كما أخرجه البخارى وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما نزلت فى عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا وذكر أبو ضمرة ورواه الكلبى عن أبى صالح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم
(5/136)
غزا محاربا وبنى أنمار فهزمهم الله تعالى وأحرزهم الذرارى والمال فنزل رسول صلى الله عليه و سلم والمسلمون ولايرون من العدو واحدا فوضعوا أسلحتهم وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادى والسماء ترش فحال الوادى بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين أصحابه فجلس فى ظل سمرة فبصر به غورث بن الحرث المحاربى فقال : قتلنى الله تعال إن لم أقتله وانحدر من الجبل ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده فقال يا محمد من يعصمك منى الآن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله عز و جل ثم قال : اللهم اكفنى غورث بن الحرث بما شئت فانكب عدو الله تعالى لوجهه وقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ سيفه فقال : ياغورث من يمنعك منى الآن فقال لآ أحد قال : صلى الله تعالى عليه وسلم : أتشهد أن لا إله إلا الله وأنى عبد الله ورسوله قال : لا ولكنى أعهد اليك أن لاأقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم سيفه فقال ياغورث : لأنت خير منى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنى أحق بذلك فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا : ياغورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه قال : الله عز و جل أهويت له بالسيف لأضربه فما أدرى من لزجنى بين كتفى فخررت لوجهى وخر سيفى وسبقنى اليه محمد عليه الصلاة و السلام فأخذه وأتم لهم القصة فآمن بعضهم ولم يلبث الوادى أن سكن فقطع رسول الله صلى الله عليه و سلم الى أصحابه فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم الآية
إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا
102
- تعليل للامر بأخذ الحذر أى أعد لهم عذابا مذلا وهو عذاب المغلوبية لكم ونصرتكم عليهم فاهتموا بأموركم ولاتهملوا مباشرة الأسباب كى يعذبهم بأيديكم وقيل : لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لغلبته واعتزازه نفى ذلك الايهام بالوعد بالنصر وخذلان العدو لتقوى قلوب المأمورين ويعلموا أن التحرز فى نفسه عبادة كما أن النهى عن إلقاء النفس فى التهلكة لذلك لا للمنع عن الإقدام على الحرب وقيل : لايبعد أن يراد بالعذاب المهين شرع صلاة الخوف فيكون لختم الآية به مناسبة تامة ولايخفى بعده فاذا قضيتم الصلاة أى فاذا أديتم صلاة الخوف على الوجه المبين وفزعتم منها
فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم أى فداموا على ذكر سبحانه فى جميع الاحوال حتى فى حال المسابقة والمقارعة والمراماة وروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال عقب تقسيرها : لم يعذر الله تعالى أحدا فى ترك ذكره الا المغلوب على عقله وقيل : المعنى واذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف أو التحم القتال فصلوا كيفما كان وهو الموافق لمذهب الشافعى من وجوب الصلاة حال المحاربة وعدم جواز تأخيرها عن الوقت ويعذر المصلى حينئذ فى ترك القبلة فى لحاجة القتال لالنحو جماح دابة وطال الفصل وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة فى الأصح لا الصياح أو النطق بدونه ولو دعت الحاجة اليه كتنبيه من خشى وقوع مهلك به أو زجر الخيل أو الاعلام بأنه فلان المشهور بالشجاعة لندرة الحاجة ولاقضاء بعد الأمن فيه نعم لو صلوا كذلك لسواد ظنوه ولو باخبار عدل عدوا فبان لاعدو وان بينهم وبينه مايمنع وصوله اليهم كخندق أو أن بقربهم عرفا حصنا يمكنهم التحصن به غير أن يحاصرهم فيه قضوا فى الأظهر ولايخفى أن حمل الآية على ذلك فى غاية البعد فاذا اطمأننتم أى أقمتم كما قال قتادة ومجاهد وهو راجع الى قوله تعالى : واذا ضربتم
(5/137)
فى الأرض ولما كان الضرب اضطرابا وكنى به عن السفر ناسب أن يكنى بالاطمئنان عن الاقامة وأصله السكون والاستقرار اذا استقررتم من السير والسفر فى أمصاركم فأقيموا الصلاة أى أدوا الصلاة التى دخل وقتها وأتموها وعدلوا أركانها وراعو شروطها وحافظوا على حدودها وقيل : المعنى فاذا أنتم فأتموا الصلاة أى جنسها معدلة الأركان ولاتصلوها ماشين أو راكبين أو قاعيدن وهو المروى عن ابن زيد وقيل : المعنى فاذا اطمأننتم فى الجملة فاقضوا ماصليتم فى تلك الاحوال التى هى حال القلق والانزعاج ونسب الى الشافعى رضى الله تعالى عنه وليس بالصحيح لما علمت من مذهبه ولاينبئك مثل خبير
إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا أى مكتوبا مفروضا موقوتا محدود الأوقات لايجوز اخراجها عن أوقاتها فى شىء من الأحوال فلابد من اقامتها سفرا أيضا وقيل : المعنى كانت عليهم أمرا مفروضا مقدرا فى الحضر بأربع ركعات وفى السفر بركعتين فلابد أن تؤدى فى كل وقت حسبما قدر فيه واستدل بالآية من حمل الذكر فيما تقدم على الصلاة وأوجبها فى حال القتال على خلاف ماذهب اليه الامام أبوحنيفة رضى الله تعالى عنه ولاتهنوا فى ابتغاء القوم أى لاتضعفوا ولاتتوانوا فى طلب الكفار بالقتال
إن تكونوا تألمون فأنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالايرجون تعليل للنهى وتشجيع لهم أى ليس ماينالكم من الآلام مختصا بكم بل الأمر مشترك بينكم وبينهم ثم إنهم يصبرون على ذلك فما لكم أنتم لاتصبرون من أنكم أولى بالصبر منهم حيث أنكم ترجعون وتطمعون من الله تعالى ما لايخطر لهم ببال من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم فى الآخرة
وجوز أن يحمل الرجاء على الخوف فالمعنى ان الألم لاينبغى أن يمنعكم لأن لكم خوفا من الله تعالى ينبغى أن يحترز عنه فوق الاحتراز عن الألم وليس لهم خوف يلجئهم الى الألم وهم يختارونه لاعلاء دينهم الباطل فمالكم والوهن ولايخلوا عن بعد وأبعد منه ماقيل : إن المعنى ان الألم قدر مشترك وأنكم تعبدون الاله العالم القادر السميع البصير الذى يصح أن يرجى منه وأنهم يعبدون الأصنام التى لاخيرهن يرجى ولاشرهن يخشى
وقرأ عبد الرحممن الأعرج أن تكونوا بفتح الهمزة أى لاتهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله تعالى : فانهم تعليل للنهى عن الوهن لأجله وقرىء تئلمون كما يئلمون بكسسر حرف المضارعة والآية قيل : نزلت فى الذهاب الى بدر الضغرى لموعد أبى سفيان يوم أحد وقيل نزلت يوم أحد فى الذهاب خلف أبى سفيان وعسكره الى حمراء الاسد وروى ذلك عن عكرمة وكان الله عليما مبالغا فى العلم فيعلم مصالحكم وأعمالكم ماتظهرون منها وماتسرون حكيما
104
- فيما يأمر وينهى فجدوا فى الامتثال لذلك فان فيه عواقب حميدة وفوزا بالمطلوب إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق أخرج غير واحد عن قتادة بن النعمان رضى الله تعالى عنه أنه قال : كان أهل بيت منا يقال لهم : بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجوا به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ينحله بعض العرب ويقول : قال فلان كذا وقال فلان كذا فاذا سمع أصحاب النبى صلى الله عليه و سلم ذلك الشعر قالوا : والله مايقول هذا
(5/138)
الشعر إلا هذا الخبيث فقال : أوكما قال الرجال قصيدة أضموا فقالوا : ابن الأبيرق قالها وكانوا أهل حاجة وفاقة فى الجاهلية والاسلام وكان طعام الناس بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع منه فخص بها نفسه فقدمت ضافطة فابتاع عمى رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله فى مشربة له درعان وسيفاهما وما يصلحهما فعدا عدى من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح فلما أصبح أتاتى عمى رفاعة فقال : ياابن أخى تعلم أنه قد عدى علينا فى ليلتنا هذه فنقب مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا فتجسسنا فى الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بنى أبيرق قد استوقدوا فى هذه الليلة ولانرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم فقال بنو أبيرق : ونحن نسأل فى الدار والله مانرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بنى بيرق وقال : أنا أسرق فو الله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة قالوا : اليك عنا أيها الرجل فوالله ماأنت بصاحبها فسألنا فى الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لى عمى : ياابن أخى لو أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت له ذلك فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يارسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمى رفاعة فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا لنا حاجة فيه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم سأنظر فى ذلك فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه فى ذلك واجتمع اليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يارسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمته فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولاثبت فرجعت ولوددت أنى حرجت من بعض مالى ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فى ذلك فأتانى عمى رفاعة فقال : ياابن أخى ماصنعت فأخبرته بما قال لى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : الله تعالى المستعان فلم نلبث أن نزل القرآن إنا أنزلنا اليك الكتاب الخ فلما نزل أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسلاح فرده إلى رفاعة فلما أتيت عمى بالسلاح وكان شيخا قد عسى فى الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا قال : ياابن أخى هو فى سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ثم لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله تعالى ومن يشاقق الرسول الآية ثم إن حسان بن ثابت رضى الله تعالى عنه هجا سلافة فقال : فقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعوها جلد أستها وتنازعه ظننتم بأن يخفى الذى صنعتم وفينا نبى عنده الوحى واضعه فلما سمعت ذلك حملت رحله على رأسها فألقته بالأبطح فقالت : أهديت إلى شعر حسان ماكنت تأتينى بخير وأخرج ابن جرير عن السدى واختاره الطبرى أن يهوديا استودع طعمة بن أبيرق درعا فانطلق بها الى داره فحفر لها اليهودى ودفنها فخالف اليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها فلما جاء اليهودى يطلب درعه كافره عنها فانطلق إلى أناس من اليهود من عشيرته فقال : انطلقوا معى فانى أعرف موضع الدرع فلما علم به طعمة أخذ الدرع فألقاها فى دار أبى مليك الأنصارى فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها وقع به طعمة وأناس
(5/139)
من قومه فسبوه ن وقال طعمة : أتخوننى يطلبونها فى داره فأشرفوا على دار أبى مليك فإذا هم بالدرع فقال طعمة : أخذها أبو مليك وجادلت الانصار دون طعمة وقال لهم : انطلقوا معى الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا له : ينضح عنى ويكذب حجة اليهود فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فهم أن يفعل فأنزل الله تعالى الآية فلما فضح الله تعالى طعمة بالقرآن هرب حتى أتى مكة فكفر بعد إسلامه ونزل على الحجاج بن علاط السلمى فنقب بيته وأراد أن يسرقه فسمع الحجاج خشخشة فى بيته وقعقعة جلود كانت عنده فنظر فاذا هو بطعمة فقال : ضيفى وابن عمى أردت أن تسرقنى ! فأخرجه فمات بحرة بنى سليم كافرا وأنزل الله تعالى فيه ومن يشاقق الخ وعن عكرمة أن طعمه لما نزل فيه القرآن ولحق بقريش ورجع عن دينه وعدا على مشربة للحجاج سقط عليه حجر فلحج فلما أصبح أخرجوه من مكة فخرج فلقى ركبا من قضاعة فعرض لهم فقالوا : ابن سبيل منقطع فحملوه حتى اذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فرجعوا فى طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات وعن ابن زيد أنه بعد أن لحق بمكة نقب بيتا يسرقه فهدمه الله تعالى عليه فقتله وقيل : إنه أخرج فركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ وألقى فى البحر
هذا وفى تأكيد الحكم إيذان بالاعتناء بشأنه كما فى إسناد الانزال إلى ضمير العظمة تعظيما لأمر المسند وتقديم المفعول الغير صحيح للاهتمام والتشويق وقوله سبحانه : بالحق فى موضع الحال أى إنا أنزلنا اليك القرآن متلبسا بالحق لتحكم بين الناس برهم وفاجرهم بما أراك الله أى بما عرفك وأوحى به اليك و ما موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول لأرى وهى من رأى بمعنى عرف المتعدية لواحد وقد تعدت لاثنين بالهمزة وقيل : إنها من الرأى من قولهم : رأى الشافعى كذا وجعلها علمية يقتضى التعدى إلى ثلاثة مفاعيل وحذف اثنين منها أى بما أراكه الله تعالى حقا وهو بعيد وإما جعلها من رأى البصيرة مجازا فلاحاجة اليه ولاتكن للخائنين وهم بنو أبيرق أوطعمة ومن يعنيه أو هو ومن يسير بسيرته واللام للتعليل وقيل : بمعنى عن أى لاتكن لأجلهم أو عنهم خصيما
105
- أى مخاصما للبرآء والنهى معطوف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل : إنا أنزلنا اليك الكتاب فاحكم به ولاتكن الخ وقيل : عطف على أنزلنا بتقدير قلنا وجوز عطفه على الكتاب لكونه منزلا ولايخفى أنه خلاف الظاهر جدا واستغفر الله مما قلت لقتادة أو مما هممت به فى أمرت طعمة وبراءته لظاهر الحال وماقاله صلى الله تعالى عليه وسلم لقتادة وكذا الهم بالشىء خصوصا إذ يظن أنه الحق ليس بذنب حتى يستغفر منه لكن لعظم النبى صلى الله عليه و سلم وعصمة الله تعالى له وتنزيهه عما يوهم النقص وحاشاه أمره بالاستغفار لزيادة الثواب وإرشاده الى التثبت وأن ماليس بذنب مما يكاد يعد حسنة من غيره إذا صدر منه عليه الصلاة و السلام بالنسبة لعظمته ومقامه المحمود يوشك أن يكون كالذنب فلا متمسك بالأمر بالاستغفار فى عدم العصمة كما زعمه البعض وقيل أن يكون المراد واستغفر لأولئك الذين برءوا ذلك الخائن ان الله كان غفورا رحيما
106
- مبالغة فى المغفرة والرحمة لمن استغر له ولاتجادل عن الذين يختانون أنفسهم أى يخونونها وجعلت خيانة الغير خيانة لأنفسهم لأن وبالها وضررها عائد عليهم ويحتمل أنه جعلت المعصية خيانة فمعنى يختانون أنفسهم
(5/140)
يظلمونها باكتساب المعاصي وارتكاب الآثام وقيل : الخيانة مجاز عن المضرة ولابعد فيه والمراد بالموصول إما السارق أوالمودع المكافر وأمثاله واما من عاونه فانه شريك فى الإثم والخيانة والخطاب للنبى صلى الله عليه و سلم وهو عليه الصلاة و السلام المقصود بالنهى والنهى عن الشىء لايقتضى كون المنهى مرتكبا للمنهى عنه وقد يقال : إن ذلك من قبيل لئن أشركت ليحبطن عملك ومن هنا قيل : المعنى لاتجادل أيها الانسان
إن الله لايحب من كان خوانا كثير الخيانة مفرطا فيها أثيما
107
- منهمكا فى الأثم وتعليق عدم المحبة المراد منه البغض والسخط بصيغة المبالغة ليس لتخصيصه بل لبيان إفراط بنى أبيرق وقومهم فى الخيانة والاثم
وقال أبو حيان : أتى بصيغة المبالغة فيهما ليخرج منه من وقع الاثم والخيانة مرة ومن صدر منه ذلك على سبيل الغفلة وعدم القصد وليس بشىء وإردف الخوان بالاثيم قيل : للمبالغة وقيل : إن الأول باعتبار السرقة أو إنكار الوديعة والثانى باعتبار تهمة البرىء وروى ذلك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وقدمت صفة الخيانة على صفة الاثم لأنها سبب له أو لأن وقوعهما كان كذلك أو لتواخى الفواصل على ماقيل : يستخفون الناس أى يستترون منهم حياءا وخوفا من ضررهم وأصل ذلك طلب الخفاء وضمير الجمع عائد على الذين يختانون على الأظهر والجملة مستأنفة لاموضع لها من الاعراب وقيل : هى فى موضع الحال من من ولايستخفون أى ولايستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى منه ويخاف من عقابه وإنما فسر الاستخفاء من تعالى بالاستحياء لأن الاستتار منه عز شأنه محال لافائدة فى نفيه ولامعنى للذم فى عدمه وذكر بعض المحققين أن التعبير بذلك من باب المشاكلة وهو معهم على الوجه اللائق بذاته سبحانه وقيل : المراد إنه تعالى عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق الى الاستخفاء منه تعالى سوى ترك مايؤاخذ عليه والجملة فى موضع الحال ضمير يستخفون اذ يبيتون أى يدبرون ولما كان أكثر التدبير ممايبيت عبر به عنه والظرف متعلق بما تعلق به قبله وقيل : متعلق ب يستخفون
مما لايرضى من القول من رمى البرىء وشهادة الزور قال النيسابورى : وتسمية التدبير وهو معنى فى النفس قولا لاإشكال فيها عند القائلين بالكلام النفسى وأما عند غيرهم فمجاز أو لعلهم اجتمعوا فى الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول الميبت الذى لايرضاه سبحانه وقد تقدم لك فى المقدمات ماينفعك ههنا فتذكر وكان الله بما يعملون أى بعملهم أو بالذى يعملونه من الأعمال الظاهرة والخافية محيطا
108
- أى حفيظا كما قال الحسن أو عالما لايعزب عنه شىء ولايفوت كما قال غيره وعلى القولين الاحاطة هنا مجاز ونظمها البعض فى سلك المتشابه
هاأنتم هؤلاء خطاب للذابين مؤذن بأن تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع والجملة مبتدأ وخبر وقوله سبحانه : جادلتم عنهم فى الحياة الدنيا جملة مبنية لوقوع أولاء خبرا فهو بمعنى المجادلين وبه تتم الفائدة ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا كما هو مذهب بعض النحاة فى كل اسم اشارة و جادلتم صلته فالحمل حينئذ ظاهر والمجادلة أشد المخاصمة وأصلها من الجدل وهو شدة القتل ومنه قيل للصقر : أجدل والمعنى هبوا أنكم بذلتم الجهد فى المخاصمة عمن أشارت اليه الاخبار فى الدنيا
(5/141)
فمن يجدل الله عنه يوم القبامة أى فمن يخاصمه سبحانه عنهم يوم لايكتمون حديثا ولايغنى عنهم من عذاب الله تعالى شىء أم يكون عليهم يومئذ وكيلا
109
- أى حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وعقابه وأصل معنى الوكيل الشخص الذى توكل الامور له وتسند اليه وتفسيره بالحافظ المحامى مجاز من باب استعمال الشىء فى لازم معناه و ام هذه منقطعة كمال قال السمين وقيل : عاطفة كما نقله فى الدر المصون والاستفهام كما قال الكرخى : فى الموضعين للنفى أى لاأحد يجادل عنهم ولاأحد يكون عليهم وكيلا
ومن يعمل سوءا أى شىء يسوء به غيره كما فعل بشير برفاعة أو طعمة باليهودى أو يظلم نفسه بما يختص به كالانكار وقيل : السوء مادون الشرك والظلم الشرك وقيل : السوء الصغيرة والظلم الكبيرة
ثم يستغفر الله بالتوبة الصادقة ولو قبل الموت بيسير يجد الله غفورا لما استغفره كائنا من كان رحيما
110
- متفضلا عليه وفيه حث لمن فيهم نزلت الآية من المذنبين على التوبة والاستغفار قبل : وتخويف لمن لم يستغفر ولم يتب بحسب المفهوم فانه يفيد أن من لم يستغفرحرم من رحمته تعالى وابتلى بغضبه ومن يكسب أى يفعل إثما ذنبا من الذنوب فانما يكسبه على نفسه بحيث لايتعدى ضرره الى غيرها فليحترز عن تعريضها للعقاب الوبال وكان الله عليما بكل شىء ومنه الكسب خكيما
111
- فى كل ماقدر وقضى ومن ذلك لاتحمل وازرة وزر أخرى وقيل : عليما بالسارق حكيما فى ايجاب القطع عليه والأول أولى ومن يكسب خطيئة أى صغيرة أو مالا عمد فيه من الذنوب
وقرأ معاذ بن جبل يكسب بكسر الكاف والسين المشددة أصله يكتسب أو إثما أى كبيرة أو ماكان عن عمد وقيل : الخطيئة الشرك والاثم مادونه وفى الكشاف : الاثم الذنب الذى يستحق صاحبه العقاب والهمزة فيه بدل من الواو كأن يثم الأعمال أى يكسرها بإحباطه وفى الكشف كأن هذا أصله ثم استعمل فى مطلق الذنب فى نحو قوله تعالى : كبائر الاثم ومن هذا يعلم ضعف ماذكره صاحب القيل ثم يرم به أى يقذف به ويسنده وتوحيد الضمير لأنه عائد على احد الأمرين لاعلى التعيين كأنه قيل : ثم يرم بأحد الامرين وقيل : إنه عائد على إثما فان المتعاطفين بأو يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف وعليه نحو اذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا اليها وعلى المعطوف نحو والذين يكنزون الذهب والفضة ولاينفقونها وقيل : إنه عائد على الكسب على حد اعدلوا هو أقرب للتقوى وقيل : فى الكلام حذف أى يرم بها وبه و ثم للتراخى فى الرتبة وقرىء بهما بريئا مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد بن سهل أو بأبى مليك فقد احتمل بما فعل من رمى البرىء وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من حمل وقيل : افتعل بمعن فعل فاقتدر وقدر بهتانا وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته وقيل : هو الكذب الذى يتحير فى عظمه والماضى بهت كمنع ويقال فى المصدر : بهتا وبهتا وبهتا واثما مبينا
112
- أى بينا لامرية فيه ولاخفاء وهو صفة لإثما وقد اكتفى فى بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمى على أن وصف الاثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لانهما عبارة عن أمر واحد
(5/142)
هو رمى البرىء بجناية نفسه وعبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمى به للرامى فان رمى البرىء بجانية ماخطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم فى نفسه أما كونه بهتانا فظاهر أما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لايلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البرىء منه أيضا كذلك بل لايجوز ذلك قطعا كيف لاهو كذب محرم فى سائر الأديان فهو فى نفسه بهتان وإثم لامحالة وبكون تلك الجناية للرامى يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لالانضمام جنايته المكسوبة الى رمى البرىء وإلا لكان الرمى بغير جنايته مثله فى العظم ولالمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الحاطئة وإلا لكان الرمى بغير جنايته مع تبرئة نفسه مثله فى العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البرىء وإجراء عقوبتها عليه كما ينىء عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الايذان بانعكاس تقديره مع مافيه من الاشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر على مايقتضيه ظاهر صيغة الافتعال نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه الى رمى البرىء تزداد الجناية قبحا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للاثم فقط كذا قاله شيخ الاسلام ولايخفى أنه أولى مما يفهم من ظاهر كلام الكشاف من أن فى التنزيل لفا ونشرا غير متب حيث قال إثر قوله تعالى : فقد احتمل الخ : لأنه بكسبه الاثم آثم وبرميه البرىء باهت فهو جامع بين الأمرين لخلوه عما يلزمه وإن أجيب عنه فافهم
ولولا فضل الله عليك ورحمته باعلامك بماهم عليه بالوحى وتنبيهك على الحق وقيل : لولا فضله بالنبوة ورحمته بالعصمة وقيل : لولا فضله بالنبوة ورحمته بالوحى وقيل : المراد لولا حفظه لك وحراسته إياك
لهمت طائفة منهم أى من الذين يختانون والمراد بهم أسير بن عروة وأصحابه أو الذابون عن طعمة المطلعون على كنه القصة العالمون بحقيقتها ويجوز أن يكون الضمير راجعا الى الناس والمراد بالطائفة الذين انتصروا للسارق أو المودع الخائن وقيل : المراد بهم وفد ثقيف فقد روى عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنهم قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا : يا محمد جئناك نبايعك على أن لانكسر اصنامنا بأيدينا وعلى أن نتمتع بالعزى سنة فلم يجبهم صلى الله تعالى عليه وسلم وعصمه الله تعالى من ذلك فنزلت
وعن أبى مسلم أنهم المنافقون هموا بما لم ينالوا من إهلاك النبى صلى الله عليه و سلم فحفظه الله تعالى منهم وحرسه بعين عنايته أن يضلوك اى بأن يضلوك عن القضاء بالحق أو عن اتباع ماجاءك فى أمر الاصنام أو بأن يهلكوك وقد جاء الاضلال بهذا المعنى ومنه على ماقيل : قوله تعالى : وقالوا أئذا ضللنا فى الأرض والجملة جواب لولا وانما نفى همهم مع أن المنفى إنما هو ثأثيره فقط ايذانا بانتفاء تأثيره بالكلية وقيال المراد هو الهم المؤثر ولاريب فى انتفائه حقيقة
وقال الراغب : إن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا باضلاله صلى الله تعالى عليه وسلم أصلا وإنما كان ذلك صوابا عندهم وفى ظنهم وجوز أبو البقاء أن يكون الجواب محذوفا والتقدير ولولا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك ثم استأنف بقوله سبحانه : لهمت أى لقد همت بذلك وما يضلون إلا أنفسم أى مايزيلون عن الحق إلا أنفسهم أو مايهلكون إلا إياها لعود وبال ذلك وضرره عليهم والجملة اعتراضية وقوله تعالى : ومايضرونك من شىء عطف عليه وعطفه على أن يضلوك وهم محض و من صلة والمجرور
(5/143)
فى محل النصب على المصدرية أى وما يضرونك شيئا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك عن الزيغ فى الحكم وأما ماخطر ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر لك أن الحقيقة على خلاف ذلك أو لما أنه سبحانه عاصمك عن المداهنة والميل الى آراء الملحدين والامر بخلاف ماأنزل الله تعالى عليك أو لما أنه جل شأنه وعدك العصمة من الناس وحجبهم عن التمكن منك وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة أى القرآن الجامع بين العنوانين وقيل : المراد بالحكمة السنة وقد تقدم الكلام فى تحقيق ذلك والجملة على ما قال الاجهورى : فى موضع التعليل لما قبلها لما قبلها والى ذلك أشار الطبرسى وهو غير مسلم على ماذهب اليه أبو مسلم
وعلمك بأنواع الوحى مالم تكن تعلم أى الذى لم تكن تعلمه من خفيات الأمور وضمائر الصدور ومن جملتها وجوه إبطال كيد الكائدين أو من أمور الدنيا وأحكام الشرع كما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أو من الخير والشر كما قال الضحاك أو من أخبار الاولين والآخرين كما قيل أو من جميع ماذكر كما يقال
ومن الناس من فسر الموصول بأسرار الكتاب والحكمة أى أنه سبحانه أنزل عليك ذلك وأطلعك على أسراره وأوقفك على حقائقه فتكون الجملة الثانية كالتتمة للجملة الأولى واستظهر فى البحر العموم
وكان فضل الله عليك
113
- لاتحويه عبارة ولاتحيط به إشارة ومن ذلك النبوة العامة والرياسة التامة والشفاعة العظمى يوم القيامة لاخير فى كثير من نجواهم أى الذين يختانون واختار جمع أن الضمير واليه يشير كلام مجاهد و نجوى فى الكلام كما قال الزجاج : مايتفرد به الجماعة أو الاثنان وهل يشترط فيه أن يكون سرا أم لا قولان : وتكون : بمعنى التناجى وتطلق على القوم المتناجين كإذهم نجوى وهو إما من باب رجل عدل أو على أنه جمع نجى كما نقله الكرمانى والظرف الأول خبر لا والثانى فى موضع الصفة للنكرة أى كائن من نجواهم إلا من أمر أى إلا فى نجوى من أمر بصدقة فالكلام على حذف مضاف وبه يتصل الاستثناء وكذا إن أريد بالنجوى المتناجون على أحد الاعتبارين ولايحتاج إلى ذلك التقدير حينئذ ويكفى فى صحة الاتصال صحة الدخول وإن لم يجزم به فلا يرد ماتوهمه عصام الدين من أن جاءنى كثير من الرجال إلا زيدا لايصح فيه الاتصال لعدم الجزم بدخول زيد فى الكثير ولا الانقطاع لعدم الجزم بخروجه ولاحاجة إلى ماتكلف فى دفعه بأن المراد لاخير فى كثير من نجوى واحد منهم إلا نجوى من أمر الخ فانه فى كثير من نجواه خير فانه على مافيه لايتأتى مثله على احتمال الجمع وجوز رحمه الله تعالى بل زعم أنه الأولى أن يجعل إلا من أمر متعلقا بما أضيف اليه النجوى بالاستثناء أو ابدل ولايخفى أنه إن سلم أن له معنى خلاف الظاهر وجوز غير واحد أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى لكن من أمر بصدقة وإن قلت ففى نجواه الخير أو معروف وهو كل ماعرفه الشرع واستحسنه فيشمل جميع أصناف البر كقرض واغاثة ملهوف وإرشاد ضال إلى غير ذلك ويراد به هنا ماعدا الصدقة وماعدا ماأشير اليه بقوله تعالى أو إصلح بين الناس وتخصيصه بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وتخصيص الصدقة فيما تقدم بالصدقة الواجبة مما لااعدى اليه وليس له سند يعول عليه وخص الصدقة والاصلاح بين الناس
(5/144)
بالذكر من بين ماشمله هذا العام إيذانا بلاعتناء بهما لما فى الأول من بذل المال الذى هو شقيق الروح وما فى الثانى من إزالة فساد ذات البين وهى الحالقة للدين كما فى الخبر وقدم الصدقة على الاصلاح لما أن الأمر بها أشق لما فيه من تكليف بذل المحبوب والنفس تنفر عمن يكلفها ذلك ولا كذلك الأمر بالاصلاح وذكر الامام الرزاى أن السر فى إفراد هذه الاقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدى إلى الناس إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة والمنفعة اما جسمانية كإعطاء المال وإليه اشارة بقوله تعالى : إلا من أمر بدقة وإما روحانية وإليه الاشارة بالأمر بالمعروف وأما رفع الضر فقد أشير اليه بقوله تعالى : أو اصلاح بين الناس ولايخفى مافيه والمراد من الاصلاح بين الناس التأليف بينهم بالمودة إذا تفاسدوا من غير أن يجاوز فى ذلك حدود الشرع الشريف نعم أبيح الكذب لذلك فقد أخرج الشيخان وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ليس الكذاب الذى يصلح بين الناس فينمى خيرا أو يقول خيرا وقالت : لم أسمعه يرخص فى شىء مما يقوله الناس إلا فى ثلاث : فى الحرب والاصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها
وعد غير واحد الاصلاح من الصدقة وأيد بما أخرجه البيهقى عن أبى أيوب أن النبى صلى الله عليه و سلم قال له : يأبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى الله تعالى ورسوله موضعها قال بلى قال : تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أفضل الصدقة اصلاح ذات البين وهذ الخبر ظاهر فى أن الاصلاح أفضل من الصدقة بالمال
ومثله ماأخرجه أحمد وأبو داود والترمذى وصححه عن أبى الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا : بلى قال : اصلاح ذات البين ولايخفى أن هذا ونحوه مخرج مخرج الترغيب واليس المراد ظاهره إذ لاشك أن الصيام المفروض والصلاة المفروضة والصدقة كذلك أفض من الاصلاح اللهم إلا أن يكون إصلاح يترتب على عدمه شر عظيم وفساد بين الناس كبير
ومن يفعل ذلك أى المذكور من الصدقة وأخويها والكلام تذييل للاستثناء وكان الظاهر من يأمر بذلك ليكون مطابق للمذيل إلا أنه رتب الوعد على الفعل إثر بيان خيرية الآمر لما أن المقصود الترغيب فى الفعل وبيان خيرية الآمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى وجوز أن يكون عبر عن الأمر بالفعل إذ هو يكنى به عن جميع الاشياء كما إذا قيل : حلفت على زيد وأكرمته وكذا وكذا فتقول : نعم مافعلت ولعل نكتة العدول عن يأمر الى يفعل حينئذ الاشارة إلى أن التسبب لفعل غير الصدقة والاصلاح والمعروف بأى وجه كان كاف فى ترتيب الثواب ولايتوقف ذلك على اللفظ ويجوز جعل ذلك إشارة الى الأمر فيكون معنى من أمر ومن يفعل الأمر واحدا وقيل : لاحاجة إلى جعله تذييلا ليحتاج إلى التأويل تحصيلا للمطابقة بل لما ذكر الآمر استطراد ذكر ممتثل أمره كأنه قيل : ومن يمتثل ابتغاء مرضات الله أى لأجل طلب رضاء الله تعالى فسوف نؤتيه بنون العظمة على الالتفات وقرأ أبو عمرو وحمزة وقتيبة عن الكسائى وسهل وخلف بالياء أجرا عظيما لايحيط به نطاق الوصف قيل : وإنما قيد الفعل بالابتغاء المذكور لأن الأعمال بالنيات وإن من فعل خيرا لغير ذلك لم يستحق به غير الحرمان ولايخفى أن هذا ظاهر فى أن الرياء محبط لثواب
(5/145)
الاعمال بالكلية وهذا ماصرح به ابن عبد السلام والنووى وقال الغزالى : إذا غلب الاخلاص فهو مثاب وإلا فلا وقيل : هو مثاب غلب الاخلاص أم لا على قدر الاخلاص وفى دلالة الآية على أن غير المخلص لايستحق غير الحرمان نظر لأنه سبحانه أثبت فيها للمخلص أجرا عظيما وهو لاينافى ان يكون لغيره مادونه وكون العظمة بالنسبة إلى أمور الدنيا خلاف الظاهر ومن يشاقق الرسول أى يخافه من الشق فان كلا من المتخالفين فى شق غير شق الآخر ولظهور الانفكاك بين الرسول ومخالفه فك الادغام هنا وفى قوله سبحانه فى الانفال : ومن يشاقق الله ورسوله رعابة لجانب المعطوف ولم يفك فى قوله تعالى فى الحشر : ومن يشاق الله
وقال احطيب : فى حكمه الفك والادغام أن أل فى الاسم الكريم لازمة بخلافها فى الرسول واللزوم يقتضى الثقل فخفف بالادغام فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول وفى آية الانفال صار المعطوف والمعطوف عليه كالشىء الواحد وما ذكرناه أولى والتعرض لعنوان الرسالة لإظهار كل شناعة ما اجترءوا اليه من المشاقة والمخالفة وتعليل الحكم الآتى بذلك والآية نزلت كما قدمناه فى سارق الدرع أو مودعها وقيل : فى قوم طعمة لما أرتدوا بعد أن أسلموا وأياما كان فالعبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب فيندرج فيه ذلك وغيره من المشاقين من بعد ماتبين له الهدى أى ظهر له الحق فيما حكم به النبى صلى الله عليه و سلم أو فيما يدعيه عليه الصلاة و السلام بالوقوف على المعجزات على نبوته ويتبع غير سبيل المؤمنين أى غير ماهم مستمرون عليه من عقد وعمل فيعم الأصول والفروع والكل والبعض نوله ماتولى أى نجعله واليا لما تولاه من الضلال ويؤول الى أنا نضله وقيل : معناه نخل بينه وبين مااختاره لنفسه وقيل نكله فى الآحرة الى مااتكل عليه وانتصر به فى الدنيا من الاوثان ونصله جهنم أى ندخله اياها وقد تقدم
وقرىء بالنون من صلاه وساءت مصيرا
115
- أى جهنم أو التولية واستدل الاما الشافعى رضى الله تعالى عنه على حجية الاجماع بهذه الآية فعن المزنى أنه قال : كنت عند الشافعى يوما فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيد عصا فلما رآهذا مهابة استوى جالسا وكان مستندا لاسطوانة وسوى ثيابه فقال له : ماالحجة فى دين الله تعالى قال : كتابه قال : وماذا قال : سنة نبيه صلى الله عليه و سلم قال : وماذا قال : اتفاق الأمة قال : من أين هذا الأخير أهو فى كتاب الله تعالى فتدبر ساعة ساكتا فقال له الشيخ : أجلتك ثلاثة أيام بلياليهن فان جئت بآية وإلا فاعتزل الناس فمكث ثلاثة أيام لايخرج وخرج فى اليوم الثالث بين الظهر والعصر وقد تغير لونه فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس وقال : حاجتى فقال : نعم أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم : ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الخ لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين إلا واتباعهم فرض قال : صدقت وقام وذهب وروى عنه أنه قال : قرأت القرآن فى كل يوم وفى كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت بها ونقل الامام عنه أنه سئل عن آية من كتاب الله تعالى تدل على أن الاجماع حجة فقرأ القرآن ثلثمائة مرة حتى وجد هذه الآية
واعترض ذلك الراغب بأن سبيل المؤمنين الإيمان كما قيل : اسلك سبيل الصائمين والمسلمين أى فى الصوم والصلاة فلا دلالة فى الآية على حجية الاجماع ووجوب اتباع المؤمنين فى غير الايمان
(5/146)
ورده فى الكشف بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الاول ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف مثلا تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا فكذلك يتناول ماهو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه فسبيل المؤمنين هنا عام على ما أشرنا اليه
واعترض بأن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فيلزم فى المعطوف ذلك فاذا لم يكن فى الاجماع فائدة لأن الهدى عام لجميع الهداية ومنها دليل الاجماع وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول فائدة وأجيب بمنع لزوم القيد فى المعطوف وعلى تقدير التسليم فالمراد بالهداية الدليل على التوحيد والنبوة فتفيد الآية أن مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام فيكون الاجماع مفيدا فى الفروع بعد تبين الأصول وأوضح القاضى وجه الاستدلال بها على حجية الإجماع وحرمة مخالفته بأنه تعالى رتب فيها الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين وذلك إما لحرمة كل واحد منهما أو أحدهما أو الجمع بينهما والثانى باطل اذ يقبح أن يقال : من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم اليها غيرها أو لم يضم وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم
فان قيل لانسلم أن ترك اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنه لايمتنع أن لايتبع سبيل المؤمنين ولاغير سبيل المؤمنين أجيب بأن المتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير فاذا كان من شأن غير المؤمنين أن لايقتدوا فى أفعالهم بالمؤمنين فكل من لم يتبع من المؤمنين سبيل المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم فوجب أن يكون متبعا لهم وبعبارة أخرى ان ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين لأن المكاف لايخلو من اتباع سبيل البتة واعترض أيضا بأن هذا الدليل غير قاطع لأن غير سبيل المؤمنين يحتمل وجوها من التخصيص لجواز أن يراد سبيلهم فى متابعة الرسول أو فى مناصرته أو فى الاقتداء به عليه الصلاة و السلام أو فيما صاروا به مؤمنين وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور والتمسك بالظاهر انما يثبت بالاجماع ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن فيكون اثباتا للاجماع بما لايثبت حجيته إلا به فيصير دورا واستصعب التفصى عنه وقد ذكره ابن الحاجب فى المختصر وقريب منه قول الاصفهانى فى اتباع سبيلهم لما احتمل ما ذكر وغيره صار عاما ودلالته على فرد من أفراده غير قطعية لاحتمال تخصيصه بما يحرجه مع مافيه من الدور وأجاب عن الدور بأنه إنما يلزم لو لم يقم عليه دليل آخر وعليه دليل آحر وهو أنه مظنون يلزم العمل به لأنا إن لم نعمل به وحده فإما أن نعمل به وبمقابله أو لانعمل بهما أو نعمل بمقابله وعلى الاول يلزم الجمع بين النقيضين وعلى الثانى ارتفاعهما وعلى الثالث العمل بالمرجوح مع وجود الراجح والكل باطل فليزم العمل به قطعا واعترض أيضا بمنع حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين مطلقا بل بشرط المشاقة وأجاب عنه القوم بما لايخلوا عن ضعف وبأن الاستدلال يتوقف على تخصيص المؤمنين بأهل الحل والعقد فى كل عصر والقرينة عليه غير ظاهرة وبأمور أخرى ذكرها الآمدى والتلمسانى وغيرهما وأجابوا عما أجابوا عنه منها وبالجملة لايكاد يسلم هذا الاستدلال من قيل وقال وليست حجية الاجماع موقوفة على ذلك كما لايخفى إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء قد مر تفسيره فيما سبق وكرر للتأكيد وخص هذا الموضع به ليكون كالتكميل لقصة من سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد فى ضمن الآيات السابقة فلا يضر بعد العهد أو لأن للآية سببا آخر فى النزول فقد أخرج الثعلبى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن شيخا من العرب جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إنى شيخ منهمك
(5/147)
فى الذنوب إلاأنى لم أشرك بالله تعالى منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع فى المعاصى جراءة وماتوهمت طرفة عين أنى أعجز الله تعالى هربا وإنى لنادم تائب فما ترى حالى عند الله تعالى فنزلت ومن يشرك بالله شيئا من الشرك أو أحدا من الخلق وفى معنى الشرك به تعالى نفى الصانع ولايبعد أن يكون من أفراده فقد ضل ضللا بعيدا
116
- عن الحق أو الوقوع ممن له أدنى عقل وإنما جعل الجزاء على ماقيل هنا فقد ضل الخ وفيما تقدم فقد افترى إثما عظيما لما أن تلك كانت فى أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لايشسكون فى صحته من أمر الرسول صلى الله عليه و سلم ووجوب اتباع شريعته وما يدعوا اليه من الايمان بالله تعالى ومع ذلك أشركوا وكفروا فصاروا ذلك افتراءا واختلافا وجراءة عظيمة على الله تعالى وهذه الآية كانت فى أناس لم يعلموا كتابا ولاعرفوا من قبل وحيا ولم يأتهم سوى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهدى ودين الحق فأشركوا بالله عز و جل وكفروا وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان فكان ضلالهم بعيدا ولذلك جاء بعد تلك الم تر الى الذين يزكون أنفسهم وقله سبحانه : أنظر كيف يفترون على الله الكذب وجاء بعده قوله تعالى : إن يدعون من دونه إلا إناثا أى مايعبدون أو ماينادون لحوائجهم من دون الله تعالى إلا أصناما والجملة مبنية لوجه ماقبلها ولذا لم تعطف عليه وعبر عن الاصنام بالإناث لما روى عن الحسن أنه كان لكل حى من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بنى فلان لانهم يجعلون عليه الحلى وأنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان أو لما أن أسماءها مؤنثة كما قيل وهم يسمون مااسمه مؤنث أنثى كما فى قوله : وما ذكر فان يكبر فأنثى شديد اللزم ليس له ضروس فانه عنى القراد وهو مادام صغيرا يسمى قرادا فذا كبر سمى حلمة كثمرة واعترض بأن من الاصنام مااسمه مذكر كهبل وود سواع وذى الخصلة وكون ذلك باعتبار الغالب غير مسلم وقيل : إنها جمادات وهى كثيرا ماتؤنث لمضاهاتها الاناث لانفعالها ففى التعبير عنها بهذا الاسم تنبيه على تناهى جهلهم وفرط حماقتهم حيث يدعون ما ينفعل ويدعون الفعال لما يريد وقيل : المراد بالإناث الأموات فقد أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن أن الانثى كل ميت ليس فيه روح مثل الخشبة اليابسة والحجر اليابس ففى التعبير بذلك دون أصناما التنبيه السابق أيضا إلا أن وصف الأصنام بكونهم أمواتا مجاز وقيل : سماها الله تعالى إناثا لضعفها وقلة خيرها وعدم نصرها وقيل : لاتضاع منزلتها وانحطاط قدرها بناءا على أن العرب تطلق الأنثى على كل مااتضعت منزلته من أى جنس كان وقيل : كان فى كل صنم شيطانة تتراءى للسدنة وتكلمهم أحيانا فلذلك أخبر بسبحانه أنهم مايعبدون من دونه إلا اناثا وروى ذلك عن أبى بن كعب وقيل : المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله عز اسمه وروى ذلك عن الضحاك وهو جمع انثى كرباب وربى فى لغة من كسر الراء
وقرىء إلا انثى على التوحيد وإلا أنثى بضمتين كرسل وهو إما صفة مفردة مثل امرأة جنب وإما جمع نيث كقليب وقلب وقد جاء حديد أنيث وإما جمع اناث كثمار وثمر وقرىء وثنا وأثنا بالتخفيف والتثقيل وتقديم الثاء على النون جمع وثن كقولك : أسد وأسد وأسد وأسد وقلبت الواو ألفا كأجوه فى وجوه
وأخرج ابن جرير أنه كان فى مصحف عائشة رضى الله تعالى عنها إلا أوثانا وإن يدعون أى
(5/148)
وما يعبدون بعبادة تلك اوثان إلاشيطانا مريدا إذ هو الذى أمرهم بعبادتها وأغراهم فكانت طاعتهم له عبادة فالكلام محمول على المجاز فلا ينافى الحصر السابق وقيل : المراد من يدعون يطيعون فلا منافاة أيضا
وأخرج ابن أبى حاتنم عن سفيان أنه قال : ليس من صنم إلا فيه شيطان والظاهر أن من الشيطان هنا إبليس وهو المروى عن مقاتل وغيره والمريد والمارد والمتمرد : العاتى الخارج عن الطاعة وأصل مادة م ر د للملامسة والتجرد ومنه صرح ممرد وشجردة مرداء للتى تناثر ورقها ووصف الشيطان بذلك إما لتجرده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لايعلق به شىء وقيل : لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء لعنه الله أى طرده وأبعده عن رحمته وقيل : المراد باللعنة فعل مايستحقها به من الاستكبار عن السجود كقولهم : أبيت اللعن أى مافعلته تستحقه به والجملة فى موضع نصب صفة ثانية لشيطان
وجوز أبو البقاء أن تكون مستأنفة على الدعاء فلاموضع لها من الاعراب
(5/149)
وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا عطف على الجملة المتقدمة والمراد شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله تعالى وهذا القول الشنيع الصادر من عند اللعن وجوز أن تكون فى موضع الحال بتقدير قد أى وقد قال وأن تكون مستأنفة مستطردة كما أن ماقبلها اعتراضية فى رأى والجار والمجرور إما متعلق بالفعل وإما حال مما بعده واختاره البعض والاتخاذ أخذ الشىء على وجه الاختصاص وأصل معنى الفرض القطع وأطلق هنا على المقدار المعين لاقتطاعه عما سواه وهو كما أخرج ابن أبى حاتم عن الضحاك وابن المنذر عن الربيع من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون والظاهر أن هذا القول وقع نطقا من اللعين وكأنه عليه اللعنة لما نال من آدم عليه السلام مانال طمع فى ولده وقال ذلك ظنا وأيد بقوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وقيل : إنه فهم طاعة الكثير له مما فهمت من الملائكة حين قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وأدعى بعضهم أن هذا القول حالى كما فى قوله : امتلأ الحوض وقال قطنى مهلا رويدا قد ملأت بطنى وفى هذه الجمل ما ينادى على جهل المشركين وغاية انحطاط درجتهم عن الانخراط فى سلك العقلاء على أتم وجه وأكمله وفيها توبيخ لهم كما لايخفى ولأضلنهم عن الحق ولأنينهم الأمانى الباطلة وأقول لهم : ليس وراءكم بعث ولانشر ولاجنة ولانار ولاثواب ولاعقاب فافعلوا ما شئتم وقيل : أمنيهم بطول البقاء فلى الدنيا فيسوفون العمل وقيل : أمنيهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها وأدعوا كلا منهم الى مايميل طبعه اليه فأصده بذلك عن الطاعة وروى الأول عن الكلبى ولآمرنهم بالتبتيك كما قال أبو حيان أو بالضلال كما قال غيره فليبتكن إذان الأنعام أى فليقطعنها من أصلها كما روى عن أبى عبد الله رضى الله تعالى عنه أو ليشقنها كما قال الزجاج بموجب امرى من غير تلعثم فى ذلك ولاتأخير كما يؤذن بذلك الفاء وهذه إشارة الى ماكانت الجاهلية تفعله من شق أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وتحريم ركوبها والحمل عليها وسائر وجوه الانتفاع بها ولآمرنهم فليغيرن ممتثلين بلا ريث خلق الله عن نهجه صورة أوصفة يندرج فيه مافعل من فقء عين فحل الإبل
(5/0)
إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه ويقال له الحامى وخصاء العبيد والوشم واللواطة والسحاق ونحو ذلك وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة مثلا وتغيير فطرة الله تعالى التى هى الاسلام واستعمال الجوارح والقوى فيما لايعود على النفس كما لايوجب لها من الله سبحانه زلفى
وورد عن السلف الاقتصار على بعض المذكورات وعموم اللفظ بمنع الخصاء مطلقا وروى النهى عنه عن جمع من الصحابة رضى الله تعالى عنهم وأخرج البيهقى عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن خصاء الخيل والبهائم وادعى عكرمة أن الآية نزلت فى ذلك وأجاز بعضهم ذلك فى الحيوان وأخرج ابن المنذر عن عروة أنه خصى بغلا له وعن طاوس أنه خصى جملا وعن محمد بن سيرين أنه سئل عن الخصاء الفحول فقال : لابأس به وعن الحسن مثله وعن عطاء أنه سئل عن خصاء الفحل فلم ير به عند عضاضه وسوء خلقه بأسا
وقال النووى : لايجوز خصاء حيوان لايؤكل فى صغره ولافى كبره ويجوز اخصاء المأكول فى صغره لأن فيه غرضنا وهو طيب لحمه ولايجوز فى كبره والخصاء فى بنى آدم محظور عند عامة السلف والخلف وعند أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه يكره شراءالخصيان واستخدامهم وامساكهم لأن الرغبة فيهم تدعوا إلى إخصائهم وخص من تغيير خلق الله تعالى الختان والوشم لحاجة وخضب اللحية وقص مازاد منها على السنة ونحو ذلك وعن قتادة أنه قرأ الآية ثم قال : مابال أقوام جهلة يغيرون صبغة الله تعالى ولونه سبحانه ولايكاد يسلم له إن أراد مايعم الخضاب المسنون كالخضاب بالحناء بل وبالكتم أيضا لارهاب العدو وقد صح عن جمع من الصحابة رضى الله تعالى عنهم أنهم فعلوا ذلك منهم أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه وحديث النهى مخمول على غير ذلك ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله بإيثار مايدعو اليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزته عن طاعة الله تعالى إلى طاعته وقيد من دون الله لبيان أن اتباعه ينافى متابعة أمر الله تعالى وليس احترازيا كما يتوهم وأما ما قيل : من أنه مامن مخلوق لله تعالى إلا ولك فيه ولاية لوعرفتها ولك فى وجوده منفعة لوطلبتها فلهذا قيدت الولاية بكونها من دون الله تعالى فناشىء من الغفلة عن تحقيق معنى الولاية فافهم فقد خسر خسرانا مبينا
119
- أى ظاهرا وأى خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار وأى صفقة أخسر من فوات رضا الرحمن برضا الشيطان يعدهم مالا يكاد ينجزه وقيل : النصر والسلامة وقيل : الفقر والحاجة إن أنفقوا وقرأ الأعمش يعدهم بسكون الدال وهو تخفيف لكثرة الحركات
ويمينهم الأمانى الفارغة وقيل : طول البقاء فى الدنيا دوام النعيم فيها وجوز أن يكون المعنى فى الجملتين يفعل لهم الوعد ويفعل التمنية على طريقة : فلان يعطى ويمنع وضمير الجمع المنصوب فى يعدهم ويمنيهم راجع إلى من باعتبار معناها كمأن ضمكير الرفع المفرد فى يتخذ و خسر راجع اليها باعتبار لفظها واخبر سبحانه عن وقوع الوعد والتمنية مع وقوع غير ذلك مماأقسم عليه اللعين أيضا لأنهما من الأمور الباطنة وأقوى أسباب الضلال وحبائل الاحتيال ومايعدهم الشيطان إلا غرورا
120
- وهو إيهام النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد والامر عندى مثله إما بالخواطر الفاسدة وإما بلسان أوليائه واحتمال أن يتصور بصورة إنسان فيفعل مايفعل بعيد و غرورا إما مفعول ثان للوعد أو مفعول لأجله أو نعت لمصدر محذوف أى وعدا ذا غرور أو غارا أو مصدرا على غير لفظ المصدر لأن يعدهم فى قوة يغرهم بوعده
(5/150)
كما قال السمين والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها من باب الوعد وفى البحر إنهما متقاربان فاكتفى بأولهما أولئك إشارة إلى من اتخذ الشيطان وليا باعتباره معناه وما فيه من معنى البعد للايذان ببعد منزلتهم فى الخسران مأواهم ومستقرهم جميعا جهنم ولايجدون محيصا
121
- اى معدلا ومهربا وهو اسم مكان أو مصدر ميمى من حاص يحيص إذا عدل وولى ويقال : محيص ومحاص وأصل معناه كما قيل الروغان ومنه وقعوا فى حيص بيص وحاص باص أى فى أمر يعسر التخلص منه ويقال : حاص يحوص أيضا وحوصا وحياصا و عنها متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا
ولم يجوزوا تعلقه ب يجدون لأنه لايتعدى بعن ولابمحيصا لأنه إن كان اسم مكان فهو لايعمل لأنه ملحق بالجوامد وإن كان مصدرا فمعمول المصدر لايتقدم عليه ومن جوز تقدمه إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا جوزه هنا
والذين امنوا وعملوا الصالحات مبتدأ خبره قوله تعالى : سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول فى موضع نصب بفعل محذوف يفسره مابعده ولايخفى مرجوحيته وهذا وعد للمؤمنين إثر وعيد الكافرين وإنما قرنهما سبحانه وتعالى زيادة لمسرة أحبائه ومساءة أعدائه وعد الله حقا أى وعدهم وعدا وأحقه حقا فالأول مؤكد لنفسه كله على ألف عرفا فان مضمون الجملة السابقة لاتحتمل غيره اذ ليس الوعد إلا الاخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه والثانى مؤكد لغيره كزيد قائم حقا فان الجملة الخبرية بالنظر إلى نفسها وقطع النظر عن قائلها تحتمل الصدق والكذب والحق والباطل وجوز أن ينتصب وعد على أنه مصدر ل سندخلهم على ماقال أبوالبقاء من غير لفظه لأنه فى معنى نعدهم ادخال جنات ويكون حقا حلا منه
ومن أصدق من الله قيلا
122
- تذييل للكلام السابق مؤكد له فالواو اعتراضية و القيل مصدر قال ومثله القال
وعن ابن السكيت : انهما اسمان لامصدران ونصبه على التمييز ولايخفى مافى الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجليل الجامع وبناء أفعل وإيقاع القول تمييزا من المبالغة والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه التى غرتهم حتى استحقوا الوعيد بوعد الله تعالى الصادق لأوليائه الذى أوصلهم الى السعادة العظمى ولذا بالغ سبحانه فيه وأكده حثا على تحصيله وترغيبا فيه وزعم بعضهم أن الواو عاطفة والجملة معطوفة على محذوف أى صدق الله ومن أصدق من الله قيلا أى أصدق ولاأصدق منه ولايخفى أنه تكلف مستغنى عنه وكأن الداعى اليه الغفلة عن حكم الواو الداخلة على الجملة التذييلة وتجويز أن تكون الجملة مقولا محذوف أى وقائلين : من أصدق من الله قيلا فيكون عطفا على خالدين أدهى وأمر
وقرأ الكوفى غير عاصم وورش باشمام الصاد الزاى ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب الخطاب للمؤمنين والأمانى بالتشديد والتخفيف وبهما قرىء جمع أمنية على وزن أفعولة وهى كما قال الراغب : الصورة الحاصلة فى النفس من تمنى الشىء أى تقديره فى النفس وتصويره فيها ويقال : منى له المانى أى قدر له المقدر ومنه قيل : منية أى مقدرة وكثيرا مايطلق التمنى على تصور ملا حقيقة له ومن هنا يعبر به عن
(5/151)
الكذب لأنه تصور ماذكر وإيراده باللفظ فكأن التمنى مبدأ له فلذا صحح التعبير عنه ونه قول عثمان رضى الله تعالى عنه : ماتعنيت ولاتمنيت منذ أسلمت والباء فى بأمانيكم مثلها فى زيد بالباب وليست زائدة والزيادة محتملة ونفاها البعض واسم ليس مستتر فيها عائد على الوعد بالمعنى المصدرى أو بمعنى الموعود فهو استخدام كما قال السعد وقيل : عائد على الموعود الذي تضمنه عامل وعد الله أو على إدخال الجنة أو العمل الصالح وقيل : عائد على الايمان المفهوم من الذين آمنوا وقيل على الأمر المتحاور فيه بقرينة سبب النزول
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى قال : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين ابراهيمم ولن يدخل الجنة الا من كان هودا وقالت النصارى مثل ذلك فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا صلى الله عليه و سلم بعد نبيكم وديننا بعد دينكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين ابراهيم وإسماعيل وإسحق ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا فأنزل الله تعالى ليس بأمانيكم وقوله سبحانه : ومن أحسن الخ أى ليس وعد الله تعالى أو ماوعد سبحانه من الثواب أو إدخال الجنة أو العمل الصالح أو الايمان أو ادخال الجنة أو العمل الصالح أو الايمان أو ماتحاورتم تم فيه حاصلا بمجرد أمانيكم أيها المسلمون ولاأمانى اليهود والنصارى وإنما يحصبل بالسعى والتشمير عن ساق الجد لامتثال الأمر ويؤيد عود الضمير على الإيمان المفهوم مما قبله أنه أحرج ابن أبى شيبة عن الحسن موقوفا ليس الإيمان بالتمنى ولكن ماوقر فى القلب وصدقه العمل إن قوما ألهتهم أمانى المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولاحسنة لهم وقالوا : نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل وأحرج البخارى فى تاريخه عن أنس مرفوعا ليس الإيمان بالتمنى ولا بالتحلى ولكن هو ماوقر فى القلب فأما علم القلب فالعلم النافع وعلم اللسان حجة على بنى آدم
وروى عن مجاهد وابن زيد أن الخطاب لأهل الشرك فانهم قالوا : لانبعث ولانعذب كما قال أهل الكتاب لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وأيد بانه لم يجر للمسلمين ذكر فى الأمانى وجرى للمشركين ذكر فى ذلك أى ليس الأمر بأمانى المشركين وقولهم : لابعث ولاعذاب ولابأمانى أهل الكتاب وقولهم ماقالوا : وقرر سبحانه ذلك بقوله عز من قائل : من يعمل سوءا يجز به عاجلا أو أجلا فقد أخرج الترمذى وغيره عن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه قال : كنت عند النبى صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يأبا بكر ألا أقرئك نزلت على فقلت : بلى يارسول الله فأقرأنيها فلا أعلم إلا أنى وجدت انقصاما فى ظهرى حتى تمطأت لها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مالك ياأبكر قلت : بأبى وأمى يارسول الله وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما أنت وأصحابك ياأبكر المؤمنون فتجزون بذلك فى الدنيا حتى تلقوا الله تعالى ليس عليكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة
وأخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ماشاء الله تعالى فشكوا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : سددوا وقاربوا فان كل ماأصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها والاحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقتها يكفر الله تعالى بها الخطيئات
(5/152)
والأكثرون على أنها أيضا يرفع بها الدرجات وتكتب الحسنات وهو الصحيح المعول عليه فقد صح فى غير ما طريق مامن مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة
وحكى القاضى عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولاترفع درجة وروى عن ابن مسعود الوجع لايكتب به أجر لكن يكفر به الخطايا واعتمد على الأحاديث التى فيها التكفير فقط ولم تبلغه الأحاديث الصحيحة المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات بقى الكلام فى أنها هل تكفر الكبائر أم لا وظاهر الأحاديث ومنها خبر أبى بكر رضى الله تعالى عنه أنها تكفرها وقد جاء فى خبر حسن عن عائشة أن العبد ليخرج بذلك من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير وأخرج أبن أبى الدنيا والبيهقى عن يزيد بن أبى حبيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لايزال الصداع والمليلة بالمرء المسلم حتى يدعه مثل الفضة البيضاء الى غير ذلك
ولايخفى أن إبقاء ذلك على ظاهره مما يأباه كلامهم وخص بعض الجزاء بالآجل ومن بالمشركين وأهل الكتاب وروى ذلك عن الحسن والضحاك وابن زيد قالوا : هذا كقوله تعالى : وهل يجازى إلا الكفور وقيل : المراد من السوء هنا الشرك وأخرجه ابن جريج عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه وابن جبير وكلا القولين خلاف الظاهر وفى الآية رد على المرجئة القائلين : لاتضر مع الايمان معصية كما لاتنفع مع الكفر طاعة ولايجد له من دون الله أى مجاوزا لولاية الله تعالى ونصرته وليا يلى أمره ويحامى عنه ويدفع به من عقوبة الله تعالى ولانصيرا
123
- ينصره وينجيه من عذاب الله تعالى إذا حل به ولامستند فى الآية لمن منع العفو عن العاصى إذ العموم فيها مخصص بالتائب إجماعا وبعد فتح باب التخصيص لامانع من أن نخصصه أيضا بمن يتفضل الله تعالى بالعفو عنه على مادلت عليه الأدلة لأخر ومن يعمل من الأعمال الصالحات أى بعضها شيئا منها لأن أحدا لايمكنه عمل كل الصالحات وكم من مكلف لاحج له ولازكاة ولاجهاد فمن تبعيضية وقيل : هى زائدة
واختاره الطبرسى وهو ضعيف ونخصيص الصالحات بالفرائض كما روى عن ابن عباس خلاف الظاهر وقوله سبحانه من ذكر وأنثى فى موضع الحال من ضمير يعمل و من بيانية
وجوز أن يكون حالا من الصالحات و من ابتدائية أى كائنة من ذكر الخ واعترض بأنه ليس بسديد من جهة المعنى ومع هذا الأظهر تقدير كائنا لاكائنة لأنه حال من شيئا منها وكون المعنى الصالحات الصادرة من الذكر والانثى لايجدى نفعا لما فى ذلك من الركاكة ولعل تبين العامل بالذكر والأنثى لتوبيخ المشركين فى إهلاكهم إناثهم وجعلهن محرومات من الميراث وقوله تعالى : وهو مؤمن حال أيضا وفى اشتراط اقتران العمل بها فى استدعاء الثواب الذي تضمنه مايأتى تنبيه على أنه لااعتداد به دونه وقفيه دفع توهم أن العمل الصالح ينفع الكافر حيث قرن بذكر العمل السوء المضر للمؤمن والكافر والتذكير لتغليب الذكر على الأنثى كما قيل وقد مر لك قريبا ما ينفعك فتذكر فأولئك إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالعمل الصالح والايمان والجمع باعتبار معناها كما أن الافراد السابق باعتبار لفظها ومافيه من معنى البعد لما مر غير مرة
يدخلون الجنة جزاء عملهم وقرأ بن كثير وأبو عمرو وأبوجعفر يدخلون مبنيا للمفعول من الادخال
(5/153)
ولايظلمون نقيرا
124
- أى لاينقصون شيئا حقيرا من ثواب أعمالهم فان النقير علم فى القلة والحقارة وأصله نقرة فى ظهر النواة منها تنبت النخلة ويعلم من نفى تنقيص ثواب المطيع نفى زيادة عقاب العاصى من باب الأولى لأن الأذى فى زيادة العقاب أشد منه فى تنقيص الثواب فاذا لم لم يرضى بالأول وهو أرحم الراحمين فكيف يرضى بالثانى وهو السر فى تحصيص عدم تنقيص الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب مع أن المقام مقام ترغيب فى العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا والجملة تذييل لما قبلها أو عطف عليه
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله أى أخلص نفسه له تعالى لايعرف لها ربا سواه وقيل : أخلص توجهه له سبحانه وقيل : بذل له وجهه عز و جل فى السجود والاستفهام إنكارى وهو فى معنى النفى والمقصود مدح من فعل ذلك على أتم وجه ودينا نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن دينه أحسن من دين من أسلم الح فيؤو ل الكلام إلى تفضيل دين على دين وفيه تنبيه على أن صرف العبد نفسه بكليتها لله تعالى أعلى المراتب التى تبلغها القوة البشرية و ممن متعلق بأحسن وكذا الإسم الجليل وجوز أن يكون حالا من وجهه وهو محسن أى آت بالحسنات تارك للسيئات أو آت بلأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفى المستلزم لحسنها الذاتى وقد صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن الاحسان فقال عليه الصلاة و السلام : أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك وقيل : الأظهر أن يقال : المراد وهو محسن فى عقيدته وهو مراد من قال : أى وهو موحد وعلى هذا فالأولى أن يفسر اسلام الوجه لله تعالى بالانقياد اليه سبحانه بالأعمال والجملة فى موضع الحال من فاعل أسلم واتبع ملة ابراهيم الموافقة لدين الاسلام المتفق على صحتها وهذا عطف على أسلم وقوله سبحانه : حنيفا أى مائلا عن الأديان الزائغة حال من ابرهيم
وجوز ان يكون حالا من فاعل اتبع واتخذ الله ابراهيم خليلا
125
- تذييل جىء به للترغيب فى اتباع ملته عليه السلام والايذان بأنه نهاية فى الحسن وإظهار اسمه عليه السلام تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح ولايجوز العطف خلافا لمن زعمه على ومن أحسن الخ سواء كان استطرادا أو اعتراضا وتوكيدا لمعنى قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات وبيانا لأن الصالحات ماهى وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة والجامع بين المعطوف والمعطوف عليه وأدائه مايؤديه من التوكيد والبيان ولاعلى صلة من لعدم صلوحه لها وعدم صحة معطفه على وهو محسن أظهر من أن يخفى وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر والعطف على حنيفا لايصح إلا بتكليف والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء وهى إما من الخلال بكسر الخاء فانها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة كما قال : قد تخللت مسلك الروح منى ولذا سمى الخليل خليلا فاذا مانطقت كنت حديثى وإذا ماسكت كنت الغليلا وإما من الخلل كما قيل : على معنى أن كلا من الخليلين يصلح خلل الآخر وإما من الخل بالفتح وهو الطريق
(5/154)
فى الرمل لانهما يتوافقان على طريقة وإما من الخلة بفتح الخاء بمعنى الخصلة والخلق لأنهما يتوافقان فى الخصال والاخلاق وقد جاء المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل أو بمعنى الفقر والحاجة لأن كلا منهما محتاج إلى وصال الآخر غير مستغن وإطلاقه على إبراهيم عليه السلام قيل : لأن محبة الله تعالى قد تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة أو لتخلقه بأخلاق الله تعالى ومن هنا كان يكرم الضيف ويحسن اليه ولو كان كافرا فان من صفات الله تعالى الاحسان إلى البر والفاجر وفى بعض الآثار ولست على يقين فى صحته أنه عليه السلام نزل به ضيف من غير أهل ملته فقال له : وحد الله تعالى حتى أضيفك وأحسن اليك فقال : يا إبراهيم من أجل لقمة أترك دينى ودين أبائى فانصرف عنه فأوحى الله تعالى اليه يا إبراهيم صدقك لى سبعون سنة أرزقه وهو يشرك بى وتريد أنت منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فلحقه إبراهيم عليه السلام وسأله الرجوع اليه ليقريه واعتذر اليه فقال له المشرك : يا إبراهيم مابدا لك فقال : إن ربى عتبنى فيك وقال : أنا أرقه منذ سبعين سنة على كفره بى وأنت تريد أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فقال المشرك : أو قد وقع هذا ! مثل هذا ينبغى أن يعبد فأسلم ورجع مع إبراهيم عليه السلام الى منزله ثم عمت بعد كرامته خلق الله تعالى من كل وارد ورد عليه فقيل له ذلك فقال : تعلمت الكرم من ربي رأيته لايضيع أعداءه فلا أضيعهم أنا فأوحى الله تعالى اليه أنت خليلى حقا وأخرج البيهقى فى الشعب عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا جبريل لم اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا قال : لاطعامه الطعام يا محمد وقيل واختاره البلخى والفراء لاظهاره الفقر والحاجة إلى الله تعالى وانقطاعه اليه وعدم الالتفات إلى من سواه كمايدل على ذلك قوله لجبريل عليه السلام حين قال له يوم ألقى فى النار : ألك حاجة أما اليك فلا ثم قال : حسبى الله ونعم الوكيل وقيل : فى وجه تسميته عليه السلام خليل الله غير ذلك والمشهور أن الخليل دون الحبيب
وأيد بما أخرجه الترمذى وابن مردويه عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : جلس ناس من أصحاب النبى صلى الله عليه و سلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول : إن الله تعالى اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله وقال آخر : ماذا بأعجب من أن كلم الله تعالى موسى تكليما وقال آخر فعيسى روح الله تعالى وكلمته وقال آخر : آدم اصطفاه الله تعالى فخرج عليهم فسلم فقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم إن ابراهيم خليل الله تعالى وهو كذلك وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وإنى حبيب الله تعالى ولافخر وأنا أول شافع ومشفع ولافخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحها الله تعالى فيدخلها معى فقراء المؤمنين ولافخر وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولافحر وأخرج الترمذى فى نوادر الأصول والبيهقى فى الشعب وضعفه وابن عساكر والديلمى فقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذتى حبيبا ثم قال وعزتى لأوثرن حبيبى على خليلى ونجى والظاهر من كلام المحققين أن الخلة مرتبة من مراتب المحبة أوسع دائرة وأن مراتبها ما لاتبلغه أمنية الخليل عليه السلام وهى المرتبة الثابتة له صلى الله عليه و سلم وأنه قد حصل لنبينا عليه الصلاة و السلام من مقام الخلة مالم يحصل لأبيه إبراهيم عليه السلام وفى الفرع مافى الاصل وزيادة ويرشدك إلى ذلك أن التخلق بأخلاق اللهتعالى هو من آثار الخلة عند أهل الاختصاص أظهر وأتم فى نبينا صلى الله عليه و سلم منه فى إبراهيم عليه السلام فقد صح أن خلقه القرآن وجاء عنه
(5/155)
صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : بعثت لاتمم مكارم الأخلاق وشهد الله تعالى له بقوله وإنك لعلى خلق عظيم ومنشأ إكرام الضيف الرحمة وعرشها المحيط رسول الله صلى الله عليه و سلم كما يؤذن ذلك بقوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة و السلام
وقد روى الحاكم وصححه جندب أنه سمع النبى صلى الله عليه و سلم يقول : قبل أن يتوفى إن الله تعالى اتخذنى خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا والتشبيه على حد كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم فى رأى وقيل : إن يتوفى لادلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما لايخفى
وفى لفظ الحب والخلة مايكفى العارف فى ظهور الفرق بينهما ويرشده إلى معرفة أن الدائرتين أوسع وذهب غير واحد من الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى عن صاحب وخليل والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله وأما فى الخليل وحده فاستعارة تصريحية على مانص عليه الشهاب إلا أنه صار بعد علما على إبراهيم عليه الصلاة و السلام
وادعى بعضهم من وصف إبراهيم عليه الصلاة و السلام بالخليل حقيقة على معنى الصادق أو من أصفى المودة وأصحها أو نحو ذلك وعدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصلاة و السلام مع أن مقام الخلة بالمعنى المشهور عند العارفين غير مختص به كل نبى خليل الله تعالى إما لأن ثبوت ذلك المقام له عليه الصلاة و السلام على وجه لم يثبت لغيره كما قال وإما لزيادة التشريف والتعظيم كما نقول واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك وأجيب بأن الخلة لاتقتضى الجنسية بخلاف البنوة فنها تقتضيها قطعا والله تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات
ولله مافى السماوات والأرض يحتمل أن يكون متصلا بقوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات على أنه كالتعليل لوجوب العمل وما بينهما من قوله سبحانه : ومن أحسن دينا اعتراض أى ان جميع مافى العلو والسفل من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لايخرج من ملكوته شىء منها فيجازى كلا بموجب أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأن يكون متصلا بقوله جل شأنه : واتخذ الله الخ بناءا على أن معناه اختاره واصطفاه أى هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كابراهيم عليه الصلاة و السلام فهو لبيان أن اصطفاه عليه الصلاة و السلام بمحض مشيئته تعالى
وقيل : لبيان أن اتخاذه تعالى لابراهيم عليه الصلاة و السلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شئونه كما هو دأب المخلوقين فان مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض فى مصالحهم بل لمجرد تكرمته وتشريفه وفيه أيضا إشارة الى أن خلته عليه السلام لاتخرجه عن العبودية لله تعالى
وكان الله بكل شىء محيطا
126
- إحاطة علم وقدرة بناءا على أن حقيقة الإاطة فى الأجسام فلا يوصف الله تعالى بذلك فلابد من التأويل وارتكاب المجاز على ماذهب إليه الخلف والجملة تذييل مقرر لمضمونه ماقبله على سائر وجوهه
هذا ومن باب الاشارة فى الآيات وإذا ضربتم فى الأرض أى سافرتم فى أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس أو تحصيل أحوال الكمالات فلاجناح عليكم أن تقصروا من الصلاة أى تنقصوا من
(5/156)
الأعمال البدنية إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا أى حجبوا عن الحق من قوى الوهم والتخيل وحاصله الترخيص لأرباب السلوك عند خوف فتنة القوى أن ينقصوا من الأعمال البدنية ويزيدوا فى الأعمال القلبية كالفكر والذكر ليصفوا القلب ويشرق نوره على القوى فتقل غائلتها فتزكو عند ذلك الأعمال البدنية ولايجوز عند أهل الاختصاص ترك الفرائض لذلك كما زعمه بعض الجهلة وإذا كنتم فيه ولم تكن غائبا عنهم بسيرك فى غيب الغيب وجلال المشاهدة وعائما فى بحار لى مع الله تعالى لايسعنى فيه ملك مقرب ولانبى مرسل فأقمت لهم الصلاة أى الأعمال البدنية فلتقم طائفة منهم معك وليفعلوا كما تفعل وليأخذوا أسلحتهم من قوى الروح ويجمعوا حواسهم ليتأتى لهم المشابهة أو ليقفوا على ما فى فعلك من الاسرار فلا تضلهم الوسائس فاذا سجدوا وبلغوا الغاية فى معرفه ماأقمته لهم وأتوا به على وجهه فليكونوا من ورائكم ذا بين عنكم اعتراض الجاهلين أو قائمين بحوائجكم الضرورية ولتأت طائفة أخرى منهم لم يصلوا بعد فليصلوا معك وليفعلوا فعلك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم كما أخذ الأولون أسلحتهم وإنما أمر هؤلاء بأخذ الحذر أيضا حثا على مزيد الاحتياط لئلا يقصروا فيها يراد منهم اتكالا على الأخذ بعد ممن أخذ أولا من رسول الله صلى الله عليه و سلم
وحاصل هذا الاشارة إلى أن تعليم الشرائع والآداب للمريدين ينبغى أن يكون لطائفة طائفة منهم ليتمكن ذلك لديهم أتم تمكن وقيل : اطائفة الأولى إشارة إلى الخواص والثانية إلى العوام ولهذا اكتفى فى الأول بالأمر بأخذ الأسلحة وفى الثانى أمر الحذر أيضا ود الذين كفروا وهم قوى النفس الأمارة لو تغفلون عن أسلحتكم وهى قوى الروح وأمتعتكم وهى المعارف الالهية فيميلون عليكم ميلة واحدة ويرمونكم بنبال الآفات والشكوك ويهلكونكم ولاجناح عليكم إن كان بكم أذى بأن أصابكم شؤبوب من مطر يعنى مطر سحائب التجليات أو كنتم مرضى بحمى الوجد والغرام وعجزتم عن أعمال اقوى الروحانية أن تضعوا أسلحتكم وتتركوا أعمال تلك القوى حتى يتجلى ذلك السحاب وينقطع المطر وتهتز أرض قلوبكم بأزهار رحمة الله تعالى وتطفأ حمى الوجد بمياه القرب وخذوا خذركم عند وضع أسلحتكم واحفظوا قلوبكم من الالتفات إلى غير الله تعالى إن الله تعالى أعد للكافرين من القوى النفسانية عذابا مهينا أى مذلا لهم وذلك عند حفظ القلب وتنور الروح فاذا قضيتم الصلاة أى أديتموها فاذكروا الله فى جميع الاحوال قياما فى مقام الروح بالمشاهدة وقعودا فى محل القلب بالمكاشفة وعلى جنوبكم أى تقلباتكم فى مكان النفس بالمجاهدة فاذا اطمأننتم ووصلتم إلى محل البقاء فأقيموا الصلاة فأدوها على الوجه الأتم لسلامة القلب حينئذ عن الوساوس النفسانية التى هى بمنزلة الحدث عتد أهلالاختصاص إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا فلاتسقط عنهم مادام العقل والحياة ولاتهنوا فى ابتغاء القوم الذين يحاربونكم وهم النفس وقواها فانهم يألمون منكم لمنعكم لهم عن شهواتهم كما تألمون منهم لمعارضتهم لكم عن المسير إلى الله تعالى وترجون من الله أى تأملون منه سبحانه مالايرجون لانكم ترجعون التنعم بجنة القرب والمشاهدة ولايخطر ذلك لهم بال أو تخافون القطيعة وهم لايخافونها وكان الله عليما أحوالكم وأحوالهم حكيما فيفيض على القوابل حسب القابليات إنا أنزلنا عليك الكتاب أى علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها بالحق متلبسا ذلك الكتاب بالصدق أوقأ آ أنت بالحق لابنفسك لتحكم بين الناس خواصهم وعوانهم بما أراك الله أى بما علمك الله سبحانه
(5/157)
من الحكمة ولاتكن للخائنين الذين لم يؤدوا أمانة الله تعالى التى أودعت فى الأزل مما ذكر فى استعدادهم من إمكان طاعته وامتثال أمره خصيما تدفع عنهم العقاب وتسلط الخلق عليهم بالذل والهوان أو تقول لله تعالى : يارب لم خذلتم وقهرتهم فانهم ظالمون ولله تعالى الحجة البالغة عليهم
واستغفر الله من الميل الطبيعى الذي اقتضته الرحمة التى أحاطت بك إن الله كان غفورا رحيما فيفعل ماتطلبه منه وزيادة ولاتجادل أحدا عن الذين يختانون أنفسهم بتضييع حقوقها إن الله لايحب من كان خوانا لنفسه أثيما الاثم ميالا مع الشهوات يستخفون من الناس بكتمان رذائلهم وصفات نفوسهم ولايستخفون من الله بازالتها وقلعها وهو معهم محيط بظواهرهم وبواطنهم إذ يبيتون أى يدبرون فى ظلمة عالم النفس والطبيعة مالايرضى من القول من الوهميات والتخيلات الفاسدة وكان الله بما تعملون محيطا فيجازيهم حسب أعمالهم ومن يعمل سوءا بظهور صفة من صفات نفسه أويظلم نفسه بنقص شىء من كمالاتها ثم يستغفر الله ويطلب منه ستر ذلك لابتوجه اليه والتذلل بين يديه يجد الله غفورا رحيما فيستر ويعطى مايقتضيه الاستعداد ومن يكسب خطيئة باظهار بعض الرذائل أواثما بمحو مافى الاستعداد ثم يرم به بريئا بأن يقول : حمانى الله تعالى على ذلك أو حملنى فلان عليه فقد احتمل بهتانا وإثما مبنا حيث فعل ونسب فعله إلى الغير ولو لم تكن مستعدة لذلك طالبة له بلسان الاستعداد فى الأزل لم يفض عليه ولم يبرز الى ساحة الوجود ولذا أفحم إبليس اللعين أتباعه بما قص الله تعالى لنا من قوله : إن الله وعدكم وعد الحق إلى أن قال : فلاتلومونى ولوموا أنفسكم ولولا فضل الله عليك أى توفيقه وإمداده لسلوك طريقه ورحمته حيث وهب لك الكمال المطلق لهمت طائفة منهم أن يضلوك ومايضلون إلا أنفسهم لعود ضررهم عليهم وحفظك فى قلاع استعدادك عن أن يناك شىء من ذلك وأنزل عليك الكتاب الجامع لتفاصيبل العلم والحكمة التى هى أحكانم تلك التفاصيل مع العمل وعلمك مالم تكن تعلم من علم عواقب الخلق وعلم ماكان وما سيكون وكان فضل الله عليك عظيما حيث جعلك أهلا لمقام قاب قوسين أو أدنى ومن عليك بما لايحيط به سوى نطاق الوجود لاخير فى كثير من نجواهم وهو ماكان من ةجنس الفضول ولامر الذي لايعنى إلا نجوى من أمر بصدقة وأرشد إلى فضلة السخاء الناشىء من العفة أو معروف قولى كتعلم علم أو فعلى كاغاثة ملهوف أو إصلاح بين الناس الذي هو من باب العدل ومن يفعل ذلك ويجمع بين الكمالات ابتغاء مرضاة الله لا للرياء والسمعة من كل مايعود به الفضيلة رذيلة فسوف بؤتيه الله تعالى أجرا عظيما ويدخله جنات الصفات ومن يشاقق الرسول أى يخالف ماجاء به النبى صلى الله عليه و سلم أو العقل المسمى عندهم بالرسول النفسى ويتبع غير سبيل المؤمنين أى غير ماعليه أصحاب النبى صلى الله عليه و سلم ومن اقتفى أثرهم من الاخبار أو القوى الروحانية نوله ماتولى ونصله جهنم الحرمان وساءت مصيرا لمن يصلاها ان يدعون من دونه إلا اناثا وهى الاصنام المسماة بالنفوس إذ كل من يعبد غير الله تعالى فهو عابد لنفسه مطيع لهواها أو المراد بالاناث الممكنات لأن كل ممكن محتاج ناقص من جهة إمكانه منفعل متأثر عند تعينه فهو أشبه كل شىء بالانثى وإن يدعون إلا شيطانا مريدا وهو شيطان الوهم حيث قبلوا إغواءه وأطاعوه لعنه الله أى أبعده عن رياض قربه وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا وهم غير المخلصين الذين استثنوا
(5/158)
فى آية أخرى ولأضلنهم عن الطريق الاحق ولأمنيهم الأمانى الفاسدة من كسب اللذات الفانية ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام أى فليقطعن آذان نفوسهم عن سماع ماينفعهم ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وهى الفطرة التى فطر الناس عليها من التوحيد والذين آمنوا ووحدوا وعملوا الصالحات واستقاموا سندخلهم جنات جنة الافعال وجنة الصفات وجنة الذات ليس أى حصول الموعود بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب بل لابد من السعى فيما يقتضيه وفى المثل إن التمنى راس مال المفلس ومن أحسن دينا أى حالا ممن أسلم وجهه لله وسلم نفسه اليه وفنى فيه وهو محسن مشاهد للجميع فى عين التفضيل سالك طريق الاحسان بالاستقامة فى الأعمال واتبع ملة ابراهيم فى التوحيد حنيفا مائلا عن السوى واتخذ الله إبراهيم خليلا حيث تخللت المعرفة جميع أجزائه من حيث ماهو مركب فلم يبق جوهر فرد إلا وقد حلت فيه معرفة ربه عز و جل فهو عارف به بكل جزء منه ومن هنا قيل : إن دم الحلاج لما وقع على الأرض انكتب بكل قطرة منه الله وأنشد ماقد لى عضو ولامفصل إلا وفيه لكم ذكر ولله مافى السموات ومافى الأرض لأن كل مابرز فى الوجود فهو شأن من شئونه سبحانه وكان الله بكل شىء محيطا من حيث أنه الذي أفاض عليه الجود وهو رب الكرم والجود لارب غيره ولايرجى إلا خيره ويستفتونك فى النساء أى يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام فى النساء مما يجب لهن وعليهن مطلقا فانه عليه الصلاة و السلام قد سئل عن أحكام كثيرة مما يتعلق بهن فما بين فيما سلف أحيل بيانه على ماورد فى ذلك من الكتاب ومالم يبين بعد بين هنا وقال غير واحد : إن المراد يستفتونك فى ميراثهن والقرينة الدالة على ذلك سبب النزول فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال : كان لايرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم فى المال ويعمل فيه ولايرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت المواريث فى سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا أيرث الصغير الذى لايقوم فى المال والمرأة التى هى كذلك فيرثان كما يرث الرجل ! فرجوا أن يأتى فى ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لايأتى حدث قالوا لئن تم هذا أنه لايأتى حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ماعنه بد ثم قالوا : سلوا النبى صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى هذه الآية
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : كان أهل الجاهلية لايورثون النساء ولا الصبيان شيئا كانوا يقولون لايغزون ولايغنمون خيرا فنزلت وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضى الله تعال عنهما نحوه وإلى الأول مال شيخ الاسلام قل الله يفتيكم فيهن أى يبين لكم حكمه فيهن والاقتفاء إظهار المشكل على السائل وفى البحر يقال : أفتاه إفتاءا وفتيا وفتوى وأفتيت فلانا رؤياه عبرتها له
ومايتلى عليكم فى الكتاب فى ما ثلاثة احتمالات : الرفع والنصب والجر وعلى الأول : إما أن تكون مبتدأ والخبر محذوف أى وما يتلى عليكم فى القرآن يفتيكم ويبين لكم وإيثار صيغة المضارع للايذان بدوام التلاوة واستمرارها وفى الكتاب متعلق بيتلى أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فبه أى يتلى كائنا فى الكتاب وإما أن تكون مبتدأ و فى الكتاب خبره والمراد بالكتاب حينئذ اللوح المحفوظ إذ لو أريد به معناه المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلوا وما يتلى
(5/159)
متناول لما تالى وما سيتلى وإما أن تكلون معطوفة على الضمير المستتر فى يفتيكم وصح ذلك للفصل والجمع بين الحقيقة والمجار فى المجاز العقلى سائغ شائع فلايرد أن الله تعالى فاعل حقيقى للفعل والمتلو فاعل مجازى له والاسناد الى السبب فلا يصح العطف ونظير ذلك أغنانى زيد وعطاؤه وإما لأن تكون معطوفة على الاسم الجليل والايراد أيضا غير وارد نعم المتبادر أن هذا العطف من عطف المفرد على المفرد ويبعده إفراد الضمير كما لايخفى وعلى الثانى تكون مفعولا لفعل محذوف أى ويبين لكم مايتلى والجملة إما معطوفة على جملة يفتيكم وإما معترضة وعلى الثالث إما أن تكون فى محل الجر على القسم المنبىء عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل : قل الله يفتيكم فيهن وأقسم بما يتلى عليكم فى الكتاب وإما أن تكون معطوفة على الضمير المجرور كما نقل عن محمد بن أبى موسى وما عند البصريين ليس بوحى فيجب اتباعه نعم فيه اختلال معنوى لايكاد يندفع وإما أن تكون معطوفة على النساء كما نقله الطبرسى عن بعضهم ولايخفى مافيه وقوله سبحانه : فى يتامى النساء متعلق بيتلى فى غالب الاحتمالات أى مايتلى عليكم فى شأنهن ومنعوا ذلك على تقدير كون ما مبتدأ و فى الكتاب خبره لما يلزم عليه من الفصل بالخبر بين أجزاء الصلة وكذا على تقدير القسم إذ لامعنى لتقييده بالمتلوا بذلك ظاهرا أن يكون بدلا من فيهن وأن يكون صلة أخرى ليفتيكم ومتى لزم تعلق حرفى جر بشىء واحد بدون اتباع يدفع بالتزام كونهما ليسا بمعنى والممنوع تعلقهما كذلك إذا كانا بمعنى واحد وفى الثانى هنا سببية كما فى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن امرأة دخلت النار فى هرة فالكلام إذا مثل جئتك فى يوم الجمعة فى أمر زيد أى بسببه وإضافة اليتامى إلى النساء بمعنى من لأنها إلى جنسه وجعلها ابو حيان بمعنى اللام ومعناها الاختصاص وادعى أنه الأظهر وليس بشىء كما قال الحلبى وغيره وقرىء بيامى بياءين على أنه جمع أيم والعرب تبدل الهمزة ياءا كثيرا التى لاتؤتونهن ماكتب لهن أى مافرض لهن من الميراث وغيره على مااختاره شيخ الاسلام أو مافرض لهن من الميراث فقط على ماروى عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد رضى الله عنه واختاره الطبرى أو ماوجب لهن من الصداق على ماروى عن عائشة رضى الله تعالى عنها واختاره الجبائى وقيل : ماكتب لهن من النكاح فان الاولياء كانوا يمنعوهن من التزوج
وروى ذلك عن الحسن وقتادة والسدى وإبراهيم وترغبون عطف على صلة اللاتى أو على المنفى وحده وجوز أن يكون حالا من فاعل تؤتونهن فان قلنا بجواز اقتران الجملة المضارعية الحالية بالواو : فظاهر وإذا قلنا بعدم الجواز : التزم تقدير مبتدأ أى وأنتم ترغبون أن تنكحوهن أى فى أن تنكحوهن فان أولياء اليتامى كما ورد فى غير ماخبر كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون مالهن وإلا كانوا يعضلوهن طمعا فى ميراثهن وحذف الجار هنا لايعد لبسا بل إجمال فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل واستدل بعض أصحابنا بلآية على جواز تزويج اليتيمة لأنه ذكر الرغبة فى نكاحها فاقتضى جوازه والشافعي يقولون : إنه إنما ذكر ماكانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك منع أنه لايلزم من الرغبة فى نكاحها فعله فى حال الصغر وهذا الخلاف فى غير الأب والجد وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغير بلا خوف والمستضعفين من الولدان
(5/160)
عطف على يتامى النساء وكانوا لايورثونهم كما لايورثون كما لايورثون النساء كما تقدم آنفا وأن تقوموا لليتامى بالقسط عطف على ماقبله وإن جعل فى يتامى بدلا فالوجه النصب فى هذا و المستضعفين عطفا على محل فيهن ومنعوا العطف على البدل بناءا على أن المراد بالمستضعفين الصغار مطلقا الذين منعوهم عن الميراث ولو ذكورا ولو عطف على البدل لكان بدلا ولايصح فيه غير بدل الغلط وهو لايقع فى فصيح الكلام وجوز فى أن تقوموا الرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف أى خير ونحوه والنصب باضمار فعل أى ويأمركم أن تقوموا وهو خطاب للائمة أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم أو للأولياء والأوصياء بالنصفة فى حقهم وما تفعلوا فى حقوق المذكورين من خير حسبما أمرتم به ماتفعلوه من خير على الاطلاق ويندرج فيه ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا
فان الله كان به عليما
127
- فيجازيكم عليه واقتصر على الخير لأنه الذي رغب فيه وفى ذلك إشارة إلى أن الشر مما لاينبغى أن يقع منهم أو يخطر ببال وان أمرأة خافت شروع فى بيان أحكام لم تبين قبل وأخرج الترمذى وحسنه عن ابن عباس قال : خشيت سودة رضى الله تعالى عنها أن يطبقها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يارسول الله لاتطلقنى واجعل يومى لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية وأخرج الشافعى رضى الله تعالى عنه عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا كبرا أو غيره فأراد طلاقها فقالت : : لاتطلقنى واقسم لى مابدا لك فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزول القرآن وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت فى أبى السائب أى وإن خافت امرأة خافت فهو من باب الاشتغال وزعم الكوفيون أن امرأة مبتدأ ومابعده الخبر وليس بالمرضى وقدر بعضهم هنا كانت لاطراد حذف كان بعد إن ولم يجعله من الاشتغال وهو مخالف للمشهور بين الجمهور والخوف إما على حقيقته أو بمعنى التوقع أى وإن امرأة توقعت لما ظهر لها من المخايل من بعلها أى زجها وهو متعلق بخافت أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى : نشوزا أى استعلاءا وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها لسبب من الأسباب ويطلق على كل من صفة أحد الزوجين أو اعرضا أى انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التى كانت لها منه وفى البحر : النشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة التى بينهما وأن يؤذيها بسب أو ضرب مثلا والاعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها لطعن فى سن أو دمامة أو شين فى خلق أو خلق أو ملال أو طموح عين الى أخرى أو غير ذلك وهو أخف من النشوز فلاجناح أى فلاحرج ولاإثم عليهما أى الامرأة وبعلها حينئذ
أن يصلحا بينهما صلحا أى فى أن يصلحا بينهما بأن تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضى الله تعالى عنها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أو تضع عنه بعض مايجب لها من نفقة أوكسوة أو تهبه المهر أو شيئا منه أو تعطيه مالا لتستعطفه بذلك وتستديم المقام فى حباله وصدر ذلك بنفى الجناح لنفى مايتوهم من أن ما يؤخذ كالرشوة فلايحل وقرأ غير أهل الكوفة يصالحا بفتح الياء وتشديد الصاد وألف بعدها وأصله يتصالحا فأبدلت التاء صادا وأدغمت وقرأ الجحدرى يصلحا بالفتح والتشديد
(5/161)
من غير ألف وأصله يصطلحا فخخف بإبدال الطاء المبدلة من تاء الافتعال صدا وأدغمت الأولى فيها لاأنه أبدلت التاء ابتداءا صادا وأدغم كما قال أبو البقاء لأن تاء الافتعال يجب قلبها طاءا بعد الأحرف الاربعة
وقرىء يصطلحا وهو ظاهر وصلحا على قراءة أهل الكوفة إما مفعول به على معنى يوقعا الصلح أو بواسطة حرف أى يصلح به و بينهما ظرف ذكر تنبيها على أنه ينبغى أن لايطلع الناس على مابينهما بل يسترانه عنهم أو حال من صلحا أى كائنا بينهما واما مصدر محذوف الزوائد أو من قبيل أنبتها الله نباتا و بينهما هو المفعول على أنه اسم بمعنى التباين والتخالف أو على التوسع فى الظرف لاعلى تقدير مابينهما كما قيل ويجوز أن يكون بينهما ظرفا والمفعول محذوف أى حالهما ونحوه وعلى قراءة غيرهم يجوز أن يكون واقعا موقع تصالحا واصطلاحا وأن يكون منصوبا بفعل مترتب على المذكور أى فيصلح حالهما صلحا واحتمال هذا القراءة فى الأولى بعيد وجوز أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجراى يصالحا أو يصلحا بصلح أى بشىء تقع بسببه المصالحة والصلح خير أى من الفرقة وسوء العشرة أو من الخصومة فللام للعهد وإثبات الخيرية للمفضل عليه على سبيل الفرض والتقدير أى إن يكن فيه خير فهذا أخير منه وإلا خيرية فيما ذكر ويجوز أن لايراد بخير التفضيل بل يراد به المصدر أو الصفة أى أنه خير من الخيور فاللام للجنس إن اللام على التقديرين تحتمل العهدية والجنسية والجملة اعتراضية وكذا قوله تعالى : وأحضرت الأنفس الشح ولذلك اغتفر عدم تجانسهما إذ الأولى اسمية والثانى فعلية ولامناسبة معنى بينهما وفائدة الأولى الترغيب فى المصالحة والثانية تمهيد العذر فى المماسكة والمشاقة كما قيل وحضر متعدلواحد وأحضر لاثنين والأول هو الأنفس القائم مقام الفاعل والثانى الشح والمراد أحضر الله تعالى الأنفس الشح وهو البخل مع الحرص ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل هو الثانى أى إن الشح جعل حاضرا لها لايغيب عنها أبدا أو أنها جعلت حاضرة له مطبوعة عليه فلاتكاد المرأة تسمح بحقوقها من الرجال ولاالرجل يكاد يجود بالانفاق وحسن المعاشرة مثلا على التى لايريدها وذكر شيخ الاسلام إن فى ذلك تحقيا للصلح وتقريرا له بحث كل من الزوجين عليه لكن لابالنظر إلى حال نفسه فان ذلك يستدعى التمادى فى الشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه فان شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بفير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها اليه لاستمالته وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقنع منقبلها بشىء يسير ولايكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح الذي هو خير وإن تحسنوا فى العشرة مع النساء وتتقوا النشوز والاعراض وإن تظافرت الاسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك ولم تضطروهن على فوت شىء من حقوقهن أوبذل ما يعز عليهن
فان الله كان بما تعملون من الاحسان والتقوى أوبجميع ماتعملون ويدخل فيه ماذكر دخولا أوليا خبيرا فيجازيكم ويثيبكم على ذلك وقد أقام سبحانه كونه عالما مطلعا أكمل اطلاع على أعمالهم مقام مجازاتهم وإثابتهم عليها الذي هو فى الحقيقة جواب الشرط إقامة السبب مقام المسبب ولايخفى مافى خطاب الأزواج بطريق الالتفات والتعبير عن رعاية حقوقهن بالاحسان ولفظ التقوى المنبىء عن كون النشوز والاعراض مما يتوقى منه وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب فى حسن المعاملة ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء أى لاتقدروا البتة على العدل بينهن بحيث لايقع ميل ما إلى جانب
(5/162)
فى شأن من الشئون كالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والاقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها ما لايكلاد الحصر يأتى من ورائه
وأخرج البيهقى عن عبيدة أنه قال : لن تستطيعوا ذلك فى الحب والجماع وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال : فى الجماع وأخرج ابن أبى شيبة عن الحسن وابن جرير عن مجاهد أنهما قالا : فى المحبة وأخرجا عن أبى مليكة أن الآية نزلت فى عائشة رضى الله تعالى عنها وكان رسول صلى الله عليه و سلم يحبها أكثر من غيرها وأخرج أحمد وأبو داود والترمذى وغيرهم عنها أنها قالت : كان النبى صلى الله عليه و سلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك وعنى صلى تعالى عليه وسلم بما تلك المحبة وميل القلب الغير الاختيارى ولو حرصتم على إقامة ذلك وبالغتم فيه فلا تميلوا كل الميل أى لاتجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها حقها من غير رضا منها واعدلوا مااستطعتم فان عجزكم عن حقيقة العدل لايمنع عن تكليفكم بما دونها من المراتب التى تستطيعونها وانتصاب كل على المصدرية فقد تقرر أنها بحسب ماتضاف اليه من مصدر أو ظرف أو غيره فتذروها أى فتدعوا التى ملتم عنها كالمعلقة وهى كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما التى ليست مطلقة ولا ذات بعل وقرأ أبى كالمسجونة وبذلك فسر قتادة المعلقة والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المنصوب فى تذروها وجوز السمين كونه فى موضع المفعول الثانى لتذر على أنه بمعنى تصير وحذف نون تذروها إما للناصب وهو أن المضمرة فى جواب النهى إما للجازم بناءا على أنه معطوف على الفعل قبله وفى الآية ضرب من التوبيخ وأخرج أحمد وأبو داود والترمذى والنسائى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كانت له امرأتان فمال الى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط وأخرج غير واحد عن جابر بن زيد أنه قال : كانت لى امرأتان فلقد كنت أعدل بينهما حتى أعد القبل وعن مجاهد قال : كانوا يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى فى الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه وعن ابن سيرين فى الذى له امرأتان يكره أن يتوضأ فى بيت إحداهما دون الأخرى
وإن تصلحوا ماكنتم تفسدون من أمورهن وتتقوا الميل الذى نهاكم الله تعالى عنه فيما يستقبل فان الله كان غفورا فيغفر لكم ما مضى من الحيف رحيما
129
- فيتفضل عليكم برحمته وإن يتفرقا أى المرأة وبعلها وقرىء يتفارقا أى وإن لم يصطلحا ولم يقع بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره ووقعت بينهما الفرقة بطلاق يغن الله كلا منهما أى يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه ماأهمه وقيل يغنى الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر من سعته أى من غناه وقدرته وفى ذلك تسلية لكل من الزجين بعد الطلاق وقيل : زجر لهما عن المفارقة وكيفما كان فهو مقيد بمشيئة الله تعالى وكان الله واسعا أى غنيا وكافيا للخلق أو مقتدرا أو عالما حكيما
130
- متقنا فى أفعاله وأحكامه
ولله مافى السماوات والأرض فلايتعذر عليه الاغناء بعد الفرقة ولا الإيناس بعد الوحشة ولا ولا وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لايخفى والجملة مستأنفة جىء بها على ماقيل لذلك ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أى أمرناهم بأبلغ وجه والمراد بهم اليهود والنصارى ومن
(5/163)
قبلهم من الامم والكتاب عام للكتب الالهية ولاضرورة تدعوا الى تخصيص الموصول باليهود والكتاب بالتوراة بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق له الكلام وهو تأكيد الامر بالاخلاص و من متعلقة بوصينا أو بأوتوا واياكم عطف على الموصول وحكم الضمير المعطوف أن يكون منفصلا ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجدوى أن أتقوا الله أى وصينا كلا منهم ومنكم بأن اتقوا الله تعالى على أن أن مصدرية بتقدير الجار ومحلها نصب أو جر على المذهبين ووصلها بالأمر كالنهى وشبهه جائز كما نص عليه سيبويه ويجوز أن تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول وقوله تعالى : وإن تكفروا فان لله مافى السماوات والأرض عطف على وصينا بتقدير قلنا وصينا وقلنا لكم ولهم إن تكفروا فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لايضره كفركم ومعاصيكم كما أنه لاينفعه شكركم وتقواكم وإنما وصاكم وإياهم لرحمته لا لحاجته وفى الكلام تغليب للمخاطبين على الغائبين ويشعر ظاهر كلام البعض أن العكف على اتقوا الله وتعقب بأن الشرطية لانقع بعد أن المصدرية أو المفسرة فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء كان إنشاءا أم إخبارا وللفعل وصينا أو أمرناأو غيره وقيل : إن العطف المذكور من باب علفتها تبنا وماءا باردا
وجوز أبوحيان أن تكون جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وحدها أو مع الذين أوتوا الكتاب وكان الله غنيا بالغنى الذاتى عن الخلق وعبادتهم حميدا
131
- أى محمودا فى ذاته حمدوه أم لم يحمدوه والجملة تذييل مقرر لما قبله وقيل : إن قوله سبحانه : ولله مافى السماوات الخ تهديد على الكفر أى أنه تعالى قادر على عقوبتكم بما يشاء ولامنجى عن عقوبته فان جميع مافى السماوات والارض له وقوله عز و جل : وكان الله غنيا حميدا للاشارة إلى أنه جل وعلا لايتضرر بكفرهم وقوله سبحانه : ولله مافى السماوات والأرض يحتمل أن يكون كلاما مبتدأ مسوقا للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية أى له سبحانه مافيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف فى ذلك كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياءا وإماتة وبحتمل أن يكون كالتكميل للتذييل ببيان الدليل فان جميع المخلوقات تدل على لحاجتها وفقرها الذاتى على غناه وبما أفاض سبحانه عليها من الوجود والخصائص والكمالات على كونه حميدا وكفى بالله وكيلا
132
- تذييل لما قبله والوكيل هو المقيم والكفيل بالأمر الذي يوكل اليه وهذا على الاطلاق هو االله تعالى وفى النهاية يقال : وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة أو عجزا عن القيام بأمر نفسه والوكيل فى أسماء الله تعالى هو القيم بأرزاق العباد وحقيقته أنه يستق بالأمر الموكول اليه ولايخفى أن الاقتصار على الأرزاق قصور فعمم وتوكل على الله تعالى وادعى البيضاوى بيض الله تعالى غرة أحواله أن هذه الجملة راجعة إلى قوله سبحانه : يغن الله كلا من سعته فانه إذا توكلت وفوضت فهو الغنى لأن من توكل على الله عز و جل كفاه ولما كان مابينهما تقريرا له لم يعد فاصلا ولايخفى أنه على بهعده لاحاجة اليه إن يشأ إن يرد إذهابكم وإيجاد آخرين يذهبكم يفنكم ويهلككم
أيها الناس ويأت باخرين أى يوجد مكانكم دفعة قوما آخرين من البشر فالخطاب لنوع من الناس وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبى هريرة رصضى الله تعالى عنه أنه لما نزل قوله تعالى
(5/164)
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ضرب النبى صلى الله عليه و سلم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضى الله تعالى عنه : إنهم قوم هذا وفيه نوع تأييد لما ذكر فى هذه الآية ومانقل عن العراقى أن الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ماذكر سهو على مانص عليه الجلال السيوطى وجوز الزمخشرى وابن عطية ومقلد وهما أن يكون المراد خلقا آخرين أى جنسا غير جنس الناس وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز كما قيل لايتم المراد لمخالفته لاستعمال العرب غيرا تقع على المغاير فى جنس أو وصف وآخر لايقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد
وفى درة الغواص فى أوهام الخواص أنهم يقولون : ابتعت عبدا وجارية أخرى فيوهمون فيه العرب لأن العرب لم تصف بلفظى آخر وأخرى وجمعها إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وقوله سبحانه : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فوصف جل اسمه مناة بالأخرى لما جانست العزى ووصف الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لايقال : جاءت هند ورجل آخر والاصل فى ذلك أن آخر من قبيل أفعل الذي يصحبه من ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا قلت : قال : الفند الزمانى وقال آخر : كان تقدير الكلام وقال آخر : من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها وكثرة استعمال آخر فى النطق وفى الدر المصون : إن هذا غير متفق عليه وإنما ذهب اليه كثير من النحاة وأهل اللغة وارتضاه نجم الأئمة الرضى إلا أنه يرد على الزمخشرى ومن معه أن آخرين صفة موصوف محذوف والصفة لاتقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف وهنا ليست بخاصة فلابد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف : وقال ابن يسعون والصقلى وجماعه : إن العرب لاتقول : مررت برجلين وآخر لأنه إنما يقابل آخر ماكان من جنسه تثنية وجمعا وإفرادا وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم : ولقد شفعتهما بآخر ثالث وأبى الفرار إلى الغداة تكرمى وقال أبو حية النميرى : وكنت أمشى على ثنتين معتدلا فصرت أمشى على أخرى من الشجر وإنما يعنون بكونه كمن جنس ماقبله أن يكون اسم الموصوف بآخر فى اللفظ أو التقدير يصح وقوعه على المتقدم الذى قوبل بآ خر على جهة التواطؤ ولذلك لوقلت : جاءنى زيد وآخر كان سائغا لأن التقدير ورجل آخر وكذا جاءنى زيد وأخرى تريد نسمة أخرى وكذا اشتريت فرسا ومركوبا آخر سائغ وإن كان المركوب الآخر جملا لوقوع المركوب عليهما بالتواطؤ فان كان وقوع الاسم عليهما على جهة الاشتراك المحض فان كانت حقيقتهما واحدة لم تجز لأنه لم يقابل به ماهو من جنسه نحو رأيت المشترى والمشترى الآخر تريد بأحدهما الكوكب وبالآخر مقابل البائع وهل يشترط مع التواطؤ اتفاقهما فى التذكير فيه خلاف فذهب المبرد إلى عدم اشتراطه فيجوز جاءتنى جاريتك وإنسان آخر واشترطه ابن جنى والصحيح ماذهب اليه المبرد بدليل قول عنترة : والخيل تقتحم الغبار عوابسا من بين منظمة وآخر ينظم
(5/165)
وما ذكر من آخر يقابل به ماتقدم من جنسه هو المختار وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شىء من جنسه وزعم أبو الحسن أن ذلك لايجوز إلا فى الشعر فلو قلت : جاءنى آخر من غير أن تتكلم قبله بشىء من صنفه لم يجز ولو قلت : أكلت رغيفا وهذا قميص آخر لم يحسن وأما قول الشاعر : صلى على عزة الرحمن وابنتها ليلى وصلى على جارتها الأخر فحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها ولولا هذا التقدير لما جار أن يعقب ذكر البنت بالجارات بل كان يقول : وصلى على بناتها الأحر وقد قوبل فى البيت أيضا أخر وهو جمع بابنتها وهو مفرد وزعم السهيلى أن أخرى فى قوله تعالى : ومناة الثالثة الأخرى استعملت من غير أن يتقدمها شىء من صنفها لأنه غير مناة الطاغية التى كانوا يهلون اليها بقديد فجعلها ثالثة اللاة والعزى وأخرى لمناة التى كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم لها ذكر والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى ألا ترى أن كل واحدة منهن ثالثة بالنظر إلى صاحبتها وإنما اتجه ذلك الى ماذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر أخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لايجوز إلا فى الشعر انتهى
وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتى إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام فى الآية الآتى ذكرها وفى المسائل الصغرى للأخفش فى باب عقدة لتحقيق هذه المسألة أن العرب لاتستعمل آخر إلا فيما هو من صنف ماقبله فلو قلت : أتانى صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لانه لغو من الكلام وهو يشبه سائر وبقية وبعض فى أنه لايستعمل إلا فى جنسه فلو قلت : ضربت رجلا وتركت سائر النساء لم يكن كلاما وقد يجوز ماامتنع بتأويل كرأيت فرسا وحمارا آخر نظرا إلى أنه دابة قال امرؤ القيس : إذا قلت : هذا صاحبى ورضيته وقرت به العينان بدلت آخرا وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وجد خفة فى مرضه فقال : انظروا من أتكىء عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما
وحاصل هذا ذأنه لايوصف بآخر إلا ماكان من جنس ماقبله لتتبين مغاريته فى محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلا وحينئذ لايكون ماذكره الزمخشرى نصا فى الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول عليه عند الجمهور وكان الله على ذلك أى إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين قدير
133
- بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل وأبقاكم على ماأنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة اقتضت ذلك لالعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا من كان يريد ثواب الدنيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية فعند الله ثواب الدنيا والآخرة جزاء الشرط بتقديم الإعلام والاخبار أى من كان يريد ثواب الدنيا فأعلمه وأخبره أن عند الله تعالى ثواب الدارين فماله لايطلب ذلك كمن يقول : ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فان من مجاهد مثلا خالصا لوجه الله تعالى لم تخطه المنافع الدنيوية وله فى الآخرة ماهى فى جنبه كلا شىء وفى مسند أحمد عن زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من كان همه الآخرة جمع الله تعالى شمله وجعل غناه فى قلبه وأتته
(5/166)
الدنيا وهى راغمة ومن كانت نيته الدنيا فرق الله تعالى عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ماكتب له وجوز أن يقدر الجزاء من جنس الخسران فيقال : من كان يريد ثواب الدنيا فقط فقد حسر وهلك فعند الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال : سمعت النبى صلى الله عليه و سلم يقول : أول اناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فاتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال : جرىء فقد قيل : ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت ليقال : عالم وقرأت ليقال : هو قارىء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار ورجل وسع الله تعالى عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها قال : ماتركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال : هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار وقيل : إنه الجزاء إلا أنه مؤل بما يجعله مرتبا على الشرط لأن مآ له أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع زيادة لكن من يشترط العائد فى الجزاء يقدره كما أشرنا اليه وقيل : المراد أنه تعالى عنده ثواب الدارين فيعطى كلا مايريده كقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه الآية وكان الله سميعا بصيرا
134
- تذييل لمعنى التوبيخ أى كيف يرائى المرائى وأن الله تعالى سميع بما يهجس فى خاطره وما تأمر به دواعيه بصير بأحوله كلها ظاهرها وباطنها فيجازيه على ذلك وقد يقال : ذيل بذلك لأن إرادة الثواب إما بالدعاء وإما بالسعى والأول مسموع والثانى مبصر وقيل : السمع والبصر عبارتان عن اطلاعه تعالى على غرض المريد للدنيا أو الآخرة وهو عبارة عن الجزاء ولايخفى أنه كان لايخلوا عن حسن إلا أنه يوهم إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم وهو خلاف المقرر فى الكلام ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط أى مواظبين على العدل فى جميع الأمور مجتهدين فى ذلك كل الاجتهاد لايصرفكم عنه صارف
وعن الراغب أنه سبحانه نبه بلفظ القوامين على أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لاتكفى بل يجب أن تكون على الدوام فالأمور الدينية لااعتبار بها ملم تكن مستمرة دائمة ومن عدل مرة أو مرتين لايكون فى الحقيقة عادلا أى لاينبغى أن يطلق فيه ذلك شهداء بالحق لله بأن تقيموا شهاداتكم لوجه الله تعالى لالغرض دنيوى وانتصاب شهداء عالى أنه خبر ثان لكونوا ولايخفى مافى تقديم الخبر الأول من الحسن
وجز أن يكون على أنه حال من الضمير المستكن فيه وأيد بما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال فى معنى الآية : أى كونوا قوالين باحق فى الشهادة على من كانت ولمن كانت من قريب وبعيد وقيل : إنه صفة قوامين وقيل : إنه حبر كونوا وقوامين حال ولو على أنفسكم أى ولو كانت الشهادة على أنفسكم وفسرت الشهادة ببيان الحق مجازا فتشمل الاقرار المراد هنا والشهادة بالمعنى الحقيقى المراد فيما بعد فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وقيل : الكلام خارج مخرج المبالغة وليس المقصود حقيقته فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز ليشمل الاقرار حيث أن شهادة المرء على نفسه لم تعهد والجار على ماأشير اليه
(5/167)
ظرف مستقر وقع خبرا لكان المحذوفة وإن كان فى الأصل صلة لأن متعلق المصدر قد يجعل خبرا عنه ةفيصير مثل الحمد لله ولايجوز لك فى اسم الفاعل ونحوه ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بخير محذوف أى ولو كانت الشهادة وبالا على أنفسكم وعلقه أبو البقاء بفعل دل عليه شهداء أى لو شهدتم على أنفسكم وجوز تعلقه بقوامين وفيه بعد ولو إما على اصلها أو بمعنى إن وهى وصلية وقيل : جوابها مقدر أى لوجب أن تشهدوا عليها أو الوالدين والأقربين أى ولو كانت على والديكم وأقرب الناس اليكم أو ذوى قرابتكم وعطف الأول بأو لأنه مقابل للأنفس وعطف الثانى عليه بالواو لعدم المقابلة إن يكن أى المشهود عليه غنيا يرجى فى العادة ويخشى أو فقيرا يترحم عليه فى الغالب ويحنى وقرأ عبد الله إن يكن غنى أو فقير بالرفع على إن كان تامة وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله تعالى : فالله أولى بهما أى فلا تمتنعوا عن الشهادة على الغنى طالبا لرضاه أو على الفقير شفقة عليه لأن الله تعالى أولى بالجنسين وأنظر لهما من سائر الناس ولولا أن حق الشهادة مصلحة لهما لما شرعها فراعوا أمر الله فانه أعلم بمصالح العباد منكم وقرأ أبى فالله أولى بهم بضمير الجمع وهو شاهد على أن المراد جنسا الغنى وافقير وأن ضمير التثنية ليس عائدا على الغنى والفقير المذكورين لأن الحكم فى الضمير العائد على لمعطوف بأو الافراد كما قيل : لأتها لأحد الشيئين أو الأشياء وقيل : إن أو بمعنى الواو والضمير عائد إلى المذكورين وحكى ذلك عن الاخفش وقيل : إنها على بابها وهى هنا لتفصيل ماأبهم فى الكلام وذلك مبنى على أن المراد بالشهادة مايعم الشهادة للرجل والشهادة عليه فكل من المشهود له والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيا وأن يكون فقيرا فقد يكونان غنيين وقد يكونان فقيرين وقد يكون أحدهما فقيرا والآخر غنيا فحيث لم تذكر الأقسام أتى بأو لتدل على ذلك فضمير التثنية على المشهود له والمشهود عليه على أى وصف كانا عليه وقيل : غير ذلك وقال الرضى : الضمير الراجع إلى المذكور المتعدد الذي عطف بعضه على بعض بأو يجوز أن يوحد وأن يطابق المتعدد وذلك يدور على القصد فيجوز : جاءنى زيد أو عمرو وذهب أو وهما ذاهبان إلى المسجد وعلى هذا لاحاجة إلى التوجيه لعدم صحة التثنية ووجوب الافراد فى مثل هذا الضمير نعم قيل : إن الظاهر الافراد دون التثنية وإن جاز كل منهما فيحتاج العدول عن الظاهر الى نكتة
وادعى بعضهم أنها تعميم الأولوية ودفع توهم اختصاصها بواحد فتأمل فلا تتبعوا الهوى أى هوى أنفسكم أن تعدلوا من العدول والميل عن الحق أو من العدل مقابل الجور وهو فى موضع المفعول له إما للاتباع المنهى عنه أو للنهى فالاحتمالات أربعة : الاول أن يكون بمعنى العدول وهو علة للمنهى عنه فلا حاجة إلى تقدير والثانى أن يكون بمعنى العدل وهو علة للمنهى عنه فيقدر مضاف أى كراهة أن تعدلوا والثالث أن يكون بمعنى العدول وهو علة للنهى فيحتاج إلى التقدير كما فى الاحتمال الثانى أى أنها كم عن اتباع الهوى كراهة العدول عن الحق والرابع أن يكون بمعنى العدل وهو علة للنهى فلا يحتاج إلى التقدير كما فى الاحتمال الأول أى أنهاكم عن اتباع الهوى للعدول وعدم الجور وان تلووا ألسنتكم عن الشهادة بأن تأتوا بها على غير وجهها الذي تستحقه كما روى ذلك عن ابن زيد والضحاك وحكى عن أبى جعفر
(5/168)
رضى الله تعالى عنه وهو الظاهر وقيل : اللى المطل فى أدائها ونسب إلى ابن عباس رضى الله تعالى عنهما
أو تعرضوا أى تتركوا إقامتها رأسا وهو خطاب للشهود وقيل : إن الخطاب للحكام واللى الحكم بالباطل والاعراض عدم الالتفات إلى أحد الخصمين ونسب هذا الى أحد الخصمين ونسب هذا إلى السدى وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وقرأ حمزة وإن تلوا بضم اللام وواو ساكنة وهو من الولاية بمعنى مباشرة الشهادة وقيل : إن أصله تلووا بواوين أيضا نقلت ضمة الواو بعد قلبها همزة أو ابتداءا إلى ماقبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين وعى هذا فالقراءتان بمعنى فان الله كان بما تعملون من اللى والاعراض أو من جميع الأعمل التى من جملتها ماذكر خبيرا
135
- عالما مطلعا فيجازيكم على ذلك وهو وعيد محض على القراءة الأولى وعلى القراءة الأخيرة يحتمل أن يكون كذلك وأن يكون متضمنا للوعد والآية كما أخرج ابن جرير عن السدى نزلت فى النبى صلى الله عليه و سلم اختصم اليه رجلان غنى وفقير فكان خلقه مع الفقير يرى أن الفقير لايظلم الغنى فأبى الله تعالى إلا أن يقول بالقسط فى الغنى والفقير وهى متضمنة للشهادة على من ذكره الله تعالى ولاتعرض فيها للشهادة لهم على ماهو الظاهر وحملها بعضهم على مايشمل القسمين وروى ذلك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كما أشرنا اليه فيجوز عنده شهادة الولد لوالده والوالد لولده
وحكى عن ابن شهاب الزهرى أنه قال : كان سلف المسلمين على ذلك حتى ظهر من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم ولايخفى أن حمل الآية على ذلك بعيد جدا وأبعد منه بمراحل بل ينبغى أن يكون من باب الاشارة كون المراد منها كونوا شهداء لله تعالى بوحدانيته وكمال صفاته وحقية أحكامه ولو كان ذلك مضرا لأنفسكم أو لوالديكم وأقربيكم بأن توجب الشهادة ذهاب حياة هؤلاء أو أموالهم أو غير ذلك إن يكن أى الشاهد غنيا تضر شهاته بغناه أو فقيرا تسد شهادته باب دفع الحاجة عليه فالله تعالى أولى بهما من أنفسهما فينبغى ان يرجحا الله تعالى على أنفسهما واستدل بالآية على أن العبد لامدخل له فى الشهادة إذ ليس قواما بذلك لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضى وعى وجوب التسوية بين الخصمين على الحاكم وهو ظاهر على رأى ووجه مناسبتها لما تقدم على مافى البحر أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة عقبه بالقيام لأداء الحقوق وفى الشهادة حقوق أو لأنه سبحانه لما بين أنم طالب الدنيا ملوم أشار الى أن طالب الأمرين أو أشرفهما هو الممدوح بين أن كمال ذلك أن يكون قول الانسان وفعله لله تعالى أولأنه تعالى شأنه لما ذكر فى هذه السورة وإن خفتم أن لاتقسطوا فى اليتامى والإشهاد عند دفع أموالهم اليهم وامر يبذل النفس والمال فى سبيل الله تعالى وذكر قصة الخائن واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل وندب للمصالحة عقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله تعالى ياأيها الذين آمنوا خطاب للمسلمين كافة فمعنى قوله تعالى : آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى أنزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل أثبتوا على الايمان بذلك وداموا عليه وروى هذا عن الحسن واختاره الجبائى وقيل الخطاب لهم والمراد ازدادوا فى الايمان طمأنينة ويقينا أو آمنوا بما ذككر مفصلا بناءا على أن إيمان بعضهم إجمالى وأياما كان فلا يلزم تحصيل الحاصل وقيل : الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا فمعنى آمنواأخلصوا الإيمان واختاره الزجاج وغيره
وقيل لمؤمنى اليهود خاصة ويؤيده ماروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن عبد الله بن سلام وأسد
(5/169)
وأسيد ابنى كعب وثعلبة بن قيس وابن أخت عبد الله بن السلام ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بل آمنوا بالله تعالى ومحمد صلى الله عليه و سلم وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا : لانفعل فنزلت فاآمنوا كلهم وقيل : لمؤمنى أهل الكتابين وروى ذلك عن الضحاك وقيل : للمشركين المؤمنين باللات والعزى وقيل : لجميع الخلق لإيمانهم يوم أخذ الميثاق حين قال حين قال لهم سبحانه : ألست بربكم قالوا بلى والكتاب الأول القرآن والمراد من الكتاب الثانى الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية ويدل عليه قوله تعالى فيما بعد : وكتبه والمراد بالإيمان بها الايمان بها فى ضمن الايمان بالكتاب المنزل على الرسول صلى الله عليه و سلم على معنى أن الايمان بكل واحد منها مندرج تحت الايمان بذلك الكتاب وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة يجب الأخذ بها الى ورود مانسخها وأن مالم ينسخ منها الى الآن من الشرائع والاحكام ثابتة من حيث أنها من أحكام ذلك الكتاب الذي لاريب فيه ولاتغيير يعتريه
ومن هنا يعلم أن أمر مؤمنى أهل الكتاب بالايمان بكتابهم بناءا على أن الخطاب لهم ليس على معنى الثبات لأن هذا النحو من الايمان غير حاصل لهم وهو المقصود ولاحاجة إلى القول بأن متعلق الأمر حقيقة هو الايمان بما عداه كأنه قيل : آمنوا بالكل ولاتخصوه بالبعض وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو نزل وأنزل على البناء للمفعول واستعمال نزل أولا وأنزل ثانيا لأن القرآن نزل مفرقا بالاجماع وكان تمامه فى ثلاث وعشرين سنة على الصحيح ولاكذلك غيره من الكتب فتذكر
ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أى بشىء من ذلك فان الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو كما قال العلامة الثانى قد يرجع إلى كل واحد وقد يرجع إلى المجموع والتعويل على القرائن وههنا قد دلت القرينة على الأول لأن الايمان بالكل واجب والكل ينتفى بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو بمعنى أو فى شىء وجوز بعضهم رجوعه الى المجموع لوصف الضلال بغاية البعد فى قوله تعالى : فقد ضل ضلالا بعيدا
131
- ويستفاد منه أن الكفر بأى بعض كان ضلال متصف ببعد والمشهور أن المراد بالضلال البعيد الضلال البعيد عن المقصد بحيث لايكاد يعود المتصف به الى طريقه ويجوز أن يراد ضلالا بعيدا عن الوقوع والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق وتأكيد له وزيادة الملائكة واليوم الآخر فى جانب الكفر على ماذكره شيخ الاسلام لما أن بالكفر بأحدهما لايتحقق الايمان أصلا وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله عز و جل وبين الرسل فى إنزال الكتب وقيل : اختلاف الترتيب فى الموضعين من باب التفنن فى الأساليب والزيادة فى الثانى لمجرد المبالغة وقرىء بكتابه على إرادة الجنس إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازادوا كفرا هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا فى الغي وعن مجاهد وابن زيد أنهم أناس منافقون أظهروا الايمان ثم ارتدوا ثم أظهروا ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم وجعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عامة لكل منافق فى عهده صلى الله تعالى عليه وسلم فى البر والبحر وعن الحسن أنهم طائفة من
(5/170)
أهل الكتاب أرادوا تشكيك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانوا يظهرون الايمان بحضرتهم ثم يقولون قد عرضت لنا شبهة فيكفرون ثم يظهرون ثم يقولون : قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون ويستمرون على الكفر إلى الموت وذلك معنى قوله تعالى : وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون وقيل : هم اليهود آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بعبادتهم العجل حين غاب عنهم ثم آمنوا عند عوده اليهم ثم كفروا بعيسى عليه السلام ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه و سلم وروى ذلك عن قتادة وقال الزجاج والفراء : انهم آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بعده ثم آمنوا بعزيز ثم كفروا بعيسى عليه السلام ثم ازادوا كفرا بنبينا عليه الصلاة و السلام وأورد على الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه و سلم ليسوا بمؤمنين بموسى عليه السلام ثم كافرين بعبادة الجمل أو بشىء آخر ثم مؤمنين بعوده اليهم أو بعزير ثم كافرين بعيسى عليه السلام بل هم إما مؤمنين بموسى عليه السلام وغيره أوكفار لكفرهم بعيسى عليه السلام والانجيل
وأجيب بأن لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس ويحصل التبكيت على اليهود الموجودين باعتبار ماصدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم والذي يميل القلب اليه أن المراد قوم تكرر منهم الارتداد أعم من أن يكونوا منافقين أو غيرهم ويؤيده ماأخرجه ابن جرير وابن أبى حاتم عن على كرم الله تعالى وجهه أنه قال فى المرتد : إن كنت لمستتيبه ثلاثا ثم قرأ هذه الآية وإلى رأى الامام كرم الله تعالى وجهه ذهب بعض الأئمة فقال : يقتل المرتد فى الرابعة ولايستتاب وكأنه أراد أنه لافائدة من الاستتابة إذ لامنفعة وعليه فالمراد من قوله سبحانه : لم يكن الله ليغفر لهم ولاليهديهم سبيلا أنه سبحانه لايفعل ذلك أصلا وإن تابوا وعلى القول المشهور الذي عليه الجمهور : المراد من نفى المغفرة والهداية نفى مايقتضيهما وهو الايمان الخاص الثابت ومعن نفيه استبعاد وقوعه فان من تكرر منهم الارتداد وازدياد الكفر والاصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر وتمرنت على الردة وكان الايمان عندهم أدون شىء وأهونه فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة لاأنهم لو أخلصوا الايمان لم يقبل منهم ولم يفغفر لهم
وخص بعضهم عدم الاستتابة بالمتلاعب المستخف إذا قامت قرينة على ذلك وخبر كان فى أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام كما ذهب اليه البصريون أى ماكان الله تعالى مريدا للغفران لهم ونفى إرادة الفعل أبلغ من نفيه
وذهب الكوفيون إلى أن اللام زائدة والخير هو الفعل وضعف بأن مابعدها قد انتصب فان كان النصب باللام نفسها فليست بزائدة وإن كان بأن ففاسد ما فيه من الإخبار بالمصدر عن الذات وأجيب بأختيار الشق الأول وأنه لامانع من العمل مع الزيادة كما فى حرروف الجر الزائدة وباختيار الشق الثانى وامتناع الإخبار بالمصدر عن الذات لعدم كونه دالا بصيغته على فاعل وعلى زمان دون زمان والفعل المصدر بأن يدل عليهما فيجوز الاخبار به وإن لم يجز بالمصدر ولايخفى مافيه فان الاخبار على هذا بالفعل لابالمصدر وإن أول المصدر باسم الفاعل لابه أيضا فافهم واختار قوم فى القوم ماذهب اليه مجاهد وأيد ذلك بقوله تعالى : بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما
131
- ووضع فيه بشر موضع أنذر تهكما بهم ففى الكلام استعارة تهكمية وقيل : موضع أخبر فهناك مجاز مرسل تهكمى
(5/171)
الذين يتخذو الكافرون أولياء فى موضع النصب أو الرفع على الذم على معنى أريد بهم الذين أو هم الذين ويجوز أن يكون منصوبا على اتباع المنافقين ولايمنع منهم وجود الفاصل فقد جوزه العرب والمراد بالكافرين قيل : اليهود وقيل : مشركو العرب وقيل : مايعم ذلك والنصارى وأيد الأول ماروى أنه كان يقول بعضهم لبعض : إن أمر محمد صلى الله عليه و سلم لايتم فتولوا ليهود
من دون المؤمنين أى متجاوزين ولاية المؤمنين وهو حال من فاعل يتخذون أيبتغون أى المنافقون عندهم أى الكافرين العزة أى القوة والمنعة وأصلها الشدة ومنه قيل : للارض الصلبة عزاز والاستفهام للانكار والجملة معترضة مقررة لما قبلها وقيل : للتهكم وقيل : للتعجب
فان العزة لله جميعا أى أنها مختصة به تعالى يعطيها من يشاء وقد كتبها سبحانه لأوليائه فقال عز شأنه : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين والجملة تعليل لما يفيده الاستفهام الانكارى من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم
وقيل : بيان لوجه التهكم أو التعجب وقيل انها جواب شرط محذوف أى يبتغوا العزة من هؤلاء فان العزة الخ وهى على هذا التقدير قائمة مقام الجواب لاأنها الجواب حقيقة و جميعا قيل : حال من الضمير فى الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وليس فى الكلام مضاف أى لأولياء كما زعمه البعض وقوله سبحانه : وقد نزل عليكم خطاب للمنافقين بطريق الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذي يستدعيه تعديد جناياتهم
وقرأ ماعدا عاصما ويعقوب نزل بالبناء لما لم يسم فاعله والجملة حال من ضمير يتخذون مفيدة أيضا لكمال قباحة حالهم ببيان أنهم فعلوا مافعلوا من مولاة أعداء الله تعالى مع تحقيق مايمنعهم عن ذلك وهو ورود النهى عن المجالسة المستلزم للنهى عن المولاة على آ كد وجه وأبلغه إثر بيان انتفاء مايدعوهم اليه بالجملة المعترضة كأنه قيل : تتخذونهم أولياء أنه تعالى نزل عليكم قبل هذا بمكة فى الكتاب أى القرآن العظيم الشأن
أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره وذلك قوله تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون فى آيتنا فأعرض عنهم الآية وهذا يقتضى الانزجار عن مجالستهم فى تلك الحالة القبيحة فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم ! و أن هى المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أى أنه إذا سمعتم وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أى أنكم وكون المخففة لاتعمل فى غير ضمير الشأن إلا لضرورة كما قال أبو حيان فى حيز المنع وقد صحح غير واحد جواز ذلك من غير ضرورة والجملة الشرطية خبر وهى تقع خبرا فى كلام العرب و أن ومابعدها فى موضع النصب على أنه مفعول به لنزل وهو القائم مقام الفاعل على القراءة الثانية واحتمال أنه يجعل القائم مقامه عليكم وتكون أن مفسرة لأن التنزيل فى معنى القول لايلتفت اليه و يكفر بها ويستهزأ فى موضع الحال من الآيات جىء بهما لتقييد النهى عن المجالسة فان قيد القيد قيد والمعنى لاتقعدوا معهم وقت كفرهم واستهزائهم بالآيات وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر الكفر بها والضمير فى معهم للكفرة المدلول عليهم ب يكفر ويستهزأ والضمير فى غيره راجع إلى تحديثهم بالكفر والاستهزاء
(5/172)
لأنهما فى حكم شىء واحد وقوله تعالى : إنكم إذا مثلهم تعليل للنهى غير داخل تحت التنزيل و إذا ملغاة لأن شرط عملها النصب فى الفعل أن تكون فى صدر الكلام فلذا لم يجىء بعدها فعل و مثل خبر عن ضمير الجمع وصح مع إفراده لأنه الأصل مصدر فيستوى فيه الواحد المذكر وغيره وقيل : لأنه كالمصدر فى الوقوع على القليل والكثير أولأنه مضاف لجمع فيعم وقد يطابق ماقبله كقوله تعالى : ثم لايكونوا أمثالكم والجمهور على رفعه وقرىء شاذا بالنصب فقيل : إنه منصوب على الظرفية لأن معنى قولك : زيد مثل عمرو فى أنه حال فى مثله وقيل : إنه إذا أضيف الى مبنى اكتسب البناء ولايختص ذلك بما المصدرية كما توهم بل يكون فيها مثل مثل ماأنكم تنطقون وفى غيرها كقوله : فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم اذهم قريش وإذ ما مثلهم بشر وابن مالك يشترط لاكتساب البناء أن لايقبل المضاف للتثنية واجمع كدون وغير وبين ولم يصحح ذلك فى مثل وأعربه حالا من الضمير المستتر فى حق فى قوله تعالى : انه لحق مثل ما أنكم تنطقون وقوله تعالى إن الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا تعليل لكونهم مثلهم فى الكفر ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم فى العذاب والمراد من المنافقين إما المخاطبون وأقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ الاشتقاق وإما للجنس وهم داخلون دخولا أوليا وتقديمهم لتشديد الوعيد على المخاطبين وانتصابه على الحال طرز مامر واستشكل كون الخطاب للمنافقين بأنهم مثل للكافرين فى الكفر من غير سببية القعود معهم فلا وجه لترتيب الجزاء على الشرط والعدول عن كون المماثلة فى الكفر إلى المماثلة فى المجاهرة به لايحسن معه كون جملة إن الله الخ تعليلا لكونهم مثلهم بتلك المماثلة بالطريق الذي ذكر وأيضا الذين نهوا عن مجالسة الكافرين والمستهزئين بمكة هم المؤنون المخلصون لاالمنافقون لأن نجم النفاق إنما ظهر بالمدينة فكيف يذكر المنافقون فيها بنهى نزل فى مكة قبل أن يكونوا
وأجيب عن هذا بأنه إن سلم أن المنزل على النبى صلى الله عليه و سلم وان خوطب به خاصة منزل على الأمة مخلصهم زمنافقهم إلى قيام الساعة صح دخول المنافقين وإن لم يكونوا وقت النزول وإن لم يسلم ذلك فان ادعى الاقتصار على النبى صلى الله عليه و سلم لم يدخل المؤمنون المخلصون أيضا وإن ادعى دخولهم فقط دون المنافقين الذين هم منؤنون ظاهرا فلا دليل عليه كيف جميع الأحكام متعلقة بالمؤمنين كيف كانوا ولسنا مكافين بأن نشق على قلوب العباد بل لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر على أنه قد قام الدليل على أن الأحكام الشرعية التى كانت صدر الاسلام ولم تنسخ مخاطب بها من نطق بالكلمة الطيبة وبلغته قبل يوم الساعة فقد قال الله تعالى : لأنذركم به ومن بلغ ولهذه الدغدغة قال بعض المحققين : إن المقصود من الخطاب هنا المؤمنون الصادقون والمراد بمن يكفر ويستهزىء أعم من المنافقين والكافرين وضمير معهم للمفهوم من الفعلين ويؤيد ذلك مانقل عن الواحدى أنه قال : كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى الله تعالى عن مجالستهم والمراد من المماثلة فى الإثم لأنهم قادرون على الاعراض والانكار لاعاجزون كما فى مكة أو فى الكفر على معنى إن رضيتم بذلك وهو مبنى على أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل وهى رواية عن أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه عثر عليها صاحب الذخيرة
(5/173)
وقال شيخ الاسلام خواهر زاده : الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر أو يستحسنه أما لم يكن كذلك ولكن أحب الموت أو القتل على الكفر أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم الله تعالى منه فهذا لايكون كفرا ومن تأمل قوله تعالى : ربنا اطمس الآية يظهر له صحة هذه الدعوى وهو المنقول عن الماتريدى وقول بعضهم : إن من جاءه كافر ليسلم فقال : اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره فى زمان موافق لما روى عن الامام لكن يدل على خلافه ماروى فى الحديث الصحيح فى فتح مكة أن أبى سرح أتى به عثمان رضى الله تعالى عنه الى النبى صلى الله عليه و سلم وسلم فقال : يارسول الله بايعه فكف صلى الله تعالى عليه وسلم يده ونظر اليه ثلاث مرات وهو معروف فى السير وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا
واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أى جنس كانوا واليه ذهب ابن مسعود وابراهيم وأبو وائل وبه قال عمر بن عبد العزيز وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر فقيل له فى ذلك : فتلا الآية وهى أصل لما يفعله المصنفون من الاحالة على ماذكر فى مكان آخر والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى ون هنا قيل : إن مدار الاعراض عن الخائضين فيما يرضى الله تعالى هو العلم بخوضهم ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع وأن المراد بالاعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم لا إلا عراض بالقلب أو بالوجه فقط وعن الجبائى ان المحذور مجالستهم من غير اظهار كراهة لما يسمعه أو يراه وعلى هذا الذي ذهب إليه بعض المحققين يحتمل أن يراد بالمنافقين والكافرين فى جملة التعليل ماأريد بضمير معهم وصرح بهذا العنوان لما أشرنا اليه قبل ويحتمل أن يراد بالجنس ويدخل أولئك فيه دخولا أولياء والخطاب فى قوله تعالى : الذين يتربصون بكم للمؤمنين الصادقين بلا خوف والموصول إما بدل من الذين يتخذون أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين
وجوز أبو البقاء وغيره كونه صفة لهما أو مرفوع أو منصوب على الذم وجعله مبتدأ خبره الجملة شرطية لايخلو من تكلف والتربص الانتظار والظاهر من كلام البعض أن مفعوله مقدر والجار والمجرور متعلق به أى ينتظرون وقوع أمر بكم وكلام الراغب يقتضى أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة غلاء السعر والفاء فى قوله تعالى : فان كان لكم فتح من الله لترتيب مضمونه على ماقبلها فان حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية مايقع بعد ذلك أى فان اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء قالوا أى لكم ألم نكن معكم نجاهد عدوكم فاعطونا نصيبا من الغنيمة وإن الكافرين نصيب أى حظ من الحرب فانها اسجال قالوا أى المنافقون للكفار ألم نستحوذ عليكم أى ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم أو ألم نغلبكم بالتفضل ونطلعكم على أسرار محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه ونكتب اليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم ونمنعكم من المؤمنين أى ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم وتوانينا فى مظاهرتهم والقائنا عليهم ماضعفت به قلوبهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم وهاتوا نصيبنا مما أصبتم : وقيل : المعنى ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم ونمنعكم من الدخول فى جملة المؤمنين وهو خلاف الظاهر وأصل الاستحواذ الاستيلاء وكان القياس فيه استحاذ يستحيذا استحاذة بالقلب لكن صحت فيه الواو وكثر ذلك فيه وفى نظائر له حتى ألحق بالمقيس
(5/174)
وعد فصيحا وقال أبو زيد : إنه قياسى وعلى كل حال لايرد على فصاحة القرآن كما حقق فى موضعه
وقرىء ونمنعكم بالنصب باضمار أن والتقدير لم يكن منا الاستحواذ اذ والمنع كقولك : لاتأكل السمك وتشرب اللبن سمى ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين وقيل : سمى الأول فتحا إشارة الى أنه من مداخل فتح دار الاسلام بخلاف ما للكافرين فانه لافتح لهم فى استيلائهم بل سينطفىء ضياء مانالوا فالله يحكم بينكم يوم القيامة فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه وأما فى الدنيا فأنتم وهم سواء فى العصمة بدليل قوله صلى الله تعالى وسلم : فاذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم وفى الكلام قيل : تغليب وقيل : حذف أى بينكم وبينهم ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا أى يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك فى الدنيا ابتلاءا واستدراجا وروى عن ذلك عن على كرم الله وجهه وابن عباس رضى الله تعالى عنهما أو فى الدنيا أى لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تاما بالاستئصال أو جحة قائمة عليهم مفحمة لهم وحكى ذلك عن السدى ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الاولى واحتج الشافعية بالآية على فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه ونحن نقول : يصح ولكن يمنع من استخدانه والتصرف فيه إلا بالبيع والاخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه واحتج بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلا فى امساكها فى بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح والمؤمنين والكافرين شامل للاناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته وضعف بأن الارتداد لاينفى أن يكون النكاح إذا عاد إلى الايمان قبل مضى العدة واعترض بأنه حين الكفر لاسبيل له ونفى السبيل بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقةلابد لحدوث العلقة من موجب وهو ظاهر فان كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعى والعود كالرجعة فلا ضعف فيه
وأنت تعلم أنه اذا كان نفى السبيل فى الآخرة أو فى الدنيا بالاستصئال أو السبيل بمعنى الحجة لامتمسك فى الآية لأصحابنا ولاالشافعية فلا تغفل إن المنافقين يخادون الله أى يفعلون مايفعل المخادع فيظهرون الايمان ويضمرون نقيضه وعن الحسن واختاره الزجاج أن المراد يخادعون النبى صلى الله عليه و سلم على حد إنما يبايعون الله وهو خادعهم أى فاعل بهم مايفعل الغالب فى الخداع حيث تركهم فى الدنيا معصومى الدماء والأموال وأعد لهم فى الآخرة الدرك الأسفل من النار وقيل : خداعه تعالى لهم أن يعطيهم سبحانه نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور ويضرب بينهم بسور وروى ذلك عن الحسن أيضا والسدى واختاره جماعة من المفسرين وقد مر تحقيق ذلك ولله تعالى الحمد
والجملة فى محل نصب على الحال أومعطوفة على خبر إن أو مستأنفة كالاولى
وإذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى أى متثاقلين متباطئين لانشاط لهم ولارغبة كالمكره على الفعل لأنهم لايعتقدون ثوابا فى فعلها ولاعقابا على تركها وقرىء بقتح الكاف وهما جمعا كسلان
يرآءون الناس ليحسبوهم مؤمنين والمراآة مفاعلة من الرؤية إما بمعنى التفعيل لأن فاعل بمعنى فعل
(5/175)
وارد فى كلامهم كنعم وناعم وقراءة عبد الله وإسحق يروون تدل على ذلك أو للمقابلة لأنهم لفعلهم فى مشاهد الناس يرونهم وهم يقصدون أن ترى أعمالهم والناس يستحسنونها فالمفاعلة فى الرؤية متحدة وإنما الاختلاف فى متعلق الاراءة فلا يرد على هذا الشق أن المفاعلة لابد فى حقيقتها من اتحاد الفعل ومتعلقه والجملة إما استئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فماذا يريدون بقيامهم هذا فقيل : يراءون الخ أو حال من ضمير قاموا أو من الضمير فى كسالى
ولايذكرون الله إلا قليلا عطف على يراءون وقيل : حال من فاعله أى ولا يذكرونه سبحانه مطلقا إلا زمانا قليلا أو إلا ذكرا قليلا إذ المرائى لايفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله أو لأن ذكرهم باللسانى قليل بالنسبة إلى الذكر بالقلب وقيل : إنما وصف بالقلة لانه لم يقبل وكل مالم يقبله الله تعالى قليل وإن كان كثيرا وروى ذلك عن قتادة وأخرج البيهقى وغيره عن الحسن مابمعناه
وأخرج ابن المنذر عن على كرم الله وجهه أنه قال : لايقل عمل مع تقوى وكيف يقل مايتقبل وقيل : المراد بالذكر الذكر الواقع فى الصلاة نخو التكبير والتسبيح واليه ذهب الجبائى وأيد بما أخرجه مسلم وأبو داود عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى شيطان قام فنقر أربعا لايذكر الله تعالى فيها إلا قليلا وقيل : الذكر بمعنى الصلاة لأن الكلام فيها لابمعناه المتبادر منه وجوز أن يراد بالقلة العدم واستشكل توجيه الاستثناء حينئذ
وأجيب بأن المعنى لايذكرون الله تعالى إلا ذكرا ملحقا بالعدم لأنه لاينفعهم فلا إشكال ولايخفى مافيه فان القلة بمعنى العدم مجاز وجعل العدم مالانفع فيه مجاز آخر ومع ذلك ليس فى الكلام مايدل عليه وقال بعض المحققين : فى توجيه الكلام على ذلك التقدير إن المعنى حينئذ لو صح أن يعد عدم الذكر ذكرا فذلك ذكرهم على طريقة قوله : ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وفيه وإن كان أهون من الأول مافيه واستدل بالآية على استحباب دخول الصلاة بنشاط وعلى كراهة قول الانسان كسلت أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه يكره أن يقول الرجل إنى كسلان ويتأول هذه الآية مذبذبين بين ذلك حال من فاعل يراءون أو من فاعل يذكرون وجوز أن يكون حالا من فاعل قاموا أو منصوب على الذم بفعل مقدر وذلك إشارة الى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين ولذا أضيف بين اليه وروى هذا عن ابن زيد ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين والكافرين فيكون مابعده تفسيرا له على حد قوله : الألمعى الذى يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا والمعنى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان وأصل الذبذبة كما قال الراغب : صوت الحركة للشىء المعلق ثم استعير لكل اضطراب وحركة أو تردد بين شيئين والذال الثانية أصلية عند البصريين ومبدلة من باء عند الكوفيين وهو خلاف معروف بينهم وقرأ ابن عباس رضى الله تعالى عنهما مذبذبين بكسر الذال الثانية ومفعوله على هذا محذوف أى مذبذبين قلوبهم أو دينهم أو رأيهم ويحتمل أن لازما
(5/176)
على أن فعلل بمعنى تفعلل كما جاء صلصل بمعنى تصلصل أى متذبذين ويؤيده مافى مصحف ابن مسعود متذبذبين
وقرىء بالدال غير المعجمة وهو مأخوذ من الدبة بضم الدال وتشديد الباء بمعنى الطريقة والمذهب كما فى النهاية ويقال : هو على دبتى أى طريقتى وسمتى وفى حديث ابن عباس اتبعوا دبة قريش ولاتفارقوا الجماعة والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقا وأخرى أخرى لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أى لامنسوبين إلى المؤمنين حقيقة لإضمارهم الكفر ولاإلى الكافرين لإظهارهم الإيمان أو لاصائرين إلى الأولين ولاإلى الآخرين ومحله النصب على أنه حال من ضمير مذبذين أو على أنه بدل منه ويحتمل أن يكون بيانا وتفسيرا له ومن يضلل الله لعدم استعداده للهداية والتوفيق فلن تجد له سبيلا
143
- موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه اليه والخطاب لكل من يصلح له وهو أبلغ فى التفظيع
ياأيها الذين امنوا لاتتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين نهى المؤمنين الصادقين عن موالاة الكفار اليهود فقط كما قيل أو مايعمهم وغيرهم كما هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين أى لاتتخذوهم أولياء فان ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلاتتشبهوا بهم وقيل : المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون فالآية نهى للمنافقين عن موالاة الكافرين دون المخلصين وقيل : المراد بالموصول المخلصون وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل : قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء وإلى ذلك ذهب القفال وفى كلا القولين بعد أتريدون ان تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا
144
- أى حجة ظاهرة فى العذاب وفيه دلالة على أن الله تعالى لايعذب أحدا بمقتضى حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه ويشعر بذلك كثير الآيات وقيل : أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة على أنكم موافقون فان موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق
ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف لكن أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال : كل سلطان فى القرآن فهو حجة وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث إجماعا فتذكيره باعتبار البرهان أو بأعتبار معناه المعروف والتأنيث باعتبار الحجة أكثر عند الفصحاء على ماقاله الفراء إلا أنه لم يعتبرها هنا واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهى لغة القرآن حيث وقع و عليكم يجوز تعلقه بالجعل وبمحذوف وقع حالا من سلطانا وتوجيه الانكار الى الإرادة دون متعلقها بأن يقال : أتجعلون الخ للمبالغة فى إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه ممالايصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار أى فى الطبقة السفلى منها وهو قعرها ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل : جهنم والثانية لظى والثالثة الحطمة والرابعة السعير والخامسة سقر والسادسة الجحيم والسابعة الهاوية وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار بجمعها وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض و الدرك كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط والدرج باعتبار الصعود وفى كون المنافق فى الدرك الأسفل إشارة الى شدة عذابه
وقد أخرج ابن أبى الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود أن المنافق يجعل فى تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل فى الدرك الأسفل وإنما كان أشد عذابا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاءا بالاسلام
(5/177)
وخداعا لاهله وأما ماروى فى الصحيحين من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا وعد غدر وإذا خاصم فجر فقد قال المحدثون فيه : انه مخصوص بزمانه صلى الله تعالى عليه وسلم لاطلاعه بنور الوحى على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه الصلاة و السلام أصحابه رضى الله تعالى عنهم بأمارتهم ليحترزوا عنهم ولم يعنيهم حذرا عن الفتنة وارتدادهم ولحقوهم بالمحاربين وقيل : ليس بمخصوص ولكنه مؤل بمن استحل ذلك أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص وأطلق صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك عليه تغليظا وتهديدا له وهذا فى حق من اعتاد ذلك لامن ندر منه أو هو منافق فى أمور الدين عرفا والمنافق فى العرف يطلق على كل من أبطن خلاف مايظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إايمانا وكفرا وكأنه مأخوذ من النافقاء وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلى الله تعالى عليه وسلم باقتضاء المقام ولذا ورد فى بعض الروايات ثلاث وفى بعضها أربع
وقرأ الكوفيون الدرك بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال وأفعال فى فعل المحرك كثير مقيس ووروده فى الساكن نادر كفرخ وأفراخ وزند وأزناد وكونه استغنى بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر فلا يندفع به الترجيح والكلام مخرج مخرج الحقيقة وزعم أبو القاسم البلخى أن لاطبقات فى النار وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية فى العقاب كما يقال : إن السلطان بلغ فلانا الحضيض وفلانا العرش يريدون بذلك انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة ولايخفى أنه خلاف ماجاءت به الآثار ومن النار فى محل نصب على الحال وفى صاحبها وجهان : أحدهما أنه الدرك والعامل الاستقرار والثانى أنه الضمير المستتر فى الأسفل لأنه صفة فيحتمل الضمير أى حال كون ذلك من النار ولن تجد لهم نصيرا يخرجهم منه أو يخفف عنهم ماهم فيه يوم القيامة حين يكونون فى الدرك الاسفل وكون المراد ولن تجد لهم نصيرا فى الدنيا لتكون الآية وصفا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشىء كما لايخفى والخطاب لكل كمن يصلح له إلا الذين تابوا عن النفاق وهو استثناء من المنافقين أو من ضميرهم فى الخبر أو من الضمير المجرور فى لهم وقيل : هو فى موضع رفع بالابتداء والخبر مابعد الفاء ودخلت لما فى الكلام من معنى الشرط وأصلحوا ماأفسدوا من نياتهم وأحوالهم فى حال النفاق وقيل : ثبتوا على التوبة فى المستقبل والأول أولى واعتصموا بالله أى تمسكوا بكتابه أو ثقوا به وأخلصوا دينهم لله لايريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لارياء الناس ودفع الضرر كما فى النفاق وأخرج أحمد والترمذى وغيرهما عن أبى ثمامة قال : قال الحواريون لعيسى عليه السلام : ياروح الله من المخلص لله قال : الذي يعمل لله تعالى لايحب أن يحمده الناس عليه فأولئك اشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصفة ومافيه من معنى البعد لما مر غير مرة مع المؤمنين أى المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا منذ أن آمنوا والمراد أنهم معهم فى الدرجات العالية من الجنة أو معدودون من جملتهم فى الدنيا والآخرة وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم
(5/178)
وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود والتعميم أولى والمراد بالمؤمنين ههنا ماأريد به فيما قبله واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد ولولا تفسير الآية بذلك لم يكن لها فى ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر
وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلا وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه والظاهر ماذكرناه ورسم يؤت بغير ياء وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظا وخطا إلا أنها حذفت فى اللفظ لالتقاء السكنين وجاء الرسم تبعا للفظ والقراء يقفون عليه دونها اتباعا للرسم إلا يعقوب فانه يقف بالياء نظرا إلى الاصل
وروى ذلك أيضا عن الكسائى وحمزة ونافع وادعى السمين أن الأولى اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها مايفعل الله بعذابكم إن شكرتم وامنتم خطاب للمنافقين وقيل للمؤمنين وضعف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لاشىء آخر فتكون الجملة مقررة لما قبلها من ثباتهم عند توبتهم و ما استفهامية مفيدة للنفى على أبلغ وجه وآكده وقيل : نافية والباء سببية وقيل : زائدة أى أى شىء يفعل الله سبحانه بسبب تعذيبكم أيتشفى به من الغيظ أم يدرك به الثأر أم يستجلب نفعا أو يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك وهو الغنى المطلق المتعالى عن أمثال ذلك وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم فاذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر فى الدنيا برئتم وسلمتم وإلا هلكتم هلاكا لامحيص عنه بالخلود فى النار وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره لانه لايعتد به إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل اليه فى أول درجاته فقد ذكر العارف أبو اسماعيل الأنصارى أن الشكر فى الأصل اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم وله ثلاث درجات لأنه إذا نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبعث منه شوق إلى معرفة المنعم وهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبى والشكر المبهم لأن منعمه لم يتضح له تعيينه وإنما عرف منعما ما فهو منعم عليه فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها وهى المعرفة بأن المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان ثم ينادى على ذلك الجميل باللسان ويقول : أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدى والسانى والضمير المحجبا فالمذكور فى الآية هو الشكر المبهم وهو مقدم على الإيمان فلاحاجة الى مازعمه الامام من أن اكلام على التقديم والتأخير أى آمنتم وشكرتم وأما القول : بأن هذا السؤال إنما هو على تقدير أن تكون الواو للترتيب وأما إذا لم تكن للترتيب فلا سؤال فمما لاينبغى أن يتفوه به من له أدنى ذوق فى علم الفصاحة والبلاغة لأن الواو وإن لم تفد الترتيب لكن تقديم ماليس مقدما لايليق بالكلام الفصيح فضلا عن المعجز ولذا تراهم يذكرون لما يخالفه وجها ونكتة وذكر النيسابورى وجها آخر فى التقديم لكنه بناه على إفادة الواو للترتيب فقال : لعل اوجه فى ذلك أن الآية مسوقة فى شأن المنافقين ولانزاع فى إيمانهم ظاهرا وإنما النزاع فى بواطنهم وأفعالهم التى تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللسانى فكان تقديم الشكر ههنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ماأعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة انتهى ولايخفى أنه لم يحمل الشكر فى الآية على الشكر المبهم ولايخلو عن حسن
(5/179)
واضح منه وأطيب ماحاك فى صدرى ثم رأيت العلامة الطيبى عليه الرحمة صرح به إن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين وأن قوله سبحانه مايفعل الله بعذابكم متصل بقوله تعالى : إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا الخ وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم فى تلك الورطة كفرانهم نعم الله تعالى وتهاونهم فى شكر ماأوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلى الله تعالى عليه وسلم والانخراط فى زمرة الذين مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الانجيل فاذا تابوا وأصلحوا وأعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا فى سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ماكانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران ثم التفت تعريضا لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فان الله غنى مطلق عن عذابهم فضلا على أن يوقعهم فى تلك الورطات فقوله عز و جل : إن شكرتم فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد فى الأرض إلى الاصلاح فيها ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله تعالى ومن الرياء فى الدين إلى الاخلاص فيه فقوله عز من قائل : وآمنتم تفسير له وتقرير لمعناه أى وآمنتم الايمان الذي هو حائز لتلك اخلال الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل فتقديم الشكر على الايمان وحقه التأخير فى الأصل اعلام بأن الكلام فيه وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى والكفر تابع فاذا أخر الشكر بهذه الأسرار واللطائف ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا : وكان الله شاكرا أى مثيبا على الشكر عليما
147
- بجميع الجزئيات والكليات فلايعزب عن علمه شىء فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر وإلى هذا ذهب الامام وقال غير واحد : الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى هو الذى يجزى بيسير الطاعات كثير الدرجات ويعطى بالعمل فى أيام معدودة نعما فى الآخرة غير محدودة وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية وقيل : معناه المثنى عاى من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية
هذا ومن باب الاشارة فى الآيات
أما فى قوله سبحانه : ويستفتونك فى النساء إلى قوله عز و جل وكان الله واسعا عليما فقد قال النيسابورى فيه : إن النفس للروح كالمرآة للزوج ويتامى النساء صفات النفوس وماكتب لهن ما أوجب الله تعالى من الحقوق
وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها واليه الاشارة بقوله تعالى : والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح فالورح تشح بترك حقوق الله تعالى والنفس تشح بترك حظوظها فلا تميلوا كل الميل فى رفض حظوظ النفس فقد جاء فى الخبر إن لنفسك عليك حقا فتذروها كالمعلقة بين العالم العلوى والعالم السفلى وإن يتفرقا أى الروح والنفس يغن الله كلا من سعته فالروح يجتذب بجذبة خل نفسك وائتنى إلى سعة غنى الله تعالى فى عالم هويته فيستغنى عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود والنفس تجتذب بجذبة ارجعى الى ربك إلى سعة غنى الله تعالى فى عالم فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى انتهى ولايخفى أن باب التأويل واسع وماذكره ليس بمتعين أن تجعل الآية فى شأن الشيخ والمريد وأما فى قوله : ياأيها الذين آمنوا كونوا الخ فنقول : إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلى المريدين لثواب الدارين أن يكونوا ثابتين فى مقام العدالة التى
(5/180)
هي أشرف الفضائل قوامين بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم لايمكن معها جور فى شىء ولاظهور صفة نفس لاتباع هوى فى جلب نفع دنيوى أو رفع مضرة كذلك ثم قال جل علا : ياأيها الذين آمنوا من حيث البرهان آمنوا من حيث البيان الى أن تؤمنوا من حيث العيان أو ياأيها الذين آمنوا بالايمان التقليدى آمنوا بالايمان العينى أو المراد ياأيها المدعون تجريد الايمان لى من غير وساطة لاسبيل لكم إلى الوصول الى عين التجريد إلا بقبول الوسائط فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع إن الذين آمنوا بالتقليد ثم كفروا إذ لم يكن للتقليد أصل ثم آمنوا بالاستدلال العقلى ثم كفروا إذ لم تكن عقولهم مشرفة بالنور الالهى ثم ازادوا كفرا بالشبهات والاعتراضات وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد فى سلوك سبيل أولياء الله تعالى والايمان بأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رياسة القوم فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم يتحملوا وانكروا ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم ولما رأوا نهاية الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا وآمنوا فلما يصلوا إلى شىء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم وازادوا إنكارا حين رجعوا إلى اللذات والشهوات واختاروا الدنيا على الآخرة وجعلوا يقولون للخلق : إن هؤلاء ليسوا على الحق فقد سلكنا ما سلكوا وخضنا ماخاضوا فلم نرى إلا سرابا بقيعة وهذا حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس الله أسراهم ماكان الله ليغفر لهم لمكان الريب الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال الاستعداد ولا ليهديهم سبيلا إلى الحق ولا إلى الكمال لعدم قبولهم ذلك الذين يتخذون الكافرين أولياء لمناسبتهم إياهم وشبيه الشىء منجذب اليه من دون المؤمنين لعدم الجنسية أيبتغون عندهم العزة أى يطلبون التعزز بهم فى الدنيا والتقوى بمالهم وجاههم فان العزة لله جميعا فلا سبيل لهم اليها إلا منه سبحانه عز و جل ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين أنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم يراءون الناس لاحتجاجهم بهم عن رؤية الله تعالى ولايذكرون الله إلا قليلا لأنهم لايذكرونه إلا باللسان وعند حضورهم بين الناس بخلاف المؤمنين الصادقين فنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون اليها بجناحى الرغبة والرهبة بل يحنون الى أوقاتها
حنين اعرابيةحنت إلى أطلال نجد فارقته ومرخه ومن هنا كان صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لبلال : أرحنا يابلال يريد عليه الصلاة و السلام أقم لنا الصلاة لنصلى ونستريح بها لامنها وظن الأخير برسول الله صلى الله عليه و سلم كفروا والعياذ بالله تعالى وإذا عبدوا لايريدون إلا الله تعالى وما قدر السوى عندهم ليراءوه وإن كل جزء منهم يذكر الله تعالى نعم إنهم قد يشتغلون به عنه فهناك لايتأتى لهم الذكر وقد عد العارفون الذكر لأهل الشهود ذنبا ولهذا قال قائلهم : بذكر الله تزداد الذنوب وتنكشف الرذائل والعيوب وترك الذكر أفضل كل شىء وشمس الذات ليس لها مغيب لكن ذكر بعضهم أنه لايصل العبد إلى ذلك المقام إلا بكثرة الذكر وأشار إلى مقام عال من قال : لايترك الذكر إلا من يشاهده وليس يشهده من ليس يذكره والذكر ستر مذكوره ستر فخين اذكره فى الحال يستره فلا أزال على الاحوال أشهده ولا أزال على الأنفاس أذكره
(5/181)
يأيها الذين آمنوا لاتتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين لئلا تتعدى اليكم ظلمة كفرهم أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا حجة ظاهرة فى عقابكم برسوخ الهيئة التى به تميلون إلى ولايتهم إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار لتحيرهم بضعف استعدادهم وان تجد لهم نصيرا ينصرهم من عذاب الله تعالى لانقطاع وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل الله تعالى إلا الذين تابوا رجعوا إلى الله تعالى ببقية نور الاستعداد وقبول مدى التوفيق وأصلحوا ماأفسدوا من استعداده بقمع الهوى وكسر صفات النفس ورفع حجاب القوى واعتصموا بالله بالتمسك بأوامره والتوجه اليه سبحانه وأخلصوا دينهم لله بازالة خفايا الشرك وقطع النظر عن السوى فأولئك مع المؤمنين الصادقين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما من مشاهدة تجليات الصفات وجنات الأفعال مايفعل الله بعذابكم إن شكرتم بالتوبة وإصلاح مافسد والاعتصام بحبل الأوامر والتوجه إلى الله عز و جل وإخلاص الدين له سبحانه وآمنتم الايمان الحائز لذلك وكان الله شاكرا عليما فيثيب ويوصل الثواب كاملا والله تعالى يقول الحق وهو يهدى السبيل
6
(5/182)
بسم الله الرحن الرحيم لا يحب الله الجهر بالسوء من القول عدم محبته سبحانه لشىء كناية عن غضبه والباء متعلقة بالجهر وموضع الجار والمجرور نصب أو رفع و من متعلقة بمحذوف وقع حالا من السوء والجهر بالشىء الاعلان به ولاظهار كما يفهم من القاموس وفى الصحاح : جهر بالقول رفع صوته به ولعل المراد هنا الإظهار وإن لم يكن برفع صوت أى لايحب الله سبحانه أن يعلن أحد بالسوء كائنا من القول إلا من ظلم أى إلا جهر من ظلم فانه غير مسخوط عنده تعالى وذلك بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء وروى عن أبن عباس رضى الله تعالى عنهما وقتادة هو أن يدعوا على من ظلمه وعن مجاهد أن المراد لايحب الله سبحانه أن يذم أحد أحدا أو يشكوه إلا من ظلم فيجوز أن يشكو ظالمه ويظهر أمره ويذكره بسوء ماقد صنعه وعن الحسن والسدى وهو المروى عن أبى جعفر رضى الله تعالى عنه المراد لايحب الله الشتم فى الانتصار إلا من ظلم فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به فى الدين وجوز الحسن للرجل إذاقيل له : يازانى أن يقابل القائل بمثل ذلك وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوقب عليه فنزلت وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
وروى عن ابن عباس رضى تعالى عنهما وأبى وابن جبير والضحاك وعطاء أنمم قرءوا إلا من ظلم على البناء للفاعل فالاستثناء منقطع والمعنى لكن الظالم يحبه أو لكنه يفعل ما لايحبه الله تعالى فيجهر بالسوء والموصول فى محل نصب وجوز الزمخشرى أن يكون مرفوعا بالابدال من فاعل يحب كأنه قيل : لايحب الجهر بالسوء إلا الظالم على لغة من يقول : ماجاءنى زيد إلا عمرو بمعنى ماجاءنى إلا عمرو ومنه لايعلم من فى السموات والارض الغيب إلاالله وهى لغة تميمية وعليها يقول الشاعر : عشية ماتغنى الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرفى المصمم وقد نقل هذه اللغة سيبويه وأنكرها البعض وكفى بنقل شيخ الصناعة سندا للمثبت نقل عن أبى حيان أنه ليس البيت كالمثال لانه قد يتحيل فيه عموم على معنى السلاح وأما زيد فلا يتوهم فيه عموم ولايمكن تصحيحه إلا على أن أصله ماجاءنى زيد ولاغيره فحذف المعطوف لدلالة الاستثناء وكذا الآية التى ذكرت ورد كما قال الشهاب بأنه كان التقدير ماذكره فى المثال لكان الاستثناء متصلا والمفروض خلافه وأن المراد كما يفهمه الطيبى جعل المبدل منه بمنزلة غير المذكور حتى كأن الاستثناء مفرغ والنفى عام إلا أنه صرح بنفى بعض أفراد العام لزيادة اهتمام بالنفى عنه أو لكونه مظنة توهم الاثبات فيقولون : ماجاءنى زيد إلا عمرو والمعنى ماجاءنى إلا عمرو فكذا ههنا المعنى لايحب الجهر بالسوء إلا الظالم فأدخل لفظ الله تأكيدا لنفى
(6/2)
محبته تعالى يعنى سبحانه اختاص فى عدم محبته ليس لأحد غيره ذلك
فان قليل مابعد إلا حينئذ لايكون فاعلا وهو ظاهر فتعيين البدل وهو غلط أجيب بأنه إنما يكون غلطا لو لم يكن هذا الخاص فى موقع العام ولم يكن المعنى إلا ماجاءنى إلا عمرو فان قيل فيكون لفظ الله مجازا عن أحد ولاسبيل اليه أجيب بأن لايحب الله مؤل بلا يحب أحد واقع موقعه من غير تجوز فى لفظ الله كذا قيل : وتعقبه الشهاب بأن المستثنى منه إذا كان عاما فاما بتقدير لفظ كما ذكره أبو حيان واما بالتجوز فى لفظ العلم وكلاهما مر مافيه ولاطريق آخر للعموم فما ذكره المجيب لابد من بيان طريقه اللهم إلا أن يقال : إن الاستثناء من العلم يشترط فيه أن يكون صاحبه أحق بالحكم بحيث إذا نفى عنه يعلم نفيه عن غيره بالطريق الأولى من غير تقدير ولاتجوز فيقال هنا مثلا : إذا لم يحب الله سبحانه الجهر بالسوء وهو الغنى عن جميع الأشياء فغيره لايحبه بطريق من الطرق وأنت تعلم أن هذا لايشفى الغليل لأن الاشتراط المذكور ممالم يقيم عليه دليل على أن دعوى كون نفى حب الجهر بالسوء عنه تعالى يعلم منه نفيه عن غيره بالطريق الأولى فى غاية الخفاء فالأولى ماذكره بعد أن يقال يقدر فى الكلام ماذكر لكنه عد الاستثناء منقطعا بحسب المتبادر والنظر الى الظاهر
وجوز على قراءة المعلوم أن يكون متعلقا بالسوء أى إلا سوء من ظلم فيجب الجهر به ويقبله وقيل : انه متعلق بقوله تعالى : مايفعل الله تعالى ان شكرتم وأمنتم فقد روى عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقول هذا على التقديم والتأخير أى مايفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم إلا من ظلم وكان يقرأها كذلك ولايكاد يقبل هذا فى تخريج كلام الله تعالى العزيز وكان الله سميعا بجميع المسموعات فيندرج فيها كلام المظلوم والظالم عليما
148
- بجميع المعلومات التى من جماتها حال المظروم والظالم والجملة تذييل مقرر لما يفيده الاستثناء ولايأبى ذلك التعميم كما توهم
ووجه ربط هذه الآية بما قبلها على ماقاله العلامة الطبيى أنه سبحانه لما فرغ من بيان إيراد رحمته وتقرير إظهار رأفته جاء بقوله جل وعلا : لايحب الله الجهر بالسوء تتميما لذلك وتعليما للعباد التخلق بأخلاقه جل جلاله وفيه إن هذا مما لامحصل له ولاتتم به المناسبة وزعم أن الآية الأولى فيها أيضا إشارة إلى تعليم التخلق بالأخلاق العلية كما قرره عصام الملة ورجا أن يكون من الملهمات وحينئذ يشتركان فى أن كلا منهما متضمنا التعليم المذكور ليس بشىء كما لايخفى ومثل ذلك ماذكره على بن عيسى فى وجه الاتصال وهو أنه تعالى شأنه لما ذكر أهل النفاق وهو إظهار خلاف مايبطن بين جل وعلا أن مافى النفس منه مايجوز إبطانه ومنه مايجوز إظهاره وقال شهاب الدين : الظاهر أنه لما ذكر الشكر على وجه علم منه رضاه سبحانه به ومحبة إظهاره تممه عز و جل بذكر ضده فكأنه قيل : انه يحب الشكر وإعلانه ويكره السوء وإعلانه وفيه احتباك بديع إن تبدو أى تظهروا خيرا أى خير كان من الأقوال والأفعال وقيل : المراد إن تبدوا جميلا حسنا من القول فيمن أحسن اليكم شكرا له على إنعامه عليكم وقيل : المراد بالخير المال والمعنى إن تظهروا التصدق أوتخفوه أى تفعلوه سرا وقيل : تزعموا على فعله أو نعفوا عن سوء أى تصفحوا عمن أساء اليكم مع ماسوغ لكم من مؤاخذته وأذن فيها والتنصيص على هذا مع اندراجه
(6/3)
فى ابتداء الخير وإخفائه على أحد الاقوال للاعتداد به والتنبيه على منزلته وكونه من الخير بمكان وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة وتمهيدا له كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى : فان الله كان عفوا قديرا
149
- فان إيراد العفو فى معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة العفو مع القدرة ولو كان إبداء الخير وإخفاؤه أيضا مقصودا بالشرط لم يحسن الاقتصار فى الجزاء على كون الله تعالى عفوا قديرا أى يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة وقال الحسن : يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى وقال الكلبى : هو أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم وقيل : عفوا عمن عفا قديرا على إيصال الثواب اليه نقله النيسابورى وغيره إن الذين يكفرون بالله ورسله أى على مايؤدى اليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم لاأنهم يصرحون بذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى : ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله فى الايمان بأن يؤمنوا به عز و جل ويكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام لكن لايصرحون بالايمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة بل بطريق الالتزام كما يحيكه قوله تعالى : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض أى نؤمن ببعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونكفر ببعضهم كما فعل أهل الكتاب وماذلك إلا كفر بالله تعالى وتفريق بين الله تعالى ورسله لأنه عز و جل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبى إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صالى الله تعالى عليه وسلم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا من حيث لايشعر ويريدون بهذا القول أن يتخذوا بين ذلك أى الايمان والكفر سبيلا أى طريقا يسلكونه مع أنه لاواسطة بينهما قطعا إذ الحق لايختلف وماذا بعد الحق إلا الضلال ! هذا ماذهب اليه البعض فى تفسير الآية وهو الذي تؤيده الآثار فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فيها : أولئك أعداء الله تعالى اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالانجيل وعيسى عليه السلام وآمنت النصارى بالانجيل وعيسى عليه السلام وكفروا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه و سلم فاتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله عز و جل وتركوا الاسلام وهو دين الله تعالى الذي بعث رسله وأخرج ابن جرير عن السدى وابن جريج مثله وقال بعضهم : الذين يكفرون بالله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع فنفوا الصانع مثلا وأنكروا النبوات والذين يفرقون بينه تعالى وبين رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين آمنوا بالله تعالى وكفروا برسبله عليهم الصلاة والسلام لاعكسه وإن قيل : إنه يتصور فى النصارى لايمانهم بعيسى عليه السلام وكفرهم بالله تعالى حيث قالوا : إنه تالث ثلاثة والكفر بالله سبحانه شامل للشرك والانكار إذ لايخفى مافيه والذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الانبياء عليهم السلام وكفروا ببعضهم كاليهود فهذه أقسام متقابلة كان الظاهر عطفها بأو لكن أتى بالواو بدلها فهى بمعناها وقيل : إن الموصول مقدر بناءا على جواز حذفه مع بقاء صلته وقيل : إن قوله تعالى : ويريدون أن يفرقوا الخ عطف تفسيرى على قوله سبحانه : يكفرون لأن هذه الأرادة عين الكفر بالله تعالى لأن من كفر برسل الله سبحانه فقد كفر بالله تعالى كالبراهمة وأما قوله جل وعلا : ويقولون نؤمن ببعض الخ فعطف على صلة الموصول والواو بمعنى أو التنويعية فالأولون
(6/4)
فرقوا بين الايمان بالله تعالى ورسوله والآخرون فرقوا بين رسسل الله تعالى عليهم السلام فآمنوا ببعض وكفروا ببعض كاليهود وعلى تقدير فخبر إن قوله تعالى أولئك أى الموصوفون بالصفات القبيحة هم الكافرون الكالمون فى الكفر لاعبرة بما يدعونه ويسونه إيمانا أصلا حقا مصدر مؤكد لغيره وعامله محذوف أى حق ذلك كونهم كاملين فى الكفر حقا وجوز أن يكون صفة لمصدر الكافرين أى هم الذين هم الذين كفروا كفرا حقا أى لاشك فيه ولاريب فالعامل مذكور و حقا بمعنى اسم المفعول وليس بمعنى مقابل الباطل ولهذا صح وقوعه صفة صناعة ومعنى واحتمال الحالية كما زعم أبو البقاء والآية على زعمه البعض متعلقة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا الخ على أنها كالتعليل له وماتوسط بين العلة والمعلول من الجمل والآيات إما معترض أو مستطرد عند إمعان النظر وأعتدنا للكافرين أى لهم ووضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصف الكفر الشنيع المؤذن بالعلية وقد يراد جميع الكفار وهم داخلون دخولا أوليا
عذابا مهينا يهينهم ويذلهم جزاء كفرهم الذى ظنوا به العزة
والذين امنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بآخرين كما فعل الكفرة ودخول بين على أحد قد مر الكلام فيه والموصول مبتدأ خبره جملة قوله : أولئك أى المنعوتون بهذه النعوت الجليلة سوف يؤتيهم أى الله تعالى أجورهم الموعودة لهم فالاضافة للعهد
وزعم بعضهم أن الخبر محذوف أى أضدادهم ومقابلوهم والاتيان بسوف لتأكيد الموعود الذى هو الايتاء والدلالة على أنه كائن لامحالة وان تأخر لا الاخبار بأنه متأخر إلى حين فعن الزمخشرى أن يفعل الذى للاستقبال موضوع لمعنى الاسقبال بصيغته فاذا دخل عليه سوف أكد ماهو موضوع له من اثبات الفعل فى المستقبل لا أن يعطى ماليس فيه من أصله فهو فى مقابلة لن ومنزلته من يفعل منزلة لن من لايفعل لأن لا لنفى المستقبل فاذا وضع لن موضعه أكد المعنةى الثابت وهو نفى المستقبل فاذا كل واحد من لن وسوف حقيقته التوكيد ولهذا قال سيبويه : لن يفعل نفى سوف يفعل وكأنه اكتفى سبحانه ببيان مالهؤلاء الؤمنين عن أن يقال : أولئك هم المؤمنون حقا مع استفادته ممادل على الضدية وفى الآية التفات من التكلم من التكلم إلى الغببة
وقرأ نافع وابن كثير وكثير نؤتيهم بانون فلا التفات وكان الله غفورا لمن هذه صفتهم ماسلف لهم من المعاصي والآثام رحيما بهم فيضاعف حسناتهم ويزيدهم على ماوعدوا يسالك يا محمد أهل الكتاب الذين فرقوا بين الرسل أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقالوا : إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند الله تعالى فأتنا بألواح من عنده تعالى فطالبوا أن يكون المنزل جملة وأن يكون بخط سماوى وروى ذلك عن محمد بن كعب القرظى والسدى
وعن قتادة أنهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم وقريب منه ما أخرجه ابن جرير عن ابن جريج قال : إن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه و سلم لن نبايعك على ماتدعونا اليه حتى تأينا بكتاب من عند الله تعالى من الله تعالى إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله وماكان مقصدهم بذلك إلا التحكم والتعنت قال الحسن : ولو
(6/5)
سألوه ذلك استرشادا لاعنادا لأعطاهم ماسألوا فقد سألوا موسى عليه السلام شيئا أو سؤلا أكبر من ذلك المذكور وأعظم والفاء فى جواب الشرط مقدر والجواب مؤل ليصح الترتيب أى إن استكبرت هذا وعرفت ماكانوا عليه تبين لك رسوخ عرقهم فى الكفر وقيل : إنها سببية والتقدير لاتبال ولاتستكبر فانهم قد سألوا موسى عليه السلام ماهو أكبر وهذه المسألة وإن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا على سيرتهم فى كل مايأتون ويذرون أسند اليهم وجعله بعض المحققين من قبيل إسناد ماللسبب للمسبب وجوز أن من إسناد فعل البعض إلى الكل بناءا على كمال الاتحاد نحو قومى هم قتلوا أميم أخى فاذا رميت يصيبنى سهمى فيكون المراد بضمير سألوا جميع أهل الكتاب لصدور السؤال عن بعضهم وأن يكون المراد بأهل الكتاب أيضا الجميع فيكون اسناد يسألك إلى أهل الكتاب من ذلك الاسناد وأن يكون المراد بهم هذا النوع ويكون المراد بيان قبائح فلا تكلف ولاتجوز لا فى جانب الضمير ولا فى المرجع
وأنت تعلم أن إسناد فعل البعض الى الكل ممألف فى الكتاب العزيز ووقع فى نحو ألف موضع
وقرأ الحسن أكثر بالمثلثة فقالوا أرنا الله الذي أرسلك حهرة أى مجاهرين معاينين فهو فى موضع الحال من المفعول الأول كما قال أبو البقاء ويحتمل الحالية من المفعول الثانى أى معاينا على صيغة المفعول ولالبس فيه لاستلزام كل منهما للآخر فلا يقال : إنه يتعين كونه حالا من الثانى لقربه منه
وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف هو الرؤية لا الاراءة لأن الجهرة فى كتب اللغة صفة للأول لا الثانى فيقال : التقدير أرنا نره رؤية جهرة وقيل : يقدر المصدر الموصوف سؤلا أى سؤلا جهرة وقيل : قولا أى قولا جهرة ويؤيد هذا ماأخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال فى الآية : إنهم إذا رأوه فقد رأوه إنما قالوا جهرة أرنا الله تعالى فهو مقدم ومؤخر وفيه بعد والفاء تفسيرية فأخذتهم أى أهلكتهم لما سألوه وقالوا ماقالوا الصاعقة وهى نار جاءت من السماء
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : الصاعقة الموت أماتهم الله تعالى قبل آجالهم عقوبة بقولهم ماشاء الله تعالى أن يميتهم ثم بعثهم وفى ثبوت ذلك تردد
وقرأ عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه الصعقة بظلمهم أى بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل فى تلك الحالة التى كانوا عليها وإنكار طلب الكفار للرؤية تعنتا لايقتضى امتناعها مطلقا واستدل الزمخشرى بالآية على الامتناع مطلقا وبنى ذلك على كون الظلم المضاف اليهم لم يكن إلا لمجرد أنهم طلبوا الرؤية ثم قالوا : ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا به ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة كما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلم إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولارماه بالصواعق ثم أرعد وأبرق ودعا على مدعى جواز الرؤية بما هو به أحق
وأنت تعلم أن الرجل قد استولى عليه الهوى فغفل عن كون اليهود إنما سألوا تعنتا ولم يعتبروا المعجز من حيث هو أن المعجزات سواسية الاقدام فى الدلالة ويكفيهم ذلك ظلما والتنظير بسؤال إبراهيم عليه الصلاة السلام من العجب العجاب كما لايخفى على ذوى الألباب ثم اتخذوا العجل وعبدوه
(6/6)
من بعد ماجاءتهم البينات أى المعجزات التى أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها أو الحجج الواضجة الدالة على ألوهيته تعالى ووحدته لاالتوراة لأنها إنما نزلت عليهم بعد الاتخاذ فعفونا عن ذلك الاتخاذ حين تابوا وفى هذا على ماقيل : استدعاء لهم التوراة كأنه قيل : إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضا حتى نعفو عنكم
واتينا موسى سلطانا مبينا
153
- أى تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم أن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم وهذا على ماقيل : وإن كان قبل العفو فان الأمر بالقتل كان قبل التوبة لأن قبول القتل كان توبة لهم لكن الواو لاتقتضي الترتيب واستظهر أن لايجعل التسلط ذلك التسلط بل تسلطا بعد العفو حيث انقادوا له ولم يتمكنوا بعد ذلك من مخالفته ورفعنا فوقهم الطور وهو ماروى عن قتادة جبل كانوا فى أصله فرفعه الله تعالى فجعله فوقهم كأنه ظلة وكان كمسكرهم قدر فرسخ فى فرسخ وليس هو على مافى البحر الجبل المعروف بطور سيناء والظرف متعلق برفعنا وجوز أن يكون حالا من الطور أى رفعنا الطور كائنا فوقهم بميثاقهم أى بسبب ميثاقهم ليعطوه على ماروى أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع عليهم فقبلوها أو ليخافوا فلا ينقضوا الميثاق على ماروى أنهم هموا بنقضه فرفع عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقيض قيل : وهو الأنسب بقوله تعالى بعد : وأخذنا منهم ميثاقا غليظا وزعم الحبائى أن المراد بنقض ميثاقهم الذى أخذ عليهم بأن يعلموا بما فى التوراة فنقضوه بعبادة العجل وفيه إن التوراة إنما نزلت بعد عبادتهم العجل كما مر آنفا فلايتأتى هذا وقال أبو مسلم : إنما رفع الله تعالى الجبل فوقهم إظلالا لهم من الشمس جزاءا لعدهم وكرامة لهم ولايخفى أن هذا خرق لاجماع المفسرين وليس له مستند أصلا
وقلنا لهم على لسان يوشع عليه السلام بعد مضى زمان التيه ادخلوا الباب قال قتادة فيما رواه ابن المنذر وغيره عنه : كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس وقيل : هو ايلياء وقيل : أريحاء وقيل : هو اسم قرية أو قلناهم على لسان موسى عليه السلام والطور مظل عليهم ادخلوا الباب المذكور إذا خرجتم من التيه أو باب القبة التى كانوا يصلون اليها لأنهم لم يخرجوا من التيه فى حياته عليه السلام والظاهر عدم القيد سجدا متطامنين وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ركعا وقيل : ساجدين على جباهكم شكرا لله تعالى وقلناهم على لسان داود عليه السلام لاتعدوا أى لاتتجاوزوا ماأبيح لكم أولا لاتظلموا باصطياد الحيتان فى السبت ويحتمل كما قال القاضى بيض الله تعالى غرة أحواله أن يراد على لسان موسى عليه السلام حين ظلل الجبل عليهم فانه شرع السبت لكن كان الاعتداء فيه والمسخ فى زمن داود عليه السلام وقرأ ورش عن نافع لاتعدوا بفتح العين وتشديد الدال وروى عن قالون تارة سكون العين سكونا محضا وتارة إخفاء فتحة العين فأما الأول فأصلها تعتدوا لقوله تعالى : اعتدوا منكم فى السبت فانه يدل على أنه من الاعتداء وهو افتعال من العدوان فأريد إدغام تائه فى الدال فنقلت حركتها إلى العين وقلبت دالا وأدغمت وأما السكون المحض فشىء لايراه النحويون لأنه جمع بين ساكنين على غير حدهما وأما الإخفاء والاختلاس فهو أخف من ذلك لما أنه قريب من الاتيان بحركة ما وقرأ الاعمش تعتدوا
(6/7)
على الاصل وأصل تعدوا فى القراءة المشهورة تعدووا بواوين الأولى واو الكلمة والثانية ضمير الفاعل فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فحذفت فالتقى ساكنان فحذف الأول وهو الواو الاولى وبقى ضمير الفاعل وأخذنا منهم ميثاقا غليظا
154
- أى عهدا وثيقا مؤكدا بأن يأتمروا بأوامر الله تعالى وينتهوا عن مناهيه قيل : هو قولهم : سمعنا وأطعنا وكونه ميثاقا ظاهر وكونه غليظا يؤخذ من التعبير بالماضى أو من عطف الاطاعة على السمع بناءا على تفسيره بها وفى أخذ ذلك مماذكر خفاء لايخفى وحكى أنهم بعد أن قبلوا ماكلفوا به ممن الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه فالله تعالى يعذبهم بأى أنواع العذاب أراد فان صح هذا كانت وكادة الميثاق فى غاية الظهور وزعم بعضهم أن هذا الميثاق هو الميثاق الذى أخذه الله تعالى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتصديق بمحمد صلى الله عليه و سلم والايمان به وهو المذكور فى قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم الاية وكونه غليظا باعتبار أخذه من كل نبى نبى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخذ كل واحد واحد له من أمته فهو ميثاق مؤكد متكرر ولايخفى أنه خلاف الظاهر الذي يقتضيه السياق فبما نقضهم ميثاقهم فى الكلام مقدر والجار والمجرور متعلق بقدر أيضا والباء للسببية ومامزيد لتوكيدها والإشارة إلى أنها سببية قوية وقد يفيد ذلك الحصر بمعونة المقام كما يفيده التقديم على العامل إن التزم هنا وجوز أن تكون ما نكرة تامة ويكون نقضهم بدلا منهما أى فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم وان شئت أخرت العامل
واختار أبوحيان عليه الرحمة تقدير لعناهم مؤخرا لوردوه مصرحا به كذلك فى قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجوز غير واحد تعلق الجار بحرمنا الآتى على أن قوله تعالى : فبظلم بدل من قوله سبحانه : فبما نقضهم واليه ذهب الزجاج وتعقبه فى البحر بأن فيه بعدا لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ولأن المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم عن التحريم فلايمكن أن يكون جزء سبب أو سببا إلا بتأويل بعيد وبيان ذلك إن قولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح متأخر فى الزمان عن تحريم الطيبات عيهم واستحسنه السفاقسى ثم قال : وقد يتكلف لحله بأن دوام التحريم فى كل زمن كابتدائه وفيه بحث وجعل العلامة الثانى الفاء فى فبظلم على هذا التقدير تكرارا للفاء فى فبما نقضهم عطفا على أخذنا منهم أو جزاء شرط مقدر واستبعده أيضا من وجهين : لفظى ومعنوى وبين الأول بطول الفصل وبكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف أو الجزاء مع القطع بأن المعمول هو الجار والمجرور فقط والثانى بدلالته على أن تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة ومترتب عليه ثم قال : ولو جعلت الفاء للعطف على فبما نقضهم كمافى قولك : بزيد وحسنه أو فبحسنه أو ثم حسنه افتتنت لم يحتج إلى جعله بدلا وجوز أبو البقاء وغيره التعلق بمحذوف دل عليه قوله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم ورد بأن ذلك لايصلح مفسرا ولاقرينة للمحذوف أما الأول فلتعلقه بكلام آخر لأنه رد وإنكار لقولهم قللوبنا غلف وأما الثانى فلأنه استطراد يتم الكلام دونه وكونه قرينة لما هو عمدة فى الكلام يوجب أن لايتم دونه
والحاصل أنه لابد للقرينة من التعلق المعنوى بسابقتها حتى تصلح لذلك ومنه يعلم أنه لامورد للنظر بأن الطبعين
(6/8)
متوافقان فى العروض أحدهما بالكفر والآخر بالنقض وقيل : هو متعلق بلا يؤمنون والفاء زائدة وقيل : بما دل عليه ولايخفى رد ذلك وكفرهم بآيات الله أى حججه الدالة على صدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام والقرآن أو فى كتابهم لتحريفه وإنكاره وعدم العمل به وقتلهم الأنبياء بغير حق كزكريا ويحيى عليه السلام وقولهم قلوبنا غلف جمع غلاف بمعنى الظرف وأصله غلف بضمتين فخفف أى أوعية للعلم فنحن مستغنون بما فيها عن غيره وقاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وعطاء وقال الكلبى : يعنون إن قلوبنا بحيث لايصل اليها شىء إلا وعته ولو كان فى حديثك شىء لوعته أيضا ويجوز أن يكون جمع أغلف أى هى مغشاة بأغشية خلقية لايكاد يصل اليها ماجاء به محمد صلى الله عليه و سلم فيكون كقوله تعالى : وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا اليه
بل طبع الله عليها بكفرهم كلام معترض بين المعطوفين جىء به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد زعمهم الفاسد أى ليس الأمر كما زعمتم من أنها أوعيه العلم فانها مطبوع عليها محجوبة من العلم لم يصل اليها شىء منه كالبيت المقفل المختوم عليه والباء للسببية وجوز أن تكون للآلة ويجوز أن يكون المعنى ليس عدم وصول الحق إلى قلوبكم لكونها فى أكنة وحجب خلقية كما زعمتم بل لأن الله تعالى ختم عليها بسبب كفركم الكسبى وهذا الطبع بمعنى الخذلان والمنع من التوفيق للتدبر فى الآيات والتذكر بالمواعظ عند الكثير وطبع حقيقى عند البعض وأيد بما أخرجه البزاز عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما عن النبى صلى الله عليه و سلم قال : الطابع معلق بقائمة العرش فاذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصى واجترىء على الله تعالى بعث الله تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئا وأخرجه البهقى أيضا فى الشعب الا أنه ضعفه
فلايؤمنون إلاقليلا نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أى إلا ايمانا قليلا فهو كالتصديق بنبوة موسى عليه السلام وهو غير مفيد لأن الكفر بالبعض كفر بالكل كما مر أو صفة لزمان محذوف أى زمانا قليلا أو نصب على الاستثناء من ضمير لايؤمنون أى إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه ورده السمين بأن الضمير عائد على المطبوع على قلوبهم ومن طبع على قلبه بالكفر لايقع منه إيمان وأجيب بأن المراد بما مر الاسناد إلى الكل ماهو للبعض باعتبار الأكثر
وقال عصام الملة : كما يجب استثناء القليل من عدم الايمان المتفرع على الطبع على قلوبهم يجب استثناء قليل من القلوب من قلوبهم فكأن المراد بل طبع الله تعالى على أكثرها فليفهم وبكفرهم عطف على بكفرهم الذي قبله ولايتوهم أنه من عطف الشىء على نفسه ولافائدة فيه لأن المراد بالكفر المعطوف الكفر بعيسى عليه السلام والمراد بالكفر المعطوف عليه إما الكفر المطلق أو الكفر بمحمد صلى الله عليه و سلم لاقترانه بقوله تعالى : قلوبنا غلف وقد حكى الله تعالى عنهم هذه المقالة فى مواجهتهم اله عليه الصلاة و السلام فى مواضع ففى العطف إيذان بصلاحية كل من الكفرين للسببية
وقد يعتبر فى جانب المعطوف المجموع ومغايرته للفرد المعطوف عليه ظاهرة أو عطف على فبما نقضهم ويجوز اعتبار عطف مجموع هذا وماعطف عليه على مجموع ماقبله ولايتوهم المحذور وإن قلنا باتحاد الكفر أيضا لمغايرة المجموع للمجموع وإن لم يغاير بعض أجزائه بعضا وقد يقال بمغايرة الكفر فى المواضع الثلاثة
(6/9)
بحمله فى الأخيرين على مأشرنا اليه وفى الأول على الكفر بموسى عليه السلام لاقترانه بنقض الميثاق وتقدم حديث العدو فى السبت وقولهم على مريم بهتانا عظيما لايقادر قدره حيث نسبوها وحاشاها إلى ماهى عنه فى نفسها بألف ألف منزل وتمادوا على ذلك غير مكترثين بقيام المعجزة بالبراءة والبهتان الكذب الذي يتحير من شدته وعظمه ونصبه على أنه مفعول به لقولهم وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أى قولا بهتانا وقيل : هو مصدر فى موضع الحال أى مباهتين وقولهم على سبيل التبجح
إنا قتلنا المسيح ابن مريم رسول الله ذكروه بعنوان الرسالة تهكما واستهزاءا كما فى قوله تعالى حكاية عن ةالكفار : ياأيها الذي نزل عليه الذكر الخ ويحتمل أن يكون ذلك منهم بناءا على قوله عليه الصلاة و السلام وإن لم يعتقدوه وقيل : إنهم وصفوه بغير ذلك من صفات الذم فغير فى الحكاية فيكون من الحكاية لامن المحكى وقيل : هو استئناف منه مدحا عليه الصلاة و السلام ورفعا لمحله وإظارا لغاية جراءتهم فى تصديهم لقتله ونهاية وقاحتهم فى تبجحهم وماقتلوه وماصلبوه حال أواعتراض ولكن شبه لهم روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رهطا من اليهود سبوه عليه السلام وأمه فدعا عليهم فمسخوا قردة وخنازير فبلغ ذلك يهوذا رأس اليهود فخاف فجمع اليهود فاتفقوا على قتله فساروا اليه ليقتلوه فأدخله جبريل عليه السلام بيتا ورفعه منه إلى السماء ولم يشعروا بذلك فدخل عليه طيطانوس ليقتله فلم يجده وأبطأ عليهم وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فلما خرج قتلوه وصلبوه
وقال وهب بن منبه فى خبر طويل رواه عنه ابن المنذر : أتى عيسى عليه السلام ومعه سبعة وعشرون من الحواريون فى بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صيرهم الله تعالى كلهم على صورة عيسى عليه السلام فقالوا لهم : سحرتمونا ليبرز لنا عيسى عليه السلام أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه : من يشترى نفسه منكم اليوم بالجنة فقال رجل منهم : أنا فخرج إليهم فقال : أنا عيسى عليه فقتلوه وصلبوه ورفع الله تعالى عيسى عليه السلام وبه قال قتادة والسدى ومجاهد وابن إسحق وإن اختلفوا فى عدد الحواريين ولم يذكر أحد غير وهب أن شبهه عليه السلام ألقى على جميعهم بل قالوا : ألقى شبهه على واحد ورفع عيسى عليه السلام من بينهم
ورجح الطبرى قول وهب وقال : انه الأشبه وقال أبو على الجبائى : إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه على موضع عال ولم يمكنوا أحدا من الدنو منه فتغيرت حليته وقالوا : إنا قتلنا عيسى ليوهموا بذلك على عوامهم لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي به عيسى عليه السلام فلما دخلوه ولم يجدوه فخافوا أن يكون ذلك سببا لايمان اليهود ففعلوا مافعلوا وقبل : كان رجل من الحوايين ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه وأخذ على ذلك ثلاثين درهما فدخل بيت عيسى عليه السلام فرفع عليه السلام وألقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام وقيل : عير ذلك و شبه مسند الى الجار والمجرور والمراد وقع لهم تشبيه بين عيسى عليه السلام ومن صلب أو فى الأمر على قول الجبائى أو هو مسند إلى ضمير المقتول الذى دل عليه إنا قتلنا أى شبه لهم من قتلوه بهيسى عليه السلام أو الضمير للامر و شبه من الشبهة أى التبس عليهم الأمر بناءا على ذلك ةالقول وليس المسند اليه ضمير المسيح عليه الصلاة و السلام لأنه مشبه به لامشبه وإن الذين اختلفوا فيه أى فى شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك
(6/10)
الواقعة اختلف الناس فقال بعضهم : إنه كان كاذبا فقتلناه حقا وتردد آخرون فقال بعضهم : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى ! وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا وقال من سمع منه إن الله تعالى يرفعنى إلى السماء وقالت النصارى الذين يدعون ربويته عليه السلام : صلب الناسوت وصعد اللاهوت ولهذا لايعدون القتل نقيصة حيث لم يضيفوه إلى اللاهوت ويرد هؤلاء إن ذلك عند اليعقوبية القائلين : إن المسيح قد صار بالاتحاد طبيعة واحدة إذ الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميز عن لاهوت والشىء الواحد لايقال : مات ولم يمت وأهين ولم يهن
وأما الروم القائلون : بأن المسيح بعد الاتحاد باق على طبيعتين فيقال لهم : فهل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل فان قالوا : فارقه فقد أبطلوا دينهم فلم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلا بالاتحاد وإن قالوا : لم يفارقه فقد التزموا ماورد على اليعقوبية وهو قتل اللاهوت مع الناسوت وإن فسروا الاتحاد بالتدرع وهو أن الإله جعله مسكنا وبيتا ثم فارقه عند ورود ماورد على الناسوت أبطلوا آلهيته فى تلك الحالة وقلنا لهم : أليس قد أهين وهذا القدر يكفى فى إثبات النقيصة إذ لم يأنف اللاهوت لمسكنه أن تناله هذه النقائص فان كان قادرا على نفيها فقد أساء مجاورته ورضى بنقيصته وذلك عائد بالنقص عليه فى نفسه وإن لم يكن قادرا فذلك أبعد له عن عز الربوبية وهؤلاء ينكرون إلقاء الشبه ويقولون : لايجوز ذلك لأنه إضلال ورده أظهر من أن يخفى ويكفى فى اثباته أنه لو لم يكن ثابتا لزم تكذيب المسيح وإبطال نبوته بل وسائر النبوات على أن قولهم فى الفصل إن المصلوب قال : إلهى إلهى لم ترتكتنى وخذلتنى وهو ينافى الرضا بمر القضا ويناقض التسليم لأحكام الحكيم وأنه شكى العطش وطالب الماء والانجيل مصرح بأن المسيح كان يطوى أربعين يوما وليلة إلى غير ذلك مما لهم فيه إن صح مما ينادى على أن المصلوب هو الشبه كما لايخفى
فالمراد من الموصول مايعم اليهود والنصارى جميعا لفى شك منه أى لفى تردد وأصل الشك أن يستعمل فى تساوى الطرفين وقد يستعمل فى لازم معناه وهو التردد مطلقا وإن لم يترجح أحد طرفيه وهو المراد هنا ولذا أكده بنفى العلم الشامل لذلك أيضا بقوله سبحانه : مالهم من علم الا اتباع الظن والاستثناء منقطع أى لكنهم يتبعون الظن
وجوز أن يفسرالشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذي تسكن اليه النفس جزما كان أو غيره فالاستثناء حينئذ متصل واليه ذهب ابن عطية إلا أنه خلاف المشهور وماقيل : إن اتباع الظن ليس من العلم قطعا فلا يتصور اتصاله فمدفوع بأن من قال به جعله بمعنى الظن المتبع وماقتلوه يقينا الضمير لعيسى عليه السلام كما هو الظاهر أى ماقتلوه قتلا يقينا أو متيقنين ولايرد أن نفى القتل المتيقن يقتضى ثبوت القتل المشكوك لأنه لنفى القيد ولامانع من أنه قتل فى ظنهم فانه يقتضى أنه ليس فى نفس الأمر كذلك فلاحاجة إلى التزام جعل يقينا مفعولا مطلقا لفعل محذوف والتقدير تيقنوا ذلك يقينا وقيل : هو راجع إلى العلم وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة أى وماقتلوه العلم يقينا من قولهم : قتلت العلم والرأى وقتلت كذا علما إذا تبالغ علمك فيه وهو مجاز كما فى الأساس والمعنى ماعلموه يقينا وقيل : الضمير للظن أى ماقطعوا الظن يقينا ونقل ذلك عن ابن عباس رضى الله تعال عنهما والسدى وحكى ابن الانبارى أن فى الكلام تقديما وتأخيرا وأن يقينا
(6/11)
متعلق بقوله تعالى : بل رفعه الله أى بل رفعه سبحانه إليه يقينا ورده فى البحر بأنه قد نص الخليل على أنه لايعمل مابعد بل فيما قبلها : والكلام رد وإنكار لقتله وإثبات لرفعه عليه الصلاة و السلام وفيه تقدير مضاف عند أبى حيان أى إلى سمائه قال : وهو حى فى السماء الثانية على ماصح النبى صلى الله عليه و سلم فى حديث المعراج وهو هنالك مقيم حتى ينزل الى الأرض يقتل الدجال ويمؤلها عدلا كما ملئت جورا ثم يحيا فيها أربعين سنة أو تمامها من سن رفعه وكان إذ ذاك ابن ثلاث وثلاثين سنة ويموت كما تموت البشر ويدفن فى حجرة النبى صلى الله عليه و سلم أو فى بيت المقدس وقال قتادة : رفع الله تعالى عيسى عليه السلام اليه فكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش فصار إنسيا ملكيا سماويا أرضيا وهذا الرفع على المختار كان قبل صلب الشبه وفى إنجيل لوقا مايؤيده : وأما رؤية بعض الحواريين له عليه السلام بعد الصلب فهو من باب تطور الروح فان للقدسيين قوة التطور فى هذا العالم وإن رفعت أرواحهم إلى المحل الأسنى وقد وقع التطور لكثير من أولياء هذه الأمة وحكاياتهم فى ذلك يضيق عنها نطاق الحصر وكان الله عزيزا لايغلب فيما يريده حكيما
158
- فى جميع أفعاله فيدخل فيه تدبيراته سبحانه فى أمر عيسى عليه السلام وإلقاء الشبه على من ألقاه دخولا أوليا وإن من أهل الكتاب أى اليهود خاصة كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أوهم والنصارى كما ذهب اليه كثير من المفسرين وإن نافية بمعنى ما وفى الجار والمجرور وجهان : أحدهما أنه صفة لمبتدأ محذوف وقوله تعالى : إلا ليؤمنن به قبل موته جملة قسمية والقسم مع جوابه خبر المبتدأ ولايرد عيه أن القسم إنشاء لأن المقصود بالخبر جوابه وهو خبر مؤكد بالقسم ولاينافيه كون جواب القسم لامحل له لأن ذلك من حيث كونه جوابا فلا يمتنع كون له محل باعتبار آخر لو سلم أن الخبر ليس هو المجموع والتقدير وما أحد من أهل الكتاب إلا والله ليؤمنن به والثانى أنه متعلق بمحذوف وقع خبرا لذلك المبتدأ وجملة القسم صفة له لاخبر والتقدير وإن أحد إلا ليؤمنن به كائن من أهل الكتاب ومعناه كل رجل يؤمن به قبل موته من أهل الكتاب وهو كلام مفيد فالاعتراض على هذا الوجه بأنه لاينتظم من أحد والجار والمجرور إسناد لأنه يفيد لحصول الفائدة بلا ريب نعم المعنى على الوجه الأول كل رجل من أهل الكتاب يؤمن به قبل موته والظاهر أنه المقصود وأنه أتم فائدة والاستثناء مفرغ من أعم الأوصاف وأهل الكوفة يقدرون موصولا بعد الا وأهل البصرة يمنعون حذف الموصول وابقاء صلته والضمير الثانى راجع للمبتدأ المحذوف أعنى أحد والأول لعيسى عليه السلام فمفاد الآية أن كل يهودى ونصرانى يؤمن بعيسى عليه السلام قبل أن تزهق روحه بأنه عبد الله تعالى ورسوله ولاينفعه إيمانه حينئذ لأن ذلك الوقت لكونه ملحقا بالبرزخ لما أنه ينكشف عنده لكل الحق ينقطع فيه التكليف ويؤيد ذلك أنه قرأ أبى ليؤمنن به قبل موتهم بضم النون وعود ضمير الجمع لأحد ظاهر لكونه فى معنى الجمع وعوده لعيس عليه السلام غير ظاهر
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه فسر الآية كذلك فقيل له : أرأيت ان خر من فوق بيت قال : يتكلم به فى الهواء فقيل : أرأيت ان ضرب عنقه قال : يتلجلج بها لسانه وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه فسر الآية فقيل له أرأيت إن خر من فوق بيت قال : يتكلم به فى الهواء فقيل : أرأيت إن ضرب عنقه قال : يتلجلج بها لسانه
وأخرج ابن المنذر أيضا عن شهر بن حوشب قال : قال لى الحجاج : ياشهر آية من كتاب الله تعالى
(6/12)
ماقرأتها إلااعترض فى نفسى منها شىء قال الله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته وانى أوتى بالأسارى فأضرب أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئا فقلت : رفعت اليك على غير وجهها إن النصرانى إذا خرجت روحه أى إذا قرب خروجها كما تدل عليه رواية أخرى عنه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره وقالوا : أى خبيث إن المسيح الذى زعمت أنه الله تعالى وأنه ابن الله سبحانه وأنه ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته فيؤمن به حين لاينفعه إيمانه وأن اليهودى إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ودبره وقالوا : أى خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته عبد الله وروحه فيؤمن به حين لاينفعه الإيمان فاذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم فقال : من أين أخذتها فقلت : من محمد بن على قال : لقد أخذتها من معدنها قال شهر : وأيم الله تعالى ما حدثينه إلا أم سلمة ولكنى أحببت أن أغيظه والأخبار بحالهم هذه وعيد لهم وتحريض إلى المسارعة إلى الايمان به قبل أن يضطروا اليه مع انتفاء جدواه وقيل : الضمير ان لعيسى عليه السلام وروى ذلك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أيضا وأبى مالك والحسن وقتادة وابن زيد واختاره الطبرانى والمعنى أنه لايبقى أحد من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه السلام إلا ليؤمنن به قبل أن يموت وتكون الأديان كلها دينا واحدا وأخرج أحمد عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطى المال حتى لايقبل ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعها قال : وتلا أبو هريرة رضى الله تعالى عنه وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته وقيل : الضمير الأول لله تعالى ولايخفى بعده وأبعد من ذلك أنه لمحمد صلى الله عليه و سلم وروى هذا عن عكرمة ويضعفه أنه لم يجر له عليه الصلاة و السلام ذكر هنا ولاضرورة توجب رد الكناية اليه لاأنه كما زعم الطبرى لوكان صحيحا لما جاز إجراء أحكام الكفار على أهل الكتاب بعد موتهم لأن ذلك الايمان إنما هو فى حال زوال التكليف فلا يعتد به ويوم القيامة يكون أى عيسى عليه السلام عليهم أى أهل الكتاب شهيدا
159
- فيشهد على اليهود بتكذيبهم إياه وعلى النصارى بقولهم فيه : إنه ابن الله تعالى والظرف متعلق بشهيدا وتقديمه يدل على جواز تقديم خبر كان مطلقا أو إذا كان ظرفا أو مجرورا لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقديم عامله وجوز أبو البقاء كون العامل فيه يكون
فبظلم من الذين هادوا أى تابوا من عبادة العجل والتعبير عنهم بهذا العنوان إيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير وقوعه بعد تلك التوبة الهائلة إثر بيان عظمه بالتنوين التفخميى أى بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الأشياء والنظائر صادر عنهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ولمن قبلهم لالشىء غيره كما زعموا فانهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التى اقترفوها يحرم عليهم نوع من الطيبات التى كانت محللة لهم لمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم ومع ذلك كانوا يفترون على الله تعالى الكذب ويقولون : لسنا بأول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما عليهم الصلاة والسلام حتى انتهى الأمر الينا فكذبهم الله تعالى فى مواقع كثيرة وبكتهم بقوله سبحانه : كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل الآية وقد تقدم الكلام فيها وذهب بعض المفسرين أن المحرم عليهم ماسيأتى إن شاء الله تعالى فى الانعام مفصلا
(6/13)
واستشكل بأن التحريم كان فى التوراة ولم يكن حينئذ كفر بمحمد صلى الله عليه و سلم وعيسى عليه السلام ولا ماأشار اليه قواله تعالى : وبصدهم عن سبيل الله كثيرا
160
- أى ناسا كثيرا أو صدا أو زمانا كثيرا وقيل فى جوابه : إن المراد استمرار التحريم فتدبر ولاتغفل وهذا معطوف على الظلم وجعله وكذا ماعطف عليه فى الكشاف بيانا له وهو كما قال بعض المحققين لدفع مايقال : إن العطف على المعمول المتقدم ينافى الحصر ومن جعل الظلم وجعل بصدهم متعلقا بمحذوف فلا إشكال عليه ومن هذا يعلم تخصيص ماذكره أهل المعانى من أنه مناف للحصر بما إذا لم يكن الثانى بيانا للأول كما إذا قلت : بذنب ضربت زيدا وبسوء أدبه فان المراد فيه لابغير ذنب وكذا خصصوا ذلك بما إذا لم يكن الحصر مستفادا من غير التقديم وأعيدت الباء هنا ولم تعد قوله تعالى : وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه لأنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولا للمعطوف عليه وحيث فصل بمعموله لم تعد وجملة وقد نهوا حالية وفى الآية دلالة على أن الربا كان مححرما عليهم كما هو محرم علينا وأن النهى يدل على حرمة المنهى عنه وإلا لما توعد سبحانه على مخالفته وأكلهم أموال الناس بالباطل بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة وأعتدنا للكافرين منهم أى للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم كعبد الله بن سلام وأضرابه عذابا أليما
161
- سيذوقونه فى الآخرة كما ذاقوا فى الدنيا عقوبة التحريم وذكر فى البحر أن التحريم كان عاما للظالم وغيره وأنه من باب واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة دون العذاب ولذا قال سبحانه : للكافرين دون لهم وإلى ذلك ذهب الجبائى أيضا فتدبر لكن الراسخون فى العلم منهم استدراك من قوله سبحانه : وأعتدنا الخ وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا و منهم فى موضع الحال أى لكن الثابتون المتقنون منهم فى العلم المستبصرون فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة والمراد بهم عبد الله بن سلام وأسيد وثعلبة وأضرابهم وفى المذكورين نزلت الآية كما أخرجه البيهقى فى الدلائل عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والمؤمنون أى منهم واليه يشير كلام قتادة وقد وصفوا بالإيمان بعد ما وصفوا بماا يوجبه من الرسوخ فى العلم بطريق العطف المبنى على المغايرة بين المتعاطفين تنزيلا للاختلاف العنوانى منزلة الاختلاف العنوانى منزلة الاختلاف الذاتى كما مر وقوله سبحانه : يؤمنون بما أنزل اليك من القرآن وماأنزل من قبلك من الكتب على الأنبياء والرسل حال من المؤمنون مبنية لكيفية إيمانهم وقيل : اعتراض مؤكد لما قبله وقوله تعالى : والمقيمين الصلاة قال سيبويه وسائر البصريين : نصب على المدح وطعن فيه الكسائى بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام وهنا ليس كذلك لأن الخبر سيأتى وأجيب بأنه لادليل على أنه لايجوز الاعتراض بين المبتدأ وخبره وحكى ابن عطية عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف لأن القطع لايكون فى العطف وإنما يكون فى النعوت ومن أدعى أن هذا من باب القطع فى العطف تمسك بما أنشده سيبويه للقطع مع حرف العطف من قوله : ويأوى إلى نسوة عطل وشعثا مراضيع مثل السعالى وقال الكسائى : هو مجرور بالعطف على ماأنزل اليك على أن المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
(6/14)
قيل : وليس المراد باقامة الصلاة على هذا أداؤها بل اظهارها بين الناس وتشريعها ليكون وصفا خاصا وقيل : المراد بالمقيمين الملائكة لقوله تعالى : يسبحون الليل والنهار لايفترون وقيل : المسلمون بتقدير مضاف أى وبين المقيمين وقال قوم : إنه معطوف على ضمير منهم وقيل ضمير اليك وقيل : ضمير قبلك والبصريون لايجيزون هذه الأوجه الثلاثة لما فيها من العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار وقد تقدم الكلام فى ذلك وزعم بعض المتأخرين أن الأشبه نصبه على التوهم لكون السابق مقام لكن المثقلة وضع موضعها لكن المخففة ولايخفى مافيه وبالجملة لايلتفت إلى من زعم أن هذا من لحن القرآن وأن الصواب والمقيمون بالواو كما فى مصحف عبد الله وهى مالك بن دينار والجحدرى وعيس الثقفى إذ لاكلام فى نقل النظم تواترا فلا يجوز اللحن فيه أصلا وأما ماروى أنه لما فرغ من المصحف أتى به الى عثمان رضى الله تعالى عنه فقال : قد أحسنتم وأجملتم أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ولو كان المملى من هذيل والكتاب من قريش لم يوجد فيه هذا فقد قال السخاوى : انه ضعيف والاسناد فيه اضطراب وانقطاع فان عثمان رضى الله تعالى عنه حعل للناس إماما يقتدون به فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراآت واذا لم يقيمه هو ومن باشر الجمع وهم هم كيف يقيمه غيرهم ! وتأول قوم اللحن فى كلامه على تقدرير صحته عنه بأن المراد الرمز والايماء كما فى قوله : منطق رائع وتلحن أحيا نآوخير الكلام ماكان لحنا أى المراد به ةالرمز بحذف بعض الحروف خطآ كألف الصابرين مما يعرفه القراء إذا رأوه وكذا زيادة بعض الحروف وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر
ثم الظاهر أن المقيمين على قراءة الرفع معطوف على سابقه وينزل أيضا التغاير العنوانى منزلة التغاير الذاتى والعطف على ضمير يؤمنون ليس بشىء وكذا الحال فى قوله تعالى : والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله تعالى واليوم الآخر فان المراد بالكل مؤمنوا أهل الكتاب وصفوا أولا بكونهم راسخين فى علم الكتاب لايعترضهم شك ولاتزلزلهم شبهة إيذانا بأن ذلك موجب للايمان وأن من عداهم إنما بقوا مصرين لعدم رسوخهم فيه بل هم كريشة فى بيداء الضلال تقلبهم زعازع الشكوك والأوهام ثم بكونهم مؤمنين بجميع ما أنزل من الكتاب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثم بكونهم عاملين بما فبها من الاحكام واكتفى من بينها بذكر اقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية ولما أن إقامة الصلاة على وجهها انتصابا بين يدى الحق جل جلاله وانقطاعا عن السوى وتوجها إلى المولى كسى المقيمين حلة النصب ليهون عليهم النصب وقطعهم عن التبعية فياما أحيلى قطع يشير إلى الاتصال بأعلى الرتب ثم وصفهم بكونهم بالمبدأ والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه وإحاطتهم به من طرفيه وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا مؤمنين بواحد منهما حقيقة لأنهم قد مزجوا الشهد سما وغدوا عن اتباع الحق الصرف عميا وصما إولئك اشارة إلى الموصوفين بما تقدم من الصفات الجليلة الشأن المحكمة البنيان وهو مبتدأ وقوله تعالى : سنؤتيهم أجرا عظيما خبره والجملة خبر المبتدأ الذي هو
(6/15)
الراسخون والسين لتوكيد الوعد كما قدمنا وتنكير الأجر للتفحيم كما مر غير مرة ولايخفى مافى هذا من المناسبة التامة بين طرفى الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الاليم ووعد الآخرون بالاجر العظيم وجوز غير واحد من المفسرين كون خبر المبتدأ الاول جملة يؤمنون وحمل المؤمنين على أصحاب النبى صلى الله عليه و سلم ممن عدا أهل الكتاب والمناسبة عليه غير تامة وذهب بعضهم إلى أن الاستدراك إنما هو من قوله تعالى : يسئلك أهل الكتاب الآية كأنه قيل : لكن هؤلاء لايسألونك ما يسألك هؤلاء الجهال من إنزال كتاب من السماء لانهم قد علموا صدق قولك فيما قرءوا من الكتب المنزلة على الانبياء عليهم الصلاة والسلام ووجوب اتباعك عليهم فلاحاجة بهم أن يسألوك معجزة أخرى إذ قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ فى قلوبهم مايكفيهم عن ذلك وروى هذا عن قتادة وتجاوب طرفى الاستدراك عليه أتم منه على قول الجمهور
وقرأ حمزة سيؤتيهم بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى : المؤمنون بالله
إنا أوحيتا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا من السماء واحتجاج عليهم بأن شأنه فى الوحى كشأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين لاريب فى نبوتهم وقيل : هو تعليل لقوله تعالى : الراسخون فى العلم
وأخرج إبن اسحق وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : قال سكين وعدى بن زيد : يا محمد مانعلم الله تعالى أنزل على بشر من شىء بعد موسى عليه السلام فأنزل الله تعالى هذه الآية والكاف فى محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أى ايحاءا مثل إيحائنا الى نوح عليه السلام أو حال من ذلك المصدر المقدر معرفا كما هو رأى سيبويه أى إنا أوحينا الايحاء مشبها بايحائنا الخ و ما فى الوجهين مصدرية
وجوز أبو البقاء أن تكون موصولة فيكون الكاف مفعولا به أى أوحينا اليك مثل الذى أوحيناه إلى نوح من التوحيد وغيره وليس بالمرضى و من بعده متعلق بأوحينا ولم يجوزوا أن يكون حالا من النبيين لأن ظروف الزمان لاتكون أحوالا للجثث وبدأ سبحانه بنوح عليه السلام تهديدا لهم لأنه أول نبى عوقب قومه وقيل : لأنه أول من شرع الله تعالى على لسانه الشرائع والأحكام وتعقب بالمنع وقيل : لمشابهته بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فى عموم الدعوة لجميع أهل الأرض ولايخلوا عن نظر لأن عموم دعوته عليه السلام اتفاقى لاقصدى وعموم الفرق على القول به وسيأتى إن شاء الله تعالى تحقيقه ليس قطعى الدلالة على ذلك كما لايخفى
وأوحينا إلى ابراهيم عطف على أوحينا إلى نوح داخل معه فى حكم التشبيه أى كما أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وهم أولاد يعقوب عليه السلام فى المشهور وقال غير واحد : إن الأسباط فى ولد إسحق كالقبائل فى أولاد إسماعيل وقد بعث منهم عدة رسل فيجوز أن يكون أراد سبحانه بالوحى اليهم إلى الانبياء منهم كما تقول : أرسلت الى بنى تميم وتريد أرسلت الى وجوههم ولم يصلح أن الأسباط الذين هم أخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء بل الذي صح عندى وألف فيه الجلال السيوطى رسالة خلافه وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ذكروا مع ظهور انتظامهم فى سلك النبيين تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم على ماهو المعروف فى ذكر الخاص بعد العام فى مثل هذا المقام وتكرير الفعل لمزيد تقرير الإيحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحى وبدأ بذكر إبراهيم بعد التكرير
(6/16)
لمزيد شرفه ولأنه الأب الثالث للانبياء عليهم الصلاة والسلام كما نص عليه الأجهورى وغيره وقدم عيسى عليه السلام على من بعده تحقيقا لنبوته وقطعا لما رآه اليهود فيه وقيل : ليكون الابتداء بواحد من أولى العزم بعد تغير صفة المتعاطفات إفرادا وجمعا وكل هذه الأسماء على ماذكره أبو البقاء أعجمية إلا الاسباط وفى ذلك خلاف معروف وفى يونس لغات أفصحها ضم النون من غير همز ويجوز فتخها وكسرها مع الهمز وتركه وإتينا داود زبورا عطف على أوحينا داخل فى حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء وكما آتينا داود زبورا وإيثاره على أوحينا إلى داود لتحقق المماثلة فى أمر خاص وهو إيتاء الكتاب بعد تحققها فى مطلق الإيحاء والزبور بفتح الزاى عند الجمهور وهو فعول بمعنى مفعول كالحلوب والركوب كما نص عليه أبو البقاء
وقرأ حمزة وخلف زبورا بضم الزاى حيث وقع وهو جمع زبر بكسر فسكون بمعنى مزبور أى مكتوب أو زبر بالفتح والسكون كفلس وفلوس وقيل : إنه مصدر كالقعود والجلوس وقيل : إنه جمع زبور على حذف الزوائد وعلى العلات جعل اسما للكتاب المنزل على داود عليه السلام وكان إنزاله عليه السلام منجما وبذلك يحصل الالزام وكان فيه كما قال القرطبى مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هى حكم ومواعظ والتحميد والتمجيد والثناء على الله تعالى ورسلا نصب مضمر أى أرسلنا رسلا والقرينة عليه قوله سبحانه : أوحينا السابق لاستلزامه الارسال وهو معطوف عليه داخل معه فى حكم التشبيه وقيل : القرينة قوله تعالى : قد قصصناهم عليك لا أنه منصوب بقصصنا بحذف مضاف أى قصصنا أخبار رسل ولاأنه منصوب بنزع الخافض أى كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل كما قيل لخلوه عما فى الوجه الاول من تحقيق المماثلة بين شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين شئون من يعترفون بنبوته من الانبياء عليهم السلام فى مطلق الإيحاء ثم فى إيتاء الكتاب ثم فى الارسال فان قوله سبحانه : إنا أوحينا اليك منتظم لمعنى آتيناك و أرسلناك حتما فكأنه قيل : إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى فلان وفلان وآتيناك مثل ماآتينا فلانا وأرسلناك مثل ماأرسلنا الرسل الذي قصصناهم وغيرهم ولاتفاوت بينك وبينهم فى حقيقة الإيحاء والارسال فما للفكرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام ومعنى قصهم عليه عليه الصلاة و السلام حكاية إخبارهم له وتعريف شأنهم وأمورهم من قبل أى من قبل هذه السورة أو اليوم قيل : قصهم عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة فى سورة الانعام وغيرها وقال بعضهم : قصهم سبحانه عليه الصلاة و السلام بالوحى فى غير القرآن ثم قصهم عليهم بعد فى القرآن ورسلا لم نقصصهم عليك أى منقبل فلا تنافى الآية ماورد فى الخبر من أن الرسل ثلثمائة وثلاثة عشر والانبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وعن كعب أنهم ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفا لأن نفى قصهم من قبل لايستلزم نفى قصهم مطلقا فان نفى الخاص لايستلزم نفى العام فيمكن أن يكون قصهم عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد فعلهم فأخبر بماأخبر على أن القبيلة تفهم من الكلام ولو لم تكن فى القابل لأن لم فى المشهور إذا دخلت على المضارع تقلب معناه للمضى على أن القص ذكر الأخبار ولايلزم من نفى ذكر أخبارهم له صلى الله تعالى عليه وسلم ففى ذكر ععدهم مجردا من ذكر الأخبار والقصص فيمكن أن يقال : لم يذكر سبحانه له صلى الله تعالى عليه وسلم أخبارهم أصلا لكن ذكر جل شأنه له عليه الصلاة و السلام أنهم كذا رجلا فاندفع ماتوهمه بعض المعاصرين من أن الآية نص فى عدم علمه وحاشاه عليه الصلاة و السلام
(6/17)
عدة المرسلين عليهم الصلاة والسلام فيأخذ بها ويرد الحديث وكأن الذى أوقعه فى الوهم كلام بعض المحققين : والأولى أن لايقتصر على عدد الآية فأخطأ فى الفهم ومات فى ربقة التقليد نسأل الله تعالى العافية
وكلم الله موسى برفع الجلالة ونصب موسى وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرآ على القلب
تكليما
164
- مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز على ماذكره غير واحد نظر فيه الشهاب بأنه مؤكد للفعل فيرفع المجاز عنه وأما رفعه المجاز عن الاسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة كما يقال قال الخليفة كذا إذا قاله وزيره فلا مع أنه أكد الفعل والمراد به معنى مجازى كقول هند بنت النعمان فى زوجها روح ابن زنباع وزير عبد الملك بن مروان : بكى الخز من روح وأنكر جلده وعجت عجيجا من جذام المطارف فأكدت عجت مع أنه مجاز لأن الثياب لاتعج وما نقل عن الفراء من أن العرب تسمى ماوصل إلى الانسان كلاما بأى طريق وصل مالم يؤكد بالمصدر فاذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام لايفى بالمقصود إذ نهاية مافيه رفع المجاز عن الفعل فى هذه المادة ولاتعرض له لرفع المجاز عن الاسناد فللخصم أن يقول : التكليم حقيقة إلا أن اسناده الى الله تعالى مجاز ولاتقوم الآية حجة عليه إلا بنفى ذلك الاحتمال نعم إنها ظاهرة فيما ذهب اليه أهل السنة والجملة إما معطوفة على قوله تعالى : إنا أوحينا اليك عطف القصة على القصة لا على آتينا وماعطف عليه وإما حال بتقدير قد كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحى وأعلاها وقد خص به من بين الأنبياء الذين اعترفتم بنبوتهم موسى عليه السلام ولم يقدح ذلك أصلا فكيف يتوهم أن نزول التوراة عليه جملة قادح فى نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور حكمة ذلك
هذا وقد تقدم لك كيفية سماع موسى عليه السلام لكلام الله عز و جل وقد وقع التكليم أيضا لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم فى الإسراء مع زيادة رفعة بل مامن معجزة لنبى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا لنبينا صلى الله عليه و سلم مثلها مع زيادة شرف له شرفه الله تعالى بل مامن ذرة نور شعت فى العالمين إلا تصدقت بها شمس ذاته صلى الله تعالى عليه وسلم ولله سبحانه در البوصيرى حيث يقول : وكل آى أتى الرسل الكرام بها فنما اتصلت من نوره بهم فصلى الله تعالى عليه وسلم تسليما كثيرا رسلا مبشرين ومنذرين نصب على المدح أو بأضمار أرسلنا أوعلى الحال من رسلا الذى قبله أو ضميره وهى حال موطئة والمقصود وصفها وضعف هذا بأنه حينئذ لاوجه للفصل بين الحال وذيها وجوز أن يكون نصبا على البدلية من رسلا الأول وضعف بأن اتحاد البدل والمبدل منه لفظا بعيد وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أى مبشرين من آمن وأطاع بالجنة والثواب ومنذرين من كفر وعصى بالنار والعقاب لئلا يكون للناس على الله حجة أى معذرة يعتذرون بها قائلين لولا أرسلت الينا رسولا فيبين لنا شرائعك ويعلمنا مام نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن إدراك جزيئات المصالح وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها فالآية ظاهرة فى أنه لابد من الشرع وإرسال الرسل وأن العقل لايغنى عن ذلك وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التى تعترى الانسان من دون اختيار فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على الله حجة وسيأتى
(6/18)
رد ذلك ان شاء الله تعالى مع تحقيق هذا المبحث وتسمية مايقال عند ترك الارسال حجة مع اسحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجة مجاز بتنزيل المعذرة فى القبول عنده تعالى بمقتضى كرمة ولطفه منزلة الحجة القاطعة التى لامرد لها فلا يبطل قول أهل السنة أنه لااعتراض لأحد على الله تعالى فى فعل من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ماشاء واللام متعلقة بأرسلنا المقدر أو بمبشرين ومنذرين على التنازع وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه و حجة اسم كان وخبرها للناس و على الله حال من حجة ويجوز أن يكون الخبر على الله و للناس حال ولايجوز أن يتعلق على بحجة لأنها مصدر ومعموله لايتقدم عليه ومن جوزه فى الظرف جوزه هنا وقوله تعالى : بعد الرسل أى بعد إرسالهم وتبليغ الشريعة على ألسنتهم ظرف لحجة وجوز أن يكون صفة لها لأن ظرف الزمان يوصف به المصادر كما يخبر به عنها وكان الله عزيزا لايغالب فى أمر يريده
حكيما
165
- فى جميع أفعاله ومن قضية ذلك الامتناع عن إجابة مسألة المتعنتين وقطع الحجة بارسال الرسل وتنوع الوحى إليهم والاعجاز وقيل : عزيزا فى عقاب الكفار حكيما فى الأعذار بعد تقدم الإنذار كأنه بعد أن سألوا إنزال كتاب الله تعالى لكن الله يشهد بتخفيف النون ورفع الجلالة
وقرأ السليمى بتشديد النون ونصب الجلالة وهو استدراك عن مفهوم ماقبله كأنهم لما سألوه صلى الله تعالى عليه وسلم إنزال كتاب من السماء وتعنتوا ورد عليهم بقوله تعالى : انا أوحينا اليك الخ قيل : إنهم لايشهدون لكن الله يشهد
وحاصل ذلك إن لم تلزمهم الحجة ويشهدوا لك فالله تعالى يشهد وقيل : إنه سبحانه لما شبه الايحاء اليه صلى الله تعالى عليه وسلم بالايحاء إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوهم ذلدك التشبيه مزية الايحاء اليهم فاستدرك عنه بأن للايحاء اليك مزية شهادة الله تعالى بما أنزل إليك أى بحقية الذى أنزله اليك وهو القرآن فالجار والمجرور متعلق بيشهد والباء صلة والمشهود به هو الحقية ويجوز أن يكون المشهود به هو النبوة وتعلق بما أنزل تعلق الآلية أى يشهد بنبوتك بسبب ماأنزل اليك لدلالته باعجازه على صدقك ونبوتك ولعل مآل المعنى ومؤداه واحد فان شهادته سبحانه بحقية ماأنزله من القرآن باظهار المعجز المقصود منه اثبات نبوته صلى الله عليه و سلم وأخرج البيهقى فى الدلائل
وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عليه الصلاة و السلام لهم : إنى والله أعلم أنكم تعلمون أنى رسول الله فقالوا : مانعلم ذلك فنزلت لكن الله يشهد وفى رواية ابن جرير عنه أنه لما نزل إنا أوحينا اليك قالوا : مانشهد لك فنزل لكن الله يشهد بما أنزل اليك وقرىء أنزل على البناء للمفعول أنزله بعلمه ذكر فيه أربعة اوجه : الأول أن يكون المعنى أنزله بعلمه الخاص به الذى لايعلمه غيره سبحانه وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان واختاره جماعة من المفسرين والثانى أن يكون المعنى أنزله وهو عالم بأنك أهل لانزاله اليك لقيامك فيه بالحق ودعائك الناس اليه واختاره اليه واختاره الطبرسى والثالث أن يكون المعنى أنزله بما علم من مصالح العباد مشتملا عليه والرابع أن يكون المعنى أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة والعلم على الوجه الأول قيل : بمعنى المعلوم والمراد به التأليف والنظم المخصوص وليس من جعل العلم
(6/19)
مجازا عن ذلك ولو جعل عليه العلم بمعناه المصدرى والباء للملابسة ويكون تأليفه بيانا لتلبسه لا للعلم نفسه صح لكن فيه تجوز من جهة أن التأليف ليس نفس التلبس بل أثره ويحتمل على هذا أن تكون الباء للاآلية كما يقال : فعله بعلمه إذا كان متقنا وعلى ماينبغى فيكون وصفا للقرآن بكمال الحسن والبلاغة وأما على الوجه الثانى والثالث فالعلم بمعناه أو فى الثالث بمعنى المعلوم والظرف حال من الفاعل أو المفعول ومتعلق العلم مختلف وهو أنك أهل لانزاله أو مصالح العباد وظاهر كلام أنه على الثانى حال من الفاعل وعلى الثالث من المفعول وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مطلقا أى إنزالا متلبسا بعلمه وموقع الجملة على الأول موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة على مانص عليه الزمخشرى وعلى الوجهين موقع التقرير والبيان للصلة وقيل : إنها فى الأوجه الثلاثة كالتفسير لأنزل اليك لأنها بيان لانزاله على وجه مخصوص وأما على الوجه الرابع فقد ضمن العلم بمعنى الرقيب والحافظ والظرف حال من الفاعل ويكون أنزله تكريرا ليعلق به ماعلق أو كما قيل ولم يعتبر بعضهم هذا الوجه لأنه لامساس له بهذا المقام وقيل : إن فيه تعظيما لأمر القرآن بحفظه من شياطين الجن المشعر بحفظه أيضا من شياطين الانس فتكون الجملة حينئذ كالتفسير للشهادة أيضا وقرىء نزله والملائكة يشهدون أيضا بما شهد الله تعالى به لانهم تبع له سبحانه فى الشهادة والجملة عطف على ماقبلها وقيل : حال من مفعول أنزله أى أنزله والملائكة يشهدون بصدقه وحقيته وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه صلى الله تعالى عليه وسلم فى دعواه باتيانهم لاعانته عليه الصلاة و السلام فى القتال ظاهرين كما كان فى غزوة بدر وأياما كان فيشهدون من الشهادة وذكر أنه على الوجهه الرابع من الشهود للحفظ وكفى بالله شهيدا
166
- على ماشهد به لك خيث نصب الدليل وأوضح السبيل وأزال الشبه وبالغ فى ذلك على وجه لايحتاج معه إلى شهادة غيره عز و جل
هذا ومن باب الاشارة فى الآيات لايحب الله الجهر بالسوء من القول أى لايحب أن ينتهك العبد ستره إذا صدرت منه هفوة إو اتفقت منه كبوة إلا من ظلم أى الاجهر من ظلمته نفسه برسوخ الملكات الخبيثة فيه فانه مأذون له باظهار مافيه من تلك الملكات وعرضها على أطباء القلوب ليصفوا له دواءها وقيل : لايحب الله تعالى إفشاء سر الربوبية وإظهار مواهب الالوهية او كشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب إلا من ظلم بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقى لا باللسان الفانى أنا الحق وسبحانى ماأعظم شأنى وفى تسمية تلك الغلبة ظلما خفاء لايخفى
وفى ظاهر الآية بشارة عظيمة للمذنبين حيث بين سبحانه أنه لايرضى بهتك الستر إلا من المظلوم فكيف يرضى سبحانه من نفسه أن يهتك ستر العاصين وليسوا بظالميه جل جلاله وإنما ظالموا أنفسهم كما نطق بذلك الكتاب إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين اله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض هؤلاء قوم احتجبوا بالجمع عن التفصيل فأنكروا الرسل لتوهمهم وحدة منافية للكثرة وجمعا مباينا للتفصيل ومن هنا عطلوا الشرائع وأباحوا المحرمات وتركوا الصلوات ويريدون أن يتخذوا بين ذلك الايمان بالكل جمعا وتفصيلا والكفر بالكل سبيلا أى طريقا أولئك هم الكافرون المحجوبون حقا بذواتهم وصفاتهم لأن معرفتهم وهم وغلط وتوحيدهم زندقة وضلال ولقتل واحد منهم أنفع من قتل
(6/20)
ألف حربى على مأشار اليه حجة الاسلام الغزالى قدس سره والذين آمنوا بالله ورسله ولم يرفقوا بين أحد منهم وهم المؤمنون جمعا وتفصيلا لايحجبهم جمع عن تفصيل ولاتفصيل عن جمع كالسادة الصادقين من أهل الوحدة أولئك سوف نؤتيهم أجورهم من الجنات الثلاث وكان الله غفورا يستر ذواتهم وصفاتهم رحيما يرحمهم بالوجود الموهوب الحقانى والبقاء السرمدى يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء أى علما يقينا بالمكاشفة من سماء الروح فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة أى طلبوا المشاهدة ولاشك أنها أكبر وأعلى وأعلى من المكاشفة فأخذتهم الصاعقة أى استولت عليهم نار الانانية وأهلكت استعدادهم بظلمهم وهو طلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم ثم اتخذوا العجل أى عجل الشهوات الذي صاغه سامرى النفس الأمارة من بعد ما جاءتهم البينات الرادعة لهم عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا وهو سطوع نور التجلى من وجهه حتى احتاج إلى أن يستر وجهه بالبرقع رحمة بخفافيش أمته ورفعنا فوقهم الطور أى جعلناه مستوليا عليهم بميثاقهم أى بسبب أن يعطوا الميثاق وأشير بالطور إلى موسى عليه السلام أولى الى العقل ورفعه فوقهم تأييده بالانوار الالهية وقلنا لهم ادخلوا الباب أى باب السير والسلوك الموصل إلى حضيرة القدس ملك الملكوت سجدا خضعا متذليين وقوله تعالى : بل رفعه الله اليه أشير به على ماذكره بعض القوم والعهدة عليه إلى اتصال روحه عليه السلام بالعالم العلوى عند مفارقته للعالم السفلى وذلك الرفع عندهم إلى السماء الرابعة لان مصدر فيضان روحه عليه السلام روحانية فلك الشمس الذى هو بمثابة قلب العالم ولما لم يصل إلى الكمال الحقيقى الذى هو درجة المحبة لم يكن له بد من النزول مرة أخرى فى صورة جسدانية يتبع الملة المحمدية لنيل تلك الدرجة العلية وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب أى أهل العلم العارفين بالمبدأ والمعاد كلهم عن آخرهم قبل موته عليه السلام بالفناء بالله تعالى عز و جل فاذا آمنوا به يكون يوم القيامة أى يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية وانتباهم عن نوم الغفلة شهيدا وذلك بأن يتجلى الحق عليهم فى صورته فبظلم من الذين هادوا وهو عبادتهم عجل الشهوات واتخاذه إلها وامتناعهم عن دخول باب حضيرة القدس واعتدائهم فى السبت بمخالفة الشرع الذى هو المظهر الاعظم والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق الله تعالى واحتجابهم عن توحيد الصفات الذى هو كفر بآيات الله تعالى الى غير ذلك من المساوى مساو لو قسمن على الغوانى
لما أمرهن إلا بالطلاق حرمنا عليهم طيبات عظيمة جليلة وهى مافى الجنات الثلاث أحلت لهم بحسب استعدادهم لولا هذه الموانع وبصدهم عن سبيل الله أى الطريق الموصلة اليه سبحانه كثيرا أى خلقا كثيرا وهى القوى الروحانية وأخهم الربا وهو فضول العلم الرسمى الجدلى الذى هو كشجرة الخلاف لاثمرة له كاللذات البدنية والحظوظ النفسانية وقد نهوا عنه لما أنه الحجاب العظيم وأكلهم أموال الناس بالباطل أى استعمال علوم القوى الروحانية فى تحصيل الخسائس الدنيوية أو أخذ ما فى أيدى العباد برذيلة الحرص والطمع لكن الراسحون فى العلم المستقيمون فى السماع الخاص من الله سبحانه من غير معارضة النفوس واضطراب الأسرار والمؤنون بالايمان العيانى حال كونهم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك من الاحكام الشرعية والاسرار الالهية
(6/21)
والمقيمين الصلاة على أكمل وجه والمؤتون الزكاة ببذل قوامهم فى أصناف الطاعة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أى بالمبدأ والمعاد والمراد من المتعاطفات طائفة واحدة كما قدمنا أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما لايقادر قدره فيما أعد لهم من الجنات إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح الآية التشبيه على حد التشبيه فى قوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم على قول : رسلا مبشرين بتجليات اللطف ومنذرين بتجليات القهر لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل أى لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعد مامحى ذلك بامداد الرسل وكان الله عزيزا فيمنحو صفاتهم ويفنى ذواتهم حكيما فيفيض عليهم من صفاته ويبقيهم فى ذاته حسبما تقتضيه الحكمة لكن الله يشهد بما أنزل اليك لتجليه فيه سبحانه أنزله بعلمه أى متلبسا بعلمه المحيط الذى لايعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض
ومن هنا علم صلى الله تعالى عليه وسلم ماكان وماهو كائن والملائكة هم أصحاب النفوس القدسية يشهدون أيضا لعدم احتجابهم وكفى بالله شهيدا لانه الجامع ولاموجود غيره والله تعالى الموفق للصواب
إن الذين كفروا بما أنزل اليك أو بكل مايجب الايمان به ويدخل ذلك فيه دخولا أوليا والمراد بهم اليهود وكأن الجملة لبيان حكم الله سبحانه فيهم بعد بيان حالهم وتعنتهم وصدوا عن سبيل الله أى دين الاسلام من أراد سلوكه بانكارهم نعت النبى صلى الله عليه و سلم وقولهم : لانعرفه فى كتابنا وأن شريعة موسى عليه السلام لاتنسخ وأن الانبياء لايكونون إلا من أولاد هارون وداود عليما السلام
وقرىء صدوا بالبنا ء للمفعول قد أضلوا بالكفر والصد ضلالا بعيدا 167 لانهم جمعوا بين الضلال والاضلال ولان المضل يكون أقوى وأدخل فى الضلال وأبعد عن الاقلاع عنه إن الذين كفروا بما ذكر آنفا وظلموا محمدا صلى الله عليه و سلم بانكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة أو الناس بصدهم لهم عن الصراط المستقيم والمراد ان الذين جمعوا بين الكفر وهذا النوع من الظلم
لم يكن الله ليغفر لهم لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر والآية فى اليهود على الصحيح وقيل : إنها فى المشركين وماقبلها فى اليهود وزعم بعضهم أن المراد من الظلم ماليس بكفر من سائر أنواع الكبائر وحمل الآية على معنى إن الذين كان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين أصحاب كبائر لم يكن الخ ولايخفى أن ذلك عدول عن الظاهر لم يدع اليه إلا اعتقاد أن العصاة مخلدون فى النار تخليد الكفار والآية تنبو عن هذا المعتقد فانه قد جعل فيها الفعلان كلاهما صلة للموصول فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد آحاده ألا تراك إذا قلت : الزيدون قاموا فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة وسياق الآية أيضا يأبى ذلك المعنى لكن لم يزل ديدن المعتزلة اتباع الهوى فلا يبالون بأى واد وقعوا ولاليهديهم طريقا
168
- إلاطريق جهنم لعدم استعدادهم للهداية الى الحق والاعمال الصالحة التى هى طريق الجنة والمراد من الهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الإسارة كما قال غير واحد : خلقه سبحانه لاعمالهم السيئة المؤدية لهم إلى جهنم حسب استعدادهم أو سوقهم إلى جهنم يوم القيامة بواسطة الملائكة وذكر بعضهم أن التعبير بالهداية تهكم إن لم يرد بها مطلق الدلالة والطريق على عمومه والاستثناء متصل
(6/22)
كما اختاره أبو البقاء وغيره وجوز السمين أن يراد بالطريق شىء مخصوص وهو العمل الصالح والاستثناء منقطع خالدين فيها حال مقدرة من الضمير المنصوب لأن الخلود يكون بعد إيصالهم إلى جهنم ولو قدر يقيمون خالدين لم يلتئم وقيل : يمكن أن يستغنى عن جعله حالا مقدرة بأن هذا من الدلالة الموصولة إلى جهنم أو الدلالة إلى طريق يوصل اليها فهو حال عن المفعول باعتبار الايصال لا الدالة فتدبر وقوله تعالى : أبدا نصب على الظرفية رافع احتمال أن يراد بالخلود المكث الطويل وكان كذلك أى انتفاء غفرانه وهدايته سبحانه إياهم وطرحهم فى النار إلى الأبد على الله يسيرا
169
- سهلا لاصارف له عنه وهذا تحقير لامرهم وبيان لأنه تعالى لايعبأ بهم ولايبالى ياأيها الناس خطاب لجميع المكلفين بعد أن حكى سبحانه لرسوله صلى الله عليه و سلم تعلل اليهود بالاباطيل واقتراحهم الباطل تعنتا ورد جل شأنه عليهم بما ورد وأكد ذلك بما أكد وفى توجيه الخطاب اليهم وأمرهم بالايمان مشفوعا بالوعيد والوعيد بعد تنبيه على أن المحجة قد وضحت والحجة قد لزمت فلم يبق لأحد عذر فى القبول وقيل : الخطاب لأهل مكة لأن الخطاب ياأيها الناس أينما وقع لهم ولايخفى أن التعميم أولى وما ذكر فى حيز الاستدلال وإن روى عن بعض السلف أغلبى وقيل : هو للكفار مطلقا إبقاءا للامر على ظاهره ولم يحتج إلى حمله على مايعم الأحداث والثبات قد جاءكم الرسول يعنى به محمدا صلى الله عليه و سلم وإيراده عليه الصلاة و السلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته بالحق أى متلبسا به وفسر بالقرآن وبدين الاسلام وبشهادة التوحيد وجوز أن تكون الباء للتعدية أو للسببية متعلقة بحاء أى جاءكم بسبب إقامة الحق وقوله سبحانه : من ربكم متعلق إما بالفعل أيضا أو بمحذوف وقع حالا من الحق : أى جاءكم به من عند الله تعالى أو كائنا منه سبحانه والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضمير المخاطبين للايذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيبا لهم فى الامتثال لما بعد من الأمر كما أن فى ذكر الجملة تمهيدا لما يعقبها من ذلك وقيل : إنها تكرير للشهادة وتقرير للمشهود به وتمهيد لما ذكر فآمنوا أى بالرسول صلى الله عليه و سلم وبما جاء به من الحق والفاء للدلالة على إيجاب ماقبلها لما بعدها وقوله سبحانه : خيرا لكم منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره وافعلوا أو ائتوا خيرا لكم وإلى هذا ذهب الخليل وسيبويه وذهب الفراء إلى أنه نعت لمصدر محذوف أى إيمانا خيرا لكم وأورد عليه أنه يقتضى أن الإيمان ينقسم إلى خير وغيره ودفع بأنه صفة مؤكده وأن مفهوم الصفة قد لايعتبر وعلى القول باعتباره قد يقال : إن ذكره تعريض بأهل الكتاب فان لهم إيمانا ببعض مايجب الايمان به كاليوم الآخر مثلا إلا أنه ليس خيرا حيث لم يكن على الوجه المرضى
وذهب الكسائى وأبو عبيد الى أنه خبر كان مضمرة والتقدير يكن الايمان خيرا لكم ورد بأن كان لاتحذف مع اسمها دون خبرها إلا فى مواضع اقتضته وأن المقدر جواب شرط محذوف فيلزم حذف الشرط وجوابه إذ التقدير إن تؤمنوا يكن الايمان خيرا وأجيب بأن تخصيص حذف كان واسمها فى مواضع لايسلمه هذا القائل وبأن لزوم حذف الشرط وجوابه مبنى على أن الجزم بشرط مقدر وإن قلنا : بأنه بنفس الأمر وأخواته كما هو مذهب لبعض النحاة لم يرد ذلك ونقل مكى عن بعض الكوفيين أنه منصوب على
(6/23)
الحال وهو بعيد وإن تكفروا فان لله مافى السموات والأرض من الموجودت كانت داخلة فى حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآ كده أو خارجه عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم ويدخل فى ذلك المخاطبون دخولا أوليا أى كل ذلك له تعالى خلقا وملكا وتصرفا ولايخرج من ملكوته وقهره ذرة فما دونها والجملة دليل الجواب أقيم مقامه لأن مضمونها مقرر قبل كفرهم فلا يصلح للجواب والتقدير وإن تكفروا فهو سبحانه قادر على تعذيبكم بكفرهم لأن له جل شأنه مافى السموات والأرض أو فهو غنى عنكم لايتضرر بكفركم كما لاينفع بايمانكم وقال بعضهم : التقدير وإن تكفروا فقد كابرتم عقولكم فان الله سبحانه ماله مما يدل على ماينافى حالكم واعتقادكم فكيف يتأتى الكفر به ذلك وقيل : التقدير وإن تكفروا فلن عبيدا غيركم لايكفرون بل يعبدونه وينقادون لأمره ولايخلو عن بعد
وكان الله عليما بأحوال كل ويدخل فى ذلك كفرهم دخولا أوليا حكيما
170
- فى جميع أقواله وتدبيراته ويدخل فى ذلك كذلك تعذيب من كفر يا أهل الكتاب تجريد للخطاب وتخصيص له بالنصارى زجرا لهم عماهم عليه من الضلال البعيد وإلى ذلك ذهب أبو على الجبائى وأبو مسلم وجماعة من المفسرين وعن الحسن أنه خطاب لهم ولليهود لأن الغلو أى مجاوزة الحد والافراط المنهى عنه فى قوله تعالى : لاتغلوا فى دينكم وقع منهم جميعا أما النصارى فقال بعضهم : عيسى عليهم السلام ابن الله عز و جل وبعضهم أنه الله سبحانه وآخرون ثالث ثلاثة وأما اليهود فقالوا : إنه عليه السلام ولد لغير رشده ورجح ما عليه الجماعة بأن قول اليهود قد نعى فيما سبق وبأنه أوفق بما بعد ولاتقولوا على الله إلا الحق أى لاتذكروا ولاتعتقدوا إلا القول الحق دون القول المتضمن لدعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد والاستثناء مفرغ وهو متصل عند الأكثرين
وادعى بعض أن المراد من الحق هنا تنزيه تعالى عن الصاحبة والولد والأشبه بالاستثناء الانقطاع لأن التنزيه لايكون مقولا عليه بل له وفيه لأن معنى قال عليه افترى وهو مخالف لما عليه الاكثر فى الاستثناء المفرغ فافهم إنما المسيح بالتخفيف وقد مر معناه وقرىء المسيح بكسر الميم وتشديد السين كالسيت وهو مبتدأ وقوله تعالى : عيسى بدل منه أو عطف بيان له كما قال أبو البقاء وغيرة وقوله تعالى : ابن مريم صفة له مفيدة بطلان مازعموه فيه من بنوته عليه السلام له عز و جل وقوله سبحانه : رسول الله خبر المبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهى عن القول الباطل المستلزم للامر بضده أى أنه عليه السلام مقصور على رتبة الرسالة لايتخطاها إلى ماتقولون وكلمته عطف على رسول الله ومعنى كونه كلمة أنه حصل بكلمة كن من غير مادة معتادة وإلى ذلك ذهب الحسن وقتادة
وقال الغزالى قدس سره : لكل مولود سبب قريب وبعيد فالأول المنى والثانى قول كن ولما دل الدليل على عدم القريب فى حق عيسى عليه السلام أضافة إلى البعيد وهو قول كن إشارة إلى انتفاء القريب وأوضحه بقوله سبحانه : ألقاها الى مريم أى أوصلها اليها وحصلها فيها فجعله كالمنى الذي يلقى فى الرحم فهو استعارة وقيل : معناه أنه يهتدى به كما يهتدى بكلام الله تعالى وروى ذلك عن أبى الجبائى وقيل : معناه بشارة الله تعالى
(6/24)
التى بشر بها مريم عليها السلام على لسان الملائكة كما قال سبحانه : إذ قالت الملائكة إن الله يبشرك بكلمة وجملة ألقاها حال على ما قيل : من الضمير المجرور فى كلمته بتقدير قد والعامل فيها معنى الاضافة والتقدير وكلمته ملقيا إياها وقيل : حال من ضميره عليه السلام المستكن فيما دل عليه وكلمته من معنى المشتق الذي هو العامل فيها وقيل : حال من فاعل كان مقدرة مع إذ المتعلقة بالكلمة باعتبار أن المراد بها المكون والتقدير إذ ألقاها الى مريم وروح منه عطف على ماقبله وسمى عليه السلام روحا لأنه حدث عن نفخة جبرائيل عليه السلام فى درع مريم عليها السلام بأمره سبحانه وجاء تسمية النفخ روحا فى كلامهم ومنه قول ذى الرمة فى نار
وأحيها بروحك
و من متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح وهى لابتداء الغاية مجازا لاتبعيضية كما زعمت النصارى
يحكى أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد ناظر على بن الحسين الواقدى المروزى ذات يوم فقال له : إن فى كتابكم مايدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى وتلى هذه الآية فقرأ الواقدى قوله تعالى : وسخر لكم مافى السموات ومافى والارض جميعا منه فقال : إذن يلزم أن يكون جميع الاشياء جزءا منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا فانقطع النصرانى فأسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا ووصل الواقدى بصلة فاخرة وقيل : سمى روحا لان الناس يحيون كما يحيون بالارواح وإلى ذلك ذهب الجبائى وقيل : الروح هنا بمعنى الرحمة كما فى قوله تعالى : وأيدهم بروح منه على وجه وقيل : أريد بالروح الوحى الذي أوحى إلى مريم عليها السلام بالبشارة وقيل : جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شىء بغاية الطهارة والنظافة قالوا : إنه روح فلما كان عيسى عليه السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح وقيل : أريد بالروح السر كما يقال : روح هذه المسألة كذا أى أنه عليه السلام سر من أسرار الله تعالى وآية من آياته سبحانه وقيل : المراد ذو روح على حذف المضاف أو استعمال الروح فى معنى ذى الروح والإضافة إلى الله تعالى للتشريف ونظير ذلك مافى التوراة إن موسى عليه السلام رجل الله وعصاه قضيب الله وأورشليم بيت الله وقيل : المراد من الروح جبريل عليه السلام والعطف على الضمير المستكن فى ألقاها والمعنى ألقاها الله تعالى وجبريل إلى مريم ولايخفى بعده وعلى العلات لاحجة للنصارى على شىء مما زعموا فى تشريف عيسى عليه السلام بنسبة الروح اليه اذ لغيره عليه السلام مشاركة له فى ذلك ففى إنجيل لوقا قال يسوغ لتلاميذه : إن أياكم السماوى يعطى روح القدس الذين يسألونه وفى إنجيل متى : إن يوخنا المعمدانى امتلأ من روح القدس وهو فى بطن أمه وفى التوراة : قال الله تعالى لموسى عليه السلام اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التى عليك فيحملوا عنك ثقل هذا النعت ففعل فأفاض عليهم من روحه فتبنوا لساعتهم وفيها فى حق يوسف عليه السلام : يقول الملك : هل رأيتم مثل هذا الفتى الذى روح الله تعالى عز و جل حال فيه وفيها أيضا : إن روح الله تعالى حلت على دانيال إلى غير ذلك
ولعل الروح فى جميه ذلك أمر قدسى وسر إلهى يفيضه الله تعالى على من يشاء من عباده حسبما يشاء وفى أى وقت يشاء وإطلاق ذلك على عيسى عليه السلام من باب المبالغة على حد ماقيل فى زيد : عدل وليس المراد به الروح الذى به الحياة أصلا وقد يظهر ذلك بصورة كما يظهر القرآن بصورة الرجل الشاحب والموت بصورة الكبش ويؤيد ذلك فى الجملة مافى إنجيل متى فى تمام الكلام على تعميد عيسى عليه السلام : إن يسوع تعمد وحرج من الماء انفتحت له أبواب السماء ونظر روح الله تعالى جاءت له فى صفة حمامة وإذا بصوت من السماء هذا
(6/25)
ابن الحبيب الذى سرت به نفسى فانه على تقدير صحته يهدم مايزعمه النصارى من أنه عليه السلام تجسد بروح القدس فى بطن أمه : ومافيه من وصفه عليه السلام بالنبوة سيأتى ان شاء الله تعالى الجواب عنه
فآ منوا بالله وخصوه بالألوهية ورسله أجمعين ولاتخرجوا أحدا منهم إلى ما يستحيل وصفه به من الألوهية ولاتقولوا ثلاثة أى الآلهة ثلاثة : الله سبحانه والمسيح ومريم كما ينبىء عنه قواه تعالى : أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الناس إذ معناه إلهين غير الله تعالى يكونون معه ثلاثة
وحكى هذا التقدير عن الزجاج أو الله سبحانه ثلاثة إن صح عنهم أنهم يقولون : الله تعالى جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الأبن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات أو الوجود وبالثانى العلم أى الكلمة وبالثالث الحياة كذا قيل وتحقيق الكلام فى هذا المقام على ماذكره بعض المحققين أن النصارى اتفقوا على أن الله تعالى جوهر بمعنى قائم بنفسه غير متحيز ولامختص بجهة ولامقدر بقدر ولايقبل الحوادث بذاته ولايتصور عليه الحدوث والعدم وأنه واحد بالجوهرية ثلاثة بالاقنومية والاقانيم صفات للجوهر القديم وهى الوجود والعلم والحياة وعبروا عن الوجود بالأب والحياة بروح القدس والعلم بالكلمة
ثم اختلفوا فذهب الملكانية أصحاب ملكا الذى ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم وأن كل واحد منها إله وصرحوا باثبات التثليث وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى عما يشركون وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر وانقلبت الكثرة وحدة وأن المسيح ناسوت كلى لاجزئى وهو قديم أزلى وأن مريم ولدت إلها أزليا مع اختلافهم فى مريم أنها إنسان كلى أو جزئى واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا وأطلقوا لفظ الأب على الله تعالى والإبن على عيسى عليه السلام وذهب نسطور الحكيم فى زمان المأمون إلى أن الله تعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ولانفس ذاته وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح لابمعنى الامتزاج بل بمعنى الاشراق أى أشرقت عليه كاشراق الشمس من كوة على بلور
ومن النسطورية من قال : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حى ناطق موجود وصرحوا بالتثليث كالملكانية ومنهم ومن منع ذلك ومنهم من أثبت صفات أخر كالقدرة والارادة ونحوها لكن لم يجعلوها أقانيم وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب وانما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد والحدوث راجع الى الناسوت فالمسيح إله تام وإنسان تام وهما قديم وحادث والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ولالحدوث الحادث وقالوا إن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوت وذهب بعضى اليعقوبية إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح وقالوا : إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم ورووا عن يوحنا الإنجيلى أنه قال فى صدر إنجيله : ان الكلمة صارت جسدا وحلت فينا وقال : فى البدء كانت الكامة ووالكامة عند الله والله تعالى هو الكلمة ومنهم من قال : ظهر اللاهوت بالناسوت بحيث صار هو هو وذلك كظهور الملك فى الصورة المشار اليه بقوله تعالى : فتمثل لها بشرا سويا ومنهم من قال : جوهر الإله القديم وجوهر الانسان المحدث تركبا تركب النفس الناطقة مع البدن وصار جوهرا واحدا وهو المسيح وهو الإله ويقولون صار الإله إنسانا وإن لم يصر الانسان إلها كما يقال فى الفحمة الملقاة فى النار : صارت نارا ولايقال : النار فحمة ويقولون : إن اتحاد اللاهوت بالانسان الجزئى دون الكلى وأن مريم ولدت إلها وأن القتل والصلب واقع على اللاهوت والناسوت جميعا إذ لو كان على
(6/26)
أحدهما بطل الاتحاد ومنهم من قال : المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه محدث من وجه ومن اليعقوبية من قال : إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا وإنما مرت بها كمرور الماء بالميزاب ومنهم من زعم أن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح فتصدر عنه الآيات التى كانت تظهر عنه وتفارقه تارة فتحله الآفات والآلام ومن النصارى من زعم أن معنى اتحاد اللاهوت بالناسوت ظهور اللاهوت على الناسوت وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شىء ولاحل فيه وذلك كظهور نقش الطابع على الشمع والصورة المرئية فى المرآة ومنهم من قال : إن الوجود والكلمة قديمان والحياة مخلوقة ومنهم من قال إن الله تعالى واحد وسماه أبا وأن المسيح كلمة الله تعالى وابنه على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل العالم وهو خالق للاشياء كلها
وحكى المؤرخون وأصحاب النقل أن أريوس أحد كبار النصارى كان يعتقد هو وطائفته توحيد البارى ولايشرك معه غيره ولايرى فى المسيح مايراه النصارى بل يعتقد رسالته وأنه مخلوق بجمسه وروحه ففشت مقالته فى النصرانية فتكاتبوا واجتمعوا بمدينة نيقية عند الملك قسطنطين وتناظروا فشرح أريوس مقالته ن فرد عليه الاكصيدروس بطريق الاسكندرية وشنع على ماقالته عند الملك ثم تناظروا فطال تنازعهم فتعجب الملك من انتشار مقالتهم وكثرة اختلافهم وقام لهم البترك وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضى فاتفق رأيهم على شىء فحرروه وسموه بالأمانة وأكثرهم اليوم عليها وهى نؤمن بالله تعالى الواحد الأب صانع كل شىء مالك كل شىء صانع مايرى ومالايرى وبالرب الواحد المسيح ابن الله تعالى الواحد بكر الخلائق كلها الذى ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذى بيده أتقنت العوالم وخلق كل شىء الذى من أجلنا معاشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومريم وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول واتجمع وصلب أيام فيلاطس ودفن وقام فى اليوم الثالث كماهو مكتوب وصعد الى السماء وجلس على يمين أبيه وهو مستعد للمجىء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبعمودية واحدة لغفران الخطايا والجماعة واحدة قدسية كاطو لكية وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين انتهى
وهذه جملة الأقاويل وما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل وهى مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للاصول مما لامستند لها ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم والأخذ بظواهر ألفاظ لايحيطون بها على أن ماسموه أمانة لاأصل له فى شرع الانجيل ولامأخوذة من قول المسيح ولا من أقوال تلاميذه وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت يكذب بعضه بعضا ويعارضه ويناقضه وإذ قد علمت ذلك فاستمع لما يتلى عليك فى ردهم تتميما للفائدة وتأكيدا لابطال تلك العقائد الفاسدة أما قولهم : بأن الله تعالى جوهر بالمعنى المذكور فلانزاع لنا معهم فيه من جهة المعنى بل من جهة الاطلاق اللفظى سمعا والأمر فيه هين وأما حصرهم الأقانيم فى ثلاثة صفة الوجود وصفة الحياة وصفة العلم فباطل لأنه بعد تسليم أن صفة الوجود زائدة لو طولبوا بدليل الحصر لم يجدوا اليه سبيلا سوى قولهم : بحثنا فلم نجد غير ماذكرناه وهو غير يقينى كما لايخفى ثم هو باطل بما تحقق فى موضعه من وجوب صفة القدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام فان قالوا : الأقانيم هى خواص الجوهر وصفات نفسه ومن حكمها أن تلزم الجوهر ولاتتعداه إلى غيره وذلك متحقق فى الوجود والحياة إذ لاتعلق لوجود الذات القديمة
(6/27)
وحياتها بغيرها وكذلك العلم إذ العلم مختص بالجوهر من حيث هو معلوم به وهذا بخلاف القدرة والارادة فانهما لااختصاص لهما بالذات القديمة بل يتعلقان بالغير مما هو مقدور ومراد والذات القديمة غير مقدورة ولامرادة وأيضافان الحياة تجزىء عن القدرة والارادة من حيث أن الحى لايخلوا عنهما بخلاف العلم فانه قد يخلوا عنه ولأنه يمتنع اجزاء الحياة عن العلم لاختصاص الحياة بامتناع جريان المبالغة والتفضيل بخلاف العلم قلنا : أما قولهم : إن الوجود والحياة مختصة بذات القديم ولاتعلق لهما بغيره فمسلم ولكن يلزم عليه أن لايكون العلم أقنوما لتعلقه بغير ذات القديم إذ هو معلوم به فلئن قالوا : العلم إنما كان أقنوما من حيث كان متعلقا بذات القديم لامن حيث كان متعلقابغبره فيلزمهم أن يكون البصر أقنوما لتعلقه بذات القديم من حيث أنه يرى نفسه ولم يقولوا به ويلزمهم من ذلك أن يكون بقاء ذات الله تعالى أقنوما لاختصاص البقاء بنفسه وعدم تعلقه بغيره كما فى الوجود والحياة فلئن قالوا : البقاء هو نفس الوجود فيلزم أن يكون الموجود فى زمان حدوثه باقيا وهو محال
وقولهم : بأن الارادة تجزىء عن القدرة والارادة إما أن يريدوا أن القدرة والارادة نفس الحياة أو أنهما خارجتان عنها لازمتان لها لاتفارقانها فان كان الاول فقد نقضوا مذهبهم حيث قالوا : إن الحياة أقنوم لاختصاصها بجوه القديم والقدرة والارادة غير مختصين بذات القديم تعالى وذلك مشعر بالمغايرة ولااتحاد معها وإن قالوا : إنها لازمة لها مع المغايرة فهو ممنوع فانه كما يجوز خلو الحى عن العلم فكذلك قد يجوز خلوه عن القدرة والارادة كما فى حالة النوم والاغماء مثلا وقولهم : إنه يمتنع اجزاء الحياة عن العلم لاختصاص العلم بالمبالغة والتفضيل فيلزم منه أن لاتكون مجزئة عن القدرة أيضا لاختصاصها بهذا النوع من المبالغة والتفضيل وأما قولهم : بأن الكلمة حلت فى المسيح وتدرعت به فهو باطل من وجهين
الأول أنه قد تحقق امتناع حلول صفة القديم فى غيره الثانى أنه ليس القول بحلول الكلمة أولى من القول بحلول الروح وهى الحياة ولئن قالوا إنما استدللنا على حلول العلم فيه لاختصاصه بعلوم لايشاركه فيها غيره قلنا : أولا لانسلم ذلك فقد روى النصارى أنه عليه السلام سئل عن القيامة فلم يجب وقال لايعرفها إلا الله تعالى وحده وثانيا سلمنا لكنه قد اختص عندكم بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وبأمور لايقدر عليها غيره من المخلوقين بزعمكم والقدرة عندكم فى حكم الحياة إما بمعنى أنها عينها أو ملازمة لها فوجب أن يقال : بحلول الحياة فيه ولم تقولوا به
وأما قول الملكانية بالتثليث فى الآلهة وأن كل أقنوم إله فلايخلوا إما أن يقولوا : إن كل واحد متصف بصفات الإله تعالى من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات أو ألا يقولوا به فان قالوا به فهو خلاف أصلهم وهو مع ذلك ممتنع لقيام الادلة على امتناع إلهين وأيضا فانهم إما أن يقولوا : بأن جوهر القديم أيضا إله وألا يقولوا فان كان الأول فقد أبطلوا مذهبهم فانهم مجمعون على الثالوث وبقولهم هذا يلزم التربيع وإن كان الثانى لم يجدوا إلى الفرق سبيلا مع أن جوهر القديم أصل والاقانيم صفات تابعة فكان أولى أن يكون إلها وإن قالوا بالثانى فحاصله يرجع إالى منازعة لفظية والمرجع فيها إلى ورود الشرع بجواز إطلاق ذلك وأما قولهم : بأن الكلمة امتزجت بجسد المسيح فيبطله امتناع حلول صفات القديم بغير ذات الله تعالى ودعواهم الاتحاد ممتنعة من جهة الدلالة والالزام أما الاول فانهما عند الاتحاد إما أن يقال : ببقائهما
(6/28)
أو بعدهما او ببقاء أحدهما وعدم الآخر أما على التقدير الأول فهما اثنان كما كنا وإن كان الثانى فالواحد الموجود غيرهما وإن كان الثالث فلا اتحاد للاثنينية وعدم أحدهما وأما على التقدير الثانى فمن أربعة اوجه : الأول انه إذا جاز اتحاد أقنوم الجوهر القديم بالحادث فما المانع من اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم فلئن قالوا : المانع أن اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم يوجب نقصه وهو ممتنع واتحاد صفة القديم بالحادث يوجب شرفه وشرف الحادث بالقديم غير ممتنع قلنا فكلما أن ذات القديم تنقص باتحاد صفة الحادث بها فالاقنوم القديم ينقص باتحاده بالناسوت الحادث فليكن ذلك ممتنعا الثانى أنه قد وقع الاتفاق على امتناع اتحاد أقنوم الجوهر القديم بغير ناسوت المسيح فما الفرق بين ناسوت وناسوت فلئن قالوا : إنما اتحد بالناسوت الكلى دون الجزئى رددناه بما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى الثالث أن مذهبهم أن الاقانيم زائدة غلى ذات الجوهر القديم مع اختصاصها به ولم يوجب قيامها به الاتحاد فان لايوجب اتحاد الاقنوم بالناسوت أولى
ارابع أن الاجماع منعقد على أن أقنوم الجوهر القديم مخالف للناسوت كماأن صفة نفس الجوهر تخالف نفس العرض وصفة نفس العرض تخالف الجوهر فان قالوا : بجواز اتحاد صفة الجوهر بالعرض أو صفة العرض بالجوهر حتى أنه يصير الجوهر فى حكم العرض والعرض فى حكم الجوهر فقد التزموا مجالا مخالفا لأصولهم وإن قالوا : بامتناع اتحاد صفة نفس الجوهر بالعرض ونفس العرض بالجوهر مع أن العرض والجوهر أقبل للتبدل والتغير فلأن يمتنع فى القديم والحادث أولى وقولهم إن المسيح إنسان كلى باطل من أربعة أوجه : الأول أن الانسان الكلى لااختصاص له بجزئى دون جزئى من الناس وقد اتفقت النصارى أن المسيح مولود من مريم عليهما السلام وعند ذلك فإما أن يقال أن إنسان مريم أيضا كلى كما حكى عن بعضهم أو جزئى فان كان كليا فإما أن يكون هو عين إنسان أو غيره فان كان عينه لزم أن يولد الشىء من نفسه وهو محال ثم يلزم أن يكون المسيح مريم ومريم المسيح ولم يقل به أحد وإن كان غيره فالإنسان الكلى مايكون عاما مشتركا بين جميع وطبيعته جزء من معنى كل إنسان ويلزم من ذلك أن يكون إنسان المسيح بطبيعته جزء من مفهوم إنسان مريم وبالعكس وذلك محال وإن كان إنسان مريم جزئيا فمن ضرورة كون المسيح مولودا عنها أن يكون الكلى الصالح لاشتراك الكثرة منحصرا فى الجزئى الذى لايصلح لذاته وهو ممتنع الثانى أن النصارى مجمعون على أن المسيح كان مرئيا ومشارا اليه والكلى ليس كذلك
الثالث أنهم قائلون : إن الكلمة حلت فى المسيح إما بجهة الاتحاد أو لابجهة الاتحاد فلو كان المسيح إنسانا كليا لما اختص به بعض أشخاص الناس دون البعض ولما كان المولود من مريم مختصا بحلول الكلمة دون غيره ولم يقولوا به الرابع أن الملكانية متفقون على أن القتل وقع على اللاهوت والناسوت ولو كان ناسوت المسيح كليا لما تصور وقوع الجزئى عليه
وأما ماذهب اليه نسطور من الأقانيم ثلاثة فاكلام معه فى الحصر على طرز ماتقدم وقوله : ليست عين ذاته ولاغير ذاته فان أراد بذلك ماأراد به الاشعرى فى قوله : إن الصفات لاعين ولاغير فهو حق وإن أراد غيره فغير مفهوم وأما تفسيره العلم بالكلمة فالنزاع معه فى هذا الاطلاق لفظى ثم لايخلو إما أن يريد بالكلمة الكلام النفسى أو الكلام اللسانى والكلام فى ذلك معروف وقوله : إن الكلمة اتحدت بالمسيح بمعنى أنها أشرقت عليه لاحاصل له لأنه إما أن يريد بإشراق الكلمةعليه السلام ماهو مفهوم من مثاله
(6/29)
وهو أن يكون مطرحا لشعاعها عليه أو يريد أنها متعلقة به كتعلق العلم القديم بالمعلومات أو يريد غير ذلك فان كان الأول يلزم أن تكون ذات شعاع وفى جهة من مطرح شعاعها ويلزم من ذلك أن تكون جسما وأن لاتكون صفة للجوهر القديم وهو محال وأن كان الثانى فهو حق غير أن تعلق الأقنوم بالمسيح بهذا التفسير لايكون خاصة وان كان الثالث فلابد من تصويره ليتكلم عليه
وأما قول بعض النسطورية : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة إله حى ناطق فهو باطل بأدلة ابطال التثليث وأما من أثبت منهم لله تعالى صفات أخر كالقدرة والارادة ونحوهما فقد أصاب خلا أن القول بإخراجها عن كونها من الأقانيم مع أنها مشاركة لها فى كونها من الصفات تحكم بحت والفرق الذي يستند اليه باطل كما علمت وأما قولهم المسيح انسان تام وإله تام وهما جوهران : قديمك وحادث فطريق رده من وجهين : الأول التعرض لإبطال كون الأقنوم المتحد بجسد المسيح إلهآ وذلك بأن يقال : إما أن يقولوا : بأن مااتحد بجسد المسيح هو إله فقط أو أن كل أقنوم إله كما ذهبت اليه الملكانية فان كان الاول : فهو ممتنع لعدم الأولوية وإن كان الثانى فهو ممتنع أيضا لما تقدم الثانى أنه إذا كان المسيح مشتملا على الأقنوم والناسوت الحادث فإما أن يقولوا : بالاتحاد أو بحلول الأقنوم فى الناسوت أو حلول الناسوت فى الأقنوم أو أنه لاحلول لاحدهما الآخر فان كان الأول فهو باطل بما سبق فى إبطال الاتحاد وإن كان الثانى فهو باطل بما يبطل حلول الصفة القديمة فى غير ذات الله تعالى وحلول الحادث فى القديم وإن كان الثالث فإما أن يقال : بتجاورهما واتصالهما أولا فان قيل : بلأول فإما أن يقال : بانفصال الأقنوم القديم عن الجوهر الحادث أو لايقال به فان قيل : بالانفصال فهو ممتنع لوجهين : الأول مايدل على إبطال انتقال الصفة عن الموصوف الثانى أنه يلزم منه قيام صفة حال مجاورتها للناسوت بنفسها وهو محال وإن لم يقل بانفصال الأقنوم عن الجوهر القديم يلزم منه أن يكون ذات الجوهر القديم متصلة بجسد المسيح ضورورة اتصال أقنومها به وعند ذلك فليس اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى من اتحاد الجوهر القديم به ولم يقولوا بذلك وإن لم يقل بتجاورهما واتصالهما فلا معنى للاتحاد بجسد المسيح وليس القول بالاتحاد مع عدم الاتصال بجسد المسيح أولى من العكس وأما قول من قال منهم : إن الاله واحد وأن المسيح ولد من مريم وأنه عبد صالح مخلوق إلا أن الله تعالى شرفه بتسميته ابنا فهو كما يقول الموحدون ولاخلاف معهم فى غير إطلاق اسم الابن وأما قول بعض اليعقوبية : إن الكلمة انقلبت لحما ودما وصار الإله هو المسيح فهو أظهر بطلانا مما تقدم وبيانه من وجهين : الأول أنه لوجاز انقلاب الأقنوم لحما ودما مع اختلاف حقيقتهما لجاز انقلاب المستحيل ممكنا والممكن مستحيلا والواجب ممكنا أو ممتنعا والممكن أو الممتنع واجبا ولم يبق لأحد وثوق بشىء من القضايا البديهية ولجاز انقلاب الجوهر عرضا والعرض جوهرا واللحم والدم أقنوما والأقنوم ذاتا والذات أقنوما والقديم حادثا والحادث قديما ولم يقل به أحد من العقلاء الثانى أنه لو انقلب الاقنوم لحما ودما فإما أن يكون هو عين الدم واللحم اللذين كانا للمسيح أو زائدا عليه منضما اليه والأول ظاهر الفساد والثانى لم يقولوا به وأما تقل عن يوحنا من قوله : فى البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله هو الكلمة فهو ماانفرد به ولم يوجد فى شىء من الأناجيل والظاهر أنه كذب فانه بمنزلة قول القائل : الدينار عند صيرفى والصيرفى هو الدينار ولايكاد يتفوه به عاقل وكذا قوله : إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا غير مسلم الثبوت وعى تقدير تسليمه يحتمل التقديم والتأخير
(6/30)
أى ان الجسد الذى صار بالتسمية كلمة حل فينا وعنى بذلك الجسد عيسى عليه السلام ويحتمل أنه أشارك بذلك إلى بطرس كبير التلاميذ ووصى المسيح فانه أقام بعده عليه السلام بتدبير دينه وكانت النصارى تفزع اليه على ماتشهد به كتبهم فكأنه يقول : إن ذهبت الكلمة أى عيسى الذى سماه الله تعالى بذلك من بيننا فانها لم تذهب حتى صارت جسدا وحل فينا يريد أن تدبيرها حاضر فى جسد بيننا وهو بطرس
ومن الناس من خرج بكلامه على إسقاط همزة الانكار عند إخراجه من العبرانى إلى اللسان العربى والمراد أصارت وفيه بعد ومن العجب العجيب أن يوحنا ذكر أن المسيح قال لتلاميذه : ان لم تأكلوا جسدى وتشربوا دمى فلاحياة لكم بعدى لأن جسدى مأكل حق ودمى مشرب حق ومن يأكل جسدى ويشرب دمى يثبت فى وأثبت فيه فلما سمع تلاميذه هذه الكلمة قالوا : ماأصعبها من يطيق سماعها فرجع كثير منهم عن صحبته فان هذا مع قوله : إن الله سبحانه هو الكلمة والكلمة هوصارت جسدا فى غاية الاشكال إذ فيه أمر الحادث بأكل الله تعالى القديم الأزلى وشربه والحق أن شيئا من الكلامين لم يثبت فلا نتحمل مؤنة التأويل
واما قولهم : إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو فإما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت كما يصرح به قولهم : صار هو هو فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال كما علمت وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهو أيضا محال لما ثبت من امتناع حلول الحادث بالقديم أو أن الناسوت اتصف باللاهوت وهو أيضا محال لامتناع حلول القديم بالحادث وأما من قال منهم : بأن جوهر الإله القديم وجوهر الانسان المحدث تركبا وصار جوهرا واحدا هو المسيح فباطل من وجهين : الأول ماذكر من إبطال الاتحاد الثانى أنه ليس جعل الناسوت لاهوتا بتركبه مع اللاهوت أولى من جعل اللاهوت ناسوتا من جهة تركبه مع الناسوت ولم يقولوا به وأما جوهر الفحمة إذا ألقيت فى النار فلانسلم أنه صار بعينه جوهر النار بل صار مجاورا لجوهر النار وغايته أن بعض صفات جوهر الفحمة وأعراضها بكلت بمجاورة جوهر النار أما إن جوهر أحدهما صار جوهر الآخر فلا
وأما قولهم : إن الاتحاد بالناسوت الجزئى دون الكلى فمحال لأدلة إبطال الاتحاد وحلول القديم بالحادث وبذلك يبطل قولهم : إن مريم ولدت إلها وقولهم : القتل وقع على اللاهوت والناسوت معا على أنه يوجب موت الإله وهو بديهى البطلان وأما قول من قال : إن المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه محدث من وجه فباطل لأنه إذا كان جوهر المسيح متحدا لاكثرة فيه فالحدوث إما أن يكون لعين ماقيل بقدمه أو لغيره فان كان الأول فهو محال وإلا لكان الشىء الواحد قديما لاأول له حادثا له أول وهو متناقض وإن كان الثانى فهو خلاف المفروض وأما قول من قال : إن الكلمة مرت بمريم كمرور الماء فى الميزاب فيلزم منه انتقال الكلمة وهو كما لايخفى وبه يبطل قول من قال : إن الكلمة وهو ممتنع كما لايخفى وبه يبطل قول من قال : إن الكلمة كانت تدخل جسد المسيح تارة وتفارقه أخرى وقولهم : إن ماظهر من صورة المسيح فى الناسوت لم يكن جسما بل خيالا كالصورة المرئية فى المرآة باطل لأن من أصلهم أن المسيح إنما أحيا الميت وأبرأ الاكمه والابرص بما فيه من اللاهوت فاذا كان ماظهر فيه من اللاهوت لاحقية له بل هو خيال محض لايصلح لحدوث ماحدث عن الإله عنه والقول : بأن أقنوم الحياة مخلوق حادث ليس كذلك لقيام الأدلة على قدم الصفات فهو قديم أزلى كيف وأنه لو كان حادثا لكان الإله قبله غير حى ومن ليس بحى لايكون عالما ولاناطقا وقول من قال : إ ن المسيح مخلوق قبل العالم وهو خالق لكل
(6/31)
شىء باطل لقيام الأدلة على أنه كان الله تعالى ولاشىء غيره
وأما الأمانة التى هم بها متقربون وبماحوته متعبدون فبيان اضطرابها وتناقضها وتهافتها من وجوه : الأول أن قولهم : نؤمن بالواحد الأب صانع كل شىء يناقض قولهم : وبالرب الواحد المسيح الخ مناقضة لاتكاد تخفى الثانى أن قولهم : إن يسوع المسيح إابن الله تعالى بكر الخلائق مشعر بحدوث المسيح إذ لامعنى لكونه ابنه الا تأخره عنه إذ الوالد والولد لايكونان معا فى الوجود وكونهما معا مستحيل ببداهة العقول لأن الأب لايخلو إما أن يكون ولدا لم يزل أو لم يكن فان قالوا : ولد ولدا لم يزل قلنا : فما ولد شيئا إذ الابن لم يزل وإن ولد شيئا لم يكن فالولد حادث مخلوق وذلك مكذب لقولهم : إله حق من إله حق من جوهر أبيه وأنه أتقن العوالم بيده وخلق كل شىء الثالث أن قولهم : إله حق من إله حق من جوهر أبيه يناقضه قول المسيح فى الانجيل : وقد سئل عن يوم القيامة فقال : لاأعرفه ولايعرفه إلا الأب وحده فلو كان من جوهر الأب لعلم مايعلمه الأب على أنه لوجاز أن يكون إله ثان من إله أول لجاز أن يكون إله ثالث من إله ثان ولما وقف الأمر على غاية وهو محال الرابع أن قولهم : إن يسوع أتقن العوالم بيده وخلق كل شىء باطل مكذب لما فى الانجيل إذ يقول متى : هذا مولد يسوع المسيح بن داود وأيضا خالق العولم لابد وأن يكون سابقا عليه وانى بسبق المسيح وقد ولدته مريم وأيضا فى الانجيل إن ابليس قال للمسيح : اسجد لى وأعطيك جميع العالم وأملكك كل شىء ولازال يسحبه من مكان إلى مكان ويحول بينه وبين مراده ويطمع فى تعبده له فكيف يكون خالق العالم محصورا فى يد بعض العالم ! نعوذ بالله من الضلالة
الخامس أن قولهم : المسيح الاله الحق الذي نزل من السماء لخلاص الناس وتجسد من روح القدس وصار انسانا وحبل به وولد فيه عدة مفاسد : منها أن المسيح لايخص مجرد الكلمة ولامجرد الجسد بل هو اسم يخص هذا الجسد الذى ولدته مريم عليها السلام ولم تكن الكلمة فى الأزل مسيحا فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء ومنها أن الذي نزل من السماء لايخلو إما أن يكون الكلمة أو الناسوت فان زعموا أن الذي نزل هو الناسوت فكذب صراح لان ناسوته من مريم وإن زعموا أنه اللاهوت فيقال : لايخلو إما أن يكون الذات أو العلم المعبر عنه بالكلمة فان كان الاول لزم لحوق النقائص للبارى عز اسمه وإن كان الثانى لزم انتقال الصفة وبقاء البارى بلا علم وذلك باطل
ومنها أن قولهم : إنما نزل لخلاص معشر الناس يريدون به آدم عليه السلام لما عصى أوثق سائر ذريته فى حبالة الشيطان وأوجب عليهم الخلود فى النار فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به وذلك دعوى لادلالة عليها هب أنا سلمناها لهم لكن يقال : أخبرونا مم هذا الخلاص الذي تعنى الإله الازلى له وفعل مافعل بنفسه لأجله ولم خلصكم وممن خلصكم وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينهم وكيف ابتذل وامتهن فى خلاصكم دون الأب والروح فان زعموا أن الخلاص من تكاليف الدنيا وهمومها أكذبهم الحس وإن كان من تكاليف الشرع وأنهم قد حط عنهم الصلاة والصوم مثلا أكذبهم المسيح والحواريون بما وضعوه عليهم من التكاليف وإن زعموا أنهم قد خلصوا من أحكام الدار الآخرة فمن ارتكب محرما منهم لم يؤاخذ أكذبهم الانجيل والنبوات إذ يقول المسيح فى الانجيل : إنى أقيم الناس يوم القيامة عن يمينى وشمالى فأقول لأهل اليمين : فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل تأسيس الدنيا وأقول لأهل الشمال :
(6/32)
فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعد لكم قبل تأسيس العلم السادس أن قولهم : وتجسد من روح القدس باطل بنص الانجيل إذ يقول : متى فى الفصل الثانى منه : إن يوحنا المعمدانى حين عمد المسيح جاءت روح القدس اليه من السماء فى صفة حمامة وذلك بعد ثلاثين من عمره
السابع أن قولهم : إن المسيح نزل من السماء وحملت به مريم وسكن فى رحمها مكذب بقول لوقا الانجيلى : إذ يقول فى قصص الحواريين فى الفصل الربع عشر منه إن الله تعالى هو خالق العالم بما فيه وهو رب السماء والارض لايسكن الهياكل ولاتناله أيدى الرجال ولايحتاج إلى أى شىء من الاشياء لانه الذى أعطى الناس الحياة فوجودنا به وحياتنا وحركاتنا منه فقد شهد لوقا بأن البارى وصفاته لاتسكن الهياكل ولاتناله الرجال بأيديها وهذا ينافى كون الكلمة سكنت فى هيكل مريم وتحولت إلى هيكل المسيح الثامن أن قولهم : إنه بعد أن قتل وصلب قام من بين الاموات وصعد إلى السماء وجلس عن يمينه أبيه من الكذب الفاحش المستلزم للحدوث التاسع أن قولهم : إن يسوع هذا الرب الذى صلب وقتل مستعد للمجىء تارة أخرى لفصل القضاء بين الاموات والاحياء بمنزلة قول القائل : لألفينك بعد الموت تندبنى وفى حياتى مازودتنى زادا إذ زعموا أنه فى المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تم عليه من أعدائه ماتم فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم فى المرة الثانية العاشر أن قولهم : ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الذنوب فيه مناقضة لأصولهم وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لم تغفر خطاياهم بدون قتل المسيح ولذلك سموه جمل الله تعالى الذى يحمل عليه الخطايا ودعوه مخلص العالم من الخطيئة فاذا آمنوا بأن المعمودية الواحدة هى التى تغفر خطاياهم وتخلص من ذنوبهم فقد صرحوا بأنه لاحاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة فان كان التعميد كافيا للمغفرة فقد اعترفوا أن وقوع القتل عبث وإن كانت لاتحصل إلا بقتله فما فائدة التعميد وماهذا الايمان فهذه عشرة وجوه كاملة فى رد تلك الأمانة وإظهار مالهم فيها من الخيانة ومن أمعن نظره ردها بأضعاف ذلك وقال أبو الفضل المالكى بعد كلام : بطلت أمانتهم فمن مضمونها ظهرت خيانتها خلال سطورها بدأوا بتوحيد الآله وأشركوا عيسى به فالخلف فى تعبيرها قالوا : بأن الههم عيسى الذى ذر الوجود على الخلفية كلها خلق أمه قبل الحلول ببطنها ماكان أغنى ذاته عن مثلها هل كان محتاجا لشرب لبانها أو أن يربى فى مواطن حجرها جعلوه ربا جوهرا من جوهر ذهبوا لما لايرتضيه أولو النهى قالوا : وجاء من السماء عناية لخلاص آدم من لظاه وحرها قد تاب آدم توبة مقبولة فضلاهم جعل الفداء بغيرها لو جاء فى ظلل الغمام وحوله شرفا ملائكة السماء بأسرها وفدى الذى بيديه أحكم طينه بالعفو عن كل الأمور وسترها ثم اجتباه محببا ومفضلا ووقاه من غى النفوس وشرها
(6/33)
كنتم تحلون الاله مقامه فيما تراه نفوسكم من شركها من غير أن يحتاج فى تخليصه كل الخلائق أن تبوء بضرها ويشينه الاعدا بما لايرتضى من كيدها وبما دهى من مكرها هذى أمانتهم وهئذا شرحها الله أكبر من معانى كفرها ثم اعلم أنه لاحجة للنصارى القائلين بالتثليث بما روى عن متى التلميذ أنه قال : إن المسيح عند ماودعهم قال : اذهبوا وعمدوا الأمم باسم الرب وروح القدس ومن هنا جعلوا متتح الانجيل ذلك كما أن مفتتح القرآن بسم الله الرحمن الرحيم ويوهم كلام بعض منا أن هذه التسمية نزلت من السماء كالبسملة عندنا لأنا نقول على تقدير صحة الرواية ودونها خرط القتاد : يحتمل أن يراد بالأب المبدأ فان القدماء كانوا يسمون المبادى بالآباء ومن الابن الرسول وسمى بذلك تشريفا وإكرما كما سمى ابراهيم عليه السلام خليلا أو باعتبار أنهم يسمون الآثار أبناء وقد رووا عن المسيح عليه السلام أنه قال : إنى ذاهب الى أبى وأبيكم وقال : لاتعطوا صدقاتكم قدام الناس لتراءوهم فانه لايكون لكم أجر عند أبيكم الذي فى السماء
وربما يقال : إن الابن بمعنى الحبيب أو نحوه ويشير إلى ذلك مارووه أنه عليه السلام قال عقيب وصية وصى بها الحواريين : لكى تكونوا أبناء أبيكم الذي فى السماء وتكونوا تامين كتا أن أباكم الذى فى السماء تام ويراد بروح القدس جبريل عليه السلام والمعنى عمدوا ببركة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم والملك المؤيد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تبليغ أوامر ربهم وفى كشف الغين عن الفرق بين البسملتين للشيخ عبد الغنى النابلسى قدس سره أن بسملة النصارى مشيرة إلى ثلاث حضرات للامر الآلهى الواحد الأحد : الغيب المطلق فالاب إشارة إلى الروح الذي هو اول مخلوق لله تعالى كما فى الخبر وهو المسمى بالعقل والقلم والحقيقة المحمدية ويضاف إلى الله تعالى فيقال : روح الله تعالى للتشريف والتعظيم ك ناقة الله تعالى وروح القدس إشارة اليه أيضا باعتبار ظهوره بصورة البشر السوى النافخ فى درع مريم عليها السلام والابن اشارة إلى عيسى عليه السلام وهو ابن لذلك الروح باعتبار أن تكونه بسبب نفخه والأب هو الابن والابن هو روح القدس فى الحقيقة والغيب المطلق منزه مقدس عن الثلاثة فانه سبحانه من حيث هو لاشىء معه ولايمكن أن يكون معه شىء فبسملة الانجيل من مقام الصفات الالهية والأسماء الربانية لامن مقام الذات الأقدسية
ثم لايتوهمن متوهم أن كلمات سادتنا الصوفية قدس الله أسرارهم تدندن حول كلمات النصارى كما يزعمه من لااطلاع له على تحقيق كلامهم ولاذوق له فى مشربهم وذلك لأن القوم نفعنا الله تعالى بهم مبرءون عما نسبه المحجوبون اليهم من اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول أما إنهم لم يقولوا بالتجسيم فلما تقرر عندهم من أن الحق سبحانه هو الوجود المحض الموجود بذاته القائم بذاته المتعين بذاته وكل جسم فهو صورة فى الوجود المنبسط على الحقائق المعبر عنه بالعماء متعينة بمقتضى استعداد ماهية المعدومة ولاشىء من الوجود المجرد من الماهية المتعين بذاته بالصورة المتعينة فى الوجدود المنبسط بمقتضى الماهية المعدومة فلاشىء من الجسم بالوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته وتنعكس إلى لاشىء من الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته وهو المطلوب وأما إنهم لم يقولوا بالعينية فلأن الحق تعالى هو ماعلمت من الوجود المحض الخ والمخلوق هو الصورة الظاهرة فى الوجود المنبسط على الحقائق المتعين بحسب ماهيته المعدومة ولاشىء من المجرد عن الماهية المتعين بذاته بالمقترن بالماهية المتعين
(6/34)
بحسبها ومما يشهد لذلك قول الشيخ الأكبر قدس سره فى الباب الثامن والخمسين وخمسمائة من الفتوحات فى حضرة البديع بعد بسط : وهذا يدلك على أن العالم ماهو عين الحق وإنما ظهر فى الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا وقوله فى هذا الباب أيضا فى قوله تعالى : وعنده مفاتيح الغيب لايعلمها إلا هو انفرد سبحانه بعلمها ونفى العلم عن كل ما سواه فأثبتك فى هذه الآية وأعلمك أنك لست هو إذ لو كنت هو لعملت مفاتح الغيب بذاتك وما لاتعلمه إلا بموقف فلست عين الموقف وكذا قال غير واحد وقال الشيخ شرف الدين إسمعيل بن سود كين فى شرح التجليات نقلا عن الشيخ قدس سره أيضا : لما ظهرت الممكنات بإظهار الله تعالى لها وتحقق ذلك تحققا لايمكن للممكن أن يزيل هذه الحقيقة أبدا فبقى متواضعا لكبرياء الله تعالى خاشعا له وهذه سجدة الأبد وهى عبارة عن معرفة العبد بحقيقته
ومن هنا يعلم حقيقة قوله سبحانه : كنت سمعه وبصره الحديث ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لائح قال : أنا الحق فسكر وصاح ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته انتهى وأما أنهم لم يقولوا بالاتحاد فلأن الاتحاد إما بصيرورة الوجود المحض المجرد المتعين بذاته وجودا مقترنا بالماهية المعدومة متعينا بحسبها أو بالعكس وذلك محال بوجهيه لأن التجرد عن الماهية ذاتى للحق تعالى والاقتران بها ذاتى للممكن وما بالذات لايزول
وفى كتاب المعرفة للشيخ الأكبر قدس سره إذا كان الاتحاد مصير الذاتين واحدة فهو محال لأنه إن كان عين كل منهما موجودا فى حال الاتحاد فهما ذاتان وإن عدمت العين الواحدة وثبتت الأخرى فليست إلا واحدة وقال فى كتاب الياء وهو كتاب الهو الاتحاد محال وساق الكلام إلى أن قال : فلا اتحاد البتة لامن طريق المعنى ولامن طريق الصورة وقال فى الباب الخامس من الفتوحات خطابا من الحق تعالى للروح الكلى : وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادى لك بالاسرار الآلهية إذ لاطاقة لك بحمل مشاهدتها إذ لو عرفتها لاتحدث الإنية واتحاد الانية محال فمشاهدتك لذلك محال هل ترجع إنية المركب إنية البسيط لاسبيل إلى قلب الحقائق وأما إنهم لم يقولوا بالحلول فلأنهم فسروا الحلول تارة بأنه الحصول على سبيل التبعية وتارة بأنه كون الموجود فى محل قائما به ومن المعلوم أن الواجب تعالى وهو الوجود المحض القائم بذاته المتعين كذلك يستحيل عليه القيام بغيره
قال الشيخ الأكبر قدس سره فى الباب الثانى والتسعين ومائتين من الفتوحات : نور الشمس إذا تجلى فى البدر يعطى من الحكم مالايعطيه من الحكم بغير البدر لاشك فى ذلك كذلك الاقتدار الآلهى إذا تجلى فى العبد يظهر الافعال عن الخلق فهو وإن كان بالاقتدار الآلهى لكن يختلف الحكم لأنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة لتجليه وكما يعلم عقلا أن القمر فى نفسه ليس فيه من نور الشمس شىء وأن الشمس ماانتقلت اليها بذاتها وإنما كان لها مجلى كذلك العبد ليس فيه من خلقه شىء ولاحل فيه وإنما هو مجلى له وخاصة ومظهر له انتهى
وهذا نص فى نفى الحلول ومنشأ غلط المحجوبين المنكرين عدم الفهم لكلام هؤلاء السادة نفعنا الله تعالى بهم على وجهه وعدم التمييز بين الحلول والتجلى ولم يعملوا أن كون الشىء مجلى لشىء ليس كونه محلا له فان الظاهر فى المرآة خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال فى محل فانه حاصل فيه فالظهور غير الحلول
(6/35)
فان الظهور فى المظاهر للواسع ىالقدوس يجامع التنزيه بخلاف الحلول نعم وقع فى كلامهم التعبير بالحلول ومرادهم به الظهور ومن ذلك قوله : ياقبلتى قابلينى بالسجود فقد رأيت شخصا لشخص فى قد سجدا لاهوته حل ناسوتى فقدسنى إنى عجبت لمثلى كيف ماعبدا وكان الأولى بحسب الظاهر عدم التعبير بمثل ذلك ولكن للقوم أحوال ومقامات لاتصل اليها أفهامنا ولعل عذرهم واضح عند المنصفين إذا علمت ذلك وتحققت اختلاف النصارى فى عقائدهم فاعلم أنه سبحانه إنما حكى فى بعض الآيات قول بعض منهم وفى بعض آخر قول آخرين وحكاية دعواهم ألوهية مريم عليها السلام كدعواهم ألوهيه عيسى عليه السلام مما نطق بها القرآن ولم يشع ذلك عنهم صريحا لكن يلزمهم ذلك بناءا على ماحققه الامام الرازى رحمه الله تعالى والنصارى اليوم ينكرونه والله تعالى أصدق القائلين ويمكن أن يقال : إن مدعى ألوهيتها عليها السلام صريحا طائفة منهم هلكت قديما كالطائفة اليهودية التى تقول عزير ابن الله تعالى على ما قيل ثم انه سبحانه بالغ فى زجر القائلين فأردف سبحانه النهى بقوله عز من قائل : انتهوا عن القول بالتثليث خيرا لكم قد مر الكلام فى أوجه انتصابه إنما الله إله واحد أى بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه سبحانه أن يكون له ولد أى أسبحه تسبيحا عن أو من أن يكون له ولد أو سبحوه عن أو من ذلك لأن الولد يشابه الأب ويكون مثله والله تعالى منزه عن التشبيه والمثل وأيضا الولد إنما يطلب ليكون قائما مقام أبيه إذا عدم ولذا كان التناسل والله تعالى باق لايتطرق ساحته العلية قناء فلا يحتاج إلى ولد ولاحكمة تقتضيه وقد علمت ماأوقع النصارى فى اعتقادهم أن عيسى عليه السلام ابن الله تعالى
ومن الاتفاقات الغريبة مانقله مولانا راغب باشا رحمه الله تعالى ملخصا من تعريفات أبى البقاء قال : قال الإمام العلامة محمد بن سعيد الشهير بالبوصيرى نور الله تعالى ضريحه : إن بعض النصارى انتصر لدينه وانتزع من البسملة الشريفة دليلا على تقوية اعتقاده فى المسيح عليه السلام وصحة يقينه به فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدم فيها وأخر وفكر وقدر فقتل كيف قدر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال : قد انتظم من البسملة ابن الله المحرر فقلت له : حيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكما وحزت منها أحكاما وحكما فلتنصرن البسملة منا الأخيار على الأشرار ولتفضلن أصحاب الجنة على أصحاب النار إذ قد قالت لك البسملة بلسان حالها : إنما الله رب المسيح راحم النحر لامم لها المسيح ورب مابرح الله راحم المسلمين سل ابن مريم أحل له الحرام لا المسيح ابن الله المحرر لامرحم للئام أبناء السحرة رحم حر مسلم أناب إلى الله لله نبى مسلم حرم الراح ربح رأس مال كلمة الإيمان فان قلت : إنه عليه السلام رسول صدقتك وقالت : إيل أرسل الرحمة بلحم وإيل من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم بيت لحم وهو المكان الذى ولد فيه عيسى عليه السلام إلى غير ذلك مما يدل على إبطال مذهب النصارى ثم انظر إلى البسملة قد تخبر أن من وراء حلها خيولا وليوثا ومن دون طلها سيولا وغيوثا ولاتحسبنى استحسنت كلمتك الباردة فنسجت على منوالها وقابلت الواحدة بعشر أمثالها بل أتيتك بما يغنيك فيبهتك ويسمعك مايصمك عن الإجابة فيصمتك فتعلم أن هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ومستودع لجوهر سرها المكنون ألا ترى أن البسملة
(6/36)
إذا حصلت جملتها كان عددها سبعمائة وستة وثمانين فوافق جملها إن مثل عيسى كآدم ليس لله من شريك بحساب الألف التى بعد لامى الجلالة ولاأشرك بربى أحدا يهدى الله لنوره من يشاء بإسقاط ألف الجلالة فقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خبرا وجاءك مالم تستطع عليها صبرا انتهى
وقد تقدم نظير ذلك فى الباقى بعد إسقاط المكرر من حروف المعجم فى أوائل السور حيث رتب الشيعى منه ماظنه مقويا لما هو عليه أعنى صراط على حقا نمسكه وقابلناه بما يبهته مرتبا من هذا الحروف أيضا فتذكر وقرأ الحسن إن يكون بكسر الهمزة ورفع النون أى سبحانه مايكون له ولد على أن الكلام جملتان له مافى السموات ومافى الأرض جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه وبيان ذلك أنه سبحانه مالك لجميع الموجودات علويها وسفليها لايخرج من ملكوته شىء منها ولو كان له ولد لكان مثله فى المالكية فلا يكون مالكا لجميعها وقوله تعالى : وكفى بالله وكيلا
171
- إشارة إلى دليل آخر لأن الوكيل بمعنى الحافظ فاذا استقل سبحانه وتعالى فى الحفظ لم يحتج إلى الولد فان الولد يعين أباه فى حياته ويقوم مقامه بعد وفاته والله تعالى منزه عن كل هذا فلا يتصور له ولد عقلا ويكون افتراؤه حمقا وجهلا
لن يستنكف المسيح استئناف مقرر لما سبق من التنزيه وروى أن نجران قالوا لنبينا صلى الله عليه و سلم : يا محمد لم تعيب صاحبنا قال : ومن صاحبكم قالوا عيسى عليه السلام قال : وأى شىء أقول فيه قالوا : تقول : إنه عبد الله ورسوله فنزلت والاستنكاف استفعال من النكف وأصله كما قال الراغب من نكف الشىء نحيته وأصله تنحية الدمع عن الخد بالأصبع وقالوا : بحر لاينكف أى لاينزح ومنه قوله : فبانوا ولولا ماتذكر منهم من الخلف لم ينكف لعينيك مدمع وقيل : النكف قول السوء ويقال : ماعليه فى هذا الأمر نكف ولاوكف واستفعل فيه للسلب قاله المبرد وفى الاساس استنكف ونكف امتنع وانقبض أنفا وحمية
وقال الزجاج : الاستنكاف تكبر فى تركه أنفة وليس فى الاستكبار ذلك والمعنى لن يأنف ولن يمتنع وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لن يستكبر المسيح أن يكون عبد الله أى عن أو من أن يكون عبد لله تعالى مستمرا على عبادته تعالى وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف وقد أشار القاضى عياض إلى شرف العبودية بقوله : ومما زادنى عجبا وتيها وكدت بأخمصى اطأ الثريا دخولى تحت قولك : ياعبادى وجعلك خير خلقك لى نبيا والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه السلام عن ذلك مع أن شأنه عليه السلام المباهاة به كما تدل عيه أحواله وتفصح عنه أقواله لوقوعه فى موضع الجواب عما قاله الكفرة كما علمت آنفا وهو السر فى جعل المستنكف منه كونه عليه السلام عبد له تعالى دون أن يقال : عن عبادة الله تعالى ونحو ذلك مع إفادته كما قيل فائدة جليلة هى كمال نزاهته عليه السلام عن الاستنكاف بالكلية لاستمرار هذا الوصف واستتباعه وصف العبادة فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم استنكاف ذلك بخلاف وصف العبادة فانها حالة متجددة غير مستلزمة للدوام يكفى فى اتصاف موصوفها بها تحققها مرة فعدم الاستنكاف عنها لايستلزم عنها عدم الاستنكاف عن دوامها
(6/37)
ومما يدل على عبوديته عليه السلام منكتب النصارى أن قولس قال فى رسالته الثانية : انظروا إلى هذا الرسول رئيس أحبارنا يسوع المؤتمن من عند خلقه مثل موسى عليه السلام فى جميع أحواله غير أنه أفضل من موسى عليه السلام وقال مرقس فى إنجيله : قال يسوع : إن نفسى حزينة حتى الموت ثم خر على وجهه يصلى لله تعالى وقال : أيها الأب كل شىء بقدرتك أحر عنى هذا الكأس لكن كما تريد لاكما أريد ثم خر على وجهه يصلى لله تعالى ووجه الدلالة فى ذلك ظاهر إذ هو سائل والله تعالى مسئول وهو مصلى والله تعالى مصلى له واى عبودية تزيد عى ذلك ونصوص الاناجيل ناطقة بعبوديته عليه السلام فى غير ماموضع ولله تعالى در أبى الفضل حيث يقول فيه : هو عبد مقرب ونبى ورسول قدخصه مولاه طهر الله ذاته وحباه ثم أتاه وحيه وهداه وبكن خلقه بدا كلمة الله إلى مريم البتول براه هكذا شأن ربه خالق الخلق بكن خلقهم فنعم الاله والأناجيل شاهدت وعنه إنما الله ربه لاسواه كان لله خاشعا مستكينا راغبا راهبا يرجى رضاه ليس يحيا وليس يخلق إلا أن دعاه وقد أجاب دعاه انما فاعل الجميع هو الله ولكن على يديه قضاه ويكفى فى إثبات عبوديته عليه السلام ماأشار الله تعالى اليه بقوله : ماالمسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام وفى التعبير بالمسيح مايشعر بالعبودية أيضا ولا الملائكة المقربون عطف على المسيح كما هو الظاهر أى لايستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله تعالى وقيل : أنه عطف على الضمير المستتر فى يكون أو عبدا لأنه صفة وليس بشىء وتقدير متعلق الفعل لازم على ماذهب اليه الأكثرون وقيل : أريد بالملائكة كل واحد منهم فلاحاجة إلى التقدير وزعم بعضهم أنه من عطف الجمل والتزم تقدير الفعل وهو كما ترى واحتج بالآية القاضى أبو بكر والحليمى والمعتزلة على أن الملائكة أفضل من الانبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الذى يقتضيه السياق وقواعد المعانى وكلام العرب الترقى من الفاضل إلى الأفضل فيكون المعنى لايستنكف ولا من فوقه كما يقال : لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان دون العكس وأجيب بأن سوق الآية وإن كان ردا على النصارى لكنه أدمج فيه الرد على عبدة الملائكة المشاركين لهم فى رفع بعض المخلوقين عن مرتبة العبودية إلى درجة المعبودية وادعاء انتسابهم إلى الله تعالى بما هو من شواءب الألوهية وخص المقربون لأنهم كانوا يعبدونهم دون غيرهم ورد هذا الجواب بأن هذا لاينفى فوقية الثانى كما هو مقتضى علم المعانى قيل : ولاورود لأنه يعلم من التقرير دفعه لأن المقصود بالذات أمر المسيح فلذا قدم ولو سلم أنه لاينفى الفوقية فهو لايثبتها كما إذا قلت : مافعل هذا زيد ولاعمرو وهو يكفى لدفع حجة الخصم وأما كون السباق والسياق يخالفه فليس بشىء لأن المجيب قال : انه إدماج واستطراد وأجيب أيضا على تقدير تسليم اختصاص الرد بالنصارى بأن الملائكة المقربون صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة فهذا العطف يقتضى كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح ولايلزم أن يكون
(6/38)
كل واحد منهم أفضل منالمسيح قال فى الانتصاف : وفيه نظر لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال : يلزمه القول بأنه أفضل من الكل كما أن النبى صلى الله عليه و سلم لما كان أفضل من كل واحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان أفضل من كلهم ولم يفرق بين التفضيل والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف فى هذا المعنى
وقد كان طار عن بعض الائمة المعاصرين تفضيله بين التفضيلين ودعوى أنه لايلزم منه على التفضيل تفضيل على الجملة ولم يثبت عنه هذا القول ولو قاله فهو مردود بوجه لطيف وهو أن التفضيل المراد جل أمارته رفع درجة الأفضل فى الجنة والاحاديث متظافرة بذلك وحينئذ لايخلو إما أن ترتفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق أنه أفضل من كل واحد منهم أولا ترتفع درجة أحد منهم عليه لاسبيل إلى الأول لأنه يلزم منه رفع المضول على الفضل فيتعين الثانى وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعاانتهى
قلت فما شاع من الخلاف بين الحنفية والشافعية فى أن النبى صلى الله عليه و سلم هل هو أفضل من المجموع كما أنه أفضل من الجميع أم أنه أفضل من الجميع فقط دون المجموع ليس فى محله على هذا فتدبر وقيل فى الجواب إن غاية ماتدل عليه الآية تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروييون الذين هم حول العرش أو من هم وأعلى رتبة منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك لايستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وفيه النزاع ورد بأن المدعى أن فى مثل هذا الكلام مقتضى قواعد المعانى الترقى من الأدنى إلى الأعلى دون العكس أو التسوية وقد علم أن الحكم فى الجمع ىالمحلى بأل على الآحاد وأن المدعى ليس إلا دلالة الكلام على أن الملك المقرب أفضل من عيسى عليه السلام وهذا كاف فى إبطال القول بأن خواص البشر أفضل من حواص الملك وزعم بعضهم أن عطف الملائكة على المسيح بالواو لايقتضى ترتيبا وما يورد من الأمثلة لكون الثانى أعلى مرتبة من الأول معارض بأمثلة لاتقتضى ذلك كقول القائل : مأعاننى على هذا الامر زيد ولاعمرو وكقولك : لانؤذ مسلما ولاذميا بل لو عكست فى هذا المثال وجعلت الأعلى ثانيا لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة كما قال فى الانتصاف ثم قال فيه : ولكن الحق أولى من المراد وليس بين المثالين تعارض ونحن نمهد تمهيدا برفع اللبس وبكشف الغطاء فنقول : النكتة فى التريتب فى المثالين الموهم تعارضهما واحدة وهى توجب فى مواضع تقديم الأعلى وفى مواضع تأخيره وتلك النكتة أن مقتضى البلاغة التنائى عن التكرار والسلامة عن النزول فاذا اعتمدت ذلك فهما أدى الى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله أو يكون الآخر مندرجا فى الأول قد أفاده وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن ذلك إلى مايكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول مثاله الآية المذكورة فانك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبدا غير مستنكف من العبودية لزم من ذلك أن مادونه فى الفضيلة أولى أن لايستنكف عن كونه عبدا لله تعالى وهم الملائكة على هذا التقدير فلم يتجدد إذن بقوله تعالى : ولا الملائكة المقربون إلا ماسلف أول الكلام وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة فكأنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لايستنكف عن كونه عبدا له تعالى إلى أن الأفضل لايستنكف عن ذلك ولبس
(6/39)
يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل فالحاجة داعبة إلى ذكر الملائكة إذ لم يستلزم الأول الآخر فصار الكلام على هذا التقدير متجدد الفائدة متزائدها ومتى كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز لأنه الغاية فى البلاغة
وبهذه النكتة يجب أن تقول : لاتؤذ مسلما ولاذميا فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب فى الآية لأنك إذا نهيته عن أذى المسلم فقد يقال ذاك من خواصه احتراما لدين الاسلام فلايلزم من ذلك نهيه عن أذى الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية فاذا قلت : ولاذميا فقد جددت فائدة لم تكن فى الأول وترقيت من النهى عن بعض أنواع الأذى إلى النهى عن أكثر منه ولو رتبت هذه المثال كترتيب الآية فقلت : لاتؤذ ذميا فهم المنهى أن أذى السلم أدخل فى النهى إذ يساوى الذمى فى سبب الالتزام وهو الإنسانية مثلا ويمتاز عنه بسبب هو أجل وأعظم وهو الاسلام فيقنعه هذا النهى عن تجديد نهى آخر عن أذى المسلم فان قلت : ولامسلما لم تجدد له فائدة ولم وتعلمه غير ماأعلمته أولا فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحيانا تأخيره ولايميز لك ذلك إلا السياق وما أشك أن سياق الآية يقتضى تقديم الأدنى وتأخير الأعلى ومن البلاغة المترتبة على هذه النكتة قوله تعالى : ولاتقل لهما أف استغناءا عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقديم الأدنى ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن يريد نهيا عن أعلى من التأفيف والانتهار لأنه مستغنى عنه وما يحتاج المدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها ولما اقتضى الانصاف تسليم إقتضاء الآية لتفضيل الملائكة وكان القول بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اعتقادا لأكثر أهل السنة والشيعة التزم حمل التفضيل فى الآية على غير محل الخلاف وذلك تفضيل الملائكة فى القوة وشد البطش وسعة التمكن والاقتدار
وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الرد على النصارى فى اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الاكمه والابرص وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة فناسب ذلك أن يقال : هذا الذى صدرت على يديه هذه الخوارق لاسيستنكف عن عبادة الله تعالى بل من هو أكثر خوارقا وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام وقد بلغ من قوته وإقدار الله تعالى له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلبها عاليها سافلها فيكون تفضيل الملائكة إذن بهذا الاعتبار ولاخلاف فى أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر وإنما الخلاف فى التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات فى دار الجزاء وليس فى الآية عليه دليل وقد يقال : لما كان أكثر مالبس على النصارى فى ألوهية عيسى عليه السلام كونه موجودا من غير أب أنبأ الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لايستنكف من عبادة الله تعالى ولاالملائكة المجودون من غير أب ولا أم فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى عليه السلام ويشهد أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام فنظر الغريب بالأغرب وشبه العجيب من آثار قدرته بالأعجب إذ عيسى مخلوق من آدم عليهما الصلاة السلام وآدم عليه السلام من غير أب ولا أم ولذلك قال سبحانه : خلقه من تراب ثم قال كن فيكون ومدار هذا البحث على النكتة التى أشير اليها فمتى استقام اشتمال المذكور ثانيا على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأى طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد طابق صيغة الآية انتهى
(6/40)
وبالجملة المسألة سمعية وتفصيل الأدلة والمذاهب فيها حشو الكتب الكلامية والقطع منوط بالنص الذى لايحتمل تأويلا وجوده عسر
وقد ذكر اآمدى فى أبكار الأفكار بعد بسط الكلام ونقض وإبرام إن هذه المسألة ظنية لاحظ للقطع فيها نفيا وإثباتا ومدارها على الأدلة السمعية دون الأدلة العقلية وقال أفضل المعاصرين صالح أفندى الموصلى تغمده الله برحمته فى تعليقاته على البضاوى : الأولى عندى التوقف فى هذه المسألة بالنسبة إلى غير نبينا صلى الله عليه و سلم إذ لاقطع يدل على الحكم فيها وليس معرفة ذلك ماكلفنا به والباب ذو خطر لاينبغى المجازفة فيه فالوقف أسلم واله تعالى أعلم ومن يستنكف عن عبادته أى طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى وإنما جعل المستنكف عنه ههنا عبادته تعالى لاماسبق كما قال شيخ الاسلام لتعليق الوعيد بالوصف الظاهر الثبوت للكفرة فان عدم طاعتهم له تعالى مما لاسبيل لهم إلى انكار اتصافهم به وعبر سبحانه عن عدم طاعتم له بالاستنكاف مع أن ذلك كان منهم بطريق إنكار كون الأمر من جهته تعالى لابطريق الاستنكاف لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا هو الاستنكاف عن طاعة الله تعالى إذ لاأمر له صلى الله تعالى عليه وسلم سوى أمره عز و جل من يطع الرسول فقد أطاع الله
وقيل : التعبير باالاستنكاف من باب المشاكلة ويستكبر أى عن ذلك وأصل الاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق لابمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للايذان بأن مآله محض الطلب بدون حصول المطلوب ونظير ذلك على ماقيل : قوله تعالى : يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا والاستكبار على ماأشار اليه الزجاج وتقدم دون الاستنكاف وجاء فى الحديث عنه صلى الله عليه و سلم لايدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل : يارسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسن ونعله حسن قال : إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس
وللناس فى تأويل الحديث أقوال ذكرها الإمام النووى فى شرح مسلم منها أن المراد بالكبر الماتع من دخول الجنة هو التكبر على الايمان واختارة مولانا أفضل المعاصرين ثم قال : وعليه فالمنفى أصل الدخول كما هو الظاهر المتبادر وتنكير الكبر للنوعية والمعرف فى آخر الحديث وهو جنس الكبر لهذا النوع بخصوصه وإن كان الغالب فى اعادة النكرة معرفة إرادة عين الأول وإنما صلى الله تعالى عليه وسلم حكم ذلك النوع بالبيان ليكون أبلغ فى الزجر عن الكبر فان جنسا يبلغ بعض أنواعه بصاحبه من وخامة العاقبة وسوء المغبة هذا المبلغ أعنى الشفاء المؤبد جدير بأن يحترز عنه غاية الاحتراز ثم عرف صلى الله تعالى عليه وسلم الكبر بما عرفه للئلا يتوهم انحصار الكبر المذموم فى النوع المذكور
وبهذا التقرير اندفع استبعاد النووى رحمه الله تعالى لهذا التأويل بأن الحديث ورد في سياق الزجر عن الكبر المعروف وهو إنكار الحق واحتقار الناس فحمل الكبر على ذلك خاصة خروج عن مذاق الكلام ووجه اندفاعه غير خفى على ذوى الأفهام انتهى والظاهر أن مافى الحديث تعريف باللازم للمعنى اللغوى فسيحشرهم إليه جميعا أى المستنكفين ومقابليهم المدلول عليهم بذكر عدم استنكاف المسيح والملائكة
(6/41)
المقربين عليهم السلام وقد ترك ذكر أحد المقربين فى المفصل تعويلا على إنباء التفصيل عنه وثقة اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق أجمعين كما ترك ذكر ذلك أحد الفريقين فى التفصيل عند قوله تعالى : فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به مع عموم الخطاب لهما ثقة بمثل ذلك فلا يقال : التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد وقيل فى توجيه المطابقة : إن المقصود من الحشر المجازاة ويكون قوله تعالى : فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم الخ تفصيلا للجزاء كأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته فسيعذب بالحسرة اذا رأى أجور العالمين وبما يصيبه من عذاب الله تعالى فالضمير راجع إلى المستنكفين المستكبرين لاغير وقد روعى لفظ من ومعناها
وتعقب العلامة التفتازانى ذلك بأنه غير مستقيم لأن دخول أما على الفر يقين لا على قسمى الجزاء وأورد هذا الفريق بعنوان الإيمان والعمل الصالح لابوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله ومابعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات ومعنى توفيتهم أجورهم إيتاؤهم إياها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا وقرىء فسيحشرهم بكسر الشين وهى لغة وقرىء فسنحشرهم بنون العظمة وفيه التفات ويزيدهم من فضله بتضعيف أجورهم أضعافا مضاعفة وبإعطائهم مالا عين رأت ولاأذن سمعت ولاخطر على قلب بشر
وأخرج ابن النذر وابن أبى حاتم والطبرانى وابن مردويه وأبو نعيم فى الحلية والاسماعيلى فى معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيددهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع اليهم المعروف فى الدنيا وأما الذين استنكفوا عن عبادة الله تعالى واستكبروا عنها فيعذبهم بسبب ذلك عذابا أليما لايحيط به الوصف ولايجدون من دون الله وليا يلى أمورهم ويدبر مصالحهم ولانصيرا
173
- ينصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه سبحانه ياأيها الناس خطاب لكافة المكلفين إثر بيان بطلان ماعليه الكفرة من فنون الكفر والضلال وإلزامهم بما تخر له صم الجبال وفيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولاعذر لمعتذر قد جاءكم أتاكم ووصل اليكم برهان من ربكم أى حجة قاطعة والمراد بها المعجزات على ماقيل
وأخرج ابن عسكر عن سفيان الثورى عن أبيه عن رجل لايحفظ اسمه إن المراد بالبرهان هو النبى صلى الله عليه و سلم وروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وعبر عنه عليه الصلاة و السلام بذلك لما معه من المعجزات التى تشهد بصدقه صلى الله عليه و سلم وقيل المراد بذلك دين الحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه و سلم والتنوين للتفخيم و من لابتداء الغاية مجازا وهى متعلقة بجاء أو بمحذوف وقع صفة مشرفة لبرهان مؤكدة لما أفاده التنوين وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أى كائن من براهين ربكم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لاظهار اللطف بهم والايذان بأن مجىء ذلك لترتيبهم وتكميلهم
وأنزلنا اليكم بواسطة النبى صلى الله عليه و سلم وفى عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة فى الاعذار نورا مبينا
174
- وهو القرآن كما قاله قتادة ومجاهد والسدى واحتمال إرادة الكتب السابقة الدلة على نبوته صلى الله عليه و سلم بعيد غاية البعد وإذا كان االمراد من البرهان القرآن أيضا فقد سلك
(6/42)
به مسلك العطف المبنى على تغاير الطرفين الطرفين تنزيلا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية وإطلاق البرهان عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به وإطلاق النور المبين لأنه بين بنفسه مسنغن فى ثبوت حقيته وكونه من الله تعالى باعجازه إلى غير مبين لغيره من حقية الحق وبطلان الباطل مهدى للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الايمان وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجىء المسند اليه المنبىء عن كمال قوته فى البرهانية كأنه يجىء بنفسه فيثبت مايثبت من غير أن يجىء به أحد ويجىء على شبه الكفرة بالابطال والأخرى بالانزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به وإسناد إنزاله اليه تعالى الالتفات لكمال تشريفه قاله مولانا شيخ الاسلام والأمر على غير ذلك التقدير هين فأما الذين امنوا بالله حسبما يوجبه البرهان الذى جاءهم واعتصموا به أى عصموا به سبحانه أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره
وأخرج ابن جرير وغيره ابن جريج أن الضمير راجع إلى القرآن أعنى النور المبين وهو خلاف الظاهر فسيدخلهم فى رحمة الله أى ثواب عظيم قدره بإزاء إيمانهم وعملهم رحمة منه سبحانه لاقضاءا لحق واجب وعن عباس رضى الله تعالى عنهما أن المراد بالرحمة الجنة فعلى الأول التجوز فى كلمة فى لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف وعلى الثانى التجوز فى المجرور دون الجار قاله الشهاب والبحث فى ذلك شهير و منه متعلق بمحذوف وقع صفة مشرفة لرحمة وفضل أى إحسان لايقادر قدره زائد على ذلك
ويهديهم إليه أى إلى الله عز و جل والمراد فى المشهور إلى عبادته سبحانه وقيل الضمير عائد على جميع ماقبله باعتبار أنه موعود وقيل : على الفضل صراطا مستقيما
175
- هو الاسلام والطاعة فى الدنيا وطريق الجنة فى الاخرى وتقديم ذكر الوعد بالادخال فى الرجمة الثواب أو الجنة على الوعد بهذه الهداية للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الاصلى
وفى وجه انتصاب صراطا أقوال فقيل : إنه مفعول ثان لفعل مقدر أى يعرفهم صراطا وقيل إنه مفعول ثان ليهديهم باعتبار تضمينه معنى يعرفهم وقيل : مفعول ثان له بناءا على أن الهداية تتعدى الى مفعولين حقيقة
ومن الناس من جعل اليه متعلقا بمقدر أى مقربين اليه أو مقربا إياهم اليه على أنه حال من الفاعل أو المفعول ومنهم من جعله حالا من صراطا ثم قال : ليس لقولنا : يهديهم طريق الاسلام إلى عبادته كبير معنى فالأوجه أن يجعل صراطا بدلا من اليه وتعقبه عصام الملة والدين بأن قولنا : يهديهم طريق الاسلام موصلا إلى عبادته معناه واضح ولاوجه لكون صراطا بدلا من الجار والمجرور فافهم يستفتونك أى فى الكلالة استغن عن ذكره لوروده فى قوله تعالى : قل الله يفتيكم فى الكلالة والجار متعلق ب يستفتونك وضعفه أبو البقاء بأنه لو كان كذلك لقال يفتيكم فيها فى الكلالة وقد مر تفسير الكلالة فى مطلع السورة والآية نزلت فى جابر بن عبد الله كما أخرجه عنه ابن أبى حاتم وغيره
(6/43)
وأخرج الشيخان وخلق كثير عنه قال دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا مريض لاأعقل فتوضأ ثم صب على فعقلت فقلت : إنه لايرثنى إلا كلالة فكيف الميراث فنزلت آية الفرائض وهى آخر آية نزلت فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن البراء قال : آخر سورة كاملة براءة وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء والمراد من الآيات المتعلقة بالأحكام كما نص على ذلك المحققون وسيأتى تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى وتسمى آية الصيف أخرج مالك ومسلم عن عمر رضى الله تعالى عنه قال : ما سألت النبى صلى الله عليه و سلم عن شىء أكثر مماسألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه فى صدري وقال : يكفيك آية الصيف التى فى آخر سورة النساء إن امرؤا هلك استئناف مبين للفتيا وارتفع امرؤ بفعل يفسره المذكور على المشهور وقوله تعالى ليس له ولد صفة له ولايضر الفصل بالمفسر لانه تأكيد وقيل : حال منه واعترض بأنه نكرة ومجىء الحال منها خلاف الظاهر إذ المتبادر فى الجمل الواقعة بعد النكرات أنها صفات وقال الحلبى : يصح كونه حالا منه و هلك صفة له وجعله أبو البقاء حالا من الضمير المستكن فى هلك وقيل عليه : إن المفسر غير مقصود حتى ادعى بعضهم أنه لاضمير فيه لأنه تفسير لمجرد الفعل بلا ضمير وإن رد بقوله تعالى : قل أنتم تملكون وقال أبو حيان : الذي يقتضيه النظم أن ذلك ممتنع وذلك لأن المسند اليه فى الحقيقة إنما هو الاسم المعمول للفعل المحذوف فهو الذي ينبغى أن يكون التقييد له أما الضمير فانه فى جملة مفسرة لاموضع لها من الاعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق وإذا دار الاتباع والتقييد بين مؤكد ومؤكد فالوجه أن يكون للمؤكد بالفتح إذ هو معتمد الاسناد الأصلى ووافقه الحلبى وقال السفاقسى : الأظهر أن هذا مرجح لاموجب والمراد من الولد على مااختاره البعض الذكر لأنه المتبادر ولأن الاخت وإن ورثت مع البنت عند غير ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والإمامية لكنها لاترث النصف بطريق الفرضية وتعقبه بعض المحققين مختارا العموم بأنه تخصيص من غير مختص والتعليل بأن الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد لأن الحكم تعيين النصف وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما أما الابن فلأنه يسقط الأخت وأما البنت فلأنها تصيرها عصبة فلا يتعين لها فرض نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لاالفرضية فلاحاجة إلى تفسير الولد بلابن لامنطوقا ولامفهوما وأيضا الكلام فى الكلالة وهو من لايكون له ولد أصلا وكذا مالايكون له والد إلا أنه اقتصر على عدم ذكر الولد ثقة بظهور الأمر والولد مشترك معنوى فى سياق النفى فيعم فلابد للتخصيص من مخصص وأنى به فليفهم وقوله تعالى : وله أخت عطف على ليس له ولد ويحتمل الحالية والمراد بالأخت الأخت من الأبوين والأب لأن الأخت من الأم فرضها السدس وقد مر بيانه فى صدر السورة الكريمة
فلها نصف ماترك أى بالفرض والباقى للعصبة أو لها بالرد إن لم يكن له عصبة والفاء واقعة فى جواب الشرط وهو أى المرء المفروض يرثها أى أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه والجملة مستأنفة لاموضع لها من الاعراب وقد سدت كما قال أبو البقاء مسد جواب الشرط فى قوله تعالى : إن لم يكن لها ولد ذكرا كان أو انثى فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية
(6/44)
لا إرثه لها فى الجملة فانه يتحقق مع وجود بنتها والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به وقد دلت السنة على أنهم لايرثون مع الأب إذ صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى عصبة ذكر ولاريب فى أن الأب أولى من الأخ وليس ماذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مماترك عطف على الشرطية الأولى والضمير لمن يرث الأخوة وتثنيه محمولة على المعنى وحكم ماقوق الاثنين كحكمها واستشكل الإخبار عن ضمير التثنية بالاثنتين لأن الخبر لابد أن يفيده المبتدأ ولهذا لايصح سيد الجارية مالكها وضمير التثنية دال على الاثنينية فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا وأجيب عن ذلك أن الاثنينية تدل على مجرد التعدد من غير تقييد بكبر أو صغر أو غير ذلك من الاوصاف فكأنه قيل : إنهما يستحقان ماذكر بمجرد التعدد من غير اعتبار أمر آخر وهذا مفيد وإليه ذهب الاخفش ورد بأن ضمير التثنية يدل على ذلك أيضا فعاد الاشكال وروى مكى عنه أنه أجاب بأن ذلك حمل على معنى من يرث وأن الاصل والتقدير إن كان من يرث بالاخوة اثنين وإن كان من يرث ذكورا وإناثا فيما يأتى وإنما قيل : كانتا و كانوا لمطابقة الخبر كما قيل : من كانت أمك ورد بأنه غير صحيح وليس نظير المثال لانه صرح فيه بمن وله لفظ ومعنى فمن أنث راعى المعنى وهو الأم ولم يؤنث لمراعاة الخبر ومدلول الخبر فيه مخالف لمدلول الاسم بخلاف مانحن فيه فان مدلولهما
واحد وذكر أبو حيان لتخريج الآية وجهين : الاول أن ضمير كانتا لايعود على الاختين بل على الوارثين وثم صفة محذوفة لاثنتين والصفة مع الموصوف هو الخبر والتقدير فان كانتا أى الوارثتان اثنتين من الاخوات فيفيد وإذ ذاك الخبر مالايفيده الاسم وحذف الصفة لفهم المعنى جائز والثانى أن يكون الضمير عائدا على الاختين كما ذكروا ويكون خبر كان محذوفا لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلا ويكون اثنتين حالا مؤكدة والتقدير فان كانتا أى الاختان له أى للمرء الهالك ويدل على حذف له وله أخت
وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فلذلك مثل حظ الانثيين أصله وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب المذكر بقرينه رجالا ونساءا الواقع بدلا وقيل : فيه اكتفاء يبين الله لكم حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التى من جملتها حكمها وإلى هذا ذهب أبو مسلم أن تضلوا أى كراهة أن تضلوا فى ذلك وهو رأى البصيرين وبه صرح المبرد
وذهب الكسائى والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير اللام ولافى طرفى أن أى لئلا تضلوا وقيل ليس : هناك حذف ولاتقدير وإنما المنسبك مفعول يبين أى يبين لكم ضلالكم ورجح هذا بأنه من حسن الختام والالتفات إلى أول السورة وهو يأيها الناس اتقوا ربكم فانه سبحانه أمرهم بالتقوى وبين لهم ماكانوا عليه فى الجاهلية ولما تم تفصيله قال عز و جل : إنى بينت لكم ضلالكم فاتقونى كما أمرتكم فان الشر إذا عرف اجتنب والخير إذا عرف ارتكب واعترض بأن المبين صريحا هو الحق والضلال يعلم بالمقايسة فكان الظاهر يبين لكم الحق إلا أن يقال : بيان الحق وبيان الضلال خفى فاحتيج إلى التنبيه عليه وفيه تأمل وذكر الجلال السيوطى أن حسن الختام فى هذه السورة أنها ختمت بآية الفرائض وفيها أحكام
(6/45)
الموت الذى هو آخر أمر كل حى وهي أيضا آخر مانزل من الاحكام والله بكل شىء من الأشياء التى من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم وممتاكم عليم مبالغ فى العلم فيبين لكم مافيه مصلحتكم ومنفعتكم
هذا ومن باب الاشارة فى الآيات إن الذين كفروا ستروا مااقتضاه استعدادهم وصدوا ومنعوا غيرهم عن سلوك سبيل الله أى الطريق الموصلة اليه قد ضلوا ضلالا بعيدا لحرمانهم أنفسهم وغيرهم عما فيه النجاة إن الذين كفروا وظلموا منعوا استعدادهم عن حقوقها من الكمال بارتكاب الرذائل لم يكن الله ليغفر لهم لبطلان استعدادهم ولاليهديهم طريقا لجهلهم المركب واعتقادهم الفاسد إلا طريق جهنم وهى نيران أشواق نفوسهم الخبيثة وكان ذلك على الله يسيرا لانجذابهم اليها بالطبيعة ياأهل الكتاب لاتغلوا فى دينكم نهى اليهود والنصارى عند الكثيرين من ساداتنا وقد غلا الفريقان فى دينهم أما اليهود فتعمقوا فى الظاهر ونفى البوطن فحطوا عيسى عليه السلام عن درجة النبوة والتخلق بأخلاق الله تعالى وأما النصارى فتعمقوا فى البوطن ونفى الظواهر فرفعوا عيسى عليه السلام إلى درجة الألوهية ولاتقولوا على الله إلا الحق بالجمع بين الظواهر والبواطن والجمع والتفضيل كما هو التوحيد المحمدى إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله الداعى اليه وكلمته ألقاها إلى مريم أى حقيقته من حقائقه الدالة عليه وروح منه أى أمر قدسي منزه عن سائر النقائص وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن سبب تخصيص عيسى عليه السلام بهذا الوصف أن النافخ له من حيث الصورة الجبريلية هو الحق تعالى لاغيره فكان بذلك روحا كاملا مظهرا لاسم الله تعالى صادرا من اسم ذاتى ولم يكن صادرا من الاسماء الفرعية كغيره وماكان بينه وبين الله تعالى وسائط كما فى أرواح الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام فان أرواحهم وإن كانت من حضرة اسم الله تعالى لكنها بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الأسمائية فما سمى عيسى عليه السلام روح الله تعالى وكلمته إلا لكونه وجد من باطن أحدية جمع الحضرة الآلهية ولذلك صدرت منه الأفعال الخاصة بالله تعالى من إحياء الموتى وخلق الطير وتأثيره فى الجنس العالى الدون وكانت دعوته عليه السلام إلى الباطن والعالم القدسى فان الكلمة إنما هى من باطن اسم الله تعالى جسمه من الأقذار الطبيعية لأنه روح متجسدة فى بدن مثالى روحانى إلى آخر ماذكره الإمام الشعرانى فى الجواهر والدرر فآمنوا بالله ورسله بالجمع والتفصيل ولاتقولوا ثلاثة لأن ذلك ينافى التوحيد الحقيقى وعيسى عليه السلام فى الحقيقة فان وجوده بوجود الله تعالى وحياته جل شأنه وعلمه عليه السلام بعلمه سبحانه إنما الله إله واحد وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الاطلاق سبحانه أن يكون له ولد أىأنزهه عن أن يكون موجود غيره متولد منه مجالس له فى الوجود له مافى السموات ومافى الارض أى مافى سموات الأرواح وأرض الأجساد لأنها مظاهر أسمائه وصفاته عز شأنه لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله فى مقام التفصيل إذ كل ماظهر فهو ممكن والممكن لاوجود له بنفسه فيكون عبدا محتاجا ذليلا مفتقرا غير مستنكف عن ذلة العبودية ولا الملائكة المقربون الذين هم أرواح مجردة وأنوار قدسية محضة وأما فى مقام الجمع فلا عيسى ولاملك ولاقرب ولابعد ولا ولا 0000
ومن يستنكف عن عبادته بظهور أنانيية ويستكبر بطغيانه فى الظهور بصفاتهفسيحشرهم اليه جميعا
(6/46)
بظهور نور وجهه وتجليه بصفة القهر حتى يفنوا بالكلية فى عين الجمع فأما الذين آمنوا الإيمان الحقيقى بمحو الصفات وطمس الذات وعملوا الصالحات وراعوا تفاصيل الصفات وتجلياتها فيوفيهم أجورهم من جنات صفاته ويزيدهم من فضله بالوجود الوهب لهم بعد الفناء وأما الذين استنكفوا وأظهروا الانانية واستكبروا وطغوا فقال قائلهم : أنا ربكم الاعلى مع رؤيته نفسه فيعذبهم عذابا أليما باحتجاهم وحرمانهم ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وهو التوحيد الذاتى وأنزلنا إليكم نورا مبينا وهو التفصيل فى عين الجمع فالأول إشارة إلى القرآن والثانى إلى الفرقان فاما الذين آمنوا واعتصموا به ولم يلتفتوا إلى الاغيار من حيث أنها أغيار فسيدخلهم فى رحمة منه وهى جنات الافعل وفضل وهو جنات الصفات ويهديهم إليه صرطا مستقيما وهو الفناء فى الذات أو الرحمة جنات الصفات و الهداية اليه صراطا مستقيما الاستقامة على الوحدة فى تفاصيل الكثرة ولاحجر عر أرباب الذوق فكتاب الله تعالى بحر لاتنزفه الدلاء والله تعالى الهادى إلى سواء السبيل ونسأله التوفيق لفهم كلامه وشرح صدورنا بعوائد إحسانه وموائد أنعامه لارب غيره ولايرجى إلا خيره
5
- سورة المائدة
وتسمى أيضا بالعقود والمنقذة قال ابن الفرس : لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب وهى مدنية فى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وقال أبو جعفر بن بشر والشعبى : إنها مدنية إلا قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم فانه نزل بمكة
وأحرج أبو عبيد عن محمد القرظى قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فى حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك من ثقل الوحى وأخرج غير واحد عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت : المائدة آخر سورة نزلت وأخرج أحمد والترمذى عن ابن عمر أن آخر سورة المائدة والفتح وقد تقدم آنفا عن البراء أن آخر سورة نزلت براءة ولعل كلا ذكر ماعنده وليس فى ذلك شىء مرفوع إلى النبى صلى الله عليه و سلم نعم أخرج أبو عبيدة عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها وهو غير واف بالمقصود لكان من
واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شىء وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل والحسن رضى الله تعالى عنهما كما أخرج ذلك عنهما أبو داود وأخرج عن الشعبى أنه لم ينسخ منها إلا قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لاتحلوا شعائر الله ولاالشهر الحرام ولاالهدى ولاالقلائد وأخرج ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال : نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله سبحانه : فان جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات وسيأتى الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى
(6/47)
وعدة آيها مائة وعشرون عند الكوفيين وثلاث وعشرون عند البصرين واثنان وعشرون عند غيرهم ووجه اعتلاقها بسورة النساء على ماذكره الجلال السيوطى عليه الرحمة أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا فالصريح عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان والضمنى عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والاجارة وغير ذلك الداخل فى عموم قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكقيل : ياأيها الناس أوفوا بالعقود التى فرغ من ذكرها فى السورة التى تمت وإن كان فى هذه السورة أيضا عقود ووجه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك ياأيها الناس وفيها الخطاب بذلك فى مواضع وهو اشبه بتنزيل المكى وأول هذه ياأيها الذين آمنوا وفيها الخطاب بذلك فى مواضع وهو أشبه بخطاب المدنى وتقديم العام وشبه المكى أنسب
ثم إن هاتين السورتين فى التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران فتانك اتحدا فى تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما وهاتان فى تقرير الفروع الحكمية
وقد ختمت المائدة فى صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك وافتتحت النساء ببدء الخلق وختمت المائدة بالمنهى من البعث والجزاء فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأخكام من المبدأ إلى المنتهى ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لايخفى على المتأمل
بسم الله الرحمن الرحيم ياأيها الذين آمنوا أفوا بالعقود الوفاء حفظ ما يقتضيه العقد والقيام بموجبه ويقال : وفى ووفى وأوفى بمعنى لكن فى المزيد مبالغة ليست فى المجرد وأصل العقد الربط محكما ثم تجوز به عن العهد الموثق وفرق الطبرسى بين العقد والعهد بأن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ولايكون إلا بين اثنين والعهد قد يتفرد به واحد واختلفوا فى المراد بهذه العقود على أقوال : أحدها أن المراد به العهود التى أخذ الله تعالى على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم وهو مروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وثانيها العقود التى يتعاقد الناس بينهم كعقد الإيمان وعقد النكاح وعقد البيع ونحو ذلك واليه ذهب ابن زيد وزيد بن أسلم وثالثها العهود التى كانت تؤخذ فى الجاهلية على النصرة والمؤازرة على من ظلم وروى ذلك عن مجاهد والربيع وقتادة وغيرهم ورابعها العهود التى أخذها الله تعالى على أهل الكتاب بالعمل بما فى التوراة والانجيل مما يقتضى التصديق بالنبى صلى الله عليه و سلم وبما جاء به وروى ذلك عن ابن جريج وأبى صالح وعليه فالمراد من الذين آمنوا مؤمنوا أهل اكتاب وهو خلاف الظاهر واختار بعض المفسرين أن المراد بها مايعم جميع ماألزمه الله تعلاى عباده وعقد عليهم من التكاليف والاحكام الدينية وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به أو يحسن دينا ويحمل الأمر على مطلق الطلب ندبا أو وجوبا ويدخل فى ذلك اجتناب المحرمات والمكروهات لأنه أوفق بعموم اللفظ إذ هو جمع محلى باللام وأوفى بعموم الفائدة
واستظهر الزمخشرى كون المراد بها عقود الله تعالى عليهم فى دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه لما فيه كا فى الكشف من براعة الاستهلال والتفصيل بعد الاجمال لكن ذكر فيه أن مختار البعض أولى لحصول الغرضين زيادة التعميم وأن السور الكريمة مشتملة على أمهات التكاليف الدينية فى الأصول والفروع ولو لم يكن
(6/48)
إلا تعاونوا على البر والتقوى و اعدلوا هو أقرب للتقوى لكفى وتعقب بما لايخلو عن نظر
وزعم بعضهم أن فيه نزع الخف قبل الوصول إلى الماء وما استظهره الزمخشرى خال عن ذلك والأمر فيه هين وفى القول بالعموم رغب الراغب كما هو الظاهر فقد قال : العقود باعتبار المعقود والعاقد ثلاثة أضرب عقد بين الله تعالى وبين العبد وعقد بين العبد ونفسه وعقد بينه وبين غيره من البشر وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان : ضرب أوجبه العقل وهو ماركز الله تعالى معفرته فى الانسان فيتوصل اليه إما ببديهة العقل وإما بأدنى نظر دل عليه قوله تعالى : وإذ أخذ ربك من بنى آدم الآية وضرب أوجبه الشرع وهو مادلنا عليه كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم فذلك ستة أضرب وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو مايرزم بالتزام الانسان إياه والثانى أربعة أضرب : فالأول واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول : على أن أصوم إن عافانى الله تعالى والثانى مستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فان له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك والثالث يستحب ترك الوفاء به وهو ماقال صلى الله عليه و سلم إذا حلف أحدكم على شىء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذى هو خير منه وليكفر عن يمينه والرابع واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول : على أن أقتل فلانا المسلم فيحصل من ضرب ستة فى أربعة أربعة وعشرون ضربا وظاهر الآية يقتضى كل عقد سوى ماكان تركه قربة أو واجبا فافهم ولاتغفل أحلت لكم بهيمة الأنعام شروع فى تفصيل الاحكام التى أمر بأيفئها وبدأ سبحانه بذلك لانه مما يتعلق بضروريات المعاش و البهيمة من ذوات الارواح مالاعفل له مطلقا وإلى ذلك ذهب الزجاج وسمى بهيمة لعدم تمييزة وإبهام الامر عليه
ونقل الامام الشعرانى عن شيخه على الخواص قدس سره أن سبب تسمية البهائم بهائم ليس إلا لكون أمر كلامها وأحوالها أبهم على غالب الخلق لاأن الامر أبهم عليها وذكر مايدل على عقلهاا وعلمها وسيأتى تخقيق ذلك إن شاء الله تعالى
وقال غير واحد : البهيمة اسم لكل ذى أربع من دواب البر والبحر وإضافتها إلى الانعام للبيان كثوب خز أى أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام وهى الأزواج الثمانية المذكورة فى سورتها واعترض بأن البهيمة اسم جنس والأنعم نوع منه فإضافتها اليه كإضافة حيوان إنسان وهى مستقبحة وأجيب بأن إضافة العام إلى الخاص إذا صدرت من بليغ وقصد بذكره فائدة فحسنة كمدينة بغداد فان لفظ بغداد لما كان غير عربى لم يعهد معناه أضيف اليه مدينة لبيان مسماه وتوضيحه وكشجر الأراك فانه لما كان الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد وهكذا وإلا فلغو زائد مستهجن وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل معناه على ماقيل ولذا لا يقال : النعم إلا لها أضيف اليه بهيمة إشارة إلى ماقصد به وذكر البهيمة وإفرادها لارادة الجنس وجمع الأنعام ليشمل أنواعها ألحق بها الظباء وبقر الوحش وقيل : هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام فى الاجترار وعدم الأنياب وروى ذلك عن الكلبى والفراء وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما وجوز يبعض المحققين فى إضافة المشبه لللمشبه به كونها بمعنى اللام على جعل ملابسة المشبه به اختصاصا بينهما أو بمعنى من البيانية على جعل المشبه نفس به وفائدة هذه الإضافة هنا الاشعار بعلة الحكم المشتركة بين المتضافين كأنه قيل : أحلت لكم البهيمة المشبهة بالأنعام التى بين إحلالها فيما سبق لكم المماثلة لها فى مناط الحكم وقيل : المراد بهيمة الأنعام مايخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها
(6/49)
وهى ميتة وروى ذلك عنةابن عباس وابن عمر وهو المروى عن أبى جعفر وأبى عبد الله رضى تعالى عنهم فيكون مفاد الآية صريحا حل أكلها وبه قال الشافعى واستدل عليه بغير ماخبر ويفهم منها حل الأنعام وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لاظهار االعناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى ذكر المؤخر
وفى الآية رد على المجوس فانهم حرموا ذبح الحيوانات وأكلها قالوا : لان ذبحها إيلام والايلام قبيح خصوصا إيلام من بلغ فى العجز إلى حيث لايقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لايرضى به الاله الرحيم الحكيم
وزعموا لعنهم الله تعالى أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور والتناسخية لم يجوزوا صدور الآلام منه تعالى ابتداءا بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ماسبق من اقتراف الجرائم والتزموا أن البهائم مكلمة عالمة بما يجرى من الآلام وأنها مجازاة على فعلها ولولا ذلك لما تصور انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف
وزعم البعض منهم أنه مامن جنس من البهائم إلا وفيهم نبى مبعوث اليهم من جنسهم بل زعموا آخرون أن جميع الجمادات أحياء مكلفة وأنها مجازاة على ماتقترفه من الخير والشر ونسب نحوا من ذلك الإمام الشعرانى إلى السادة الصوفية وأبى أهل ذلك كل الإباء ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوانات من الله تعالى زعموا أن البهائم لاتتألم وكذلك الاطفال الذين لايعقلون ولايخفى أن ذلك مصادم للبديهة ولايقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم وأجاب المعتزلة بما رده أهل السنة وأجابوا بأن الإذن فى ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى فى خالص ملكه فلا اعتراض عليه والتحسين والتقبيح العقليان قد طوى بساط الكلام فيهما فى علم الكلام وكذا القول بالنور والظلمة وقال بعض المحققين : لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات وبه تمت نسخة العالم لم يقبح عقلا جعل شىء مما دونه غذاءا له بذبحه وإيلامه اعتناءا بمصلحته حسبما تقتضيه الحكمة التى لايحلق إلى سرها طائر الافكار وقال بعض الناس : الآية مجملة لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أوعظمها أو صوفها أو الكل وفيه نظر لأن ظهور تقدير الأكل مما لايكاد ينتطح فيه كبشان نعم ذكر ابن السبكى وغيره أن قوله تعالى : إلا مايتلى عليكم مجمل للجهل بعناه قبل نزول مبنيه ويسرى الإجمال إلى ماتقدم ولكن ذاك ليس محل النزاع والاستثناء متصل من بهيمة بتقدير مضاف محذوف مايتلى أى إلا محرم مايتلى عليكم وعنى بالمحرم الميتة وأهل لغير الله به إلى آخر ماذكر فى الآية الثالثة من السورة أو من فاعل يتلى أى إلا مايتلى عليكم آية تحريمه لتكون ما عبارة عن البهيمة المحرمة لا اللفظ المتلو وجوز اعتبار التجوز فى الإسناد غير تقدير وليس بالبعيد وأما جعله مفرغا من الموجب فى موقع الحال أى إلا كائنة على الحالات المتلوة فبعيد كما قال الشهاب جدا وذهب بعضهم إلى أنه منقطع بناءا على الظاهر لأن المتلو لفظ والمستثنى منه ليس من جنسه والاكثرون على الأول ومحل المستثنى النصب وجوز الرفع على ماحقق فى النحو غير محلى الصيد حال من الضمير فى لكم على ماعليه أكثر المفسرين و الصيد يحتمل المصدر والمفعول وقوله تعالى : وأنتم حرم حال عما استكن فى محل
(6/50)
والحرم جمع حرام وهو المحرم ومحصل المعنى أحلت لكم هذه الاشياء لامحلين الاصطياد أو أكل الصيد فى الاحرام وفسر الزمخشرى عدم إجلال الصيد فى حالة الاحرام بالامتناع عنه وهم محرمون حيث قال : كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام فى حالة امتناعكم عن الصيد وأنتم حرم لئلا يكون عليكم حرج ولم يحمل الاحلال على اعتقاد الحل ظنا منه أن تقييد الاحلال بعدم اعتقاد الحل غير موجه وقد يقال : إن الأمر كذلك لو كان المراد مطلق اعتقاد الحل أما لوكان المراد عدم اعتقاد ناشىء من الشرع ومترتب منه فلا لأن حاله إن لم يكن عين حال الامتناع فليس بالأجنبى عنه كما لايخفى على المتدبر وأشارإليه شيخ مشايخنا جرجحيس أفندى الأربلى رحمه الله تعالى عليه
واعترض فى البحر على ماذهب إليه الأكثرون بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم وهى قد أحلت لهم مطلقا فلا يظهر له فائدة إلا إذا أريد ببهيمة الأنعام الصيود المشبهة بها كالظباء وبقر الوحش وحمره ودفع بأنه مع عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها إذا أحلت فى عدم الاحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم فكيف فى غير هذه الحال فيكون بيانا لإنعام الله تعالى عليهم بما رخص لهم من ذلك وبيانا لأنهم فى غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم
وعبارة الزمخشرى كالصريحة فى ذلك ودفعه العلامة الثانى بأن المراد من الانعام ماهو أعم من الانسى والوحشى مجازا أو تغليبا أو دلالة أو كيفما شئت وإحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين الصيد فى الاحرام إذ معه يحرم البعض وهو الوحش ولايخفى أنه توجيه وحشى لاينبغى لحمزة غاية التنزيل أن يقصده من مراصد عبارته وذهب الأخفش إلى أن انتصاب غير على الحالية من ضمير أوفوا وضعف بأن فيه الفصل من الحال وصاحبها بجملة ليست اعتراضية إذ هى مبينة وتخلل بعض أجزاء المبين بين أجزاء المبين مع مايجب فيه من تحصيص العقود بما هو واجب أو مندوب فى الحج وإلا فلا يبقى للتقييد بتلك الحال مع أنهم مأمورون بطلق العقود كمطلقا وجه
وزعم العلامة أنه أقرب من الاول معنى وإن كان أبعد لفظا واستدل عليه بما هو على طرف الثمام ثم قال : ومنهم من جعله حالا من فاعل أحللنا الملول عليه بقوله تعالى : أحلت لكم ويستلزم جعل وأنتم حرم أيضا حالا من مقدر أى حال كوننا غير محلين الصيد فى حال إحرامكم وليس ببعيد إلا من جهةانتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذى الحال فى اللفظ
وتعقبه أبوحيان بأنه فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف فى مثل هذا يصير نسيا منسيا فلايجوز وقوع الحال منه فقد قالوا : لوقلت : أنزل الغيث مجيبا لدائهم على أن مجيبا حال من فاعل الفعل المبنى للمفعول لم يجز لاسيما على مذهب القائلين : بأن المبنى للمفعول صيغة أصلية ليست محولة عن المعلوم على أن فى التقييد أيضا مقالا وجعله بعضهم حالا من الضمير المجرور فى عليكم ويرده أن الذى يتلى لايتقيد بحال انتفاء إحلالهم الصيد وهم حرم بل هو يتلى عليهم فى هذه الحال وفى غيرها ونقل العلامة البيضاوى عن بعض أن النصب على الاستثناء وذكر أن فيه تعسفا أن فيه تعسفا وبينه مولانا شيخ الكل صبغة الله أفندى الحيدرى عليه الرحمة بأنه لو كان استثناءا لكان إما من الضمير فى لكم أو فى أوفوا إذ لاجواز لاستثنائه من بهيمة الأنعام وعلى الأول يجب أن يخص البهيمة بما عدا الأنعام مما يماثلها أو تبقى على العموم لكن
(6/51)
بشرط إدارة المماثل فقط فى حيز الاستثناء وأن يجعل قوله تعالى : وأنتم حرم من تتمة المستثنى بأن يكون حالا عما استكن فى محلى ليصح الاستثناء إذ لاصحة له بدون هذين الاعتبارين فسوق العبارة يقتضى أن يقال : وهم حرم لأن الاستثناء أخرج المحلين من زمرة المخاطبين واعتبار الالتفات هنا بعيد لكون رافعا فيما هو بمنزلة كلمة واحدة وعلى الثانى يجب تخصيص العقود بالتكاليف الواردة فى الحج وتأويل الكلام الطلبى بما يلزمه من الخبر مع مايلزمه من الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بالاجنبى وكل ذلك تعسف أى تعسف انتهى وكأنه رحمه الله تعالى لم يذكر احتمال كون الاستثناء من الاستثناء مع أن القرطبى نقله عن البصريين لأن ذلك فاسد كما قاله القرطبى وأبو حيان لامتعسف إذ يلزم عليه إباحة الصيد فى الحرم لأن المستثنى من المحرم نعم ذكر أبو حيان أنه استثناء من بهيمة الأنعام على وجه عينه وأنفه التكلف والتعسف فقد قال رحمه الله تعالى : إنما عرض الإشكال فى الآية حتى اضطرب الناس فى تخريجها من كون رسم محلى بالياء فظنوا أنه اسم فاعل من أحل وأنه مضاف إلى الصيد اضافة اسم الفاعل المتعدى الى المفعول وأنه جمع حذف منه النون للإضافة وأصل غير محلين الصيد
والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله تعالى : غير محلى الصيد من باب قولهم : حسان النساء والمعنى النساء الحسان وكذا هذا أصله غير الصيد المحل والمحل صفة للصيد لا للناس ووصف الصيد بأنه محل إما بمعنى داخل فى الحل كما تقول أحل الرجل أى دخل فى الحل وأحرم أى دخل فى الحرم أو بمعنى صار ذا حل أى حلالا بتحليل الله تعالى ومجىء أفعل على الوجهين المذكورين كثير فى لسان العرب فمن الأول أعرق وأشأم وأيمن وأنجد وأتهم ومن الثانى أعشبت الأرض وأبقلت واغد البعير وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار الوجهين اتضح كونه استثناءا ثانيا ثم ان كان المراد ب بهيمة الأنعام أنفسها فهو استثتاء منقطع أو الظباء ونحوها فمتصل على تفسير المحل بالذى يبلغ الحل فى حال كونهم محرمين فان قلت مافائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذى فى الحرم لايحل أيضا
قلت الصيد الذى فى الحرم لايحل للمحرم ولا لغير المحرم والقصد بيان تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم فان قلت ماذكرته من هذا التوجيه الغريب يعكر عليه رسمه فى المصحف بالياء والوقف عليه بها
قلت قد كتبوا فى المصحف اشيأء تخالف النطق نحو لأذبحنه بالألف والوقف اتبعوا فيه الرسم انتهى
وتعقبه السفاقسى بمثل ماقدمناه من حيث زيادة الياء وفيها التباس المفرد بالجمع وهم يفرون من زيادة أونقصان فى الرسم فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس من حيث إضافة الصفة للموصوف وهو غير مقيس وقال الحلبى : إن فيه خرقا للإجماع فانهم لم يعربوا غير إلا حالا وإنما اختلفوا فى صاحبها ثم قال السفاقسى : ويمكن فيه تخريجان : أحدهما أن يكون غير استثناءا منقطعا و محلى جمع على بابه والمراد به الناس الداخلون حل الصيد أى لكن إن دخلتم حل الصيد فلايجوز لكم الاصطياد والثانى أن يكون متصلا من بهيمة الأنعام وفى الكلام حذف مضاف أى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل الاصطياد وأنتم حرم فلايحل ويحتمل أن يكون على بابه من التحليل ويكون الاستثناء متصلا والمضاف محذوف أى إلا صيد محلى الاصطياد وأنتم حرم والمراد بالمحلين الفاعلون فعل من يعتقد التحليل فلا يحل ويكون معناه أن صيد الحرم كالميتة لايحل أكله مطلقا ويحتمل أن يكون حالا من ضمير لكم وحذف المعطوف
(6/52)
للدلالة عليه وهو كثير وتقديره غير محلى الصيد محليه كما قال تعالى : تقيكم الحر أى والبرد وهو تخريج حسن
هذا ولايخفى أن يد الله تعالى مع الجماعة وأن ماذكرهم غيره لايكاد يسلم من الاعتراض
إن الله يحكم مايريد
1
- من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئته على الحكم البالغة التى تقف دونها الأفكار فيدخل فيها ماذكره من التحليل والتحريم دخولا أوليا وضمن يحكم معنى يفعل فعداه بنفسه وإلا فهو متعد بالباء ياأيها الذين آمنوا لاتحلوا شعائر الله لما بين سبحانه حرمة إحلال الحرم الذى هو من شعائر الحج عقب جل شأنه ببيان إحلال سائر الشعائر وهو جمع شعرة وهى اسم لما أشعر أى جعل شعارا وعلامة للنسك من مواقف الحج ومرامى الجمار والطواف والمسعى والافعال التى هى علامات الحاج يعرف بها من الاحرام والطواف والسعى والحلق والنحر وإضافتها إلى الله تعالى لتشريفها وتهويل الخطب فى احلالها والمراد من للتهاون بحرمتها وان يحال بينها وبين المتنكسين بها وروى عن عطاء أنه فسر الشعائر بما لم حدود الله تعالى وأمره ونهيه وفرضه وعن أبى على الجبائى أن المراد بها العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم ومعنى إحلالها عنده مجاوزتها إلى مكة بغير إحرام وقيل : هى الصفا والمروة والهدى من البدن وغيرها وروى ذلك عن مجاهد ولا الشهر الحرام أى لاتحلوه بأن تقاتلوا فيه أعدائكم من المشركين كما روى عن ابن عباس وقتادة أو بالنسىء كما نقل عن القتيبى والأول هو الأولى بحال المؤمنين
واختلف فى المراد منه فقيل : رجب وقيل : ذوالقعدة وروى ذلك عن عكرمة وقيل : الأشهر الاربعة الحرم واختاره الجبائى والبلخى وإفراده لإرادة الجنس ولا الهدى بأن يعترض له بالغضب أو بالمنع من أن يبلغ محله والمراد به مايهدى إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء وهو جمع هدية كجدى وجدية وهى مايحشى تحت السرج والرحل وخص ذلك بالذكر بناءا على دخوله فى الشعائر لأن فيه نفعا فيه نفعا للناس ولأنه مالى قد يتساهل فيه وتعظيما له لأنه من أعظمها ولا القلائد جمع قلادة وهى مايقلد به الهدى من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم أنه هدى فلا يتعرض له والمراد النهى عن التعرض لذوات القلائد من الهدى وهى البدن وخصت بالذكر تشريفا لها واعتناءا بها أو التعرض لنفس القلائد مبالغة فى النهى عن التعرض لذواتها كما فى قوله تعالى : ولايبدين زينتهن فانهن إذا نهين عن إظهار الزينة كالخلخال والسوار علم انهى عن إبداء محلها بالطريق الأولى ونقل عن أبى على الجبائى أن المراد النهى عن إحلال نفس القلائد وإيجاب التصدق بها ان كانت لها قيمة وروى ذلك عن الحسن وروى عن السدى أن المراد من القلائد أصحاب الهدى فن العرب كانوا يقلدون من لحاء شجر مكة يقيم الرجل بمكة حتى إذا انقضت الاشهر الحرم وأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتى أهله وقال الفراء : أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر وغير أهل الحرم كانوا يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما وعن الربيع وعطاء أن المراد نهى المؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يقلدون به كما كان المشركون يفعلونه فى جاهليتهم ولا آمين البيت الحرام أى ولاتحلوا أقواما قاصدين البيت الحرام بأن تصدوهم عنه بأى وجه كان وجوز أن يكون على حذف مضاف أى قتال قوم أو أذى قوم آمين
(6/53)
وقرىء ولا آمى البيت الحرام بالاضافة والبيت مفعول به لا ظرف ووجه عمل اسم الفاعل فيه ظاهر وقوله تعالى : يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا حال من المستكن فى آمين وجوز أن يكون صفة وضعف بأن اسم الفاعل الموصوف لايعمل لضعف شبهه بالفعل الذى عمل بالحمل عليه لأن الموصوفية تبعد الشبه بأنها من خواص الأسماء وأجيب بأن الوصف إنما يمنع من العمل إذا تقدم المعمول فلو تأخر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه كما صرح به صاحب اللب وغيره وتنكير فضلا ورضوانا للتفخيم و من ربهم متعلق بنفس العمل أو بمحذوف وقع صفة لفضلا مغنية عن وصف ماعطف عليه بها أى فضلا كائنا من ربهم ورضوانا كذلك والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والاشعار بحصول مبتغاهم والمراد بهم المسلمون خاصة والآية محكمة
وفى الجملة إشارة إلى تعليل النهى واستنكار النهى عنه كذا قيل واعترض بأن التعرض للمسلمين حرام مطلقا سواء كانوا آمين أم لا فلا وجه لتخصيصهم بالنهى عن الحلال ولذا قال الحسن وغيره : المراد بالآمين هم المشركون خاصة والمراد من الفضل حينئذ الربح فى تجارتهم ومن الرضوان ما فى زعمهم ويجوز إبقاء الفضل على ظاهره إذا أريد مافى الزعم أيضا لكنه لما أمكن حمله على ماهو فى نفس الأمر كان حمله عليه أولى يؤيد هذا القول إن الآية نزلت كما قال السدى وغيره فى رجل من بنى ربيعة يقال له الحطيم بن هند وذلك أنه أتى إلى النبى صلى الله عليه و سلم وحده وخلف خيله خارج المدينة فقال : الىمه تدعو الناس فقال صلى الله تعالى عليه وسلم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال : حسن إلا أن لى أمرا لاأقطع أمرا دونهم ولعلى أسلم وآتى بهم وقد كان النبى صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وماالرجل بمسلم فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول : قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعى إبل ولاغنم ولابخوار على ظهر قطم باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم مدملج الساقين ممسوح القدم فطلبه المسلمون فعجزوا فلما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عام قضاء العمرة التى أحصر عنها تلبية حجاج اليمامة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : ها الحطيم وأصحابه فدو نكموه وكان قلد مانهب من السرح وجعله هديا فلما توجهوا لذلك نزلت الآية الكريمة فكفوا وروى عن ابن زيد أنها نزلت يوم فتح مكة فى فوارس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون : يارسول الله هؤلاء المشركون مثل هؤلاء دعنا نغر عليهم فأنزل الله سبحانه الآية واختلف القائلون بأن المراد من الآمين المشركون فى النسخ وعدمه فعن ابن جريج أنه لانسخ لأنه يجوز أن يبتدىء المشركون فى الأشهر الحرم بالقتال وأنت تعلم أن الآية ليست نصا فى القتال على تقدير تسليم مافى حيز التعليم وقال أبو مسلم : إن الآية منسوخة بقوله تعالى : فلايقريبوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقيل : بآية السيف وقيل : بهما وقيل : لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد وروى ذلك عن ابن أبى نجيح عن مجاهد وادعى بعضهم أن المراد بالآمين مايعم المسلمين والمشركين وخصوص السبب لايمنع عموم اللفظ والنسخ حينئذ فى حق المشركين خاصة
(6/54)
وبعض الائمة يسمى مثل ذلك تخصيصا كما حقق فى الأصول ولابد على هذا من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين وقرأ حميد بن قيس الأعرج تبتغون بالتاء على خطاب المؤمنين والجملةعلى ذلك حال من ضمير المخاطبين فى لاتحلوا على أن المراد بيان منافاة حالهم هذه للمنهى عنه لاتقييد النهى بها واعترض بأنه لو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم وربهم وأجيب بأن ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأن ربهم يحميهم ولايرضى بما فعلوه وفيه بلاغة لاتخفى وإشارة إلى مامر من أن الله تعالى رب العالمين لا المسلمين فقط وقال شيخ الاسلام : إن اضافة الرب الى ضمير آمين على قراءة الخطاب للايماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى وفى ذلك من تعليل النهى وتأكيده والمبالغة فىاستنكار المنهى عنه مالايخفى وإذا حللتم من الاحرام المشار اليه بقوله سبحانه : وأنتم حرم فاصطادوا أى فلا جناح عليكم بالاصطياد لزوال المانع فالأمر للإباحة بعد الحظر ومثله لاتدخلن هذه الدار حتى تؤدى ثمنها فاذا أديت فادخلها إذا أديت أبيح لك دخولها وإلى كون الأمر للإباحة بعد الحظر كثير
وقال صاحب القواطع : إنه ظاهر كلام الشافعى فى أحكام القرآن ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء والمتكلمين لأن سبق الحظر قرينة صارفة وهو أحد ثلاثة مذاهب فى المسألة ثانيها أنه للوجوب لأن الصيغة تقتضيه ووروده بعد الحظر لاتأثير له وهو اختيار القاضى أبى الطيب والشيخ أبى إسحق والسمعانى والإمام فى المحصول ونقله الشيخ أبوحامد الاسفراينى فى كتابه عن أكثر الشافعية ثم قال : وهو قول كافة الفقهاء وأكثر المتكلمين وثالثها الوقف بينهما وهو قول إمام الحرمين مع كونه أبطل الوقف فى لفظه ابتداءا من غير تقدم حظر ولايبعد على ماقاله الزكشى أن يقال هنا برجوع الحال إلى مكان قبل كما قيل فى مسألة النهى الوارد بعد الوجوب ومن قال : إن حقيقة الأمر المذكور للايجاب قال إنه مبالغة فى صحة المباح حتى كأنه واجب وقيل : إن الأمر فى مثله لوجوب اعتقاد الحل فيكون التجوز فى المادة كأنه قيل : اعتقدو احل الصيد وليس بشىء وقرىء أحللتم وهو لغة فى حل وعن الحسن أنه قرىء فاصطادوا بكسر الفاء بنقل حركة همزة الوصل عليها وضعفت من جهة العربية بأن النقل إلى المتحرك مخالف للقياس وقيل : إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل أمال لإمالة الطاء وإن كانت من المستعلية ولايجرمنكم أى لايحملنكم كما فسره به قتادة ونقل عن ثعلب والكسائى وغيرهما وأنشدوا له بقوله : ولقد طعنت أبا عينية طعنة جرمت فزارة بعدها أن تغضبا فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه وإلى الآخر بعلى وقال الفراء وأبو عبيدة : المعنى لايكسبنكم وجرم جار مجرى كسب فى المعنى والتعدى إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال : جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبا فى كسب مالا خير فيه وهو السبب فى إيثاره ههنا على الثانى ومنه الجريمة وأصل مادته موةضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه وقد يقال : أجرمته ذنبا على نقل المتعدى الى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كما يقال : أكسبته ذنبا وعلبه قراءة عبد الله لايجرمنكم بضم الياء شنئان قوم بفتح النون وقرأ ابن عامر وأبوبكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بسكونها
(6/55)
وفيهما احتمالان : الأول أن يكونا مصدرين بمعنى البغض أو شدته شذوذا لأن فغلان بالفتح مصدر مايدل على الحركة كجولان ولا يكون لفعل متعد كما قال : س وهذا متعد إذ قال : شنئته ولادلالة على الحركة إلا على بعد وفعلان بالسكون فى المصادر قليل نحو لويته ليانا بمعنى مطلته والثانى ان يكونا صفتين لأن فعلان فى الصفات كثير كسكران وبالفتح ورد فيها قليلا كحمار قطوان عسر السير وتيس عدوان كثير العدو فان كان مصدرا فالظاهر أن اضافته إلى المفعول أى تبغضوا قوما وجوز أن تكون إلى الفاعل أى ان يبغضكم قوم والأول أظهر كما فى البحر وإن كان وصفا فهو بمعنى بغيض وإضافته بيانية وليس مضافا إلى مفعوله أو فاعله كالمصدر أى البغيض من بينهم أن صدوكم بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنه علة للشنآ ن أى لأن صدوكم عام الحديبية وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن أن شرطية وماقبلها دليل الجواب أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه وأورد على ذلك أنه لاصد بعد فتح مكة
وذلك كقوله تعالى : ان كنتم قوما مسرفين وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لاينبغى أن يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم بعد ظهور الاسلام وقوته ويعلم منه النهى عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى عن المسجد الحرام أى عن زيارته والطواف به للعمرة وهذه كما قال شيخ الاسلام آية بينة فى عموم آمين للمشركين قطعا وجعلها البعض دليلا على تخصيصه بهم أن تعتدوا أى عليهم وحذف تعويلا على الظهور وإيماءا إلى أن المقصد الأصلى منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لامنع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم وأن على حذف الجار أى على أن تعتدوا والمحل بعده إما جر أو نصب على المذهبين أى لايحملنكم بغض قوم لصدهم اياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفى أو لاحذف والمنسبك ثانى مفعولى يجرمنكم أى لايكسبنكم ذلك اعتداؤكم وهذا على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشنآن عما نسب اليه لكنه فى الحقيقة نهى لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده فان النهى عن اسباب الشىء ومباديه المؤدية اليه نهى عنه بالطريق البرهانى وإبطال للسببية ويقال : لاأرينك ههنا والمقصود نهى المخاطب على الحضور
ووجه العلامة الطبى الاعتراض بقوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا بين ماتقدم وبين هذا النهى المتعلق به ليكون إشارة وإدماجا إلى أن القاصدين ماداموا محرمين مبتغين فضلا من ربهم كانوا كالصيد عند الحرم فلا تتعترضوهم وإذا حللتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ وقال شيخ الاسلام : لعل تأخير هذا النهى عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للايذان بأن حرمة الاعتداء لاتنتهى بالخروج عن الاحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هى باقية مالم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمين بالطريق الأولى ولعله الأول وتعاونوا على البر والتقوى عطف على ولايجرمنكم من حيث المعنى كأنه قيل : لاتعتدوا على قاصدى المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والاغضاء وقال بعضهم : هو استئناف والوقف ععلى أن تعتدوا لازم واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقا وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون
(6/56)
تذييلا للكلام فيدخل فى البر والتقوى جميع مناسك الحج فقد قال تعالى : فانها من تقوى القلوب ويدخل العفو والإغضاء أيضا دخولا أوليا وعلى العموم أيضا حمل قوله تعالى : ولاتعاونوا على الأثم والعدوان فيعم النهى كل ماهو من مقولة الظلم والمعاصى ويندرج فيه النهى عن التعاون على الاعتداء والانتقام
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وأبى العالية أنهما فسرا الاثم بترك ماأمرهم به وارتكاب مانهاهم عنه والعدوان بمجاوزة ماحده سبحانه لعباده فى دينهم وفرضه عليهم فى أنفسهم وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ماهو المقصود بالذات وقوله تعالى : وأتقوا الله أمر بالاتقاء فى جميع الأمور التى من جملتها مخالفة ماذكر من الأوامر والنواهى ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهانى
إن الله شديد العقاب لمن لايتقيه وهذا فى موضع التعليل لما قبله وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة حرمت عليكم الميتة شروع فى بيان المحرمات التى أشير اليها فى بقوله سبحانه : إلا مايتلى عليكم والمراد تحريم أكل الميتة وهى مافارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه والدم أى المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه فى المباعر ويشوونه ويأكلونه وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح وأما الطحال فالأكثرون على إباحته وأجمعت الإمامية على حرمته ورويت الكراهية فيه عن على كرم الله وجهه وابن مسعود رضى الله تعالى عنه ولحم الخنزير إقحام اللحم لما مر وأخذ داود وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا غيره وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره وأخرج عبد الرزاق فى المصنف عن قتادة أنه قال من أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فان تاب وإلا قتل وهو غريب ولعل ذلك لأن أكله صار اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار وفيه تأمل وأهل لغير الله به أىرفع الصوت لغير الله تعالى عند ذبحه والمراد بالاهلال هنا ذكر مايذبح له كاللات والعزى والمنخنقة قال السدى : هى التى يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت وقال الضحاك وقتادة هى التى تختنق بحبل الصائد فتموت
وقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : كان أهل الجاهلية يخنقون البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين والأولى أن تحمل على التى ماتت بالخنق مطلقا والموقوذة أى التى تضرب حتى تموت قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وقتادة والسدى وهو من وقذته بمعنى ضربته وأصله أن تضربه حتى يسترخى ومنه وقذه النعاس أى غلب عليه والمتردية أى التى تقع من مكان عال أو فى بئر فتموت والنطيحة أى التى ينطخها غيرها فتموت وتاؤها للنقل فلايرد أن فعيل بمعنى مفعول لايدخله التاء وقال بعض الكوفيين : إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل كف خضيب وعين كحبل وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه ولاحاجة إلى القول بأنها للنقل وقرىء والمنطوحة وماأكل السبع أى ماأكل منه السبع فمات وفسر بذلك لأن ماأكله كله لايتعلق به حكم ولايصح أن يستثنى منه قوله تعالى : إلا ماذكيتم أى إلا ماأدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه وعن السيدين السندين الياقر والصادق رضى الله تعالى عنهما أن أدنى مايدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن أو الذنب أو الجفن وبه قال الحسن وقتادة
(6/57)
وابراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد وقال بعضهم : يشترط الحياة المستقرة وهى التى لاتكون على شرف الزواال وعلامتها على ماقيل : أن يضطرب الذبح لاوقته وعن على كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الاستثناء راجع الى جميع ماتقدم ذكره من المحرمات سوى مالايقبل الذكاة من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع على تقدير إبقائه على ظاهره وقيل هو استثناء من التحريم لامن المحرمات والمعنى حرم عليكم سائر ماذكر لكن ماذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فانه حلال لكم
وروى ذلك عن مالك وجماعة من أهل المدينة واختاره الجبائى والتذكية فى الشرع قطع الحلقوم والمرىء بمحدد والتفصيل فى الفقه واستدل بالآية على أن جوارح الصيد اذا أكلت مما صادته لم يحل
وقرأ الحسن : السبع بسكون الياء وابن عباس رضى الله تعالى عنهما وأكيل السبع
وما ذبح على النصب جمع نصاب كحمر وحمار وقيل : واحد الانصاب كطنب وأطناب واختلف فيها فقيل هى حجارة كانت حول الكعبة وكانت ثلثمائة وستين حجرا وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها فعلى على أصلها ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير الله تعالى وقيل هى الأصنام لأنها تنصب فتعبد من دون الله تعالى و على إما بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام
واعترض بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله سبحانه : وما أهل لغير الله به والأمر فى ذلك هين والموصول معطوف على المحرمات وقرىء النصب بضم النون وتسكين الصاد تخفيفا وقرىء بفتحتين وبفتح فسكون وأن تستقسموا بالأزلام جمع زلم كجمل أو زلم كصرد وهو القددح أى وحرم عليكم الاستقسام بالاقداح وذلك أنهم كما روى عن الحسن وغيره اذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرنى ربى وعلى الثانى نهانى ربى وأبوقوا الثالث غفلا لم يكتب عليه شىء فان خرج الآمر مضوا لحاجتهم وإن خرج الناهى تجنبوا وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا فمعنى الاستقسام طلب معرفة ماقسم لهم دون مالم يقسم بالأزلام واستشكل تحريم ماذكر بأنه من جملة التفاؤل وقد كان النبى صلى الله عليه و سلم يحب الفأل
وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم كما يشير إلى ذلك ماروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما من أنهم إذا أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا مافعلوا فلهذا صار حرما وقيل : لأن فيه افتراء على الله تعالى إن أريد بربى الله تعالى وجهالة وشركا إن أريد به الصنم وقيل : لأنه دخول فى علم الغيب الذى استأثر الله تعالى به واعترض بأنا لانسلم أن الدخول فى علم الغيب حرام ومعنى استئثار الله تعالى بعلم الغيب انه لايعلم إلا منه ولهذا صار استعلام الخير والشر من المنجمين والكهنة ممنوعا حرما بخلاف الاستخارة من القرآن فانه استعلام من الله تعالى ولهذا أطبقوا على جوازها ومن ينظر فى ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لايطلب إلا علم الغيب منه سبحانه فلو كان طلب علم الغيب حرما لانسد طريق الفكر والرياضة ولاقائل به
وقال الامام رحمه الله تعالى : لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن يكون علم التعبير كفرا لأنه طلب للغيب وأن يكون أصحاب الكرامات المدعون للالهامات كفارا ومعلوم أن كل ذلك باطل وتعقب القول بجواز الاستخارة بالقرآن بأنه لم ينتقل فعلها عن السلف وقد قيل : إن الامام مالكا كرهها وأما مافى فتاوى الصوفية نقلا عن الزندوستى من أنه لابأس بها وأنه قد فعلها على كرم الله وجهه ومعاذ رضى الله تعالى عنه
(6/58)
وروى عن على كرم الله تعالى وجهه أنه قال : من أراد أن يتفاءل بكتاب الله تعالى فليقرا قل الله أحد سبع مرات وليقل ثلاث مرات : اللهم بكتابك تفاءلت وعليك توكلت اللهم أرنى فى كتابك ماهو المكتوم من سرك المكنون فى غيبك ثم يتفاءل بأول الصحيفة ففى النفس منه شىء
وفى كتاب الاحكام للجصاص أن الآية تدل على بطلان القرعة فى عتق العبيد لأنها فى معنى ذلك بعينه إذا كان فيها إثبات ماأخرجه القرعة من غير استحقاق كما إذا أعتق أحد عبيده عند موته على مابين فى الفقه ولايرد أن القرعة قد جازت فى قسمة الغنائم مثلا وفى إخراج النساء لأنا نقول : إنها فيما ذكر لتطييب النفوس والبراءة من التهمة فى إيثار البعض ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة وأما الحرية الواقعة على واحد من العبيد فيما نحن فيه فغير جائز نقالها عنه إلى غيره وفى استعمال القرعة النقل وخالف الشافعى فى ذلك فجوز القرعة فى العتق كما جوزها فى غيره وظواهر الأدلة معه وتحقيق ذلك فى موضعه
واحق عندى أن الاستقسام الذى كان يفعله أهل الجاهلية حرام بلا شبهة كما هو نص الكتاب وأن حرمته ناشئة من سوء الاعتقاد وأنه لايخلو عنة تشاؤم وليس بتفاؤل محض وإن مثل ذلك ليس من الدخول فى علم الغيب أصلا بل هو من باب الدخول فى الظن وأن الاستخارة بالقرآن مما لم يرد فيها شىء يعول عليه عن الصدر الأول وتركها أحب إلى لاسيما وقد أغنى الله تعالى وسوله صلى الله عليه و سلم عنها بما سن من الاستخارة الثابتة فى غير ما خبر صحيح وان تصديق المنجمين فيما ليس من جنس الخسوف والكسوف مما يخبرون به من الحوادث المستقبلة محظور وليس من علم الغيب ولا دخولا فيه وإن زعمه الزجاج لبنائه على الأسباب ونقل الشيخ محى الدين النووى فى شرح مسلم عن القاضى كانت الكهانة فى العرب ثلاثة أضرب : أحدها أن يكون للإنسان رئى من الجن يخبره به يسترقه من السمع من السماء وهذا بطل من حين بعث الله تعالى نبينا صلى الله عليه و سلم الثانى أن يخبره بما يطرأ ويكون فى أقطار الأرض وما خفى عنه قرب أو بعد وهذا لايبعد وجوده ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما ولااستحالة فى ذلك ولابعد فى وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون والنهى عن تصديقهم والسماع منهم عام الثالث المنجمون وهذا الضرب بخلق الله تعالى فى بعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب ومن هذا الفن العرافة فصاحبها عراف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعى معرفتها بها كالزجر والطرق بالحصى وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم انتهى
ولعل النهى عن ذلك لغلبة الكذب فى كلامهم ولأن فى تصديقهم فتح باب يوصل إلى لظى إذ قد يجر إلى تعطيل الشريعة والطعن فيها لاسيما من العوام واستثناء ماهو من جنس الكسوف والخسوف لندرة خطئهم فيه بل لعدمه إذا أمكنوا الحساب ولا كذلك مايخبرون به من الحوادث إذ قد بنوا ذلك على أوضاع السيارات بعضها مع بعض أو مع بعض الثوابت ولاشك أن ذلك لايكفى فى الغرض والوقوف على جميع الأوضاع وما تقتضيه مما يتعذر الوقوف عليه لغير علام الغيوب فليفهم وقيل : المراد بالاستقسام استقسام الجزور بالأقداح على الانصباء المعلومة أى طلب قسم من الجزور أو ماقسمه الله تعالى له منه وهذا هو الميسر وقد تقدم بيانه وروى ذلك على بن إبراهيم عن الائمة الصادقين رضى الله تعالى عنهم ورجح بانه يناسب ذكره مع محرمات الطعام وروى عن مجاهد أنه فسر الأزلام بسهام العرب وكعاب فارس التى يتقامرون بها
(6/59)
وعن وكيع أنها أحجار الشطرنج ذالكم أى الاستقسام بالأزلام ومعنى البعد فى الإشارة إلى بعد منزلته فى الشر فسق أى ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته لما أشرنا اليه وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن ذلكم إشارة إلى تناول جميع ماتقدم من المحرمات المعلوم من السياق اليوم أى الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية وقيل : يوم نزول الآية وروى عن ذلك عن ابن جريج ومجاهد وابن زيد وكان كما رواه الشيخان عن عمر رضى الله تعالى عنه عصر يوم الجمعة عرفة حجة الوداع وقيل : يوم دخوله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع وقيل : سنة ثمان وهو منصوب على الظرفية بقوله تعالى : يئس الذين كفروا من دينكم واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع
والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه لما شاهدوا أن الله تعالى وفى بوعده أظهره على الدين كله
وروى أنه لما نزلت الآية نظر صلى الله تعالى عليه وسلم فى الموقف فلم ير إلا مسلما ورجح هذا الاحتمال بانه الأنسب بقوله سبحانه : فلا تخشوم أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس وأخشون أن أحل بكم عقابى إن خالفتم أمرى وارتكبتم معصيتى اليوم أكملت لكم دينكم بالنصر والإظهار لأنهم بذلك يجرون أحكام الدين من غير مانع وبه تمامه وهذا كما تقول : تم لى الملك إذا كفيت ماتخافه وإلى ذلك ذهب الزجاج وعن ابن عباس والسدى أن المعنى اليوم أكملت لكم حدودى وفرائضى وحلالى وحرامى بتنزيل ما أنزلت وبيان ما بينت لكم فلا زيادة فى ذلك ولانقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم وكان يوم عرفة عام حجة الوداع وأختاره الجبائى والبلخى وغيرهما وادعوا أنه لم ينزل بعد ذلك شىء من الفرائض على رسول الله صلى الله عليه و سلم فى تحليل ولاتحريم وانه عليه الصلاة و السلام لم يلبث بعد سوى أحد وثمانين يوما ومضى روحى فداه إلى الرفيق الأعلى صلى الله تعالى عليه وسلم
وفهم عمر رضى الله تعالى عنه لما سمع الآية نعى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد أخرج ابن أبى شيبة عن عنترة أن عمر رضى الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى فقال له النبى صلى الله عليه و سلم : مايبكيك قال : أبكانى أنا كنا فى زيادة من ديننا فأما إذا كمل فانه لم يكمل شىء قط إلا نقص فقال عليه الصلاة و السلام صدقت ولايحتج بها على هذا القول على إبطال القياس كما زعم بعضهم لأن المراد إكمال الدين نفسه ببيان مايلزم بيانه ويستنبط منه غيره والتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد وروى عن سعيد بن جبير وقتادة أن المعنى اليوم أكملت لكم حجكم وأقررتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين واختاره الطبرى وقال : يرد ماروى عن ابن عباس والسدى رضى الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل آية الكلالة وهى آخر آية نزلت واعترض بالمنع وتقديم الجار للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم وفيه أيضا تشويق إلى ذكر المؤخر كما فى قوله تعالى : وأتممت عليكم نعمتى وليس الجار فيه متعلقا بنعمتى لأن المصدر لايتقدم عليه معموله وقيل : متعلق به ولابأس بتقدم معمول المصدر إذا كان ظرفا وإتمام النعمة على المخاطبين بقتح مكة ودخولها
(6/60)
آمنين ظاهرين وهدم الجاهلية ومناسكها والنهى عن حج المشركين وطواف العريان وقيل : باتمام الهداية والتوفيق باتمام سببهما وقيل : بإكمال الدين وقيل : بإعطائهم من العلم والحكمة مالم يعطه أحدا قبلهم وقيل معنى أتممت عليكم نعمتى أنجزت لكم وعدى بقوله سبحانه : وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا أى اخترته لكم من بين الأديان وهو الدين عند الله تعالى لاغير وهو المقبول وعليه المدار وأخرج ابن جبير عن قتادة قال : ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم ويوم القيامة فأما الايمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم فى الخير حتى يجىء الاسلام فيقول : رب أنت السلام وأنا الاسلام فيقول : إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزى وقد نظر فى الرضا معنة الاختيار ولذى عدى باللام ومنهم ومن جعل الجار صفة الدين قدم عليه فانتصب حالا و الاسلام و دينا مفعولا رضيت إن ضمن معنى صير أو دينا منصوب على الحالية من الاسلام أو تمييز من لكم والجملة على ماذهب إليه الكرخى مستأنفة لا معطوفة على أكملت وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرضى لهم الاسلام قبل ذلك اليوم دينا وليس كذلك إذ الاسلام لم يزل دينا مرضيا لله تعالى وللنبى صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضى الله تعالى عنهم منذ شرع والجمهور على العطف وأجيب عن التقييد بأن المراد برضاه سبحانه حكمه جل وعلا باختياره حكما أبديا لاينسخ وهو كان ذلك اليوم وأخرج الشيعة عن أبى سعيد الخدرى أن هذه الآية نزلت بعد أن قال النبى صلى الله عليه و سلم لعلى كرم الله وجهه فى غدير خم : من كنت مولاه فعلى مولاه فلما نزلت قال عليه الصلاة و السلام : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب برسالتى وولاية على كرم الله وجهه بعدى ولايخفى أن هذا من مفترياتهم وركاكة الخبر شاهدة على ذلك فى مبتدأ الأمر نعم ثبت عندنا أنه صللى الله تعالى عليه وسلم قال فى حق الأمير كرم الله تعالى وجهه هناك : من كنت مولاه فعلى مولاه وزاد على ذلك كما فى بعض الروايات لكن لادلالة فى الجميع على مايدعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى كما سيأتى ان شاء الله تعالى غير بعيد
وقد بسطنا الكلام عليه فى كتابنا النفحات القدسية فى اإامامية ولم يتم إلى الآن ونسأل الله تعالى اتمامه ورواياتهم فى هذا الفصل ينادى لفظها على وضعها وقد أكثر منها يوسف الاوالى ماعليه فمن اضطر متصل بذكر المحرمات وما بينهما وهو سبع جمل على ماقال الطيبى اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو أن تناولها فسق عظيم وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والاسلام المرضى والاضطرار الوقوع فى الضرورة أى فمن وقع فى ضرورة تناول شىء من هذه المحرمات فى مخمصة أى مجاعة تخمص لها البطون أى تضمر يخاف معها الموت أو مباديه غير متجانف لإثم أى غير مائل ومنحرف اليه ومختار له بأن يأكل منها زائدا على مايمسك رمقه فان ذلك حرام كما روى ابن عباس ومجاهد وقتادة رضى الله تعالى عنهم وبه قال أهل العراق وقال أهل المدينة : يجوز أن يشيع عند الضرورة وقيل : المراد غير عاصى بأن يكون باغيا أو عاديا بأن ينتزعها من مضطر آخر أو خارجا فى معصيته وروى هذا أيضا عن قتادة
(6/61)
فان الله غفورا رحيما
3
- لايؤاخذه بأكله وهو الجواب فى الحقيقة وقد أقيم سببه مقامه وقيل : إنه مقدر فى الكلام يسئلونك ماذا أحل لهم شروع فى تفصيل المحللات التى ذكر بعضها على وجه الاجمال اثر بيان المحرمات أخرج ابن جرير والبيهقى فى سننه وغيرهما عن أبى رافع قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبى صلى الله عليه و سلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج اليه وهو قائم بالباب فقال عليه الصلاة و السلام : قد أذنا لك قال : أجل واكنا لاندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فاذا فى بعض بيوتهم جرو قال أبو رافع : فأمرنى صلى الله عليه و سلم أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت وجاء الناس فقالوا يارسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التى أمرت بقتلها فسكت النبى صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى يسألونك الآية
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن السائل عاصم بن عدى وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن جبير أن السائل عدى بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيان وقد ضمن السؤال معنى القول ولذا حكيت به الجملة كما تحكى بالقول وليس معلقا لأنه وإن يكن من أفعال القلوب لكنه سبب للعلم وطريق له فيعلق كما يعلق خلافا لأبى حيان فاندفع ماقيل : إن السؤال ليس مما يعمل فى الجمل ويتعدى بحرف الجر فيقال : سئل عن كذا وادعى بعضهم لذلك أنه بتقدير مضاف أى جواب ماذا والأول مختار الأكثرين وضمير الغيبة دون المتكلم الواقع فى كلامهم لما أن يسألون بلفظ الغيبة كما تقول : أقسم زيد ليضرين ولو قلت : لأضربن جاز والمسئول نظرا للكلام السابق ماأحل من المطاعم والمآكل وقيل : إن المسئول ماأحل من الصيد والذبائح قل أحل لكم الطيبات أى مالم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه وإلى ذلك ذهب البلخى وعن أبى على الجبائى وأبى مسلم هى ماأذن سبحانه فى أكله من المأكولات والذبائح والصيد وقيل : مالم يرد بتحريمه نص أو قياس ويدخل فى ذلك الاجماع إذ لابد من استناده لنص وإن لم تقف عليه والطيب على هذين القولين بمعنى الحلال وعلى الأول بمعنى الحلال وعلى الأول بمعنى المستلذ وقد جاء بالمعنيين وما علمتم من الجوارح عطف على الطيبات بتقدير مضاف على أن ما موصولة والعائد محذوف أى وصيد ماعلمتموه قيل : والمراد مصدره لأنه الذى أحل بعطفه على الطيبات من عطف الخاص على العام وقيل : الظاهر أنه لاحاجة إلى جعل الصيد لأن الحل والحرمة مما يتعلق بالفعل ويحتمل أن تكون ما شرطية مبتدأ والجواب فكلوا والخبر الجواب والشرط على المختار والجملة عطف على جملة أحل لكم ولايحتاج إلى تقدير مضاف ونقل عن الزمخشرى أنه قال بالتقدير فيه وقال تقديره لايبطل كون ما شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط فى حكم المضاف اليه كما تقول غلام من يضرب أضرب كما تقول من يضرب أضرب وتعقب بأنه على ذلك التقدير يصير الخبر حاليا عن ضمير المبتدأ إلا أن يتكلف بجمل ما أمسكن من وضع الظاهر موضع ضمير ما علمتم فافهم وجوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة أيضا والخبر كلوا والفاء إنما دخلت تشبيها للموصول باسم الشرط لكنه خلاف الظاهر و من الجوارح حال مت الموصول أو من ضميره المحذوف و الجوارح حمع جارحة والهاء فيها كا قال أبو البقاء للمبالغة وهى صفة غلبة إذ لايكاد يذكر
(6/62)
معها الموصوف وفسرت بالكواسب من سباع البهائم والطير وهو من قولهم : جرح فلان أهله خيرا إذا أكسبهم وفلان جارحة أهله أى كاسبهم وقيل : سميت جوارح لأنها تجرح الصيد غالبا
وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما والسدى والضحاك وهو المروى عن أئمة أهل البيت بزعم الشيعة أنها الكلاب فقط مكلبين أى معلمين لها الصيد والمكلب مؤدب الجوارح ومضربها بالصيد وهو مشتق من الكلب لهذا الحيوان العروف لأن التأديب كثيرا مايقع فيه أو لأن كل سبع يسمى كلبا على ماقيل فقد أخرج الحاكم فى المستدرك وقال : صحيح الأسناد من حديث أبى نوفل قال : كان لهب بن أبى لهب يسب النبى صلى الله عليه و سلم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك أو كلبك فخرج فى قافلة يريد الشام فنزلوا منزلا فيه سباع فقال : إنى أخاف دعوة محمد صلى الله عليه و سلم فجعلوا امتاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء أسد فانتزعه وذهب به ولايخفى أن فى شمول ذلك لسباع الطير نظرا ولادلالة فى تسمية الأسد كلبا عليه
وجوز أن يكون مشتقا من الكلب الذى هو بمعنى الضرواة يقال : هو كلب بكذا إذا ضاربا به وانتصابه على الحالية من فاعل علمتم وفائدتها المبالغة فى التعليم لما أن الملكب لايقع إلا على النحرير فى علمه وعن ابن عباس وابن مسعود والحسن رضى الله تعالى عنهم أنهم قرأوا مكلبين بالتخفيف من أكلب وفعل وأفعل قد يستعملان بمعنى واحد تعلمونهن حال من ضمير مكلبين أو استئنافية إن لم تكن ما شرطية وإلا فهى معترضة وجوز أن تكون حالا ثانية من ضمير علمتم ومنع ذلك أبو البقاء بأن العامل الواحد لايعمل فى حالين وفيه نظر ولم يستحسن جعلها حالا من الجوارح للفصل بينهما
مما علمكم الله من الحيل وطرق التعليم والتأديب وذلك إما بالالهام منه سبحاته أو بالعقل الذى خلقه فيهم جلا وعلا وقيل : المراد مما عرفكم سبحانه أن تعلموه من اتباع الصيد بأن يسترسل بارسال صاحبه وينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولايأكل منه
ورجح بدلالته على أن المعلم ينبغى أن يكون مكلبا فقهيا أيضا و من أجلية وقيل : تبعيضية أى بعض ما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة مبنية للمضاف المقدر ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره أو جواب للشرط أو خبر للمبتدأ و من تبعيضية إذ من الممسك مالا يؤكل كالجلد والعظم وغير ذلك وقيل : زائدة على رأى الأخفش وخروج ما ذكر بديهى و ما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أى أمسكنه وضمير الؤنث للجوارح و عليكم متعلق بأمسكن والاستعلاء مجازى والتقييد بذلك لاخراج ماأمسكنه على أنفسهن وعلامته أن يأكلن منه فلا يؤكل منه : وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه و سلم روى أصحاب السنن عن عدى بن حاتم قال : سألت النبى صلى الله عليه و سلم عن صيد الكلب المعلم فقال عليه الصلاة و السلام : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك فان أكل منه فلا تأكل فانما أمسك على نفسه وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء وروى عن على كرم الله تعالى وجهه والشعبى وعكرمة وقال أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه وأصحابه إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لايؤكل صيده ويؤكل صيد البازى ونحوه وإن أكل لأن تأديب سباع الطير إلى حيث لاتؤكل متعذر وروى ذلك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فقد أخرج عبد بن حميد
(6/63)
عنه رضى الله تعالى عنه أنه قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل لأن الكلب تستطيع أن تضربه والصقر لاتستطيع أن تضربه وعليه إمام الحرمين من الشافعية وقال مالك والليث : يؤكل وان أكل الكلب منه وقد روى عن سلمان وسعد بن أبى وقاص وأبى هريرة رضى الله تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلب ثلثيه وبقى ثلثه وقد ذكرت أسم الله تعالى عليه فكل وأذكروا أسم الله عليه الضمير لما علمتم كما يدل عليه الخبر السابق والمعنى سموا عليه عند إرساله وروى ذلك ابن عباس والحسن والسدى وقيل : لما أمسكن أى سموا عليه إذا أدركتم ذكائه وقيل : للمصدر المفهوم من كلوا أى سموا الله تعالى على الأكل وهو بعيد وإن استظهره أبو حيان والأمر للوجوب عند أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه وللندب عند الشافعى وهو على القول الأخير للندب بالاتفاق وأتقوا الله فى شأن محرماته ومنها أكل صيد الجوارح الغير المعلمة إن الله سريع الحساب أى سريع إتيان حسابه أو سريع إتمامه إذا شرع فيه فقد جاء أنه سبحانه يحاسب الخلق كلهم فى نصف يوم والمراد على التقديرين أنه جل شأنه يؤاخذكم على جميع الأفعال حقيرها وجليلها وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم ولعل ذكر هذا إثر بيان حكم الصيد لحث متعاطيه على التقوى لما أنه مظنة التهاون والغفلة عن طاعة الله تعالى فقد رأينا أكثر من يتعاطى ذلك يترك الصلاة ولايبالى بالنجاسة والمحتاجون للصيد الحافظون لدينهم أعز من الغراب الأبيض وهم مثابون فيه
فقد أحرج الطبرانى عن صفوان بن أمية أن عرفطة بن نهيك التميمى قال : يارسول الله إنى وأهل بيتى مرزوقون من هذا الصيد ولنا فيه قسم وبركة وهو مشغلة عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة فى جماعة وبنا إليه حاجة أفتحله أم تحرمه قال صلى الله تعالى عليه وسلم : أحله لأن الله تعالى قد أحله نعم العمل والله تعالى أولى بالعذر قدر كانت قبلى رسل كلهم يصطاد أو يطلب الصيد ويكفيك من الصلاة فى جماعة إذا غبت عنها فى طلب الرزق حبك الجماعة وأهلها وحبك ذكر الله تعالى وأهله وابتغ على نفسك وعيالك حلالها فان ذلك جهاد فى سبيل الله تعالى واعلم أن عون الله تعالى فى صالح التجار واستدل بالآية على جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة لأن التعليم قد يحتاج لذلك وعلى إباحة اتخاذ الكلب للصيد وقيس به الحراسة وعى أنه لايحل صيد الكلب المجوس وإلى هذا ذهب ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فقد روى عنه فى المسلم يأخذ كلب المجوسى أو بازه أو صقره أو عقابه فيرسله أنه قال : لاتأكله وإن سميت لأنه من تعليم المجوسى وإنما قال الله تعالى تعلمونهن مما علمكم الله اليوم أحل لكم الطيبات إعادة هذا الحكم للتأكيد والتوطئة لما بعده وسبب ذكر اليوم يعلم مما ذكر أمس
وقال النيسابورى : فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره والأول أولى
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم أى حلال والمراد بالموصول اليهود والنصارى حتى نصارى العرب عندنا وروى عن على كرم الله تعالى وجهه أنه استثنى نصارى بنى تغلب وقال : ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر وإلى ذلك ذهب ابن جبير وكاه الربيع عن الشافعى رضى الله تعالى عنه والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة كما روى عن ابن عباس وأبى الدرداء وإبراهيم وقتادة والسدى والضحاك ومجاهد رضوان الله عليهم أجمعين وبه قال الجبائى والبلخى وغيرهم
(6/64)
وفى البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن المراد به الذبائح لان غيرها لم يختلف فى حله وعليه أكثر المفسرين وقيل : إنه مختص بالحبوب وما لايحتاج فيه إلى التذكية وهو المروى عند الامامية عن أبى عبد الله رضى الله تعالى عنه وبه قال جماعة من الزيدية فلا تحل ذبائحهم عند هؤلاء وحكم الصائبين حكم أهل الكتاب عند الإمام الأعظم رضى الله تعالى عنه وقال صاحباه : الصائبة صنفان : صنف يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لايقرأون كتابا يعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وأما المجوس فقد سنة بهم سنة أهل الكتاب فى أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لما روى عبد الرزاق وابن أبى شيبة والبيهقى من طريق الحسن بن محمد بن على قال : كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الاسلام فمن أسلم قبل ومن أصر ضربت عليهم الجزية غير ناكحى نسائهم وهو وإن كان مرسلا وفى إسناده قيس بن الربيع وهو ضعيف إلا أن اجماع أكثر المسلمين كما قال البيهقى عليه يؤكده واختلف العلماء فى حل ذبيحة اليهودى والنصرانى إذا ذكر عليها غير اسم الله تعالى كعزير وعيسى عليهما السلام فقال ابن عمر رضى الله تعالى عنهما : لاتحل وهو قول ربيعة وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل وهو قول الشعبى وعطاء قالا فان الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم مايقولون
وقال الحسن : إذا ذبح اليهودى والنصرانى فذكر اسم غير اسم الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكل فاذا غاب عنك فكل فقد أحل الله تعالى لك وطعامكم حل لهم قال الزجاج وكثير من المتأخرين : إن هذا خطاب للمؤمنين والمعنى لاجناح عليكم أيها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم فلا تصلح الآية دليلا لمن يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن التحليل حكم وقد علقه سبحانه بهم فيها كما علق الحكم بالمؤمنين واعترض على ظاهر بأنه إنما يتأتى لو كان الإطعام بد ل الطعام فن زعموا أن الطعام يقوم مقام الإطعام توسعا ورد الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ وهو ممتنع فقد صرحوا بأنه لايجوز إطعام زيد حسن للمساكين وضربك شديد زيدا فكيف جاز وطعامكم حل لهم وعن بعضهم فان قيل : ماالحكمة فى هذه الجملة وهم كفار لايحتاجون إلى بياننا أجيب بأن المعنى انظروا إلى ماأحل لكم فى شريعتكم فان أطعموكموه فكلوه ولاتنظروا إلى ماكان محرما عليهم فان لحوم الابل ونحوها كانت محرمة عليهم ثم نسخ ذلك فى شريعتنا فالآية بيان لنا لا لهم أى اعلموا أن ماكان محرما عليهم مما هو حلال لكم قد أحل لكم أيضا ولذلك لو أطعومنا خنزيرا أو نحوه وقالوا : هو حلال فى شريعتنا وقد أباح الله تعالى لكم طعامنا كذبناهم وقلنا : إن الطعام الذى يحل لكم هو الذى لنا لاغيره فحاصل المعنى طعامهم حل لكم إذا كان الطعام الذى احللته لكم وهذا التفسير معنى قول السدى وغيره فافهمه فقد أشكل على بعض المعاصرين والمحصنات من المؤمنات عطف على الطيبات أو مبتدأ والخبر محذوف لدلالة ماتقدم عليه أى حل لكم أيضا والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات أو من الضمير فيها على ماقاله أبو اليقاء والمراد بهن عند الحسن والشعبى وإبراهيم العفائف وعند مجاهد الحرائر واختاره أبو على وعند جماعة العفائف والحرائر وتخصيصهن بالذكر للبعث على ماهو أولى لالنفى ماعدا فان نكاح الأماء المسلمات بشرطه صحيح بالاتفاق وكذا نكاح غير العفائف منهن وأما الأماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الامام الاعظم رضى الله تعالى عنه وامحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
(6/65)
وإن كانت حربيات كماهو الظاهر وقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : لايجوز نكاح الحربيات وخص الآية بالذميات واحتج له بقوله تعالى لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله والنكاح مقتضى للمودة لقوله تعالى خلق لكم من أنفسكم أزواجا وجعل بينكم مودة ورحمة قال الجصاص : وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة وأصحابنا يكرهون مناكحة أهل الحرب وذهبت الإمامية إلى أنه لايجوز عقد نكاح الدوام على الكتابيات لقوله تعالى : ولاتنكحوا المشركات حتى يؤمن ولقوله سبحانه : ولاتمسكوا بعصم الكوافر وأولوا هذه الآية بان المراد من المحصنات من الذين أوتوا الكتاب اللاتى أسلمن منهن والمراد من المحصنات من المؤمنات اللاتى كن فى الأصل مؤمنات وذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبين الله تعالى أنه لاحرج فى ذلك وإلى تفسير المحصنات بمن أسلمن ذهب ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أيضا ولايخفى أنه خلاف الظاهر ويأباه النظم ولذلك زعم بعضهم أن المراد هو الظاهر إلا أن الحل مخصوص بنكاح المتعة وملك اليمين ووطؤهن حلال بكلا الوجهين عند الشيعة وأنت تعلم أن هذا أدهى وأمر ولذلك هرب بعضهم إلى دعوى أن الآية منسوخة بالآيتين المتقدمتين آنفا احتجاجا بما رواه الجارود عن أبى جعفر رضى الله تعالى عنه فى ذلك ولايصح ذلك من طريق أهل السنة نعم أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أصناف النساء إلا ماكان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الاسلام
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن جابر بن عبد الله أنه سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال : تزوجناهن زمن الفتح ونحن لانكاد نجد المسلمات كثيرا فلما رجعنا طلقناهن
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه سئل أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب فقال : ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر الله تعالى المسلمات فان كان لابد فاعلا فليعمد اليها حصانا غير مسافحة قال الرجل : وما المسافحة قال : هى التى إذا لمح الرجل اليها بعينه اتبعته إذا اتيتموهن أجورهن أى مهورهن وهى عوض الاستمتاع بهن كما قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وغيره وتقيد الحل بايتائها لتأكيد وجوبها لاللاحتراز ويجوز أن يراد بالإيتاء التعهد والالتزام مجازا ولعله أقرب من الأول وإن كان المآ ل واحدا و إذا ظرف لحل المحذوف ويحتمل أن تكون شرطية حذف جوابها أى إذا آتيتموهن أجورهن حللن لكم
محصنين أى أعفاء بالنكاح وهو منصوب على الحال من فاعل آتيتموهن وكذا قوله تعالى : غير مسافحين وقيل : هو حال من ضمير محصنين وقيل : صفة لمحصنين أى غير مجاهرين بالزنا ولامتخذى أخدان أى ولامسرين به والخدن الصديق يقع على الذكر والانثى وقيل : الأول نهى عن الزنا والثانى نهى مخالطتهن و متخذى يحتمل أن يكون مجرورا عطفا على مسافحين وزيدت لالتأكيد النفى المستفاد من غير ويحتمل أن يكون منصوبا عطفا على غير مسافحين باعتبار أوجهه الثلاثة ومن يكفر بالايمان أى من ينكر المؤمن به وهو شرائع الاسلام التى من جملتها مابين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة ويمتنع عن قبولها فقد حبط عمله أى الذى عمله واعتقد أنه قربة له إلى الله تعالى
(6/66)
وهو فى الآخرة من الخاسرين
5
- أى الهالكين والآية تذييل لقوله تعالى : اليوم أحل لكم الطيبات الخ تعظيما لشأن ماأحله الله تعالى وماحرمه وتغليظا على من خالف ذلك فحمل الإيمان على المعنى المصدرى وتقدير مضاف كما قيل أى بموجب الايمان وهو الله تعالى ليس بشىء وإن أشعر به كلام مجاهد وضمير الرافع مبتدأ و من الخاسرين خبره و فى متعلقة بما تعلق به الخبر من السكون المطلق وقيل : بمحذوف دل عليه المذكور أى خاسرين فى الآخرة وقيل بالخاسرين على أن أل معرفة لاموصولة لأن مابعدها لايعمل فيما قبلها وقيل : يغتفر فى الظرف مالايغتفر فى غيره كما فى قوله : ربيته حتى إذا ماتمعددا كان جزائى بالعصا أن أجلدا هذا ومن باب الاشارة فى الآيات ياأيها الذين آمنوا بالايمان العلمى أوفوا بالعقود أى بعزائم التكليف وقال أبو الحسن الفارسى : أمر الله تعالى عباده بحفظ النيات فى المعاملات والرياضيات فى المحاسبات والحراسة فى الخطرات والرعاية فى المشاهدات وقال بعضهم : أوفوا بالعقود عقد القلب بالمعرفة وعقد اللسان بالثناء وعقد الجوارح بالخضوع وقيل أول عقد عقد على المرء عقد الإجابة له سبحانه بالربوبية وعدم المخالفة بالرجوع إلى ماسواه والعقد الثانى عقد تحمل الأمانة وترك الخيانة أحلت لكم بهيمة الأنعام أى أحل لكم جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس السليمة التى لايغلب عليها السبعية والشره إلا مايتلى عليكم من التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة غير محلى الصيد وأنتم حرم أى لامتمتعين بالحظوظ فى حال تجردكم للسلوك وقصدكم كعبة الوصال وتوجهكم إلى حرم صفات الجمال والجلال إن الله يحكم مايريد فليرض السالك بحكمه ليستريح ويهدى إلى سبيل رشده ياأيها الذين آمنوا لاتحلوا شعائر الله من المقامات والأحوال التى يعلم بها السالك إلى حرم ربه سبحانه من الصبر والتوكل والشكر ونحوها أى لاتخرجوا عن حكمها ولا الشهر الحرام وهو وقت الحج الحقيى وهو وقت السلوك إلى ملك الملوك وإحلاله بالخروج عن حكمه والاشتغال بما ينافيه ولا الهدى وهو النفس المستعدة للقربان عند الوصول إلى الحضرة وإحلالها باستعمالها بما يصرفها أو تكليفها بما سبب مللها ولاالقلائد وهى ماقلدته النفس من الاعمال الشرعية التى لايتم الوصول إلا بها وإحلالها بالتطفيف بها وعدم إيقاعها على الوجه الكامل ولا آمين البيت الحرام وهم السالكون وإحلالهم بتنفيرهم وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم يبتغون فضلا من ربهم بتجليات الأفعال ورضوانا بتجليات الصفات وإذا حللتم فاصطادوا أى إذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء فلاجناح عليكم فى التمتع ولايجرمنك شنئآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا أى لايكسبنكم بغض القوى النفسانية بسبب صدها إياكم عن السلوك أن تعتدوا عليها وتقهروها بالكلية فتتعطل أو تضعف عن منافعها أو لايكسبنكم بغض قوم من أهاليكم أو أصدقائكم بسبب صدهم إياكم أن تعتدوا عليهم بمقتهم وإضرارهم وإرادة الشر لهم وتعاونوا على البر والتقوى بتدبير تلك القوى وسياستها أو بمراعاة الأهل والأصدقاء والإحسان اليهم ولاتعاونوا على الأثم والعدوان فان ذلك يقطعكم عن الوصول وعن سهل أن البر الايمان والتقوى السنة والاثم الكفر والعدوان البدعة وعن الصادق رضى الله تعالى عنه البر
(6/67)
الايمان والتقوى الاخلاص والاثم الكفر والعدوان المعاصى وقيل : البر ماتوافق عليه العلماء من غير خلاف والتقوى مخالفة الهوى والاثم طلب الرخص والعدوان التخطى إلى الشبهات واتقوا الله فى هذه الأمور إن الله شديد العقاب فيعاقبكم بما هو أعلم حرمت عليكم الميتة وهى خمود الشهوة بالكلية فنه رذيلة التفريط المنافية للعفة والدم وهو التمتع بهوى النفس ولحم الخنزير أى وسائر وجوه التمتعات بالحرص والشره وقلة الغيرة وما أهل لغير الله به من الأعمال التى فعلت رياءا وسمعة والمنخنقة وهى الأفعال الحسنة صورة مع كمون الهوى فيها والموقوذة وهى الأفعال التى أجبر عليها الهوى والمتردية وهى الأفعال المائلة إلى التفريط والنقصان والنطيحة وهى الأفعل التى تصدر خوف الفضحية وزجر المحتسب مثلا وماأكل السبع وهى الأفعال التى من ملائمات القوة الغضبية من الأنفة والحمية النفسانية إلا ماذكيتم من الأفعال الحسنة التى تصدر بارادة قلبية لم يمازجها ما يشينها وما ذبح على النصب وهو مايفعله أبناء العادات لا لغرض عقلى أو شرعى وأن تستقسموا بالأزلام بأن تطلبوا السعادة والكمال بالحظوظ والطوالع وتتركوا العمل وتقولوا : لوكان مقدرا لنا لعملنا فانه ربما كان القدر معلقا بالسعى ذلكم فسق خروج عن الدين الحق لأن فيه الأمر والنهى والاتكال على المقدر بجعلمها عبثا اليوم وهو وقت حصول الكمال يئس الذين كفروامن دينكم بأن يصدوكم عن طريق الحق فلا تخشوهم فانهم لايستولون عليكم بعد واخشون لتنالوا مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قالب بشر اليوم أكملت لكم دينكم ببيان مابينت وأتممت عليكم نعمتى بذلك أو بالهداية إلى ورضيت لكم الاسلام أى الانقياد للانحماء دينا فمن اضطر إلى تناول لذة فى مخمصة وهى الهجيان الشديد للنفس غير متجانف لاثم غير منحرف لرذيلة فان الله غفور رحيم فيستر ذلك ويرحم بمدد التوفيق
يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات من الحقائق التى تحصل لكم بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم وما علمتم من الجوارح وهى الحواس الظاهرة والباطنة وسائر القوى والآلات البدنية مكلبين معلمين لها على اكتساب الفضائل تعلموهن مما علمكم الله من علوم الأخلاق والشرائع فكلوا مما أمسكن عليكم مما يؤدى إلى الكمال واذكروا اسم الله عليه بأن تقصدوا أنه أحد أسباب الوصول اليه عز شأنه لاأنه لذة نفسانية وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وهو قام الفرق والجمع وطعامكم حل لهم فلا عليكم أن تطعموهم منه بأن تضموا لأهل الفرق جمعا ولاهل الجمع فرقا والمحصنات من المؤمنات وهى النفوس المهذبة الكاملة والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن أى حقوقهن من الكمال اللائق بهن وألحقتموهن بالمحصنات من المؤمنات محصنين غير مسافحين ولامتخذى أخدان بل قاصدين تكميلهن واستيلاء الآثار النافعة منهن لامجرد الصحبة وإفاضة ماء المعارف من غير ثمرة ومن يكفر بالايمان بأن ينكر الشرائع والحائق ويمتنع من قبولها فقد حبط عمله بانكار ه الشرائع وهو فى لآخرة من الخاسرين بانكاره الحقائق والظاهر عدم التوزيع والله تعالى أعلم بمراده وهو الموفق للصواب ياأيها الذين آمنوا شروع فى بيان الشرائع المتعلقة بدينهم بعد بيان مايتعلق بدنياهم ووجه التقديم والتأخير ظاهر اذا قمتم للصلاة أى إذا اردتم القيم اليها والاشتغال بها فعبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها مجازا وفائدته الايجاز والتنبيه
(6/68)
على من أراد العبادة ينغى أن يبادر اليها بحيث لاينفك الفعل عن الارادة وقيل : يجوز أن يكون المراد إذا قصدتم الصلاة فعبر عن أحد لازمى الشىء بلازمه الآخر وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم الذين آمنوا من غير اختصاص بالمحدثين وإن لم يكن فى الكلام دلالة على تكرار الفعل وإنما ذلك خارج عن الصحيح لكن الاجماع على خلاف ذلك وقد أخرج مسلم وغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضى الله تعالى عنه : صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عليه الصلاة و السلام : عمدا فعلته ياعمر يعنى بينا للجواز فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين بقرينة دلالة الحال ولأنه اشترط الحدث فى البدل وهو التيمم فلو لم يكن له مدخل فى الوضوء مع المدخلية فى التيمم لم يكن البدل بدلا وقوله تعالى : فلم تجدوا ماءا صريح فى البدلية وبعض المتأخرين ان فى الكلام شرطا أى إذا قمتم للصلاة فاغسلوا الخ إن كنتم محدثين لأنه يلائمه كل الملائمة عطف وإن كنتم جنبا فاطهروا عليه وقيل : الأمر للندب ويعلم الوجوب للمحدث من السنة واستبعد لاجماعهم على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض ووجوب بالنسبة إلى آخرين وقيل : هو للوجوب وكان الوضوء واجبا على كل قائم أول الأمر ثم نسخ فقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جبير وابن خزيمة وابن حيان والحاكم والبيهقى والحاكم عن عبد الله بن حنظلة الغسيل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أم غير طاهرآ فلما شق ذلك عليه صلى الله عليه و سلم أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث ولايعارض ذلك خبر أن المائدة آخر القرآن نزولا الخ لأنه ليس فى القوة مثله حتى قال العراقى : لم أجده مرفوعا نعم الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولا ثم نسخ الوجوب على كل الأمة أولا ثم نسخ الوجوب عنهم آخرا مما يدل على الوجوب عليه عليه الصلاة و السلام أولا ونسخه عنه آخرا لايخلوا عن شىء كما لايخفى
وأخرج مالك والشافعى وغيرهما عن زيد بن أسلم أن تفسير الآية إذا قمتم من المضاجع يعنى النوم إلى الصلاة والأمر عليه ظاهر ويحكى عن داود : أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبى صلى الله عليه و سلم والخلفاء من بعده كانوا يتوضؤن كذلك وكان على كرم الله تعالى وجهه يتوضأ كذلك ويقرأ هذه الآية وفيه أن حديث عمر رضى الله تعالى عنه يأبى استمرار النبى عليه الصلاة و السلام على ماذكر والخبر عن على كرم الله تعالى وجهه لم يثبت وفعل الخلفاء لايدل على أكثر من الندب والاستحباب وقد ورد من توضأ على طهر كتب الله تعالى عشر حسنات فأغسلوا وجوهكم أى أسيلوا عليها الماء وحد الاسالة أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما وعند أبى يوسف رحمه الله تعالى لايشترط التقاطر وأما الدلك فليس من حقيقة الغسل خلافا لمالك فلا يتوقف حقيقته عليه قيل : ومرجعهم فيه قول العرب : غسل المطر الأرض وليس فى إلا الاسالة ومنع بأن وقعه من علو خصوصا مع الشدة والتكرر دلك أى دلك وهم لايقولونه إلا إذا نظفت الأرض وهو إنما يكون بدلك وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدى الرب سبحانه وتعالى الذى لايتم بالنسبة إلى سائرالتوضئين
(6/69)
المتوضئين إلا بالدلك
وحكى عنه أن الدلك ليس واجبا لذاته وإنما هو واجب لتحقق وصول الماء فلو تحقق لم يجب كما قاله ابن الحاج فى شرح المنية ومن الغريب أنه قال : باشتراط الدلك فى الغسل ولم يشترط السيلان فيما لو أمر المتوضىء الثلج على العضو فانه قال : يكفى ذلك وإن لم يذب الثلج ويسيل ووافقه عليه الاوزاعى مع أن ذلك لايسعى غسلا أصلا ويبعد قيامه مقامه وحد الوجه عندنا طولا من مبدأ سطح الجبهة إلى اسفل اللحيين وعرضا مابين شحمتى الأذن لأن المواجهة تقع بهذه الحالة وهو مشتق منها واشتقاق الثلاثى من المزيد إذا كان المزيد أشهر فى المعنى الذى يشتركان فيه شائع وقال العلامة أكمل الدين : إن ماذكروا من منع اشتقاق الثلاثى من المزيد إنما هو فى الاشتقاق الصغير وأما فى الاشتتاق الكبير وهو أن يكون بين كلمتين تناسب فى اللفظ والمعنى فهو جائز ويعطى ظاهر التحديد وجوب إدخال البياض المعترض بين العذار والأذن بعد نباته وهو قولهما خلافا لأبى يوسف ويعطى أيضا وجوب الاسالة على شعر اللحية وقد اختلفت الوايات فيه عن الإمام الأعظم رضى الله تعالى عنه وغيره فعنه يجب مسح ربعها وعنه مسح مايلاقى البشرة عنه لايتعلق به شىء وهو رواية عن أبى يوسف وعن أبى يوسف يجب استيعابها وعن محمد أنه يجب غسل الكل وقيل : وفى الفتاوى الظهيرية وعليه الفتوى لأنه قام مقام البشرة فتحول الفرض اليه كالحاجب
وقال فى البدائع عن ابن شجاع : إنهم رجعوا عما سوى هذا وكل هذا فى الكثة أما الخفيفة التى ترى بشرتها فيجب إيصال الماء الى ماتحتها واو أمر الماء على شعر الذقن ثم حلقه لايجب غسل الذقن وفى البقال : لو قص الشارب لايجب تخليله وإن طال وجب تخليله وإيصال الماء إلى الشفتين وكأن وجهه أن قطعه مسنون فلا يعتبر قيامه فى سقوط ماتحته بخلاف اللحية فان إعفءها هو المسنون وعد شيخ الاسلام المرغينانى فى التجنيس إيصال الملاء الى منابت شعر الحاجبين والشارب من الآداب من غير تفصيل وأما الشفة فقيل : تبع للفم وقال أبو جعفر : ماانكتم عند انضمامه تبع له وماظهر فللوجه وروى هذا التحديد عن ابن عباس وابن عمر والحسن وقتادة والزهرى رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وغيرهم وقيل : الوجه كل مادون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا مظهر من ذلك لعين الناظر ومابطن كداخل الأنف والفم وكذا ماأقبل من الأذنين وروى عن أنس بن مالك وأم سلمة وعمار ومجاهد وابن جبير وجماعة فأوجبوا غسل ذلك كله ولم أر لهم نصا فى باطن العين والظاهر عدم وجوب غسله لمزيد الحرج وتوقع الضرر ولهذا صرح البعض بعدم سنية الغسل أيضا بل قال بعضهم : يكره نعم يخطر فى الذهن رواية عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه كان يوجب غسل باطن العين فى الغسل ويفعله وأنه كان سببا فى كف بصره رضى الله تعالى عنه وأيديكم إلى المرافق جمع مرفق بكسر ففتح أفصح من عسه وهو موصل الذراع فى العضد ولعل وجه تسميته بذلك أنه يرتفق به أى يتكأ عليه من اليد وجمهور الفقهاء على دخولها
وحكى عن الشافعى رضى الله تعال عنه أنه قال : لاأعلم خلافا فى أن المرافق يجب غسلها ولذلك قيل إلى بمعنى مع كما فى قوله تعالى : ويزدكم قوة إلى قوتكم و من أنصارى إلى الله وقيل : هى إنما تفيد معنى الغاية
(6/70)
ومن الاصول المقررة أن مابعد الغاية إن دخل فى المسمى لولا ذكرها دخل وإلا فلا ولاشك أن المرافق داخلة فى المسمى فتدخل وماأورد على هذا الأصل من أنه لو حلف لايكلم فلانا إلى غد لايدخل مع أنه يدخل لو تركت الغاية غير قادح لأن الكلام هنا فى مقتضى اللغة والايمان تبنى على العرف وجاز أن يخالف العرف اللغة
وذكر بعض المحققين أن إلى جاءت ومابعدها داخل فى الحكم فيما قبلها وجاءت ومابعدها غير داخل فمنهم من حكم بالاشتراك ومنهم من حكم بظهور الدخول ومنهم من حكم بظهور انتفاء الدخول وعليه النحويون ودخول المرافق ثابت بالسنة فقد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه أدار الماء عليها
ونقل أصحابنا حكاية عدم دخولها عن زفر واستدل بتعارض الاشباه وبأن فى الدخول فى المسمى اشتباها أيضا فلا تدخل بالشك وحديث الادارة لايستلزم الافتراض لجواز كونه عى وجه السنة كالزيادة فى مسح الرأس إلى أن يستوعبه وأجيب بأنه لاتعارض مع غلبة الاستعمال فى الأصل المقرر وأيضا على ماقال يثبت الاجمال فى دخولها فيكون اقتصاره صلى الله عليه و سلم على المرفق وقع بيانا للمراد من اليد فيتعين دخول ما أدخله واغسل يدك للأكل من اطلاق اسم الكل على البعض اعتمادا على القرينة
وقال العلامة ابن حجر : دل على دخولها الاتباع والاجماع بل والآية أيضا بجعل إلى غاية للترك المقدر بناءا على أن اليد حقيقة إلى المنكب كما هو الاشهر لغة وكأنه عنى بالاجماع إجماع أهل الصدر الأول وإلا فلا شك فى وجود المخالف بعد وعدوا داود وكذا الامام مالك رضى الله تعالى عنه من ذلك ولى فى عد الأخير تردد فقد نقل ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على فرضية غسل اليدين مع المرفقين قيل : ويترتب على هذا الخلاف أن فاقد اليد من المرفق يجب عليه إمرار الماء على طرف العظم عند القائل بالدخول ولا يجب عند المخالف لأن محل التكليف لم يبق أصلا كما لو فقد اليد فما فوق المرفق نعم يندب له غسل مابقى من العضد محافظة على التحجيل هذا واستيعاب غسل المأمور به من الأيدى فرض كما هو الظاهر من الآية فلو لزق بأصل ظفره طين يابس أو نحوه أوبقى قدر رأس إبرة من موضع الغسل لم يجز ولايجب نزع الخاتم وتحريكه إذا كان واسعا والمختار فى الضيق الوجوب وفى الجامع الاصغر إن كان وافر الاظفار وفيها درن أو طين أو عجين جاز فىالقروى والمدنى على الصحيح المفتى به كما قال الدبوسى وقيل : يجب ايصال الماء إلى ماتحتها إلا الدرن لتولده منه
وقال الصفار : يجب الإيصال مطلقا إن طال الظفر واستحسنه ابن الهمام لأن الغسل وإن كان مقصورا على الظواهر لكن إذا طال الظفر يصير بمنزلة عروض الحائل كقطرة شمعة وفى النوازل يجب فى المصرى لا القروى لأن دسومة أظفاره المصرى مانعة من وصول الماء بخلاف القروى ولو طالت أظافره حتى خرجت عن رؤس الاصابع وجب غسلها قولا واحدا ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة هى الأصلية يجب غسلها ومالا فلا ومن الغريب أن بعضا من الناس أوجب البداية فى غسل الايدى من المرافق فلو غسل من رءوس الأصابع لم يصح وضوؤه
وقد حكى ذلك الطبرسى فى مجمع البيان والظاهر أن هذا البعض من الشيعة ولا أجد لهم فى ذلك متمسكا وأمسحوا برءوسكم قيل : الباء زائدة لتعدى الفعل بنفسه وقيل للتبعيض وقد نقل ابن مالك عن أبى على فى التذكرة أنها تجىء لذلك وأنشد :
(6/71)
شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج وقيل : إن العرف نقلها إلى التبعيض فى المتعدى والمفروض فى المسح عندنا مقدار الناصية وهو ربع الرأس من أى جانب كان فوق الأذنين لما روى مسلم عن المغيرة أن النبى صلى الله عليه و سلم توضأ فمسح بناصيته والكتاب مجمل فى حق الكمية فالتحق بيانا له والشافعى رضى الله تعالى عنه يمنع ذلك ويقول : هو مطلق لامجمل فانه لم يقصد إلى كمية مخصوصة أجمل فيها بل إلى الاطلاق فيسقط عنده بأدنى مايطلق عليه مسح الرأس على أن فى حديث المغيرة روايتان : على ناصيته وبناصيته والأولى لاتقتض استيعاب الناصية لجواز كون ذكرها لدفع توهم أنه مسح على الفود أو القذال فلايدل على مطلوبكم ولو دل مثل هذا على الاستيعاب لدل مسح على الخفين عليه أيضا ولاقائل به هناك عندنا وعندكم وإذا رجعنا إلى الثانية كان محل النزاع فى الباء كالآية ويعود التبعيض ومن هنا قال بعضهم : الأولى أن يستدل برواية أبى داود عن أنس رضى الله تعالى عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدحل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه وسكت عليه أبو داود فهو حجة وظاهره استيعاب تمام المقدم وتمام مقدم الرأس هوالربع المسمى بالناصية ومثله مارواه البيهقى عن عطاء أنه صلى الله عليه و سلم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم رأسه أو قال ناصيته فانه حجة وإن كان مرسلا عندنا وكيف وقد اعتضد بالمتصل بقى شىء وهو أن ثبوت الفعل كذلك لايستلزم نفى جواز الأقل فلا بد من ضم الملازمة القائلة لوجاز الأقل لفعله مرة تعليما للجواز وقد يمنع بأن الجواز إذا كان مستفادا من غير الفعل لم يحتج اليه فيه وهنا كذلك نظرا إلى الآية فان الباء فيها للتبعيض وهو يفيد جواز الأقل فيرجع البحث إلى دلالة الآية فيقال حينئذ : إن الباء للالصاق وهو المعنى المجمع عليه لها بخلاف التبعبض فان الكثير من محققى اأئمة العربية ينفون كونه معنى مستقبلا للباء بخلاف ما إذا كان فى ضمن الإلصاق كما فيما نحن فيه إلصاق الآلة بالرأس الذى هو المطلوب لايستوعب الرأس فاذا ألصق فلم يستوعب خرج عن العهدة بذلك البعض وحينئذ فتعين الربع لأن اليد إنما تستوعب قدره غالبا فلزم
وفى بعض الروايات إن المفروض مقدار ثلاث أصابع وصححها بعض المشايخ نظرا إلى أن الواجب إلصاق اليد والأصابع أصلها ولذا يلزم كمال دية اليد بقطعها والثلاث أكثرها وللأكثر حكم الكل ولايخفى ممافيه وإن قيل : إنه ظاهر الرواية وذهب الإمام مالك رضى الله تعالى عنه والإمام أحمد فى أظهر الروايات عنه إلى أنه يجب استيعاب الرأس بالمسح والإمامية إلى ماذهب اليه الشافعى رضى الله تعالى عنه ولو أصاب المطر قدر الفرض سقط عندنا ولايشترط إصابته باليد لأن الآلة لم تقصد إلا للايصال إلى المحل فحيث وصل استغنى عن استعمالها ولو مسح ببل فى يده لم يأخذه من عضو آخر جاز وإن أخذه لايجوز ولو مسح بإصبع واحدة مدها قدر الفرض وكذا باصبعين على ماقيل لايجوز خلافا لزفر وعللوه بأن البلة صارت مستعملة وهو على إشكاله بأن الماء لايصير مستعملا قبل الانفصال ليستلزم عدم جواز مد الثلاث على القول بأنه لايجزىء أقل من الربع والمشهور فى ذلك الجواز واختار شمس الأئمة أن المنع فى مد الأصبع والاثنتين غير معلل باستعمال البلة بدليل أنه لو مسح باصبعين فى التيمم لايجوز مع عدم شىء يصير مستعملا خصوصا إذا تيمم على الحجر الصلد بل الوجه عنده أنا مأمورون بالمسح باليد والاصبعان منها لاتسميان يدا بخلاف الثلاث لأنها أكثر ماهو الأصل فيها وهو حسن كما قال ابن الهمام
(6/72)
لكنه يقتضى الاصابة تعين الاصابة باليد وهو منتف بمسألة المطر وقد يدفع بأن المراد تعينها أو مايقوم مقامها من الالات عند قصد الإسقاط بالفعل اختيارا غير أن لازمه كون تلك الآلة التى هى غير اليد مثلا قدر ثلاث أصابع من اليد حتى لوكان عودا مثلا لايبلغ ذلك القدر قلنا : بعدم جواز مده وقد يقال : عدم الجواز بالاصبع بناءا على البلة تتلاشى وتفرغ قبل بلوغ قدر الفرض بخلاف الاصبعين فان الماء يتحمل بين الاصبعين المضموتين فضل زيادة تحتمل الامتداد إلى قدر الفرض وهذا مشاهد أو مظنون فوجب إثبات الحكم باعتباره فعلى اعتبار صحة الاكتفاء بقدر ثلاث أصابع يجوز مد الإصبعين لأن مابينهما من الماء يمتد قدر اصبع ثالثة وعلى اعتبار توقف الإجزاء على الربع لايجوز لأن مابينهما لايغلب على الظن إيعابه الربع إلا أن هذا يعكر عليه عدم جواز التميم باصبعين فلو أدخل رأسه إناء ماء ناويا للمسح جاز والماء طهور عند أبى يوسف لأنه لايعطى عنده حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال والذى لاقى الرأس من أجزائه لصق به فطهره وغيره لم يلاقه فلا يستعمل
واتفقت الأئمة على أن المسح على العمامة غير مجزىء إلا أحمد فانه أجاز ذلك بشرط أن يكون من العمامة شىء تحت الحنك رواية واحدة وهل يشترط أن يكون قد لبسها على طهارة فيه روايتان واختلفت الرواية عنه أيضا فى مسح المرأة على قناعها المستدير تحت حلقها فروى عنه جواز المسح كعمامة الرجل ذات الحنك وروى عنه المنع ونقل عن الاوزاعى والثورى جواز المسح على العمامة ولم أر حكاية الاشتراط ولاعدمه عنهما وقجد ذكرنا دليل الجواز فى كتاب الأجوبة العراقية عن الأسئلة الايرانية وأرجلكم إلى الكعبين وهما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم ومنه الكاعب وهى الجارية التى تبدو ثديها للنهود وروى هشام عن محمد أن الكعب هو المفصل الذى فى وسط القدم عند معترك الشراك لأن الكعب اسم للمفصل ومنه كعوب الرمح والذى فى وسط القدم مفصل دون ماعلى الساق وهذا صحيح فى المحرم إذا لم يجد نعلين فانه يقطع خفيه أسفل من الكعبين ولعل ذلك مراد محمد فأما فى الطهارة فلاشك أنه ماذكرنا وفى الأرجل ثلاث قراآت : واحدة شاذة واثنتان متواترتان أما الشاذة فالرفع وهى قراءة الحسن وأما المتواترتان فالنصب وهى قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائى ويعقوب والجر وهى قراءة ابن كثير وحمزة وأبى عمرو وعاصم وفى رواية أبى بكر عنه ومن هنا اختلف الناس فى غسل الرجلين ومسحهما قال الامام الرازى : فنقل القفال فى تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبى وأبى جعفر محمد بن على الباقر رضى الله تعالى عنهم أن الواجب فيها المسح وهو مذهب الإمامية وقال جمهور الفقهاء والمفسرين : فرضهما الغسل وقال داود : يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من الزيدية وقال الحسن البصرى ومحمد بن جرير الطبرى : المكلف مخير بين المسح والغسل وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر فانها تقتضى كون الأرجل معطوفة على الرءوس فكما وجب المسح فيها وجب فيها والقول إنه جر بالجواز كما فى قولهم : هذا جحر ضب خرب وقوله : كان ثبيرا فى عرانين وبله كبير أناس فى بجاد مزمل باطل من وجوه : أولها أن الكسر على الجوار معدود فى اللحن الذى قد يتحمل لأحل الضرورة فى الشعر وكلام الله تعالى يجب تنزيه عنه وثانيها أن الكسر إنما يصار اليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما فيما استشهدوا به
(6/73)
وفى الآية من الالتباس غير حاصل وثالثها أن اجر بالجوار انما يكون بدون حرف العطف وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا : انها تقتضى المسح أيضا لأن العطف حينئذ على محل الرءوس لقربه فيتشار كان فى الحكم وهذا مذهب مشهور للنحاة ثم قالوا أولا : يجوز رفع ذلك بالإخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لايجوز ثم قال الإمام : وأعلم أنه لايمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين : الأول أن الأخبار الكثيرة وردتت بإيجاب الغسل والغسل مشتمل على المسح ولاينعس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير اليه وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها والثانى أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء فى الغسل لافى المسح والقوم أجابوا عنه من وجهين : الأول أن الكعب عبارة عن العظم الذى تحت مفصل القدم وعلى هذا التقدير يجب المسح على ظهر القدمين والثانى أنهم أسلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبى الساق إلا أنهم التزموا أنه يجب أن المسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين وحينئذ لايبقى هذا السؤال انتهى
ولايخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام وطالما زلت فيه أقدام وماذكره الإمام رحمه الله تعالى يدل على أنه راجل فى هذا الميدان وضالع لايطيق العروج إلى شاوى ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والاذهان فلنبسط الكلام فى تحقيق ذلك رغما لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك فنقول وبالله تعالى التوفيق وبيده أزمة التحقيق : إن القراءتين متواترتان باجماع الفريقين بل باطباق أهل الاسلام كلهم ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا فى آية واحدة فلهما حكم آيتين فلابد لنا أن نسعى ونجتهد فى تطبيقهما أولا مهما أمكن لأن الأصل فى الدلائل الاعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الاصول ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما ثم إذا لم يتيسر لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة وقد ذكر الأصوليين أن الآيات إذا تعارضت بحيث لايمكن التوفيق ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة فانها لما لم لنا العمل بها صارت معدومة فى حقنا من حيث العمل وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض فلما تأملنا فى هاتين القراءتين فى الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من وجهين : الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبو زيد الانصارى وغيره من أهل اللغة فيقال للرجل إذا توضأ تمسح ويقال : مسح الله تعالى مابك أى أزال عنك المرض المطر إذا غسلها فاذا عطفت الأرجل على الرءوس فى قراءة الجر لايتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذى يدعيه الشيعة
واعترض ذلك من وجوه : أولها أن فائدة اللفظين فى اللغة والشرع مختلفة وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا ! وثانيها أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرءوس وكان الفرض فى الرءوس المسح الذي ليس بغسل بلا خوف وجب أن يكن حكم الأرجل كذلك وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وثالثها أنه لوكان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل بخبر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم غسل رجليه لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحها فسمى المسح غسلا
ورابعها أن استشهاد أبى زيد بقولهم : تمسحت للصلاة لايجدى نفعا لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا
(6/74)
عن الطهور بلفظ موجز ولم يجز أن يقولوا : تغسلت للصلاة لأن ذلك يوهم الغسل قالوا بدله : تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا قتجوزوا بذلك تعويلا على فهم المراد وذلك لايقتضى أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل وأجيب عن الأول بانا لاننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة وشرعا ولاتفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء لكنا ندعى أن حمل المسح على الغسل فى بعض المواضع جائز وليس فى اللغة والشرع مايأباه على أنه قد ورد ذلك فى كلامهم وعن الثانى بأنا نقدر لفظ امسحوا قبل أرجلكم أيضا وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى ولامحذور فيه فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز بحيث يكون ذلك اللفظ فى المعطوف عليه بالمعنى الحقيقى وفى المعطوف بالمعنى المجازى وقالوا : فى آية لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ماتقولون ولاجنبا إلا عابرى سبيل : إن الصلاة فى المعطوف عليه بالمعنى الحقيقى الشرعى وهو الأركان المخصوصة وفى المعطوف بالمعنى المجازى وهو المسجد فانه محل الصلاة وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الاستخدام وبذلك فسر الآية جمع من مفسر الإمامية وفقهائهم وعليهم فيكون هذا العطف من عطف الجمل فى التحقيق ويكون المسح المتعلق بالرءوس بالمعنى الحقيقى والمسح المتعلق با لأرجل بالمعنى المجازى على أن من أصول الامامية كالشافعية جواز الجمع بين القيقة والمجاز وكذا استعمال المشترك فى معنييه ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا للفعل فتدبر ولايشكل أن الآية حينئذ إبهاما ويبعد وقوع ذلك فى التنزيل لأنا نقول : إن الآية نزلت بعد مافرض الوضوء وعلمه عليه الصلاة و السلام روح القدس اياه فى ابتداء البعثة بسنين فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الابهام فان المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية ولم تنزل الآية لتعليمهم بل سوقها لابدال التيمم من الوضوء والغسل فى الظاهر وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان المشبع وعن الثالث بأن حمل المسح على الغسل لداع لايستلزم حمل الغسل على المسح بغير داع فكيف يسقط الاستدلال ! سبحان الله تعالى هذا هو العجيب العجاب
وعن الرابع بأنا لانسلم أن العدول عن تغسلت لايهامه الغسل فان تمسحت يوهم ذلك أيضا بناءا على ماقاله من أن المغسول من الاعضاء ممسوح أيضا سلمنا ذلك لم نقتصر فى الاستشهاد على ذلك ويكفى مسح الأرض المطر فى الفرض
والوجه الثانى أن يبقى المسح على الظاهر وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات كما فى قراءة النصب والجر للمجاوره واعترض أيضا من وجوه : الأول والثانى والثالث ماذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحنا وأنه إنما يصار إليه عند أمن فيما نحن فيه وكونه انا يكون بدون حرف العطف والرابع أن فى العطف على المغسولات سواء كان المعطوف منصوب اللفظ أو مجروره الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية وهو غير جائز عند النحاة على أن الكلام حينئذ من قبيل ضربت زيدا وأكرمت خالدا وبكرا بجعل بكر عطفا على زيد أو إرادة أنه مضروب لامكرم وهو مستهجن جدا تنفر عنه الطباع ولاتقبل الاسماع فكيف يجنح اليه أو يحمل كلام الله تعالى عليه ! وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار وقالوا بوقوعه فى الفصيح كما ستسمعه إن شاء الله تعالى ولم ينكره إلا الزجاج وإنكاره مع
(6/75)
ثوبته فى كلامهم يدل على قصور تتبعه ومن هنا فالوا المثبت : مقدم على النافى وعن الثانى بأنا لانسلم أنه انما يصار اليه عند أمن الالتباس ولانقل فى ذلك عن النحاة فى الكتب المعتمدة نعم قال بعضهم : شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكته وهو هنا كذلك لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بممسوح إذ المسح لم يوجد مغيا فى كلامهم ولذا لم يغى فى آية التيمم وإنما يغيا الغسل ولذا غيى فى الآية حين احتيج اليه فلا يرد أنه لم يغى غسل الوجه لظهور الأمر فيه ولاقول المرتضى : إنه لامانع من تغييه والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح وعن الثالث بأنهم صرحوا بوقوعه فى النعت كما سبق من الأمثلة وقوله تعالى : عذاب يومئذ محيط بجر محيط مع أنه نعت للعذاب وفى التوكيد كقوله : ألا بلغ ذوى الزوجات كلهم أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب بجر كلهم على ماحكاه الفراء وفى العطف كقوله تعالى : وحور عيتن كأمثال اللؤلؤ المكنون على قراءة حمزة والكسائى وفى رواية المفضل عن عاصم فانه مجرور بجوار أكواب وأباريق ومعطوف على ولدان مخلدون وقول النابغة : لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق فى حبال القد مجنوب بجر موثق مع أن العطف على أسير وقد عقد النحاة لذلك بابا على حدة اكثرته ولما فيه من المشاكلة وقد كثر فى الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره فى الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك وكلام ابن الحاجب فى هذا المقام لايعبأ به وعن الرابع بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة وامسحوا برءوسكم متعلقة بجملة المفسولات فإن كان معناها وامسحوا الأيدى بعد الغسل برءوسكم فلا إخلال كما هو مذهب كثير من أهل السنة من جواز المسح ببقية ماء الغسل واليد المبلولة من المغسولات ومع ذلك لم يذهب أحد من الأئمة العربية إلى امتناع الفصل بن الجملتين المتعاطفتين أو معطوف ومعطوف عليه بل صرح الأئمة بالجواز بل نقل أبو البقاء إجماع النحويين على ذلك نعم توسط الأجنبى فى كلام البلغاء يكون لنكة وهى هنا ماأشرنا اليه أو الإيماء إلى الترتيب وكون الآية من قبيل ماذكر من المثال فى حيز المنع وربما تكون كذلك لوكان النظم وامسحوا رءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين والواقع ليس كذلك وقد ذكر بعض أهل السنة أيضا وجها آخر فى التطبيق وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفف وقراءة النصب على حال دونه واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولاحكما لأن الخف اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهى طاهرة وماحل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما وأيضا المسح على الخف لايجب إلى الكعبين اتفاقا وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذى يجزىء عليه المسح لأنه لايجزىء على ساقه نعم هذا الوجه لايخلو عن بعد والقلب لايميل اليه وإن ادعى الجلال السيوطى أنه أحسن ماقيل فى الآية وللإمامية فى تطبيق القراءتين وجهان أيضا لكن الفرق بينهما وبين ماسبق من الوجهين اللذين عند أهل السنة أن قراءةالنصب التى هى ظاهرة فى الغسل عند أهل السنة وقراءة الجر تعاد اليها وعند الامامية بالعكس الوجه الأول : أن تعطف الأرجل فى قراءة النصب على محل برءوسكم فيكون حكم الرءوس والأرجل كليهما مسحا الوجه الثانى : أن الواو فيه بمعنى مع من قبيل استوى الماء والخشنبة وفى كلا الوجهين بحيث لأهل السنة من وجوه : الأول أن العطف على المحل حلاف الظاهر باجماع الفريقين والظاهر العطف على المغسولات
(6/76)
والعدول عن الظاهر إلى خلافه بل دليل لايجوز وأن استدلوا بقراءة الجر قلنا : إنها لاتصلح دليلا لما علمت والثانى انه عطف وأرجلكم على محل برءوسكم جاز أن نفهم منه معنى الغسل إذ أن من القواعد المقررة فى العلوم العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران فى المعنى ويكون لكل منهما متعلق جاز حذف أحدهما وعطف على متعلق المذكور كأنه متعلقه ومن ذلك قوله : ياليت بعلك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا فأن المراد وحاملا رمحا ومنه قوله : إذا ما الغانيات برزن يوما وزجج الحواجب والعيونا فانه أراد وكحلن العيونا وقوله : تراه كان مولاه يجدع أنفه وعينيه إن مولاه كان كان له وفر أى يفقىء عينيه إلى ملايحصى كثرة والثالث أن جعل الواو بمعنى مع بدون قرينة مما لايكاد يجوز ولا قرينة ههنا على أنه يلزم كما قيل : فعل المسحين معا بالزمان ولاقائل به بالاتفاق بقى لو قال قائل : لاأقنع بهذا المقدار فى الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية مالم ينضم إليها من خارج مايقوى تطبيق أهل السنة فان كلامهم وكلام الامامية فى ذلك عسى أن يكون فرسا رهان قيل له : إن سنة خير الورى صلى الله عليه و سلم وآثار الأئمة رضى الله تعالى عنهم شاهدة على مايدعيه أهل السنة وهى من طريقهم أكثر من أن تحصى واما من طريق القوم فقد روى العياشى عن على أبى حمزة قال : سألت أبا هريرة عن القدمين فقال تغسلان غسلا
وروى محمد بن النعمان عن أبى بصير عن أبى عبد الله رضى الله تعالى عنه قال : إذا نسي مسح رأسك حتى غسلت رجليك فمسح رأسك ثم أغسل رجليك وهذا الحديث رواه أيضا الكلبى وأبو جعفر الطوسى بأسانيد صحيحة بحيث لايمكن تضعيفها ولا الحمل على التقية لأن المخاطب بذلك شيعى خاص وروى محمد ابن الحسن الصفار عن زيد بن على عن أبيه عن جده أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال : جلست أتوضأ فأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما غسلت قدمى قال : ياعلى خلل بين الأصابع
ونقل الشريف الرضى عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه فى نهج البلاغة حكاية وضوئه صلى الله عليه و سلم وذكر فيه غسل الرجلين وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة ولم يدع أحد منهم النسخ ليتكلف لاثباته كم ظنه من لاوقوف له ومايزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم فان أحدا منهم ماروى عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح إلا أن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فانه قال بطريق التعجب : لانجد فى كتاب الله تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل ومراده أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التى كانت قراءته ولكن الرسول صلى الله عليه و سلم وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل ففى كلامه هذا إشارة إلى قراءة الجر مؤلة متروكة الظاهر بعمل الرسول صلى الله عليه و سلم والصحابة رضى الله تعالى عنهم ونسبة جواز المسح إلى أبى العالية وعكرمة والشعبى زور بهتان أيضا وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح أو التخير بينهما إلى الحسن البصرى عليه الرحمة ومثله نسبة التخير إلى محمد بن جرير الطبرى صاحب التاريخ الكبير
(6/77)
والتفسير الشهير وقد نشر رواة الشيعة هذه الاكاذيب المختلفة ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولاسند واتسع الخرق على الراقع ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعى صاحب الايضاح للمترشد فى الامامة لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبرى الشافعى الذى هو من أعلام أهل السنة والمذكور فى تفسير هذا هو الغسل فقط لاالمسح ولاالجمع ولاالتخيير الذى نسبه الشيعة اليه ولاحجة لهم فى دعوى المسح بما روى عن أمير المؤمنين على كرم الله تعالى وجهه أنه مسح وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه وشرب فضل طهوره قائما وقال : إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لايجوز وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صنع مثل ماصنعت وهذا وضوء من لم يحدث لأن الكلام فى وضوء المحدث لافى مجرد التنظيف بمسح الأطراف كما يدل عليه مافى الخبر من مسح المغسول اتفاقا وأما ماروى عن عباد بن تميم عن عمه بروايات ضعيفة أنه صلى الله عليه و سلم توضأ ومسح على قدميه فهو كما قال الحفاظ : شاذ منكر لايصلح للاحتجاج مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازا واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة مارواه الحسين بن سعيد الأهوازى عن فضالة عن حماد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال : سألت أبا جعفر رضى الله تعالى عنه عن المسح على الرجلين فقال : هو الذى نزل به جبريل عليه السلام وما روى عن أحمد ابن محمد قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر رضى الله تعالى عنه عن المسح على القدمين كيف هو فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين فقلت له : لو أن رجلا قال : بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزىء قال : لا إلا بكفه كلها إلى غير ذلك مما روته الامامية فى هذا الباب ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم
وقد ذكرنا نبذة من ذلك فى كتابنا النفحات القدسية فى رد الأمامية على أن لنا أن نقول : لو فرض أن حكم الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفى عنه ولو كان هو الغسل لايكفى عنه فالبغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة فلايرد ماقيل : من أن الغسل والمسح متضادان لايجتمعان فى محل واحد كالسواد والبياض وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدى رب الأرباب سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضا لكون سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت دون المسح للاختلاف فى سنده وقال بعض المحققين : قد يلزمهم بناءا على قواعدهم أن يجوزوا الغسل والمسح فقط وزعم الجلال السيوطى أنه لاإشكال فى الآية بحسب القراءتين عند المخيرين إلا أنه يمكن أن يدعى لغيرهم وأن ذلك كان مشروعا أولا ثم نسخ بتعيين الغسل وبقيت القراءتان ثابتتين فى الرسم كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وبقى رسم ذلك ثابتا ولايخفى أنه أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن البيوت
هذا وأمنا قراءة الرفع فلاتصلح فى الاستدلال للفريقين إذ لكل أن يقدر ماشاء ومن ةهنا قال الزمخشرى فيها : أنها على معنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة لكن ذكر الطيبى أنه لاشك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الاسمية وحذف خبرها يدل على إرادة ثبوتها وظهورها وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لايلتبس وإنما يكون
(6/78)
كذلك إذا جعلت القرينة ماعلم من منطوق القراءتين ومفهومهما وشوهد وتعورف من فعل الرسول صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضى الله تعالى عنهم وسمع منهم واشتهر فيما بينهم
وقد قال عطاء : والله ماعلمت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مسح على القدمين وكل ذلك دافع لتفسيره هذه القراءة بقوله : وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة على الترديد لاسيما العدول من الانشائية إلى الاخبارية المشعر بأن القوم كأنهم سارعوا فيه وهو يخبر عنه انتهى فالأولى أن يقدر ماهو عن جنس الغسل عى وجه يبقى معه الانشاء
وبمجموع ماذكرنا يعلم مافى كلام الإمام الرازى قدس الله سره ونقله مما قدمناه فاعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال والله تعالى الهادى إلى سواء السبيل
(6/79)
ثم اعلم أنهم اختلفوا فى أن الآية هل تقتضى وجوب النية أم لا فقال الحنفية : إن ظاهره لايقتضى ذلك والقول بوجوبها يقتضى زيادة فى النص والزيادة فيه تقتضى النسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد غير واقع بل غير جائز عند الأكثرين وكذا بالقياس على المذهب المنصور للشافعى رضى الله تعالى عنه كما قاله المروزى فإذن لايصح إثبات النية وقال بعض الشافعية : إن الآية تقتضى الايجاب لأن معنى قوله تعالى : إذا قمتم إذا أردتم القيام وأنتم محدثون والغسل وقع جزاءا لذلك والجزاء مسبب عن الشرط فيفيد وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة وبذلك يثبت المطلوب وقال آخرون وعليه المعول عندهم وجه الاقتضاء أن الوضوء مأمور به وهو ظاهر وكل مأمور به يجب أن يكون عبادة وإلا لما أمر به وكل عبادة لاتصح بدون النية لقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبوا الله مخلصين والاخلاص لايحصل إلا بالنية وقد جعل حالا للعابدين والأحوال شروط فتكون كل عبادة مشروطة بالنية وقاسوا أيضا الوضوء على التعميم فى كونهما طهارتين للصلاة وقد وجبت النية فى المقيس عليه فكذا فى المقيس ولنا القول بموجب العلة يعنى سلمنا أن كل عبادة بنية والوضوء لايقع عبادة بدونها لكن ليس كلامنا فى ذلك بل فى أنه إذا لم ينو حتى لم يقع عبادة سببا للثواب فهل يقع الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أولا ليس فى الآية ولا فى الحديث المشهور الذى يوردنه فى هذا المقام دلالة على نفيه ولاإثباته فقلنا : نعم لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لالذاته فكيف حصل المقصود وصار كستر العورة ! وباقى شروط الصلاة التى لايفتقر اعتبارها إلى أن ينوى ومن ادعى أنةالبشرط وضوء هو عبادة فعليه البيان والقياس المذكور على التيمم فاسد فان من المتفق عليه أن شرط القياس أن لايكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل وشرعية التيمم متأحرة عن الوضوء فلايقاس الوضوء على التيموم فى حكمه نعم إن قصد الاستدلال بآية التيمم بمعنى أنه لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها فى الوضوء وكان معنى القياس أنه لافارق لم يرد ذلك وذكر بعض المحققين فى الفرق بين الوضوء والتيمم وجهين : الاول أن التيمم ينبىء لغة عن القصد فلا يتحقق بدونه بخلاف الوضوء والثانى أن التراب جعل طهورا فى حالة مخصوصة والماء طهور بنفسه كما يستفاد من قوله تعالى : ماءا طهورا وقوله سبحانه : ليطهركم به فحينئذ يكون القياس فاسدا أيضا
واعترض الوجه الأول بأن النية المعتبرة ليست نية نفس الفعل بل أن ينوى المقصود به الطهارة والصلاة ولو صلاة الجنازة وسجدة التلاوة على مابين فى محله وإذا كان كذلك فانما ينبىء عن قصد غير المعتبر نية
(6/0)
فلا يكون النص بذلك موجبا للنية المعتبرة ومن هنا يعلم مافى استدلال بعض الشافعية بآية الوضوء على وجوب النية فيه السابق آنفا وذلك لأن المفاد بالتركيب المقدر إنما هو وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة مع الحدث لاإيجاب أن يغسل لأجل الصلاة إذ عقد الزاء الواقع طلبا بالشرط يفيد طلب مضمون الجزاء إذا تحقق مضمون الشرط وأن وجوبه اعتبر مسببا عن ذلك فأين طلبه على وجه مخصوص هو فعله على قصد كونه لمضمون الشرط فتأمل فقد خفى هذا على بعض الأجلة حتى لم يكافئه بالجواب والوجه الثانى بانه إن أريد بالحالة المخصوصة حالة الصلاة فهو مبنى على أن الارادة مرادة فى الجملة المعطوفة عليها جملة التيمم
وأنت قد علمت الآن أن لادلالة فيها على اشتراط النية وإن أريد حالة عدم القدرة على استعمال الماء فظاهر أن ذلك لايقتضى إيجاب النية ولانفيها واستفاد كون الماء طهورا بنفسه مما ذكر بأن كون المقصود من إنزاله التطهير به وتسميته طهورا لايفيد اعتباره مطهرا بنفسه أى رافعا للأمر الشرعى بلا نية وهو المطلوب بخلاف إزالته الخبث لأن ذلك محسوس أنه مقتضى طبعه ولاتلازم بين إزالته حسا صفة محسوسة وبين كونه يرتفع عند استعماله اعنبار شرعى والمفاد من ليطهركم كون المقصود من إنزاله التطهير به وهذا يصدق مع اشتراط النية كما قال الشافعى رضى الله تعالى عنه وعدمه كما قلنا ولادلالة للأعم على أخص بخصوصه كما هو المقرر قتدبر
واختلفوا أيضا فى أنها هل تقتضى وجوب الترتيب أم لا فذهب الحنفية إلى الثانى لأن المذكور فيها الواو وهى لمطلق الجمع على الصحيح المعول عليه عندهم والشافعية إلى الأول لأن الفاء فى اغسلوا للتعقيب فتفيد تعقيب القيام إلى الصلاة بغسل الوجه فيلزم الترتيب بين الوجه وغيره فيلزم فى الكل لعدم القائل بالفصل
وأجيب بأنا لانسلم إفادتها تعقيب القيام به بل جملة الأعضاء وتحقيقه أن المعقب طلب الغسل وله متعلقات وصل إلى أولها ذكرا بنفسه وإلى الباقى بواسطة الحرف المشترك فاشتركت كلها فيه من غير إفادة طلب تقديم تعليقه ببعضها على بعض فى الوجود فصار مؤدى التركيب طلب إعقاب غسل جملة الأعضاء وهذا نظير قولك : ادخل السوق فاشتر لنا خبزا ولحما حيث كان المفاد أعقاب الدخول بشراء ماذكر كيفما وقع
وزعم بعضهم أن إفادة النظم للترتيب لأنه لو لم يرد ذلك لأوجب تقديم الممسوح أو تأخيره عن المغسول ولأنهم يقدمون الأهم فالأهم وفيه نظر لأن قصارى ما يدل عليه النظم أولوية الترتيب ونحن لاننكر ذلك وقال آخرون : الدليل على الترتيب فعله صلى الله عليه و سلم فقد توضأ عليه الصلاة و السلام مرتبا ثم قال : هذا وضوء لايقبل الله تعالى الصلاة إلا به وفيه أن الإشارة كانت لوضوء مرتب موالى فيه فلو دل على فرضية الترتيب لدل على فرضية الموالاة ولاقائل بها عند الفريقين نعم أقوى دليل لهم وقوله صلى الله عليه و سلم فى حجة الوداع : ابدأوا بما بدأ الله تعالى به بناءا على أن الأمر للوجوب والعبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب وأجيب عن ذلك بما أجيب إلا أن الاحتياط لايخفى وهذا المقدار يكفى فى الكلام على هذه الآية والزيادة على ذلك ببيان سنن الوضوء ونواقضه ومايتعلق به مما لاتفهمه الآية كما فعل بعض المفسرين فضول لافضل وإظهار علم يلوح من خلاله الجهل وإن كنتم جنبا وأى عند القيام إلى الصلاة فأطهروا أى فاغتسلوا على أتم وجه وقرىء فاطهروا أى فطهروا أبدانكم والمضمضة والاستنشاق هنا فرض كغسل سائر البدن لانه سبحانه أضاف التطهير إلى مسمى الواو وهو جملة بدن كل مكلف فيدخل كل مايمكن الإيصال اليه
(6/80)
إلا مافيه حرج كداخل العينين فيسقط للحرج ولاحرج فى داخل الفم والأنف فيشملهما نص الكتاب من غير معارض كما شملها قوله صلى الله عليه و سلم فيما رواه أبو داود : تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة وكونهما من الفطرة كما جاء فى الخبر لاينفى الوجوب لأنها الدين وهو أعم منه وتشعر الآية بأنه لايجب الغسل على الجنب فورا مالم يرد فعل ما لايجوز بدونه ويؤيد ذلك ماصح أنه صلى الله عليه و سلم خرج لصلاة الفجر ناسيا أنه جنب حتى إذا وقف تذكر فانصرف راجعا فاغتسل وخرج ورأسه الشريف يقطر ماءا وإن كنتم مرضى مرضا تخافون به الهلاك أو أزدياده باستعمال الماء
أو على سفر أى مستقرين عليه
أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه من لابتداء الغاية وقيل : للتبعيض وهو متعلق بامسحوا وقرأ عبد الله فأموا صعيدا وقد تقدم تفسير الآية فى سورة النساء فليراجع ولعل التكرير ليتصل الكلام فى بيان أنواع الطهارة ولئلا يتوهم النسخ على ماقيل بناءا على أن هذه السورة من آخر مانزل مايريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة والغسل من الجنابة أو بالأمر بالتيمم ليجعل عليكم من حرج أى ضيق فى الامتثال و الجعل يحتمل أن يكون بمعنى الخلق والايجاد فيتعدى لواحد وهو من حرج و من زائدة و عليكم حينئذ متعلق بالجعل وجوز أن يتعلق بحرج وإن كان مصدرا متأخرا ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير فيكون عليكم هو المفعول الثانى ولكن يريد أى بذلك ليطهركم أى لينظفكم فالطهارة لغوية أو ليذهب عنكم دنس الذنوب فان الوضوء يكفر الله تعالى به الخطايا فقد أخرج مالك ومسلم وابن جرير عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبى صلى الله عليه و سلم قال : : إذا توضأ العبد المسلم فغسل من وجهه خرج كل خطيئة نظر اليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر من الماء فاذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو آخر قطر الماء فاذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى خرج نقيا من الذنوب فالطهارة معنوية بمعنى تكفير الذنوب لابمعنى إزالة النجاسة لأن الحدث ليس نجاسة بلا خلاف وإطلاق ذلك عليه باعتبار أنه نجاسة حكمية بمعنى كونه مانعا من الصلاة لابمعنى كونه بحيث يتنجس الطعام أو الشراب الرطب بملاقاته المحدث أو تفسد الصلاة بحمله وأما تنجس الماء فيما شاع عن الإمام الأعظم رضى اله تعالى عنه وروى رجوعه عنه فلانتقال المانعية والآثام اليه حكما وقيل : المراد تطهير القلب عن دنس التمرد عن طاعة الله تعالى
وجوز أن يكون المراد ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء والمراد بالتطهير رفع الحدث والمانع الحكمى وأما مانقل عن بعض الشافعية كإمام الحرمين من أن القول : بأن التراب مطهر قول ركيك فمراده به منع الطهارة الحسية فلا يرد عليه أنه مخالف للحديث الصحيح جعلت لى الارض مسجدا وطهورا والإرادة صفة ذات وقد شاع تفسيرها ومفعولها فى الموضعين محذوف كما أشير اليه واللام للعلة وإلى ذلك ذهب بعض المحققين وقيل : هى مزيدة والمعنى مايريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لايرخص لكم فى التيمم ولكن يريد أن يطهركم وضعف بأن ألا تقدر بعد المزيدة وتعقب بأن هذا مخالف لكلام النحاة فقد قال الرضى :
(6/81)
الظاهر أن بعد اللام الزائدة التى بعد فعل الأمر والإرادة وكذا فى المغنى وغيره ووقوع هذه اللام بعد الأمر والارادة فى القرآن وكلام العرب شائع مقيس وهو من مسائل الكتاب قال فيه : سألته أى الخليل عن معنى أريد لأن يفعل فقال : إنما تريد أن تقول : أريد لهذا كما قال قال تعالى : وأمرت لأن أكون أول المسلمين انتهى واختلف فيه النحاة فقال السيرافى : فيه وجهان : أحدهما مااختاره البصريون أن مفعوله مقدر أى أريد ماأريد لأن تفعل فاللام تعليلية غير زائدة الثانى أنها زائدة لتأكيد المفعول وقال أبو على فى التعليق عن المبرد : إن الفعل دال على المصدر فهو مقدر أى أردت وإرادتى لكذا فحذف إرادتى واللام زائدة وهو تكلف بعيد والمذاهب ثلاثة : أقربها الأول وأسهلها الثانى وهو من بليغ الكلام القديم كقوله : أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لى ليلى بكل سبيل البلاغة فيه مما يعرفه الذوق السليم قاله الشهاب وليتم بشرعه ماهو مطهرة لأبدانكم نعمته عليكم فى الدين أو ليتم برخصة إنعامه عليكم بالعزائم لعلكم تشكرون
6
- نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه ومن لطائف الآية الكريمة كما قال بعض المحققين إنها مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى : طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان : مستوعب وغير مستوعب وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود وأن آلتهما مائع وجامد وموجبهما حدث أصغر وأكبر وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر وأن الموعود عليهما التطهير وإتمام النعمة وزاد البعض مثنيات أخر فان غير المحدود وجه ورأس والمحدود يد ورجل والنهاية كعب ومرفق والشكر قولى وفعلى
واذكروا نعمة الله عليكم وهى نعمة الإسلام أو الأعم على إرادة الجنس وأمروا بذلك ليذكرهم المنعم ويرغبهم فى شكره وميثاقه الذى واثقكم به أى عهده الذى أخذه عليكم وقوله تعالى : إذ قلتم سمعنا وأطعنا ظرف لواثقكم به أو لمحذوف وقع حالا من الضمير المجرور فى به أو من ميثاقه أى كائنا وقت قولكم : سمعنا وأطعنا وفائدة التقييد به تأكيد وجوب مراعاته بتذكير قولهم والتزامهم بالمحافظة عليه والمراد به الميثاق الذى أخذه على المسلمين حين بايعهم النبى صلى الله عليه و سلم فى العقبة الثانية سنة ثلاث عشرة من النبوة على السمع والطاعة فى حال اليسر والعسر والمنشط والمكره كماأخرجه البخارى ومسلم من حديث عبادة بن الصامت وقيل : هو الميثاق الواقع فى العقبة الأولى سنة إحدى عشرة أو بيعة الرضوان بالحديبية فاضافة الميثاق اليه تعالى مع صدوره عنه صلى الله عليه و سلم لكون المرجع اليه سبحانه كما نطق به قوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
وأخرج ابن جرير وابن حميد عن مجاهد قال : هو الميثاق الذى واثق به بنى آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم عليه السلام وفيه بعد واتقوا الله فى نسيان نعمته ونقض مياثقه أو فى كل ماتأتون وتذرون فيدخل فيه ماذكروا دخولا أوليا إن الله عليم بذات الصدور
7
- أى مخفياتها الملابسة لها ملابسة تامة مصححة لاطلاق الصاحب عليها فيجازيكم عليها فما ظنكم بجليات الأعمال والجملة اعتراض وتعليل للامر وإظهار الاسم
(6/82)
الجليل لمامر غير مرة ياأيها أمنوا شروع فى بيان الشرائع المتعلقة لما يجرى بينهم وبين غيرهم اثر مايتعلق بأنفسهم كونوا قوامين لله أى كثيرى القيام له بحقوقه اللازمة وقيل : أى ليكن من عادتكم القيام بالحق فى أنفسكم بالعمل الصالح وفى غيركم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ابتغاء مرضاة الله تعالى شهداء بالقسط أى بالعدل وقيل : دعاة لله تعالى مبينين عن دينه بالحجج الحقة ولايجرمنكم لايحملنكم شنئان قوم أى شدة بغضكم لهم عاى ألاتعدلوا فلا تشهدوا فى حقوقهم بالعدل أو فتعدوا عليهم بارتكاب مالايحل أعدلوا أيها المؤمنون فى أوليائكم وأعدائكم واقتصر بعضهم على الأعداء بناءا على ماروى أنه لما فتحت مكة كلف الله تعالى المسلمين بهذه الآية أن لايكافئوا كفار مكة بما سلف منهم وأن يعدلوا فى القول والفعل هو راجع إلى العدل الذى تضمنه الفعل وهو إما مطلق العدل فيندرج فيه العدل الذى أشار اليه سبب النزول وإما العدل مع الكفار أقرب للتقوى أى أدخل فى مناسبتها لأن التقوى نهاية الطاعة وهو أنسب الطاعات بها فالقرب بينهما على هذا مناسبة الطاعة للطاعة ويحتمل أن يكون أقربيته على التقوى باعتبار أنه لطف فيها مناسبة إفضاء السبب إلى المسبب وهو بمنزلة الجزء الأخير من العلة واللام مثلها فى قولك : هو قريب لزيد للاختصاص لامكملة فانه بمن أو إلى
وتكلف الراغب فى توجيه الآية فقال : فان قيل : كيف ذكر سبحانه أقرب للتقوى وأفعل إنما يقال فى شييئين اشتركا فى أمر واحد لأحدهما مزية وقد علمنا أن لاشىء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من العدالة قيل : إن أفعل وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب فى الشىء فى نفسه قطعا لكلامه وإظهارا لتبكيته فيقال لمن اعتقده مثلا فى زيد فضلا وإن لم يكن فيه فضل ولكن لايمكنه أن ينكر أن عمرا أفضل منه : اخدم عمرا فهو أفضل من زيد وعلى ذلك جاء قوله تعالى : آلله خيرا أم مايشركون وقد علم أن لاخير فيما يشركون والجملة فى موضع التعليل للأمر بالعدل وصرح لهم به تأكيدا وتشديدا وأمر سبحانه بالتقوى بقوله جل وعلا : وأتقوا الله إثر مابين أن العدل أقرب لها اعتناءا بشأنها وتنبيها على أنها ملاك الأمر كله إن الله حبير بما تعملون
8
- من الأعمال فيجازيكم بذلك وقد تقدم نظير هذه الآية فى النساء ولم يكتف بذلك لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة فى إطفاء نائرة الغيظ وقيل : لاختلاف السبب فان الأولى نزلت فى المشركين وهذه فى اليهود وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا وهو أن آية النساء جىء بها فى معرض الاقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذى هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولاقرابة والتى هنا جىء بها فى معرض ترك العدواة فبدأ فيها بالقيام لله تعالى لأنه أردع للمؤنين ثم ثنى بالشهادة بالعدل فجىء فى كل معرض بما يناسبه وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الواجبات والمندوبات ومن جملتها العدل والتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم
9
- جملة مستأنفة مبينة لثانى مفعولى وعد المحذوف كأنه قيل : أى شىء وعده
(6/83)
فقيل مغفرة الخ
ويحتمل أن يكون المفعول متروكا والمعنى قدم لهم وعدا وهو مابين الجملة المذكورة وجوز أن تكون مفعول وعد باعتبار كونه بمعنى كونه بمعنى قال أو المراد حكايته لأنه يحكى بماهو فى معنى القول عند الكوفيين ويحتمل أن يكون القول مقدرا أى وعدهم قائلا ذلك فى حقهم فيكون اخبارا يثبوته لهم وهو أبلغ وقيل : إن هذا القول يقال لهم وتهوينا لسكرات الموت عليهم
والذين كفروا وكذبوا بآيتنا القرآنية التى من جملتها ماتليت من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى وحمل بعضهم الآيات على المعجزات التى أيد الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه و سلم أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجحيم
10
- أى ملابسوا النار الشديدة التأجج ملابسة مؤبدة والموصول مبتدأ أول واسم الإشارة مبتدأ ثان ومابعده خبره والجملة خبر الأول ولم يؤت باجملة فى سياق الوعيد كما أتى بالجملة قبلها فى سياق الوعد قطعا لرجائهم وفى ذكر حال الكفرة بعد حال المؤمنين كما هو فى السنة السنية القرآنية وفاءا بحق الدعوة وتطييبا لقلوب المؤمنين بجعل أصحاب النار أعداءهم دونهم
ياأيها الذين امنوا اذكروا نعمت الله عليكم تذكير لنعمة الإنجاء من الشرائر تذكير نعمه إيصال الخير الذى هو نعمة الاسلام ومايتبعها من الميثاق أو تذكير نعمة خاصة بعد تذكير النعمة العامة اعتناءا بشأنها و عليكم متعلق بنعمة الله أو بمحذوف وقع حالا منها وقوله تعالى : إذ هم قوم على الأول ظرف لنفس النعمة وعلى الثانى لما تعلق به الظرف ولايجوز أن يكون ظرفا لاذكروا لتنافى زمنيها فان إذ للمضى و اذكروا لمستقبل أى اذكروا إنعمامه تعالى عليكم أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم وقت قصد قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم أى بأن يبطشوا بكم بالقتل والاهلاك يقال : بسط إليه يده إذا بطش به وبسط إليه لسانه إذا شتمه والبسط فى الأصل مطلق المد وإذا استعمل فى اليد واللسان كان كناية عما ذكر وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان رجوع ضرر البسط وغائلته اليهم حملا لهم من أول الامر على الاعتداد بنعمة دفعه فكف أيديهم عنكم عطف على هم وهو النعمة التى أريد تذكيرها وذكر الهم للايذان بوقوعها عند مزيد الحاجة اليها والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها وإظهار الأيدى لزيادة التقرير وتقديم المفعول الصريح على الأصل أى منع أيديهم أن تمد إليكم عقيب همهم بذلك وعصمكم منهم وليس المراد أنه سبحانه كفها عنكم بعد أن مدوها اليكم وفى ذلك مالايخفى من إكمال النعمة ومزيد اللطف
والآية إشارة إلى ماأخرجه مسلم وغيره من حديث جابر أن المشركين رأوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضى الله تعالى عنهم بعسفان قاموا إلى اظهر معا فلما صلوا ندموا إلا كانوا أكبوا عليهم وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر فرد الله تعالى كيدهم بأن أنزل صلاة الخوف وقيل : إشارة إلى ماأخرجه أبو نعميم فى الدلائل من طريق عطاء والضحاك وابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن عمرو بن أمية الضمرى حيث انصرف من بئر معونة لقى رجلين كلابيين معهما أمان من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتلهما ولم يعلم أن معهما أمانا فوداهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ومضى إلى بنى النضير ومعه أبو بكر رضى الله تعالى عنه وعمر وعلى فتلقوه
(6/84)
فقالوا مرحبا ياأبا القاسم لماذا جئت قال رجل من أصحابى قتل رجلين من كلاب معهما أمان منى طلب منى ديتهما فأريد أن تعينونى قالوا : نعم اقعد حتى نجمع لك فقعد تحت الحصن وأبو بكر وعمر وعلى وقد تآمر بنو النضير أن يطرحوا عليه الصلاة و السلام حجرا فجاء جبريل عليه السلام فأخبره فقام ومن معه
وقيل : إشارة إلى ماأخرجه غير واحد من حديث جابر أن النبى صلى الله عليه و سلم نزل منزلا فتفرق الناس فى العضاه يستظلون تحتها فعلق النبى صلى الله عليه و سلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابى إلى سيفه فأخذه فسله ثم أقبل على النبى صلى الله عليه و سلم فقال : من يمنعك منى قال : الله تعالى قالها الأعرابى مرتين أو ثلاثا والنبى صلى الله عليه و سلم فى كل ذلك يقول : الله تعالى فشام الأعرابى السيف فدعا النبى صلى الله عليه و سلم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابى وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه ولايخفى أن سبب النزول يجوز تعدده وأن القوم قد يطلق على الواحد كالناس فى قوله تعالى : الذين قال لهم الناس وأن ضررالرئيس ونفعه يعودان إلى المرءوس واتقوا الله عطف على اذكروا أى اتقوه فى رعاية حقوق نعمته ولاتخلوا بشكرها أى فى الأعم من ذلك ويدخل هو دخولا أوليا
وعد الله خاصة دون غيره استقلالا أو اشتراكا فليتوكل المؤمنون
11
- فانه سبحانه كاف فى درء المفاسد وجلب المصالح والجملة تذييل مقرر لما قبله وإيثار صيغة أمر الغائب وإسنادها للمؤمنين لايجاب التوكل على المخاطبين بطريق برهانى ولإظهار مايدعوا إلى الامتثال ويزع عن الإخلال مع رعاية الفاصلة وإظهار الأمر الجليل لتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة التذييلية وقد مرت نظائره وهذه الآية كما نقل عن الإمام الشافعى رضى الله تعالى عنه تقرأ سبعا صباحا وسبعا مساءا لدفع الطاعون
ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل كلام مستأنف مشتمل على بيان بعض ماصدر من بنى اسرائيل مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمةالله تعالى ومراعاة حق الميثاق وتحذيرهم من نقضه أو لتقرير ماذكر من الهم بالبطش وتحقيقه بناءا على أنه صادرا من أسلافهم ببيان أن الغدر والخيانة فيهم شنشنة أخزمية وإظهار الاسم الجليل هنا لتربية المهابة وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب فى نقضه مع مافيه من رعاية حق الاستئناف المستدعى للانقطاع عما قبله والالتفات فى قوله تعالى : وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا للجرى على سنن الكبرياء وتقديم المفعول الغير الصريح على الصريح لمامر غير مرة من الاهتمام والتشويق النقيب قيل : فعيل بمعنى فاعل مشتقا من النقب بمعن التفتيش ومنه فنقبوا فى البلاد وسمى ذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأسرارهم وقيل : بمعنى مفعول كأن القوم اختاروه على علم منهم وتفتيش على أحوالهم
قال الزجاج : وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق فى الجبل ويقال : فلان حسن النقيبة أى جميل الخليقة ونقاب : للعالم بالأشياء الذكى القلب الكثير البحث عن الامور وهذا الباب كله معناه التأثير فى الشىء الذى له عمق ومن ذلك نقبت الحائط أى بلغت فى النقب آخره
روى أن بنى اسرائيل لما فرغوا من أمر فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون وقال سبحانه لهم : إنى كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا اليها وجاهدوا من فيها فانى ناصركم وأمر جل شأنه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء فيما أمروا به فأخذ عليهم الميثاق
(6/85)
واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسون الاخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم فرأوا أجزاما عظاما وبأسا شديدا فهابوا فرجعوا وحدثوا قومهم إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع ابن نون من سبط إفرائيم بن يوسف عليه السلام وعند ذلك بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن النقباء لما دخلوا على الجبارين وجدوهم يدخل فى كم أحدهم اثنان منهم ولايحمل عنقود عنبهم إلا خمس أنفس بينهم فى خشبة ويدخل فى شطر الزمانة إذا نزع حبها خمس أنفس أو أربع وذكر البغوى أنه لقيهم رجل من أولئك يقال له : عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراعا وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه اليها ثم يأكله ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وماجاوز ركبتى عوج وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه السلام وذلك أنه جاء وقور صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام وكان فرسخا فى فرسخ وحملها عليهم فبعث الله تعالى الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت فى عنقه فصرعه فأقبل موس عليه السلام وهو مصروع فقتله وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم عليه السلام وكان مجلسها جريبا من الأرض فلما لقوا عوجا وعلى رأسه حزمة حطب أخذهم جميعا وجعلهم فى حزمته وانطلق بهم إلى امرأته وقال : انظرى إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال : ألا أطحنهم برجلى فقالت امرأته : لابل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل انتهى
وأقول : قدشاع أمر عوج عند العامة ونقلوا فيه حكايات شنيعة وفى فتاوى العلامة ابن حجر قال الحافظ العماد بن كثير : قصة عوج وجميع مايحكون عنه هذيان لاأصل له وهو من مختلقات أهل الكتاب ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام ولم يسلم من الكفار أحد وقال ابن القيم من الأمور التى يعرف بها كون الحديث موضوعا أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه كحديث عوج الطويل وليس العجب من جرأة وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث فى كتب العلم من التفسير وغيره ولايبين أمره ثم قال : ولاريب فى أن هذا وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم انتهى
وأورد بن المنذر عن ابن عمر رضى من قصته شيئا عجيبا وتعقبه بعض المصنفين بأن هذا مما يستحى الشخص من نسبته إلى ابن عمر رضى الله تعالى عنهما ومشى صاحب القاموس على أن أخباره موضوعة وأخرج الطبرانى وأبو الشيخ وابن حبان فى كتاب العظمة فيه آثارا قال الحفاظ فى أطلولها المشتمل على غرائب من أحواله : إنه باطل كذب وقال الحافظ السيوطى : والأقرب فى خبر عوج أنه من بقية عاد وأنه كان له طول فى الجملة مائة ذراع أو شبه ذلك وأن موسى عليه الصلاة و السلام قتله بعصاه وهذا هو القدر الذى يحتمل قبوله انتهى ونعم ماقال فان بقاءه فى الطوفان مع كفره الظاهر إذ لم ينقل إيمانه ودعوة نوح عليه السلام التى عمت الأرض مما لايكاد يقبله المنصف وكذا بقاؤه بعد الطوفان مع قوله تعالى : وجعلنا ذريته هم الباقين مما لايسوغه العارف وشيه الحوت بعين الشمس مما لايكاد يعقل على ماذكره الحكماء فقد ذكر الخلخالى أنهم ذهبوا إلى أن الشمس ليست حارة وإلا لكان قلل الجبال أحر من الوهاد لقرب القلل
(6/86)
إلى الشمس وبعد الوهاد عنها بل الحرارة تحدث من وصول شعاع الشمس إلى وجه الأرض وانعكاسه عنه ولذلك يرى الوهاد أحر لتراكم الأشعة المنعكسة فيها فما وصل اليه الشعاع فيها فما وصل اليه الشعاع من وجه الأرض يصير حارا وإلا فلا وذكر نحو ذلك شارح حكمة العين ولايرد على هذا أن بعض الناس روى أن كذا ملائكة ترمى الشمس بالثلج إذا طلعت ولولا ذلك لأحرقت الأرض لأن ذلك مما لم يثبت عند الحافظ وهو إلى الوضع أقرب منه إلى الصحة ثم كان القائل بوجود عوج هذا من الناس لايقول بالطبقة الزمهرية التى هى الطبقة الثالة من طبقات العناصر السبع ولابما فوقها وإلا فكيف يكون الاحتجاز بالسحاب وهو كالرعد والبرق والصاعقة إنما ينشأ من تلك الطبق الباردة التى اليها أثر شعاع الشمس بالانعكاس من وجه الأرض وقد ذكروا أيضا أن فوقها طبقتين : الأولى مايمتزج مع النار وهى التى يتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة عن السفل ويتكون فيها الكواكب ذوات الأذناب والينازك والثانية مايقرب من الخلوص إذ لايصل اليه حرارة مافوقه ولابرودة ماتحته من الأرض والماء وهى التى يحدث فيها الشهب فاذا احتجز هذا الرجل بالسحاب وصل رأسه على زعمهم إلى إحدى تينك الطبقتين فكيف يكون حاله مع ذلك البرد والحر ! ولاأظن بشرا كيف كان يقوى على ذلك على أن أصل الاحتجاز مما لايمكن بناءا على كلام الحكماء إذ قد علمت أن منشأ السحب الطبقة الزمهريرية
وفى كتاب نزهة القلوب نقلا عن الحكيم أبى نصر أن غاية ارتفاعها اثنى عشر فرسخا وستمائة ذراع وعن المتقدمين أنها ثمانية عشر فرسخا والفرسخ ثلاثة أميال والميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع انتهى
واختلفوا أيضا فى غاية انحطاطها ولم يذكر أحد منهم أنها تنحط إلى مايتصور معه احتجاز الرجل الذى ذكروا من طوله ماذكروا بالسحاب اللهم إلا أن يراد به سحاب لم يبلغ هذا الارتفاع ومع هذا كله قد اخطأوا فى قولهم : ابن عنق وانما هو ابن عوق كنوح كما نص على ذلك فى القاموس وهو أيضا اسم والده لا والدته كما ذكر هناك أيضا فليحفظ
وأخرج ابن حميد زابن جرير عن أبى العالية أنه قال فى الآية : أخذ الله تعالى ميثاق بنى اسرائيل أن يخلصوا له ولايعبدوا غيره وبعث منهم إثنى عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله تعالى بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به ونهاهم عنه واختاره الجبائى والنقباء حينئذ يجوز أن يكونوا رسلا وأن يكونوا رسلا وأن يكونوا رسلا وأن يكونوا قادة كما قال البلخى واختار أبو مسلم أنهم بعثوا أنبياء ليقيموا الدين ويعلموا الأسباط التوراة ويأمروهم بما فرضه الله تعالى عليهم وأخرج الطيبى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنهم كانوا وزراء وصاروا أنبياء بعد ذلك وقال الله أى للنقباء عند الربيع ورجحه السمين للقرب وعند أكثر المفسرين لبنى اسرائيل ورجحه أبو حيان إذ هم المحتاجون إلى ماذكر من الترغيب والترهيب كما ينبىء عنه الالتفات مع مافيه من ترببة وتأكيد مايتضمنه الكلام من الوعد إنى معكم أسمع كلامكم وأرى أعمالكم وأعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك وقيل : معكم بالنصرة وقيل : بالعلم والتعميم أولى
لئن أقمتم الصلاة واتيتم الزكاة وامنتم برسلى أى بجميعهم واللام موطئة للقسم المحذوف وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع كونهما من الفروع المترتبة عليه لما أنهم كما قال غير واحد كانوا معترفين
(6/87)
بوجوبهما حسبما يراد منهم مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام ولمراعاة المقارنة بينه وبين قوله تعالى : وعزرتموهم وقال بعضهم : إن جملة وآمنتم برسلى إلى آخره كناية إيمائية عن المجاهدة ونصرة دين الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام والانفاق فى سبيله كأنه قيل : لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وجاهدتم فى سبيل الله يدل عليه قوله تعالى : ولاترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين فان المعنى لاترتدوا على أدباركم فى دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم عليه الصلاة و السلام وإنما وقع الاهتمام بشأن هذه القرينة دون الأولين وأبرزت فى معرض الكناية لأن القوم كانوا يتقاعدون عن القتال ويقولون لموسى عليه السلام إذهب وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون انتهى ولايخلو عن نظر
وقيل : إنما قدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنها الظاهر من أحوالهم الدالة على إيمناهم و التعزيز أصل معناه المنع والذب وقيل : التقوية من العزر وهو والازر من واد واحد ولايخفى أن فى التقوية منعا لمن قويته عن غيره فهما متقاربان مم تجوز عن النصرة لما فيها من ذلك وعن التأديب وهو فى الشرع ماكان دون الحد لأنه رادع ومانع عن ارتكاب القبيح ولذا سمى فى الحديث نصرة فقد صح عنه صلى الله عليه و سلم انصر أخاك ظلما أو مظلوما فقال رجل : يارسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تحجزه أو تمنعه عن الظلم فان ذلك نصره وقال الراغب : التعزيز النصرة مع التعظيم وبالنصرة فقط فسره الحسن ومجاهد وبالتعظيم فقط فسره ابن زيد وأبو عبيدة وقرىء عزرتموهم بالتخفيف وأقرضتم الله أى بالاتفاق فى سبيل الخير وقيل : بالصدق بالصدقات المندوبة وأياما كان فهو استعارة لأنه سبحانه لما وعد بجزائه والثواب عليه شبه بالقرض الذى يقضى بمثله وفى كلام العرب قديما الصالحات قروض قرضا حسنا وهو ما كان عن طيب نفس على ماقال الأخفش وقيل مالايتبعه من ولا أذى وقيل : ماكان من حلال
وذكر غير واحد أن قرضا يحتمل المصدر والمفعول به لاكفرن عنكم سيئاتكم دال على جواب الشرط المحذوف وساد مسده معنى وليس هو الجواب له خلافا لأبى البقاء بل هو جواب القسم فقد تقرر أنه إذا اجتمع شرط وقسم أجيب السابق منهما إلا أن يتقدمه ذو خبر وجوز أن يكون هذا جوابا لما تضمنه قوله تعالى : ولقد أخذنا ميثاق اسرائيل من القسم وقيل : إن جوابه لئن اقمتم فلا تكون اللام موطئة أو تكون ذات وجهين وهو غريب وجملة القسم المشروط وجوابه مفسرة لذلك الميثاق المتقدم
ولأدخلنكم جنات تحرى من تحتها الأنهار عطف على ماقبله داخل معه فى حكمه متأخر عنه فى الحصول ضرورة تقدم التخلية على التحلية فمن كفر أى برسلى أو بشىء مما عدد فى حيز الشرط والفاء للترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب بالترهيب بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم أعنى لأكفرن وقيل : بعد الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم أعنى أنى معكم بناءا على حمل المعية على المعية بالنصرة والاعانة أو التوفيق للخير فأن الشرط معلق به من حيث المعنى نحو أنا معتن بشأنك إن خدمتنى رفعت محلك وقيل : المراد بعد ماشرطت هذا الوعد وأنعمت هذا الانعام
(6/88)
وقوله تعالى : منكم متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل كفر ولعل تغيير السبك حيث لم يقل وإن كفرتم عطفا على الشرطية السابقة كما قال شيخ الاسلام لاخراج كفر الكل عن حيز الاحتمال وإسقاط من كفر عن رتبة الخطاب ثم ليس المراد بالكفر إحداثه بعد الايمان بل مايعم الاستمرار عليه أيضا كأنه قيل : فمن اتصف بالكفر بعد ذلك إلا أنه قصد بايراد مايدل على الحدوث بيان ترقيتهم فى مراتب الكفر فان الاتصاف بشىء بعد ورده مايوجب الاقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكن بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث فقد ضل سواء السبيل
12
- أى وسط الطريق وحاقه ضلالا لاشبهة فيه ولاعذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك إذ ربما أن يكون له شبهة ويتوهم عذر
فبما نقضهم ميثاقهم أى بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لابشىء آخر استقلالا وانضماما فالباء سببية و ما مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه فى النفس أو بمعنى شىء كما قال أبو البقاء والجار متعلق بقوله تعالى : لعنهم أى طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم قاله عطاء وجماعة وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة وخنازير وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب الجزية عليهم ولايخفى أن ماقاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقى لأن حقيقة اللعن فى اللفة الطرد والابعاد فاستعماله فى المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله فى لازم معناه وهو الحقارة بما ذكر لكنه لاقرينة فى الكلام عليه وتخيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق اللعن والنقض بأن يقال مثلا : فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هلية الشىء البسيطة على هليته المركبة كما قال شيخ الاسلام للايذان بأن تحققهما أمر جلى غنى عن البيان وإنما المحتاج إلى ذلك مابينهما من السببية والمسببية وجعلنا قلوبهم قاسية يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولاتلين قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما
وقيل : المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذى تنشرح به صدورهم حتى وان على قلوبهم ماكانوا يكسبون وهذا كما تقول لغيرك : أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها وقال الجبائى : المعنى بينا عن حال قلوبهم وماهى عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لايؤمنون ولاتنفع فيهم موعظة ولايخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا اليه إلا الاعتزال وقرأ حمزة والكسائى قسية وهى إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل أو بمعنى ردية من قولهم : درههم قسى إذا كان مغشوشا وهو أيضا من القسوة فأن المغشوش فيه يبس وصلابة وقيل : إن قيس غير عربى بل معرب وقرىء قسية بكسر القاف للاتباع يحرفون الكلام عن مواضعه استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فانه لامرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين والافتراء عليه عز و جل والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار الصورة وللدلالة على التجدد والاستمرار وجوز أن يكون حالا من مفعول لعناهم أو من المضاف اليه فى قلوبهم وضعف بما ضعف وجعله حالا من القلوب أو من ضميره فى قاسية كما قيل لايصح لعدم العائد منه إلى ذى الحال وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لايلتفت اليه أصحابها ونسوا حظا أى تركوا نصيبا وافيا واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير مما ذكروا به من التوراة : أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلى الله عليه و سلم
(6/89)
وقيل : حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم وأخرج ابن المبارك وأحمد فى الزهد وعن مسعود قال : إنى لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعلمها وفى معنى ذلك قول الشافعى رضى الله تعالى عنه : شكوت إلى وكيع سوء حفظى فأرشدنى إلى ترك المعاصى وأخبرنى بأن العلم نور ونور الله لايهدى لعاصى ولاتزال تطلع على خائنة منهم أى خيانة كما قرىء به على أنها مصدر على وزن فاعلة كالكاذبة واللاغية أو فعلة خائنة أى ذات خيانة وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أو فرقة خائنة أو نفس خائنة أو شخص خائنة على أنه وصف والتاء للمبالغة لكنها فى فاعل قليلة ومنهم متعلق بمحذوف وقع صفة لها خلا أن من على الوجهين الأولين ابتدائية أى على خيانة أو فعلة ذات خيانة كائنة منهم صادرة عنهم وعلى الأوجه الأخر تبعيضية والمعنى إن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم كما يعلم من وصفهم بالتحريف وما معه بحيث لايكادون يتركونها أو يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم إلا قليلا منهم استثناء من الضمير المجرور فى منهم والمراد بالقليل عبد الله بن سلام وأضرابه الذين نصحوا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وجعله بعضهم استثناء من خائنة على الوجه الثانى فالمراد بالقليل و من ابتدائية كما مر أى إلا قليلا كائنا منهم وقيل : الاسستثناء من قوله تعالى : وجعلنا قلوبهم قاسية فاعف عنهم واصفح أى إذا تابوا أو بذلوا الجزية كما روى عن الحسن وجعفر ابن مبشر واختاره الطبرى فضمير عنهم راجع إلى مارجع إليه نظائره وعن أبى مسلم أنه عائد على القليل المستثنى أى فاعف عنهم ماداموا على عهدك ولم يخونوك وعلى القوانين فالآية محكمة وقيل : الضمير عائد على مااختاره الطبرى وهى مطلقة إلا أنها نسخت بقوله تعالى : قاتلوا الذين لايؤمنون بالله الآية
وروى ذلك عن قتادة وعن الجبائى أنها منسوخة بقوله تعالى : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء إن الله يحب المحسنين
13
- تعليل للامر وحث على الامتثال وتنبيه على أن العفو على الاطلاق من باب الاحسان
هذا ومن باب الاشارة فى الآيات ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم أمر بالتطهير لمن أراد الوقوف بين الملك الكبير جل شأنه وعظم سلطانه وبدا بالوجه لأنه سبحانه وتعالى نقشه بنقش خاتم صافته وفى الفتوحات لاخلاف فى أن غسل الوجه فرض وحكمه فى الباطن المراقبة والحياء من الله تعالى مطلقا ثم اختلف الحكم فى الظاهر فى أن تحديد غسل الوجه فى الوضوء فى ثلاثة مواضع : منها البياض الذى بين العذار والاذن والثانى ماسدل من اللحية والثالث تخليل اللحية فأما البياض المذكور فمن قائل : بوجوب إمرار الماء عليه ومن قائل : بأنه لايجب وكذلك تخليل اللحية فمن قائل : بوجوبه ومن قائل : بأنه لايجب وحكم ذلك فى الباطن أما غسل الوجه مطلقا غير نظر إلى تحديد الأمر فى ذلك فان فيه ماهو فرض وفيه ماهو ليس بفرض فأما الفرض فالحياء من الله تعالى أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك وأما السنة
(6/90)
منه فالحياء من الله تعالى أن تنظر إلى عورتك أو عورة امرأتك وإن كان ذلك قد أبيح لك لكن استعمال الحياء فيها أفضل وألى فما يتعين منه فهو فرض عليك وإلا يتعين ففعلته فهو سنة واستحباب فيراقب الانسان أفعاله ظاهرا وباطنا ويراقب ربه فى باطنه فان وجه قلبه هو المعتبر ووجه الانسان على الحقيقة ذاته يقال : وجه الشىء أى حقيقته وعينه وذاته فالحياء خير كله و الحياء من الإيمان ولايأتى إلا بخير وأما البياض الذى بين العذار والأذن وهو الحد الفاصل بين الوجه والأذن فهو الحد بين ماكلف الانسان من العمل فى وجهه والعمل فى سماعه فالعمل فى ذلك إدخال الحد فى المحدود فالأولى بالانسان أن يصرف حيائه فى سمعه كما صرفه فى بصره فكما أن الحياء غض البصر كما قاله تعالى : قل للمؤمنين أن يغضوا من أبصارهم كذلك يلزم الحياء من الله تعالى أن لايسمع مالايحل له غيبة وسوء قول من متكلم بما لاينبغى فان ذلك البياض هو بين العذار والأذن وهو محل الشبهة وهو أن يقول : أصغيت اليه لأرد عليه وهذا معنى العذار فانه من العذر أى الانسان يعتذر إذا قيل له : لم أصغيت إلى هذا القول بأذنك فيقول : إنى أردت أن أحقق سماع ماقال حتى أنهاه عنه فكنى عنه بالعذار فمن رأى وجوب ذلك عليه غسله ومن لم يرى وجوب ذلك إن شاء غسل وإن شاء ترك وأما غسل ماسترسل من اللحية وتخلليها فهى الأمور العوارض فان اللحية شىء يعرض فى الوجه وليست من أصله فكل مايعرض لك فى وجه ذلك من المسائل فأنت فيها بحكم ذلك العارض فان تعين عليك طهارة ذلك العارض فهو قول من يقول بوجوب غسله وإن لم يتعين عليك طهارته فطهرته استحبابا أو تركته لكونه ماتعين عليك فهو قول من لم يقل بوجوب الطهارة فيه وقد بين أن حكم الباطن يخالف الظاهر بأن فيه وجها إلى الفريضة ووجها إلى السنة والاستحباب فالفرض من ذلك لابد من إتيانه وغير الفرض عمله أولى من تركه وذلك سار فى جميع العبادات انتهى
وقال بعض العارفين : هذا خطاب للمؤمنين بالإيمان العلمى إذا قاموا عن نوم الغفلة وقصدوا صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية والتوجه إلى الحق أن يطهروا وجوه قواهم بماء العلم النافع الطاهر المطهر من علم الشرائع والاخلاق والمعاملات الذى يتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس وأول هذا الأيدى فى قوله تعالى : وأيديكم بالقوى والقدر أى طهروا أيضا قواكم وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات فى مواد الرجس إلى المرافق أى قدر الحقوق والمنافع وقال الشيخ الاكبر قدس سره : أجمع الناس على غسل اليدين والذراعين واختلفوا فى إدخال المرافق فى هذا الغسل فمن قائل : بوجوب إدخالهما ومن قائل : بعدم الوجوب لكن لم ينازع بالاستحباب وحكم الباطن فى ذلك أن غسل اليدين والذراعين إشارة إلى غسلهما بالكرم والجود والسخاء والهباة والاعتصام والتوكل فان هذا وشبهه من نعوت اليدين والمعاصم للمناسبة بقى غسل المرافق وهى رؤية الأسباب التى يرتفق العبد ويأنس بها لنفسه فمن راى إدخال المرافق فى نفسه رأى أن الأسباب إنما وضعها الله تعالى حكمة منه فى خلقه فلا يريد أن تعطل حكمة الله تعالى لا على طريق الاعتماد عليها فان ذلك يقدح فى اعتماده على الله تعالى ومن رأى عدم إيجابها فى الغسل رأى سكون النفس إلى الأسباب وأنه لايخلص له مقام الاعتماد على الله تعالى مع وجود رؤية الاسباب ومل من يقول : بأنه لايجب غسلها يقول : يستحب كذلك رؤية الأسباب مستحبة عند الجميع وإن اختلفت أحكامهم فيها فان الله تعالى ربط الحكمة فى وجودها وامسحوا برءوسكم قال بعض العارفين : أى بجهات أرواحكم عن قتام كدورة القلب وغبار تغيره بالتوجه
(6/91)
إلى العالم السفلى ومحبة الدنيا بنور الهدى فان الروح لايتكدر بالتعلق بل يحتجب نوره عن القلب فيسود القلب ويظلم ويكفى فى انتشار نوره صقل الوجه العالى الذى يتوجه اليه فان القلب ذو وجهين : أحدهما إلى الروح والرأس هنا إشارة اليه والثانى إلى النفس وقواها وأحرى بالرجل أن تكون إشارة اليه
وقال الشيخ الأكبر قدس سره بعد أن بين اختلاف العلماء فى القدر الذى يجب مسحه : وأما حكم مسح الرأس فى الباطن فأصله من الرياسة وهى العلو والارتفاع ولما كان أعلا مافى البدن فى ظاهر العين وجميع البدن تحته سمى رأسا فان الرئيس فوق المرءوس وله جهة فوق وقد وصف الله تعالى نفسه بالفوقية على عباده بصفة القهر فقال سبحانه : وهو القاهر فوق عباده فكان الرأس أقرب عضو فى الجسد إلى الحق تعالى لمناسبة الفوقية ثم له الشرف الآخر فى المعنى الذى به رأس على البدن كله وهو أنه محل جميع القوى كلها الحسية والمعنوية فلما كانت له هذه الرياسة من هذه الجهة سمى رأسا ثم إن العقل الذى جعله الله تعالى أشرف مافى الانسان جعل محله اليافوخ وهو أعلى موضع فى الرأس فجعله سبحانه ممايلى جانب الفوقية ولما كان محلا لجميع القوى الظاهرة والباطنة ولكل قوة حكم وسلطان وفخر يورثها ذلك عزة على غيرها وكان محل هذه القوى من الرأس مختلفة فعمت الرأس كله وجب مسح كله فى هذه العبارة لهذه الرياسة السارية فيه كله من جهة هذه القوى بالتواضع والاقناع فيكون لكل قوة مسح مخصوص من مناسبة دعواها وهذا ملحظ من يرى وجوب مسح جميع الرأس ومن رأى تفاوت القوى بالرياسة فان القوة المصورة مثلا لها سلطان على للقوة الخيالية فهى الرئيسة عليها وإن كانت للقوة الخيالية رياسة قال : الواجب عليه مسح بعض الرأس وهو المقسم بالاعلى ثم اختلفوا فى هذا البعض فكل عارف قال بحسب ماأعطاه الله تعالى من الادراك فى مراتب هذه القوى فيمسح بحسب مايرى ومعنى المسح هو التذلل وإزالة الكبرياء والشموخ بالتواضع والعبودية لأن المتوضىء بصدد مناجاة ربه وطلب صلته والعزيز الرئيس إذا دخل على من ولاه تلك العزة ينعزل عن عزته ورياسته بعز من دخل عليه فيقف بين يديه وقوف العبيد فى محل الإذلال لا بصفة الاذلال فمن غلب على خاطره رياسة بعض القوى على غيرها وجب عليه مسح ذلك البعض من أجل الوصلة التى تطلب بهذه العبادة ولهذا لم يشرع مسح الرأس فى التميم لأن وضع التراب على الرأس من علامات الفراق فترى الفاقد حبيبه بالموت يضع التراب على رأسه وتفصيل رياسات القوى معلوم عن أهل هذا الشأن وأما التبعيض فى اليد الممسوح بها واختلافهم فى ذلك فاعمل فيه كما تعمل فى المسموح سواء فان المزيل لهذه الرياسة أسباب مختلفة فى القدرة على ذلك ومحمل ذلك اليد فمن مزيل بصفة القهر ومن مزيل بسياسة وترغيب إلى آخر ماقال : وأرجلكم أشير بها إلى القوى الطبيعية البدنية المنهمكة فى الشهوات والإفراط باللذلت وغسلها بماء علم الاخلاق وعلم الرياضيات حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به القلب للحضور والمناجاة
وفى الفتوحات اختلفوا فى صفة طهارتها بعد الاتفاق على أنها من أعضاء الوضوء هل ذلك بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير بينهما ومذهبنا التخيير والجمع أولى وما من قول إلا وبه قائل والمسح بظاهر الكتاب والغسل بالسنة ومحتمل الآية بالعدول عن الظاهر منها وأما حكم ذلك فى الباطن فاعلم أن السعى إلى الجماعات وكثرة الخطا إلىالمساجد والثبات يوم الزحف مما تطهر به الأقدام فلتكن طهارة
(6/92)
رجليك بما ذكرناه وأمثاله ولاتتمثل بالنميمة بين الناس ولاتمش مرحا واقصد فى مشيك واغضض من صوتك ومن هذا ماهو فرض بمنزلة المرة الواحدة فى غسل عضو الوضوء الرجل وغيره ومنه ماهو سنة وهو مازاد على الفرض وهو مشيك فيما ندبك الشرع إليه وماأوجبه عليك فالواجب عليك نقل الأقدام إلى مصلاك والمندوب والمستحب والسنة وماشئت فقل من ذلك نقل الأقدام إلى المساجد من قرب وبعد فان ذلك ليس بواجب وإن كان الواجب من ذلك عند بعض الناس مسجدا لابعينه وجماعة لابعينها فعلى هذا يكون غسل رجليك فى الباطن من طريق المعنى واعلم أن الغسل يتضمن المسح فمن غسل فقد أدرج المسح فيه كأندراج نور الكواكب فى نور الشمس ومن مسح لم يغسل إلا فى مذهب من يرى وينقل عن العرب أن المسح لغة فى الغسل فيكون من الألفاظ المترادفة والصحيح فى المعنى فى حكم الباطن أن يستعمل المسح فيما يقتض الخصوص من الأعمال والغسل فيما يقتضى العموم ولهذا كان مذهبنا التخيير بحسب الوقت فان الشخص قد يسعى لفضيلة خاصة فى حاجة شخص بعينه بمنزلة المسح وقد يسعى للملك فى حاجة تعم الرعية فيدخل ذلك الشخص فى هذا العموم فذلك بمنزلة الغسل الذى اندرج فيه المسح انتهى
وإن كننتم جنبا فاطهروا الجنابة غربة العبد عن موطنه الذي يستحقه وليس إلا العبودية وتغريب صفة ربانية عن موطنها وكل ذلك يوجب التطهير وقوله تعالى : وإن كنتم مرضى الخ قد تقدم نظير
وفى الفتوحات اختلف فى حد الأيدى المذكورة فى هذه الطهارة فمن قائل : حدها مثل حد الوضوء ومن قائل : هو الكف فقط وبه أقول ومن قائل : إن الاستحباب إلى المرفقين والفرض الكفان ومن قائل : إن الفرض إلى المناكب والاعتبار فى ذلك أنه لما كان التراب فى الأرض أصل نشأة الإنسان وهو تحقيق عبوديته وذلته أمر بطهارة نفسه من التكبر بالتراب وهو حقيقة عبوديته ويكون ذلك بنظره فى أصل خلقه ولما كان من جملة مايدعيه الاقتدار والعطاء مع أنه مجبول علىالعجز والبخل وهذه الصفات من صفات الأيدى قيل له عند هذه الدعوة ورؤية نفسه فى الاقتدار الظاهر منه والكرم والعطاء : طهر نفسك من هذه الصفة بنظرك فيما جبلت عليه من ضعفك ومن بخلك فقد قال تعالى : خلقكم من ضعف ومن يوق شح نفسه وإذا مسه الخير منوعا فاذا نزظر إلى هذا الأصل زكت نفسه وتطهرت من الدعوى واختلفوا فى عدد الضربات على الصعيد للتيمم فمن قائل : واحدة ومن قائل : اثنتان والقائلون بذلك منهم من قال : ضربة للوجه وضربة لليدين ومنهم من قال : وضربتان لليد وضربتان للوجه ومذهبنا أنه من ضرب واحدة أجزأه ومن ضرب اثنتين إجزأه وحديث الضربة الواحدة أثبت والاعتبار فى ذلك التوجه إلى مايكون به هذه الطهارة فمن غلب التوحيد فى الأفعال قال : بالضربة الواحدة ومن غلب حكم السبب الذى وضعه الله تعالى ونسب الفعل إلى الله تعالى مع تعريته عند مثل قوله تعالى : والله خلقكم وما تعلمون فأثبت ونفى قال : بالضربتين ومن قال : إن ذلك فى كل فعل قال : بالضربتين لكل عضو انتهى
وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام فى أنواع الطهارة وأتى فيه بالعجب العجاب مايريد الله ليجعل عليكم من حرج أى ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات ولكن يريد ليطهركم من الصفات الخبيثة وعن سهل : الطهارة على سبع أوجه : طهارة العلم من الجهل وطهارة الذكر من النسيان وطهارة اليقين من الشك وطهارة العقل من الحمق وطهارة الظن من التهمة وطهارة الإيمان مما دونه وطهارةالقلب من
(6/93)
الإرادات وقال : إسباغ طهارة الظاهر تورث طهارة الباطن وإتمام الصلاة يورث الفهم عن الله تعالى والطهارة تكون فى اشياء فى صفاء المطعم ومباينة الأنام وصدق اللسان وحشوع السر وكل واحد من هذه الأربع مقابل لما أمر الله تعالى بتطهيره وغسله من الأعضاء الظاهرة
وقال ابن عطاء : البواطن مواضع نظر الحق سبحانه فقد روى عنه صلى الله عليه و سلم إنا الله تعالى لاينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فموضع نظر الحق جل وعلا أحق بالطهارة وذلك إنما يكون بإزالة أنواع الخيانات والمخالفات وفنون الوساوس والغش والحقد والرياء والسمعة وغير ذلك من المناهى وليس شىء على العارفين أشد من جمع الهم وطهارة السر وفى إضافة التطهير اليه تعالى مالايخفى من اللطف وليتم نعمته عليكم بالتكميل وقال بعض العارفين : إتمام النعمة لقوم نجاتهم بتقواهم وعلى آخرين نجاتهم عن تقواهم فشتان بين قوم وقوم ولعلكم تشكرون نعمة الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند البقاء بعد الفناء واذكروا نعمةالله عليكم بالهداية إلى طريق الوصول اليه وميثاقه الذي واثقكم به وهو عقود عزائمه المذكورة إذ قلتم سمعنا وأطعنا أى إذا قبلتموها من معدن النبوة بصفاء الفطرة وقال بعضهم : المراد بنعمة الله تعالى هدايته سبحانه السابقة فى الأزل لأهل السعادة وبالميثاق الميثاق الذى واثق الله تعالى به عباده أن لايشتغلوا بغيره عنه سبحانه وقال أبو عثمان : النعم كثيرة وأجلها المعرفة به سبحانه المواثيق كثيرة وأجلها الايمان ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أى من قوى نفوسكم المحجوبة وصفاتها أن يبسطوا اليكم أيديهم بالاستيلاء والقهر لتحصيل مآربها وملاذها فكف أيديهم عنكم أى فمنعها عنكم بما أراكم من طريق التطهير والتنزيه واتقوا الله واجعلوه سبحانه وقاية فى قهرها ومنعها وعلى الله فليتوكل المؤمنون برؤية الأفعال كلها منه عز و جل ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وهم فى الأنفس الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والقوة العملية وذكر غير واحد من سادتنا الصوفية أن النقباء أحد أنواع : الأولياء : نفعنا الله تعالى ببركاتهم ففى الفتوحات : ومنهم النقباء وهم اثنا عشر نقيبا فى كل زمان لايزيدون ولاينقصون على عدد بروج الفلك الإثنى عشر برجا كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله تعالى فى مقامه من الأسرار والتأثيرات ومايعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت فان للثوابت حركات وقطعا فى البروج لايشعر به فى الحس لأنه لايظهر ذلك إلا فى آلاف من السنين وأعمار الرصد تقصر عن مشاهدة ذلك واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدى هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها وإبليس مكشوف عندهم يعرفون منه مالايعرفه من نفسه وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص فى الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقى مثل العلماء بالآثار والقيافة وبالديار المصرية منهم كثير يخرجون الأثر فى الصخور وإذا رأووا شخصا يقولون : هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر وليسوا بأولياء فما ظنك بما يعطيه الله تعالى لهؤلاء النقباء من علوم الآثار انتهى
وقد عد الشيخ قدس سره فيها أنواعا كثيرة والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء ففى بعض فتاوى ابن تيمية وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذى بمكة والأوتاد الأربعة
(6/94)
والأقطاب السبعة والأبدال الاربعين والنجباء الثلثمائة فهى ليست موجودة فى كتاب الله تعالى ولاهى مأثورة عن النبى صلى الله عليه و سلم لا باسناد صحيح ولاضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال فقد روى فيهم حديث شامى منقطع الاسناد عن على كرم الله تعالى وجهه مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن فيهم يعنى أهل الشام الأبدال أربعين رجلا كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا ولاتوجد أيضا فى كلام السلف انتهى وأنا أقول : وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد وقال الله تعالى : إنى معكم بالتوفيق والإعانة لئن أقمتم للصلاة وتحليتم بالعبادات البدنية وآتيتم الزكاة وتخليم عن الصفات الذميمة من البخل والشح فزهدتم وآثرتم وآمنتم برسلى جميعهم من العقل والالهامات والافكار الصائبة والخواطر الصادقة من الروح والقلب وإمداد الملكوت وعزرتموهم أى وعظتموهم بأن سلطتموهم على شياطين الوهم وقويتموهم ومنعتموهم من الوساس وإلقاء الوهميات والخيالات والخواطر النفسانية وأقرضتم الله قرضا حسنا بأن تبرأتم من الحول والقوة والعلم والقدرة وأسندتم كل ذلك إليه عز شأنه بل ومن الأفعال والصفات جميعها بل ومن الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى باريها جل وعلا لأكفرن عنكم سيآتكم التى هى الحجب والموانع لكم ولأدخلنكم جنات مما عندى تجرى من تحتها الأنهار وهى أنهار علوم التوكل والرضاء والتسليم والتوحيد وتجليات الأفعال والصفات والذات فمن كفر بعد ذلك العهد وبعث النقباء منكم فقد ضل سواء السبيل وهلك مع الهالكين فبما نقضهم ميثاقهم الذى وثقوه لعناهم وطردناهم عن الحضرة وجعلنا قلوبهم قاسية باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى الامور الأرضية يحرفون الكلم عن مواضعه حيث حجبوا عن أنوار الملكوت والجبروت التى هى كلمات الله تعالى واستبدلوا قوى أنفسهم بها واستعملوا وهمياتهم وخيالاتهم بدل حقائقها ونسوا حظا نصيبا وافرا مما ذكروا به فى العهد اللاحق وهو ماأتوه فى العهد السابق من الكمالات الكامنة فى استعداداتهم الموجودة فيها بالقوة ولاتزال تطلع على خائنة منهم من نقض عهد ومنع أمانة لاستيلاء شيطان النفس عليهم وقساوة قلوبهم إلا قليلا منهم وهو من جره استعداده إلى مافيه صلاحه فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين إلى عباده باللطف والمعاملة الحسنة جعلنا الله تعالى وإياكم من المحسنين
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم شروع فى بيان قبائح النصارى وجناياتهم إثر بيان قبائح وجنايات إخوانهم اليهود ومن متعلقة بأخذنا وتقديم الجار للاهتمام ولأن ذكر إحدى الطائفتين مما يوقع فى ذهن السامع أن حال الأخرى ماذا كأنه قيل : ومن الطائفة الأخرى أيضا أخذنا ميثاقهم والضمير المجرور راجع إلى الموصول أو عائد على بنى إسرائيل الذين عادت إليهم الضمائر السلبقة وهو نظير قولك : أخذت من زيد ميثاق عمرو أى مثل ميثاقه
وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدا محذوف أيضا وجملة أخذنا صفة أى ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا منهم ميثاقهم وقيل : المبتدأ المحذوف من الموصولة أو الموصوفة ولايخفى أن جواز حذف الموصول وإبقاء صلته لم يذهب اليه سوى الكوفيين وإنما قال سبحانه : قالوا إنا نصارى ولم يقل جلا وعلا ومن النصارى كما هو الظاهر دون إطناب للايماء كما قال بعضهم : إلى أنهم على دين النصرانية بزعمهم
(6/95)
وليسوا عليها فى الحقيقة لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما فى الانجيل من التبشير بنبينا صلى الله عليه و سلم وقيل : للاشارة إلى أنهم لقبوا بذلك أنفسهم على معنى أنهم أنصار الله تعالى وأفعالهم تقتضى نصرة الشيطان فيكون العدول عن الظاهر ليتصور تلك الحال فى ذهن السامع ويتقرر أنهم ادعوا نصرة الله تعالى وهم منها بمعزل ونكتة تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم أنه لما كان المقصود فى هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم فى نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله تعالى ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة وماكان حاصل أمرهم إلا التفوه بالدعوى وقولها دون فعلها ولايخفى أن هذا مبنى على على أن وجه تسميتهم نصارى كونهم أنصار الله تعالى وهو وجه مشهور ولهذا يقال لهم أيضا : أنصار وفى غير ما موضع أن عيسى عليه السلام ولد فى سنة أربع وثلثمائة لغلبة الأسكندر فى بيت لحم من المقدس ثم سارت به أمه عليها السلام إلى مصر ولما بلغ اثنتى عشرة سنة عادت به إلى الشام فأقام ببلدة تسمى الناصرة أو نصورية وبها سميت النصارى ونسبوا إليها وقيل : إنهم جمع نصران كندامى وندمان أو جمع نصرى كمهرى ومهارى والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى والنصرانية أيضا دينهم ويقال لهم : نصارى وأنصار وتنصر دخل فى دينهم فنسوا على إثر أخذ الميثاق حظا نصيبا وافرا مما ذكروا به فى تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك من الفرائض وقيل : هو ماكتب عليهم فى الانجيل من الإيمان بالنبى صلى الله عليه و سلم فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم وتفرقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة فأغرينا أى ألزمنا وألصقنا وأصله اللصوق يقال : غريت بالرجل غرى إذا لصقت به قاله الأصمعى وقال غيره : غريت به غراءا بالمد وأغريت زيدا بكذا حتى غرى به ومنه الغراء الذي يلصق به الأشياء وقوله تعالى : بينهم ظرف لأغرينا أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أى أغرينا العدواة والبغضاء كائنة بينهم
قال أبو البقاء : ولاسبيل إلى جعله ظرفا لهما لأن المصدر لايعمل فيما قبله وأنت تعلم أن منهم من أجاز ذلك إذا كان المعمول ظرفا وقوله تعالى : الى يوم القيامة إما غاية للاغراء أو للعدواة والبغضاء أى يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهوائهم المختلفة وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الكثيرة ومنها النسطورية : واليعقوبية والملكانية وقد تقدم الكلام فيهم فضمير بينهم إلى النصارى كما روى عن الربيع واختاره الزجاج والطبرى وعن الحسن وجماعة من المفسرين أنه عائد على اليهود والنصارى وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون
14
- فى الدنيا من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به والكلام مساق للوعيد الشديد بالجزاء والعقاب فالإنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم لا أن ثمت أخبار حقيقة والنكتة فى التعبير بالإنباء الإنباء بأنهم لايعلمون حقيقة مايعملونه من الأعمال السيئة واستتباعها للعذاب فيكون ترتيب العذاب عليها فى إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها والالتفات إلى ذكر الاسم الجليل لما مر مرارا والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم فيه وسوف لتأكيد الوعيد ياأهل أهل الكتاب التفات إلى خطاب الفريقين من اليهود والنصارى على أن الكتاب جنس صادق بالواعد
(6/96)
والاثنين وما فوقهما والتعبير عنهم بعنوان أهلية الكتاب للتشنيع فان أهلية الكتاب من موجبات مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان مافيه من الأحكام وقد فعلوا وهم يعلمون قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه و سلم والتعبير عنه بذلك مع الإضافة إلى ضمير العظمة للتشريف والايذان بوجوب اتباعه عليه الصلاة و السلام يبين لكم حال من رسولنا وإيثار الفعلية للدلالة على تجدد البيان أى حال كونه مبينا لكم على سبيل التدريج حسبما تقتضيه المصلحة كثيرا كنتم تخفون من الكتاب أى التوراة والانجيل وذلك كنعت النبى صلى الله عليه و سلم وآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد عليهما الصلاة والسلام وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال : إن نبى الله تعالى صلى الله عليه و سلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال عن الرجم فقال عليه الصلاة و السلام : أيكم أعلم فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذى أنزل التوراة على موسى عليه الصلاة و السلام والذى رفع الطور وبالمواثيق التى أخذت عليهم حتى أخذه أفكل فقال : إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرءوس فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله تعالى هذه الآية وتأخير كثيرا عن الجار والمجرور لما مر غير مرة والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والاخفاء و مما متعلق بمحذوف وقع صفة لكثيرا وما موصولة اسمية ومابعدها صلتها والعائد محذوف ومن الكتاب حال من ذلك المحذوف أى يبين لكم كثيرا من الذى تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذى أنتم أهله والعاكفون عليه ويعفوا عن كثير أى ولا يظهر كثيرا مما تخفونه إذا لم تدع اليه داعية دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح وقال الحسن : أى يصفح عن كثير منكم ولايؤاخذه إذا تاب واتبعه وأخرج ابن حميد عن قتادة مثله واعترض أنه مخالف للظاهر لأن الظاهر أن يكون هذا الكثير كالكثير السابق وفيه نظر كما قال الشهاب لأن النكرة إذا أعيدت نكرة فهى متغايرة نعم اختار الأول الجبائى وجماعة المفسرين والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلة فى حكمها قد جاءكم من الله نور عظيم وهو نور الأنوار والنبى المختار صلى الله عليه و سلم وإلى هذا ذهب قتادة واختاره الزجاج وقال أبو على الجبائى : عنى بالنور القرآن لكشفه وإظهاره طرق الهدى واليقين واقتصر على ذلك الزمخشرى وعليه فالعطف فى قوله تعالى : وكتاب مبين لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات وأما على الأول فهو ظاهر وقال الطيبى : إنه أوفق لتكرير قوله سبحانه : قد جاءكم بغير عاطف فعلق به أولا وصف الرسول والثان وصف الكتاب وأحسن منه ماسلكه الراغب حيث قال : بين فى الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التى خص بها العباد النبوة والعقل والكتاب وذكر فى الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم فيهدى به إلى آخره يرجع إلى قوله سبحانه : قد جاءكم رسولنا ويخرجهم الخ يرجع إلى قوله تعالى : قد جاءكم رسولنا ويخرجهم الخ يرجع إلى قوله تعالى : قد جاءكم نور ويديهم يرجع إلى قوله عز شأنه : وكتاب مبين كقوله : هدى للمتقين انتهى
وأنت تعلم أنه لادليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظى ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع ولايبعد عندى أن يراد بالنور والكتاب المبين النبى صلى الله عليه و سلم والعطف عليه كالعطف على ماقاله الجبائى ولاشك فى صحة إطلاق كل عليه عليه الصلاة و السلام ولعلك تتوقف فى قبوله من باب
(6/97)
العبارة فليكن ذلك من باب الإشارة والجار والمجرور متعلق بجاء و من لابتداء الغاية مجازا أو متعلق بمحذوف وقع حالا من نور وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجىء من جهته تعالى العالية والتشويق إلى الجائى ولأن فيه نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم والمبين من بان اللازم بمعنى ظهر فمعناه الظاهر الإعجاز ويجوز أن يكون من المتعدى فمعناه المظهر ماكان خافيا عليهم
يهدى به الله توحيد الضمير لاتحاد المرجع بالذات أو لكونهما فى حكم الواحد أو لكون المراد يهدى بما ذكر وتقديم المجرور للاهتمام نظرا إلى المقام وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب أو النصب على الحالية منه لتخصيصه بالصفة
وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من رسولنا بدلا من يبين وأن تكون حالا من الضمير فى يبين وأن تكون حالا من الضمير فى مبين وأن تكون صفة لنور من اتبع رضوانه أى من علم الله تعالى أنه يريد اتباع رضا الله تعالى بالإيمان به و من موصولة أو موصوفة سبل السلامة أى طرق السلامة من كل مخافة قاله الزجاج فالسلام مصدر بمعنى السلامة
وعن الحسن والسدى أنه أسمه تعالى ووضع المظهر ووضع المظهر موضع المضمر ردا على اليهود والنصارى والواصفين له سبحانه بالنقائص تعالى عما يقولون علوا كبيرا والمراد حينئذ بسبله تعالى شرائعه سبحانه التى شرعها لعباده عز و جل ونصبها قيل : على أنها مفعول ثان ليهدى على إسقاط حرف الجر نحو واختار موسى وقومه
وقيل : إنها بدل من رضوان بدل كل من كل أو بعض من كل أو اشتمال والرضوان بكسر الراء وضمنها لغتان وقد قرىء بهما و السبل بضم الباء والتسكين لغة وقد قرىء به ويخرجهم الضمير المنصوب عائد إلى من والجمع باعتبار المعنى كما أن افراد الضمير المرفوع فى اتبع باعتبار اللفظ
من الظلمات إلى النور أى من فنون الكفر والضلال إلى الإيمان بإذنه أى بارادته أو بتوفيقه
ويهيدهم إلى صراط مستقيم وهو دين الاسلام الموصل إلى الله تعالى كما قاله الحسن وفى إرشاد العقل السليم وهذه الهداية عين الهداية إلى سبل السلام وإنما عطفت عليها تنزيلا للتغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى كما فى قوله : فلما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ
وقال الجبائى : المراد بالصراط المستقيم طرق الجنة لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم لاغير المسيح كما يقال : الكرم هو التقوى وأن الله تعالى هو الدهر أى الجالب للحوادث لاغير الجالب فالقصر هنا للمسند اليه على المسند بخلاف قولك : زيد هو المنطلق فان معناه لاغير زيد والقائلون لذلك على ماهو المشهور هم اليعقوبية المدعون بأن الله سبحانه قد يحل فى بدن إنسان معين أو فى روحه
وقيل : لم يصرح بهذا القول أحد من النصارى ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا مع تصريحهم بالوحدة وقولهم : لاإله إلا واحد لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح فنسب اليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم وقال الراغب : فان قيل : إن أحدا لم يقل الله تعالى هو المسيح وإن قالوا المسيح هو الله تعالى وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت فيصح أن يقال المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت كما صح أن يقال : الانسان
(6/98)
هو حيوان مع تركبه من العناصر ولايصح أن يقال : اللاهوت هو المسيح كما لايصح أن يقال : الحيوان هو الانسان قيل : إنهم قالوا هو المسيح على وجه آخر غير ماذكرت وهو ماروى عن محمد بن كعب القرظى أنه لما رفع عيسى عليه الصلاة و السلام اجتمع طائفة من علماء بنى إسرائيل فقالوا : ماتقولون فى عيسى عليه الصلاة و السلام فقال أحدهم : أو تعلمون أحدا يحيى الموتى إلا الله تعالى فقالوا : لا فقال : أو تعلمون أحدا يبرىء الاكمه والأبرص إلا الله تعالى قالوا : لا قالوا : فما الله تعالى إلا من هذا وصفه أى حقيقة الآليهة فيه وهذا كقولك : الكريم زيد أى حقيقة الكرم فى زيد وعلى هذا قولهم : إن الله هو المسيح انتهى وأنت تعلم أنه مع دعوى أن القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود فى المسيح كماهو ظاهر النظم لايرد شىء قل يا محمد تبكيتا لهم وإظهار لبطلان قولهم الفاسد وإلقاما لهم الحجر وقد يقال : الخطاب لكل من له أهلية ذلك والفاء فى قوله تعالى : فمن يملك من الله شيئا عاطفة على مقدر أو جواب شرط محذوف ومن استفهامية للانكار والتوبيخ والملك الضبط والحفظ التام عن حزم والمراد هنا فمن يمنع أو يستطيع كما فى قوله : أصبحت لاأحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا و من الله متعلق به على حذف مضاف أى ليس الأمر كذلك أو إن كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعا ومن حق من يكون إلها أن لايتعلق به ولابشأن من شئونه بل بشىء من الموجودات قدرة غيره فضلا عن أن يعجز عن دفع شىء منها عند تعلقها بهلاكه فلما كان عجزه بينا لاريب فيه ظهر كونه بمعزل عما تقولون فيه
والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقا لا عن سخط وغضب وإظهار المسيح على الوجه الذى نسبوا إليه الألوهية حيث ذكرت معه الصفة فى مقام الاضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه وقيل : وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من أم وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها فى عموم المعطوف لزيادة تأكيد عجز المسيح ولعل نظمها فى سلك من فرض إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجا لحال بقية من فرض إهلاكه وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على عيسى عليه الصلاة و السلام لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى لايقدر على دفع ماأريد به فضلا عما أريد بغيره وللايذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات فى كونه عرضة للهلاك كما أنه أسوة لهم فى العجز وعدم استحقاق الألوهية قاله المولى أبو السعود و جميعا حال من المتعاطفات وجوز أن يكون حالا من من فقط لعمومها وقوله تعالى : ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما أى مابين طرفى العالم الجسمانى فيتناول ما فى السماوات من الملائكة وغيرها ومافى أعماق الأرض والبحار من المخلوقات قيل : تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته إثر الاشارة إلى كون البعض كذلك أى له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها إيجادا وإعداما وإحياءا وإماتة لا لأحد سواه استقلالا ولا اشتراكا فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عما سواه وقيل : دليل آخر على نفى ألوهية عيسى عليه الصلاة و السلام لأنه لو كان إلها كان
(6/99)
له ملك السموات والارض وما بينهما وقيل : دليل على نفى كونه عليه الصلاة و السلام ابنا ببيان أنه مملوك لدخوله تحت العموم ومن المعلوم أن المملوكية تنافى البنوة وقوله تعالى : يخلق مايشاء جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح مااعتراهم من الشبه فى أمر المسيح عليه السلام لولادته من غير أب وخلق الطير وإبراء الاكمه والأبرص وإحياء الموتى و وما نكرة موصوفة محلها النصب على المصدرية أى يخلق أى خلق يشاؤه فتارة يخلق من غير أصل كخلق السماوات والارض مثلا وأخرى من أصل كخلق بعض مابينهما وذلك متنوع أيضا فطورا ينشىء من أصل ليس من جنسه كخلق آدم وكثير من الحيوانات وتارة من أصل يجانسه إما من ذكر وحده كخلق حواء أو من أنثى وحدها كخلق عيسى عليه الصلاة و السلام أو منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شىء من المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزة له وإحياء الموتى وإبراء الاكمه والأبرص فينبغى أن ينسب كل ذلك اليه تعالى لا من أجرى على يده قاله غير واحد
وقيل : إن الجملة جىء بها ههنا مبينة لما هو المراد من قوله تعالى : ولله ملك السموات والأرض الخ بحسب اقتضاء المقام و ما نصب على المصدرية أيضا وقيل : يجوز أن تكون موصولة ومحلها النصب على المفعولية أى يخلق الذى يشاء أن يخلقه والجملة مسوقة لبيان أن قدرته تعالى أوسع من عالم الوجود وعلى كل تقدير فقوله سبحانه : والله على كل شىء قدير
17
- تذييل مقرر لمضمون ماقبله وإظهار الاسم الجليل لما مر من التعليل وتقوية استقلال الجملة وقالت اليهود والنصارى نحن أبناؤا الله وأحباؤه حكاية لما صدر من الفريقين من الدعوى الباطلة لأنفسهم وبيان لبطلانها إثر ذكر ماصدر عن أحدهما من الدعوى الباطلة لغيره وبيان بطلانها أى قال كل من الطائفتين هذا القول الباطل ومرادهم بالأبناء المقربون أى نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم و بالاحياء جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة كما يقال : أبناء الدنيا وأبناء الآخرة وأن يكون أرادوا أشياع من وصف بالنبوة أى قالت اليهود نحن أشياع ابنه عزير وقالت النصارى : نحن أشياع ابنه المسيح عليهما السلام وأطلق الأبناء على الأشياع مجازا إما تغليبا أو تشبيها لهم بالابناء فى قرب المنزلة وهذا كما يقول أتباع الملك : نحن الملوك وكما أطلق على أشياع أبى خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبون فى قوله :
قدنى من نصر الخبيبين قدى
على رواية من رواه بالجمع فقد قال ابن السكيت : يريد أبا خبيب ومن كان معه فحيث جاز جمع خبيب وأشياع أبيه فأولى أن يجوز جمع ابن الله عز اسمه وأشياع الابن بزعم الفريقين فندفع ماقيل : إنهم لايقولون ببنوة أنفسهم ولم يحمل على التوزيع بمعنى أنفسنا الأحباء وأبناؤنا الأبناء بجمع الابنين لمشاكلة الأحباء لأن خطاب بل أنتم بشر يأباه ظاهرا أو يدل وعلى ادعائهم البنوة بأى معنى كان
وقيل : الكلام على حذف المضاف أى نحن أبناء أنبياء الله تعالى وهو خلاف الظاهر وقائل ذلك من اليهود بعضهم ونسب إلى الجميع لما مر غير مرة فقد أخرج ابن جرير والبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم نعمان بن آصى وبحرى بن عمرو وشاش
(6/100)
ابن عدى فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعاهم إلى الله تعالى وحذرهم نقمته فقالوا : ماتخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه وقالت النصارى ذلك قبلهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وعن الحسن أن النصارى تأولوا مافى الإنجيل من قول المسيح : انى ذاهب الى أبى وأبيكم فقالوا ما قالوا
وعندى أن إطلاق ابن الله على المطيع قد كان فى الزمن القديم ففى التوراة قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة و السلام : اذهب إلى فرعون وقل يقول لك رب إسرائيل ابنى بكرى ارسله يعبدنى فان أبيت أن ترسل ابنى بكرى قتلت ابنك بكرك وفيها أيضا فى قصة الطوفان أنه لما نظر بنو الله تعالى إلى بنات الناس وهم حسان جدا شغفوا بهن فنكحوا منهن ماأحبوا واختاروا فولدوا جبابرة فأفسدوا فقال الله تعالى : لاتحل عنايتى على هؤلاء القوم وأريد بأبناء الله تعالى أولاد هابيل وبأبناء الناس أبناء قابيل وكن حسانا جدا فصرفن قلوبهن عن عباده الله تعالى إلى عبادة الأوثان وفى المزامير أنت ابنى سلنى أعطك وفيها أيضا أنت ابنى وحبيبى وقال شعيا فى نبوته عن الله تعالى : تواصوا بى فى أبنائى وبناتى يريد ذكور عباد الله تعالى الصالحين وإناثهم وقال يوحنا الإنجيلى فى الفصل الثانى من الرسالة الأولى انظروا إلى محبة الأب لنا أن أعطانا أن ندعى أبناء وفى الفصل الثالث أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله تعالى فينبغى لنا أن ننزله فى الاجلال على ماهو عليه فمن صح له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك الخطيئة والاثم واعلموا أن من لابس الخطيئة فانه لم يعرفه وقال متى : قال المسيح : أحبوا أعدائكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا على من طردكم كيما تكونوا بنى أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار والممطر على الصديقين والظالمين وقال يوحنا التلميذ فى قصص الحواريين : ياأحبائى إنا أبناء الله تعالى سمانا بذلك وقال بولس الرسول فى رسالته إلى ملك الروم : إن الروح تشهد لأرواحنا أننا أبناء الله تعالى وأحباؤه إلى غير ذلك مما لايحصى كثرة وقد جاء أيضا إطلاق الابن على العاصى ولكن بمعنى الأثر ونحوه ففى الرسالة الخامسة لبولس إياكم والسفه والسب واللعب فان الزانى والنجس كعابد الوثن لانصيب له فى ملكوت الله تعالى واحذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتى رجز الله على الأبناء الذين لايطيعونه وإياكم أن تكونوا شركاء لهم فقد كنتم قبل فى ظلمة فاسعوا الآن سعى أبناء النور ومقصود الفريقين ب نحن أبناء الله وأحباؤه هو المعنى المتضمن مدحا وحاصل دعواهم أن لهم فضلا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق فرد سبحانه عليهم ذلك وقال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : قل إلزاما لهم وتبكيتا فلم يعذبكم بذنوبكم أى إن صاح مازعمتم فلأى شىء يعذبكم يوم القيامة بالنار أياما بعدد أيام عبادتكم العجل وقد اعترفتم بذلك فى غير ماموطن وهذا ينافى دعواكم القرب ومحبة الله تعالى لكم أو محبتكم له المستلزمة لمحبته لكم كما قيل : ماجزاء من يحب إلا يحب أو فلأى شىء أذنبتم بدليل أنكم ستعذبون وأبناء الله تعالى إنما يطلق إن أطلق فى مقام الافتحار على المطيعين كما نطقت به كتبكم أو إن صح مازعمتم فلم عذبكم بالمسخ الذى لايسعكم إنكاره وعد بعضهم من العذاب البلايا والمحن كالقتل والأسر واعترض ذلك بأنه لايصلح للالزام فان البلايا والمحن قد كثرت فى الصلحاء وقد ورد أشد الناس بلاءا الانبياء عليهم السلام ثم الأمثل فالأمثل وقال الشاعر : ولكنهم أهل الحفائظ والعلا فهم لملمات الزمان خصوم
(6/101)
وقوله تعالى : بل أنتم بشر عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى ليس الأمر كذلك بل أنتم بشر وإن شئت قدرت مثل هذا فى أول الكلام وجعلت الفاء عاطفة وقوله سبحانه : ممن خلق متعلق بمحذوف وقع صفة بشر أى بشر كائن من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم
يغفر لمن يشاء أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم المؤمنون به تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام ويعذب من يشاء أن يعذبه وهم الذين كفروا به سبحانه وبرسله عليهم السلام مثلكم والذى دل على التخصيص قوله تعالى : إن الله لايغر أن يشرك به إن قلنا بعمومه كما هو المعروف المشهور ومن الغريب مافى شرح مسلم للنووى أنه يحتمل أن يكون مخصوصا بهذه الأمة وفيه نظر
هذا وأورد بعض المحققين هنا إشكالا ذكر أنه قوى وهو أنه إذا كان معنى نحن أبناء الله تعالى أشياع بنيه فغاية الأمر أن يكونوا على طريقة الابن تحقيقا للتبعية لكن من أين يلزم أن يكونوا من جنس الأب كما صرح به الزمخشرى فى انتفاء فعل القبائح وانتفاء البشرية والمخلوقية ليحسن الرد عليهم بأنهم بشر ممن خلق نعم ماذكروه فى هذا المقام من استلزام المحبة عدم العصيان والمعاقبة ربما يتمشى لأن من شأن المحب أن لايعصى الحبيب ولايستحق منه المعاقبة ومن هنا قيل : تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرى فى الفعال بديع لوكان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع وفيه مناقشة لأن هذا شأن المحبين والاحباء هم المحبون وأجاب عن إشكال إثبات البشرية بأنه ليس إثباتا لمطلق البشرية ليجب أن يكون رد الدعوى بانتفائه بل هو إثبات أنهم بشر مثل سائر البشر ومن جنس سائر المخلوقين منهم العاصى والمطيع والمستحق للمغفرة والعذاب لا كما أدعوا من أنهم الأشياع المخصوصون بمزيد قرب واختصاص لايوجد فى سائر البشر ولذا وصف بشرا بقوله سبحانه ممن خلق حتى لايبعد أن يكون يغفر لمن يشاء أيضا فى موقع الصفة على حذف العائد أى لمن يشاء منهم وأما إشكال الجنسية فقيل فى جوابه : المراد أنكم لو كنتم أشياع بنى الله تعالى لكنتم على صفتهم فى ترك القبائح وعدم استحقاق العذاب لأن من شأن الأشياع والأتباع أن يكونوا على صفة المتبوعين والمتبوعون هنا هم الأبناء بالزعم ومن شأن الأبناء أن يكونوا على صفة الأب فمن شأن الأتباع أن يكونوا على صفة الأب بالواسطة وقيل : كلام من قال : يلزم أن يكونوا من جنس الأب على حذف مضاف أى لو كنتم أشياع بنى الله تعالى لكنتم من جنس أشياع الأب يعنى أهل الله تعالى الذين لايفعلون القبائح ولايستوجبون العقاب
وفى الكشف إن قولهم : نحن أبناء الله تعالى فيه إثبات الابن وأنهم من أشياعه مستوجبون محبة الأب لذلك فينبغى أن يكون الرد مشتملا على هدم القولين فقيل : من أسندتم اليه البنوة لايصلح لها لا مكان القبيح عليه وصدوره هفوة ومؤاخذته بالزلة ودعواكم المحبة كاذبة وإلا لما عذبتم وأيضا إذا بطل أن يكون له تعالى ابن بطل أن يكونوا أشياعه وكذلك المحبة المبنية على ذلك ثم قال : وجاز أن يقال : إنه لابطال أن يكونوا أبناءا حقيقة كما يفهم من ظاهر اللفظ أو مجازا كما فسره الزمخشرى ا ه
وأنت تعلم أن كل ماذكره ليس بشىء كما لايخفى على من له أدنى وتأمل وماذكرناه كاف فى الغرض
(6/102)
نعم ذكر الشهاب عليه الرحمة توجيها لابأس به وهو أن اللائق أن يكون مرادهم بكونهم أبناء الله تعالى أنه لما أرسل اليهم الابن على زعمهم وأرسل لغيرهم رسل عباده دل ذلك على امتيازهم عن سائر الخلق وأن لهم مع الله تعالى مناسبة تامة وزلفى تقتضى كرامة لاكرامة فوقها كما أن الملك أرسل لدعوة قوم أحد جنده ولآخرين ابنه علموا أنه علموا أنه مريد لتقريبهم وأنهم آمنون من كل سوء يطرق غيرهم ووجه الرد أنكم لافرق بينكم وبين غيركم عند الله تعالى فانه لو كان كما زعمتم لما عذبكم وجعل المسخ فيكم وكذا على كونه بمعنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد ويتعانق الجوابان فافهمه انتهى والجواب عن المناقشة التى فعلها البعض يعلم مما أشرنا اليه سابقا فلا تغفل ولله ملك السموات والأرض وما بينهما من تتمة الرد أى كل ذلك له تعالى لاينتمى اليه سبحانه شىء منه إلا بالمملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيه كيف يشاء إيجادا وإعداما إحياءا وإماتة إثابة وتعذيبا فأنى لهؤلاء إدعاء مازعموا ! وربما يقال : إن هذا مع ماتقدم رد لكونهم أبناء الله تعالى بمعنى أشياع بنيه فنفى أولا كونهم أشياعا وثانيا وجود بنين له عز شأنه وإليه المصير
18
- أى الرجوع فى الآخرة لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازى كلا من المحسن والمسىء بما يستدعيه علمه من غير صارف يثنيه ولاعاطف يلويه
ياأهل الكتاب تكرير للخطاب بطريق الالتفات ولطف فى الدعوة وقيل : الخطاب هنا لليهود خاصة قد جاءكم رسولنا يبين لكم يبين على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة الشرائع والأحكام النافعة معادا ومعاشا المقرونة بالوعد والوعيد وحذف هذا المفعول اعتمادا على الظهور إذ من المعلوم أن مايبينه الرسول هو الشرائع والاحكام ويجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم أى يفعل البيان ويبذله لكم فى كل ماتحتاجون فيه من أمور الدين وأما إبقاؤه متعديا مع تقدير المفعول كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب كما قيل فقد قيل فيه : مع كونه تكريرا من غير فائدة يرده قوله سبحانه : على فترة من الرسل فان فتور الارسال وانقطاع الوحى إنما يحوج إلى بيان الشرائع والاحكام لاإلى بيان ماكتموه و على فترة متعلق بجاءكم على الظرفية كما فى قوله تعالى : واتبعوا ماتتلوا الشياطين على ملك سليمان أى جاءكم على حين فتور من الارسال وانقطاع الوحى ومزيد الاحتياج إلى البيان
وجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ضمير يبين أو من ضمير لكم أى يبين لكم حال من كونه على فترة أو حال كونكم على فترة و من الرسل صفة فترة و من ابتدائية فترة كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم والفترة فعلة من فتر عن عمله يفتر فتورا إذا سكن والاصل فيها الانقطاع عما كان عليه من الجد فى العمل وهى عند جميع المفسرين انقطاع مابين الرسولين
واختلفوا فى مدتها بين نبينا صلى الله عليه و سلم وعيس عليه السلام فقال قتادة : كان بينهما عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وستون سنة وقال الكلبى : خمسمائة وأربعون سنة وقال ابن جريج : خمسمائة سنة وقال الضحاك : أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة وأخرج ابن عساكر عن سلمان رضى الله تعالى عنه أنها ستمائة سنة وقيل كان بين نبينا صلى الله عليه و سلم وأخيه عيسى عليه السلام ثلاثة أنبياءهم المشار اليهم بقوله تعالى : أرسلنا اليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث وقيل بينهما عليهما الصلاة والسلام أربعة : الثلاثة المشار اليهم وواحد من
(6/103)
العرب من بنى عبس وهو خالد بن سنان عليه السلام الذى قال فيه صلى الله عليه و سلم : ذلك نبى ضيعه قومه ولايخفى أن الثلاثة الذين أشارت اليهم الآية رسل عيسى عليه السلام ونسبة إرسالهم اليه تعالى بناءا على أنه كان بأمره عز و جل وسيأتى إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك وأما خالد بن سنان العبسى فقد تردد فيه الراغب فى محاضراته وبعضهم لم يثبته وبعضهم قال : إنه كان قبل عيسى عليه الصلاة السلام لأنه ورد فى حديث لانبى بينى وبين عيسى صلى الله تعالى عليه وسلم لكن فى التواريخ إثباته وله قصة فى كتب الآثار مفصلة وذكر أن بنته أتت النبى صلى الله عليه و سلم وآمنت به ونقش الشيخ الأكبر قدس سره له فصا فى كتابه فصوص الحكم وصحح الشهاب أنه عليه السلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنه قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام وعلى هذا فالمراد ببنته الجائية إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إن صح الخبر بنته بالواسطة لاالبنت الصلبية إذ بقاؤها إلى ذلك الوقت مع عدم ذكر أحد أنها من المعمرين بعيدا جدا وكان بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ألف وسبعمائة سنة فى المشهور لكن لم يفتر فيها الوحى فعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث فيها ألف نبى من بنى إسرائيل سوى من بعث من غيرهم أن تقولوا تعليل لمجىء الرسول بالبيان أى كراهة أن تقولوا كما قدره البصريون أو لئلا تقولوا كما يقدر الكوفيون معتذرين من تفريطكم فى أحكام الدين يوم القيامة ماجاءنا من بشير ولانذير وقد انطمست آثار الشريعة السابقة وانقطعت أخبارها وزيادة من فى الفاعل للمبالغة فى نفى المجىء وتنكير بشير و نذير على ماقال شيخ الاسلام : للتقليل وتعقيب قد جاءكم الخ بهذا يقتضى أن المقدر أو المنوى فيما سبق هو الشرائع والأحكام لاكيفما كانت بل مشفوعة بذكر الوعد والوعيد والفاء فى قوله تعالى : فقد جاءكم بشير ونذير تفصح عن محذوف مابعدها علة له والتقدير هنا لاتعتذروا فقد جاءكم وتسمى الفاء الفصيحة وتختلف عبارة المقدر قبلها فتارة يكون أمرا أو نهيا وتارة يكون شرطا كما فى قوله تعالى : فهذا يوم البعث وقوله الشاعر :
فقد جئنا خراسانا
وتارة معطوفا عليه كما فى قوله تعالى : فانفجرت وقد يصار إلى تقدير القول كما فى الفرقان فى قوله تعالى : فقد كذبوكم وإن شئت قدرت هنا أيضا فقلنا : لاتعتذروا فقد الخ وقد صرح بعض علماء العربية أن حقيقة هذه الفاء أنها تتعلق بشرط محذوف ولاينافى ذلك إضمار القول لأنه إذا ظهر المحذوف لم يكن بد من إضمار ليرتبط بالسابق فيقال : فى البيت مثلا وقلنا أو فقلنا : إن صح ماذكرتم فقد جئنا خراسنا وكذلك مانحن فيه فقلنا : لاتعتذروا فقد جاءكم ثم إنه فى المعنى جواب شرط مقدر سواء صرح بتقديره أم لا لأن الكلام إذا اشتمل على مترتبين أحدهما على الآخر ترتب العلية كان فى معنى الشرط والجزاء فلاتنافى بين النقادير والتقادير المختلفة ولو سلم التنافى فهما وجهان ذكروا أحدهما فى موضع والآخر فى آخر كما حققه فى الكشف وقد مرت الإشارة من بعيد إلى أمر هذه الفاء فتذكر وتنوين بشير و ونذير للتفخيم والله على كل شىء قدير
19
- فيقدر على إرسال الرسل تترى وعلى الارسال بعد الفترة
وإذ قاتل موسى لقومه جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق منهم وتفصيل كيفية نقضهم له مع الاشارة إلى انتفاء فترة الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما بينهم و إذ نصب على أنه
(6/104)
مفعول لفعل محذوف خوطب به سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ماسلف من بعضهم من الجنايات أى واذكر لهم يا محمد وقت قول موسى عليه السلام ناصحا ومستميلا لهم باضاتهم اليه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم وتوجيه الامر بالذكر إلى الوقت أبلغ من توجيهه إلى ماوقع فيه وإن كان هو المقصود بالذات كما مرت الاشارة اليه و عليكم متعلق إما بالنعمة إن جعلت مصدر وإما بمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما أى اذكروا إنعامه عليكم بالشكر واذكروا نعمته كائنة عليكم وكذا إذا فى قوله تعالى : إذ جعل فيكم أنبياء متعلقة بما تعلق به الجار والمجرور أى اذكروا إنعامه عليكم فى وقت جعله أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم فى وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء وصيغة الكثرة على حقيقتها كما هو الظاهر والمراد بهم موسى وهرون ويوسف وسائر أولاد يعقوب على القول بأنهم كانوا أنبياء أو الأولون والسبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه فقد قال ابن السائب ومقاتل : إنهم كانوا أنبياء
وقال الماوردى وغيره : المراد بهم الأنبياء الذين أرسلوا من بعد فى بنى إسرائيل والفعل الماضى مصروف عن حقيقته وقيل : المراد بهم من تقدم ومن تأخر ولم يبعث من أمة من الأمم مابعث من بنى إسرائيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وجعلوكم ملوكا عطف على عطف على جعل فيكم وغير الأسلوب فيه لأنه لكثرة الملوك فيهم أو منهم صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم فى السعة والترفه فلذا تجوز فى إسناد الملك إلى الجميع بخلاف النبوة فانها وإن كثرت لايسلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنها أمر آلهى يخص الله تعالى به من شاء فلذا لم يتجوز فى إسنادها وقيل : لامجاز فى الإسناد وإنما هو فى لفظ الملوك فان القوم كانوا مملوكين فى أيدى القبط فأنقذهم الله تعالى فسمى ذلك إلا نقاذ ملكا وقيل : لامجاز أصلا بل جعلوا كلهم ملوكا على الحقيقة والملك من كان له بيت وخادم كما جاء عن زيد بن أسلم مرفوعا
وأخرج ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا
وأخرج ابن جرير عن الحسن هل الملك إلا مركب وخادم ودار وأخرج البخارى عن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين فقال عبد الله : ألك زوجة تأوى اليها قال : نعم قال : ألك مسكن تسكنه قال : نعم قال : فأنت من الأغنياء قال : فان لى خادما قال : فأنت من الملوك وقيل : الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار وقيل : من له مال لايحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق واليه أبو الجبائى وأنت تعلم أن الظاهر هنا القول بالمجاز وماذكر فى معرض الاستدلال محتمل له أيضا وآتكم مالم يؤت من العالمين
20
- من فلق البحر وإغراق العدو وتظليل الغمام وانفجار الحجر وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور المخصوصة والخطاب لقوم موسى عليه السلام كما هو الظاهر وأل فى العلمين للعهد والمراد عالمى زمانهم أو للاستغراق والتفضيل من وجه لايستلزم التفضيل من جميع الوجوه فانه قد يكون للمفضول ماليس للفاضل وعلى التقديرين لايلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وإيتاء مالم يؤت أحد وإن لم يلزم منه التفضيل لكن المتبادر من استعماله ذلك ولذا أول بما أول وعن سعيد بن جبير وأبى مالك أن الخطاب
(6/105)
هنا لهذه الامة وهو خلاف الظاهر جدا ولايكاد يرتكب مثله فى الكتاب المجيد لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبنى إسرائيل فوجود خطاب فى الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم وكأن الداعى للقول به ظن لزوم التفضيل مع عدم دافع له سوى ذلك وقد علمت أنه من بعض الظن ياقوم أدخلوا الأرض المقدسة كرر النداء مع الاضافة التشريفية اهتماما بشأن الأمر ومبالغة فى حثهم علىالامتثال به و الأرض المقدسة هى كما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والسدى وابن زيد بيت المقدس وقال الزجاج : دمشق وفلسطين والأردن وقال مجاهد هى أرض الطور وماحوله وعن معاذ بن جبل هى مابين الفرات وعريش مصر والتقديس التطهير ووصفت تلك الأرض بذلك إما لانها مطهرة من الشرك حيث جعلت مسكن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو لأنها مطهرة من الآفات وغلبة الجبارين عليها لايخرجها عن أن تكون مقدسة أو لأنها طهرت من القحط والجوع وقيل : سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب
التى كتب لكم أى قدرها وقسمها لكم أوكتب فى اللوح المحفوظ أنها تكون مسكنا لكم
روى أن الله تعالى أمر الخليل عليه الصلاة و السلام أن يصعد جبل لبنان فما انتهى بصره اليه فهو له ولأولاده فكانت تلك الارض مدى بصره وعن قتادة والسدى أن المعنى التى أمركم الله تعالى بدخولها وفرضه عليكم فالكتب هنا مثله فى قوله تعالى : كتب عليكم الصيام وذهب إلى الاحتمالين الأولين كثير من المفسرين والكتب على أولهما مجاز وعلى ثانيهما حقيقة وقيدوه بان آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعد ماعصوا : فانها محرمة عليهم وقوله سبحانه : ولاترتدوا على أدبار فتنقلبوا خاسرين
21
- فان ترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعا والأدبار جمع دبر وهو ماخلفهم من الأماكن من مصر وغيرها والجار والمجرور حال من فاعل ترتدوا أى لاترجعوا عن مقصدكم منقلبين خوفا من الجبابرة وجوز أن يتعلق بنفس الفعل ويحتمل أن يراد بالارتداد صرف قلوبهم عما كانوا عليه من الاعتقاد صرفا غير محسوس أى لاترجعوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى واليه ذهب أبو على الجبائى وقوله تعالى : فتنقلبوا إما مجزوم بالعطف وهو الأظهر وإما منصوب فى جواب النهى قال الشهاب : على أنه من قبيل لاتكفر تدخل النار وهو ممتنع خلافا للكسائى وفيه نظر لايخفى والمراد بالخسران خسران الدارين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين شديدى البطش متغلبين لاتتأتى مقاومتهم ولاتجز لهم ناصية والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثى على القياس لامن أجبره على خلافه كالحساس من الاحساس وهو الذى يقهر الناس ويكرههم كائنا من كان على مايريده كائنا ماكان ومعناه فى البخل مافات اليد طولا وكان هؤلاء القوم من العمالقة بقايا قوم عاد وكانت لهم أجسام ليست لغيرهم أخرج ابن عبد الحكم فى فتوح مصر عن ابن حجيرة قال : استظل سبعون رجلا من قوم موسى عليه السلام فى قحف رجل من العمالقة وأخرج البيهقى فى شعب الايمان عن زيد بن أسلم قال : بلغنى أنه رؤيت ضبع وأولادها رابضة فى فجاج عين رجل منهم إلى غير ذلك من الأخبار وهى عندى كأخبار عوج بن عنق وهى حديث خرافة وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها بقتال غيرنا أو يسبب يخرجهم الله تعالى به فانه لاطاقة لنا باخراجهم منها وهذا امتناع عن القتال على أتم وجه
(6/106)
فان يخرجوا منها بسبب من الاسباب التى لاتعلق لنا بها فانا داخلون
22
- فيها فيها حينئذ وأتوا بهذه الشرطية مع كون مضمونها مفهوما مما تقدم تصريحا بالمقصود وتنصيصا على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها وأتوا فى الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة بإن دلالة على تقرر الدخول وثباته عند تحقيق الشرط لامحالة وإظهارا لكمال الرغبة فيه وفى الامتثال بلأمر قال رجلان من الذين يخافون أى يخافون الله تعالى وبه قرىء والمراد رجلان من المتقين وهما كما روى ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ومجاهد والسدى والربيع يوشع بن نون وكالب بن يوقنا وفى وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لايخافونه تعالى بل يخافون العدو وقيل : المراد بالرجلين ماذكر و من الذين يخافون بنو إسرائيل والمراد يخافون العدو ومعنى كون الرجلين منهم أنهما منهم فى النسب لافى الخوف وقيل : فى الخوف أيضا والمراد أنهما لم يمنعهما الخوف عن قول الحق وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير أن الرجلين كانا من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى عليه السلام فعلى هذا يكون الذين عبارة عن الجبابرة والواو ضمير بنى إسرائيل وعائد الموصول محذوف أى يخافونهم وقرأ ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير يخافون بضم الياء وجعلها الزمخشرى شاهدة على أن الرجلين من الجبارين كأنه قيل : من المخوفين أى يخافهم بنو إسرائيل وفيها احتمالان آخران : الأول أن يكون من الإخافة ومعناه من الذين يخوفون من الله تعالى بالتذكير والموعظة أو يخوفهم وعيد الله تعالى بالعقاب والثانى أن معنى يخافون يهابون ويوقنون ويرجع اليهم لفضلهم وخيرهم ومع هذين الاحتمالين لاترجيح فى هذه القراءة لكونهما من الجبارين وترجيح ذلك بقوله تعالى : أنعم الله عليهما أى بالايمان والتثبيت غير ظاهر أيضا لانه صفة مشتركة بين يوشع وكالب وغيرهما وكونه إنما يليق أن يقال لمن أسلم من الكفار لا لمن هو مؤمن فى حيز المنع والجملة صفة ثانية لرجلين أو اعتراض وقيل : حال بتقدير قد من ضمير يخافون أو من رجلان لتخصيصه بالصفة أو من الضمير المستتر فى الجار والمجرور أى قالا مخاطبين لهم ومشجعين أدخلوا عليهم الباب أى باب مدينتهم وتقديم عليهم عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم فى بلدهم أى فاجئوهم وضاغطوهم فى المضيق ولاتمهلوهم ليصحروا ويجدوا للحرب مجالا فاذا دخلتموه عليهم من الباب فإنكم غالبون من غير حاجة القتال فنا قد رأيناهم وشاهدناهم أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم فى المضايق فانهم لايقدرون على الكر والفر وقيل : إنما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه السلام وقوله : التى كتب الله لكم وقيل : من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله تعالى فى نصرة رسله وماعهدا من صنع الله تعالى لموسى عليه السلام فى قهر أعدائه قيل : والأول أنسب بتعليق الغلبة بالدخول وعلى الله تعالى خاصة فتوكلوا بعد ترتيب الأسباب ولاتعتمدوا عليها فانه لاتؤثر من دون إذنه إن كنتم مؤمنين
23
- بالله تعالى والمراد بهذا الالهاب والتهييج وإلا فإيمانهم محقق وقد يراد بالإيمان التصديق بالله تعالى وما يتبعه من التصديق بما وعده أى إن كنتم مؤمنين به تعالى مصدقين لوعده فان ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما قالوا غير مبالين بهما وبمقالتهما مخاطبين لموسى عليه السلام إظهارا لاصرارهم
(6/107)
على القول الأول وتصريحا بمخالفتهم له عليه السلام ياموسى انا لن ندخلها أى أرض الجبابرة فضلا عن الدخول عليهم وهم فى بلدهم أبدا أى دهرا طويلا أو فيما يستقبل من الزمان كله مادامو فيها أى فى تلك الأرض وهو بدل من أبدا بدل البعض وقيل : بدل الكل من من الكل أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين ومثله فى الابدال قوله : وأكرم أخاك الدهر مادمتما معا كفى بلممات فرقة وتنائيا فان قوله : مادمتما بدل من الدهر فاذهب أى إذا كان الأمر كذلك فاذهب أنت وربك فقاتلا أى فقاتلاهم وأخرجاهم حتى ندخل الأرض وقالوا ذلك استهانة واستهزاءا به سبحانه وبرسوله عليه الصلاة و السلام وعدم المبالاة وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبىء عنه غاية جهلهم وقسوة قلوبهم والمقابلة بقوله تعالى : إنا ههنا قاعدون
24
- وقيل : أرادوا إرادتهما وقصدهما كما نقول : كلمته فذهب يجيبنى كأنهم قالوا : فأريد قتالهم واقصداهم وقال البلخى : المراد فاذهب أنت وربك يعينك فالواو للحال و أنت مبتدأ حذف خبره وهو خلاف الظاهر ولايساعده فقاتلا ولم يذكروا أخاه هرون عليهما السلام ولاالرجلين اللذين قالا كأنهم لم يجزموا بذهابهم أو لم يعبأوا بقتالهم وأرادوا بالقعود عدم التقدم لاعدم التأحر أيضا قال موسى عليه السلام لما رأى منهم مارأى من العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التى بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة فليس القصد إلى الإخبار وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه فليس قوله ردا لما أمر الله تعالى به ولااعتذارا عن عدم الدخول رب إنى لاأملك إلا نفسى وأخى هرون عليه السلام وهو عطف على نفسى أى لايجيبنى إلى طاعتك ويوافقنى على تنفيذ أمرك سوى نفسى وأخى ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما وإن كانا يوافقانه إذا دعا لما رأى من تلون القوم وتقلب آرائهم فكأنه يثق بهما ولم يعتمد عليهما
وقيل : ليس القصد إلى القصر بل إلى بيان قلة من يوافقه تشبيها لحاله بحال من لايملك إلا نفسه وأخاه وجوز أن يراد بأخى من يؤاخينى فىالدين فيدخلان فيه ولايتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ له فى الدين أو بجنس الأخ وفيه بعد ويجوز فى أخى وجوها أخر من الاعراب : الأول أنه منصوب بالعطف على اسم إن الثانى أنه مرفوع بالعطف على فاعل أملك للفصل الثالث أنه مبتدأ خبره محذوف الرابع أنه معطوف على محل اسم إن البعيد لأنه بعد استكمال الخبر والجمهور علىى جوازه حينئذ الخامس أنه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأى الكوفيين ثم لايلزم على بعض الوجوه الاتحاد فى المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أى وأخى إلا نفسه فلا يرد ما قيل : إنه يلزم من عطفه على اسم إن أو فاعل أملك أن موسى وهرون علهيما السلام لايملكان إلا نفس موسى عليه السلام فقط وليس المعنى على ذلك كما لايخفى وليس من عطف الجمل بتقدير ولايملك أخى إلا نفسه كما توهم وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لابقتضى إلا المشاركة فى مدلول ذلك ومفهومه الكلى لا الشخصى المعين بمتعلقاته المخصوصة فان ذلك إلى القرائن فافرق بيننا يريد نفسه وأخاه عليهما الصلاة السلام والفاء لترتيب الفرق
(6/108)
والدعاء به على ماقبله وقرىء فافرق بكسر الراء وبين القوم الفاسقين
25
- أى الخارجين عن طاعتك بأن تحكم لنا بما نستحقه وعليهم بما يستحقونه كما هو المروى عن ابن عباس والضحاك رضى الله تعالى عنهم وقال الجبائى : سأل عليه السلام ربه أن يفرق بالتبعيد فى الآخرة بان يجعله وأخاه فى الجنة ويجعلهم فى النار وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين ويرجحه تعقيب الدعا بقواه تعالى : قال فإنها فان الفاء فيه لترتيب مابعدها على ماقبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو به وقد أخرج ابن جرير عن السدى قال : إن موسى عليه السلام غضب حين قال له القوم ماقالوا فدعا وكان ذلك عجلة منه عليه السلام عجلها فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى فلا تأس على الفاسقين والضمير المنصوب عالئد إلى الأرض المقدسة أى فانها لدعائك محرمة عليهم لايدخلونها ولايملكونها والتحريم تحريم منع لاتحريم تعبد ومثله قول امرىء القيس يصف فرسه : جالت لتصر عنى فقلت لها اقصرى
إنى امرؤ صرعى عليك حرام يريد إنى فارس لايمكنك أن تصرعينى وجوز أبو على الجبائى واليه يشير كلام البلخى أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر أربعين سنة متعلق بمحرمة فيكون التحريم مؤقتا لامؤبدا فلايكون مخالفا لظاهر قوله تعالى : كتب الله عليكم والمراد بتحريمها عليهم أنه لايدخلها أحد منهم هذه المدة لكن لا بمعنى إن كلهم يدخلونها بعدها بل بعضهم ممن بقى حسبما روى أن موسى عليه السلام سار بمن بقى من بنى إسرائيل إلى الأرض المقدسة وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ماشاء الله تعالى ثم قبض عليه السلام وروى ذلك عن الحسن ومجاهد وقيل : لم يدخلها أحد ممن قال : لن ندخلها أبدا وإنما دخلها مع موسى عليه السلام النواشىء من ذرياتهم وعليه فالمؤقت بالأربعين فى الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريما عليهم لمابينهما من العلاقة التامة وقوله تعالى : يتيهون فى الأرض استئناف لبيان كيفية حرمانهم وقيل : حال من ضمير عليهم والتيه : الحيرة ويقال : تاه يتيه ويتوه وهو أتوه وأتيه فهو مما تداخل فيه الواو والياء والمعنى يسيرون متحيرين وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق
وقيل : الظرف متعلق ب يتيهون وروى ذلك عن قتادة فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأييد وعدمه وكان مسافة الأرض التى تاهوا فيها ثلاثين سنة فرسخا فى عرض تسعة فراسخ كما قال مقاتل وقيل : اثنى عشر فرسخا فى عرض ستة فراسخ وقيل : ستة فى عرض تسعة وقيل : كان طولها ثلاثين ميلا فى عرض ستة فراسخ وهى مابين مصر والشام وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون فيصبحون حيث يمسون ويمسون حيث يصحبون كما قاله الحسن ومجاهد قيل وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا : إنا ههنا قاعدون عوقبوا بما يشبه القعود وكان أربعين سنة لأنها غاية زمن يرعوى فيه الجاهل
وقيل : لأنهم عبدوا العجل أربعين يوما فجعل عقاب كل يوم سنة فى التيه وليس بشىء وكان ذلك من خوارق العادات إذ التحير فى مثل تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله العادة ولعل ذلك كان يمحو العلامات التى يستدل بها أو ألقى شبه بعضها على بعض
وقال أبو على الجبائى : إنه كان بتحول الأرض التى هم عليها وقت نومهم ويغنى الله تعالى عن قبوله
(6/109)
وروى أنه كان الغمام يظلهم حر الشمس وينزل عليهم المن والسلوى وجعل معهم حجر موسى عليه السلام يتفجر منه الماء دفعا لعطشهم قيل : ويطلع بالليل عمود من نور يضىء لهم ولايطول شعرهم ولاتبلى ثيابهم كما روى عن الربيع بن أنس وكانت تشب معهم كما روى عن طاوس
وذكر غير واحد من القصاص أنهم كانوا إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله ولايبلى إلى غير ذلك مما ذكروه
والعادة تبعد كثير امنه فلا يقبل إلا ماصح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ولقد سألت بعض أحبار اليهود عن لباس بنى إسرائيل فى التيه فقال : إنهم خرجوا من مصر ومعهم الكثير من ثياب القبط وأمتعتهم وحفظها الله تعالى لكبارهم وصغارهم فذكرت له حديث الظفر فقال لم نظفر به وأنكره فقلت له : هى فضيلة فهلا أثبتها لقومك فقال : لاأرضى بالكذب ثوبا واستشكل معاملتهم بهذه النعم مع معاقبتهم بالحيرة وأجيب بأن تلك المعاقبة من كرمه تعالى وتعذيبهم إنما كان للتأديب كما يضرب الرجل ولده مع محبته له ولايقطع عنه معروفة ولعلهم استغفروا من الكفر إذا كان قد وقع منهم وأكثر المفسرين على أن موسى وهرون عليهما السلام كانا معهم فى التيه لكن لم ينلهما من المشقة مانالهم وكان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لإبراهيم عليه السلام ولعل الرجلين أيضا كانا كذلك
وروى أن هرون مات فى التيه واتهم به موسى عليهما السلام فقالوا : قتله لحبنا له فأحياه الله تعالى بتضرعه فبرأه مما يقولون وعاد إلى مضجعه ومات موسى عليه السلام بعده بسنة وقيل : بستة أشهر ونصف وقيل : بثمانية أعوام ودخل يوشع أريحاء بعده بثلاثة أشهر وقال قتادة : بشهرين وكان قد نبىء قبل بمن بقى من بنى إسرائيل ولم يبق المكلفون وقت الأمر منهم قيل ولايساعده النظم الكريم فانه بعد ماقبل دعوته عليه السلام على بنى إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجو من نجا ويقدر وفاة النبيين عليهما السلام فى محل العقوبة ظاهرا وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة وأنت تعلم أن الأخبار بموتهما عليهما السلام بالتيه كثيرة لاسيما الاخبار بموت هرون عليه السلام ولاأرى للاستبعاد محلا ولعل ذلك أنكى لبنى اسرائيل
وقيل : إنهما عليهما السلام لم يكونا مع بنى إسرائيل فى التيه وأن الدعاء وقد أجيب كان بالفرق بمعنى المباعدة فى المكان بالدنيا وأرى هذا القول مما لايكاد يصح فان كثيرا من الآيات كالنص فى وجود موسى عليه السلام معهم فيه كما لايخفى فلا تأس أى فلا تحزن لموتهم أو لما أصابهم فيه من الأسى وهو الحزن على القوم الفسقين
26
- الذين استجيب لك فى الدعاء عليهم لفسقهم فالخطاب لموسى عليه السلام كما هو الظاهر واليه ذهب أجلة المفسرين
وقال الزجاج : إنه النبى صلى الله عليه و سلم والمراد بالقوم الفاسقين معاصروه عليه السلام من بنى إسرائيل كأنه قيل : هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك فانهم ورثوا ذلك عنهم واتل عليهم عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى : وإذ قال موسى الخ وتعلقه به قيل : من حيث أنه تمهيد لما سيأتى إن شاء الله تعالى من جنايات بنى إسرائيل بعد ماكتب عليهم ماكتب وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به من البينات وقيل : من حيث أن فى الأول الجبن عن القتل وفى هذا الاقدام عليه مع كون كل منهما
(6/110)
معصية وضمير عليهم يعود على بنى اسرائيل كما هو الظاهر إذ هم المحدث عنهم أولا وأمر صلى الله عليه و سلم بتلاوة ذلك عليهم إعلاما لهم بماهو فى غامض كتبهم الأول الذي لاتعلق للرسول عليه الصلاة و السلام بها إلا من جهة الوحى لتقوم الحجة بذلك عليهم وقيل : الضمير عائد على هذه الأمة أى اتل يا محمد على قومك نبأ ابنى آدم هابيل عليه الرحمة وقابيل عليه مايستحقه وكانا باجماع غالب المفسرين ابنى آدم عليه السلام لصلبه
وقال الحسن : كانا رجلين من بنى إسرائيل ويد الله تعالى مع الجماعة وكان من قصتهما ماأخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضى الله تعالى عنه أجمعين أنه كان لايولد لآدم عليه السلام مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآحر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر جعل افتراق البطون بمنزلة افتراق النسب للضرورة إذ ذاك حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل وكان قابيل صاحب زرع وهابيل صاحب ضرع وكان قبيل أكبرهما وكانت له أخت واسمها اقليما أحسن من أخت هابيل وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه وقال : هى أختى ولدت معى وهى أحسن من أختك وانا أحق أن أتزوج بها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى فقال لهما : قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها وإنما أمر بذلك لعلمه أنه لايقبل من قابيل لا أنه لو قبل جاز ثم غاب عليه السرم عنهما آتيا مكة ينظر اليها فقال آدم للسماء : احفظى ولدى بالأمانة فأبت وقال للارض : فأبت وقال للجبال : فأبت فقال لقابيل : فقال نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم عليه السلام قربا قربانا فقرب هابيل جذعة وقيل : كبشا وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وكان ذلك علامة القبول وكان أكل القربان غير جائز فى الشرع القديم وتركت قربان قابيل فغضب وقال : لأقتلنك فأجابه بما قص الله تعالى بالحق متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر اتل أى اتل تلاوة متلبسة بالحق والصحة أو حال من فاعل اتل أو من مفعوله متلبسا أنت أو نبأهما بالحق والصدق موافقا لما فى زبر الاولين وقوله تعالى : إذ قربا قربانا ظرف لنبأ وعمل فيه لأنه مصدر فى الأصل والظرف يكفى فيه رائحة الفعل وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منه ورد بأنه حينئذ يكون قيدا فى عامله وهو اتل المستقبل و إذ لما مضى فلا يتلاقيان ولذا يتعلق به مع ظهوره وقد يجاب بالفرق بين الوجهين فتأمل
وقيل : إنه بدل من نبأ على حذف المضاف ليصح كونه متلوا أى اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت ورده فى البحر بأن إذ لايضاف اليها إلا الزمان نحو يومئذ وحينئذ ونبأ ليس بزمان وأجيب بالمنع ولافرق بين نبأ ذلك الوقت ونبأ إذ وكل منهما صحيح معنى وإعرابا ودعوى جواز الأول سماعا دون الثانى دون إثباتها خرط القتاد والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو غيرها كالحلوان اسم لما يحلى أى يعطى وتوحيده لما أنه فى الأصل مصدر وقبل : تقديره إذ قرب كل منهما قربانا فتقبل من أحدهما وهو هابيل ولم يتقبل من الآخر لأنه سخط حكم الله تعالى وهو عدم جواز نكاح التوأمة قال استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : فماذا قال من لم يتقبل قربانه فقيل : قال لاخيه لفرط الحسد على قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عز و جل كما يدل عليه الكلام الآتى وقيل : على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء
(6/111)
لأقتلنك أى والله تعالى لأقتلنك بالنون المشددة وقرىء بالمخففة قال استئناف كالذى قبله أى قال الذى تقبل قربانه لما رأى حسد أخيه إنما يتقبل الله أى القربان والطاعة من المتقين
27
- فى ذلك باخلاص النية فيه لله تعالى لا من غيرهم وليس المراد من التقوى التقوى من الشرك التى هى أول المراتب كما قيل ومراده من هذا الجواب إنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لامن قبلى فلم تقتلنى ومالك لاتعاتب نفسك ولاتحملها على تقوى الله تعالى التى هى السبب فى القبول ! وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان
وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغى أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد فى تحصيل مابه صار المحسود محظوظا لا فى إزالة حظه ونعمته فان اجتهاده فيما ذكر يضره ولاينفعه وقيل : مراده الكناية عن أنه لايمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقى يؤثر الامتثال على الحياة أو الكناية عن أنه لايقتله دفعا لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده ولايخفى بعده وماأنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : مايبكيك فقد كنت وكنت قال : إنى أسمع الله تعالى يقول : إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى ما أنا بباسط يدى إليك لاقتلك قيل كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله تعالى لأن المدافعة لم تكن جائزة فى ذلك الوقت وفى تلك الشريعة كما روى مجاهد وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : كانت بنو إسرائيل قد كتب عليهم إذا الرجل بسط يده إلى الرجل لايمتنع منه حتى يقتله أو يدعه أو تحريا لما هو الأفضل الأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا لا قاتلا بالدفع عن نفسه بناءا على جوازه إذ ذاك قال بعض المحققين : وأختلف فى هذا الآن على مابسطه الامام الجصاص فالصحيح من المذهب أنه يلزم الرجل دفع الفساد عن نفسه وغيره وإن أدى إلى القتل ولذا قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وغيره : إن المعنى فى الآية لئن بسطت إلى يدك على سبيل الظلم والابتداء لتقتلنى ماأنا بباسط يدى اليك على وجه الظلم والابتداء وتكون الآية على ماقاله مجاهد وابن جريج : منسوخة وهل نسخت قبل شريعتنا أم لا فيه كلام والدليل عليه قوله تعالى : فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء وغيره من الآيات والأحاديث وقيل إنه لايلزم ذلك بل يجوز واستدل بما أخرجه ابن سعد فى الطبقات عن خباب بن الارت عنه صلى الله عليه و سلم أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشى والماشى فيها خبر الساعى فان أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولاتكن عبد الله القاتل وأدلوه بترك القتال فى الفتنة واجتنابها وأول الحديث يدل عليه وأما من منع ذلك الآن مستدلا بحديث إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار فقد رد بأن المراد به أن يكون كل منهما عزم على قتل أخيه وإن لم يقاتله وتقابلا بهذا القصد انتهى بزيادة
وعن السيد المرتضى أن الآية ليست من محل النزاع لأن اللام الداخلة على فعل القتل لام كى وهى منبئة عن الارادة والغرض ولاشبهة فى قبح ذلك أولا وآخرا لأن الدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله فكأنه قال له : لئن ظلمتنى لم أظلمك وإنما قال سبحانه : ماأنا بباسط يدى فى جواب لئن بسطت للمبالغة فى أنه ليس من شأنه ذلك ولا ممن يتصف به ولذلك أكد النفى
(6/112)
بالباء ولم يقل وما أنا بقاتل بل قال : بباسط للتبرى عن مقدمات القتل فضلا عنه وقدم الجار والمجرور المتعلق ببسطت إيذانا على ماقيل من أول الأمر برجوع ضرر البسط وغائلته اليه ويحطر لى أنه قدم لتعجيل تذكيره بنفسه المنجر إلى تذكيره بالأخوة المانعة عن القتل وقوله تعالى : إنى أخاف الله رب العالمين
28
- تعليل للامتناع عن بسط يده لقتله وفيه إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى على أتم وجه وتعريض بأن القاتل لايخاف الله تعالى إنى أريد أن تبوأ بأثمى وأثمك تعليل آخر لامتناعه عن البسط ولما كان كل منهما علة مستقلة لم يعطف أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال ودفعا لتوهم أن يكون جزء علة لاعلة تامة وأصل البوء اللزوم وفى النهاية : أبوء بنعمتك على وأبوء بذنبى أى ألتزم وأرجع وأقر والمعنى إنى أريد باستسلامى وامتناعى عن التعرض لك أن ترجع بإثمى أى تتحمله لو بسطت يدى اليك حيث كنت السبب له وأنت الذى علمتنى الضرب والقتل وإثمك حيث بسطت إلى يدك وهذا نظير ماأخرجه مسلم عن أبى هريرة مرفوعا المستبان ماقالا فعلى البادىء مالم يعتد المظلوم أى على البادىء إثم سبه ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه إلا أن الاثم محطوط عن صاحبه معفو عنه لانه مكافىء دافع عن عرضه ألا ترى إلى قوله : مالم يعتد المظلوم لأنه إذا خرج من حد المكافأة واعتدى لم يسلم كذا فى الكشاف قيل : وفيه نظر لأن حاصل ماقرره أن على البادىء إثمه ومثل إثم صاحبه إلا أن يتعدى الصاحب فلا يكون هذا المجموع على البادىء ولادلالة فيه على أن المظلوم إذ لم يتعد كان إثمه المخصوص بسببه ساقطا عنه اللهم إلا بضميمة تنضم اليه وليس فى اللفظ مايشعر بها ورده فى الكشف بأنه كيف لايدل على سقوطه عنه وقوله عليه الصلاة و السلام : فعلى البادىء مخصص ظاهر وقول الكشاف : إلا أن الإثم محطوط تفسير لقوله : فعلى البادىء وقوله : فعليه إثم سبه ومثل إثم سب صاحبه تفسير لقوله : ماقالا فكما يدل على أن عليه إثما مضاعفا يدل على أن صاحبه ساقط
هذا ثم قال : ولعل الأظهر فى الحديث أن لايضمر المثل والمعنى إثم سبابهما على البادىء وكان ذلك لئلا يلتزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والقول : بأنه إذ لم يكن لما قاله غير البادىء إثم فكيف يقال : إثم سبابهما وكيف يضاف اليه الاثم مشترك الالزام وتحقيقه أن لما قاله غير البادىء إثما وليس على البادىء وليس بمناف لقوله تعالى : ولاتزر وازرة وزر أخرى لأته يحمله عليه عد جانبا وهذا كما ورد فيمن سن سنة حسنة أو سنة سيئة نعم فيما نحن فيه العامل لاإثم له إنما هو للحامل والحاصل أن سب غير البادىء يترتب عليه شياآن أحدهما بالنسبة إلى فاعله وهو ساقط إذا كان على وجه الدفع دون اعتداء والثانى بالنسبة إلى حامله عليه وهو غير ساقط أعنى أنه يثبت ابتداءا لاأنه لايعفى وأورد فى التحقيق أن ماذكره من حط الاثم من المظلوم لأنه مكافىء غير صحيح لأنه إذا سب شخص لم يستوف الجزاء إلا باالحاكم والجواب إن صريح الحديث يدل على ماذكر فى الكشاف والجمع بينه وبين الحكم افقهى أن السبب إما أن يكون اللفظ يترتب عليه الحد شرعا فذلك سبيله الرفع إلى الحاكم أو بغير ذلك وحينئذ لايخلو إما أن يكون كله إيحاش أو امتنان أو تفاخر ينسب صاحبه من دون شتم كنحو الرمى بالكفر والفسق فله أن يعارضه بالمثل ويدل عليه حديث زينب وعائشة رضى الله تعالى عنهما وقوله عليه الصلاة و السلام لعائشة :
(6/113)
دونك فانتصرى أو يتضمن شتما فذلك أيضا يرفع إلى الحاكم ليعزره والحديث محمول على القسم الذى يجرى فيه الانتصار وقوله صلى الله عليه و سلم : مالم يعتد المظلوم يدل عليه لأنه إذا كان حقه الرفع إلى الحاكم فاشتغل بالمعارضة عد متعديا انتهى وهو تفصيل حسن وقيل : معنى بإثمى باثم قتلى ومعنى بإثمك إثمك الذي كان قبل قتلى وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضى الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد والضحاك وأطلق هؤلاء الاثم الذى كان قبل وعن الجبائى والزجاج أنه الإثم الذى من أجله لم يتقبل القربان وهو عدم الرضا بحكم الله تعالى كما مر وقيل : معناه باثم قتلى وإثمك الذى هو قتل الناس جميعا حيث سننت القتل وإضافة الإثم على جميع هذه الأقوال إلى ضمير المتكلم لأنه نشأ من قبله أو هو على تقدير مضاف ولاحاجة إلى تقدير مضاف اليه كما قد قيل به أولا إلا أنه لاخفاء فى عدم حسن المقابلة بين التكلم والخطاب على هذا لأن كلا الإثمين إثم المخاطب والامر فيه سهل والجار والمجرور مع المعطوف عليه حال من فاعل تبوء أى ترجع متلبسا بالإثمين حاملا لهما ولعل مراده بالذات إنما هو عدم ملابسته للاثم لاملابسة أخيه إذ إرادة الاثم من آخر غير جائزة وقيل : المراد بالاثم مايلزمه ويترتب عليه من العقوبة ولايخفى أنه لايتضح حينئذ تفريع قوله تعالى : فتكون من أصحاب النار على تلك الارادة فان كون المخاطب من أصحاب النار إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لاعلى ابتلاء بعقوبتهما وهو ظاهر وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليه العقوبة النارية يرده كما قال شيخ الاسلام قوله سبحانه : وذلك جزاؤا الظالمين
29
- فانه صريح فى أن كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها والجملة تذييل مقرر لما قبله وهى من كلام هابيل على ماهو الظاهر وقيل : بل هى إخبار منه تعالى للرسول صلى الله عليه و سلم فطوعت له نفسه قتل أخيه فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع وترتيب التطويع على ماقبل من مقالات هابيل مع تحققه قبل كما يفصح عنه قوله : لأقتلنك لما أن بقاء الفعل بعد تقرر مايزيله وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر لكنه فى الحقيقة أمر حادث وصنع جديد أو لان هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناءا على تررده فى قدرته على القتل لما أن أخاه كان أقوى منه وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته له والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ماسولته نفسه وقرأ الحسن فطاوعت وفيها وجهان : الأول أن فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه وغيره وهو أوفق بالقراءة المتواترة والثانى أن المفاعلة مجازية بجعل القتل يدعو النفس إلى الاقدام عليه وجعلت النفس تأباه فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أغلب القتل النفس فطاوعته و له للتأكيد والتبيين كما فى قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك
والقول بأنه الاحتراز عن أن يكون طوعت لغيره أن يقتله ليس بشىء فقتله أخرج ابن جرير عن ابن مجاهد وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فتمثل له إبليس اللعين فى هيئة طير فأخذ طيرا فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل فقتله كذلك وهو مستسلم وأخرج عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضى الله تعالى عنهم أن قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه فى رءوس الجبال فأتاه يوما متن الايام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولايعلم كيف يدفن إلى أن بعث الله تعالى الغراب وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة واختلف فى موضع قتله فعن عمرو الشبعانى عن كعب الأخبار أنه قتل على
(6/114)
جبل دير المران وفى رواية عنه أنه قتل على جبل قاسيون وقيل : عند عقبة حراء وقيل بالبصرة فى موضع المسجد الأعظم وأخرج نعيم بن حماد عن عبد الرحمن بن فضالة أنه لما قتل قابيل هابيل مسخ الله تعالى عقله وخلع فؤاده فلم يزل تائها حتى مات وروى أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال : ماكنت عليه وكيلا قال : بل قتلته ولذلك اسود جسدك وأخرج ابن عساكر وابن جرير عن سالم بن أبى الجعد قال : إن آدم عليه السلام لما قتل أحد بنيه الآخر مكث مائة عام لايضحك حزنا عليه فأتى على رأس المائة فقيل له حياك الله تعالى وبياك وبشر بغلام فعند ذلك ضحك وذكر محيى السنة أنه عليه السلام ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيت عليه السلام وتفسيره هبة الله يعنى أنه خلف من هابيل وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعبادة الخلق من كل ساعة منها وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصى آدم وولى عهده وأخرج ابن جرير عن على كرم الله تعالى وجهه قال : لما قتل ابن آدم عليه السلام أخاه بكى آدم عليه السلام ورثاه بشعر وأخرج نحو ذلك الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وهو مشهور
وروى عن ميمون بن مهران عن الحبر رضى الله تعالى عنه أنه قال : من قال : إن آدم عليه السلام قال : شعرا فقد كذب إن محمدا صلى الله عليه و سلم والانبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام فى النهى عن الشعر سواء ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسريانى فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا وذكر بعض علماء العربية إن فى ذلك الشعر لحنا أو إقواءا أو ارتكاب ضرورة والأولى عدم نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة
فأصبح من الخاسرين
30
- دنيا وآخرة أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لاتقتل نفسا ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل وأخرج ابن جرير والبيهقى فى شعب الايمان عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم وورد أنه أحد الأشقياء وهذا ونحوه صريح فى أن الرجل مات كافرا
وأصرح من ذلك ماروى أنه لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس عليهما اللعنة فقال : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدمها ويعبد هافان عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها فهو أول من عبد النار والظاهر أن عليه أيضا وزر من يعبد النار بل لايعبد أن يكون عليه وزر من يعبد غير الله تعالى إلى يوم القيامة واستدل بعضهم بقوله سبحانه : فأصبح على أن القتل وقع ليلا وليس بشىء فان من عادة العرب أن يقولوا : أصبح فلان خسار الصفقة إذا فعل أمرا ثمرته الخسران ويعنون بذلك الحصول مع قطع النظر عن وقت دون وقت وإنما لم يقل سبحانه فأصبح خاسرا للمبالغة وإن لم يكن حينئذ خاسر سواه فبعث الله غرابا يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية قال : لما قتله ندم فضمه اليه حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر من يرمى به فتأكله وكره أن يأتى به آدم عليه الصلاة و السلام فيحزنه وتحير فى أمره إذ كان أول ميت من بنى آدم عليه السلام فبعث الله تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر وهو ينظر اليه ثم حفر له حفرة بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه
(6/115)
برأسه حتى ألقاه فى الحفرة ثم بحث عليه برجله حتى واراه وقيل : أحد الغرابين كان ميتا
والغراب : طائر معروف قيل : والحكمة فى كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به فى الفراق والاغتراب وذلك مناسب لهذه القصة وقال بعضهم : كان ملكا ظهر فى صورة غراب والمستكن فى يريه لله تعالى أو للغراب واللام على الأول متعلقة يبعث حتما وعلى الثانى يبحث ويجوز تعلقها ببعث أيضا و كيف حال من الضمير فى يوارى قدم عليه لأن له الصدر وجملة كيف يوارى فى محل نصب مفعول ثان ليرى البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهى معلقة عن الثانى وقيل : إن يريه بمعنى يعلمه إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة كيف يوارى موقع حسن وتكون الجملة فى موقع مفعولين له وفيه نظر البحث فى الأصل التفتيش عن الشىء مطلقا أو فى التراب والمراد به هنا الحفر والمراد بالسوأة جسد الميت وقيده الجبائى بالمتغير وقيل : العورة لأنها تسوء ناظرها وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها آكد والأول أولى ووجه التسمية مشترك وضمير أخيه عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر وبعثة حقيقة إن كان المراد منه ملكا ظهر على صورته وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته وتعلم قابيل ففعل مثل ذلك بأخيه وروى ذلك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه وابن مسعود وغيرهما الاصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث فى الارض وورارى هابيل فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه قال ياويلتا كلمة جزع وتحسر والويلة كالويل الهلكة كأن المتحسر ينادى هلاكه وموته ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادى ولايكون طلب الموت إلا ممن كان فى حال أشد منه والألف بد ل من ياء المتكلم أى ياويلتى وبذلك قرأ الحسن احضرى فهذا أوانك أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب تعجب من عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى مااهتدى اليه مع كونه أشرف منه فأوارى سوءة أخى عطف على اكون وجعله فى الكشاف منصوبا فى جواب الاستفهام واعترضه كثير من المعربين وقال أبو حيان : إنه خطأ فاحش لأن شرط هذا النصب ينعقد من الجملة الاستفهامية والجواب جملة شرطية نحو أتزورنى فأكرمك فان تقديره إن تزورنى أكرمك ولو قيل ههنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوارى سوأة أخى لم يصح المعنى لأن المواراة تترتب على عدم العجز لاعليه وأجاب فى الكشف بأن الاستفهام للانكار التوبيخى ومن باب أتعصى ربك فيعفو عنك بالنصب لينسحب الانكار على الأمرين وفيه تنبيه على أنه فى العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول فاذا رفع كان كلاما ظاهريا فى انسحاب الإنكار وإذا نصب جاءت المبالغة للنعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يتهدى اليه غراب ثم قال : فان قلت : الانكار التوبيخى إنما يكون على واقع أو متوقع فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه أما على العفو والموارة فلا قلت : التوبيخ على جعل كل واحد سببا أو تنزيله منزلة من جعله سببا لاعلى العفو والموارة فافهم انتهى ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى مافيه من البعد وقيل : فى توجيه ذلك أن الاستفهام للانكار وهو بمعنى النفى وهو سبب والمعنى إن لم أعجز واريت واعترض بأنه غير صحيح لأنه
(6/116)
لايكفى فى النصب سببية النفى بل لابد من سببية المنفى قبل دخول النفى ألا ترى أن ما تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لايكون منك إتيان فتحديث قال الشهاب : والجواب عنه أنه فرق بين مانصب فى جواب النفى وما نصب فى جواب الاستفهام والكلام فى الثانى فكيف يرد الأول نقضا ولوجعل فى جواب النفى لم يرد ماذكره أيضا لأنه لاحاجة إلى أخذ النفى من الاستفهام الانكارى مع وضوح تأويل عجزت بلم اهتد وقد قال فى التسهيل : إنه ينتصب فى جواب النفى الصريح والمؤو ل ومانحن فيه من الثانى حكمه فتأمل انتهى
ولعل الأمر بالتأمل الاشارة إن مافى دعوى الفرق بين الاستفهام الانكارى الذى هو بمعنى النفى والنفى من الحفاء وكذا فى تأويل عجزت بلم أهتد هنا فليفهم وقرىء أعجزت بكسر الجيم وهو لغة شاذة فى عجز وقرىء فأوارى بالسكون على أنه مستأنف وهم يقدرون المبتدأ لايضاح القطع عن العطف أو معطوف إلا أنه سكن للتخفيف كما قاله غير واحد واعترضه فى البحر بأن الفتحة لاتستثقل حتى تحذف تخفيفا وتسكين المنصوب عند النحويين ليس بلغة كما زعم ابن عطية وليس بجائز إلا فى الضرورة فلاتحمل القراءة عليها مع وجود محمل الاستئناف لها انتهى وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر فان تسكين المنصوب فى كلامهم كثير وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التى يجوز مثلها فى النثر فأصبح من النادمين
31
- أى صار معدوما من عدادهم وكان ندمه على قتله فيه من التحير فى أمره وحمله على رقبته أربعين يوما أو سنة أو أكثر على ماقيل وتلمذة الغراب فانها إهانة ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم واسوداد وجهه وتبرىء أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة من أجل ذلك اى ماذكر فى تضاعيف القصة و من ابتدائية متعلقة بقوله تعالى : كتبنا أى قضينا وقيل : بالنادمين وهو ظاهر ماروى عن نافع و كتبنا استئناف واستبعده أبو البقاء وغيره
و الأجل بفتح الهمزة وقد تكسر وقرىء به لكن بنقل الكسرة إلى نون كما قرىء بنقل الفتحة اليها فى الأصل الجناية يقال : أجل عليهم شرا إذا جنى عليهم جناية وفى معناه جر عليهم جريرة ثم استعمل فى تعليل الجنايات ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أى من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لامن غيره
على بنى إسرائيل وتخصيهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ ذلك الفساد وهو غالب عليهم
وقيل إنما ذكروا دون الناس لأن التوراة أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل ومع ذلك كانوا أشد طغيانا فيه وتماديا حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل : بسبب هذه العظيمة كتبنا فى التوراة تعظيم القتل وشددنا عليهم وهم بعد ذلك لايبالون
ومن هنا تعلم أن هذه الآية لاتصلح كما الحسن والجبائى وأبو مسلم على أن ابنى آدم عليه السلام كانا من بنى إسرائيل على أن بعثة الغراب الظاهر فى التعليم المستغنى عنه فى وقتهم لعدم جهلهم فيه بالدفن تأبى ذلك أنه أى الشأن من قتل نفسا واحدة من النفوس الانسانبة بغير نفس أى بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص والباء للمقابلة متعلقة بقتل وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا أى متعديا ظالما أو فساد فى الأرض أى فساد فيها يوجب هدر الدم كالشرك مثلا وهو عطف على ماأضيف اليه
(6/117)
غير والنفى هنا وارد على الترديد لأن إباحة القتل مشروطة بأحد ماذكر من القتل والفساد ومن ضرورته اشتراط حرمته بانتفائهما معا فكأنه قيل : من قتل نفسا بغير أحدهما فكأنما قتل الناس جميعا لاشتراك الفعلين فى هتك حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى والتجبر على القتل فى استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى العظيم
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود إن هذا التشبيه عند المقتول كما أن التشبيه عند المقتول كما أن التشبيه الآتى عند المستنقذ والأول أولى أنسب للغرض المسوق له التشبيه وقرىء أو فسادا بالنصب بتقدير أو عمل فسادا أو فسد فسادا ومن أحياها أى تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ماذكر من القتل والفساد إما بنهى قاتلها عن قتلها أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه فكأنما أحيا الناس جميعا وقيل : المراد وعن من أعان على استيفاء القصاص فكأنما الخ وما فى الموضعين كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها و جميعا حال من الناس أو تأكيد وفائدة التشبيه الترهيب والردع عن قتل نفس واحدة بتصويره بصورة قتل جميع الناس والترغيب والتحضيض على إحيائها بتصويره بصورة إحياء جميع الناس ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات أى الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ماكتبنا عليهم تأكيدا لوجوب مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليه
والجملة مستقلة غير معطوفة على كتبنا وأكدت بالقسم لكمال العناية بمضمونها وإنما لم يقل ولقد أرسلنا اليهم الخ للتصريح بوصول الرسالة اليهم فانه أدل على تناهيهم فى العتو والمكابرة
ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك المذكور من الكتب وتأكيدا الأمر بالارسال ووضع اسم الاشارة موضع الضمير للايذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك فى سلك الأمور المشاهدة ومافيه من معنى البعد للايماء إلى علو درجته وبعد منزلته فى عظم الشأن و ثم للتراخى فى الرتبة والاستبعاد فى الأرض متعلق بقوله تعالى : لمسرفون وكذا بعد فيما ولاتمنع اللام المزحلقة من ذلك والاسراف فى كل أمر التباعد عن حد الاعتدال مع عدم مبالاة به والمراد مسرفون فى القتل غير مبالين به ولما كان إسرافهم فى أمر القتل مستلزما لتفريطهم فى شأن الإحياء وجودا وعدما وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى فى ذكره فى مقام التشنيع المسوق له الآى وعن الكلبى أن المراد مجاوزون حد الحق بالشرك وقيل : إن المراد ماهو أعم من الاسراف بالقتل والشرك وغيرهما وإنما قال سبحانه : وإن كثيرا منهم لأنه عز شأنه على مافى الخازن علم أن منهم من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وهم قليل من كثير وذكر الأرض مع أن الاسراف لايكون إلا فيها للايذان بأن اسراف ذلك الكثير ليس أمرا مخصوصا بهم بل انتشر شره فى الأرض وسرى إلى غيرهم ولما بين سبحانه عظم شأن القتل حق استأنف بيان حكم نوع من أنواع القتل ومايتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه وأدرج فيه بيان ماأشير اليه إجمالا من الفساد المبيح للقتل فقال جل شأنه إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ذهب أكثر المفسرين كما قال الطبرسى وعليه جملة الفقهاء إلى أنها نزلت فى قطاع الطريق والكلام كما قال الجصاص على حذف مضاف أى يحاربون أولياء الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام فهو كقوله تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله
(6/118)
ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله صلى الله عليه و سلم لكانوا مرتدين باظهار محاربته ومخالفته عليه الصلاة و السلام وقيل : المراد يحاربون رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عليه الصلاة و السلام عنده عز و جل ومحاربة أهل شريعته وسالكى طريقته من المسلمين محاربة له صلى الله عليه و سلم فيعم الحكم من يحاربهم بعد الرسول عليه الصلاة و السلام ولو بأعصار كثيرة بطريق العبارة لابطريق الدلالة أو القياس كما يتوهم لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص بالمكلفين حين النزول ويحتاج فى تعميمه إلى دليل آخر على ماتحقق فى الاصول وقيل : ليس هناك مضاف محذوف وإنما المراد محاربة المسلمين إلا أنه جعل محاربتهم محاربة الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم تعظيما له وترفيعا لشأنهم وجعل ذكر الرسول على هذا تمهيدا على تمهيدا وفيه مالايخفى والحرب فى الأصل والسلب والأخذ يقال : حربه إذا سلبه والمراد به ههنا قطع الطريق وقيل : الهجوم جهرة باللصوصية وإن كان فى مصر ويسعون عطف على يحاربون وبه يتعلق قوله تعالى : فى الأرض وقيل : بقوله سبحانه : فسادا وهو إما حال من فاعل يسعون بتأويله بمفسدين أو ذوى فساد أو لاتأويل قصدا للمبالغة كما قيل وإما مفعول له أى لأجل الفساد وإما مصدر مؤكد ليسعون لأنه فى معنى يفسدون و فسادا اما مصدر حذف منه الزوائد أو اسم مصدر وقوله تعالى : إنما جزاء ميتدأ خبره المنسبك من قوله تعالى : أن يقتلوا أى حدا من غير صلب إن أفردوا القتل ولافرق بين أن يكون بآلة جارحة أولا والاتيان بصيغة التفعيل لما فيه من الزيادة على القصاص من أنه لكونه حق الشرع لايسقط بعفو الولى وكذا التصليب فى قوله سبحانه : أو يصلبوا لما فيه من القتل أى يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ وقيل صيغة التفعيل فى الفعلين للتكثير والصلب قبل القتل بأن يصلبوا أحياءا وتبعجوا بطونهم برمح حتى يموتوا وأصح قول الشافعى عليه الرحمة أن الصلب ثلاثا بعد القتل وقيل : إنه يوم واحد
وقيل : حتى يسيل صديده والأولى أن يكون على الطريق فى ممر الناس ليكون ذلك زجرا للغير عن الاقدام على مثل هذه المعصية
وفى ظاهر الرواية أن الامام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أى تقطع مختلفة بأن تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمى إذ له مالنا وعيه وكان فى المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم عشرة دراهم أو مايساويها قيمة وهذا فى أول مرة فان عادوا قطع منهم الباقى وقطع الأيدى لأخذ المال وقطع الأرجل لإخافة الطريق وتفويت أمنه أو ينفوا من الأرض إن لم يفعلوا غير الاخافة والسعى للفساد والمراد بالنفى عندنا هو الحبس والسجن والعرب تستعمل النفى بذلك المعنى لأن الشخص به يفارق بيته وأهله وقد قال بعض المسجونبن : خرجنا من الدنيا ونحن أهلها فلسنا من الأموات فيها ولالأحيا إذ جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا : جاء هذا من الدنيا ويعزرون أيضا لمباشرتهم إخافة الطريق وإزالة أمنه وعند الشافعى عليه الرحمة المراد به النفى من بلد
(6/119)
إلى بلد ولايزال يطلب وهو هارب فرقا إلى أن يتوب ويرجع وبه قال ابن عباس والحسن والسدى رضى الله تعالى عنهم وابن جبير وغيرههم واليه ذهب الامامية وعن عمر بن عبد العزيز وابن جبير فى رواية أخرى أنه ينفى عن بلده فقط وقيل : إلى بلد أبعد وكانوا ينفونهم إلى دهلك وهو بلد فى أقصى تهامة وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة واستدل للأول بأن المراد بنفى قاطع الطريق زجره ودفع شره فاذا نفى إلى بلد آخر لم يؤمن ذلك منه وإخراجه من الدنيا غير ممكن ومن دار الإسلام غير جائز فان حبس فى بلد آخر فلا فائدة فيه إذ بحبسه فى بلده يحصل المقصود وهو أشد عليه
هذا ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى شرعت لكل مرتبةمن تلك المراتب عقوبة معينة بطريق كما أشرنا اليه فأو للتقسيم واللف والنشر المقدر على الصحيح وقيل : إنها تخييرية والامام مخير بين هذه العقوبات فى كل قاطع طريق والأول علم بالوحى وإلا فليس فى اللفظ مايدل عليه دون التخيير ولأن فى الآية أجزية مختلفة غلظا وخفة فيجب أن تقع فى مقابلة جنايات مختلفة ليكون جزاء كل سيئة سيئة مثلها ولأنه ليس للتخيير فى فى الأغلظ والأهون فى جناية واحدة كبير معنى والظاهر أنه أوحى اليه صلى الله عليه و سلم هذا التنويع والتفضيل ويشهد ماأخرجه الخرائطى فى مكارم الاخلاق عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وزعم بعضهم أن التخيير أقرب وكونه بين الأغلظ والأهون بالنظر إلى الأشخاص والأزمنة فان العقوبات للانزجار وإصلاح الخلق وربما يتفاوت الناس فى الانزجار فوكل ذلك إلى رأى الامام وفيه فصل تأمل فتأمل ذلك أى مافصل من الاحكام والأجزية وهو مبتدأ وقوله تعالى : لهم خزى جملة من خبر مقدم ومبتدأ فى محل رفع خبر للمبتدأ وقوله سبحانه : فى الدنيا متعلق بمحذوف وقع صفة لخزى أو متعلق به على الظرفية وقيل : خزى خبر لذلك و لهم متعلق بمحذوف وقع حالا من خزى لأنه فى الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا و فى الدنيا إما صفة لخزى أو متعلق به كما مر آنفا والخزى الذل والفضيحة ولهم فى الأخرة عذاب عظيم
33
- لايقادر قدره وذلك لغاية عظم جناياتهم واقتصر فى الدنيا على الخزى مع أن لهم فيها عذابا أيضا وفى الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزيا أيضا لأن الخزى فى الدنيا أعظم من عذابها والعذاب فى الآخرة أشد من خزيها والآية أقوى دليل لمن يقول إن الحدود لاتسقط العقوبة فى الآخرة والقائلون بالإسقاط يستدلون بقوله صلى الله عليه و سلم فى الحديث الصحيح : من ارتكب شيئا فعوقب به كان كفارة له فانه يقتضى سقوط الإثم عنه وأن لايعاقب فى الآخرة وهو مشكل مع هذه الآية وأجاب النووى بأن الحد يكفر به عنه حق الله تعالى وأما حقوق العباد فلا ههنا حقان لله تعالى والعباد ونظر فيه إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى : فأعلموا أن الله غفور رحيم
34
- وأما ماهو من حقوق العباد كحقوق الاولياء من القصاص ونحوه فيسقط بالتوبة وجوبه على الامام من حيث كونه قصاصا فانهم إن شاءوا عفوا وإن أحبوا استوفوا
وقال ناصر الدين البيضاوى : إن القتل قصاصا يسقط بالتوبة وجوبه لاجوازه وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر فى كتابه التحفة وأفرد له تنبيها فقال بعد نقله وهو عجيب أعجب منه سكوت شيخنا عليه فى حاشيته
(6/120)
مع ظهور فساده لأن التوبة لادخل لها فى القصاص أصلا إذ لايتصور بقيد كونه قصاصا حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولى فطلبه جائز له لاواجب مطلقا أو للامام فان طلبه منه الولى وجب والإلم يجب من حيث كونه قصاصا وإن جاز أو وجب من حيث كونه حدا فتأمله انتهى
وتعقبه ابن القاسم فقال : ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فانه لم يدع ماذكر وإنما ادعى أن لها دخلا فى صفة القتل قصاصا وهى وجوبه وقوله : إذ لايتصور الخ قلنا : لم يدع أن له حالتى وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين فى نفسه وهو صحيح على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين اعتبار الولى واعتبار الامام إذا طلب منه وقوله : لأنا إذا نظرنا الخ كلام ساقط ولاشك أن النظر اليهما يقتضى ثبوت الحالتين قصاصا وقوله : فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئا من قلة التأمل انتهى
وجعل مولانا شيخ الكل فى الكل صبغة الله تعالى الحيدرى منشأ تشنيع العلامة مايتبادر من العبارة من كونها بيانا لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بيانا لسقوط الحد فى قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصا فلا يرد التشنيع فتدبر وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لاتسقط الحد وان أسقطت العذاب وذهب أناس إلى أن الآية فى المرتدين لاغير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل فى الكفار وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا واجتوو المدينة فأمرهم النبى صلى الله عليه و سلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبى صلى الله عليه و سلم فى طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا فأنزل الله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لاجماع من يعتد به من السلف والخلف ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى : إلا الذين تابو الخ ومعلوم أن المرتدين لايختلف حكمهم فى زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها وأيضا إن الاسلام لايسقط الحد عمن وجب عليه
وأيضا ليست عقوبة المرتدين كذلك ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل فى الكفار يردها أنه ورد فى الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصى أيضا وسبب النزول لايصلح مخصصا فان العبرة كما تقرر بعموم اللفظ لابخصوص السبب وقد أخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم وغيرهما عن الشعبى قال : كان حارثة ابن بدر التيمى من أهل البصرة قد أفسد فى الأرض وحارب فكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمدانى فأتى عليا فقال : ياأمير المؤمنين ماجزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ويسعون فى الأرض الفساد قال أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فقال سعيد : وإن كان حارثة ابن بدر قال : وإن كان حارثة بن بدر فقال : هذا حارثة بن بدر فقال : هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن قال : نعم فجاء به اليه فبايعه وقبل ذلك منه وكتب له أمانا وروى عن أبى موسى الأشعرى ماهو بمعناه ثم إن السمل الذى فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يفعله فى غير اولئك وأخرج مسلم والبيهقى عن أنس أنه قال : إنما سمل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعين أولئك لأنهم سلموا أعين الرعاء وأخرج بن جرير
(6/121)
عن الوليد بن مسلم قال : ذاكرت عن الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد ماكان من سمل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم معاتبة فى ذلك وعلمه صلى الله عليه و سلم عقوبة مثلهم القتل والصلب والقطع والنفى ولم يسمل بعدهم غيرهم قال : وكان هذا القول ذكره لأبى عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة وقال : بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل
هذا ومن باب الاشارة فى الآيات ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء أى ألزمانهم ذلك لتخالف دواعى قواهم باحتجابهم عن عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسى إلى يوم القيامة أى إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم بحسب الدواعى والمقتضيات كثيرا مما كنتم تخفون عن الناس فى أنفسكم من الكتاب ويعفو عن كثير إذا لم تدع اليه داعية قد جاءكم من الله نور أبرزته العناية الالهية من مكامن العماء وكتاب خطه قلم البارى فى صحائف الامكان جامعا لكل كمال وهما إشارة إلى النبى صلى الله عليه و سلم ولذلك وحد الضمير فى قوله سبحانه : يهدى به الله أى بواسطته من اتبع رضوانه أى من أراد ذلك سبل السلام وهى الطرق الموصلة اليه عز و جل
وقد قال بعض العارفين : الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبى صلى الله عليه و سلم ويخرجهم من الظلمات وهى ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية إلى النور وهو نور الرضا والتسليم ويديهم إلى صراط مستقيم وهو طريق الترقى فى المقامات العلية وقد يقال : الجملة الأولى إشارة إلى توحيد الأفعال والثانية إلى توحيد الصفات والثالثة إلى توحيد الذات لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الاطلاق قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الارض جميعا فان كل ذلك من التعينات والشئون والله من ورائهم محيط ولله ملك السموات والارض ومابينهما أى عالم لأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور يخلق مايشاء ويظهر ماأراد من الشئون وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه فادعوا بنوة الاسرار والقرب من حضرة نور الأنوار وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الاشارة اليه وقال مايقرب من ذلك بعض المتأخرين فقال الواسطى : ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفو إلا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه : قل فلم يعذبكم بذنوبكم والأبناء والأحباب لايذنبون فيعذبون أو لايمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح بل أنتم بشر ممن خلق كسائر عباد الله تعالى لاامتياز لكم عليهم بشىء كما تزعمون يغفر لمن يشاء منهم فضلا ويعذب من يشاء منهم عدلا وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا بالولاية ومعرفة الصفات أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة أو مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتى والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين ومافيه وآتاكم مالم يؤت أحدا من العالمين أى عالمى زمانكم ومنه اجتلاء نور التجلى من وجه موسى عليه السلام ياقوم ادخلوا الارض المقدسة وهى حضرة القلب
(6/122)
التى كتب الله لكم فى القضاء السابق حسب الاستعداد ولاترتدوا على أدباركم فى الميل إلى مدينة البدن والإقبال عليه بتحصيل لذاته فتنقلبوا خاسرين لتفويتكم أنوار القلب وطيباته قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وهى صفات النفس وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولامجاهدة أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع فان يخرجوا منها فانا داخلون حينئذ قال رجلان من الذين يخافون سوء عاقبة ملازمة الجسم أنعم الله عليهما بالهداية إلى الصراط السوي وهما العقل النظرى والعقل العملى ادخلوا عليهم الباب أى باب قرية القلب وهو التوكل بتجلى الأفعال كما أن باب قرية الروح هو الرضا فاذا دخلتموه فانكم غالبون بخروجكم عن أفعالكم وحولكم ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين بالحقيقة وهو الايمان عن حضور وأقل درجاته تجلى الأفعال قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض إنا ههنا قاعدون أى ملازمون مكاننا فى مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات قال فانها محرمة عليهم أربعين سنة يتهيون فى الأرض أى أرض الطبيعة وذلك ومدة بقائهم فى مقام النفس وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش فينتفعون بضوئه واتل عليهم نبأ ابنى آدم القلب اللذين هما هابيل العقل وقابيل الوهم إذ قربا قربانا وذلك كما قال بعض العارفين : إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لانواع الصناعات والسياسات وتوأمة الوهم اقليميا القوة المتخلية المتصرفة فى المحسوسات والمعانى الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب اليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان فقربا قربانا فتقبل من أحدهما وهو هابيل العقل بأن نزلت نار من السماء فأكلته والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التى هى قربان العقل وعمله الذى يتقرب به إلى الله تعالى ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لاتطابق مافى نفس الأمر قال لاقتلنك لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم فى مدركاته وتصرفاته وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الالهية الذي به الحياة عنه بايراد التشكيكات الوهمية والمعارضات فى تحصيل المطالب النظرية قال إنما يتقبل الله من المتقين الذين يتحذون الله تعالى وقاية أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية ولأهواء المردية والتسويلات المهلكة لئن بسطت الى يدك لتقتلنى ما أنا باسط اليك لأقتلك أى انى لاأبطل أعمالك التى هى سديدة فى مواضعها إنى أخاف رب العلمين أى لأنى أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن وأوجدك لحكمة ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لاتحصل إلا بالوهم ولولا الأمل بطل العمل إنى أريد أن أتبوء بإثمى وإثمك أى بإثم قتلى وإثم عملك من الآراء الباطلة فتكون من أصحاب النار وهى نار الحجاب والحرمان وذلك جزاء الظالمين الواضعين للاشياء فى غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله بمنعه عن أفعاله الخاصة
(6/123)
وحجبه عن نور الهداية فأصبح من الخاسرين لتضرره باستيلائه على العقل فان الوهم إذا انقطع عن معاضدة العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها فبعث الله غرابا وهو غراب الحرص يبحث فى الأرض أى أرض النفس ليريه كيف يوارى سوأة أخيه وهو العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه فى ظلمات أرض النفس قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخى بإخفائها فى ظلمة النفس فأنتفع بها فأصبح من النادمين عند ظهور الخسران وحصول الحرمان من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا لأن الواحد مشتمل على مايشتمل عليه جميع أفراد النوع وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع فى الخارج ولااعتبار بالعدد فان حقيقة النوع لاتزيد بزيادة الأفراد ولاتنقص بنقصها ويقال فى جانب الأحياء مثل ذلك إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أى أولياءهما ويسعون فى الأرض فسادا بتثبيط السالكين أن يقتلوا بسيف الخذلان أو يصلبوا بحبل الهجران على جذع الحرمان أو تقطع أيديهم عن أذيال الوصال وأرجلهم من خلاف عن الاختلاف والتردد إلى للسالكين أو ينفوا من الأرض أى أرض القربة وللائتلاف فلا يلتفت اليهم السالك ولايتوجه لهم ذلك لهم خزى وهوان فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم لعظم جنايتهم وقد جاء أن الله تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب ومن أذى وليا فقد آذنته بالمحاربة نسأل الله العفو والعافية فى الدين والدنيا والآخرة ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته وأشار فى تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب أمر المؤمنين بتقواه عز و جل فى كل مايأتون ويذرون بترك مايجب اتقاؤه من المعاصى التى من جملتها المحاربة والفساد وبفعل الطاعة التى من عدادها التوبة والاستغفار ودفع الفساد وابتغوا اليه أى اطلبوا لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه الوسيلة هى فعيلة بمعنى مايتوسل به ويتقرب إلى الله عز و جل من فعل الطاعات وترك المعاصى من وسل إلى كذا أى تقرب اليه بشىء والظرف متعلق بها وقدم عليها للاهتمام وهى صفة لامصدر حتى يمتنع تقدم معمول عليه وقيل : متعلق بالفعل قبله وقيل : بمحذوف وقع حالا منها أى كائنة اليه ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير اليه الكلام قتادة فانه ملاك الأمر كله والذريعة لكل خير والمناجاة من كل ضمير والجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد وقيل : الجملة الأولى أمر بترك المعاصى والثانية أمر بفعل الطاعات وأخرج ابن الانبارى وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الوسيلة الحاجة وأنشد له قول عنترة : إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلى وتخضبى وكأن المعنى حينئذ اطلبوا متوجهين إليه حاجكم فان بيده عز شأنه مقاليد السموات والارض ولاتطلبوها متوجهين إلى غيره فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة وفسر بعضهم الوسيلة بمنزلة فى الجنة وكونها بهذا المعنى غير ظاهر لاختصاصها بالانبياء عليهم الصلاة والسلام بناءا على ماوراه مسلم وغيره إنها منزلة فى الجنة جعلها الله تعالى لعبد من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لى الوسيلة وكون الطلب هنا للنبى صلى الله عليه و سلم مما لايكاد يذهب اليه ذهن سليم وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لايخفى واستدل بعض الناس بهذه المشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد والقسم على الله تعالى
(6/124)
بهم بأن يقال : اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين : يافلان إدع الله تعالى ليرزقنى كذا وكذا ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة ويروون عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال اذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور أو فاستغيثوا بأهل القبور وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل
وتحقيق الكلام فى هذا المقام أن الأستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لاشك فى جوازه إن كان المطلوب منه حيا ولايتوقف على لأفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من المفضول فقد صح أنه صلى الله عليه و سلم قال لعمر رضى الله تعالى عنه لما استأذنه فى العمرة : لاتنسنا ياأخى من دعائك وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرنى رحمة الله تعالى عليه أن يستغفر له وأمره أمته صلى الله عليه و سلم بطلب الوسيلة له كما مر آنفا وبأن يصلوا عليه وأما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا فلا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التى لم يفعلها أحد من السلف نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة فقد صح أنه صلى الله عليه و سلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء تعالى بكم لاحقون يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية اللهم لاتحرمنا أجرهم ولاتفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ولم يرد عن أحد من الصحابة رضى الله تعالى عنهم وهم أحرص الخلق كل على خير أنه طلب من ميت شيئا بل قد صح عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذ دخل الحجرة النبوية زائرا : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك ياأبكر السلام عليك ياأبت ثم ينصرف ولايزيد على ذلك ولايطلب من سيد العالمين صلى الله عليه و سلم أو من ضجيعيه المكرمين رضى الله تعالى عنهما شيئا وهم أكرم من ضمتهم البسيطة وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الافلاك المحيطة نعم الدعاء فى هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة أمر مشروع فقد كانت الصحابة تدعوا الله تعالى هناك مستقبلين القبلة ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء مع أنه أفضل من العرش واختلف الأئمة فى استقباله عند السلام فعن أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه أنه لايستقبل بل يستدير ويستقبل القبلة وقال بعضهم : يستقبل وقت السلام وتستقبل القبلة ويستدبر وقت الدعاء والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء تستقبل القبلة ويجعل القبر المكرم عن اليمين أو اليسار فاذا كان هذا المشروع فى زيارة سيد الخليقة وعلة الإيجاد على الحقيقة صلى الله عليه و سلم فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة و السلام ليزداد فيها مايزداد أو يطلب من المزور بها ماليس من وظيفة العباد ! وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال : اللهم انى أقسم عليك أو أسالك بفلان إلا ماقضيت لى حاجتى فعن ابن عبد السلام جواز ذلك فى النبى صلى الله عليه و سلم لأنه سيد ولد آدم ولايجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا فى درجته وقد نقل ذلك عنه المناوى فى شرحه الكبير للجامع الصغير ودليله فى ذلك مارواه الترمذى وقال حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضى الله تعالى عنه أن رجلا ضرير البصر أتى النبى صلى الله عليه و سلم فقال : ادع الله تعالى أن يعافينى فقال : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك قال فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء اللهم إنى أسلك وأتوجه بنبيك صلى الله عليه و سلم نبى الرحمة يارسول الله
(6/125)
إنى توجهت بك إلى ربى فى حاجتى هذه لتقضى لى اللهم فشفعه فى ونقل عن أحمد مثل ذلك
ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقا وهو الذى يرشح به كلام المجد ابن تيمية ونقله عن الإمام أبى حنيفة رضى اله تعالى عنه وأبى يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أى بدعاء أو شفاعة نبيك صلى الله عليه و سلم ففيه جعل الدعاء وسيلة وهو جائز بل مندوب والدليل على هذا التقدير قوله فى آخر الحديث : اللهم فشفعه فى بل فى أوله أيضا مايدل على ذلك وقد شنع التاج السبكى كما هو عادته على المجد فقال : ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبى صلى الله عليه و سلم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع مالم يقله عالم وصار بين الأنام مثلة انتهى
وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الائمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى الله عليه و سلم ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤل بتقدير مضاف كما سمعت أو نحو ذلك كما تسمع إن شاء الله تعالى ومن ادعى النص فعليه البيان ومارواه أبو داود فى سننه وغيره من أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك فسبح رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رؤى ذلك فى وجوه أصحابه فقال : ويحك أتدرى ماالله تعالى إن الله تعالى لايشفع به على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك لايصلح دليلا على مانحن فيه حيث أنكر عليه قوله : إنا نستشفع بالله تعالى عليك ولم ينكر عليه الصلاة و السلام قوله : نستشفع بك إلى الله تعالى لأن معنى الاستشفاع به صلى الله عليه و سلم الدعاء منه وليس معناه الإقسام به على الله تعالى ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبى صلى الله عليه و سلم مضمون الجملة الثانية دون الاولى وعلى هذا لايصلح الخبر ولا ما قبله دليلا لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلى الله عليه و سلم حيا وميتا وكذا بذات غيره من الارواح المقدسة مطلقا قياسا عليه الصلاة و السلام بجامع الكرامة وإن تفاوت قوة وضعفا وذلك لأن مافى الخبر الثانى استشفاع لاإقسام وما فى الخبر الأول ليس نصا فى محل النزاع وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحى والتوسل به وتساوى حالتى حياته ووفاته صلى الله عليه و سلم فى هذا الشأن يحتاج إلى نص ولعل النص على خلافه ففى صحيح البخارى عن أنس أن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضى الله تعالى عنه فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه و سلم قتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون فانه لو كان التوسل به عليه الصلاة و السلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره بل كانوا يقولون : اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس وهم يجدون أدنى مساغ لذلك فعدولهم هذا مع أنهم السابقون الأولون وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام ومايشرع من الدعاء ومالايشرع وهم فى وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق دليل واضح على أن المشروع ماسلكوه دون غيره
وماذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلى الله عليه و سلم مع التفاوت فى الكرامة
(6/126)
الذى لاينكره منافق مما لايكاد يسلم على أنك قد علمت أن الإقسام عليه الصلاة و السلام على ربه عز شأنه حيا أو ميتا مما لم يقم النص عليه لايقال : إن فى خبر البخارى دلالة على صحة الإقسام به صلى الله عليه و سلم حيا وكذا بغيره كذلك فلقول عمر رضى الله تعالى عنه فيه : كنا نتوسل بنبيك صلى الله عليه و سلم وأما الثانى فلقوله : إنا نتوسل بعم نبيك لما قيل : إن هذا التوسل ليس من باب الاقسام بل هو من جنس الاستشفاع وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه اليه وبه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح فمعناه فى لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه فى الحقيقة بدعائه وشفاعته وذلك مما لامحذور فيه وأما فى لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه وهذا هو محل النزاع وقد علمت الكلام فيه وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل اللهم أسألك بجاه فلان فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك وقال : إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته فيقال : أسألك بأن لك الحمد لاإله إلا أنت يالله المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والاكرام ياحى ياقيوم وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك الحديث ونحو ذلك من الأدعية المأثورة ومايذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه و سلم إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فا سألوا الله تعالى بجاهى فان جاهى عند الله تعالى عظيم لم يروه أحد من أهل العلم ولاهو شىء فى كتب الحديث ومارواه القشيرى عن معروف الكرخى قدس سره أنه قال لتلامذته : إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بى فانى الواسطة بينكم وبينه جل جلاله الآن لايوجد له سند يعول عليه عند المحدثين وأما رواه ابن ماجه عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه و سلم فى دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إنى أسألك عليك وبحق السائلين عليك وبحق ممشاى هذا فانى لم أخرج أشرا ولابطرا ولارياء ولاسمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذنى من النار وأن يدخلنى الجنة ففى سنده العوفى وفيه ضعيف وعلى تقدير أن يكون من كلام النبى صلى الله عليه و سلم يقال فيه : إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم وحق الماشين فى طاعته أن يثيبهم والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلا لا وجوبا كما فى قوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين وفى الصحيح من حديث معاذ حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولايشركوا به شيئا وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لايعذبهم فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى الفعلية والسؤال بها مما لانزاع فيه فيكون هذا السؤال كالاستعاذة فى قوله صلى الله عليه و سلم أعوذ برضاك من سخطك وبمعفاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثباته وإجابته
وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عز و جل بأعمالهم على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود ولاشك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها والناس قد أفرطوا اليوم فى الإقسام على الله تعالى فأقسموا عليه عز شأنه بمن ليس فى العير ولا النفير وليس عنده من الجاه قدر قطمير وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة وتيسير كل عسير وتوحى اليهم شياطينهم خبر إذا أعيتكم الأمور الخ وهو حديث مفترى
(6/127)
على رسول الله صلى الله عليه و سلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولايوجد فى شىء كتب الحديث المعتمدة وقد نهى النبى صلى الله عليه و سلم : عن اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك فكيف يتصور منه عليه الصلاة و السلام الأمر بالاستغافة والطالب من أصحابها ! سبحانك هذا بهتان عظيم
وعن أبى يزيد البسطامى قدس سره أنه قال : اسنغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون ومن كلام السجاد رضى الله تعالى عنه أن طلب المحتاج من المحتاج سفه فى رأيه وضلة فى عقله ومن دعاء موسى عليه السلام وبك المستغاث وقال صلى الله عليه و سلم لابن عباس رضى الله تعالى عنهما : إذا استعنت فاستعن بالله تعالى الخبر وقال تعالى : إياك نعبد وإياك نستعين
وبعد هذا كله أنا لاأرى بأسا فى التوسل إلى الله تعالى بجاه النبى صلى الله عليه و سلم عند الله تعالى حيا وميتا ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته فيكون معنى قول القائل : إلهى أتوسل بجاه نبيك صلى الله عليه و سلم أن تقضى لى حاجتى إلهى اجعل محبتك له وسيلة فى قضاء حاجتى ولافرق بين هذا وقولك : إلهى أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضا آلهى إجعل رحمتك وسيلة فى فعل كذا بل لاأرى بأسا أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى الله عليه و سلم بهذا المعنى والكلام فى الحرمة كالكلام فى الجاه ولايجرى ذلك فى التوسل والإقسام بالذات البحث نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضى الله تعالى عنهم
ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه فى أذهان الناس إذ ذاك وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام شىء ثم اقتدى بهم من خلقهم من الائمة الطاهرين وقد ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثى عهد بكفر كما ثبت ذلك فى الصحيح وهذا الذى ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم كما بزعمه البعض فى التوسل بجاه عريض الجاه صلى الله عليه و سلم لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التى جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة فانه لايستريب منصف فى أن ماعلمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ودرج عليه الصحابة الكرام رضى الله تعالى عنهم وتلقاه من بعدهم القبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم فقد قيل ماقيل إن حقا وإن كذبا بقى ههنا أمران الأول إن التوسل بجاه غير النبى صلى الله عليه و سلم لابأسى به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته وأما من لاقطع فى حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمنى على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه وفى ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى الثانى إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحباء منهم والأموات وغيرهم مثل ياسيدى فلان أغثنى وليس ذلك من التوسل المباح فى شىء واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لايحوم حول حماه وقد عده أناس من العلماء شركا وأن لايكنه فهو قريب منه ولاأرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحى الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أويسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولافتح فاه وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم فالحزم والتجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوى الغنى الفعال لمايريد ومن وقف على سر مارواه الطبرانى فى مجمعه من أنه كان فى زمن النبى صلى الله عليه و سلم منافق يؤذى المؤمنين فقال الصديق رضى
(6/128)
رضى الله تعالى عنه : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه و سلم من هذا المنافق فجاءوا إليه فقال : إنه لايستغاث بى إنما يستغاث بالله تعالى لم يشك فى أن الاستغاثة بأصحاب القبور الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه فى الجنان عن الالتفات إلى مافى هذا العالم وبين شقى ألهاه عذابه وحبسه فى النيران عن إجابة مناديه والا صاخة إلى أهل ناديه أمر يجب اجتنابه ولايليق بأرباب العقول ارتكابه ولايغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته وتنجح طلبته فان ذلك ابتلاء وفتنة منه عز و جل وقد يتمثل الشيطان للمستغيث فى صورة الذى استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن إستغاث به هيهات هيهات إنما هو شيطان أضله وأغواه وزين له هواه وذلك كما يتكلم الشيطان فىالأصنام ليضل عبدتها الطغام وبعض الجهلة يقول : إن ذلك من تطور روح المستغاث به أو من ظهور ملك بصورته كرامة له ولقد ساء مايحكمون لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لافى مثل هذه الصورة وعند ارتكاب هذه الجريرة نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك وجاهدوا فى سبيله مع أعدائكم مع أعدائكم بما أمكنكم
لعلكم تفلحون
35
- بنيل نعيم الأبد والخلاص من كل نكد إن الذين كفروا كلام ميتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة وترغيب المؤمنين فى المسارعة إلى تحصيل الوسيلة اليه عز شأنه قبل انقضاء أو انه ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلا عن نيل الثواب لو أن لهم أى لكل واحد منهم كقوله سبحانه : ولو أن لكل نفس ظلمت الخ وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ماليس فى قولنا : لجميعهم مافى الأرض أى من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة وهو اسم أن و ولهم خبرها ومحلها الرفع عندهم خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء لاحاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند اليه وقد اختصت من بين سائر مايؤول بالاسم بالوقوع بعد لو وقيل : الخبر محذوف ويقدر مقدما أو مؤخرا قولان وعند الزجاج والمبرد والكوفيين رفع على الفاعلية أى لوثبت لهم مافى الارض وقوله تعالى : جميعا توكيد للموصول أو حال منه وقوله سبحانه : ومثله بالنصب عطف عليه وقوله عز و جل : معه ظرف وقع حالا من المعطوف والضمير راجع إلى الموصول وفائدة التصريح بفرض كينونتمها لهم بطريق المعية لابطريق النعاقب تحقيقا لكمال فظاعة الأمر واللام فى قوله تعالى : ليفتدوا به متعلقة بما تعلق به خبر أن وهو الاستقرار المقدر فى لهم وبالخبر المقدر عنده من يراه وبالفعل المقدر بعد لو عند الزجاج ومن نحا نحوه قيل : ولاريب فى أن مدار الاقتداء بما ذكر هو كونه لهم لاثبوت كونه لهم وإن كان مستلزما له والباء فى به متعلقة بالافتداء والضمير راجع إلى الموصول ومثله معه وتوحيده لكونهما بالمعية شيئا واحدا أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الاشارة إلى ذلك وقيل : هو راجع إلى الموصول والعائد إلى المعطوف أعنى مثله مثله وهو محذوف كما حذف الخبر من قيار فى قوله : ومن يك أمسى بالمدينة رحله فانى وقيار بها لغريب وقد جوز أن يكون نصب ومثله على أنه مفعول معه ناصبه الفعل المقدر بعد لو تفريعا على رأى الزجاج
(6/129)
ومن رأى رأيه وأمر توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه الإفراد وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثنى الضمير وقال بعض النحاة : الصحيح جوازه على قلة واعترض هذا الوجه أبو حيان بأنه يصير التقدير مع مثله معه وإذا كان مافى الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة فلا فائدة فى ذكر معه معه لملازمة معية كل منهما للآخر وأجاب الطيبى بأن معه على هذا التأكيد وقال السفاقسى : جوابه أن التقدير ليس كالتصريح و الواو متضمنة معنى مع وإنما يقبح لو صرح بمع وكثيرا مايكون التقدير بخلاف التصريح كقولهم : رب شاة وسخلتها ولو صرحت برب فقلت : ورب سخلتها لم يجز وأجاب الحلبى بأن الضمير فى معه عائد على مثله ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد نعم أن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن العامل فى المفعول معه هو العامل فى المصاحب له كما صرحوا به وهو هنا ما أو ضميرها وشى ء منهما ليس عاملا فيه ثبت المقدر وأما صحته على تقدير جعلهم أو متعلقة على ماقيل فممتنع أيضا على مانقل عن سيبويه أنه قال : وأما هذا لك وأباك فقبيح لأنه لم يذكر فعل ولاحرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل فان فيه تصريحا بأن اسم الإشارة وحرف الجر والظرف لاتعمل فى المفعول معه وقوله تعالى : من عذاب يوم القيامة متعلق بالافتداء أيضا أى لو أن مافى الأرض ومثله لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم
ماتقبل منهم ذلك وهو جواب لو وترتيبه كما قال شيخ الاسلام على ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر الافتداء بأن يقال : وافتدوا به مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لاعلى مباديه للايذان بأنه أمر محقق الوقوع غنى عن الذكر وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ماذكر أو للمبالغة فى تحقق الرد وتخييل أنه وقع قبل الافتداء على منهاج مافى قوله تعالى : أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده حيث لم يقل فأتى به فلما رآه الخ ومافى قوله سبحانه : وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن ورؤيتهن له وقال بعض الأفاضل : إنما لم يكتف بقوله : إن الذين كفروا لو يفتدون بما فى الأرض جميعا من عذاب يوم القيامة ماتقبل منهم لان مافى النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما فى الارض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى وحفظوا الفدية وتفكروا فىالافتداء ورعاية أسبابه كما هو شأن من هو بصدد أمر ماتقبل منهم فضلا عن أن يكونوا غافلين عن تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة ولهذا لم يقل لو أن لهم مافى الارض ج ميعا ومثله معه ويفتدون به ماتقبل الخ والجملة الامتناعية بحالها خبر : إن الذين كفروا وهى كناية عن لزوم العذاب لهم وأنه لاسبيل لهم إلى الخلاص منه فان لزوم العذاب من لوازمه أن مافى الارض جميعا ومثله معه لوافتدوا به لم يتقبل منهم فلما كانت هذه الجملة بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها وأطلق بعضهم على هذه الجملة تمثيلا ولعل مراده على ماذكره القطب ماذكره وقال بعض المحققين : لايريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم أى لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى وبهذا الاعتبار يقال له : كناية ويمكن تنزيله على التمثيل الاصطلاحى بأن يقال : إن حالهم فى حال التفصى عن العذاب بمنزلة حال من يكون له ذلك الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من العذاب فلا يتقبل منه ولايتخلص
(6/130)
ولهم عذاب عظيم قيل : محله النصب على الحالية وقيل : الرفع عطفا على خبر إن وقيل انه معطوف على إن الذين فلا محل له من الاعراب مثله وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة الأولى لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته وقيل : إن المقصود بها الايذان بأنه كما لايندفع بذلك عذابهم لايخفف بل لهم بعد عذاب فى كمال الإيلام وكذلك قوله تعالى : يريدون أن يخرجوا من النار فانه لإفادة أنه كما لايندفع بذلك الافتداء عذابهم لايندفع دوامه ولاينفصل وهو على ماتقدم استئناف مسوق لبيان حالهم فى أثناء مكابدة العذاب مبنى على سؤال نشأ مما قبله كأنه : قيل : فكيف يكون حالهم أو ماذا يصنعون فقيل : يريدون الخ وقد بين فى تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار والارادة قيل : على معتاها الحقيقى المشهور وذلك أنهم يرفعهم لهب النار فيريدون الخروج وأنى به وروى ذلك عن الحسن وقال الجبائى : الإرادة بعنى التمنى أى يتمنون ذلك
وقيل : المعنى يكادون يخرجون منها لقوتها وزيادة رفعها إياهم وهذا كقوله تعالى : فوجدوا فيها جدارا يري ان ينقض أى يكاد ويقارب لا يقال : كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بالخلود لأنا نقول : الهول يومئذ ينسيهم ذلك وعلى تقدير عدم النسيان يقال : العلم بعدم حصول الشىء لايصرف عن إرادته كما أن العلم بالحصول كذلك فان الداعى إلى الإرادة حسن الشىء والحاجة اليه
وماهم بخارجين منها إما حال من فاعل يريدون أو اعتراض وأياما كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة بما الحجازية الدالة بما فى حيزها من الباء على تأكيد النفى لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها فان الجملة الاسمية الإيجابية كما مرت الاشارة اليه كما تفيد بمعونة المقام دوام الثبوت تفيد السلبية أيضا بمعونة دوام النفى لانفى الدوام وقرأ أبو واقد أن يخرجوا بالبناء لما لم يسم فاعله من الإخراج ويشهد لقراءة الجمهور قوله تعالى : بخارجين دون بمخرجين وهذه الآية كما ترى فى حق الكفار فلا تنافى القول بالشفاعة لعصاة المؤمنين فى الخروج منها كما لايخفى على من له أدنى إيمان
وقد أخرج مسلم وابن النذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة قال يزيد الفقير : فقلت لجابر : يقول الله تعالى : يريدون أن يخرجوا من النار وماهم بخارجين منها قال : أتل أول الآية إن الذين كفروا لو أن لهم مافى الأرض جميعا ومثله ليفتدوا به ألا إنهم الذين كفروا وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رضى الله تعالى عنهما : تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : وماهم بخارجين منها فقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : ويحك اقرأ مافوقها هذه للكفار ورواية أنه قال له : ياأعمى البصر أعمى القلب تزعم الخ حكاها الزمخشرى وشنع إثرها على أهل السنة ورماهم بالكذب والافتراء فحقق ماقيل : رمتنى بدائها وانسلت ولسنا مضطرين لتصحيح هذه الرواية ولاوقف الله تعالى صحة العقيدة على صحتها فكم لنا من حديث صحيح شاهد على حقيقة مانقول وبطلان مايقوله المعتزلة تبا لهم ولهم عذاب مقيم
36
- تصريح بما أشير اليه من عدم تناهى مدة العذاب بعد بيان شدته أى عذاب دائم ثابت لايزول ولاينتقل أبدا والسارق والسارقة فأقطعوا أيديهما شروع فى بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى وقد تقدم بيان اقتضاء الحال لإيراد ماتوسط بينهما من المقال والكلام جملتان عند سيبويه إذ التقدير
(6/131)
فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أى حكمهما وجملة عند المبرد وقرأ عيسى بن عمر بالنصب وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر لأن زيدا فأضربه أحسن من زيد فأضربه قال الزمخشرى واتبعه من تبعه ومنهم ابن الحاجب
وتعقبه العلامة أحمد فى الانتصاف بكلام كله محاسن فلا بأس فى نقله برمته فنقول : قال فيه المستقرأ من وجوه القراآت أن العامة لاتتفق فيها أبدا على العدول عن الأفصح وجدير بالقرآن أن يحرز أفصح الوجوه وأن لايخلو من الأفصح ويشتمل عليه كلام العرب الذى لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها وسيبويه يحاشى من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتمال الشاذ الذى لاييعد من القرآن عليه ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل قال سيبويه فى ترجمة باب الامر والنهى بعد أن ذكر المواضع التى يختار فيها النصب ولخصها : أنه متى بنى الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيه النصب : وأما قوله عز و جل : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله تعالى : الزانية والزانى فاجلدوا فان هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله عز و جل : مثل الجنة التى وعد المتقون ثم قال سبحانه بعد : فيها أنهار منها كذا يريد سيبويه تمييز هذه الآى عن المواضع التى بين اختيار النصب فيها ووجه التمييز أن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل وأما فى هذه الآى فليس بمبنى عليه فلا يلزم فيه اختيارالنصب ثم قال : وإنما وضع المثل للحديث الذى ذكره بعده فذكر أخبارا وقصصا فكأنه قال : ومن القصص مثل الجنة فهو محمول على هذا الإضمار والله تعالى أعلم وكذلك الزانية والزانى لما قال جل ثناؤه : سورة أنزلناها وفرضناها قال جل وعلا فى جملة الفرائض : الزانية والزانى ثم جاء فاجلدوا بعد أن مضى فيهما الرفع يريد سيبويه لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد بل بنى على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئا ثم قال : كما جاء وقائلة : خولان فاتكح فتاتهم فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر وكذلك والسارق والسارقة فيما فرض عليكم السارقة والسارقة وإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث وقد قرأ أناس السارق والسارقة بالنصب وهو فى العربية على ماذكرت لك من القوة ولكن أبت العامة إلا الرفع يريد إن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على متقدم فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم وليس يعنى أنه قوى بالنسبة إلى الرفع حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم فانه قد بين أن ذلك يخرجه عن الباب الذى يختار فيه النصب فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه والباب مع القرائن مختلف وإنما يقع الترجيح بعد التساوى فى الباب فالنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل والرفع متعين لاأقول أرجح حيث يبنى الاسم على كلام متقدم وإنما التبس على الزمخشرى كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه باب واحد عنده ألا ترى إلى قوله : لأن زيدا فأضربه أحسن من زيد فأاضربه كيف رجح النصب على الرفع حيث يبنى الكلام فى الوجهين على الفعل وقد صرح سيبويه بأن كلام فى الآية مع الرفع مبنى على كلام متقدم ثم حقق هذا المقدار بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار ولو كان كما ظنه الزمخشرى لم يحتج سيبويه إلى تقدير بل كان يرفعه على الابتداء ويجعل الأمر خبره كما أعرب الزمخشرى فالملخص على
(6/132)
هذا أن النصب على وجه واحد وهو بناء الاسم على فعل الأمر والرفع على وجهين : أحدهما ضعيف وهو الابتداء وبناء الكلام على الفعل والآخر قوى بالغ كوجه النصب وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق وإذا تعارض لنا وجهان فى الرفع أحدهما قوى والآخر ضعيف تعين حمل القراءة على القوى كما أعربه سيبويه رحمه الله تعالى ورضى عنه انتهى
والفاء إذا بنى الكلام على جملتين سببية لاعاطفة وقيل : زائدة وكذا على الوجه الضعيف فان المبتدأ متضمن معنى الشرط إذ المعنى والذى سرق والتى سرقت وزعم بعض المحققين أن مثل هذا التركيب لايتوجه إلا بأحد أمرين : زيادة الفاء كما نقل عن الأخفش أو تقدير إما لأن دخول الفاء فى خبر المبتدأ إما لتضمنه معنى الشرط وإما لوقوع المبتدأ بعد أما ولما لم يكن الأول وجب الثانى ولايخفى مافيه وعلى قراءة عيسى ابن عمر يكون النصب على إضمار فعل يفسره الظاهر والفاء أيضا كما قال ابن جنى لما فى الكلام من معنى الشرط ولذا حسنت مع الأمر لأنه بمعناه ألا تراه جزم جوابه لذلك إذ معنى أسلم تدخل الجنة إن تسلم تدخل الجنة والمراد كما يشير اليه بعض شروح الكشاف إن أردتم حكم السارق والسارقة فاقطعوا الخ ولذا لم يجز زيدا فضربته لأن الفاء لاتدخل فى جواب الشرط إذا كان ماضيا وتقديره إن أردتم معرفة الخ أحسن من تقديره إن قطعتم لأنه لايدل على الوجوب المراد وقال أبو حيان : إن الفاء فى جواب أمر مقدر أى تنبه لحكمهما فاقطعوا وقيل : إنما دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الاجمال فى قوله تعالى : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم وليس بشىء وبما ذكر صاحب الانتصاف يعلم فساد ماقيل : إن سبب الخلاف السابق فى مثل هذا التركيب أن سيبويه والخليل يشترطان فى دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا بما يقبل مباشرة أداة الشرط وغيرهما لايشترط ذلك والظاهر أن سبب هذا عدم الوقوف على المقصود فليحفظ والسرقة أخذ مال الغير خفية وإنما توجب القطع إذا كان الأخذ من حرز والمأخوذ يساوى عشرة دراهم فما فوقها مع شروط تكلفت ببيانها الفروع ومذهب الشافعى والاوزاعى وأبى ثور والامامية رضى الله تعالى عنهم أن القطع فيما يساوى ربع دينار فصاعدا وقال بعضهم : لاتقطع الخمس إلا بخمسة دراهم واختاره أبو على الجبائى قيل : يجب القطع فى القليل والكثير واليه ذهب الخوارج والمراد بالأيدى الأيمان كما روى عن ابن عباس والحسن والسدى وعامة التابعين رضوان الله عليهم أجمعين ويؤيده قراءة ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أيمانهما ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما فى قوله : فقد صغت قلوبكما اكتفاءا بتثنية المضاف اليه كذا قالوا قال الزجاج : وحقيقة هذا الباب أن ماكان فى الشىء منه واحد لم يئن ولفظ به على الجمع لأن الإضافة تبينه فاذا قلت : أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط
وفرع الطيبى عليه عدم استقامة تشبيه مافى الآية بما فى الآية الأخرى لأن لكل من السارق يدين فيجوز الجمع وأن تقطع الأيدى كلها من حيث ظاهر اللغة وكذا قال أبو حيان وفيه نظر لأن الدليل قد دل على أن المراد من اليد يد مخصوصة وهى اليمين فجرت مجرى القلب والظهر واليد اسم لتمام العضو ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب والإمامية على أنه يقطع من أصول الأصابع ويترك له الابهام والكف وروره عن على كرم الله تعالى وجهه استدلوا عليه أيضا قوله تعالى : فويل الذين يكتبون الكتاب بأيديهم إذ لاشك فى أنهم إنما يكتبونه بالاصابع وأن تعلم لأن هذا لايتم به الاستدلال على ذلك المدعى وحال روايتهم
(6/133)
أظهر من أن تخفى والجمهور على أن المقطع هو الرسغ فقد أخرج الغوى وأبو نعيم فى معرفة الصحابة من حديث الحرث بن أبى عبد الله بن أبى ربيعة أنه عليه الصلاة و السلام أتى بسارق فأمر بقطع يمينه منه والمخاطب بقوله سبحانه : فاقطعوا على مافى البحر الرسول صلى الله عليه و سلم أو ولاة الأمور كالسلطان ومن أذن له فى إقامة الحدود أو القضاة والحكام أو المؤمنون أقوال أربعة ولم تدرج السارقة فى السارق تغليبا كما هو المعروف فى أمثاله لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة فى الزجر جزاء نصب على أنه مفعول له أى قاطعوا للجزاء على أنه مصدر لاقطعوا من معناه أو لفعل مقدر من لفظه وجوز أن يكون حالا من فاعل اقطعوا مجازين لهما بما كسبا بسبب كسبهما أو ما كسباه من السرقة التى تباشر بالأيدى وقوله تعالى : نكالا مفعول له أيضا كما قال أكثر المعربين وقال السمين : منصوب كما نصب جزاءا واعترض الوجه الأول بأنه ليس بجيد لأن المفعول له لايتعدد بدون عطف واتباع لأنه على معنى اللام فيكون كتعلق حرفى جر بمعنى بعامل واحد وهو ممنوع ودفع بأن النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه وقال الحلبى وبعض المحققين : إنه إنما ترك العطف إشعارا بأن القطع للجزاء والجزاء للنكال والمنع عن المعاودة وعليه يكون مفعولا له متداخلا كالحال المتداخلة وبه أيضا يندفع الاعتراض وهو حسن وقال عصام الملة : إنما لم يعطف لأن العلة مجموعهما كما فى هذا خلو حامض والجزاء إشارة إلى أن فيه حق العبد والنكال إشارة إلى أن فيه حق الله تعالى ولايخفى مافيه فتأمل ونقل عن بعض النحاة أنه أجاز تعدد المفعول له بلا اتباع وحينئذ لايرد السؤال رأسا وقوله تعالى : من الله متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أى نكالا كائنا منه تعالى والله عزيز فى شرع الردع حكيم
18
- فى إيجاب القطع أو عزيز فى انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصى حكيم فى فرائضه وحدوده والاظهار فى مقام الاضمار لما مر غير مرة
ومن الغريب أنه نقل عن أبى رضى الله تعالى عنه قرأ والسرق والسرقة بترك الألف وتشديد الراء فقال ابن عطية : إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا فى المصحف بدون الألف وقيل : فى توجيهما أنهما جمع سارق وسارقة لكن قيل : إنه لم ينقل هذا الجمع فى جمع المؤنث فلو قيل : إنهما صيغة مبالغة لكان أقرب واعترض الملحد المعرى على وجوب قطع اليد بسرقة القليل فقال : يد بخمس مئين عسجد وديت مابالها قطعت فى ربع دينار تحكم : مالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار فأجابه ولله دره علم الدين السخاوى بقوله : عز الأمانة : أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة البارى وفى الأحكام لابن عربى أنه كان جزاء السارق فى شرع من قبلنا استرقاقه وقيل : كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة و السلام ونسخ فعلى الأول شرعنا ناسخ لما قبله وعلى الثانى مؤكد للنسخ فمن تاب من السراق إلى الله تعالى من بعد ظلمه الذى هو سرقته والتصريح بذلك لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته وأصلح أمره بالتفصى عن التبعات بأن يرد مال السرقة إن أمكن أو يستحل لنفسه من مالكه
(6/134)
أو يتفقه فى سبيل الله تعالى إن جهله وقيل : المعنى وفعل الفعل الصالح الجميل بأن استقام على التوبة كما هو المطلوب منه فان الله يتوب عليه يقبل توبته فلا يعذبه فى الآخرة وأما القطع فلا يسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه ويسقطه عند الشافعى رضى الله تعالى عنه فى أحد قوليه ولايخفى مافى هذه الجملة من ترغيب العاصى بالتوبة وأكد ذلك بقوله سبحانه : إن الله غفور رحيم
39
- وهو فى موضع التعليل لما قبله وفيه إشارة إلى أن قبول التوبة تفضل منه تعالى ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض الخطاب للنبى صلى الله عليه و سلم أو لكل أحد يصلح له واتصاله بما قبله على ماقاله الطبرسى : اتصال الحجاج والبيان عن صحة ماتقدم من الوعد والوعيد وقال شيخ الاسلام : المراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ماسيأتى من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أى ألم تعلم أن الله تعالى له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهما وفيما اشتملا عليه إيجادا وإعداما إحياءا وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته والجار والمجرور خبر مقدم ملك السموات مبتدأ والجملة خبر أن وهى مع مافى حيزها ساد ومسد مفعولى تعلم عند الجمهور وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وقوله تعالى : يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء إما تقرير لكون ملكوت السموات والارض له سبحانه وإما خبر آخر لأن وكان الظاهر لحديث سبقت رحمتى غضبى تقديم المغفرة على التعذيب وإنما عكس هنا لأن التعذيب للمصر على السرقة والمغفرة للتائب منها وقد قدمت السرقة فى الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق أو لأن المراد بالتعذيب القطع وبالمغفرة التجاوز عن حق الله تعالى والأول فى الدنيا والثانى فى الآخرة فجىء به على ترتيب الوجود أو لأن المقام مقام الوعيد أو لأن المقصود وصفه تعالى بالقدرة والقدرة فى تعذيب من يشاء أظهر من القدرة فى مغفرته لأنه لاإباء فى المغفرة من المغفور وفى التعذيب إباء بين والله على كل شىء قدير
40
- فيقدر على ماذكر من التعذيب والمغفرة والجملة تذييل مقرر لمضمون ماقبلها ووجه الاظهار كالنهار ياأيها الرسول لايحزنك الذين يسارعون فى الكفر خوطب صلى الله عليه و سلم بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن والمراد بالمسارعة فىالشىء الوقوع فيه بسرعة ورغبة وإيثار كلمة فى على إلى للايذان بأنهم مستقرون فى الكفر لايبرحون وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها كإظهار موالاة المشركين وإبراز آثار الكيد للاسلام ونحو ذلك
والتعبير عنهم بالموصول للاشارة فى حيز صلته إلى مدار الحزن وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه صلى الله عليه و سلم بمسار عنهم فى الكفر لكنه فى الحقيقة نهى له عليه الصلاة و السلام عن التأثر من ذلك والمبالاة والغرض منه مجرد التسلية على أبلغ وجه وآكده فان النهى عن أسباب الشىء ومباديه المؤدية اليه نهى عنه بالطريق البرهانى وقطع له من أصله
وقرىء يحزنك بضم الياء وكسر الزى من أحزن وهى لغة وقرىء يسرعون يقال أسرع فيه الشيب أى وقع فيه سريعا أى لاتحزن ولاتبال بتهافتهم فى الكفر بسرعة حذرا كما قيل من شرهم وموالاتهم للمشركين
(6/135)
فان الله تعالى ناصرك عليهم أو شفقة عليهم حيث لم يوفقوا للهداية فان الله تعالى يهدى من يشاء ويضل من يشاء من الذين قالوا امنا بأفواههم بيان للمسارعين فى الكفر وقال أبو البقاء : إنه متعلق بمحذوف وقع حلا من فاعل يسارعون أو من الموصول أى كائنين من الذين الخ والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا لظهور فساده وتعلقها به عى معنى بذى أفواهم أى يؤمنون بما يتفوهون به من غير أن تلتف به قلوبهم مما لاينبغى أن يلتفت اليه من له أدنى تمييز ولم تؤمن قلوبهم جملة حالية من ضمير قالوا وقيل : عطف على قالوا وقوله سبحانه وتعالى : ومن الذيم هادوا عطف على من الذين قالوا وبه تم تقسيم المسارعين إلى قسمين : منافقين ويهود فقوله سبحانه وتعالى سماعون للكذب خبر مبتدأ محذوف أى هم سماعون والضمير للفريقين أو للذين يسارعون وجوز أن يكون للذين هادوا واعترض بأنه مخل بعموم الوعيد الآتى ومباديه للكل كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى وكذا جعل غير واحد ومن الذين الخ خبرا على أن سماعون صفة لمبتدأ محذوف أى ومنهم قوم سماعون لأدائه إلى اختصاص ماعدد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والآخروية بهم على أنه قد قرىء سماعين بالنصب على الذم وهو ظاهر فى أرجحية العطف فالوجه ذلك واللام للتقوية كما فى قوله تعالى : فعال لما يريد وقيل : لتضمين السماع معنى القبول أى قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام وتحريف كتابه واعترضه الشهاب بأن هذا يقتضى أنه إنما فسر بالقبول ليعديه اللام
وقد قال الزجاج : يقال : لاتسمع من فلان أى لاتقبل ومنه سمع الله لمن حمده أى تقبل منه حمده وكلام الجوهرى يخالفه أيضا ويقتضى أنه ليس مبنيا على التضمين وقال عصام الملة : إن القبول أيضا متعد بنفسه ففى القاموس : قبله كعمله وتقبله بمعنى أخذه نعم يتعدى السماع بمعنى القبول باللام بمعنى من كما فى سمع الله لمن حمده أى قبل الله تعالى ممن حمده لكن هذه اللام تدخل على المسموع منه لا المسموع
وجوز أن تكون اللام للعلة والمفعول محذوف أى سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه بأن يمسخوه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير أو كلام الناس الدائر فيما بينهم ليكذبوا بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم أو نحو ذلك مما فيه ضرر بهم وأياما كان فالجملة مستأنفة جارية على ماقيل مجرى التعليل للنهى أو مسوقة لمجرد الذم كما يقتضيه قراءة النصب وقوله تعالى شأنه : سماعون لقوم اخرين لم يأتوك خبر ثان للمبتدأ المقدر للأول ومبين لما هو المراد بالكذب على تقدير التقوية والتضمين واللام هنا مثلها فى سمع الله لمن حمده والمعنى مبالغون فى قبول كلام قوم آخرين واختاره شيخ الاسلام
وجوز كونها لام التعليل أى سماعون كلامه صلى الله عليه و سلم الصادر منه ليكذبوا عليه لأجل قوم آخرين والمراد أنهم عليه الصلاة و السلام لأولئك القوم ورى ذلك عن الحسن والزجاج واختاره أبو على الجبائى وليس فى النظم ما يأباه ولا بعد فيه نعم ماقيل : من أنه يجوز أن تتعلق اللام بالكذب على أن سماعون الثانى مكرر للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقوم آخرين بعيد و آخرين صفة لقوم وجملة لم يأتوك صفة أخرى والمعنى لم يحضروا عندك وقيل : هو كناية عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا اليك وفيه دلالة على شدة بغضهم له وفرط عدواتهم واحتمال كونها صفة
(6/136)
سماعون أى سماعون لم يقصدوك بالاتيان بل قصدوا السماع للانهاء إلى قوم آخرين مما لاينبغى أن يلتفت اليه وقوله سبحانه وتعالى : يحرفون الكلام من بعد مواضعه صفة أخرى لقوم وصفوا أولا بمغايرتهم للسماعين تنبيها على استقلالهم وأصالتهم فى الرأى ثم بعدم حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم إيذانا بكمال طغيانهم فى الضلال أو بعدم قدرتهم على النظر اليه الصلاة والسلام إيذانا بما تقدم ثم باستمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم فى العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى وتعيينا للكذب الذى سمعه السماعون على بعض الوجوه كما هو الظاهر وقيل : الجملة مستأنفة لامحل لها من الاعراب ناعية عليهم شنائعهم وقيل : خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم وقيل : إلى الفريقين والمعنى يميلون ويزيلون التوراة أو كلام الرسول صلى الله عليه و سلم أو كليهما أو مطلق الكلم فى قول عن المواضع التى وضع ذلك فيها إما لفظا بإهماله أو تغيير وضعه وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه فى غير مورده
ومن هنا يعلم توجيه قوله تعالى : من بعد مواضعه دون عن مواضعه وقال عصام الملة : إن إدراج لفظ بعد للتنبيه على تنزيل الكلم منزلة هى أدنى مما وضعت فيه لأنه إبطال النافع بالضار لا بالنافع أو الانفع فكأن المحرف واقف فى موضع هو أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه ولايخفى بعده وقال بعضهم : إن من للابتداء ولفظ بعد للإشارة إلى ان التحريف مما بعد إلى موضع أبعد وفيه من المبالغة فى التشنيع مالايخفى وقرأ إبراهيم يحرفون الكلام عن مواضعه وقوله سبحانه وتعالى : يقولون كالجملة السابقة فى الوجوه ويجوز أن تكون حالا من ضمير يحرفون وجوز كونها كالتى قبلها صفة لسماعون أو حالا من الضمير فيه وتعقبه شيخ الاسلام بأنه مما لاسبيل اليه أصلا كيف لو أن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لايحضر مجلس الرسول صلى الله عليه و سلم والمخاطب به ممن يحضره فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون اليه عليه الصلاة و السلام لمن لايحوم حول حضرته قطعا وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر محل بجزالة النظم الكريم فالحق الذى لامحيد عنه وعليه درج غالب المفسرين أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أى يقولون لأتباعهم السماعين لهم إن اوتيتم من جهة الرسول صلى الله عليه و سلم كما هو الظاهر هذا فخذوه واعلموا بموجبه فانه موافق للحق وإن لم تؤتوه من جهته بل أوتيتم غيره فاحذروا قبوله وإياكم وإياه أو فاحذروا رسول الله صلى الله عليه و سلم وفى ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة والتحذير ما لايخفى أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال : إن طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى فى الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم رسول صلى الله عليه و سلم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ لم يظهر عليهم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا وأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان هذا فى حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم
(6/137)
لنا وقوة منكم فأما قدم محمد صلى الله عليه و سلم فلانعطيكم ذلك فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول صلى الله عليه و سلم بينهما ففكرت العزيزة فقالت : والله مامحمد بمعطيكم منهم ضعف مايعطيهم منكم ولقد صدقوا ماأعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم فدسوا إلى محمد صلى الله عليه و سلم من يخبر لكم رأيه فان أعطاكم ماتريدون حكمتموه وإن لم يعطكموه حذرتموه فلم تحكموه فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر الله تعالى رسوله عليه الصلاة ورسوله بأمرهم كله وماذا أرادوا فأنزل ياأيها الرسول الآية وعلى هذا يكون أمر التحريف غير ظاهر الدخول فى القصة
وأخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر والبيهقى فى سننه عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أن أحبار يهود اجتمعوا فى بيت المدراس حين قدم النبى صلى الله عليه و سلم المدينة وقد زنى رجل بعد إحصانه بامرأة من يهود وقد أحصنت فقالوا : ابعثوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلى الله عليه و سلم فاسألوه كيف الحكم فيهما وولوه الحكم فيهما فان عمل فيها عملكم من التجبية وهى الجلد بحبل من ليف مطلى بقار ثم تسود وجوههما ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار فاتبعوه فانما هو ملك سيد قوم وإن حكم فيهما بغيره فانه نبى فاحذروه على مافى أيديكم أن يسلبكم إياه فاتوه فقالوا : يا محمد هذا رجل قد زنى بعد احصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما فقد وليناك الحكم فيهما فمشى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتى أحبارهم فى بيت المدراس فقال : يامعشر يهود أخرجوا إلى علماءكم فأخرجوا اليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهوذا فقالوا : هؤلاء علماؤنا فسألهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم حصل أمرهم إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقى بالتوراة فخلا به رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا فألظ به رسول الله صلى الله عليه و سلم المسألة يقول : ياابن صوريا أنشدك الله تعالى وأذكرك أيامه عند بنى إسرائيل هل تعلم أن الله تعالى حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم فى التوراة فقال : اللهم نعم أما والله ياأبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبى مرسل ولكنهم يحسدونك فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى ياأيها الرسول الخ
وأخرج الحميدى فى مسنده وأبو داود وابن ماجه عن جابر بن عبد الله أنه قال : زنى رجل من أهل فدك فكتبوا إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا صلى الله عليه و سلم عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه فسألوه عن ذلك فقال : إرسلوا إلى أعلم رجلين منكم فجاءوا برجل أعور يقال له ابن صوريا وآخر فقال النبى صلى الله عليه و سلم لهما : أليس عندكما التوراة فيها حكم الله تعالى قالا : بلى قال : فأنشدكم بالذى فلق البحر لبنى إسرائيل وظلل عليكم الغمام ونجاكم من آل فرعون وأنزل التوراة على موسى عليه السلام وأنزل المن السلوى على بنى إسرائيل ماتجدون فى التوراة فى شأن الرجم فقال أحدهما للآخر : ماأنشدت بمثله قط قالا : نجد ترداد النظر ريبة والاعتناق ريبة والقبل ريبة فاذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدى ويعيد كما يدخل الميل فى المكحلة فقد وجب الرجم فقال النبى صلى الله عليه و سلم فهو كذلك فأمر به فرجم
(6/138)
وفى جريان الاحصان الشرعى الموجب للرجم فى الكافر ماهو مذكور فى الفروع ولعل هذا عند من يشترط الإسلام كالإمام أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه كان على اعتبار شريعة موسى عليه الصلاة السلام أو كان قبل نزول الجزية فليتدبر ومن يرد الله فتنته أى عذابه كما روى الحسن وقتادة واختاره الجبائى وأبو مسلم أو إهلاكه كما روى عن السدى والضحاك أو خزيه وفضيحته بإظهار ماينطوى عليه كما نقل عن الزجاج أو اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدفع ذلك ويحرفه كما قيل وليس بشىء والمراد العموم ويندرج فيه المذكورون اندراجا أوليا وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بظهوره واستغنائه عن الذكر فلن تملك له فلن تستطيع من الله شيئا فى دفع تلك الفتنة والفاء جوابية من الله متعلق بتملك أو بمحذوف وقع حالا من شيئا لأنه صفته فى الأصل أى شيئا كائنا من لطف الله تعالى أو بدل الله عز اسمه شيئا مفعول به لتملك وجوز بعض المعربين أن يكون مفعولا مطلقا والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها أو مبينة لعدم إنفكاك أولئك عن القبائح المذكورة أبدا أولئك أى المذكورون من المنافقين واليهود ما فى اسم الإشارة من معنى البعد لما مرت الاشارة إليه مرارا وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من رجس الكفر وخبث الضلالة والجملة استنئنافية مبنية لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضى لها لا واقعة منه سبحانه ابتداءا وفيها كالتى قبلها على أحد التفاسير دليل على فساد قول المعتزلة : إن الشرور ليست بإرادة الله تعالى وإنما هى من العباد وقول بعضهم : إن المراد لم يرد تطهير قلوبهم من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب أو لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها بأنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان كما قال البلخى لايقدم عليه من له أدنى ذوق بأساليب الكلام
ومن العجيب أن الزمخشرى لما رأى ماذكر مذهبه قال : معنى من يرد الله فتنته من يرد تركه مفتونا وخذلانه فلن تملك له من الله شيئا فلن تستطيع له من لطف الله تعالى وتوفيقه شيئا ومعنى لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لم يرد أن يمنحهم ألطافه مايطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أن ذلك لاينجع فيهم ولاينفع انتهى
وقد تعقبه ابن المنير بقوله : كم يتلجلج والحق أبلج وهذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة فى أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر لا كما تزعم المعتزلة من أن الله تعالى ماأراد الفتنة من أحد وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته سبحانه وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع فحسبهم هذه الآية وأمثالها لو أراد الله تعالى أن يطهر قلوبهم من وضر البدع أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وما أشنع صرف الزمخشرى هذه الآية عن ظاهرها بقوله : لم يرد الله تعالى أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن ألطافه لاتنجع تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع فلطف من ينفع ! وإرادة من تنجع ! وليس وراء الله للعبد مطمع
انتهى وتفصيهم عن ذلك عسير لهم فى الدنيا خزى أما المنافقون فخذيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم بين المسلمين وازدياد غمهم بمزيد انتشار الاسلام وقوة شوكته وعلو كلمته وأما خزى اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم فى كتمان نص التوراة وإجلاء بنى النضير من ديارهم وتنكير خزى للتفخيم وهو مبتدأ و لهم خبره و فى الدنيا متعلق بما تعلق
(6/139)
به الخبر من الاستقرار والجملة استئناف مبنى على سؤال نشأ من أحوالهم الموجبة للعقاب كأنه قيل : فمالهم على ذلك من العقوبة فقيل : لهم فى الدنيا خزى وكذا الحال فى قوله تعالى : ولهم فى الآخرة أى مع الخزى الدنيوى عذاب عظيم
41
- لايقادر قدره وهو الخلود فى النار مع ماأعد لهم فيها وضمير لهم فى الجملتين لأولئك من المنافقين واليهود جميعا وقيل : لهم ان استأنفت بقوله سبحانه : ومن الذين هادوا وإلا فللفريقين والتكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد ولذلك كرر قوله سبحانه : سماعون للكذب وقيل : إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى : لهم فى الدنيا خزى الخ أو توطئة لما بعدجه أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة وفيما مر مايفتريه الأحبار ويؤيده الفصل بينهما
أكلون للسحت أى الحرام من سحته إذا استأصله وسمى الحرام سحتا عند الزجاج لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار وقال الجبائى : لأنه لابركة لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبا وقال الخليل : لأن فى طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة الانسان والمراد به هنا على المشهور الرشوة فى الحكم وروى ذلك عن ابن عباس والحسن
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به قيل : يا رسول الله وماالسحت قال : الرشوة فى الحكم وأخرج عبدالرزاق عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هدايا الأمراء سحت وأخرج البن المنذر عن مسروق قال : قلت لعمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه : أرأيت الرشوة فى الحكم أمن السحت هى قال : لا ولكن كفر إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضى حاجته حتى يهدى اليه هدية وأخرج عبد بن حميد عن على كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السحت فقال : الرشا فقيل له فى الحكم قال : ذاك الكفر وأخرج البيهقى فى سننه عن ابن مسعود نحو ذلك وأخرج ابن مردويه والدليمى عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ست خصال من السحت رشوة الامام وهى أخبث ذلك كله وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغى وكسب الحجام وحلوان الكاهن وعد ابن عباس رضى الله تعالى عنه فى رواية ابن منصور والبيهقى عنه أشياء أخر
قيل : ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر وجاء من طرق عن النبى صلى الله عليه و سلم لعن الراشى والمرتشى والرائش الذي يمشى بينهما
ولتفاقم الأمر فى هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة مولانا ظل الله تعالى على الخليقة ومجدد نظام رسوم الشريعة والحقيقة السلطان العدلى محمود خان لازال محاطا بأمان الله تعالى حيثما كان فى السنة الرابعة والخمسين بعد الألف والمائتين بمؤاخذة المرتشى وأخويه على أتم وجه وحد للهداية حدا لئلا يتوصل بها إلى الارتشاء كما يفعله اليوم كثير من الامراء فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضى الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ستكون من بعدى ولاة يستحلون الخمر والنبيذ والنجش بالصدقة والسحت بالهدية والقتل بالموعظة يقتلون البرىء ليوطئوا العامة يملى لهم فيزدادوا إثما
هذا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائى ويعقوب السحت بضمتين وهما لغتان كالعنق والعنق
(6/140)
وقرى ء السحت بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت كالصيد بمعنى الصيد و السحت بفتحتين و السحت بكسر السين فان جاءوك خطاب للنبى صلى الله عليه و سلم والفاء فصيحة أى إذا كان حالهم كما شرح فان جاءوك متحاكمين اليك فيما شجر بينهم من الخصومات فاحكم بينهم بما أراك الله تعالى أو اعرض عنهم غير مبال بهم ولامكترث وهذا كما ترى تخيير له صلى الله عليه و سلم بين الأمرين وهو معارض لقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وتحقيق المقام على ماذكر الجصاص فى كتاب الأحكام أن العلماء اختلفوا فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى وروى ذلك ابن عباس واليه ذهب أكثر السلف : قالوا : إنه صلى الله عليه و سلم كان أولا مخيرا ثم أمر عليه الصلاة و السلام بإجراء الأحكام عليهم ومثله لايقال من قبل الرأى وقيل : إن هذه الآية فيمن لم يعقد له ذمة والأخرى فى أهل الذمة فلانسخ وأثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجرى عليه أحكام الاسلام وروى هذا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه أيضا
وقال أصحابنا : أهل الذمة محمولون على أحكام الاسلام فى البيوع والمواريث وسائر العقود إلا فى بيع الخمر والخنزير فانهم يقرون عليه ويمنعون من الزنا كالمسلمين فانهم يقرون عليه ويمنعون من الزنا كالمسلمين فانهم نهوا عنه ولايرجمون لأنهم غير محصنين وخبر الرجم السابق سبق توجيهه واختلف فى مناكحتهم فقال أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه : يقرون عليها وخالفه فى بعض ذلك محمد وزفر وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضى بأحكامنا فمتى تراضوا بها وترافعوا الينا وجب إجراء الأحكام عليهم وتمام فى الفروع وإن تعرض عنهم بيان لحال الأمرين بعد تخييره صلى الله عليه و سلم بينهما وتقديم حال الاعراض للمسارعة إلى بيان أنه لاضرر فيه حيث كان مظنة لترتب العداوة المقتضية للتصدى للضرر فمآ ل المعنى إن تعرض عنهم ولم تحكم بينهم فعادوك وقصدوا ضررك فلن يضروك بسبب ذلك شيئا من الضرر فان الله تعالى يحفظك من ضررهم وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط أى بالعدل الذى أمرت به وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الاسلام وماروى عن على كرم الله تعالى وجهه من أنه قال : لو ثنيت لى الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الانجيل بإنجيلهم إن صح يراد منه لازم المعنى إن الله يحب المقسطين
42
- أى العادلين فيحفظهم عن كل مكروه ويعظم شأنهم وكيف يحكمونك وعندهم التوراة قيها حكم الله تعجيب من تحكيمهم من لايؤمنون به والحال أن الحكم منصوص عليه فى كتابهم الذى يدعون الإيمان به وتنبيه على أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق وإنما هو لطلب الأهون وإن يكن ذلك حكم الله تعالى بزعمهم فقوله سبحانه : وعندهم التوراة حال من فاعل يحكومنك وقوله تعالى : فيها حكم الله حال من التوراة إن جعلت مرتفعة بالظرف وكون ذلك ضعيفا لعدم اعتماد الظرف سهو لأنه معتمد كما قال السمين على ذى الحال لكن قال : جعل التوراة مرفوعا بالظرف المصدر بالواو محل نظر ولعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة أو أنه لايقرن بالواو وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن فى الخبر لأنه لايصح مجىء الحال من المبتدأ عن سيبويه
(6/141)
وقيل : استئناف مسوق لبيان أن عندهم مايغنيهم عن التحكيم وأنثت التوراة معاملة لها بعد التعريب معاملة الاسماء العربية الموازنة لها كموماة ودوداة ثم يتولون عطف على يحكمونك داخل فى حكم التعجيب لأنن التحكيم مع وجود مافيه الحق المعنى عن التحكيم وإن كان محلا للتعجب والاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب و ثم للتراخى فى الرتبة وجوز الأجهورى كون الجملة مستأنفة غير داخلة فى حكم التعجيب أى ثم هم يتولون أى عادتهم فيما إذا وضح لهم من الحق أن يعرضوا ويتولوا والأول أولى وقوله سبحانه : من بعد ذلك أى من بعد أن يحكمونك تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد والتعجب وقوله عز و جل : وما أولئك بالمؤمنين
43
- تذييل مقرر لفحوى ماقبله ووضع اسم الاشارة موضع ضميرهم قصدا إلى إحضارهم فى الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماءا إلى علة الحكم مع الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى انتظموا فى سلك الأمور المشاهدة أى وماأولئك الموصوفون بماذكر بالمؤنين بكتابهم لإعراضهم عنه المنبىء عن عدم الرضا القلبى به أولا وعن حكمك الموافق له ثانيا أو بك وبه وقيل : هذا إخبار عن أولئك اليهود أنهم لايؤمنون بالنبى صلى الله عليه و سلم وبحكمه أصلا
وقيل : المعنى وماأولئك بالكاملين تهكما بهم إنا أنزلنا التوراة كلام مستأنف سيق لتقرير مزيد فظاعة حال أوالئك اليهود ببيان علو شأن التوراة على أتم وجه فيها هدى أى إرشاد للناس إلى الحق ونور أى ضياء يكشف به ماتشابه عليهم وأظلم قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنه
وقال الزجاج : فيها هدى أى بيان للحكم الذى جاءوا يستفتون فيه النبى صلى الله عليه و سلم ونور أى بيان أن أمر النبى عليه الصلاة و السلام حق ولعل تعميم المهدى اليه كما فى كلام ابن عباس أولى ويندرج فيه اندراجا أوليا ماذكره الزجاج من الحكم وإطلاق النور على مافى التوراة مجاز ولعل إطلاقه على ذلك دون اطلاقه على القرآن بناءا على أن مقول بالتشكيك وقد يقال : إن اطلاقه على مابه بيان أمر النبى صلى الله عليه و سلم بناءا على ماقال الزجاج باعتبار كون الأمر المبين متعلقا بأول الأنوار الذى لولاه ماخلق الفلك الدوار صلى الله عليه و سلم وحينئذ يكون الفرق بين الاطلاقين مثل الصبح ظاهرا ولظرف خبر مقدم و هدى مبتدأ والجملة حال من التوراة أى كائنا فيها ذلك وكذا جملة يخكم بها النبيون فى قول إلا أنها حال مقدرة والأكثرون على أنها مستأنفة مبنية لرفعة رتبة التوراة وسمو طبقتها والمراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام على مارواه ابن أبى حاتم عن مقاتل وكان بين النبيين عليهما السلام ألف نبى
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلى الله عليه و سلم من قبله من أنبياء بنى إسرائيل عليهم السلام وعلى هذا بنى الاستدلال بالآية من قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا مالم ينسخ وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة والمراد يحكم بأحكامها النبيون الذين أسلموا صفة أجريت علىالنبيين كا قيل على سبيل المدح والظاهر لهم ونظر فيه ابن المنير بأن المدح إنما يكون غالبا بالصفات بالخاصة التى يتميز بها الممدوح عمن دونه والاسلام أمر عام يتناول أمم الانبياء ومتبعيهم كما يتناولهم ألا ترى أنه لايحسن فى مدح النبى صلى الله عليه و سلم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما فان أقل متبعيه كذلك ثم قال : فالوجه والله تعالى أعلم
(6/142)
أن الصفة قد تذكر لتعظم فى نفسها ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر كما تذكر تنويها بقدر موصوفها وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الانبياء عليهم السلام بالصلاح فى غير ماآية تنويها بقدار الصلاح إذ جعل صفة للأنبياء عليهم السلام وبعثا لآحاد الناس على الدأب فى تحصيل صفته وكذلك قيل فى قوله تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمده ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا فأخبر سبحانه عن الملائكة المقربين بالإيمان تعظيما لقدره وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين فى هذه الصفة وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا كيف لا ! اوهم عند ربهم كما فى الخبر ثم جل وعلا : ويستغفرون للذين آمنوا يعنى من البشر لثبوت حق الأخوة فى الايمان بين القبيلتين فلذلك والله تعالى أعلم جرى وصف الأنبياء فى هذه الاية بالاسلام تنويها به ولقد أحسن القائل : أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف وحسان الناظم فى مدحه عليه الصلاة و السلام بقوله : ماأن مدحت محمدا بمقالتى لكن مدحت مقالتى بمحمد والاسلام وإن كان من أشرف الأوصاف إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز فى حكمه إلا لأن النبوة أشرف وأجل لاشتمالها على عموم الاسلام مع خواص المواهب التى لاتسعها العبارة فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة فى ذكر الاسلام بعد النبوة لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف فى الكتاب العزيز وفى كلام العرب الفصيح وهو الترقى من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع فى قوله : شمس ضحاها هلال ليلتها در مقاصيرها زبر جدها فنزل عن الشمس إلى الهلال وعن الدر إلى الزبر جد فمضغت الالسن عرض بلاغته ومزقت أديم صنعته فعلينا أن نتدبر الآيات المعجزات حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها فى البلاغة المعهودة لها والله تعالى الموفق للصواب انتهى
وفى المفتاح : والتخليص إشارة إلى ماذكره وإيراد الطيبى عليه ماأورده غير طيب نعم قد يقال : إن القائل بكونها مادحة لمن جرت عليه نفسه قد يدعى أن ذلك مما لابأس به إذا قصد مع المدح فوائد أخر كالتنويه بعلو مرتبة المسلمين هنا والتعريض اليهود بأنهم بمعزل عن الاسلام على أنه قدر ورد فى الفصيح بل فى الأفصح ذكر غير الأبلغ من الصفات ومن ذلك الرحمن الرحيم حيث كان متضمنا نكتة وقال عصام الملة : إن الاسلام للنبى كمال المدح لأن الانقياد من المقتدى للخلائق التى لاتحصى وصف لاوصف فوقه ويمكن أن يكون الوصف به هنا إشعارا بمنشأ الحكم ليحافظ عليه الأمة ولايخرم ولا يتوهم أن الحكم للنبوة فغير النبى صلى الله عليه و سلم خارج عن هذا المسلك انتهى وفيه تأمل إذ للترقى من الادنى إلى الأعلى لم يظهر بعد ونهاية الأمر الرجوع إلى نحو ماتقدم فافهم للذين هادوا أى تابوا من الكفر كما قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنه والمراد بهم اليهود كما قال الحسن والجار إما متعلق بيحكم أى يحكمون فيما بينهم واللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم كأنه قيل : لأجل الذين هادوا وإما للايذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا باسقاط التبعة عنه وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض بالمحرفين وقيل : من باب سرابيل
(6/143)
تقيكم الحر وإما متعلق بأنزلنا ولعل الفاصل ليس بالأجنبى ليضر وقبل : بأنزل على صيغة المبنى للمفعول وحذف لدلالة الكلام عليه وتكون الجملة حينئذ معترضة وعلى هذا تكون الآية نصا فى تخصيص النبيين بأنبياء بنى اسرائيل لأنه لايلزم من انزالها لهم اختصاصها بهم وقيل : الجار متعلق بهدى ونور وفيه فصل بين المصدر ومعموله وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة لهما أى هدى ونور كائنان لهما وكلام الزجاج يحتمل هذا وما قبله والربانيون والأحبار أى العباد والعلماء قاله قتادة وقال مجاهد : الربانيون العلماء الفقهاء وهم فوق الاحبار وعن ابن زيد الربانيون الولاة والاحبار العلماء والواحد : حبر بالفتح والكسر قال الفراء : وأكثر ما سمعت فيه الكسر وهو مأخزذ من التحبير والتحسين فان العلماء يحبرون العلم ويزينونه ويبيونه ومن ذلك الحبر بكسر الحاء لاغير لما يكتب به وهذا عطف على النبيون أى هم أيضا يحكمون بأحكامها وتوسيط المحكوم لهم كما قال شيخ الاسلام بين المتاطفين للايذان بأن الأصل فى الحكم بها وحمل الناس على مافيها هم النبيون وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم فى ذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى : بما استحفظوا أى بالذى استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل علىالاطلاق ولاريب فى أن ذلك منهم عليهم السلام مشعر باستخلافهم فى اجراء أحكامها من غير إخلال بشىء منها والجار متعلق بيحكم و ما موصولة وضمير الجمع عائد إلى الربانيين والاحبار وقوله تعالى : من كتاب الله بيان لما وفى الابهام والبيان بذلك ملالايخفى من تفخيم أمر التوراة ذاتا وإضافة وفيه أيضا تأكيد إيجاب حفظها والعمل بما فيها والباء الداخلة عل الموصول سببية فلا يلزم تعلق حرفى جر متحدى المعنى بفعل واحد أى ويحكم الربانيون والاحبار أيضا بالتوراة بسبب ماحفظوه من كتاب الله حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه محفوظا فان تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لامحالة علىمافى حيز الصلة من الاستحفاظ له وتوهم بعضهم أن ما بمعنى أمر و من لتبيين مفعول محذوف لاستحفظوا والتقدير بسبب أمر استحفظوا به شيئا من كتاب الله وهو مما لاينبغى أن يخرج عليه كتاب الله تعالى وقيل : الأولى أن تجعل ما مصدرية ليستغنى عن تقدير العائد وحينئذ لايتأتى القول بأن من بيان لها ومن الناس من جوز كون بما بدلا من بها وأعيد الجار لطول الفصل وهو جائز أيضا وإن لم يطل ومنهم من أرجع الضمير المرفوع للنبيين ومن وعطف عليهم فالمستحفظ حينئذ هو الله تعالى وحديث الأنباء لايتأتى إذ ذاك وقيل : إن الربانيون فاعل بفعل محذوف والباء صلة له والجملة معطوفة على ماقبلها ويحكم الربانيون والاحبار بحكم كتاب الله تعالى الذى سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير وكانوا عليه شهداء عطف على استحفظوا ومعنى شهداء رقباء يحمونه من أن يحوم حول حماه التغيير والتبديل بوجه من الوجوه أو شهداء عليه أنه حق
ورجح على الأول بأنه يلزم عليه أن يكون الربانيون والاحبار رقباء على أنفسهم لايتركونها أن تغير وتحرف التوراة لأن المحرف لايكون إلا منهم لا من العامة وهو كماترى ليس فيه مزيد معنى وإرجاع ضمير كانوا للنبيين ممال ايكاد يجوز وقيل : عطف على يحكم المحذوف المراد منه حكاية الحال الماضية أى حكم الربانيون والاحبار بكتاب الله تعالى
(6/144)
وكانوا شهداء عليه ويجوز على هذا بلا خفاء ان تكون الشهادة مستعارة للبيان أى مبينين مايخفى منه وأمر التعدى بعلى سهل ولعل المراد به شىء وراء الحكم وقيل : الضمير المرفوع هنا كسابقه عائد على النبيين وماعطف عليه والعطف إما على استحفظوا أو على يحكم وتوهم عبارة البعض حيث قال وبسبب كونهم شهداء أن العطف على ما الموصولة فيؤول كانوا بالمصدر وكأن المقصود منه تلخيص المعنى لكون ماذكر ضعيفا فيما لايكون المعطوف عليه حدثا وأما العطف على كتاب الله بتقدير حرف مصدرى ليكون المطوف داخلا تحت الطلب فكما ترى وإرجاع ضمير عليه إلى حكم النبى صلى الله عليه و سلم بالرجم كما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه مما تأباه العربية فى بعض الاحتمالات وهو إن جاز عربية فى البعض الآخر لكنه خلاف الظاهر ولاقرينة عليه ولعل مراد الحبر بيان بعض ماتضمنه الكتاب الذى هم شهداء عليه وبالجملة احتمالات هذه الآية كثيرة فلا تخشوا الناس خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات كما روى عن ابن عباس رضى تعالى عنه والسدى والكلبى ويتناول النهى غير إولئك المخاطبين بطريق الدلالة والفاء لجواب الشرط محذوف أى إذا كان الشأن كما ذكر ياأيها الاحبار فلا تخشوا الناس كائنا من كان واقتدوا فى مراعاة أحكام التوراة وحفظها بمن قبلكم من النبيين والربانيين والأحبار ولاتعدلوا عن ذلك ولاتحرفوا خشية من أحد وأخشون فى ترك أمرى فان النفع والضر بيدى أو فى الإخلال بحقوق مراعاتها فضلا عن التعرض لها بسوء ولا تشتروا بآياتى أى لاتستبدلوا بآ ياتى التى فيها بأن تخرجوها منهها أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم ثمنا قليلا من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية فانها وإن جلت قليلة مسترذلة فى نفسها لاسيما بالنسبة إلى مايفوتهم بمخالفة الامر وذهب الحسن البصرى إلى أن الخطاب للمسلمين وهو الذى ينبىء عنه كلام الشعبى
وعن ابن مسعود وهو الوجه كما فى الكشاف أنه عام والفاء على الوجهين فصيحة أى وحين عرفتم ماكان عليه النبيون والأحبار وما تواطأ عليه الخلوف من أمر التحريف والتبديل للرشوة والخشية فلا تخشو الناس ولاتكونوا أمثال هؤلاء الخالفين والذى يقتضيه كلام بعض أئمة العربية أنها على الوجه فصيحة أيضا وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب فتذكر ومن لم يحكم بما أنزل الله من الأحكام فأولئك إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد فى سابقه باعتبار لفظها وهو مبتدأ خبره جملةقوله سبحانه : هم الكافرون
44
- ويجوز أن يكون هم ضمير فصل و الكافرون هو الخبر والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن ووجه الاستدلال بها أن كلمة من فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى فيدخل الفاسد المصدق أيضا لانه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى وأجيب بأن الآية متروكة الظاهر فان الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المرادبه هنا عمل القلب وهو التصديق ولانزاع فى كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى وأيضا إن المراد عموم النفى بحمل ما على الجنس ولاشك من لم يحكم بشىء مما أنزل الله تعالى لايكون إلا غير مصدق ولانزاع فى كفره وأيضا أخرج ابن منصور وأبو الشيخ
(6/145)
وابن مردويه عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : إنما أنزل الله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون فى اليهود خاصة وأخرج ابن جرير عن أبى صالح قال : الثلاث الآيات التى فى المائدة ومن لم يحكم بما أنزل الخ ليس فى أهل الإسلام منها شىء هى فى الكفار وأخرج ابن أبى حاتم عن عكرمة وابن جرير عن الضحاك نحو ذلك ولعل وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة فلانكارهم ذلك وصفوا بالكافرين ولو وضعهم الحكم فى غير موضعه وصفوا بالظالمين ولخروجهم عن الحق وصفوا بالفاسقين أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم وأحوالهم المنضمة إلى الامتناع عن الحكم فتارة كانوا على حال تقتضى الكفر وتارة على أخرى تقتضى الظلم أو الفسق وأخرج أبو حميد وغيره عن الشعبى أنه قال : الثلاث الآيات التى فى المائدة أولها لهذه الأمة والثانية فى اليهود والثالثة فى النصارى ويلزم على هذا أن يكون المؤمنون أسوأ حالا من اليهود والنصارى إلا أنه قيل : إن الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوه وتمرده فيه
ويؤيد ذلك ماأخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقى فى سننه عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال فى الكفر الواقع فى أولى الثلاث : إنه ليس بالكفر الذى تذهبون اليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة كفر دون كفر والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود وغيرهم وهو مخرج مخرج التغليظ أو يلتزم أحد الجوابين واختلاف الاوصاف لاختلاف الاعتبارات والمراد من الأخيرين منها الكفر أيضا عند بعض المحققين وذلك بحملهما على الفسق والظلم الكاملين وما أخرجه الحاكم وصححه وعبد الرزاق وابن جرير عن حذيفة رضى الله تعالى عنه أن الآيات الثلاث ذكرت عنده فقال رجل : إن هذا فى بنى إسرائيل فقال حذيفة : نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك يحتمل أن يكون ذلك ميلا منه إلى القول بالعموم ويحتمل أن يكون كما قيل : ميلا إلى القول بأن ذلك فى المسلمين وروى الأول عن على بن الحسين رضى الله تعالى عنهما إلا أنه قال : كفر ليس كفكر الشرك وفسق ليس كفسق الشرك وظلم ليس كظلم الشرك
هذا وقد تكلم بعض العارفين على مافى بعض هذه الآيات من الإشارة فقال : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله أى اتقوه سبحانه بتزكية نفوسكم من الأخلاق الذميمة وابتغوا اليه الوسيلة أى واطلبوا اليه تعالى الزلفى بتحليتها بالأخلاق المرضية وجاهدوا فى سبيله بمحو الصفات والفناء فى الذات لعلكم تفلحون أى لكى تفوزوا بالمطلوب وقيل : ابتغاء الوسيلة التقرب اليه بما سبق من إحسانه وعظيم رحمته وهو على حد قوله : أيا جود معن ناج معنا بحاجتى فليس إلى معن سواه شفيع إن الذين كفروا لو أن لهم مافى الارض أى مافى الجهة السفلية جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة الكبرى ماتقبل منهم لأنه سبب زيادة الحجاب والبعد ولاينجع ثمة إلا مافى الجهة العلوية من المعارف والحقائق النورية والسارق والسارقة أى المتناول من الأنفس والمتناولة من القوى النفسانية للشهوات التى حرمت عليها فاقطعوا أيديهما اى امنعوهما بحسم قدرتهما بسيف المجاهدة وسكين الرياضة جزاءا بما كسبا من تناول مالا يحل تناوله لها نكالا أى عقوبة من الله عز و جل سماعون للكذب ووساوس شيطان النفس سماعون لقوم آخرين وهم القوى النفسانية لم يأتوك أى ينقادوا لكم
(6/146)
أو سماعون لقوم يسنون السنن السيئة يحرفون الكلم وهى التعينات الآلهية من بعد مواضعه فيزيلونها عماهى من الدلالة على الوجوه الحقانى أو يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة كمن يؤول القرآن والاحاديث على وفق هوا وليس مانحن فيه من هذا القبيل كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادا لله تعالى وقصر مراده سبحانه على هذه التأويلات ونحن نبرأ إلى الله عز و جل من ذلك فانه كفر صريح وإنما نقول : المراد هو الظاهر وبه تعبد الله تعالى خلقه لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لايكاد يحيط بها نطاق الحصر يوشك أن يكون ماذكر بعضا منها ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا قال ابن عطاء : من يحجبه الله تعالى عن فوائد أوقاته لم يقدر أحد إيصاله اليه أولئك الين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم أى بالمراقبة والمراعاة وقال أو بكر الوراق : طهارة القلب فى شيئين : إخراج الحسد والغش وحسن الظن بجماعة المسلمين أكالون للسحت وهو ما يأكلونه بدينهم فان جاءوك فاحكم بينهم مداويا لدائهم إن رأيت التداوى سببا لشفائهم أو اعرض عنهم إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط أى داوهم على مايستحقون ويقتضيه دواءهم والكلام فى باقى الآيات ظاهر والله تعالى الموفق
وكتبنا عطف على أنزلنا التوراة والمعنى قدرنا وفرضنا عليهم أى على الذين هادوا وفى مصحف أبى وأنزلنا على بنى إسرائيل فيها أى فى التوراة والجار متعلق بكتبنا وقيل : بمحذوف وقع حالا أى فرضنا هذه الأمور مبينة فيها وقيل : صفة لمصدر محذوف أى كتبنا كتابة مبينة فيها
أن النفس بالنفس أى مأخوذة أو مقتولة أو مقتصة بها إذا قتلتها بغير حق ويقدر فى كل مما فى قوله تعالى : والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن مايناسبه كالفقء والجذع والصلم والقلع ومنهم من قدر الكون المطلق وقال : إنه مرادهم أى يستقر أخذها بالعين ونحو ذلك
وقرأ الكسائى : العين وماعطف عليه بالرفع ووجهه أبو على الفارسى بأن الكلام حينئذ جمل معطوفة على جملة أن النفس بالنفس لكن من حيث المعنى لامن حيث اللفظ فان معنى كتبنا عليهم أن النفس بالنفس فالجملة مندرجة تحت ماكتب على بنى إسرائيل وجعله ابن عطية على هذا القول من العطف على التوهم وهو غير مقيس وقيل : إنه محمول على الاستئناف بمعنى أن الجمل إسمية معطوفة على الجملة الفعلية ويكون هذا ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب فى التوراة وقيل إنه مندرج فيه أيضا على هذا والتقدير وكذلك العين بالعين الخ لتتوافق القراءتان
وقال الخطيب : لاعطف والاستئناف بمعناه المتبادر منه والكلام جواب سؤال كأنه قيل : ماحال غير النفس فقال سبحانه : العين بالعين الخ وقيل : إن العين وكذا سائر المرفوعات معطوفة على الضمير المرفوع المستتر فى الجار والمجرور الواقع خبرا والجار والمجرور بعدها حال مبينة للمعنى وضعف هذا بأنه يلزمه العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل ولاتأكيد وهو لايجوز عند البصريين إلا ضرورة واجيب بأنه مفصول تقديرا إذ أصله النفس مأخوذة أو مقتصة هى بالنفس إذ الضمير مستتر فى المتعلق المقدم على الجار والمجرور بحسب الأصل وإنما تأخر بعد الحذف وانتقاله إلى الظرف كذا قيل وهو يقتضى
(6/147)
أن الفصل المقدر يكفى للعطف وفيه نظر ويقدر المتعلق على هذا عاما ليصح العطف إذ لو قدر النفس مقتولة بالنفس والعين لم يستقم المعنى كما لايخفى فليفهم
واعلم أن النفس فى كلامهم إذا أريد منها الإنسان بعينه مذكر ويقال : ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص وإذا أريد بها الروح فهى مؤنثة لاغير وتصغيرها نفيسة لاغير والعين بمعنى الجارحة المخصوصة مؤنثة وإطلاق القول بالتأنيث لايظهر له وجه إذ لايصح أن يقال : هذه عين هؤلاء الرجال وأنت تريد الخيار والأذن مثالها والأنف مذكر لاغير والسن تؤنث ولاتذكر وإن كانت السن من الكبر لكن ذكر ابن الشحنة أن السن تطلق على الضرس والناب وقد نصوا على أنهما مذكران وكذا الناجذ والضاحك والعارض ونص ابن عصفور على أن الضرس يجوز فيه الأمران ونظم مايجوز فيه ذلك بقوله : وهاك من الأعضاء ماقد عددته تؤنث أحيانا وحينا تذكر لسان الفتى والإبط والعنق والقفا وعاققه والمتن والضرس وعندى الذراع وإكراع مع المعى وعجز الفتى ثم القريض المحبر كذا كل نحوى حكى فى كتابه سوى سيبويه وهو فيهم مكبر يرى أن تأنيث الذراع هو الذى أتى وهو للتذكير فى ذاك منكر وقد شاع أن مامنه اثنان فى البدن كاليد والضلع والرجل مؤنث ومامنه واحد كالرأس والفم والبطن مذكر وليس ذاك بمطرد فان الحاجب والصدغ والخد والمرفق والزند كل منها مذكر مع ان البدن منه اثنين والكبد والكرش فانهما مؤنثان وليس منهما فى البدن إلا واحد وتفصيل مايذكر ولا يؤنث ومايؤنث ولايذكر من الاعضاء يفضى إلى بسط يد المقال والكف أولى بمقتضى الحال هذا والجروح قصاص بالنصب عطف على اسم إن وقصاص هو الخبر ولكونه مصدرا كالقتال وليس عين المخبر عنه يؤول بأحد التأويلات المعروفة فى أمثاله والكسائى كما قرأ بالرفع فيما قبل قرأ به هنا أيضا وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وإن نصبوا فيما تقدم رفعوا هنا على أنه إجمال لحكم الجراح بعد مافصل حكم غيرها من الاعضاء وهذا الحكم فيما إذا كانت بحيث تعرف المساواة كما فصل فى الكتب الفقهية واستدل بعموم أن النفس بالنفس من قال : يقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد والرجل بالمرأة ومن خالف استدل بقوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى وبقوله صلى الله عليه و سلم : لايقتل مؤمن بكافر وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفى ماعداه والمراد بماروى الحربى لسياقه ولاذو عهد فى عهده والعطف يقتضى المغايرة وقد روى أنه عليه الصلاة و السلام قتل مسلما بذمى وذكر ابن الفرس أن الآية فى الأحرار المسلمين لأن اليهود المكتوب عليهم ذلك فى التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر وكانوا كلهم أحرار لاعبيد فيهم لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبى صلى الله عليه و سلم من بين سائر الأنبياء لأن الاستعباد من الغنائم ولم تحل لغيره عليه الصلاة و السلام وعقد الذمة لبقاء الكفار ولم يقع ذلك فى عهد نبى بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب وأخر ذلك فى هذه الأمة رحمة انتهى
(6/148)
وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر فى العموم لكن لم يبقوه على ذلك فقد قال الأصحاب : لايقتل المسلم بالمستأمن ولا الذمى به لأنه غير محقون الدم على التأبيد وكذا كفره باعث على الحراب لأنه على قصد الرجوع ولا المستأمن بالمستأمن استحسانا لقيام المبيح ويقتل قياسا للمساواة ولا الرجل بابنه لقوله صلى الله عليه و سلم : لايقاد الوالد بولده وهو باطلاقه حجة على مالك فى قوله : يقاد إذا ذبحه ذبحا ولأنه سبب لإحيائه فمن المحال أن يستحق له إفناؤه ولهذا لايجوز له قتله وإن وجده فى صف الأعداء مقاتلا أو أو زانيا وهو محصن والقصاص يستحقه أولا ثم يخلفه وارثه والجد من قبل الرجال والنساء وإن علا فى هذا بمنزلة الأب وكذا الوالدة والجدة من قبل الأم أو الأب قربت أو بعدت لما بيبنا ولا الرجل بعبده ولادمدبره ولامدبره مكاتبه ولابعبد ولده لأنه لايستوجب لنفسه القصاص ولاولده عليه وكذا لايقتل بعبد ملك بعضه لأن القصاص لايتجزأ فليفهم واستدل بها على ماروى عن الامام أحمد رضى الله تعالى عنه من أنه لايقتل الجماعة بالواحد لقوله تعالى فيها : أن النفس بالنفس بالافراد وأجيب بأن حكمة القصاص وهو صون الدماء والأحياء اقتضت القتل وصرف الآية عما ذكر فانه لوكان كذلك قتلوا مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص وحينئذ تهدر الدماء ويكثر الفساد كذا قيل فمن تصدق أى من المستحقين للقصاص به أى بالقصاص أى فمن عفا عنه والتعبير عن ذلك بالتصدق للمبالغة فى الترغيب فهو أى التصدق المذكور كفارة له للمتصدق كما أخرجه ابن أبى شيبة عن الشعبى وعليه أكثر المفسرين وأخرج الديلمى عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ الآية فقال : هو الرجل يكسر سنه أو يخرج من جسده فيعفو فيحط عنه من خطاياه بقدر ما عفا عنه من جسده إن كان نصف الدية فنصف خطاياه وإن كان ربع الدية فربع خطاياه وإن كان ثلث الدية فثلث خطاياه وإن كان الدية كلها خطاياه كلها
ولأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عدى بن ثابت أن رجلا هتم فم رجل على عهد معاوية رضى الله تعالى عنه فأعطى دية فأبى إلا أن يقتص فأعطى ديتين فأبى فأعطى ثلاثا فحدث رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه و سلم عن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال : من تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد الى يوم يموت وقيل : الضمير عائد إلى الجانى وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن جرير ومجاهد وجابر فيما أخرجه عنهما ابن أبى شيبة ومعنى كون ذلك كفارة له على هذا التقدير أنه يسقط به مالزمه ويتعين عليه أن يكون خبر المبتدأ مجموع الشرط والجزاء حيث لم يكن العائد إلا فى الشرط واليه ذهب العلامة الثانى وقيل : إن فى الجزاء عائدا أيضا باعتبار أن هو بمعنى تصدقه فيشتمل بحسب المعنى على ضمير المبتدأ فالتعين ليس بمسلم وقال بعضهم إنه يحتمل أن يكون معنى الآية أن كل من تصدق واعترف بما يجب عليه من القصاص وانقاد له فهو كفارة لما جناه من الذنب ويلائمه كل الملاءمة قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون فضمير له حينئذ عائد إلى المتصدق مرادا به الجانى نفسه وفيه بعد ظاهر وقرأ أبى فهو كفارته له فالضمير المرفوع حينئذ للمتصدق لا للتصدق وكذا الضميران المجروران والاضافة للاختصاص واللام مؤكدة لذلك أى فالمتصدق كفارته التى يستحقها بالتصدق له لاينقص منها شىء لأن بعض الشىء لايكون ذلك الشىء وهو تعظيم لما فعل حيث جعل مقتضيا للاستحقاق اللائق من غير نقصان وفيه ترغيب فىالعفو والآية نزلت كما قال غير واحد لما اصطلح اليهود على أن
(6/149)
لايقتلوا الشريف بالوضيع والرجل بالمرأة فلم ينصفوا المظلوم من الظالم وعن السيد السند أن القصاص كان فى شريعتهم متعينا عليهم فيكون التصدق مما زيد فى شريعتنا وقال الضحاك لم يجعل فى التوراة دية فى نفس ولاجرح وإنما كان العفو أو القصاص وهو الذى يقتضيه ظاهر الآية وقفينا على اثارهم شروع فى بيان أحكام الانجيل كما قيل إثر بيان أحكام التوراة وهو عطف على أنزلنا التوراة وضمير الجمع المجرور للنبيين الذين أسلموا كما قاله أكثر المفسرين واختاره على بن عيس والبلخى وقيل : للذين فرض عليهم الحكم الذى مضى ذكره وحكى ذلك عن الجبائى وليس بالمختار والتقفية الاتباع ويقال : قفا فلان إثر فلان إذا تبعه وقفيته بفلان إذا أتبعته اياه والتقدير هنا أتبعناهم على آثارهم بعيسى ابن مريم فالفعل كما قيل : متعد لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء والمفعول الأول محذوف و على آثارهم كالساد مسده لأنه إذا قفا به على آثارهم فقد قفاهم به واعترض بأن الفعل قبل التضعيف كان متعديا إلى واحد وتعدية المتعدى إلى واحد لثان بالباء لاتجوز سواء كان بالهمزة أو التضعيف ورد بأن الصواب أنه جائز لكنه قليل وقد جاء منه ألفاظ قالوا : صك الحجر الحجر وصككت الحجر بالحجر ودفع زيد عمرا ودفعت زيدا بعمر أى جعلته دافعا له
وذهب بعض المحققين إلى أن التضعيف فيما نحن فيه ليس للتعدية وأن تعلق الجار بالفعل لتضمينه معنى المجىء أى جئنا بعيسى ابن مريم على آثارهم قافيا لهم فهو متعد لواحد لاغير بالباء وحاصل المعنى أرسلنا عيسى عليه السلام عقيبهم مصدقا لما بين يديه من التوراة حال من عيسى مؤكدة فان ذلك من لازم الرسول عليه الصلاة و السلام وإتيناه الانجيل عطف على قفينا وقرأ الحسن بفتح الهمزة ووجه صحة ذلك أنه اسم أعجمى فلا بأس بان يكون على ماليس فى أوزان العرب وهو بأفعيل أو فعليل بالفتح وإما إفعيل بالكسر فله نظائر كإبزيم وإحليل وغير ذلك فيه هدى ونور كما فى التوراة والجملة فى موضع النصب على انها حال من الإنجيل وقوله تعالى : ومصدقا لما بين يديه من التوراة عطف على الحال وهو حال أيضا وعطف الحال المفردة على الجملة الحالية وعكسه جائز لتأويلها بمفرد وتكرير هذا لزيادة التقرير ووقوله عز و جل : وهدى وموعظة للمتقين
46
- عطف على ماتقدم منتظم معه فى سلك الحالية وجعل كله هدى بعد ماجعل مشتملا عليه مبالغة فى التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبينا صلى الله عليه و سلم أظهر وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه وجوز نصب هدى وموعظة على المفعول لها عطفا على مفعول له آخر مقدر أى اثباتا لنبوته وهدى الخ ويجوز أن يكونا معللين لفعل محذوف عامل فيه أى وهدى وموعظة للمتقين آتيناه ذلك وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعلموا بما فيه من الأمور التى من جملتها دلائل رسالته صلى الله عليه و سلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله تعالى بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ماينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها وأن أحكامه ماقررته تلك الشريعة التى تشهد بصحتها كما قرر شيخ الاسلام قدس سره واختار كونه أمرا
(6/150)
مبتدأ الجبائى وقيل : هو حكاية للامر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على آتيناه أى وقلنا ليحكم أهل الإنجيل وحذف القول لدلالة ماقبله عليه كثير فى الكلام ومنه قوله تعالى : والملائكة يدخلون عليه من كل باب سلام عليكم واختار ذلك على بن عيسى
وقرأ حمزة وليحكم بلام الجر ونصب الفعل بأن مضمرة والمصدر معطوف على هدى وموعظة على تقدير كونهما معللين وأظهرت اللام فيه لاختلاف الفاعل فان فاعل الفعل المقدر ضمير الله تعالى وفاعل هذا أهل الكتاب وهو متعلق بمحذوف على الوجه الأول فى هدى وموعظة أى وآتيناه ليحكم الخ وإنما لم يعطف لعدم صحة عطف العلة على الحال ومنهم من جوز العطف بناءا على أن الحال هنا فى معنى العلة وهو ضعيف وقدر بعضهم فى الكلام على تقدير التعليل عليه متعلقا بأنزل ليصح كونه علة لايتاء عيسى عليه الصلاة و السلام ماذكر
وعن أبى على أنه قرأ وأن ليحكم على أن أن موصولة بالأمر كما فى قولك : أمرته بأن قم ومعنى الوصل أن أن تتم بما بعدها جزء كلام كالذى وأخواته ووصل أن المصدرية بفعل الأمر مما تكرر القول به فى الكشاف وذكر فيه نقلا عن سيبويه وقدر هنا أمرنا كأنه قيل : وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم وأورد على سيبويه مادقق صاحب الكشف فى الجواب عنه وأتى بما يندفع به كثير من الأسئلة على أن المصدرية والتفسيرية ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون
47
- أى المتمردون الخارجون عن حكمه أو عن الايمان وقد مر تحقيقه والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر والآية تدل على أن الانجيل مشتمل على الأحكام وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لابما فى التوراة خاصة ويشهد لذلك أيضا حديث البخارى أعطى أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الانجيل الانجيل فعملوا به وخالف فى ذلك بعض الفضلاء ففى الملل والنحل للشهرستانى جميع بنى اسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام مكلفين التزام أحكام التوراة والانجيل النازل على المسيح عليه السلام لايحتضن أحكاما ولايستبطن حلالا وحراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ولهذا لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى عليه الصلاة و السلام وحمل المخالف هذه الآية على وليحكموا بما أنزل الله تعالى فيه من ايجاب العمل بأحكام التوراة وهو خلاف الظاهر كتخصيص ماأنزل فيه نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم
وأنزلنا إليك الكتاب أى الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الاطلاق لتفوقه على سائر الكتب السماوية وهو القرآن ةالعظيم فاللام للعهد والجملة عطف على أنزلنا وما عطف عليه وقوله تعالى : بالحق حال مؤكدة من الكتاب أى متلبسا بالحق والصدق وجوز أن يكون حالا من فاعل أنزلنا وقيل : حال من الكاف فى إليك وقوله تعالى : مصدقا لما بين يديه حال من الكتاب أى حال كونه مصدقا لما تقدمه وقد تقدم الكلام فى كيفية تصديقه لذلك وزعم أبو البقاء عدم جواز كونه حالا مما ذكر إذ لايكون حالان لعامل واحد وأجب كونه حالا من الضمير المستكن فى الجار والمجرور قبله وقوله سبحانه : من الكتاب بيان لما واللام فيه للجنس بناءا على ادعاء أن ماعدا الكتب
(6/151)
السماوية ليست كتابا بالنسبة اليها ويجوز كما قال غير واحد أن تكون للعهد نظرا الى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر إلى وصف كونه سماويا غايته أن عهديته ليست إلى حد الخصوصية الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر ومن الكتاب السماوى أيضا حيث خص بما عاد القرآن ومهيمنا عليه قال الخليل وأبو عبيدة : أى رقيبا على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير حيث يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضى الله تعالى عنهم : أى شاهدا عليه بأنه الحق والعطف حينئذ للتأكيد وهاؤه أصلية وفعله هيمن وله نظائر بيطر وخيمر وسيطر وزاد الزجاج : بيقر ولاسادس لها وقيل إنها مبدلة من الهمزة ومادته من الامن كهراق وقال المبرد وابن قتيبة : إن المهيمن أصله مؤمن وهو من أسمائه تعالى فصغر وأبدلت همزته هاءا وتعقبه السمين وغيره بأن ذلك خطأ بل كفر أو شبيه به لأن اسماء الله تعالى لاتصغر وكذا كل اسم معظم شرعا وعن ابن محيصن ومجاهد أنهما قرآ مهيمنا بفتح الميم على بنية المفعول فضمير عليه على هذا يعود على الكتاب الأول والمعنى أنه حوفظ من التحريف والتبديل والحافظ له هو الله تعالى كما قال سبحانه : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فأحكم بينهم أى بين أهل الكتاب كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والفاء لترتيب مابعدها على ماقبلها فان كون القرآن العظيم بذلك الشأن من موجبات الحكم المأمور به أى إذا كان القرآن كما ذكر فاحكم بينهم بما أنزل الله أى بما أنزله إليك فانه الحق الذى لامحيص عنه والمشتمل على جميع الاحكام الشرعية الباقية فى الكتب الآلهية وتقديم بينهم للاعتناء بتعميم الحكم لهم ووضع الموصول موضع الضمير تنبيها على على مافى حيز الصلة للحكم وترهيبا عن المخالفة والالتفات باظهار الاسم الجليل لما مر مرارا ولا تتبع أهوائهم الزائغة
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يريد عنهما يريد ماحرفوا وبدلوا من أمر الرجم عما جاءك من الحق الذى لامحيد عنه و عن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل : لاتعدل عما جاءك من الحق متبعا لأهواءهم وقيل : بمحذوف وقع حالا من فاعله أى لاتتبع أهوائهم عادلا عما جاءك أو من مفعوله أى لاتتبع أهواءهم عادلة عما جاءك واعترض ذلك بان ماوقع حالا لابد أن يكون فعلا عاما ولعل القائل لايسلم ذلك و من كما قال أبو البقاء : متعلقة بمحذوف وقع حالا من مرفوع جاءك أو من ما ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للايماء بما حيز الصلة إلى مايوجب كمال الاجتناب عن اتباع الاهواء والنهى يجوز أن يكون لمن لايتصور منه وقوع المنهى عنه فلا يقال : كيف نهى صلى الله عليه و سلم عن اتباع أهوائهم وهو عليه الصلاة و السلام معصوم عن ارتكاب مادون ذلك وقيل : الخطاب له صلى الله عليه و سلم والمراد سائر الكلام لكل جعلنا منكم شرعة ومناهجا استئناف جىء به لحمل أهل الكتاب من معاصريه صلى الله عليه و سلم على الانقياد لحكمه عليه الصلاة و السلام بما أنزل الله تعالى اليه من الحق ببيان أنه هو الذى كلفوا العمل به دون غيره
(6/152)
مما فى كتابهم وإنما الذين كلفوا العمل به من مضى قبل النسخ والخطاب كما قال جماعة من المفسرين للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب و الشرعة بكسر الشين وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها الشريعة وهى فى الأصل الطريق الظاهر الذى يوصل من إلى الماء والمراد بها الدين واستعمالها فيه لكونه سبيلا موصلا إلى ماهو سبب للحياة الأبدية كما ان الماء سبب للحياة الفانية أو لانه طريق إلى العمل الذى يطهر العامل عن الأوساخ المعنوية كما أن الشريعة طريق الى الماء الذي يطهر مستعمله عن الأوساخ الحسية
وقال الراغب : سمى الدين شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث أن من شرع فى ذلك على الحقيقة روى وتطهر وأعنى بالرى ماقال بعض الحكماء : كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب وبالتطهر ماقال تعالى : ويطهركم تطهيرا والمنهاج الطريق الواضح فى الدين من نهج الأمر إذا وضح والعطف باعتبار جمع الأوصاف وقال المبرد : الشرعة ابتداء الطريق المستقيم وقيل : هما بمعنى واحد وهو الطريق والتكرير للتأكيد والعطف مثله فى قول الحطيئة :
وهند أتى من دونها النأى والبعد
وقول عنترة : حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم وقيل : الشرعة الطريق مطلقا سواء كان واضحا أم لا وقيل : المنهاج الدليل وقيل الشرعة النبى صلى الله عليه و سلم والمنهاج الكتاب وقيل : الشرعة الأحكام الفرعية والمنهاج الاحكام الاعتقادية وليس بشىء واللام متعلقة بجعلنا المتعدية لواحد وهو إخبار بجعل ماضى لا إنشاء وتقديمها عليه للتخصيص و منكم متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين كل أى ولكل أمة كائنة منكم أيها الأمم الباقية والخالية عينا ووضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة لاتكاد أمة تتخطى شرعتها والأمة التى كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليه الصلاة و السلام شرعتهم مافى التوراة والتى كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث أحمد عليه الصلاة و السلام شرعتهم مافى الإنجيل وأما أنتم أيها الموجودون فشرعكتم مافى الفرقان ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه وأوجب أبو البقاء تعلق منكم بمحذوف تقديره أعنى ولم يجوز الوصفية لما أن ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبى الذى لاتسديد فيه للكلام ويوجب أيضا أن يفصل بين جعلنا ومعموله وهو شرعة وقال شيخ الإسلام : لاضير فى توسط جعلنا بين الصفة والموصوف كما فى قوله تعالى : أغير الله اتخذ وليا فاطر السموات والأرض الخ والفصل بين الفعل ومفعوله لازم على كل حال وماذكر من كون الخطاب للامم هو الظاهر وقيل : إنه للانبياء الذين أشير إليهم فى الآيات قبل ولايخفى بعده وأبعد منه جعل الخطاب لهذه الأمة المحمدية ولايساعده السباق ولا اللحاق واستدل بالآية من ذهب إلى أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لأن الخطاب كما علمت يعم الأمم والام للاختصاص فيكون لكل أمة دين يخصها ولو كان متعبدا بشريعة أخرى لم يسكن ذلك الاختصاص
وأجاب العلامة التفتازانى بعد تسليم دلالة اللام على الاختصاص الحصرى بمنع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشريعة من قبلنا مع زيادة خصوصيات فى ديننا يكون الاختصاص وفيه أنه لاحاجة فى إفادة الحصر لما ذكر مع تقدم المتعلق وأيضا الخصوصيات المذكورة لاتنافى تعبدنا بشرع من قبلنا لأن القائلين به يدعون أنه فيما لم يعلم نسخه ومخالفة ديننا له لامطلقا إذ لم يقل به احد على الاطلاق ولذا جمع المحققون بين أضراب هذه الآية الدالة عالى اختلاف الشرائع وبين مايخالفها نحو قوله تعالى : شرع لكم من الدين ماوصى
(6/153)
به نوحا الخ وقوله تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده بأن كل آية دلت على عدم الاختلاف محمولة على أصول الدين ونحوها والتحقيق فى هذا المقام أنا متعبدون بأحكام الشرائع الباقية من حيث أنها أحكام شرعتنا لامن حيث أنها شرعة للاولين ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة أى جماعة متفقة على دين واحد فى جميع الأعصار أو ذى ملة واحدة من غير اختلاف بينكم فى وقت من الأوقات فى شىء من الأحكام الدينية ولانسخ ولاتحويل قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ومفعول شاء محذوف تعويلا على دلالة الجزاء عليه أى لو شاء الله تعالى اجتماعكم على الاسلام لأجبركم عليه وروى عن الحسن نحو ذلك وقال الحسين بن على المغربى : المعنى لو شاء الله تعالى لم يبعث اليكم نبيا فتكونون متعبدين بما فى العقل وتكونون أمة واحدة ولكن ليبلوكم متعلق بمحذوف يستدعيه النظام أى ولكن لم يشأ ذلك الجعل بل شاء غيره ليعاملكم سبحانه معاملة من يبتليكم
فى مااتاكم من الشرائع المختلفة الحكم إلهية يقتضيها كل عصر هل تعلمون بها مذعنين لها معتقدين أن فى اختلافها مايعود نفعه لكم فى معاشكم ومعادكم أو تزيغون عنها وتبتغون الهوى وتشترون الضلالة بالهدى وبهذا كما قال شيخ الاسلام اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء بل العمدة فى ذلك ماأشير اليه من انطواء الاختلاف على مافيه مصلحتهم معاشا ومعادا كنما ينبىء عنه قوله عز و جل : فاستبقوا الخيرات أى إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ماهو خير لكم فى الدارين من العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة فى القرآن الكريم وابتدروها انتهازا للفرصة واحرازا لفضل السبق والتقدم فالسابقون السابقون أولئك المقربون وقوله تعالى : الى الله مرجعكم جميعا استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد و جميعا حال من الضمير المجرور والعامل فيه إما المصدر المضاف المنحل إلى فعل مبنى للفاعل أو لما لم يسم فاعله واما الاستقرار المقدر فى الجار وقيل وفيه بعد أن الجملة واقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : كيف مافى ذلك من الحكم فاجيب بأنكم سترجعون إلى الله تعالى وتحشرون الى دار الجزاء التى تنكشف فيها الحقائق وتتضح الحكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون
48
- أى فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين الحق والباطل مالا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم فيه تختلفون فى الدنيا من أمر الدين فالإنباء هنا مجاز عن المجازاة لما فيها من تحقق الأمر
وإن أحكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواءهم عطف على الكتاب كأنه قيل : وأنزلنا اليك الكتاب وقولنا : احكم أى الأمر بالحكم لاالحكم لأن المنزل الأمر بالحكم لا الحكم ولئلا يلزم ابطال الطلب بالكلية ولك أن تقدر الأمر بالحكم من أول الأمر من دون إضمار القول كما حققه فى الكشف وجوز أن يكون عطفا على الحق وفى المحل وجهان : الجر والنصب على الخلاف المشهور وقيل : يجوز أن يكون الكلام جملة اسمية بتقدير مبتدأ أى وأمرنا أن احكم وزعم بعضهم أن أن هذه تفسيرية ووجهه أبو البقاء بأن يكون التقدير وأمرناك ثم فسر هذا الأمر باحكم ومنع أبو حيان من تصحيحه بذلك بأنه لم يحفظ من لسانهم حذف المفسر بأن والأمر كما ذكر وقال الطيبى : ولو جعل هذا الكلام عطفا على فاحكم
(6/154)
من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله سبحانه : وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ماأنزل الله عليك كان أحسن ورد بأن أن هى المانعة من ذلك العطف وأمر الإناطة ملتزم على كل حال وقال بعضهم : إنما كرر الأمر بالحكم لأن الإحتكام اليه صلى الله عليه و سلم كان مرتين : مرة فى زنا المحصن ومرة فى قتيل كان بينهم فجاء كل أمر فى أمر وحكى ذلك عن الجبائى والقاضى أبى يعلى ونون أن فيها الضم والكسر والمنسبك من أن يفتنوك بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال أى واحذر : فتنتهم لك وأن يصرفوك عن بعض ماأنزل الله تعالى اليك ولو كان اقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق وقال ابن زيد : بالكذب على التوراة فى أن ذلك الحكم ليس فيها وجوز أن يكون مفعولا من أجله أى احذرهم مخافة أن يفتنوك وإعادة ماأنزل الله تعالى اليك لتأكيد التحذير بتهويل الخطب ولعل هذا القطع أطماعهم قاتلهم الله تعالى أخرج ابن أبى حاتم والبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا الى محمد صلى الله عليه و سلم لعلنا نفتنه عن دينه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم اليك فتقضى لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت فإن تولوا أى أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى اليك وأرادوا غيره فأعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وهو ذنب التولى والاعراض فهو بعض مخصوص والتعبير عنه بذلك للايذان بأن لهم ذنوبا كثيرة وهذا مع كمال عظمه واحد من جملتها وفى هذا الابهام تعظيم للتولى كما فى قوله : تراك أمكنة اذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها يريد بالبعض نفسه أى نفسا كبيرة ونفسا أى نفس وقال الجبائى : ذكر البعض وأريد الكل كما يذكر العموم ويراد به الخصوص وقيل : المراد بعض مبهم تغليظا للعقاب كأنه أشير إلى أنه يكفى أن يؤخذا ببعض ذنوبهم أى بعض كان ويهلكوا ويدمر عليهم بذلك وزعم بعضهم أنه لايصح إرادة الكل لأن المراد بهذه الاصابة عقوبة الدنيا وهى تختص ببعض الذنوب دون بعض والذى يعم إنما هو عذاب الآخرة وهذه الاصابة على ماروى الحسن اجلاء بنى النضير وقيل : قتل بنى قريظة وقيل : هى أعم من ذلك وماعرى بنى قينقاع وأهل خيبر وفدك ولعله الأولى وإن كثيرا من الناس لفاسقون
49
- أى متمردون فى الكفر مصرون عليه خارجون من الحدود المعهودة وهو اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ماقبله وفيه من التسلية للنبى صلى الله عليه و سلم مالايخفى وقيل : انه عطف على قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها يعنى كتبنا حكم القصاص فى التوراة وقررناه فى الإنجيل وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما وإن كثيرا من الناس لفاسقون من الأحكام الآلهية المقررة فى الأديان ولايخفى بعده والمراد من الناس العموم وقيل : اليهود وقوله سبحانه : أفحكم الجاهلية يبغون إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى يتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله تعالى اليك فيبغون حكم الجاهلية وقيل : محل الهمزة بعد الفاء وقدمت أن لها الصدارة وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الانكار والتعجب لأن التولى عن حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم وطلب حكم آخر منكر عجيب وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب
(6/155)
والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التى هى متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة فى الأحكام أو الأمة الجاهلية وحكمهم : ماكانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى وقيل : الكلام على حذف مضاف أى أهل الجاهلية وحكمهم : ماذكر فقد روى أن بنى النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فى خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بنى قريظة طلب بعضهم من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل فقال عليه الصلاة و السلام : القتلى بواو فقال بنو النضير : نحن لانرضى بذلك فنزلت وقرأ بن عامر تبغون بالتاء وهى إما على الالتفات لتشديد التوبيخ وإما بتقدير القول أى قل لهم أفحكم الخ وقرأ بن وثاب والأعرج وأبو عبد الرحمن وغيرهم أفحكم بالرفع على أنه مبتدأ و يبغون خبره والعائد محذوف وقيل الخبر محذوف والمذكور صفته أى حكم يبغون واستضعف حذف العائد من الخبر وذكر ابن جنى أنه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصلة والصفة كقوله : قد أصبحت أم الخيار تدعى على ذنبا كله لم أصنع وقال أبو حيان وحسن الحذف فى الآية شبه يبغون برأس الفاصلة فصار كالمشاركة وزعم أن القراءة المذكورة خطأ خطأ كما لايخفى وقرأ قتادة أفحكم بفتح الفاء والحاء والكاف أى أفحاكما كحكام الجاهلية يبغون وكانت الجاهلية تسمى من قبل كما أخرج ابن أبى حاتم عن عروة عالمية حتى جاءت امرأة فقالت يارسول الله كان فى الجاهلية كذا وكذا فانزل الله تعالى ذكر الجاهلية وحكم عليهم بهذا العنوان ومن أحسن من الله حكما إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله تعالى أو مساو له كمايدل عليه الاستعمال وإن كان ظاهر السبك غير متعرض لنفى المساواة وإنكارها لقوم يوقنون
50
- أى عند قوم فاللام بمعنى عند واليه ذهب الجبائى وضعفه فى الدر المصون وصحح أنها للبيان متعلقه بمحذوف كما فى هيت لك وسقيا لك أى تبين وظهر مضمون هذا الاستفهام الإنكارى لقوم يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم وأما غيرهم فلا يعلمون أنه لاأحسن حكما من الله تعالى ولعل من فسر بعند أراد بيان محصل المعنى وقيل : إن اللام على أصلها وأنها صلة أى حكم الله تعالى للمؤمنين على الكافرين أحسن الأحكام وأعد لها وهذه الجملة حالية مقررة لمعنى الانطكار السابق
ياأيها الذين آمنوا خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم وإن كان سبب وروده بعضا كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ووصفهم بعنوان الإيمان لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه بقوله سبحانه وتعالى : لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء فان تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما أى لايتخذ أحد منكم وليا بمعنى لاتصافوهم مصافاة الأحباب ولاتستنصروهم
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى قال : لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار فقال رجل لصاحبه : أما أنا فألحق بذلك اليهودى فآ خذ منه أمانا وأتهود معه فانى أحاف أن تدال علينا اليهود وقال الآخر : أما أنا فألحق بفلان النصرانى ببعض أرض الشام فآ خذ منه أمانا وأتنصر معه فأنزل الله تعالى فيهما ينهاهما ياأيها الذين آمنوا الخ
(6/156)
واخرج ابن جرير وابن أبى شيبة عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بنى الحارث بن الخزرج الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يارسول الله إن لى موالى من يهود كثير عددهم وانى أبرأ إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم من ولاية يهود وأتولى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام فقال عبد الله بن أبى : إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالى فنزلت بعضهم أولياء بعض أى بعض اليهود أولياء لبعض منهم وبعض النصارى أولياء لبعض منهم وأوثر الاجمال لوضوح المراد بظهور أن اليهود لايوالون النصارى كالعكس والجملة مستأنفة تعليلا للنهى قبلها وتأكيدا لايجاب اجتناب المنهى عنه أى بعضهم أولياء بعض متفقون على كلمة واحدة فى كل مايأتون ومايذرون ومن ضرورة ذلك إجماع الكل على مضادتكم ومضارتكم بحيث يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة وزعم الحوفى أن الجملة فى موضع الصفة لأولياء والظاهر هو الأول وقوله تعالى : ومن يتولهم منكم فانه منهم أى من جملتهم وحكمه حكمهم كالمستنتج مما قبله وهو مخرج مخرج التشديد والبالغة فى الزجر لأنه لو كان المتولى منهم حقيقة لكان كافرا وليس بمقصود وقيل : المراد ومن يتولهم منكم فانه كافر مثلهم حقيقة وحكى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودا أو نصارى وقيل : لابل لأن الآية نزلت فى المنافقين والمراد أنهم بالموالاة يكونون كفارا مجاهرين وقوله سبحانه : إن الله لايهدى القوم الظالمين
51
- أنفسهم بموالاة الكفار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم تعليل آخر على ماقيل : يتضمن عدم نفع موالاة الكفرة بل ترتب الضر عليها وقيل : هو تعليل لكون من يتولاهم منهم أى لايهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم فيقعون فى الكفر والضلالة وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تنبيها على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض للنفس للعذاب الخالد ووضع للشىء فى غير موضعه وقوله تعالى فترى الذين فى قلوبهم مرض أى نفاق كعبد الله بن أبى وأضرابه كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بيان لكيفية توليتهم وإشعار بسببه وبما يؤول اليه أمرهم والفاء للايذان بترتبه على عدم الهداية وهى للسببية المحضة
وجوز الكرخى كونها للعكف على إن الله الخ من حيث المعنى والخطاب إما للرسول صلى الله عليه و سلم بطريق التلوين وإما لكل من له أهلية والإتيان بالموصول دون ضمير القوم ليشار بما فى حيز الصلة إلى أن ماارتكبوه من التولى بسبب ماكمن من المرض والرؤية إما بصرية وقوله تعالى : يسارعون فيهم حال من المفعول وهو الأنسب بظهور نفاقهم وإما قلبية والجملة فى موضع المفعول الثانى والمراد على التقديرين مسارعين فى موالاتهم إلا أنه قيل : فيهم مبالغة فى بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها وإيثار كلمة فى على كلمة إلى للدلالة على أنهم مستقرون فى الموالاة وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها
وفسر الزمخشر المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله بفى وعدل عنه بعض المحققين لكونه تفسيرا بالأخفى وأختير أن تعدى المسارعة هنا بإلى لتضمنها معنى الدخول وقرىء فيرى بياء الغيبة على أن الضمير كما قال أبو البقاء لله تعالى وقيل : لمن يصح منه الرؤية وقيل : الفاعل هو الموصول والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية والرؤية قلبية أى فيرى القوم الذين فى قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت
(6/157)
أن انقلب الفعل مرفوعا كما فى قوله
ألا أى هذا الزاجرى احضر الوغى
وقوله عز و جل : يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة حال من فاعل يسارعون و الدائرة من الصفات الغالبة التى لايذكر معها موصوفها وأصلها دوارة لأنها من دار يدور ومعناها لغة على مافى القاموس ماأحاط بالشىء وفى شرح الملخص إن الدائرة سطح مستو يحيط به خط مستدير يمكن أن يفرض فى داخله نقطة يكون البعد بينها وبينه واحدا فى حد جميع الجهات وقد تطلق الدائرة على ذلك الخط المحيط أيضا انتهى واختلف فى أن أى المعنيين حقيقة فقيل : إنها حقيقة فى الأول مجاز فى الثانى وقيل : بالعكس قال البرجندى : وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفى خط مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها لأن هيئة هذا السطح ذات دور على أن صيغة الفاعل للنسبة وإذا توهم حركة نقطة حول نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لايختلف بعد النقطة المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها لأن النقطة كانت دائرة فسمى ماحصل من دورانها دائرة فان اعتبر الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط مجازا وإذا اعتبر الثانى ناسب أن يكون الامر بالعكس انتهى
وتعقبه بعض الفضلاء بأنه لايخفى مافيه لأن اطلاقها بالاعتبار الثانى على المحيط أيضا مجاز لانه من باب تسمية المسبب باسم السبب اللهم إلا أن يقال : إنه أراد بكون إطلاقها على المحيط حقيقة أن اطلاقها عليه ليس مجازا بالوجه الذى كان به مجازا فى الاعتبار الأول فان وجه المجاز فيه التسمية للمحيط باسم المحاط وههنا ليس كذلك كما سمعت لكن هذا تكلف بعيد ولو قال فى وجه التسمية فى اللاحق لأن هيئة الخط ذات دور على وفق قوله فى وجه التسمية السابق لم يرد عليه هذا فتدبر وكيفما كان فقد استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها وقولهم هذا كان اعتذارا عن الموالاة أى نخشى أن تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دوله بأن ينقلب الأمر للكفار وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج اليهم قاله مجاهد وقتادة والسدى
وعن الكلبى أن المعنى نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه كالجدب والقحط فلايميروننا ولايقرضونا ولايبعد من المنافقين إنهم يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدائرة ماقاله الكلبى ويضمرون فى دوائر قلوبهم ماقاله الجماعة المنبىء عن الشك فى أمر النبى صلى الله عليه و سلم وقدر الله تعالى عليهم عللهم الباطلة وقطع أطماعهم الفارغة وبشر المؤنين بحصول أمنيتهم بقوله سبحانه : فعسى الله أن يأتى بالفتح فان عسى منه عز و جل وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم فما ظنك باكرم الاكرمين والمراد بالفتح فتح مكة كما روى عن السدى وقيل : فتح بلاد الكفار واختاره الجبائى وقال قتادة ومقاتل : هو القضاء الفصل بنصره عليه الصلاة و السلام على من خالفه وإعزاز الدين وأن يأتى فى تأويل المصدر وهو خبر لعسى على رأى الأخقش ومفعول به على رأى سيبويه لئلا يلزم الإخبار بالحدث عن الذات والأمر فى ذلك عند الاخفش سهل أو أمر من عنده وهو القتل وسبى الذرارى لبنى قريظة والجلاء لبنى النضير عند مقاتل وقيل : إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتلهم وروى عن الحسن والزجاج وقيل : موت راس النفاق وحكى ذلك عن الجبائى فيصبحوا أى أولئك المنافقون وهو عطف على يأتى داخل معه فى حيز
(6/158)
خبر عسى وفاء السببية لجعلها الجملتين كجملة واحدة مغنية عن الضمير العائد على الاسم والمراد فيصيروا على مااسروا فى أنفسهم من الكفر والشك فى أمر النبى صلى الله عليه و سلم نادمين
52
- خبر يصبح وبه تعليق على ماأسروا وتخيص الندامة به لابما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذى كان كان يحملهم على تلك الموالاة ويغريهم عليها فدل ذلك على أن ندامتهم على التولى بأصله وسببه
وأخرج ابن منصور وابن حاتم عن عمرو أنه سمع ابن الزبير يقرأ عسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الفساق على ماأسروا فى أنفسهم نادمين قال عمرو : لا أدرى أكان ذلك منه قراءة أم تفسيرا ويقول الذين امنوا كلام مستأنف مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بيانى كأنه قيل : فماذا يقول المؤمنون حينئذ وقرأ أبو عمرو ويعقوب ويقول بالنصب عطفا على فيصبحوا وقيل : على أن يأتى بحسب المعنى كأنه قيل : عسى أن يأتى الله بالفتح ويقول الذين آمنوا باسناد يأتى إلى الاسم الجليل دون ضميره واعتبر ذلك لأن العطف على خبر عسى أو مفعولها يقتضى أن يكون فيه ضمير الله تعالى ليصح الاخبار به أو ليجرى على استعماله ولاضمير فيه هنا ولا مايغنى عنه وفى صورة العطف باعتبار المعنى تكون عس تامة لإسنادها إلى أن ومافى حيزها فلا حاجة حينئذ إلى ضمير وهذا كما قيل : قريب من عطف التوهم وكأنهم عبروا عنه بذلك دونه تأدبا وجوز بعضهم أن يكون أن يأتى بدلا من الاسم الجليل والعطف على البدل و عسى ويقدر ضميرا أى ويقول الذين آمنوا به وذهب ابن النحاس إلى أن العطف على الفتح وهو نظير
ولبس عباءة وتقرعينى
واعترض بأن فيه الفصل بين اجزاء الصلة وهو لايجوز وبأن المعنى حينئذ عسى الله تعالى أن يأتى بقول المؤمنين وهو ركيك وأجيب عن الأول بالفرق بين الاجزاء بالفعل والإجزاء بالتقدير وعن الثانى بأن المراد عسى الله سبحانه أن يأتى بما يوجب قول المؤنين من النصرة المظهرة لحالهم
واختار شيخ الاسلام قدس سره ماقدمناه ولايحتاج إلى تكلف مؤونة تقدير الضمير لأن فتصبحوا كما علمت معطوف على يأتى والفاء كافية فيه عن الضمير فتكفى عن الضمير فى المعطوف عليه ايضا لأن المتعاطفين كالشىء الواحد ولاحاجة مع هذا إلى القول بأن العطف عليه بناءا على أنه منصوب فى جواب الترجى إجراءا له مجرى التمنى كما قال ابن الحاجب لأن هذا إنما يجيزه الكوفيون فقط بخلاف الوجه الذى ذكرناه والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غايةالمحبة وعدم المفارقة عنهم فى السراء والضراء عند مشاهدتهم تخيبة رجائهم وانعكاس تقديرهم لوقوع ضد ماكانوا يترقبونه ويتعالون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم
أهولاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم اى بالنصرة والمعونة كما قالوه فيما حكى عنهم وان قوتلتم لننصركم فاسم الإشارة مبتدأ ومابعده خبره والمعنى إنكار مافعلوه واستعباده وتخطئتهم فى ذلك قاله شيخ الاسلام وغيره واختار غير واحد أن المعنى يقول المؤمنون الصادقون بعضهم لبعض أهولاء الذين أقسموا بالله تعالى لليهود إنهم لمعكم والخطاب على التقديرين لليهود إلا أنه على الأول من
(6/159)
جهة المؤمنين وعلى الثانى من جهة المقسمين وفى البحر أن الخطاب على التقدير الثانى للمؤمنين أى يقول الذين آمنوا بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين إذ أغلظوا بالأيمان لهم وأقسموا أنهم معكم وأنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود فلما حل باليهود ماحل أظهروا ماكانوا يسرونه من موالاتهم والتمالىء على المؤمنين : واليه يشير كلام عطاء وليس بشىء كما لايخفى وجملة إنهم لمعكم لامحل لها من الاعراب لأنها تفسير وحكاية لمعنى أقسموا لكن لابألفاظهم وإلالقيل : إنا معكم وذكر السمين وغيره أنه يجوز أن يقال : حلف زيد لأفعلن وليفعلن وجهد أيمانهم منصوب على أنه مصدر لأقسموا من معناه والمعنى أقسموا إقساما مجتهدا فيه أو هو حال بتأويل مجتهدين وأصله يجتهدون جهد أيمانهم فالحال فى الحقيقة الجملة ولذا ساغ كونه حالا كقولهم : افعل ذلك جهدك مع أن الحال حقها التنكير لأنه ليس حالا بحسب الاصل
وقال غير واحد : لايبالى بتعريف الحال هنا لأنها فى التأويل نكرة وهو مستعار من جهد نفسه إذا بلغ وسعها ن فحاصل المعنى أهولاء الذين إكدوا الايمان وشددوها حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين
53
- يحتمل أن يكون هذا جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآ ل ماصنعوه من ادعاء الولاية والقسم على المعية فى كل حال إثر الاشارة إلى بطلانه بالاستفهام وأن يكون من جملة مقول المؤمنين بأن يجعل خبرا ثانيا لاسم الإشارة وقد قال بجواز نحو ذلك بعض النحاة ومنه قوله سبحانه : فاذا هى حية تسعى أو يجعل هو الخبر والموصول مافى حيز صلته صفة للمبتدأ فالاستفهام حينئذ للتقرير وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ماأحبط أعمالهم فما أخسرهم والمعنى بطلت أعمالهم التى عملوها فى شأن موالاتكم وسعوا فى ذلك سعيا بليغا حيث لم تكن لكم دولة كما ظنوا فينتفعوا بما صنعوا من المساعى وتحملوا من مكابدة المشاق وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين مالايخفى قاله شيخ الاسلام وذهب بعضهم إلى أنه إذا كانت من جملة المقول فهى فى محل نصب بالقول بتقدير أن قائلا يقول : ماذا قال المؤمنون بعد كلامهم ذلك فقيل : قالوا : حبطت أعمالهم الخ والجملة اما اخبارية وشهادة المؤمنين بمضمومنها على تقدير أن يكون المراد به خسران دنيوى وذهاب الأعمال بلا نفع يترتب عليها هو ماأملوه من دولة اليهود مما لاإشكال فيه وعلى تقدير أن يكون المراد أمرا أخرويا فيحتمل ان يكون باعتبار مايظهر من حال المنافقين فى ارتكاب ماارتكبوا وأن تكون باعتبار إخبار النبى صلى الله عليه و سلم بذلك واما جملة دعائية ولاضير فى الدعاء بمثل ذلك على مامرت الاشارة إليه وأشعر كلام البعض أن فى الجملة معنى التعجب مطلقا سواء كانت من جملة القول أو من قول الله تعالى ولعله بعيد عند من يتدبر
ياأيها الذين امنوا من يرتد منكم عن دينه شروع فى بيان حال المرتدين على الاطلاق بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين وفصل مصير من يواليهم من المنافقين قيل : وهذا من الكائنات التى أخبر عنها القرآن قبل وقوعها فقد روى أنه ارتد عن الاسلام إحدى عشرة فرقة ثلاث فى عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار وهو الاسود العنس كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال النبى صلى الله عليه و سلم فكتب عليه الصلاة و السلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله تعال على فيروز الديلمى
(6/160)
بيته فقتله وأخبر الرسول صلى الله عليه و سلم بقتله ليلة قتل فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة و السلام من الغد وأتى خبره فى شهر ربيع الأول وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب بن حبيب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم سلام عليك أما بعد : فانى أشركت الأمر معك وأن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا قوما يعتدون فقدم عليه الصلاة و السلام رسولان له بذلك فحين قرا صلى الله عليه و سلم كتابه قال لهما : فما تقولان أنتما قالا : نقول كما قال فقال صلى الله عليه و سلم : أما والله لولا أن الرسل لاتقتل لضربت أعناقكما ثم كتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى أما بعد : فان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وكان ذلك فى سنة عشر فحاربه أبو بكر رضى الله تعالى عنه بجنود المسلمين وقتل على يدى وحشى قاتل حمزة رضى الله تعالى عنهما وكان يقول : قتلت فى جاهليتى خير الناس وفى إسلامى شر الناس وقيل : اشترك فى قتله هو وعبد الله بن زيد الانصارى طعنه وحشى وضربه عبد الله بسسيفه وهو القائل : يسائلنى الناس عن قتله فقلت : ضربت وهذا طعن فى أبيات وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث اليه أبو بكر رضى الله تعالى عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشام فأسلم وحسن إسلامه وارتدت سبع فى عهد أبى بكر رضى الله تعالى عنه فزارة قوم عيينة بن حصين وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيرى وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض بنى تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة فى قصة شهيرة وصح أنها أسلمت يعد وحسن إسلامها وكندة قوم الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله تعالى أمرهم على يدى ابى بكر رضى اله تعالى عنه وفرقة واحدة فى عهد عمر رضى الله تعالى عنه وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر ولحق بالشام ومات على ردته ن وقيل أنه أسلم ويروى أن عمر رضى الله تعالى عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا فيه : إن جبلة ورد إلى فى سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطىء إزاره رجل من بنى فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه وفى رواية قلع عينه فاستعدى الفزارى على جبلة إلى فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص فقال : أتقتص منى وأنا ملك وهو سوقة ! فقلت : شملك وإياه الاسلام فما تفضله إلا بالعافية فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بنى عمه ولحق بالشام مرتدا وروى أنه ندم على مافعله وأنشد : تنصرت بعد الحق عارا للطمة ولم يك فيها لوصبرت لها ضرر فأدركنى منها لجاج حمية فبعث لها العين الصحيحة بالعور فاليت أمى لم تلدنى وليتنى صبرت على القول الذى قاله عمر هذا واعترض القول بان هذا من الكائنات التى أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها بأن من شرطية والشرط لايقتضى الوقوع إذ أصله أن يستعمل فى الأمور المفروضة وأجيب بأن الشرط قد يستعمل فى الأمور المفروضة وأجيب بأن الشرط قد يستعمل فى الأمور المحققة تنبيها على أنها لايليق وقوعها بل كان ينبغى أن تدرج فى الفرضيات وهو كثير وقد علم من وقوع ذلك بعد هذه الآية أن المراد هذا وقرا نافع وابن عامر ومن يرتدد بفك الادغام وهو الأصل لسكون
(6/161)
ثانى المثلين وهو كذلك فى بعض مصاحف الامام وقوله تعالى : فسوف يأتى الله جواب من الشرطية الواقعة مبتدأ واختلف فى خبرها فقيل : مجموع الشرط والجزاء وقيل : الجزاء فقط فعلى الأول لايحتاج الجزاء وحده إلى ضمير يربطه وعلى الثانى يحتاج اليه وهو هنا مقدر أى فسوف يأتى الله تعالى مكانهم بعد إهلاكهم بقوم يحبهم محبة تليق بشأنه تعالى على المعنى الذى أراده ويحبونه أى يميلون اليه جل شانه ميلا صادقا فيطيعونه فى امتثال أوامره واجتناب مناهيه وهو معطوف على يحبونه وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب فيه أى وهم يحبونه وفى الكشاف محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لايفعلوا مايوجب سخطه وعقابه ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثنى عليهم ويرضى عنهم وأما مايعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا وهم الفرقة المفتعلة المنفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغنى على كراسيهم خربها الله تعالى وفى مراقصهم عطلها الله تعالى بأبيات الغزل المقولة فى المرد إن الذين يسمونهم شهداء وصعقاتهم النى أين منها صعقة موسى عليه السلام ثم دك الطور فتعالى الله عنه علوا كبيرا ومن كلماتهم كما أنه يحبهم كذلك يحبون ذاته فان الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة فاذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلامه
وقد خلط فيه الغث والسمين فأطلق القول بالقدح الفاحش فى المتصوفة ونسب اليهم مالا يعبأ بمرتكبه ولايعد فى البهائم فضلا عن خواص البشر ولايلزم من تسمى طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله ثم ارتكابهم مانقل عنهم بل وزيادة أضعاف أضعافه مما نعلمه من هذه الطائفة فى زماننا مما ينافى حال المسمين به حقيقة أن نؤاخذ الصالح بالطالح ونضرب رأس البعض بالبعض فلا تزر وازرة وزر أخرى
وتحقيق هذا المقام على ما ذكره ابن المنير فى الاتصاف أن لاشك أن تفسير محبة العبد لله تعالى بطاعته له سبحانه على خلاف الظاهر وهو من المجاز الذى يسمى فيه المسبب باسم السبب والمجاز لايعدل اليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لننظر أهى ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا فالمحبة لغة الميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحسن كلذة الذوق فى المطعوم ولذة النظر فى الصور المستحسنة إلى غير ذلك وإلى لذة مدركة بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم ومايجرى مجراها فقد ثبت أن فى اللذات الباعثة على المحبة مالا يدركه إلا العقل دون الحس ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها فليس اللذة برياسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرياسة على أقاليم معتبرة وإذا تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات وليس معلوم أكمل ولاأجل من المعبود الحق فاللذة الحاصلة من معرفته ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد لربه سبحانه ممكنة بل واقعة من كل مؤمن فهى من لوازم الايمان وشروطه الناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله عز و جل بمعناها الحقيقى لغة وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها ألا ترى الى الأعرابى الذى سأل عن الساعة فقال النبى
(6/162)
صلى الله عليه و سلم : ماأعددت لها قال ماأعددت لها كبير عمل ولكن حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فقال عليه الصلاة و السلام : المرء مع من أحب فهذا ناطق بأن المفهوم من المحبة لله تعالى غير الأعمال والنزام الطاعات لأن الأعرابى نفاها وأثبت الحب اقره صلى الله عليه و سلم على ذلك ثم أثبت اجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة والمحبة إذا تأكدت سميت عشقا فهو المحبة البالغة المتأكدة والقول بأنه عبارة عن المحبة فوق قدر المحبوب فيكفر من قال : أنا عاشق لله تعالى أو لرسوله صلى الله عليه و سلم كما قاله البعض ساداتنا الحنفية فى حيز المنع عندى والمعترفون بتصور محبة العبد لله عز شأنه بالمعنى الحقيقى ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا كما أن الصبى ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره والمنهمك فى الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو نحو ذلك وكل طائفة تسخر مما فوقها وتعتقد أنهم مشغولون فى غير شىء
قال حجة الاسلام الغزالى روح الله تعالى روحه : والمحبون الله تعالى يقولون لمن أنكر عليهم ذلك : إن تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون انتهى مع أدنى زيادة ولم يتكلم على معنى محبة الله تعالى للعبد وأنت تعلم أن ذلك من المتشابه والمذاهب فيه مشهورة وقد قدمنا طرفا من الكلام فى هذا المقام فتذكر
والمراد بهؤلاء القوم فى المشهور أهل اليمن فقد أخرج ابن أبى شيبة فى مسنده والطبرانى والحاكم وصححه من حديث عياض بن عمر الأشعرى أن النبى صلى الله عليه و سلم لما نزلت أشار الى أبى موسى الأشعرى وهو من صميم اليمن وقال : هم قوم هذا وعن الحسن وقتادة والضحاك أنهم أبو بكر وأصحابه رضى الله تعالى عنهم الذين قاتلوا أهل الردة وعن السدى أنهم الانصار وقيل : هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس وقد حارب هناك سعد ابن أبى وقاص رستم الشقى صاحب جيش يزدجر وقال الإمامية : هم على كرم الله تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين وعنهم أنهم المهدى ومن يتبعه ولاسند لهم فى ذلك إلا مروياتهم الكاذبة وقيل : هم الفرس لأنه صلى الله عليه و سلم سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان الفارسى رضى الله تعالى عنه وقال هذا وذووه وتعقبه العراقى قائلا : لم أقف على خبر فيه وهم هنا وهم وإنما ورد ذلك فى قوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم كما أخرجه الترمذى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه فمن ذكره هنا فقد وهم
أذلة على المؤمنين عاطفين عليهم متذللين لهم حمع ذليل لاذلول فان جمعه ذلل وكان الظاهر أن يقال أذلة للمؤمنين كما يقال تذلل له ولايقال : تذلل عليه للمنافاة بين التذلل والعلو لكنه عدى بعلى لتضمينه معنى العطف والحنو المتعدى بها وقيل : للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم وأجنحتهم
ولعل المراد بذلك أنه استعيرت على لمعنى اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين فى التواضع حتى علوهم بهذه الصفة لكن فى استفادة هذا من ذاك خفاء وكون المراد به أنه ضمن الوصف معنى الفضل والعلو يعنى أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم أذلاء فى أنفسهم بل لإرادة أن يضموا إلى علو منصبهم وشرفهم فضيلة التواضع لايخفى مافيه لأن قائل ذلك قابله بالتضمين فيقتضى أن يكون وجها آخر لاتضمين فيه وكون الجار على ذلك متعلقا بمحذوف وقع صفة أخرى لقوم ومع علو طبقتهم الخ تفسير لقوله سبحانه : على المؤمنين وخافضون الخ تفسير لأذلة مما لاينبغى أن يلتفت إليه وقيل : عديت الذلة بعلى لأن
(6/163)
العزة فى قوله تعالى : أعزة على الكافرين عديت بها كما يقتضيه استعمالها وقد قارنتها فاعتبرت المشاكلة وقد صرحوا أنه يجوز فيها التقديم والتأخير وقيل : لأن العزة تتعدى بعلى والذلة ضدها فعوملت معاملتها لأن النظير كما يحمل على النظير يحمل الضد على الضد كما صرح به ابن جنى وغيره وجر أذلة و أعزة على أنهما صفتان لقوم كالجملة السابقة وترك العطف بينهما للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة وقد جاء ذلك فى غير ما آية ومن لم يجوزه جعل الجملة هنا معترضة ولايخفى أنه تكلف ومعنى كونهم أعزة على الكافرين أنهم أشداء متغلبون عليهم من عزه إذا غلبه ونص العلامة الطيبى أن هذا الوصف جىء به للتكميل لأن الوصف قبله يوهم أنهم أذلاء محقرون فى أنفسهم فدفع ذلك الوهم بالاتيان به على حد قوله : جلوس فى مجالسهم رزان وإن ضيف الم فهم خفوف وقرىء أذلة و أعزة بالنصب على الحالية من قوم لتخصيصه بالصفة يجاهدون فى سبيل الله بالقتال لاعلاء كلمته سبحانه وإعزاز دينه جل شأنه وهو صفة أخرى لقوم مترتبة على ما قبلها مبينة مع مابعدها لكيفية عزتهم وجوز ابو البقاء أن يكون حالا من الضمير فى أعزة أى يعزون مجاهدين وأن يكون مستأنفا ولايخافون لومة لائم فيما ياتون من الجهاد أو فى كل ما يأتون ويذرون وهو عطف على يجاهدون بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة والتصلب فى الدين وفيه تعريض بالمنافقين وجوز أن يكون حالا من فاعل يجاهدون أى يجاهدون وحالهم غير حال المنافقين والتعريض فيه حينئذ أظهر وقيل : إنه على الأول لاتعريض فيه بل هو تتميم لمعنى يجاهدون مفيد للمبالغة والاستعياب وليس بشىء واعترض القول بالحالية بأنهم نصوا على أن المضارع المنفى بلا أو ما كالمثبت فى عدم جواز دخول الواو عليه وأجيب بأن ذلك مبنى على مذهب الزمخشرى القائل بجواز اقتران المضارع المنفى بلا وما بالواو فان النحاة جوزوه فى المنفى بلم ولما ولافرق بينهما و اللومة المرة من اللوم أى الاعتراض وهو مضاف لفاعله وأصل لائم لاوم فاعل كقائم وفى اللومة مع تنكير لائم مبالغتان على ماقيل ووجه ذلك العلامة الطيبى بأنه ينتفى بانتفاء الخوف من اللومة الواحدة خوف جميع اللومات لأن النكرة فى سياق النفى نعم ثم إذا انضم إليها تنكير فاعلها يستوعب انتفاء خوف جميع اللوام فيكون هذا تتميما فى تتميم أى لايخافون شيئا من اللوم من أحد من اللوام
وقيل عليه : بأنه كيف يكون لومة أبلغ من لوم مع مافيها من معنى الوحدة فلو قيل : لوم لائم كان كأبلغ وأجيب بأنها فى الأصل للمرة لكن المراد بها هنا الجنس وأتى بالتاء للاشارة إلى أن جنس اللوم عندهم بمنزلة واحدة وتعقب بأنه لايدفع السؤال لأنه لاقرينة على هذا التجوز مع بقاء الابهام فيه وقد يقال : إن مقام المدح قرينة قوية على ذلك ذلك إشارة إلى ماتقدم من الاوصاف لابعضها كما قيل والافراد لما تقدم وكذلك مافيه من معنى البعد فضل الله أى لطفه وإحسانه يؤتيه من يشاء إيتاءه إياه لاأنهم مستقلون فى الاتصاف به والله واسع كثير الفضل أو جواد لايخاف نفاد ماعنده سبحانه عليم
54
(6/164)
مبالغ فى تعلق العلم فى جميع الاشياء التى من جملتها من هو أهل الفضل ومحله والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ماقبله وإظهار الاسم الجليل للاشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية كما مر غير مرة
هذا ومن باب الاشارة فى الآيات على ماقاله بعض العارفين إنا أنزلنا الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب يحتمل أن يكون الكتاب الأول إشارة إلى علم الفرقان والثانى إشارة إلى علم القرآن والأول هو ظهور تفاصيل الكمال والثانى هو العلم الاجمالى الثابت فى الاستعداد ومعنى كونه مهيمنا عليه حافظا عليه بالاظهار ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى مابين أيدينا من المصحف والثانى إشارة إلى الجنس الشامل للتوراة التى دعوتها للظاهر والانجيل الذى هو دعوته للباطن وكتابنا مشتمل على الأمرين حافظ لكل من الكتابين فاحكم بينهم بماأنزل الله من العدل التى هى ظل الوحدة التى انكشقت عليك ولاتتبع أهوائهم فى تغليب أحد الجانبين إما الظاهر وإما الباطن لكل منكم جعلنا شرعة موردا كمورد النفس ومورد القلب ومورد الروح ومنهاجا طريقا كعلم الاحكام والمعارف التى تتعلق بالنفس وسلوك طريق الباطن الموصل إلى جنة الصفات وعلم التوحيد والمشاهدة الذى يتعلق بالروح وسلوك طريق الفناء الموصل إلى جنة الذات وقال بعضهم : إن الله سبحانه بحارا للأرواح وأنهار للقلوب وسواقى للعقول ولكل واحد منها شرعة فى ذلك ترد منها كشرعة العلم وشرعة القدرة وشرعة الصمدية وشرعةالمحبة إلى غير ذلك وله عز و جل طرق بعدد أنفاس الخلائق كما قال أبو يزيد قدس سره والمراد بها الطرق الشخصية لامطلقا وكلها توصل اليه سبحانه وهذا إشارة إلى اختلاف مشارب القوم وعدم اتحاد مسالكهم وقد قال جل وعلا : قد علم كل أناس مشربهم وفرق سبحانه بين الأبرار والمقربين فى ذلك وقلما يتفق اثنان فى مشرب ومنهج ومن هنا ينحل الاشكال فيما حكى عن حضرة الباز الأشهب مولانا الشيخ محيى الدين عبد القادر قد سره أنه قال : لازلت أسير فى مهامه القدس حتى قطعت الآثار فلاح لى إثر قدم من بعيد فكادت روحى تزهق فاذا النداء هذا أثر قدم نبيك محمد صلى الله عليه و سلم فان ظاهره يقتضى سبقه للانبياء والرسل أرباب التشريع عليهم الصلاة والسلام ونحوهم من الكاملين وهو كما ترى ووجهه أنه قدس سره قطع الآثار فى الطريق الذى هو فيه وذلك يقتضى السبق على سالكى ذلك الطريق لاغير فيجوز أن يكون مسبوقا بمن ذكرنا من السالكين طريقا آخر غير ذلك الطريق وهذا أحسن مايخطر لى فى لجواب عن ذلك الإشكال نظرا إلى مشربى ومشارب القوم شتى ولو شاء لجعلكم أمة واحدة متفقين فى المشرب والطريق ولكن ليبلوكم فيما آتاكم أى ليظهر عليكم ماآتاكم بحسب استعداداتكم على قدر قبول كل واحد منكم فاستبقوا الخيرات أى الأمور الموصلة لكم إلى كمالكم الذى قدر لكم بحسب الاستعدادات المقربة إياكم اليه بإخراجه إلى الفعل إلى الله مرجعكم فى عين جمع الوجود على حسب المراتب فينبئكم بما كنتم تختلفون وذلك باظهار آثار مايقتضيه ذلك الاختلاف وأن احكم بينهم حسب ماتقتضيه الحكمة ويقبله الاستعداد بما أنزل الله اليك من القرآن الجامع للظاهر والباطن ولاتتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتونك عن بعض ماأنزل الله فتقصر على الظاهر البحت أو الباطن المحض وتنفى الآخر فان تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم بذنوبهم كذنب حجب الأفعال لليهود وذنب حجب الصفات للنصارى وإن كثيرا من الناس لفاسقون وأنواع الفسق مختلفة ففسق اليهود خروجهم عن حكم تجليات الافعال الآلهية برؤية
(6/165)
النفس افعالها وفسق النصارى خروجهم عن حكم تجليات الصفات الحقانية برؤية النفس صفاتها والفسق الذى يعترى بعض هذه الامة الالتفات إلى ذواتهم والخروج عن حكم الوحدة الذاتية أفحكم الجاهلية يبغون وهو الحكم الصادر عن مقام النفس بالجهل لاعن علم إلهى ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه الحق فيحتجب ببعض الحجب فسوف يأتى الله بقوم يحبهم فى الأزل لالعلة ويحبونه كذلك ومرجع المحبة التى لاتتغير عند الصوفية الذات دون الصفات كما قاله الواسطى وطعن فيه كما قدمنا الزمخشرى وحيث أحبهم ولم يكونوا إلا فى العلم كان المحب واحدا فى عين الجمع
وقال السلمى : إنهم بفضل حبه لهم احبوه وإلا فمن أين لهم المحبة لله تعالى وماللتراب ورب الارباب ! وشرط الحب كما قال أن يلحقه سكرات المحبة وإلا فليس بحب حقيقة وقالت أعرابية فى صفة الحب : خفى أن يرى وجل أن يحفى فهو كامن ككمون النار فى الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وإن لم يكن شعبة من الجنون فهو عصارة السحر وهذا شأن حب الحادث فكيف شأن حب القديم جل شأنه والكلام فى ذلك طويل أذلة على المؤمنين لمكان الجنسية الذاتية ورابطة المحبة الازلية والمناسبة الفطرية بينهم أعزة على الكافرين المحجوبين لضد ماذكر يجاهدون فى سبيل الله بمحو صفاتهم وإفناء ذواتهم التى هى حجب المشاهدة ولايخافون لومة لائم لفرط حبهم الذى هو الرشاد الأعظم للمتصف به : وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه هانت عليه ملامة العزال بل إذا صدقت المحبة التذ المحب بالملامة كما قيل : إجد الملامة فى هواك لذيذة حبا لذكرك فليلمنى اللوم ذلك فضل الله الذى لايدرك شأواه يؤتيه من يشاء من عباده الذين سبقت لهم العناية الآلهية والله واسع الفضل عليم حيث يجعل فضله نسأل الله تعالى أن يمن علينا بفضله الواسع وجوده الذى ليس له مانع ثم إنه سبحانه لما قال : لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء وعلله بما علله ذكر عقب ذلك من هو حقيق بالموالاة بطريق القصر فقال عز و جل : إنما وليكم الله ورسوله والذين امنوا فكأنه قيل : لاتتخذوا أولئك أولياء لأن بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم إنما أولياؤكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا تتخطوهم إلى الغير وأفرد الولى مع تعدده ليفيد كما قيل : إن الولاية لله تعالى بالأصالة وللرسول عليه الصلاة و السلام والمؤمنين بالتبع فيكون التقدير إنما وليكم الله سبحانه وكذلك رسوله صلى الله عليه و سلم والذين آمنوا فيكون فى الكلام أصل وتبع لا أن وليكم مفردا استعمل استعمال الجمع كما ظن صاحب الفرائد فاعترض بان ماذكر بعيد عن قاعدة الكلام لما فيه من جعل مالايستوى الواحد والجمع جمعا ثم قال : ويمكن أن يقال : التقدير إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا أولياؤكم فحذف الخبر لدلالة السابق عليه وفائدة الفصل فى الخبر هى التنبيه على أن كونهم أولياء بعد كونه سبحانه وليا ثم بجعله إياهم أولياء ففى الحقيقة هو الولى انتهى
ولايخفى على المتامل أن المآ ل متحد والمورد واحد وما تقرر يعلم أن قول الحلبى ويحتمل وجها آخر وهو أن وليا زنة فعيل وقد نص أهل اللسان أنه يقع للواحد والاثنين والجمع تذكيرا وتأنيثا بلفظ واحد كصديق غير واقع موقعه لأن الكلام فى سر بيانى وهو نكة العدول من لفظ إلى لفظ ولايرد على ماقدمناه أنه لوكان التقدير كذلك لنا فى حصر الولاية فى الله تعالى ثم اثباتها للرسول صلى الله عليه و سلم
(6/166)
وللمؤمنين لأن الحصر باعتبارأنه سبحانه الولى أصالة وحقيقة وولاية غيره إنما هى بالاسناد اليه عن شأنه الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة بدل من الموصول الأول أو صفة له باعتبار إجرائه مجرى الأسماء لأن الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل والوصف لايوصف إلا بتأويل ويجوز أن يعتبر منصوبا على المدح ومرفوعا عيله أيضا وفى قراءة عبد الله و الذين يقيمون الصلاة بالواو وهم راكعون حال من فاعل الفعلين أى يعملون ماذكر من إقامة الصلاة وايتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى
وقيل : هو حال مخصوصة بايتاء الزكاة والركوع ركوع الصلاة والمراد بيان كمال رغبتهم فى الاحسان ومسارعتهم اليه وغلب الأخباريين على أنها نزلت فى على كرم الله تعالى وجهه فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما باسناد متصل قال : أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبى صلى الله عليه و سلم فقالوا يارسول الله إن منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولامتحدث دون هذا المجلس وأن قومنا لما راونا آمنا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وصدقناه رفضونا وآلوا على نفوسهم أن لايجالسونا ولايناكحونا ولايكلمونا فشق ذلك علينا فقال لهم النبى صلى الله عليه و سلم : إنما وليكم الله ورسوله ثم أنه صلى الله عليه و سلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل فقال : هل أعطاك أحد شيئا فقال : نعم خاتم من فضة فقال : من أعطاكه فقال : ذلك القائم وأومأ إلى على كرم الله تعالى وجهه فقال النبى صلى الله عليه و سلم على أى حال أعطاك فقال : وهو راكع فكبر النبى صلى الله عليه و سلم ثم تلا هذه الآية فانشأ حسان رضى الله تعالى عنه يقول : أبا حسن تفديك نفسى ومهجتى وكل بطىء فى الهدى ومسارع أيذهب مديحك المحبر ضائعا وما المدح فى جنب الاله بضائع فأنت الذى أعطيت إذ كنت راكعا زكاة فدتك النفس ياخير راكع فأنزل فيك الله خير ولاية وأثبتها أثنا كتاب الشرائع وا ستبدل الشيعة بها على إمامته كرم الله تعالى وجهه ووجه الاستدلال بها أنها بالاجماع أنها نزلت فيه كرم الله تعالى وجهه وكلمة إنما تفيد الحصر ولفظ الولى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها وظاهر أن المراد هنا التصرف العام المساوى للامامة بقرينة ضم ولايته كرم الله تعالى وجهه بولاية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فثبت إمامته وانتفت إمامة غيره وإلا لبطل الحصر ولاإشكال فى التعبير عن الواحد بالجمع فقد جاء فى غير ماموضع وذكر علماء العربية أنه يكون لفائدتين : تعظيم الفاعل وأن من أتى بذلك الفعل عظيم الشأن بمنزلة جماعة كقوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة ليرغب الناس فى الاتيان بمثل فعله وتعظيم الفعل أيضا حتى أن فعله سجية لكل مؤمن وهذه نكتة سريعة تعتبر فى كل مكان بما يليق به
وقد أجاب أهل السنة عن ذلك بوجوه : الأول النقض بأن هذا الدليل كما يدل بزعمهم على نفى إمامة الأئمة المتقدمين كذلك يدل على سلب الإمامة عن الائمة المتاخرين كالسبطين رضى الله تعالى عنهما وباقى الاثنى عشر رضى الله تعالى عنهم أجمعين بعين ذلك االتقرير فالدليل يضر الشيعة أكثر مما يضر أهل السنة كما لايخفى ولايمكن أن يقال : الحصر إضافى بالنسبة إلى من تقدمه لأنا نقول : إن حصر ولاية من استجمع
(6/167)
تلك الصفات لايفيد إلا إذا كان حقيقيا بل لايصح لعدم استجماعها فيمن تاخر عنه كرم الله تعالى وجهه وإن أجابوا عن النقض بان المراد حصر الولاية فى الأمير كرم الله تعالى وجهه فى بعض الأوقات أعنى وقت إمامته لاوقت إمامة السبطين ومن بعدهم رضى الله تعالى عنهم قلنا فمرحبا بالوفاق إذ مذهبنا أيضا أن الولاية العامة كانت له وقت كونه إماما لاقبله وهو زمان خلافة الثلاثة ولابعده وهو زمان خلافة من ذكر
فان قالوا إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لو لم يكن صاحب ولاية عامة فى عهد الخلفاء يلزمه نقص بخلاف وقت خلافة أشباله الكرام رضى الله تعالى عنهم فانه لما لم يكن حيا لم تصر إمامة غيره موجبة لنقص شرفه الكامل لأن الموت رافع لجميع الأحكام الدنيوية يقال هذا فرار وانتقال إلى استدلال آخر ليس مفهوما من الآية إذ مبناه على مقدمتين : الأولى أن كون صاحب الولاية العامة فى ولاية الآخر ولو فى وقت من الأوقات غير مستقل بالولاية نقص له والثانية أن صاحب الولاية العامة لايلحقه نقص ما بأى وجه وأى وقت كان وكلتاهما لايفهمان من الآية أصلا كمالايخفى على ذى فهم على أن هذا الاستدلال منقوض بالسبطين زمن ولاية الأمير كرم الله تعالى وجهه بل وبالأمير أيضا فى عهد النبى صلى الله عليه و سلم والثانى أنا لانسلم الإجماع على نزولها فى الامير كرم الله تعالى وجهه فقد اختلف علماء التفسير فى ذلك فروى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر رضى الله تعالى عنه أنها نزلت فى المهاجرين والانصار وقال قائل : نحن سمعنا أنها نزلت فى على كرم الله تعالى وجهه فقال : هو منهم يعنى أنه كرم الله تعالى وجهه داخل أيضا فى المهاجرين والأنصار ومن جملتهم
وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن الملك بن أبى سليمان وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن الباقر رضى الله تعالى عنه أيضا نحو ذلك وهذه الرواية أوفق بصيغ الجمع فى الآية وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت فى شأن أبى بكر رضى الله تعالى عنه والثالث أنا لانسلم أن المراد بالولى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها تصرفا عاما بل المراد به الناصر لأن الكلام فى تقوية قلوب المؤمنين وتسليها وإزالة الخوف عنها من المرتدين وهو أقوى قرينة على ماذكره ولايأباه الضم كما لايخفى على من فتح الله تعالى عين بصيرته ومن أنصف نفسه علم أن قوله تعالى فيما بعد : ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء آب عن حمل الولى على مايساوى الإمام الأعظم لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار أئمة لنفسه وهم أيضا لم يتخذ بعضهم بعضا إماما وإنما اتخذوا أنصارا وأحبابا وكلمة إنما المفيدة للحصر تقتضى ذلك المعنى أيضا لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع ولم يكن بالاجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع فى الإمامية وولاية التصرف بل كان فىالنصرة والمحبة والرابع أنه لو سلم أن المراد ماذكروه فلفظ الجمع عام أو مساو كما ذكره المرتضى فى الذريعة واين المطهر فى النهاية والعبرة لعموم اللفظ لالخصوص السبب كما اتفق عليه الفريقان فمفاد الآية حينئذ حصر الولاية العامة لرجال متعددين يدخل فيهم الأمير كرم الله تعالى وجهه وحمل العام على الخاص خلاف الأصل لايصح ارتكابه بغير ضرورة ولاضرورة
فإن قالوا الضرورة متحققة ههنا إذ التصدق على السائل فى حال الركوع لم يقع من أحد غير الأمير كرم الله تعالى وجهه قلنا ليست الآية نصا فى كون التصدق واقعا حال ركوع الصلاة لجواز أن يكون
(6/168)
الركوع بمعنى التخشع والتذلل لابالمعنى المعروف فى عرف أهل الشرع كما فى قوله : لاتهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه وقد استعمل بهذا المعنى فى القرآن أيضا كما قيل فى قوله سبحانه : واركعى مع الراكعين إذ ليس فى صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الاركان بالاجماع وكذا فى قوله تعالى : وخر راكعا وقوله عز و جل : وإذا قيل لهم اركعوا لايركعون على مابينه بعض الفضلاء وليس حمل الركوع فى الآية على غير معناه الشرعى بأبعد من حمل الزكاة المقرونة بالصلاة عل مثل ذلك التصدق وهو لازم على مدعى الإمامية قطعا
وقال بعض منا أهل السنة : إن حمل الركوع على معناه الشرعى وجعل الجملة حالا من فاعل يأتون يوجب قصورا بينا فى مفهوم يقيمون الصلاة إذ المدح والفضيلة فى الصلاة كونها خالية عمالا يتعلق بها من الحركات سواء كانت كثيرة أو قليلة غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ولكن ثؤثر قصورا فى معنى إقامة الصلاة البتة فلا ينبغى حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك انتهى
وبلغنى أنه قيل لابن الجوزى رحمه الله تعالى : كيف تصدق على كرم الله تعالى وجهه بالخاتم وهو فى الصلاة والظن فيه بل العلم الجازم أن له كرم الله تعالى وجهه شغلا شاغلا فيها عن الالتفات إلى مالايتعلق بها وقد حكى مما يؤيد ذلك كثير فأنشأ يقول : يسقى ويشرب لاتلهيه سكرته عن النديم ولايلهو عن الناس أطاعه سكره حتى تمكن من فعل الصحاة فهذا واحد الناس وأجاب الشيخ إبراهيم الكردى قدس سره عن أصل الاستدلال بأن الدليل قائم فى غير محل النزاع وهو كون على كرم الله تعالى وجهه إماما بعد رسول صلى الله عليه و سلم من غير فصل لأن ولاية الذين آمنوا على زعم الإمامية غير مرادة فى زمان الخطاب لأن ذلك عهد النبوة والامامية نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال النبى صلى الله عليه و سلم وإذا لم يكن زمان الخطاب مرادا تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولاحد للتأخير فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد مضى زمان الأئمة الثلاثة فلم يحصل مدعى الإمامية ومن العجائب أن صاحب إظهار الحق قد بلغ سعيه الغاية القصوى فى تصحيح الاستدلال بزعمه ولم يأت بأكثر مما يضحك الثكلى وتفزع من سماعه الموتى فقال : إن الأمر بمحبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم يكون بطريق الوجوب لامحالة فالأمر بمحبة المؤمنين المتصفين مما ذكر من الصفات وولايتهم أيضا كذلك إذ الحكم فى كلام واحد يكون موضعه متحدا أو متعددا أو متعاطفا لايمكن أن يكون بعضه واجبا وبعضه مندوبا وإلا لزم استعمال اللفظ بمعنيين فاذا كانت محبة أولئك المؤمنين وولايتهم واجبة وجوب محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم امتنع أن يراد منهم كافة المسلمين وكل الأمة باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لأن معرفة كل منهم ليحب ويوالى مما لايمكن لأحد من المكلفين بوجه من الوجوه وأيضا قد تكون معاداة المؤمنين لسبب من الأسباب مباحة بل واجبة فتعين أن يراد منهم البعض وهو على المرتضى كرم الله تعالى وجهه انتهى
ويرد عليه أنه مع تسليم المقدمات أين اللزوم بين الدليل والمدعى وكيف استنتاج المتعين من المطلق وأيضا لايخفى على من له أدنى تأمل أن موالاة المؤمنين من جهة الإيمان أمر عام بلا قيد ولاجهة وترجع إلى موالاة
(6/169)
إيمانهم فى الحقيقة والبغض لسبب غير ضار فيها وأيضا ماذا يقول فى قوله سبحانه : والمؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وأيضا ماذا يجاب عن معادات الكفار وكيف الأمر فيها وهم أضعاف المؤمنين ومتى كفت الملاحظة الاجمالية هناك فلتكف هنا وأنت تعلم أن ةملاحظة الكثرة بعنوان الوحدة ممالاشك فى وقوعها فضلا عن إمكانها والرجوع إلى علم الوضع يهدى لذلك والمحذور كون الموالاة الثلاثة فى مرتبة واحدة وليس إذ الأولى أصل والثانية تبع والثاثه تبع التبع فالمحمول مختلف ومثله الموضوع إذ الموالاة من الأمور العامة وكالعوارض المشككة والعطف موجب للتشريك وفى الحكم لافى جهته فالموجود فى الخارج الواجب والجوهر والعرض مع أن نسبة الوجود إلى كل غير نسبته إلى الآخر والجهة مختلفة بلا ريب وهذا قوله سبحانه : قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى مع أن الدعوة واجبة على الرسول صلى الله عليه و سلم مندوبة فى غيره ولهذا قال الاصوليون : القران فى النظم لايوجب القران فى الحكم وعدوا هذا النوع من الاستدلال من المسالك المردودة ثم أنه أجاب عن حديث عدم وقوع التردد مع اقتضاء إنما له بأنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة رضى الله تعالى عنهم التمسوا من حضرة النبى صلى الله عليه و سلم الاستخلاف فقد روى الترمذى عن حذيفة أنهم قالوا : يارسول الله لو استخلفت قال : لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ماحدثكم حذيفة فصدقوه وما أقرأكم عبد الله فاقرأوه وأيضا استفسروا منه عليه الصلاة و السلام عمن يكون إماما بعده صلى الله عليه و سلم فقد أخرج أحمد عن على كرم الله تعالى وجهه قال : قيل : يارسول الله من نؤمر بعدك قال : إن تؤمروا أبا بكر رضى الله تعالى عنه تجدوه أمينا زاهدا فى الدنيا راغبا فى الآخرة وإن تؤمروا عمر رضى الله تعالى عنه تجدوه قويا أمينا لايخاف فى الله لومة لائم وإن تؤمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا ياخذ بكم الصراط المستقيم وهذا الالتماس والاستفسار يقتضى كل منهما وقوع التردد فى حضوره صلى الله عليه و سلم عند نزول الآية فلم يبطل مدلول إنما انتهى وفيه أن محض السؤال والاستفسار لايتقضى وقوع التردد نعم لو كانوا شاوروا فى هذا الأمر ونازع بعضهم بعضا بعد ماسمعوا من النبى صلى الله عليه و سلم جواب ماسألوه لتحقق المدلول وليس فليس ومجرد السؤال والاستفسار غير مقتض لإنما ولامن مقاماته بل هو من مقامات إن والفرق مثل الصبح ظاهر وأيضا لوسلمنا التردد ولكن كيف العلم بأنه بعد الآية أو قبلها منفصلا أو متصلا سببا للنزول أو اتفاقيا ولابد من إثبات القبلية والاتصال والسببية وأين ذلك والاحتمال غير مسموع ولاكاف فى الاستدلال
وبعد هذا كله الحديث الثانى ينافى الحصر صريحا لأنه صلى الله عليه و سلم فى مقام السؤال عن المستحق للخلافة ذكر الشيخين فان كانت الآية متقدمة لزم مخالفة الرسول صلى الله عليه و سلم القرآن أو بالعكس لزم التكذيب والنسخ لايعقل فى الأخبار على ماقرر ومع ذا تقدم كل على الآخر مجهول فسقط العمل
فان قالوا الحديث خبر الواحد وهو غير مقبول فى باب الامامة قلنا وكذلك لايقبل فى إثبات التردد والنزاع الموقوف عليه التمسك بالآية والحديث الأول يفيد أن ترك الاستخلاف أصلح فتركه كما تفهمه الآية بزعمهم تركه وهم لايجوزنه فتأمل وذكر الطبرسى فى مجمع البيان وجها آخر غير ماذكره صاحب إظهار الحق فى أن الولاية مختصة وه أنه سبحانه قال : إنما وليكم الله فخاطب جميع المؤمنين ودخل فى الخطاب
(6/170)
النبى صلى الله عليه و سلم وغيره ثم قال تعالى : ورسوله فأخرج نبيه عليه الصلاة و السلام من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايه ثم قال جل وعلا : والذين آمنوا فوجب أن يكون الذى خوطب بالآية غير الذى جعلت له الولاية والالزام أن يكون المضاف هو المضاف اليه بعينه وأن يكون كل واحد من المؤمنين ولى نفسه وذلك محال انتهى
أنت تعلم أن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضا لا أن يكون كل واحد منهم ولى نفسه وكيف يتوهم من قولك مثلا : أيها الناس لاتغتابوا الناس إنه نهى لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه وفى الخبر أيضا صوموا يوم يصوم الناس ولايختلج فى القلب أنه أمر لكل أحد أن يصوم يوم يصوم الناس ومثل ذلك كثير فى كلامهم وماقدمناه فى سبب النزول ظاهر فى أن المخاطب بذلك ابن سلام وأصحابه وعليه لاإشكال إلا أن ذلك لايعتبر مخصصا كما لايخفى فالآية على كل حال لاتدل على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الوجه الذى تزعمه الامامية وهو ظاهر لمن تولى الله تعالى حفظ ذهنه عن غبار العصبية
ومن يتول الله ورسوله والذين امنوا أى ومن يتخذهم أولياء وأوثر الإظهار على الإضمار رعاية لمامر من نكتة بيان أصالته تعالى فى الولاية كما ينبىء عنه قوله تعالى : فإن حزب الله هم الغالبون
56
- حيث أضيف الحزب أى الطائفة والجماعة مطلقا أو الجماعة التى فيها شدة إليه تعالى خاصة وفى هذا على رأى وضع الظاهر موضع الضمير أيضا العائد إلى من أى فانهم الغالبون لكنهم جعلوا حزب الله تعالى تعظيما لهم وإثباتا لغلبتهم بالطريق البرهانى كأنه قيل : ومن يتول هؤلاء فانهم حزب الله تعالى هم الغالبون
والجملة دليل الجواب عند كثير من المعربين ياأيها الذين امنوا لاتتخذوا الذين اتخحوا دينكم هزوا ولعبا أخرج ابن اسحق وجماعة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد ابن الحرث قد أظهروا الاسلام ونافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فانزل الله تعالى هذه الآية ورتب سبحانه النهى على وصف يعمهما وغيرهما تعميما للحكم وتنبيها على العلة وإيذانا بأن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة والهزؤ كما فى الصحاح السخرية تقول : هزئت منه وهزئت به عن الاخفش واستهزأت به وتهزأت وهزأت به أيضا هزؤا ومهزأة عن أبى زيد ورجل هزأة بالتسكين أى يهزأ به وهزأة بالتحريك يهزأ بالناس وذكر الزجاج أنه يجوز فى هزوا أربعة أوجه : الأول هزؤ بضم الزاى مع الهمزة وهو الاصل والاجود والثانى هزو بضم الزاى مع إبدال الهمزة واوا لانضمام ماقبلها والثالث هزأ بإسكان الزاى مع الهمزة والرابع هزى كهدى ويجوز القراءة بما عدا الإخير و اللعب بفتح أوله وكسر ثانيه كاللعب واللعب بفتح اللام وكسرها مع سكون العين والتلعاب مصدر لعب كسمع وهو ضد الجد كما فى القاموس وفى مجمع البيان : هو الأخذ على غير طريق الجد ومثله العبث وأصله من لعاب الصبى يقال : لعب كسمع ومنع إذا سال لعابه وخرج إلى غير جهة والمصدران : إما بمعنى اسم المفعول أو الكلام على حذف مضاف أو قصد المبالغة وقوله تعالى : من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فى موضع الحال من الذين قبله أو من فاعل اتخذوا والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان كمال شناعتهم وغاية ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن اتخاذ دين المؤمنين المصدقين بكتابهم هزوا ولعبا والكفار
(6/171)
أى المشركين وقد ورد بهذا المعنى فى مواضع من القرآن وخصوا به لتضاعف كفرهم وهو عطف على الموصول الأول وعليه لاتصريح باستهزائهم هنا وان أثبت لهم فى آية إنا كفيناك المستهزئين إذ المراد بهم مشركو العرب ولايكون النهى حينئذ بالنظر اليهم معللا بالاستهزاء بل نهوا عن موالاتهم ابتداءا وقرأ الكسائى وأهل البصرة والكفار بالجر عطفا على الموصول الأخير ويعضد ذلك قراءة أبى ومن الكفار وقراءة عبد الله ومن الذين أشركوا فهم أيضا من جملة المستهزئين صريحا وقوله تعالى : أولياء مفعول ثان للاتتخذوا والمراد جانبوهم كل المجانبة وأتقوا الله فى ذلك بترك موالاتهم أو بترك المناهى على الإطلاق فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليا إن كنتم مؤمنين
57
- حقا فان قضية الإيمان توجب الاتقاء لامحالة واذا ناديتم أى دعا بعضكم بعضا إلى الصلاة اتخذوها أى الصلاة أو المناداة اليها هزوا ولعبا أخرج البيهقى فى الدلائل من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : كان منادى رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود : قد قاموا لاقاموا فاذا رأوهم ركعا وسجدا استزأوا بهم وضحكوا منهم واخرج ابن جرير وغيره عن السدى قال : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادى ينادى أشهد أن محمدا رسول الله قال : حرق الكاذب فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت وأحرق هو وأهله والكلام مسوق لبيان استهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد بيان استهزائهم بالدين على الاطلاق اظهارا لكمال شقاوتهم ذلك أى الاتخاذ المذكور بأنهم أى بسبب أنهم قوم لايعقلون
58
- فان السفه يؤدى إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به ولو كان لهم عقل فى الجملة لما اجترأوا على تلك العظيمة قيل : وفى الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده واعترض بأن قوله سبحانه : وإذا ناديتم لايدل على الأذان اللهم إلا أن يقال : حيث ورد بعد ثبوته كان إشارة اليه فيكون تقريرا له قال فى الكشف : أقول فيه : إن اتخاذ المناداة هزؤا منكر من المناكير أنها من من معروفات الشرع فمن هذه الحيثية دل على أن المناداة التى كانوا عليها حق مشروع منه تعالى وهو المراد بثوبته بالنص بعد أن ثبت ابتداءا بالسنة ومنام عبد الله بن زيد الأنصارى الحديث بطوله ولاينافيه أن ذلك كان أول ماقدموا المدينة والمائدة من آخر القرآن نزولا وقوله : لا بالمنام وحده ليس فيه مايدل على أن السنة غير مستقلة فى الدلالة لأن الأدلة الشرعية معرفات وأمارات لامؤثرات وموجبات وترادف المعرفات لاينكر انتهى ولأبى حيان فى هذا المقام كلام لاينبغى أن يلتفت اليه لما فيه من المكابرة الظاهرة وسمى الأذان مناداة لقول المؤذن فيه : حى على الصلاة حى على الفلاح قل ياأهل الكتاب أمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم بطريق تلوين الخطاب بعد نهى المؤمنين عن قول المستهزئين بأن يخاطبهم ويبين إن الدين منزه عما يصحح صدور ماصدر منهم من الاستهزاء ويظهر لهم وسبب ماارتكبوه ويلقمهم الحجر ووصفوا بأهابة الكتاب تمهيدا لما سيذكر سبحانه من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم أى قل يا محمد لأولئك الفجرة هل تنقمون منا أى هل تنكرون وتعيبون منا وهو من نقم منه كذا إذا أنكره وكرهه من حد ضرب وقرأ الحسن تنقمون
(6/172)
بفتح القاف من حد علم وهى لغة قليلة وقال الزجاج : يقال : نقم بالفتح والكسر ومعناه بالغ فى كراهة الشىء وأنشد لعبد الله بن قيس : مانقموا من بنى أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وفى النهاية يقال : نقم ينقم إذ بلغت به الكراهة حد السخط ويقال نقم فلان إلا حسان إذاجعله مما يؤديه إلى كفر النعمة ومنه حديث الزكاة ماينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله تعالى أى ماينقم شيئا من منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة فكأن غناه أداه إلى كفر نعمة الله تعالى وعن الراغب إن تفسير نقم بأنكر وأعاب لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة لأنه لايعاقب إلا على ماينكر فيكون على حد قوله :
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
وهو كما قال الشهاب : مما يعدى بمن وعلى وقال أبو حيان : أصله أن يتعدى بعلى ثم افتعل المبنى منه يعدى بمن لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه وهنا فعل بمعنى افتعل ولم يذكر له مستندا فى ذلك إلا أن امنا بالله وأنزل إلينا من القرآن المجيد
وما أنزل من قبل أى من قبل أنزاله من التوراة والانجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن أكثركم فاسقون
59
- أى متمردون خارجون عن دائرة الإيمان بما ذكر فان الكفر بالقرآن العظيم مستلزم للكفر بسائر الكتب كما لايخفى والواو للعطف ومابعدها عطف على أن آمنا
واختار بعض أجلة المحققين أنه مفعول له لتنقمون والمفعول به الدين وحذف ثقة بدلالة ماقبل ومابعد عليه دلالة واضحة فان اتخاذ الدين هزوا ولعبا عين نقمه وإنكاره والايمان بما فصل عين الدين الذى نقموه خلا أنه فى معرض علة تسجيلا عليهم بكمال المكابرة والتعكيس حيث جعلوه موجبا لنقمه مع كونه فى نفسه موجبا لقبوله وارتضائه فالاستثناء على هذا من أعم العلل أى ماتنقمون منا ديننا لعلة من العلل إلا لإيماننا بالله تعالى وما أنزل الينا وماأنزل من قبل من كتبكم ولأن أكثركم متمردون غير مؤمنين بشىء مما ذكر حتى لوكنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به وقدر بعضهم المفعول المحذوف شيئا ولاأرى بأسا وقيل : العطف على أن آمنا باعتبار كونه المفعول به لكن لاعلى أن المستثنى مجموع المعطوفين إذ لايعترفون أن أكثرهم فاسقون حتى ينكروه بل هو مايلزمها من المخالفة فكأنه قيل : هل تنكرون منا إلا أنا على حال يخالف حالكم حيث دخلنا فى الاسلام وخرجتم منه وقيل الكلام على حذف مضاف أى واعتقاد أن أكثركم فاسقون وقيل : العطف على المؤمن به أى هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وماأنزل إلينا وماأنزل من قبل وبأن كثركم كافرون وهذا فى المعنى كالوجه الذى قبله
وقيل : علىالعطف علة محذوفة وقد حذف الجار فى جانب المعطوف ومحله إما جر أو نصب على الخلاف المشهور أى هل تنقمون منا إلا الايمان لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون وقيل : هو منصوب بفعل مقدر منفى دل عليه المذكور أى ولاتنقمون ان أكثركم فاسقون وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ويقدر مقدما عند بعض لأن أن المفتوحة لايقع مامعها مبتدأ إلا إذا تقدم الخبر
وقال أبو حيان : إن أن لايبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط وخالف الكثير من النحاة فى هذا الشرط على أنه يغتفر فى الأمور التقديرية مالا يغتفر فى غيرها والجملة على التقديرين حالية أو معترضة أى وفسقكم
(6/173)
ثابت أو معلوم وقيل : الواو بمعنى مع أى هل تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم الخ
وتعقبه العلامة التفتازانى بأن هذا لايتم على ظاهر كلام النحاة من أنه لابد فى المفعول معه من المصاحبة فى معمولية الفعل وحينئذ يعود المحذور وهو أنهم نقموا كون أكثرهم فاسقين نعم يصح على مذهب الأخفش حيث اكتفى فى المفعول معه بالمقارنة فى الوجود مستدلا بقولهم : سرت والنيل وجئتك وطلوع الشمس وبحث فيه بان ذلك الاشتراط فى المفعول معه لايوجب الاشتراط فى كل واو بمعنى مع فليكن الواو بمعنى مع من غير أن يكون مفعولا معه لانتفاء شرطه وهو مصاحبته معمول الفعل بل يكون للعطف
وقيل : الواو زائدة وأن أكثركم الخ فى موضع التعليل أى هل تنقمون منا إلا الايمان لأن أكثركم فاسقون
وقرأ أبو نعيم بن ميسرة وإن أكثركم بكسر الهمزة والجملة حينئذ مستأنفة مبنية لكون أكثرهم متمردين والمراد بالأكثر من لو يؤمن وما آمن منهم إلاقليل قل هل أنبئكم بشر من ذلك تبكيت لأولئك الفجرة أيضا ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ماهم عليه من الدين المحرف وفيه نعى عليهم على سبيل التعريض بجناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها ولم يصرح سبحانه لئلا يححملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد وخاطبهم قبل البيان بما ينبىء عن عظم شأن المبين ويستدعى إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به والتنبئة المشعرة بكونه أمرا خطرا لما أن النبأ هو الخبر الذى له شأن وخطر والإشارة إلى الدين المتقوم لهم واعتبرت الشرية بالنسبة إليه مع أنه خير محض منزه عن شائبة الشرية بالكلية مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شريته وحاشاه ليثبت أن دينهم شر من كل شر ولم يقل سبحانه بأنقم تنصيصا على مناط الشرية لأن مجرد النقم لايفيدها البتة لجواز كون العيب من جهة العائب
فكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم وفى ذلك تحقيق لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها وقيل إنما قال : بشر لوقوعه فى عبارة المخاطبين فقد أخرج ابن اسحق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : أتى النبى صلى الله عليه و سلم نفر من يهود فيهم أبو ياسر لن أخطب ونافع بن أبى نافع وغازى بن عمرو وزيد وخالد وإزار بن أبى إزار فسالوه عليه الصلاة و السلام عم يؤمن به من الرسل قل : أومن بالله تعالى وماأنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإاسحق ويعقوب والاسباط وماأوتى موسى وعيسى وماأوتى النبيون من ربهم لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فلما ذكر عيسى عليه الصلاة و السلام جحدوا نبوته وقالوا : لانؤمن بعيسى ولانؤمن بمن آمن به ثم قالوا كما فى رواية الطبرانى لانعلم دينا شرا من دينكم فأنزل الله تعالى الآية وبهذا الخبر انتصر من ذهب إلى أن المخاطبين بأنبئكم هم أهل الكتاب
وقال بعضهم : المخاطب هم الكفار مطلقا وقيل هم المؤمنون كما اختلف فى الخطاب اختلف فى المشار اليه بذلك فالجمهور على ماقدمناه وقيل : الاشارة إلى الأكثر الفاسقين ووحد الاسم إما لأنه يشار به الى الواحد وغيره وليس كالضمير أو لتأويله بالمذكور ونحوه
وقيل : الإشارة إلىالأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب والمراد أن السلف شر من الخلف مثوبة عند الله أى جزاءا ثابتا عنده تعالى وهو مصدر ميمى بمعنى الثواب ويقال فى الخير والشر لأنه
(6/174)
ما رجع إلى الانسان من جزاء اعماله سمى به بتصور أن ماعلمه يرجع اليه كمايشير اليه قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال شرا يره حيث لم يقل سبحانه ير جزاءه إلا أن الأكثر المتعارف استعماله فى الخير ومثله فى ذلك المثوبة واستعمالها هنا فى الشر على طريقة التهكم كقوله
تحية بينهم ضرب وجميع
ونصبها علىالتمييز من بشر وقيل : يجوز أن تجعل مفعولا له لأنبئكم لطلب مثوبة عند الله تعالى فى هذا الإنباء ويحتمل أن يصير سبب مخافتكم ويفضى إلى هدايتكم وعليه فالمثوبة فى المتعارف من استعمالها وهو وإن كان له وجه لكنه خلاف الظاهر وقرىء مثوبة بسكون الثاء وفتح الواو ومثلها مشورة ومشورة خلافا للحريرى فى إيجابه مشورة كمعونة وقوله سبحانه : من لعنه الله وغضب عليه خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله مناسب لما أشير اليه بذلك أى دين من لعنه الله الخ أو بتقدير مضاف قبل اسم الاشارة مناسب لمن أى بشر من أهل ذلك والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ من الجملة الاستفهماية كما قال الزجاج إما على حالها أو باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل : ماالذى هو شر من ذلك فقيل : هو دين من لعنه الخ أو من الذى هو شر من أهل ذلك فقيل : هو من لعنه الله الخ وجوز ولاينبغى أن يجوز عند التأمل أن يكون بدلا من شر ولابد من تقدير مضاف أيضا على نحو ماسبق آنفا والاحتياج إليه ههنا ليخرج من كونه بدل غلط وهو لايقع فى فصيح الكلام وأما فى الوجه الأول فأظهر من أن يخفى وإذا جعل ذلك إشارة إلى الأشخاص لم يحتج الكلام إلى ذلك التقدير كما هو ظاهر ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وماتبعه والموصل عبارة عن أهل الكتاب حيث أبعدهم الله تعالى عن رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهما كهم فى المعاصى بعد وضوح الآيات وسطوع البينات وجعل منهم القردة والخنازير أى مسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة السلام وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن المسخين كانا فى أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير وضمير منهم راجع إلى من باعتبار معناه كما أن الضميرين الأولين له باعتبار لفظه وكذا الضمير فى قوله سبحانه : وعبد الطاغوت فانه عطف على صلة من كما قال الزجاج وزعم الفراء أن فى الكلام موصولا محذوفا أى ومن عبد وهو معطوف على منصوب جعل أى وجعل منهم من عبد الخ ولايخفى أنه لايصلح إلا عند الكوفيين والمراد بالطاغوت عند الجبائى العجل الذى عبد اليهود وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والحسن أنه الشيطان وقيل : الكهنة وكل من أطاعوه فى معصية الله تعالى والعبادة فيما عدا القول الأول مجاز عن الإطاعة قال شيخ الاسلام : وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها فى الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين البين البطلان ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لاسبيل لهم إلى الجحود لابشريته وفظاعته ولاباتصافهم به وإما للايذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ماذكر من الشرية ولو روعى ترتيب الوجود وقيل : من عبد الطاغوت ولعنه الله وغضب عليه الخ لربما فهم أن علية الشرية هو المجموع انتهى
(6/175)
وأنت تعلم أن كون الوصف أصلا غير ظاهر على ماذهب اليه الجبائى وأن كون الاتصاف باللعن والغضب مما لاسبيل لهم الى الجحود به فى حيز المنع كيف وهم يقولون : نحن أبناء وأحباؤه إلا أن يقال : إن الآثار المترتبة على ذلك الدالة عليه فى غاية الظهور بحيث يكون إنكار مدلولها مكابرة وقيل : قدم وصف اللعن والغب لأنهما صريحان فى أن القوم منقومون ومشير إلى أن ذلك الأمر عظيم وعقبهما بالجعل المذكور ليكون كالاستدلال على ذلك وأردفه بعبادة الطاغوت الدالة على شرية دينهم أتم دلالة ليتمكن فى الذهن أتم تمكن لتقدم مايشير اليها إجمالا وهذا أيضا غير ظاهر على مذهب الجبائى ولعل رعايته غير لازمة لانحطاط درجته فى هذا المقام والظاهر من عبارة شيخ الاسلام أنه بنى كلامه على هذا المذهب حيث قال بعد ماقال : والمراد من الطاغوت العجل وقيل : الكهنة وكل من أطاعوه فى معصية الله تعالى فيعم الحكم دين النصارى أيضا ويتضح وجه تأخير عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لزم اشتراك الفريقين فى تلك العقوبات انتهى فتدبر حقه
وفى الآية كما قال جمع : عدة قراآت اثنتان من السبعة وماعداهما شاذ فقرأ الجمهور غير حمزة عبد على صيغة الماضى المعلوم والطاغوت بالنصب وهى القراءة التى بنى التفسير عليها وقرأ حمزة وعبد الطاغوت بفتح العين وضم الباء وفتح الدال وخفض الطاغوت على أن عبد واحد مراد به الجنس وليس بجمع لأنه لم يسمع مثله فى أبنيته بل هو صيغة مبالغة ولذا قال الزمخشرى : معناه الغلو فى العبودية وأنشد عليه قول طرفة : أبنى لبينى ان أمكم أمة وإن أباكم عبد اراد عبدا وقد ذكر مثله ابن الانبارى والزجاج فقالا : ضمت الباء للمبالغة كقولهم للفطن والحذر : فطن وحذر بضم العين فطعن أبو عبيدة والفراء فى هذه القراءة ونسبة قارئها الى الوهم وهم والنصب بالعطف على القردة والخنازير وقرىء وعبد بفتح العين وضم الباء وكسر الدال وجر الطاغوت بالإضافة والعطف على من بناءا على أنه مجرور بتقدير المضاف أو بالبدلية على ماقيل ولم يرتض
وقرأ أبى عبدوا بضمير الجمع العائد على من باعتبار معناها والعطف مثله فى قراءة الجمهور وقرأ الحسن عباد جمع عبد وعبد بالافراد بجر الطاغوت ونصبه والجر بالاضافة والنصب إما على أن الأصل عبد بفتح الباء أو عبد بالتنوين فحذف كقوله
ولاذاكر الله إلا قليلا
بنصب الاسنم الجليل والعطف ظاهر وقرأ الأعمش والنخعى وأبان عبد على صيغة الماضى المجهول مع رفع الطاغوت على أنه نائب الفاعل والعطف ععلى صلة من وعائد الموصول محذوف أى عبد فيهم أو بينهم وقرأ بعض كذلك إلا أنه أنث فقرأ عبدت بتاء التأنيث الساكنة والطاغوت : يذكر ويؤنث كما مر وأمر العطف والعائد على طرز القراءة قبل
وقرأ ابن مسعود عبد بفتح العين وضم الباء وفتح الدال مع رفع الطاغوت على الفاعلية لعبد وهو كشرف كأن العبادة صارت سجية له أو أنه بمعنى صار معبودا كأمر أى صار أميرا والعائد على الموصول على هذا أيضا محذوف وقرأ ابن عباس رضى الله تعالى عنهما عبد بضم العين والباء وفتح الدال وجر الطاغوت فعن الأخفش أنه جمع عبيد جمع عبد فهو جمع الجمع أو جمع عابد كشارف وشرف أو جمع عبد كسقف وسقف أو جمع عباد ككتاب وكتب فهو جمع الجمع ايضا مثل ثمار وثمر
(6/176)
وقرأ الأعمش أيضا عبد بضم العين وتشديد الباء المفتوحة وفتح الدال وجر الطاغوت جمع عابد وعبد كحطم وزفر منصوبا مضافا للطاغوت مفردا وقرأ ابن مسعود أيضا عبد بضم العين وفتح الباء المشددة وفتح الدال ونصب الطاغوت على حد
ولا ذاكر الله إلا قليلا
بنصب الاسم الجليل وقرىء وعابد الشيطان بنصب عابد وجر الشيطان بدل الطاغوت وهو تفسير عند بعض لاقراءة وقرىء عباد كجهال عباد كرجال جمع عابد أو عبد وفيه إضافة العباد لغير الله تعالى وقد منعه بعضهم وقرىء عابد بالرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر وجر الطاغوت وقرىء عابدوا بالجمع والاضافة وقرىء عابد منصوبا وقرىء عبد الطاغوت بقتحات مضافا على أن أصله عبدة ككفرة فحذفت تاؤه للاضافة كقوله
وأخلفوك عد الأمر وعدوا
أى عدته كإقام الصلاة أو هو جمع أو اسم جمع لعابد كخادم وخدم وقرىء أعبد كأكلب وعبيد جمع أو اسم جمع وعابدى جمع بالياء وقرأ ابن مسعود أيضا ومن عبدوا أولئك أى الموصوفون بتلك القبائح والفضائح وهو مبتدأ وقوله سبحانه : شر خبره وقوله تعالى : مكانا تمييز محول عن الفاعل وإثبات الشرارة لمكانهم ليكون أبلغ فى الدلالة على شرارتهم فقد صرحوا أن إثبات الشرارة لمكان الشىء كناية عن إثباتها له كقولهم : سلام على المجلس العالى والمجد بين برديه فكأن شرهم أثر فى مكانهم أو عظم حتى صار مجسما
وجوز أن يكون الاسناد مجازيا كجرى الهر وقيل : يجوز أن يكون المكان بمعنى محل السكون والقرار الذى يكون أمرهم إلى التمكن فيه أى شر منصرفا والمراد به جهنم وبئس المصير والجملة مستأنفة مسوقة منه تعالى شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال وداخلة تحت الأمر تأكيدا للإلزام وتشديدا للتبكيت وجعلها جوابا للسؤال الناشىء من الجملة الاستفهامية ليستقيم احتمال البدلية السابق مما لايكاد يستقيم
وأضل عن سواء السبيل
60
- أى أكثر ضلالا عن طريق الحق المعتدل وهو دين الاسلام والحنفية وهو عطف على شر مقرر له وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لأن مايسلكونه من الطريق دينهم فاذا كانوا أضل كان دينهم ضلالا مبنيا لاغاية وراءه والمقصود من صيغتى التفضيل الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غير فى ذلك وقيل : للتفضيل على زعمهم وقيل : إنه بالنسبة إلى غيرهم من الكفار
وقال بعضهم : لامانع ان يقال : إن مكانهم فى الآخرة شر من مكان المؤنين فى الدنيا لما لحقهم فيه من مكاره الدهر وسماع الأذى والهضم من جانب أعدائهم وإذا جاءوكم قالوا امنا نزلت كما قال قتادة والسدى فى ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه و سلم فيظهرون له الايمان والرضا بما جاء به نفاقا فالخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم والجمع للتعظيم أوله عليه الصلاة و السلام مع من عنده من أصحابه رضى الله تعالى عنهم أى إذا جاءوكم أظهروا لكم الإسلام
وقد دخلوا بالكفر وهم خرجوا به أى يخرجون من عندك كما دخلوا لم ينتفعوا بحضورهم بين يديك ولم يؤثر فيهم ماسمعوا منك والجملتان فى موضع الحال من ضمير قالوا على الأظهر
وجوز أبو البقاء ان يكونا حالين من الضمير فى آمنا وباء بالكفر و به للملابسة والجار والمجرور
(6/177)
حالان من فاعل دخلوا و خرجوا والواو الداخلة على الجملة الاسمية الحالية للحال ومن منع تعدد الجملةالحالية من غير عطف يقول : إنها عاطفة والمعطوف على الحال حال أيضا ودخول قد فى الجملة الحالية الماضوية كما قال العلامة الثانى لتقرب الماضى إلى الحال فتكسر سورة استبعاد مابين الماضى والحال فى الجملة وإلا فقد إنما تقرب إلى حال التكلم وهذا إشارة إلى ما أوضحه السيد السند فى حاشية المتوسط من أنه قيل : إن الماضى إنما يدل على انقضاء زمان التكلم والحال الذى يبين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله فان كان العامل ماضيا كان الحال أيضا ماضيا بحسب المعنى وإن كان حالا كان حالا وإن كان مستقبلا كان مستقبلا فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر وهو الذى يقابل الماضى وبين مايبين الحال المذكورة ثم قال : ويمكن أن يقال : إذا وقع قيدا لشىء يعتبر كونه ماضيا أو حالا أو مستقبلا بالنظر إلى ذلك المقيد فاذا قيل : جاءنى زيد ركب يفهم منه أن الركوب كان متقدما على المجىء فلابد من قد حتى يقربه إلى زمان المجىء فيقارنه وذكر نحو ذلك العلامة الكافيجى فى شرح القواعد ثم قال : وأما الاعتذار بأن تصدير الماضى المثبت بلفظة قد لمجرد استحسان لفظى فانما هو تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولامرضى انتهى
ولذلك زيادة تفصيل فى محله وقد ذكر لها معنى آخر فى الآية غير التقريب وهو التوقع فتفيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يتوقع دخل أولئك الفجرة وخروجهم من خضيلة حضرته أفرغ من يد تفت البر مع لم يعلق بهم شىء مما سمعوا من تذكيره عليه الصلاة و السلام بآيات الله عز و جل لظنه بما يرى من الأمارات اللائحة عليهم نفاقهم الراسخ ولذلك قال سبحانه : والله أعلم بماكانوا يكتمون
61
- وفيه من الوعيد مالايخفى وفى الكشاف ان إمارات النفاق كنت لائحة عليهم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم متوقعا لاظهار الله تعالى ماكتموه فدخل حرف التوقع لذلك واعترضه الطيبى بأن قد موضوعة لتوقع مدخولها وهو ههنا عين النفاق فكيف يقال : لإظهار الله تعالى ماكتموه وأجاب بأنه لاشك أن المتوقع ينبغى أن يكون حاصلا وكونهم منافقين كان معلوما عنده صلوات الله تعالى وسلامه عليه بدليل قوله : إن أمارات النفاق الخ فيجب المصير إلى المجاز والقول باظهار الله تعالى ماكتموه وقال فى الكشف معرضا به : إن الدخول فى الكفر والخروج به إظهار له فلذلك أدخل عليه حرف التوقع لا أنه عين النفاق ليحتاج إلى تجوز فى رجوع التوقع إلى إظهاره وإن ظهور أمارته غير إظهار الله تعالى إياه باخباره سبحانه عنهم وأنهم متلبسون بالكفر متقلبون فيه خروجا ودخولا انتهى فليتأمل وإنما لم يقل سبحانه وقد خرجوا على طرز الجملة الأولى إفادة لتأكيد الكفر حال الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد تنور أبصارهم برؤية مطلع شمس الرسالة وتشنف أسماعهم بلآلىء كلمات بحر البسالة عليه الصلاة و السلام أن يرجعوا عما هم عليه من الغواية ويحلوا جياد قلوبهم العاطلة عن حلى الهداية وأيضا أنهم إذا سمعوا قول النبى صلى الله عليه و سلم وأنكروه ازداد كفرهم وتضاعف ضلالهم وترى كثيرا منهم أى من أولئك اليهود كما روى عن ابن زيد والخطاب لسيد المخطابين صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح للخطاب والرؤية بصرية وقيل : قلبية وقوله : يسارعون فى الاثم والعدوان فى موضع الحال من
(6/178)
كثيرا الموصوف بالجار والمجرور وقيل : مفعول ثان لترى والمسارعة مبادرة الشىء بسرعة وإيثار فى على إلى للاشارة إلى تمكنهم فيما يسارعون اليه تمكن المظروف فى ظرفه وإحاطته بأعمالهم وقد مرت الإشارة الى ذلك
والمراد بالاثم الحرام وقيل : الكذب مطلقا وقيل : الكذب بقولهم آمنا لأنه اما إخبار أو إنشاء متضمن الاخبار بحصول صفة الايمان لهم واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتى : عن قولهم الاثم وأنت تعلم أنه لايقتضيه وقيل : المراد به الكفر وروى ذلك عن السدى ولعل الداعى لتخصيصه به كونه الفرد الكامل والمراد من العدوان الظلم أو مجاوزة الحد فى المعاصى وقيل : الاثم مايختص بهم والعدوان مايتعدى إلى غيرهم والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء الاعتقاد وأكلهم السحت أى الحرام مطلقا وقال الحسن : الرشوة فى الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه فى المتقدم للمبالغة فى التقبيح لبئس ماكانوا يعملون أى لبئس شيئا يعملونه هذه الأمور فما نكرة موصوفة وقعت تمييزا لضمير الفاعل المستتر فى بئس والمخصوص بالذم محذوف كما أشرنا اليه وجوز جعل ما موصولة فاعل بئس والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على الاستمرار لولا ينهاهم الربانيون والأحبار قال الحسن : الربانيون علماء الانجيل والأحبار علماء التواة وقال غيره : كلهم فى اليهود لأنه يتصل بذكرهم و لولا الداخلة على المضارع كما قرره ابن الحاجب وغيره للتحضيض والداخلة على الماضى للتوبيخ والمراد هنا تحضيض الذين يقتدى بهم أفناؤهم ويعلمون قباحة ماهم فيه وسوء مغبته على نهى أسافلهم
عن قولهم الاثم وأكلهم السحت مع علمهم بقبحهما واطلاعهم على مباشرتهم لهما وفى البحران هذا التحضيض يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهى لبئس ماكانوا يصنعون
63
- الكلام فيه كالكلام السابق فى نظيره خلا أن هذا أبلغ مما تقدم فى حق العامة لما تقرر فى اللغة والاستعمال أن الفعل ماصدر عن الحيوان مطلقا فان كان عن قصد سمى عملا ثم إن حصل بمزاولة وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمى صتعا وصنعة وصناعة فلذا كان الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ ولذا يقال للحاذق : صانع وللثوب الجيد النسج : صنيع كما قاله الراغب ففى الآية إشارة الى أن ترك النهى أقبح من الارنكاب ووجه بأن المرتكب له فى المعصية لذة وقضاء وظر بخلاف المقر له ولذا ورد إن جرم الديوث أعظم من الزانين
واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهى عن الزنا والقتل أشد إثما منهما وهو بعيد وأجيب بأنه لايبعد أن يكون إثم ترك النهى ممن يؤثر نهيه كف المنهى عن فعل المنهى عنه أشد من أثم المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلا أو زنا أو غيرهما وقال الشهاب : إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار فكونه أشد باعتبار ارتكاب مالافائدة له فيه لاينافى كون المباشرة أكثر إثما منه فتأمل وفى الآية مما ينعى على العلماء توانيهم فى النهى عن المنكرات مالايخفى ومن هنا قال الضحاك : ماأخوفنى من هذه الآية وعن إبن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال : مافى القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية وقرىء لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم العدوان وأكلهم السحت لبئس ماكانوا يعملون وقالت اليهود عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وعكرمة والضحاك قالوا : إن الله تعالى قد بسط لليهود الرزق فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم
(6/179)
كف عنهم ماكان بسط لهم فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء رأس يهود قينقاع وفى رواية عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما النباش بن قيس يد الله عز و جل مغلولة وحيث لم ينكر على القائل الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل ولذلك نظائر تقدم كثير منها وأرادوا بذلك لعنهم الله تعالى أنه سبحانه ممسك ماعنده بخيل به تعالى عما يقولون علوا كبيرا فان كلا من غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود أو كناية عن ذلك وقد استعمل حيث لاتصح يد كقوله : جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده ولقد جعلوا للشمال يدا كما فى قوله : أضل صواره وتضيفته نطوف أمرها بيد الشمال وقول العبيد وغداة ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها ويقال : بسط اليأس كفيه فى صدر فلان فيججعل لليأس الذى هو من المعانى لامن من الأعيان كفان قال الشاعر : وقد رابنى وهن المنى وانقباضها وبسط جديد اليأس كفيه فى صدرى وقيل : معناه إنه سبحانه فقير كقوله تعالى : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وقيل : اليد هنا بمعنى النعمة أى ان نعمته مقبوضة عنا وعن الحسن أن المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ماعبد آباؤنا العجل وكأنه حمل اليد وعلى القدرة والغل على عدم التعلق
وقيل : لايبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فانهم مجسمة وقد حكى عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسى وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة مما عراه من النصب فى خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون علوا كبيرا والأقوال كلها كما ترى وكل العجب من الحسن رضى الله تعالى عنه من قول ذلك وليته لم يقل غير الحسن ولعل نسبته إليه غير صحيحة والذى تقتضيه البلاغة ويشهد له مساق الكلام القول الأول ولايبعد من قوم قالوا لموسى عليه الصلاة و السلام اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وعبدوا العجل أن يعتقدوا اتصاف الله عز و جل بالبخل ويقولوا ماقالوا وقال أبو القاسم البلخى : يجوز أن يكون اليهود قالوا قولا واعتقدوا مذهبا يؤدى معناه إلى أن الله تعالى عز شأنه يبخل فى حال ويجود فى حال آخر فحكى عنهم على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم
واقل آخر : إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء حيث لم يوسع سبحانه على النبى صلى الله عليه و سلم وعلى أصحابه ولايخفى أن ماروى فى سبب النزول لايساعد ذلك وقيل : إنهم قالوا ذلك على سبيل الاستفهام والاستغراب والمراد يد الله سبحانه مغلولة عنا حيث قتر المعيشة علينا ولايخفى بعده غعلت أيديهم دعاء عليهم بالبخل المذوم كما قاله الزجاج ودعاؤه بذلك عبارة عن خلقه الشح فى قلوبهم والقبض فى أيديهم ولااستحالة فى ذلك على ماذهب أهل الحق ويجوز أن يكون دعاء عليهم بالفقر والمسكنة وقيل : تغل الأيدى حقيقة يغلةن فى الدنيا أسارى فى الآخرة معذبين فى أغلال جنهم ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث
(6/180)
اللفظ فيكون تجنسيا وقيل : هى من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبنى سبب الله تعالى دابره أى قطعه لأن السبب أصله القطع وإالى هذا الزمخشرى واستطيبه الطيبى وقال : إن هذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله : قالوا : اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت : اطبخو لى جبة وقميصا واختار أبو على الجبائى إن ذلك إخبار عن حالهم يوم القيامة أى شدت أيديهم إلى أعناقهم فى جهنم جزاء هذه الكلمة العظيمة وحكاه الطبرسى عن الحسن ثم قال : فعلى هذا يكون الكلام بتقدير الفاء أو الواو فقد تم كلامهم واتؤنف بعده كلام آخر ومن عادتهم أن يحذفوا فيما يجرى هذا المجرى ومن ذلك قوله : وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا وأنت تعلم أن مثل هذا على الاستئناف البيانى ولاحاجة فيه إلى تجشم مؤونة التقدير على أن كلام الحسن فيما نرى ليس نصا فى كون الجملة إخبارية إذ قصارى ماقال : غلت أيديهم فى جهنم وهو محتمل لأن يكون دعاء عليهم بذلك ولعنوا أى أبعدوا عن رحمة الله تعالى وثوابه بما قالوا أى بسبب قولهم أو بالذى قالوه من ذلك القول الشنيع وهذا دعاء ثان معطوف على الدعاء الأول والقائل بخبريته وقرىء ولعنوا بسكون العين
بل يداه مبسوطتان عطف على مقدر يقتضيه المقام أى كلا ليس الشأن كما زعموا بل فى غاية مايكون من الجود واليه كما قيل أشير بتثنية اليد فان أقصى ماتنتهى اليه همم الأسخياء أن يعطوا بكلتا يديهم وقيل : اليد هنا أيضا بمعنى النعمة وأريد بالتثنية نعم الدنيا ونعم الآخرة أو النهم الظاهرة والنعم الباطنة أو مايعطى للاستدراج ومايعطى للاكرام وقيل : وروى عن الحسن أنها بمعنى القدرة كاليد الاولى وتثنيتها باعتبار تعلقها بالثواب وتعلقها بالعقاب وقيل : المراد من التثنية التكثير كما فى فارجع البصر كرتين والمراد من التكثير مجرد المبالغة فى كمال القدرة وسعتها لا أنها متعددة ونظير ذلك قول الشاعر : فسرت أسرة طرتيه فغورت فى الخصر منه وأنجدت فى نجده فانه لم يرد أن ذلك الرشاد طرتين إذ ليس للانسان إلا طرة واحدة وإنما أراد المبالغة
وقال سلف الأمة رضى الله تعالى عنه : إن هذا من المتشابه وتفويض تأويله إلى الله تعالى هو الأسلم وقد صح عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه أثبت لله عز و جل يدين وقال : وكلتا يديه يمين ولم يرو عن أحد من أصحابه صلى الله عليه و سلم أنه أول ذلك بالنعمة أو بالقدرة بل أبقوها كما وردت وسكتوا ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لاسيما فى مثل المواطن وفى مصحف عبد الله بل يداه بسطان يقال : يد بسط بالعروف ونحوه مشية سجح وناقة سرح ينفق كيف يشاء جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من كيف وفيها تنبيه على سر ماابتلوا به من الضيق الذى اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها والمعنى أن ذلك ليس لقصور فى فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئه المبنية على الحكم الدقيقة التى عليها تدور أفلاك المعاش والمعاد وقد اقتضت الحكمة إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا رسوله صلى الله عليه و سلم أن يضيق عليهم و كيف ظرف ليشاء والجملة فى موضع نصب على الحالية من ضمير ينفق أى ينفق كائنا
(6/181)
على أى حال يشاء أى على مشيئته أى مريدا وقيل : إن جملة ينفق فى الموضع الحال من الضمير المجرور فى يداه واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه والحال لايجىء منه ورد بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما فى قوله تعالى حكاية : هذا بعلى شيخا إذ قيل : إن شيخا حال من اسم الاشارة والعامل فيه التنبيه وأن الممنوع مجىء الحال من المضاف اليه إذا لم يكن جزءا أو كجزء أو عاملا وههنا المضاف جزء من المضاف اليه أو كجزء فليس بممتنع وجوز أن تكون فى موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما ورد بأنه لاضمير لهما فيها وأجيب بأنه لامانع من تقدير ضمير لهما أى ينفق بهما ومن هنا قيل : بجواز كونها خبرا ثانيا للمبتدأ نعم التقدير خلاف الأصل والظاهر وهو إنما يقتضى المرجوجية لا الامتناع وترك سبحاته ذكر ماينفقه لقصد التعميم وليزيدن كثيرا منهم وهم علماؤهم ورساؤهم أو المقيمون على الكفر منهم مطلقا ماأنزل اليك من القرآن المشتمل على هذه الآيات وتقديم المفعول للاعتناء به من ربك متعلق بأنزل كما أن اليك كذلك واخبره عنه مع أن حق المبتدأ أن يقدم على المنتهى لاقتضاء المقام كما قال شيخ الاسلام الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول اليه صلى الله عليه و سلم وفى التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام مالايخفى من التشريف والموصول فاعل ليزيدن والاسناد مجازى و كثيرا مفعوله الأول و منهم صفته وقوله تعالى : طغيانا وكفرا مفعوله الثانى أى ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين لأن الزيادة تقتضى وجود المزيد عليه قبلها وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار وهذا كما أن الطعام للاصحاء يزيد المرضى مرضا ويحتمل أن يراد بماأنزل النعم التى منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة و السلام أى أنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ماقالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم مابسط لهم فمتى رأو مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلى الله عليه و سلم الذى هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظا وحنقا على ربهم سبحانه فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانا وإلى كفرهم كفرا وحينئذ تلائم الآية ماقبلها أشد ملائمة إلا أن ذلك لايخلو عن بعد ولم أر من ذكره
والقينا بينهم أى اليهود
وقال فى البحر : الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم فى قوله سبحانه : لاتتخذوا اليهود والنصارى ولشمول قوله عز و جل : يأهل الكتاب للفريقين وروى ذلك عن الحسن ومجاهد
العدواة والبغضاء فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولاتتحد كلمتهم فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة و العدواة والبغضاء بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق وكذا من النصارى الملكانية والبعقوبية والنسطورية وحالهم حالهم فى ذلك وحال اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى ورجح عود الضمير إلى اليهود بأن الكلام فيهم وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ماعسى أن يتوهم من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدى إلى الاضرار بالمسلمين وقال أبو حيان بعد أن أرجع الضمير للطائفتين : ان المعنى لايزال اليهود والنصارى متباغضين متعادين قلما توافق احدى الطائفتين الاخرى ولاتجتمعان على قتالك وحربك وفى ذلك إخبار بالغيب فانه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الاسلام
(6/182)
وفرق السمين بين العداوة والبغضاء بأن العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو الى يوم القيامة متعلق بألقينا وجوز أن يتعلق بالبغضاء أى إن التباغض بينهم مستمر ماداموا وليست حقيقة الغاية مرادة ولم يجوز أن يتعلق بالعداوة لئلا يلزم الفصل بين المصدر بأجنبى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله تصريح بما أشير اليه من عدم وصول غائلة ماهم فيه إلى المسلمين والمراد كلما أرادوا محاربة الرسول صلى الله عليه و سلم ورتبوا مباديها ردهم الله تعالى وقهرهم بتفرق آرائهم وحل عزائمهم وإلقاء الرعب فى قلوبهم فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ويسمونها نار الحرب وهى إحدى نيران مشهورة عندهم وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم وحكى فى البحر قولين فىالآية : فعن قوم إن لايقاد حقيقة وكذا الإطفاء أى أنهم كلما أوقدوا نارا للمحاربة ألقى عليهم الرعب فتقاعدوا وأطفأها وإضافا الإطفاء اليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب الأصلى
وعن الجمهور إن الكلام مخرج مخرج الاستعارة والمراد من إيقاد النار إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار فى الأضرار ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين ولعل القول بالكناية ألطف منهما وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلى الله عليه و سلم هو المروى عن الحسن ومجاهد وقيل : هو أعم من ذلك أى كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فان اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس الرومى ثم أفسدوا فسلط جل شأنه عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط عليهم عز و جل رسوله عليه الصلاة و السلام فأباد خضراءهم واستأصل شافتهم وفرق جمعهم وأذلهم فاجلى بنى النضير وبنى قينقاع وقتل بنى قريظة وأسر أهل خيبر وغلب على فدك ودان له أهل وادى القرى وضرب على أهل الذمة الجزية وأبقاءهم الله تعالى فى ذل لايعزون بعده أبدا وإطفاء النار على هذا عبارة عن الغلبة عليهم قاتلهم الله تعالى و للحرب متعلق بأوقدوا واللام للتعليل أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنار وهو الأوفق بالتسمية ويسعون فى الأرض فسادا أى يجتهدون فى الكيد للاسلام وأهله وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم ممايغاير ماعبر عنه بايقاد نار الحرب كتغيير صفة النى صلى الله عليه و سلم وإدخال الشبه على ضعفاء المسلمين والمشى بالنميمة مع الافتراء ونحو ذلك و فسادا إما مفعول له وعليه اقتصر أبو البقاء أو فى موضع المصدر أو حال من ضمير يسعون أى يسعون للفساد أو سعى فساد أو مفسدين
والله لايحب المفسدين
64
- بل يبغضهم ولذلك أطفأ نائرة فسادهم واللام اما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وإما للعهد ووضع المظهر موضع ضميرهم للتعليل وبيان كونهم راسخين فى الإفساد
والجملة الابتدائية مسوقة لإزاحة ماعسى أن يتوهم من تأثير اجتهادهم شيئا من الضرر وجعلها بعضهم فى موضع الحال وفائدتها مزيد تقبيح حالهم وتفظيع شأنهم ولو أهل الكتاب أى اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس الشامل للتوراة والانجيل ويمكن أن يراد بهم اليهود فقط وذكر الإنجيل ليس نصا فى اقتضاء العموم إلا أن الذى عليه عامة المفسرين والعموم وذكروا بذلك العنوان تأكيدا للتشنيع عليهم والمراد بهم معاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم أى ولو أنهم مع صدور ماصدر منهم من فنون الجنايات
(6/183)
قولا وفعلا امنوا بمانفى عنهم الايمان فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلى الله عليه و سلم وحذف المتعلق ثقة بظهور مما سبق من قوله تعالى : هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله الح ومالحق من قوله سبحانه : ولو أنهم أقاموا التوراة الخ
وتخصيص المفعول بالإيمان به عليه الصلاة و السلام يأباه كما قال شيخ الاسلام المقام لأن ماذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم به عليه الصلاة و السلام إنما ذكر مشفوعا بكفرهم بكتابهم أيضا قصدا إلى الالزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلى الله عليه و سلم مستلزم للكفر بكتابهم فحمل الإيمان ههنا على الإيمان به عليه الصلاة و السلام مخل بتجاوب النظم الكريم وقدر قتادة فيما أخرجه عنه ابن حميد وغيره المتعلق بما أنزل الله وهو ميل إلى التعميم وكذا عمم فى قوله تعالى : واتقوا فقال : أى ماحرم الله تعالى
وقال شيخ الاسلام : ماعددنا من معاصيهم التى من جملتها مخالفة كتباهم لكفرنا عنهم سيئاتهم التى اقترفوها وسارعوا فيها وإن كانت فى غاية العظمة ولم نؤاخذهم بها وجمعها قلة إما باعتبار الأنواع وإما باعتبار أنها وان كثرت قليلة بالنسبة إلى على كرم الله تعالى وقد أشرنا فيما تقدم أن جمع القلة قد يقوم مقام جمع الكثرة إذا اقتضاه المقام ولأدخلنهم مع ذلك جنات النعميم
65
- وجعل أبو حيان تكفير السيئآت فى مقابلة الايمان وإدخال جنات النعيم فى مقابلة التقوى وفسرها بامتثال الأوامر واجتناب النواهى فالآية من باب التوزيع والظاهر عدمه وتكرير اللام لتأكيد الوعد وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم وأن الاسلام ماقبله وإن جل وجاز الحد وفى إضافة الجنات إلى النعيم تنبيه على مايستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا
وأخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن مالك بن دينار أنه قال : جنات النعيم بين جنات الفردوس وجنات عدن وفيها جوار خلقن من ورد الجنة قيل فمن يسكنها قال : الذين هموا بالمعاصى فلما ذكروا عظمة الله تعالى شأنه راقبوه ولايخفى أن مثل هذا لايقال من قبل الرأى والذى يقتضيه الطاهر أن يقال لسائر الجنات : جنات النعيم وإن اختلفت مراتب النعيم فيها ولو أنهم أقاموا التوراة والأنجيل أى وفوا حقهما بمراعاة مافيهما من الأحكام التى من جملتها شواهد نبوته صلى الله عليه و سلم ومبشرات بعثته وليس المراد مراعاة جميع مافيهما من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها فان ذلك ليس من الإقامة فى شىء وماأنزل إليهم من ربهم من القرآن المجيد المصدق لما بين يديه كما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما واختاره الجبائى وغيره وقيل : المراد بالموصول كتب أنبياء بنى اسرائيل ككتاب شعيا وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق وكتاب دانيال فانها مملوءة بالبشائر بمبعثه صلى الله عليه و سلم واختاره أبو حيان ويجوز أن يراد به مايعم ذلك والقرآن العظيم وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله اليه وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحى نازلا عليه والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للايذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله اليهم وللتصريح ببطلان ماكانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بنى اسرائيل وتقديم اليهم لما مر آنفا وفى إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم فى الدعوة إلى الإقامة
(6/184)
لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم أى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها كما قال سبحانه : لفتحنا عليهم بركات من السماء قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وقيل : المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزورع وقيل : بما يهدل من الثمار من رءوس الأشجار وما يتساقط منها على الارض وقيل : بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم ومايعطيه لهم سفلتهم وعواملهم وقيل : المراد المبالغة فى شرح السعة والخصب لاتعيين الجهتين كأنه قيل : لأكلوا من كل جهة وجعله الطبرسى نظير قولك : فلان فى الخير من قرنه إلى قدمه أى يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما فى قولك : فلان يعطى ويمنع و من فى الموضعين لابتداء الغاية
وسنشير إن شاء الله تعالى فى باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل وفى الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروى وفى الثانية ترغيب بأمر دنيوى وتنبيه على أن ماأصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لالقصور فى فيض الفياض وتقديم الترغيب بالأمر الأخروى لأنه أهم إذ به النجاة السرمدية والنعيم المقيم وخولف بين العبارتين فقيل : أولا : آمنوا واتقوا وثانيا أقاموا ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة قيل : ويشبه أن يكون ما فى الشرطية الثانية إشارة إلى ماجرى على بنى قريظة وبنى النظير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم فكأنه قيل فى حقهم : لو أنهم أقاموا فى ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن القامة فحرموا وتاهوا فى مهامه الضنك إذ ظلموا وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم فى أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لاشبهة فى أنه إذا آمن كتابى واتقى كفر الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه فى رحمته سواء فى ذلك معاصر النبى صلى الله عليه و سلم وغيره ولاكذلك الشرطية الثانية فان الظاهر اختصاص تحقق اللزوم فى المعاصر إذ نرى كثيرا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة والانجيل وما أنزل اليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم على الوجه اللائق وهو فى ضنك من العيش قبل ولايتغير حاله وربما كان فى رفاهية حتى إذا اقام وقفت به سفينة العيش فوقع فى حيص بيص وجعلها كالشرطية الأولى وحمل التوسعة على ماهو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما فى أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا لاأظنه يأخذ محلا من فؤادك ولا أحبسه حاسما لما يقال والقول بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ماتقدم وانتفاعهم كذلك أى لو أنهم كلهم أقاموا التوراة الخ لأكلوا كلهم من فوقهم الخ لا لو أقام بعضهم لاأراه إلا منكرا من القول وزورا
وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه : و لأكلوا الخ بقوله : لوسع عليهم الرزق وفسر التوسعة بأوجه ذكرها ولم يجعله شاملا لرزق الدارين ولو حمل على الترقى وتفصيل مأجمل فى الأول شرطا وجزاءا لكان وجها انتهى وبهذا الوجه أقول واليه أتوجه وإنى أراه كالمتعين إلا أن اختلاف الشرطيتين عليه ليستا سواء والاشكال فيه باق من وجه ولامخلص عنه على ماأرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين ولعل النوبة تفضى إن شاء الله تعالى إلى تحقيق مايتعلق بهذا المقام فتدبر منهم أمة مقتصدة أى طائفة عادلة غير غالية ولامقصرة
(6/185)
كما روى عن الربيع وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبى صلى الله عليه و سلم كما قال مجاهد والسدى وابن زيد واختاره الجبائى وأولئك كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود وثمانية وأربعون من النصارى وقيل : المراد بهم النجاشى وأصحابه رضى الله تعالى عنهم والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء والاقامة المذكورات كأنه قيل : هل كلهم مصروف على عدم الإيمان وأخويه فقيل : منهم الخ وتفسير الاقتصاد بالتوسط فى العداوة بعيد وكثير منهم وهم الأجلاف المتعصبون ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم
ساء مايعلمون
61
- من العناد والمكابرة وتحريف الحق والاعراض عنه
وقيل : من الاإراط فى العداوة وكثير مبتدأ و منهم صفته و ساء كبئس للذم
وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب كقضو زيد أى ماأضاه فالمعنى هنا ماأسوا عملهم وبعضهم يقول : هى لمجرد الذم والتعجب مأخوذ من المقام وتمييزها محذوف و ما موصولة فاعل لها أى ساء عملا الذى يعملونه ويجوز أن تكون ما نكرة فى موضع التمييز والجملة الانشائية خبر للمبتدأ والكلام فى ذلك شهبر
هذا ومن باب الاشارة فى الآيات إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة أى صلاة الشهود والحضور الذاتى ويؤتون الزكاة أى زكاة وجودهم وهم راكعون أى خاضعون فى البقاء بالله
والآية عند معظم المحدثين نزلت فى على كرم الله تعالى وجهه والإمامية كما علمت يستدلون بها على خلافته بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم بلا فصل وقد علمت منا ردهم والحمد لله سبحانه رد كلام وكثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يشير إلى القول بخلافته كرم الله تعالى وجهه بعد الرسول عليه الصلاة و السلام بلا فصل أيضا إلا أن تلك الخلافة عندهم هى الخلافة الباطنة التى هى خلافة الارشاد والتربية والامداد والتصرف الروحانى لا الخلافة الصورية التى هى عبارة عن قامة الحدود الظاهرة وتجهيز الجيوش والذب عن بيضة الاسلام ومحاربة أعدائه بالسيف والسنان فان تلك عندهم على الترتيب الذى وقع كما هو مذهب أهل السنة والفرق عندهم بين الخلافتين كالفرق بين القشر واللب فالخلافة الباطنة لب الخلافة الظاهرة وبها يذب عن حقيقة الإسلام وبالظاهرة يذب عن صورته وهى مرتبة القطب فى كل عصر وقد تجتمع مع الخلافة الظاهرة كما اجتمعت فى على كرم الله تعالى وجهه أيام أمارته وكما تجتمع فى المهدى أيام ظهوره وهى والنبوة رضيعا ثدى وإلى ذلك الاشارة بما يروونه عند عليه الصلاة و السلام من قوله : خلقت أنا وعلى من نور واحد وكانت هذه الخلافة فيه كرم الله تعالى وجهه على الوجه الأتم
ومن هنا كانت سلاسل أهل الله عز و جل منتهية اليه إلا ماهو أعز من بيض الانوق فانه ينتهى إلى الصديق رضى الله تعالى عنه كسلسلة ساداتنا النقشبندية نفعنا الله تعالى بعلومهم ومع هذا ترد عليه كرم الله تعالى وجهه أيضا بتقسيم الخلافة إلى هذين القسمين جمع بعض العارفين بين الأحاديث المشعرة أو االمصرحة بخلافة الأئمة الثلاثة رضى الله تعالى عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على الترتيب المعلوم وبين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الامير كرم الله تعالى وجهه بعده عليه الصلاة و السلام بلا فصل فحمل الاحاديث الواردة فى خلافة الخلفاء
(6/186)
الثلاثة على الحلافة الظاهرة والأحاديث الواردة فى خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلافة الباطنة ولم يعطل شيئا من الاخبار وقال بحقيقة خلافة الأربع رضى الله تعالى عنهم أجمعين
وأنت تعلم أن هذا مشعر بأفضلية الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلفاء الثلاثة وبعضهم يصرح بذلك ويقول : بجواز خلافة المفضول خلافة صورية مع وجود الفاضل لكن قد قدمنا عن الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره أنه قال : ليس بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه رجل وليس مقصوده سوى بيان المرتبة فى الفضل فافهم ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فانه من حزب الله تعالى أى أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة فان حزب الله هم الغالبون على أعدائهم الأنفسية والأفاقية وقد صح لاتزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله سبحانه لايضرهم من خذلهم حتى يأتى أمر الله تعالى وهم على ذلك ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا الذين اتخذوا دينكم أى حالكم الذى أنتم عليه فى السير والسلوك هزوا ولعبا فطعنوا فيه من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم المقتصرون على الظاهر فقط كاليهود أو على الباطن فقط كالنصارى والكفار الذين حجبوا بأنفسهم عن الحق أولياء للمباينة فى الأحوال واتقوا الله إن كتنم مؤمنين به عز شأنه وإذا ناديتم الى الصلاة أى الحضور قى حضرة الرب اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لايعقلون الأسرار ولم يفهموا مافى الصلاة من بلوغ الأوطار فقد صح حبب لى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عينى فى الصلاة قل ياأهل الكتاب هل تنقمون وتنكرون من إلا أن آمنا بالله وماأنزل الينا وما أنزل من قبل فجمعنا بين الظاهر والباطن وطرنا بهذين الجناحين إلى الحضرة القدسية وجعل منهم القردة والخنازير أى بدلنا صفاتهم بصفات هاتيك الحيوانات من الحيل والحرص والشهوة وقلة الغيرة وعبد الطاغوت وهو كل مايطغى مما سوى الله تعالى أى أنهم ان قادوا اليه وخضعوا اليه ومن اولئك من هو عابد الدرهم والدينار اولئك شر مكانا لانهم أبطلوا استعدادهم الفطرى وضلوا ضلالا بعيدا وترى كثيرا منهم يسارعون فى الاثم والعدوان وأكلهم السحت اى يقدمون بسرعة على جميع الرذائل لاعتيادهم لها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم فالاثم رذيلة القوة النطقية والعدوان رذيلة القوى الغضبية وأكل السحت رذيلة القوى الشهوية وقالت اليهود لحرمانهم من الأسرار التى لايطلع عليها أهل الظاهر يد الله تعالى عما يقولون مغلولة فلا يفيض غير مانحن فيه من العلوم الظاهرة غلت أيديهم وحرموا إلى يوم القيامة عن تناول ثمار أشجار الأسرار ولعنوا أى أبعدوا عن الحضرة الآلهية بما قالوا من تلك الكلمة العظيمة بل يداه مبسوطتان ينفق بهما كيف يشاء فيفيض حسب الحكمة من أنواع العلوم الظاهرة والباطنة على من وجده أهلا لذلك والى الظاهر والباطن أشار صلى الله عليه و سلم باليل وانهار فيما أخرجه البخارى وغيره يد الله تعالى ملآى لايغيضها سحاء الليل والنهار ولو أن أهل الكتاب آمنوا الايمان الحقيقى واتقوا شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم ولو أنهم آمنوا بالعلوم الظاهرة واتقوا الإنكار والاعتراض على من روى من العلوم الباطنة وسلموا لهم أحوالهم كما قيل : وإذا لم تر الهلال فلم لأناس رأوه بالأبصار لكفرنا عنهم سيآتهم التى ارتكبوها ولادخلناهم جنات النعيم فى مقابلة إيمانهم واتقائهم ولو أنهم
(6/187)
أقاموا التوراة بتحقق العلوم الظاهرة والقيام بحقوق تجليات الافعال والمحافظة على أحكامها فى المعاملات والانجيل بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها فى المكاشفات ومأنزل اليهم من ربهم من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذى هو عالم الاسماء لأكلوا من فوقهم أى لرزقوا من العالم الروحانى العلوم الآلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية ومن تحت أرجلهم أى من العالم السفلى الجسمانى العلوم الطبيعية والادراكات الحسية وبالأول يهتدون إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الملك والجبروت وبالثانى يهتدون إلى معرفة عالم الملك فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمر ان باسمه الباطن والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات وللطيبى هنا كلام طيب يصلح لهذا الباب فانه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال فى لأكلوا الخ أى لوسع عليهم خير الدارين وقلت : هذا فى حق من عدد سيآ تهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والانجيل فماظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من هذا العالم إلى معالم القدس معتصما بحبل الله تعالى وسنة حبيبه صلى الله عليه و سلم فانه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله وسحائب بركاته فكمن فيه كمون الامطار فى الارض فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه
وفى تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الأقامة بما ذكر واختصاص من الابتدائية مايلوح إلى معنى قوله عليه الصلاة و السلام : من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم مالم يعلم لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات فاذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عز و جل بركات هى أزكى من الأولى فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهى السالك الى مقام القرب ومنازل العارفين وفى ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم وفى اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الامام ارلاشادا له الى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى
وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو منى فى موضع التاج من الرأس لازال باقيا ذكر الأرجل هنا بأنه للاشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه : من تحت أرجلهم الأمور السفلية الحاصلة بالسعى والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى : ومن فوقهم الأمور الحاصلة بمجرد الفيض وحينئذ يقوى الطباق بين المتعاطفين
ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبى غير هذا الوجه مما يوافق أيضا مشرب أهل الظاهر فتدبر منهم أمة مقتصدة قيل : عادلة واصلة إلى توحيد الاسماء والصفات وكثير منهم مايعملون وهم المحجوبون بالكلية الذين لم يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات والله تعالى الهادى إلى سواء السبيل
ياأيها الرسول إلى الثقلين كافة وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته الكبرى وفى هذا العنوان إيذان أيضا بما يوزجب الاتيان بماأمر به صلى الله عليه و سلم من تبليغ ماأوحى اليه
بلغ أى أوصل الخلق ماأنزل إليك أى جميع ماأنزل كائنا ماكان من ربك أى مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك وفيخه عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة و السلام وكلاءته أى غير مراقب فى ذلك أحدا ولاخائف أن ينالك مكروه أبدا وإن لم تفعل أى ماأمرت به من تبليغ الجميع
(6/188)
فما بلغت رسالته أى فما أديت شيئا من رسالته لما أن بعضها ليس أولى بالاداء من بعض فاذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا كما أن من لم يؤمن بعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لادلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها لذلك فى حكم شىء واحد والشىء الواحد لايكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به ولأن كتمان بعضها يضيع ماأدى منها كترك بعض أركان الصلاة فان غرض الدعوة ينتفض به واعترض القول بنفى أولوية بعضها من بعض بالأداء بأن الأولوية ثابتة باعتبار الوجوب قطعا وظنا وجلاءا وخفاءا اصلا وفرعا وأجاب فى الكشف بأنه نفى الأولوية نظرا إلى أصل الوجوب وأيضا ان ذلك راجع إلى المبلغ والكلام فى التبليغ وهو غير مختلف الوجوب لأنه شىء واحد نظرا إلى ذاته ثم كتمان البعض يدل على أنه لم ينظر الى أنه مأمور بالتبليغ بل إلى مافى المبلغ من المصلحة فكأنه لم يمتثل هذا الأمر أصلا فلم يبلغ وإن أعلم الناس لم ينفعه لأنه مخبر إذ ذاك لامبلغ ونوقش فى التعليل الثانى بأن الصلاة اعتبرها الشارع أمرا واحدا بخلاف التبليغ وهى مناقشة غير واردة لأنه تعالى ألزمه علسيه الصلاة والسلام تبليغ الجميع فقد جعلها كالصلاة بلا ريب
ومما ذكرنا فى تفسير الشرطية يعلم أن لااتحاد بين الشرط والجزاء ومن ادعاه بناءا على أن المآ ل إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة جعله نظير
أنا أبو النجم وشعرى شعرى
حيث جعل فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد فى اللفظ وشعرى شعرى المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه الصفات التى بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره فى أفهام الناس السامعين لاشتهاره بها وأنه غنى عن ذكرها لشهرتها وذياعها وكذلك كما ابن المنير : أريد فى الآية لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر فى الافهام أنه عظيم شنيع ينعى على مرتكبه ألا ترى أن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع فكيف كتمان الرسالة من الرسول ! فاستغنى عن ذكر الزيادات التى يتفاوت بها الشرط واجزاء للصوقها بالجزاء فى الأفهمام وأن كل من سمهع عدم تبليغ الرسالة فهم ماوراءه من الوعيد والتهديد وحسن هذا الأسلوب فى الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما حيث قال سبحانه : وإن لم تفعل ولم يقل : وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ليتغايرا لفظا وإن اتحدا معنى وهذا أحسن رونقا وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد فى الشرط والجزاء وهذه الذروة انحط عنها أبوالنجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز فلا معاب عليه فى ذلك وقيل : إن المراد فان لم تفعل فلك مايوجبه كتمان الوحى كله فوضع السبب موضع المسبب ويعضده ماأخرجه إسحق راهويه فى مسنده من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه وأخرجه أبو الشيخ وابن حيان فى تفسيره من مرسل الحسن أن النبى صلى الله عليه و سلم قال : بعثنى الله تعالى بالرسالة فضقت بها ذرعا فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتى عذبتك وضمن لى العصمة فقويت
وقيل إن المراد إن تركت تبليغ ماأنزل إليك حكم عليك بأنك لم تبلغ أصلا وقيل وليته ماقيل المراد بما أنزل القرآن وبما فى الجواب بقية المعجزات وقيل : غير ذلك واستدل بالآية على أنه صلى الله عليه و سلم لم يكتم شيئا من الوحى ونسب إلى الشيعة أنهم يزعمون أنه عليه الصلاة و السلام كتم البعض تقية
وعن بعض الصوفية أن المراد تبليغ مايتعلق به مصالح العباد من الأحكام وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه وأما ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه وروى السلمى عن جعفر رضى الله تعالى عنه فى قوله تعالى : فأوحى إلى عبده ماأوحى قال : أوحى بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه
(6/189)
ولا يعلم به أحد سواه إلا فى العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته وقال الواسطى ألقى إلى عبد ماألقى ولم يظهر ماالذى أوحى لأنه خصه سبحانه به صلى الله عليه و سلم وما كان مخصوصا به عليه الصلاة و السلام كان مستورا ومابعثه الله تعالى إلى الخلق كان ظاهرا قال الطيبى : وإلى هذا ينظر معنى ماروينا فى صحيح البخارى عن سعيد المقبرى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه و سلم وعاءين : فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع منى هذا البلعوم أراد عنقه وأصل معناه مجرى الطعام وبذلك فسره البخارى ويسمون ذلك علم الأسرار الآلهية وعلم الحقيقة وإلى أشار رئيس العارفين على زين العابدين حيث قال : إنى لأكتم من علمى جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا وقد تقدم فى هذا أبو حسن إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لى : أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمى يرون أقبح ما يأتونه حسنا من ذلك علم وحدة الوجود وقد نصوا على أنه طور مارواء طور العقل وقالوا : إنه مما تعلمه الروح بدون واسطة العقل ومن هنا قالوا بالعلم الباطن على معنى أنه باطن بالنسبة إلى أرباب الأفكار وذوى العقول المنغمسين فى أوحال العوائق والعلائق لاالمتجردين العارجين إلى حضائر القدس ورياض الأنوار
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعرانى روح الله تعالى روحه فى كتابه الدرر المنثورة فى بيان زبد العلوم المشهورة مانصه : وأما زبدة علم التصوف الذى وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ماقالوه بعض ماعنده لأنه كلما ترقى العبد فى باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخى فلان يدق على فهمى فقال : لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك وهذا الذى هو دعاه الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ماعلمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى
وقد فهم بعضهم كون المراد تبليغ الأحكام ومايتعلق بها من المصالح دون مايشمل علم الأسرار من قوله سبحانه : ماأزلنا اليك دون ماتعرفنا به اليك وذكر أن علم الأسرار لم يكن منزلا بالوحى بل بطريق الإلهام والمكاشفة وقيل : يفهم ذلك من لفظ الرسالة فان الرسالة مايرسل الى إلغير وقد أطال بعض الوفية قدس الله تعالى أسرارهم الكلام فى هذا المقام والتحقيق عندى أن ماعند النبى صلى الله عليه و سلم من الأسرار الآلهية وغيرها من الأحكام الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزل فقد قال سبحانه وأنزلنا إليك الكتاب تبيانا لكل شىء وقال تعالى : مافرطنا فى الكتاب من شىء وقال صلى الله عليه و سلم فيما أخرجه الترمذى وغيره : ستكون فتن قيل : وماالمخرج منها قال : كتاب الله تعالى فيه نبأ ماقبلكم وخبر مابعدكم وحكم مافيكم وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال : أنزل فى هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شىء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا فى القرآن وقال الشافعى رضى الله تعالى عنه : جميع ماحكم به النبى صلى الله عليه و سلم فهو مما فهمه من القرآن ويؤيد ذلك ما رواه الطبرانى فى الأوسط من حديث
(6/190)
عائشة رضى الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنى لا أحل إلا ماأحل الله تعالى فى كتابه ولا أحرم إلا ماأحرم الله تعالى فى كتابه وقال المرسى : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط به علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلى الله عليه و سلم خلا مااستأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة رضى الله تعالى عنهم وأعلامهم مثل الخلافاء الاربعة ومثل ابن مسعود وابن عباس رضى الله تعالى عنهما حتى قال : لوضاع لى عقال بعير لوجدته فى كتاب الله تعالى ثم ورث عنه التابعون بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ماحمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه
وقال بعضهم : مامن شىء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى حتى أن البعض استنبط عمر النبى صلى الله عليه و سلم ثلاثا وستين سنة من قوله سبحانه فى سورة المنافقين : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فانها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن فى فقده بنفس ذلك النبى صلى الله عليه و سلم وهذا مما لايكاد ينتطح فيه كبشان فاذا ثبت أن جميع ذلك فى القرآن كان تبليغ القرآن تبليغا له غايه ما فى الباب أن التوقيف على تفصيل ذلك سرا سرا وحكما حكما لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد وكم من سر وحكم نبهت عليهما الاشارة ولم تبينهما العبارة ومن زعم أهناك أسرارا خارجة عن عن كتاب الله تعالى تلقاها الصوفية من ربهم بأى وجه كان فقد أعظم الفرية وجاء بالضلال ابن السبهلل بلا مرية
وقول بعضهم : أخذتم علمكم ميتا عن ميت ونحن أخذناه عن الحى الذى لايموت لايدل على ذلك الزعم لجواز أن يكون ذلك الأخذ من القرآن بواسطة فهم قدسى أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ ويؤيد هذا ماصح عن أبى جحيفة قال : قلت لعلى كرم الله تعالى وجهه : هل عندكم كتاب خصكم به رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا إلا كتاب الله تعالى أو فهم أعطيه رجل مسلم أو مافى هذه الصحيفة وكانت متعلقة بقبضة سيفه قال : قلت : ومافى هذه الصحيفة قال : العقل وفكاك الاسير ولايقتل مسلم بكافر
ويفهم منه كما قال القسطلانى جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه مالم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة وماعند الصوفية على ماأقول كله من هذا القبيل إلا أن بعض كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء لكنها مبنية على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات لقول على كرم الله تعالى وجهه كما فى صحيح البخارى حدثوا الناس مما يعرفون أتحبون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على مايقتضيه حسن الظن بهم بحث آخر لسنا بصدده
ووقريب من خبر أبى جحيفة ماأخرجه الن أبى حاتم عن عنترة قال : كنت عند ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فجاءه رجل فقال : إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى الله عليه و سلم للناس فقال : ألم تعلم أن اللله تعالى قال : ياأيها الرسول بلغ ماأنزل الله اليك من ربك والله ماورثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم سوداء فى بيضاء وحمل وعاء أبى هريرة رضى الله تعالى عنه الذى لم يبثه على علم الأسرار غير متعين لجواز أن يكون المراد منه إخبار الفتن وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم من فساد الدين على أيدى أغليمة من سفهاء قريش وقد كان أبو هريرة رضى الله تعالى عنه يقول : لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت
(6/191)
أو المراد الأحاديث التى فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وذمهم وقد كان رضى الله تعالى عنه يكنى عن بعض ذلك ولايصرح خوفا على نفسه منهم بقوله : أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين وإمارة الصبيان يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة واستجاب الله تعالى دعاء أبى هريرة رضى الله تعالى عنه فمات قبلها بسنة وأيضا قال القسطلانى : لوكان كذلك لما وسع أبى هريرة كتمانه مع ماأخرج عنه البخارى أنه قال : إن الناس يقولون : أكثر أبو هريرة الحديث ولولا آيتان فى كتاب الله تعالى ماحدثت حديثا ثم يتلو إن الذين يكتمون ماأنزلنا من البينات والهدى إلى قوله تعالى : الرحيم إلى آخر ماقال فان ماتلاه دال على ذم كتمان العلم لاسيما العلم الذى يسمونه علم الأسرار فان الكثير منهم يدعى أنه لب ثمرة العلم وأيضا ان أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على العموم من غير تخصيص فكيف يستدل به لذلك وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم فمن أين علم أن الذى علمه هو هذا ! ومن ادعى فعليه البيان ودونه قطع الأعناق
فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه مافيه ومثله ماروى عن زين العابدين رضى الله تعالى عنه نعم للقوم متمسك غير هذا مبين فى موضعه لكن لايسلم لأحد كائنا من كان أن ماهم عليه مما خلا عنه كتاب الله تعالى الجليل أو أنه أمر وراء الشريعة ومن برهن على ذلك بزعمه فقد ضل ضلالا بعيدا فقد قال الشعرانى قدس سره فى الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية : سمعت سيدى عليا المرصفى يقول : لايكمل الرجل فى مقام المعرفة والعلم حتى يرى الحقيقة مؤيدة لشريعة وأن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية وإنما هو عينها
وسمعت سيدى عليا الخواص يقول مرارا : من ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أو عكسه فقد جهل لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف حقيقة أبدا حتى قالوا : شريعة بلا حقيقة عاطلة وحقيقة بلا شريعة باطلة خلاف ماعليه القاصرون من الفقهاء والفقراء وقد يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع موسى عليهما السلام وسيأتى إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على وجه لايستطيع المخالف معه على فتح شفة
ومما نقلنا عن القسطلانى فى خبر أبى جحيفة يعلم الجواب عما قيل فى الاعتراض على الصوفية : من أن ماعندهم ان كان موافقا للكتاب والسنة فهما بين أيدينا وإن كان مخالفا لهما فهو رد عليهم ومابعد الحق إلا الضلال والجواب باختيار الشق الأول وكون الكتاب والسنة بين أيدينا لايستدعى عدم إمكان استنباط شىء منهما بعد ولايقتضى انحصار مافيهما فيما علمه العلماء قبل فيجوز أن يعطى الله تعالى لبعض خواص عباده فهما يدرك به منهما مالم يقف عليه أحد من المفسرين والفقهاء المجتهدين فى الدين وكم ترك الأول للآخر وحيث سلم للأئمة الأربعة مثلا اجتهادهم واستنباطهم من الآيات والاحاديث مع مخالفة بعضهم بعضا فما المانع من أن يسلم للقوم مافتح لهم من معانى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وإن خالف ماعليه بعض الأئمة لكن لم يخالف ماانعقد عليه الاجماع الصريح من الأمة المعصومة وأرى التفرقة بين الفريقين مع ثبوت علم كل فى القبول والرد تحكما بحتا كما لايخفى علىالمنصف وزعمت الشيعة أن المراد بما أنزلنا اليك خلافة على كرم الله تعالى وجهه فقد رووا بأسانيدهم عن أبى جعفر وأبى عبد الله رضى الله تعالى عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه و سلم أن يستخلف عليا كرم الله تعالى وجهه فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه الصلاة و السلام بما أمره بأدائه
(6/192)
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : نزلت هذه الآية فى على كرم الله وجه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته فتخوف رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا فى ذلك عليه فأوحى الله تعالى اليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم وأخذ بيده فقال عليه الصلاة و السلام : من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم والاه من والاه وعاد من عاداه وأخرج الجلال السيوطى فى الدر المنثور عن أبى حاتم وابن مردويه وابن عساكر راوين عن أبى سعيد الخدرى قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم غدير خم فى على بن أبى طالب كرم الله تعالى وجهه وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ياأيها الرسول بلغ ماأنزل اليك من ربك إن عليا ولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وخبر الغدرير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه وقد زادوا فيه إتماما لغرضهم زيادات منكرة ووضعوا فى خلاله كلمات مزورة ونظموا فى ذلك الأشعار وطعنوا على الصحابة رضى الله تعالى عنهم بزعمهم أنهم خالفوا نص النبى المختار صلى الله عليه و سلم فقال إسماعيل ابن محمد الحميرى عامله الله تعالى بعدله من قصيدة طويلة : عجبت من قوم أتوا أحمدا بخطة ليس لها موضع قالوا له : لوشئت أعلمتنا إلى من الغاية والمفزع إذا توفيت وفارقتنا وفيهم فى الملك من يطمع فقال : لو أعلمتكم مفزعا كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا كصنع أهل العجل إذ فارقوا هرون فالترك له أورع ثم أتته بعده عزمة من ربه ليس لها مدفع أبلغ وإلا لم تكن مبلغا والله منهم عاصم يمنع فعندها قام النبى الذى كان بما يأمره يصدع يخطب مأمورا وفى كفه كف على نورها يلمع رافعها أكرم بكف الذى يرفع والكف التى ترفع من كنت مولاه فهذا له مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا وظل قوم غاظهم قوله كأنما آنافهم تجدع حتى اذا وراروه فى لحده وانصرفوا عن دينه ضيعوا ماقال بالأمس وأوصى به واشتروا الضر بما ينفع وقطعوا أرحامهم بعده فسوف يجزون بما قطعوا وأزمعوا مكرا بمولاهم تبا لما كانوا به أزمعوا لاهم عليه يردوا حوضه غدا ولاهو لهم يشفع إلى آخر ماقال لاغفر الله تعالى له عثرته ولاأقال وأنت تعلم أن أخبار الغدير التى فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ولامسلمة لديهم أصلا ولنبين ماوقع هناك أتم تبيين ولنوضح الغث من السمين ثم نعود على استدلال الشيعة بالإبطال ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه الاتكال
(6/193)
فنقول : إن النبى صلى الله عليه و سلم خطب فى مكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له : غدير خم فبين فيها فضل على كرم الله تعالى وجهه وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ماكان صدر من المعدلة التى ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا والحق مع على كرم الله تعالى وجهه فى ذلك وكانت يوم الأحد ثامن عشر ذى الحجة تحت شجرة
هناك فروى محمد بن إسحق عن يحيى بن عبد الله عن يزيد بن طلحة قال : لما أقبل على كرم الله تعالى وجهه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه فعمد ذلك ارجل فكساكل رجل حلة من البز الذى كان مع على كرم الله تعالى وجهه فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فاذا عليهم الحلل قال : ويلك ماهذا قلال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا فى الناس قال : ويلك انتزع قبل أن ننتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فانتزع الحلل من الناس فردها فى البز وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم
وأخرج عن زينب بنت كعب وكانت عند أبى سعيد الخدرى عن أبى سعيد قال : اشتكى الناس عليا كرم الله تعالى وجهه فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا خطيبا فسمعته يقول : أيها الناس لاتشكوا عليا فو الله إنه لأخشن فى ذات الله تعالى أو فى سبيل الله تعالى ورواه الإمام أحمد وروى أيضا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما عن بريدة الأسلمى قال : غزوت مع على اليمن فرأيت منه جفوة فلمما قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكرت عليا كرم الله تعالى وجهه فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم قد تغير فقال بريدة : ألست أولى بالمؤمنين أنفسهم قلت : بلى يارسول الله قال : من كنت مولاه فعلى مولاه وكذا رواه النسائى بإسناد جيد قوى رجاله كلهم ثقات وروى باسناد آخر تفرد به وقال الذهبى : إنه صحيح عن زيد ابن أرقم قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من حجة الوداع ونزل غدير يرخم أمر بدوحات فغممن ثم قال : كأنى قد دعيت فأجبت أنى قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتى أهل بيتى فانظروا كيف تخلفونى فيهما فانهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض الله تعالى مولاى وأنا ولى كل مؤمن ثم أخذ بيد على كرم الله تعالى وجهه فقال : من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فما كان فى الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه
وروى ابن جرير عن على بن زيد وأبى هرون العبيدى وموسى بن عثمان عن البراء قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فى حجة الوداع فلما أتينا على غدير خم كسح لرسول الله صلى الله عليه و سلم تحت شجرتين ونودى فى الناس الصلاة جامعة ودعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا كرم الله تعالى وجهه وأخذ بيده وأقامه عن يمينه فقال : ألست أولى بكل امرىء من نفسه قالوا : بلى قال : فان هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فلقيه عمر بن الخطاب فقال رضى تعالى عنه : هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة وهذا ضعيف فقد نصوا أن على بن زيد وأبا هرون وموسى ضعفاء لايعتمد على روايتهم وفى السند أيضا أبو إسحق وهو شيعى مردود الرواية
وروى ضمرة بإسناده عن أبى هريرة قال : لما أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم يد على كرم تعالى وجهه قال : من كنت مولاه فعلى مولاه فأنزل الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم م قال أبو هريرة :
(6/194)
وهو يوم غدير خم ومن صام يوم ثمانى عشرة من ذى الحجة كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا وهو حديث منكرا جدا ونص فى البداية والنهاية على أنه موضوع وقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر بن جرير الطبرى فجمع فيه مجلدين أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه وساق الغث والسمين والصحيح والسقيم على ماجرت به عادة كثير سن المحدثين فانهم يوردون ماوقع لهم فى الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عسكر أورد أحاديث كثيرة فى هذه الخطبة والمعول عليه فيها ماأشرنا إليه ونحوه مما ليس فيه خبر الاستخلاف كما يزعمه الشيعة وعن الذهبى أن من كنت مولاه فعلى مولاه متواتر يتقين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله وأما اللهم وال من والاه فزيادة قوية الاسناد وأما صيام ثمانى عشرة ذى الحجة فليس بصحيح ولا والله نزلت تلك الآية إلايوم عرفة قبل غدير خم بأيام
والشيخان لم يرويا خبر الغدير فى صحيحهما لعدم وجدانهما له على شرطهما وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما وحاشاهما من ذلك ووجه استدلال الشيعة بخير من كنت مولاه فعلى مولاه أن المولى بمعنى الأولى بالتصرف وأولوية التصرف عين الامامة ولايخفى أن أول اللفظ فى هذا الاستدلال جعلهم المولى بمعنى الأولى وقد أنكر ذلك أهل العربية قاطبة بل قالوا : لم يجىء مفعل بمعنى أفعل أصلا ولم يجوز ذلك إلا أبو زيد اللغوى متمسكا بقول أبى عبيدة فى تفسير قوله تعالى : هى مولاكم أى أولى بكم
ورد بأنه يلزم عليه صحة فلان مولى من فلان كما يصح فلان أولى من فلان واللازم باطل إجماعا فالملزوم مثله وتفسير أبى عبيدة بيان لحاصل المعنى يعنى النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم وليس نصا فى أن لفظ المولى ثمة بمعنى الأولى والثانى أنا لو سلمنا أن المولى بمعنى الأولى ليلزم أن يكون صلته بالتصرف بل يحتمل أن يكون المراد أولى بالمحبة وأولى بالتعظيم ونحو ذلك وكم جاء الأولى فى كلام لايصح معه تقدير التصرف كقوله تعالى : ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبى والذين آمنوا على أن لنا قرينتين على ا المراد من الولاية من لفظ المولى أو الأولى : المحبة إحداهما ماروينا عن محمد بن إسحق فى شكوى الذين كانوا مع الأمير كرم الله تعالى وجهه فى اليمن كبريد الأسلمى وخالد بن الوليد وغيرهما ولم يمنع صلى الله عليه و سلم الشاكين بخصوصهم مبالغة فى طلب موالاته وتلطفا فى الدعوة اليها كما هو الغالب فى شأنه صلى الله عليه و سلم فى مثل ذلك وللتلطف المذكور افتتح الخطبة صلى الله عليه و سلم بقوله : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وثانيهما قوله عليه الصلاة و السلام على مافى بعض الروايات : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فانه لوكان المراد من المولى المتصرف فى الأمور أو الأولى بالتصرف لقال عليه الصلاة و السلام : اللهم وال من كان فى تصرفه وعاد من لم يكن كذلك فحيث ذكر صلى الله عليه و سلم المحبة والعداوة فقد نبه على أن المقصود ايجاب محبته كرم الله تعالى وجهه والتحذير عن عداوته وبغضه لا التصرف وعدمه ولو كان المراد الخلافة لصرح صلى الله عليه و سلم بها
ويدل لذلك مارواه أبو نعيم عن الحسن المثنى بن الحسن السبط رضى الله تعالى عنهما أنهم سألوه عن هذا الخبر هل هو نص على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه فقال : لوكان النبى صلى الله عليه و سلم أراد خلافته لقال : أيها الناس هذا ولى أمرى والقائم عليكم بعدى فاسمعوا وأطيعوا ثم قال الحسن : أقسم بالله سبحانه أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم لوا آثرا عليا لأجل هذا الأمر ولم يقدم
(6/195)
على كرم الله تعالى وجهه عليه لكان أعظم الناس خطأ وأيضا ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدى والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين فى زمان واحد ولايتصور الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ماذا كان المراد المحبة وتمسك الشيعة فى إثبات أن المراد بالمولى الأولى بالتصرف باللفظ الواقع فى صدر الخبر على إحدى الروايات وهو قوله صلى الله عليه و سلم عليه وسلم : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ونحن نقول : المراد من هذا أيضا الأولى بالمحبة يعنى ألست أولى : بالؤمنين من أنفسهم بالمحبة بل قد يقال : الأولى ههنا مشتق من الولاية بمعنى المحبة والمعنى ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم ليحصل تلاؤم أجزاء الكلام ويحسن الانتظام ويكون حاصل المعنى هكذا يامعشر المؤمنين إنكم تحبونى أكثر من أنفسكم فمن يحبنى يحب عليا اللهم أحب من أحبه وعاد من عاداه ويرشد إلى أنه ليس المراد بالأولى فى تلك الجملة الأولى بالتصرف أنها مأخوذة من قوله تعالى : النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله وهو مسوق لنفى نسب الأدعياء ممن يتبنونهم وبيانه أن زيد بن حارثة لاينبغى أن يقال : إنه ابن محمد صلى الله عليه و سلم لأن نسبة النبى صلى الله عليه و سلم إلى جميع المؤمنين كالأب الشفيق بل أزيد وأزواجه عليه السلام أمهاتهم والأقرباء فى النسب أحق وأولى من غيرهم وإن كانت الشفقة والتعظيم للاجانب أزيد لكن مدار النسب على القرابة وهى مفقودة فى الأدعياء لا على الشفقة والتعظيم وهذا ما فى كتاب الله تعالى أى فى حكمه ولادخل لمعنى الأولى بالتصرف فى المقصود أصلا فالمراد فيما نحن فيه هو المعنى الذى أريد فى المأخوذ منه ولو فرضنا كون الأولى فى صدر الخبر بمعنى الأولى بالتصرف فحيتمل أن يكون ذلك لتنبيه المخاطبين بذلك الخطاب ليتوجهوا إلى سماع كلامه صلى الله عليه و سلم كمال التوجه ويلتفتوا اليه غاية الالتفات فيقرر مافيه من الارشاد أتم تقرر وذلك وكما يقول الرجل لأبنائه فى مقام الوعظ والنصيحة : ألست أباكم وإذا اعترفوا بذلك يأمرهم بمافصده منهم ليقبلوا بحكم الأبوة والنبوة ويعملوا على طبقهما فقوله عليه الصلاة و السلام فى هذا المقام : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم مثل ألست رسول الله تعالى اليكم أو لست نبيكم ولايمكن اجراء مثل ذلك فيما بعده تحصيلا للمناسبة ومن الشيعة من أورد دليلا على نفىى المحبة وهو أن محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه أمر ثابت فى ضمن آية والمؤمنون والمؤمنات بعضهم آولياء بعض فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى كان لغوا ولايخفى فساده ومنشؤه أن المستدل لم يفهم أن إيجاب محبة أحد فى ضمن العوم شىء وإيجاب محبته بالخصوص شىء آخر والفرق بينهما مثل الشمس ظاهر ومما يزيد ذلك ظهورا أنه لو آمن شخص بجميع أنبياء الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام ولم يتعرض لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم بخصوصه بالذكر لم يكن إيمانه معتبرا وأيضا لو فرضنا اتحاد مضمون الآية والخبر لايلزم اللغو بل غاية مايلزم التقرير والتأكيد وذلك وظيفة النبى صلى الله عليه و سلم فقد كان عليه الصلاة و السلام كثيرا مايؤكد مضامين القرآن ويقررها بل القرآن نفسه قد تكررت فيه المضامين لذلك ولم يقل أحد إن ذلك من اللغو والعياذ بالله تعالى وأيضا التنصيص على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه تكرر مرارا عند الشيعة فيلزم على تقدير صحة ذلك القول اللغوى ويحل كلام الشارع عنه ثم إن ماأشار اليه الحميرى فى قصيدته التى أسرف فيها من أن الصحابة
(6/196)
رضى الله تعالى عنه بهذه الهيئة الاجتماعية جاءوا النبى صلى الله عليه و سلم وطلبوا منه تعينن الإمام بعده مما لم يذكر المؤرخون وأهل السير من الفريقين فيما أعلم بل هو محض زور وبهتان نعوذ بالله تعالى منه
ومن وقف على تلك القصيدة الشنيعة بأسرها ومايرويه الشيعة فيها وكان له أدنى خبرة رأى العجب العجاب وتحقق أن قعاقع القوم كصرير باب أو كطنين ذباب ثم ان الأخبار الواردة من طريق أهل السنة الدالة على أن هذه الآية نزلت فى على كرم الله تعالى وجهه على تقدير صحتها وكونها بمرتبة يستدل بها ليس فيها أكثر من الدلالة على فضله كرم الله تعالى وجهه وأنه ولى المؤمنين بالمعنى الذى قررناه ونحن لاننكر ذلك وملعون من ينكره وكذا ماأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من ذلك والتنصيص عليه كرم الله تعالى وجهه بالذكر لما قدمناه وقال بعض أصحابنا على سبيل التنزيل : إن الآية على خبر ابن مسعود وكذا خبر الغدير على الرواية المشهورة على تقدير دلالتهما على أن المراد الأولى بالتصرف لابد أن يقيدا بما يدل على ذلك فى المآ ل وحينئذ فمرحبا بالوفاق لأن أهل السنة قائلون بذلك حين إمامته ووجهه تخصيص الأمير كرم الله تعالى وجهه حينئذ بالذكر ماعلمه عليه الصلاة و السلام بالوحى من وقوع الفساد والبغى فى زمن خلافته وإنكار بعض الناس لإمامته الحقة وكون ذلك بعد الوفاة من غير فصل مما لايدل عليه والخبر المصدر بكأنى قد دعيت فأجبت ليس نصا فى المقصود كما لايخفى ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت فى خصوص خلافة على كرم الله تعالى وجهه وأن الموصول فيها خاص قوله تعالى : والله يعصمك من الناس فان الناس فيه وإن كان عاما إلا أن المراد بهم الكفار ويهديك اليه إن الله لايهدى القوم الكافرين
67
- فانه فى موضع التعليل لعصمته عليه الصلاة و السلام وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر أى لأن الله تعالى لايهديهم إلى أمنيتهم فيك ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة بل لو قيل : لم يبعد لأن التخوف الذى تزعمه الشيعة منه صلى الله عليه و سلم وحاشاه فى تبليغ أمر الخلافة إنما هو من الصحابة رضى الله تعالى عنهم حيث أن فيهم معاذ الله تعالى من يطمع فيها لنفسه ومتى رأى حرمانه منها لم يبعد منه قصد الاضرار برسول الله صلى الله عليه و سلم والتزام القول والعياذ بالله عز و جل بكفر من عرضوا بنسبة الطمع فى الخلافة اليه مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله تعالى وجهه وهو هو أو نسبة الجبن اليه وهو أسد الله تعالى الغالب أو الحكم عليه بالتقية وهو الذى لاتأخذه فى الله تعالى لومة لائم ولايخشى إلا الله سبحانه أو نسبة فعل الرسول الله صلى الله عليه و سلم بل الأمر الآلهى إلى العبث والكل كماترى لايقال : إن عندنا أمرين يدلان على أن المراد بالموصول الخلافة أحدهما أنه صلى الله عليه و سلم كان مأمورا بأبلغ عبارة بتبليغ الأحكام الشرعية التى يؤمر بها حيث قال سبحانه مخاطبا له عليه الصلاة و السلام : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين فلو لم يكن المراد هنا فرد هوأهم الأفراد وأعظمها شأنا وليس ذلك إلا الخلافة إذ بها ينتظم أمر الدين والدنيا لخلا الكلام عن الفائدة وثانيهما أن ابن إسحق ذكر فى سيرته أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب الناس فى حجةالوداع خطبته التى بين فيها مابين فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس اسمعوا قولى فانى لاأدرى لعلى لاألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا وإنكم ستلقون ربكم فيسألنكم عن أعمالكم وقد بلغت ثم أوصى
(6/197)
صلى الله عليه و سلم بالنساء ثم قال عليه الصلاة و السلام : فاعقلوا قولى فانى قد بلغت وقد تركت فيكم ماإن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم إلى أن قال : بأبى هو وأمى صلى الله عليه و سلم اللهم هل بلغت قال ابن إسحق : فذكر لى أن الناس قالوا : اللهم نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم اشهد انتهى
فان هذه الرواية ظاهرة فى أن الخطبة كانت يوم عرفة يوم الحج الأكبر كما فى رواية يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ويوم الغدير كان اليوم الثامن عشر من ذى الحجة بعد أن فرغ صلى الله عليه و سلم وسلم من شأن المناسك وتوجه إلى المدينة المنورة وحينئذ يكون المأمور بتبليغه أمرا آخرا غير مابلغه صلى الله عليه و سلم قبل وشهد الناس على تبليغه واشهد الله تعالى على ذلك وليس هذا إلا الخلافة الكبرى والامامة العظمى فكأنه سبحانه يقول : ياأيها الرسول بلغ كون على كرم الله تعالى وجهه خليفتك وقائما مقامك بعدك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وإن قال لك الناس حين قلت : اللهم هل بلغت اللهم نعم لأنا نقول : إن الشرطية فى الأمر الأول بعد غمض العين عما فيه ممنوعة لجواز أن يراد بالموصول فى الآيتين الأحكام الشرعية المتعلقة بمصالح العباد فى معاشهم ومعادهم ولايلزم الخلو عن الفائدة إذ كم آية تكررت فى القرآن وأمر ونهى ذكر مرارا للتأكيد والتقرير على أن بعضهم ذكر أن فائدة الأمر هنا إزالة توهم أن النبى صلى الله عليه و سلم الله تعالى عليه وسلم ترك أو يترك تبليغ شىء من الوحى تقية ويرد على الأمر الثانى أمران : الأول أن كون يوم الغدير بعد يوم عرفة مسلم لكن لانسلم أن الآية نزلت فيه ليكون المأور بتبليغه أمر آخرا بل الذى يقتضيه ظاهر الخطبة وقول النبى صلى الله عليه و سلم فيها اللهم هل بلغت أن الآية نزلت قبل يومى الغدير وعرفة وماورد فى غير ماأثر من أن سورة المائدة نزلت بين مكة والمدينة فى حجة الوداع لايصلح دليلا للبعدية وللقبلية إذ ليس فيه ذكر الإياب ولا الذهاب وظاهر حاله صلى الله عليه و سلم فى تلك الحجة من اراءة المناسك ووضع الربا ودماء الجاهلية وغير ذلك مما يطول ذكره وقد ذكره أهل السير يرشد إلى أن النزول كان فى الذهاب والثانى أنا لو سلمنا كون النزول يوم الغدير فلانسلم أن المأمور بتبليغه أمر آخر وغاية مايلزم حينئذ لزوم التكرار وقد علمت فائدته وكثرة وقوعه سلمنا أن المأمور بتبليغه أمر آخر لكنا لانسلم أنه ليس إلا الخلافة وكم قد بلغ صلى الله عليه و سلم بعد ذلك غير ذلك من الآيات المنزلة عليه الصلاة و السلام والذى يفهم من بعض الروايات أن هذه الآية قبل حجة الوداع فقد أخرج ابن مردويه والضياء فى مختاره عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أى آية أنزلت من السماء أشد عليك فقال : كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس فى الموسم فأنزل على جبريل عليه السلام فقال : ياأيها الرسول بلغ ماأنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رساته الآية قال : فقمت عند العقبة فناديت : ياأيها الناس من ينصرنى على أن أبلغ رسالات ربى ولكم الجنة أيها الناس قولوا : لاإله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفحلوا وتنجحوا ولكم الجنة قال عليه الصلاة و السلام : فما بقى رجل ولاامرأة ولاأمة ولاصبى إلا يرمون على بالتراب والحجارة ويقولون : كذاب صابىء فعرض على عارض فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعوا عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك فقال النبى صلى الله عليه و سلم : اللهم اهد قومى فانهم لايعلمون وانصرنى عليهم أن يجيبونى إلى طاعتك فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه
(6/198)
قال الأعمش : فبذلك تفتخر بنو العباس ويقولون فيهم نزلت إنك لاتهتدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء هوى النبى صلى الله عليه و سلم أبا طالب وشاء الله تعالى عباس بن عبد المطلب وأصرح من هذا ماأخرحه أبو الشيخ وأبو النعميم فى الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : كان النبى صلى الله عليه و سلم يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بنى هاشم يحرسونه حتى نزلت والله يعصمك من الناس فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال : ياعم إن الله عز و جل قد عصمنى فان أبا طالب مات قبل الهجرة وحجة الوداع بعدها بكثير والظاهر اتصال الآية وعن بعضهم أن الآية نزلت ليلا بناءا على ماأخرجه عبد بن حميد والترمذى والبيهقى وغيرهم عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت : كان النبى صلى الله عليه و سلم يحرس حتى نزلت والله يعصمك من الناس فأخرج راسه من القبة فقال : أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى الله تعالى ولايخفى أنه ليس بنص فى المقصود والذى أميل اليه جمعا بين الأخبار أن هذه الاية مما تكرر نزوله والله تعالى أعلم والمراد بالعصمة من الناس حفظ روحه عليه الصلاة و السلام من القتل والهلاك فلايرد أنه صلى الله عليه و سلم شج وجهه الشريف وكسرت رباعيته يوم أحد ومنهم من ذهب إلى العموم وأدعهى أن الآيات إنما نزلت بعد وأحد واستشكل الأمران بأن اليهود سموه عليه الصلاة و السلام حتى قال : لازالت أكلة خيبر تعاودنى وهذا أوان قطعت ابهرى وأجيب بانه سبحانه وتعالى ضمن له العصمة من القتل ونحوه بسبب تبليغ الوحى وأما مافعل به صلى الله عليه و سلم وبالانبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال والبلاد والأنفس ولايخفى بعده وقال الراغب : عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حفظهم بما خصوا به من صفاء الجوهر ثم بما أولاهم من الأخلاق والفضائل ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق وقيل : المراد بالعصمة الحفظ من صدور الذنب والمعنى بلغ والله تعالى يمنحك الحفظ من صدور الذنب من بين الناس أى يعصمك بسبب ذلك دونهم ولايخفى أن هذا توجيه لم يصدر إلا ممن لم يعصمه الله تعالى من الخطأ ومثله مانقل عن على بن عيسى فى قوله سبحانه : إن الله لايدى القوم الكافرين حيث قال : لايهديهم بالمعونة والتوفيق والألطاف إلى الكفر بل إنما يهديهم إلى الايمان وزعم أن اذى دعاه إلى هذا التفسير أن الله تعالى هدى الكفار إلى الايمان بأن دلهم عليه ورغبهم فيه وحذرهم من خلافه وأنت قد علمت المراد بالآية على أن فى كلامه مالا يخفى من النظر وقال الجبائى : المراد لايهديهم إلى الجنة والثواب وفيه غفلة عن كون الجملة فى موضع التعليل وزعم بعضهم أن المراد أن عليك البلاغ لاالهداية فمن قضيت عليه بالكفر والوفاة عليه لايهتدى ابدا وهو كما ترى فليفهم جميع ماذكرناه فى هذه الآية وليحفظ فانى لاأظن أنك تجده فى كتاب
وقرأ نافع وابن عامر وابو بكر عن عاصم رسالته على الجميع وإيراد الآية فى تضاعيف الآية الواردة فى أهل الكتاب لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على الرسول صلى الله عليه و سلم مشافهتهم بها خصوصا مايتلوها من النص الناعى عليهم كمال ضلالهم ولذلك أعيد الأمر فقال سبحانه : قال ياأهل الكتاب والمراد بهم اليهود والنصارى كما قال بعض المفسرين وقال آخرون : المراد بهم اليهود فقد أخرج بن إسحق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : جاء رافع ابن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على
(6/199)
ملة ابراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله تعالى حق فقال النبى صلى الله عليه و سلم : بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم مافيها مماأخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ماأمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم قالوا : فانا نلأخذ بما فى أيدينا فنا على الهدى والحق ولانؤمن بك ولانتبعك فأنزل الله تعالى فيهم قل ياأهل الكتاب لستم على شىء أى دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئا لظهور بطلانه ووضوح فساده وفى هذا التعبير مالايخفى من التحقير ومن أمثالهم أقل من لاشىء حتى تقيموا التوراة والأنجيل أى تراعوهما وتحافظوا على مافيهما من الأمور التى من جملتها دلائل رسالة النبى صلى الله عليه و سلم وشواهد نبوته فان إقامتها وتوفية حقوقهما إنما تكون بذلك لابالعمل بجميع مافيهما منسوحا كان أوغيره فأن مراعاة المنسوخ تعطيل لهما ورد لشهادتهما وما أنزل اليكم من ربكم أى القرآن المجيد وإقامته بالايمان به وقدمت إقامة الكتابين على إقامته مع أنها المقصودة بالذات رعاية لحق الشهادة استنزالا لهم عن رتبة الشقاق وقيل : المراد بالموصول كتب أنبياء بنى إسرائيل عليهم الصلاة والسلام وقيل : الكتب الآلهية فانها كلها ناطقة بوجوب الإيمان بمن ادعى النبوة وأظهر المعجزة ووجوب طاعة من بعث اليهم له وقد مر تمام الكلام على مثل هذا النظم الكريم وكذا على قوله تعالى : وليزيدن كثيرا منهم ماأنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا والجملة مستأنفة كما قال شيخ الاسلام مبنية لشدة شكيمتهم وغلوهم فى المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعا وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيقه ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مع نسبته فيما مر اليهم للانباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة وإذا أريد بالموصول النعم التى أعطيها صلى الله عليه و سلم عليه وسلم فأمر النسبة ظاهر جدا
فلا تأس على القوم الكافرين أى لاتأسف ولاتحزن لزيادة طغيانهم وكفرهم فان غائلة ذلك موصولة بهم وتبعته عائدة اليهم وفى المؤمنين غنى لك عنهم ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل غليهم بالرسوخ فى الكفر وقيل : المراد لاتحزن على هلاكهم وعذابهم ووضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على العلة الموجبة لعدم الأسى ولايخلو عن بعد إن الذين امنوا كلام مستأنف مسوق للترغيب فى الايمان والعمل الصالح
وقد تقدم فى آية البقرة الاختلاف فىالمراد من الذين آمنوا والمروى عن الثورى أنهم الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وهو الذى اختاره الزجاج واختار القاضى أن المراد بهم المتدينون بدين محمد صلى الله عليه و سلم مخلصين كانوا أو منافقين وقيل : غير ذلك والذين هادو أى دخلوا فى اليهودية والصابئون وهم كما قال حسن جلبى وغيره : قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة وقد تقدم الكلام على ذلك وفى حسن المحاضرة فى أخبار مصر القاهرة لجلال السيوطى مالفظه : ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة و السلام أوصى لابنه شيت وكان فيه وفى بنيه النبوة والدين وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى مصر وكانت تدعى بايلون فنزلها هو وأولاد أخيه فسكن شيت فوق الجبل وسكن أولاد قابيل أسفل الوادى واستخلف شيت ابنه أنوش واستخلف أنوش واستخلف ابنه قونان واستخلف قونان ابنه مهلائيل
(6/200)